عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 721 - (بابُ الْحَلْقِ والتَّقْصِيرِ
عِنْدَ الإحْلاَلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحلق وَالتَّقْصِير عِنْد
إحلاله من الْإِحْرَام. قيل: أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ
التَّرْجَمَة أَن الْحلق نسك لقَوْله: (عِنْد الْإِحْلَال)
، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور إلاَّ فِي رِوَايَة ضَعِيفَة
عَن الشَّافِعِي أَنه اسْتِبَاحَة مَحْظُور. قلت:
وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن من
(10/61)
لبد رَأسه وَجب عَلَيْهِ الحلاق، كَمَا فعل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِذَلِك أَمر النَّاس
عمر بن الْخطاب وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَكَذَلِكَ لَو ضفر رَأسه
أَو عقصه كَانَ حكمه حكم التلبيد، وَفِي (كَامِل) ابْن عدي
من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: (من لبد رَأسه للْإِحْرَام
فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق) ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لبد
رَأسه أَو ضفره فَإِن قصر وَلم يحلق أَجزَأَهُ، وَرُوِيَ
عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه
كَانَ يَقُول: من لبد أَو عقص أَو ضفر فَإِن نوى الْحلق
فليحلق، وَإِن لم يُنَوّه فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ
قصر. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين فِي شرح التِّرْمِذِيّ:
إِن الْحلق نسك. قَالَه النَّوَوِيّ، وَهُوَ قَول أَكثر
أهل الْعلم، وَهُوَ القَوْل الصَّحِيح للشَّافِعِيّ.
وَفِيه خَمْسَة أوجه أَصَحهَا: أَنه ركن لَا يَصح الْحَج
وَالْعمْرَة إِلَّا بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه وَاجِب.
وَالثَّالِث: أَنه مُسْتَحبّ. وَالرَّابِع: أَنه
اسْتِبَاحَة مَحْظُور. وَالْخَامِس: أَنه ركن فِي الْحَج
وَاجِب فِي الْعمرَة وَإِلَيْهِ ذهب الشَّيْخ أَبُو حَامِد
وَغير وَاحِد من الشَّافِعِيَّة.
6271 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبُ بنُ
أبِي حَمْزَةَ قَالَ نافِعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ حَلَقَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حلق رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن
نَافِع، قَالَ بَعضهم: والْحَدِيث طرف من حَدِيث طَوِيل
أَوله: لما نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير، نبه عَلَيْهِ
الْإِسْمَاعِيلِيّ. قلت: روى مُسلم من حَدِيث نَافِع أَن
ابْن عمر أَرَادَ الْحَج عَام نزُول الْحجَّاج بِابْن
الزبير ... الحَدِيث، وَفِيه: (وَلم يحلل من شَيْء حرم
مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر، فَنحر وَحلق) .
قَوْله: (فِي حجَّته) ، وَهِي حجَّة الْوَدَاع، يدل
عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة وَأما قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (اللَّهُمَّ ارْحَمْ المخلقين) فَفِيهِ
خلاف وَقَالَ بَعضهم كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع وَقَالَ
القَاضِي عِيَاض: كَانَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة حِين أَمرهم
بِالْحلقِ، على مَا نذكرهُ عَن قريب، وَيحْتَمل أَنه كَانَ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهُوَ الْأَشْبَه، لِأَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة توقفت فِي الْحلق فيهمَا.
ثمَّ الْكَلَام فِي حلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمَا يتَعَلَّق بِهِ على أَنْوَاع.
الأول فِي كَيْفيَّة حلقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: روى
مُسلم من حَدِيث أنس: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَتَى من منى فَأتى الْجَمْرَة فَرَمَاهَا، ثمَّ
أَتَى منزله بمنى وَنحر، وَقَالَ للحلاق: خُذ، وَأَشَارَ
إِلَى جَانِبه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر، ثمَّ جعل
يُعْطِيهِ النَّاس) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس
أَيْضا قَالَ: (لما رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْجَمْرَة نحر نُسكه، ثمَّ ناول الحالق شقَّه
الْأَيْمن فحلقه، فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة، ثمَّ
نَاوَلَهُ شقَّه الْأَيْسَر فحلقه فَقَالَ: أقسمه بَين
النَّاس) . ثمَّ ظَاهر رِوَايَة التِّرْمِذِيّ أَن الشّعْر
الَّذِي أَمر أَبَا طَلْحَة بقسمته بَين النَّاس هُوَ شعر
الشق الْأَيْسَر، وَهَكَذَا رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن
عُيَيْنَة، وَأما رِوَايَة حَفْص بن غياث وَعبد الْأَعْلَى
ففيهما أَن الشق الَّذِي قسمه بَين النَّاس، هُوَ
الْأَيْمن، وكلا الرِّوَايَتَيْنِ عِنْد مُسلم، وَأما
رِوَايَة حَفْص فَقَالَ أَبُو كريب عَنهُ: فَبَدَأَ بالشق
الْأَيْمن فوزعه الشعرة والشعرتين بَين النَّاس، ثمَّ
قَالَ بالأيسر، فَصنعَ مثل ذَلِك. وَقَالَ أَبُو بكر فِي
رِوَايَته عَن حَفْص، قَالَ للحلاق: وَهَا، وَأَشَارَ
بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِب الْأَيْمن هَكَذَا، فقسم شعره
بَين من يَلِيهِ، قَالَ: ثمَّ أَشَارَ إِلَى الحلاق إِلَى
الْجَانِب الْأَيْسَر فحلقه، فَأعْطَاهُ أم سليم، وَقَالَ
يحيى بن يحيى فِي رِوَايَته عَن حَفْص، ثمَّ قَالَ للحلاق:
خُذ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبه الْأَيْمن، ثمَّ للأيسر،
ثمَّ جعل يُعْطِيهِ النَّاس، فَلم يذكر يحيى بن يحيى فِي
رِوَايَته أَبَا طَلْحَة وَلَا أم سليم، وَأما رِوَايَة
عبد الْأَعْلَى فَقَالَ فِيهَا: وَقَالَ بِيَدِهِ، فحلق
شقَّه الْأَيْمن فَقَسمهُ فِيمَن يَلِيهِ، ثمَّ قَالَ:
إحلق الشق الآخر. فَقَالَ: أَيْن أَبُو طَلْحَة؟
فَأعْطَاهُ إِيَّاه.
وَقد اخْتلف أهل الحَدِيث فِي الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي
هَذَا الحَدِيث، فَذهب بَعضهم إِلَى الْجمع بَينهمَا،
وَذهب بَعضهم إِلَى التَّرْجِيح لتعذر الْجمع عِنْده،
وَقَالَ صَاحب الْفَهم: إِن قَوْله: (لما حلق رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شقّ رَأسه الْأَيْمن أعطاء أَبَا
طَلْحَة) ، لَيْسَ مناقضا لما فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة
أَنه قسم شعر الْجَانِب الْأَيْمن بَين النَّاس، وَشعر
الْجَانِب الْأَيْسَر أعطَاهُ أم سليم، وَهِي امْرَأَة أبي
طَلْحَة وَهِي أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. .
قَالَ: وَحصل من مَجْمُوع هَذِه الرِّوَايَات أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما حلق الشق الْأَيْمن
نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَة ليقسمه بَين النَّاس، فَفعل أَبُو
طَلْحَة، وناول شعر الشق الْأَيْسَر ليَكُون عِنْد أبي
طَلْحَة، فَصحت نِسْبَة كل ذَلِك إِلَى من نسب إِلَيْهِ،
وَالله أعلم. وَقد جمع الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي مَوضِع
إِمْكَان جمعه، وَرجح فِي مَكَان تعذره، فَقَالَ:
وَالصَّحِيح أَن الَّذِي وزعه على النَّاس الشق الْأَيْمن،
وَأعْطى الْأَيْسَر أَبَا طَلْحَة وَأم سليم، وَلَا تضَاد
بَين الرِّوَايَتَيْنِ، لِأَن أم سليم امْرَأَة أبي
طَلْحَة، فإعطاه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهما، فنسب
الْعَطِيَّة تَارَة إِلَيْهِ وَتارَة إِلَيْهَا. انْتهى.
وَفِي رِوَايَة أَحْمد
(10/62)
فِي (الْمسند) مَا يَقْتَضِي أَنه أرسل شعر
الشق الْأَيْمن مَعَ أنس إِلَى أمه أم سليم امْرَأَة أبي
طَلْحَة فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: لما حلق رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، رَأسه بمنى أَخذ شقّ رَأسه الْأَيْمن
بِيَدِهِ، فَلَمَّا فرغ ناولني فَقَالَ: يَا أنس إنطلق
بِهَذَا إِلَى أم سليم، قَالَ: فَلَمَّا رأى النَّاس مَا
خصنا بِهِ تنافسوا فِي الشق الآخر، هَذَا يَأْخُذ
الشَّيْء، وَهَذَا يَأْخُذ الشَّيْء. قَالَ شَيخنَا زين
الدّين: وَكَأن الْمُحب الطَّبَرِيّ رجح رِوَايَة
تَفْرِقَة الشق الْأَيْمن بِكَثْرَة الروَاة، فَإِن حَفْص
بن غياث وَعبد الْأَعْلَى اتفقَا على ذَلِك عَن هِشَام،
وَخَالَفَهُمَا ابْن عُيَيْنَة وَحده، ثمَّ قَالَ
الشَّيْخ: وَقد ترجح تَفْرِقَة الإيسر بِكَوْنِهِ مُتَّفقا
عَلَيْهِ، وتفرقة الْأَيْمن من أَفْرَاد مُسلم، فقد وَقع
عِنْد البُخَارِيّ من رِوَايَة ابْن عون عَن ابْن سِيرِين
(عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حلق
كَانَ أَبُو طَلْحَة أول من أَخذ من شعره) ، فَهَذَا يدل
على أَن الَّذِي أَخذه أَبُو طَلْحَة الْأَيْمن، وَإِن
كَانَ يجوز أَن يُقَال: أَخذه ليفرقه، فَالظَّاهِر أَنه
إِنَّمَا أَرَادَ الَّذِي أَخذه أَبُو طَلْحَة لنَفسِهِ،
فقد اتّفق ابْن عون عَن هِشَام من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة
عَنهُ، على أَن أَبَا طَلْحَة أَخذ الشق الْأَيْمن،
وَاخْتلف فِيهِ على هِشَام، فَكَانَت الرِّوَايَة الَّتِي
لَا اخْتِلَاف فِيهَا أولى بِالْقبُولِ، وَالله أعلم.
النَّوْع الثَّانِي: أَن فِيهِ مَا يدل على وجوب
اسْتِيعَاب حلق الرَّأْس، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حلق جَمِيع رَأسه، وَقَالَ: (خُذُوا عني
مَنَاسِككُم) ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة،
كالمسح فِي الْوضُوء، وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور
عَنهُ: يجب حلق أَكثر الرَّأْس، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي
رِوَايَة، وَقَالَ عَطاء: يبلغ بِهِ إِلَى العظمين
اللَّذين عِنْد مُنْتَهى الصدغين، لِأَنَّهُمَا مُنْتَهى
نَبَات الشّعْر، ليَكُون مستوعبا لجَمِيع رَأسه. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: يجب حلق ربع الرَّأْس وَقَالَ أَبُو يُوسُف:
يجب حلق نصف الرَّأْس، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه
يَكْفِي حلق ثَلَاث شَعرَات، وَلم يكتف بشعرة أَو بعض
شَعْرَة، كَمَا اكْتفى بذلك فِي مسح الرَّأْس فِي
الْوضُوء.
النَّوْع الثَّالِث: أَنه يسْتَدلّ بِهِ على أَفضَلِيَّة
الْحلق على التَّقْصِير، وسنبينه فِي الحَدِيث الْآتِي،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
النَّوْع الرَّابِع: أَن فِيهِ طَهَارَة شعر الْآدَمِيّ،
وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ الصَّحِيح من
مَذْهَب الشَّافِعِي، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر
التِّرْمِذِيّ مِنْهُم، فخصص الطَّهَارَة بِشعرِهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَذهب إِلَى نَجَاسَة شعر غَيره.
النَّوْع الْخَامِس: فِيهِ التَّبَرُّك بِشعرِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَغير ذَلِك من آثاره بِأبي وَأمي
وَنَفْسِي هُوَ، وَقد روى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَدِهِ
إِلَى ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: فَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدَة
السَّلمَانِي يُرِيد: هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لِأَن يكون
عِنْدِي شَعْرَة مِنْهُ أحب إِلَيّ من كل بَيْضَاء وصفراء
على وَجه الأَرْض. وَفِي بَطنهَا، وَقد ذكر غير وَاحِد أَن
خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ
فِي قلنسوته شَعرَات من شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَلذَلِك كَانَ لَا يقدم على وَجه إلاَّ فتح لَهُ،
وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ذكره الملا فِي (السِّيرَة) : أَن
خَالِدا سَأَلَ أَبَا طَلْحَة حِين فرق شعره صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَين النَّاس أَن يُعْطِيهِ شعر ناصيته،
فَأعْطَاهُ إِيَّاه، فَكَانَ مقدم ناصيته مناسبا لفتح كل
مَا أقدم عَلَيْهِ.
النَّوْع السَّادِس: أَن فِيهِ أَنه لَا بَأْس باقتناء
الشّعْر الْبَائِن من الْحَيّ وَحفظه عِنْده، وَأَنه لَا
يجب دَفنه، كَمَا قَالَ بَعضهم: إِنَّه يجب دفن شُعُور بني
آدم، أَو يسْتَحبّ، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي سنَن الْحلق،
فَقَالَ: وَإِذا حلق فالمستحب أَن يبْدَأ بالشق الْأَيْمن
ثمَّ بالأيسر، وَأَن يكون مُسْتَقْبل الْقبْلَة،
وَإِنَّمَا يكبر بعد الْفَرَاغ، وَأَن يدْفن شعره. وَزَاد
الْمُحب الطَّبَرِيّ فَذكر من سنَنه صَلَاة رَكْعَتَيْنِ
بعده، فسننه إِذا خَمْسَة.
النَّوْع السَّابِع: فِيهِ مواساة الإِمَام وَالْكَبِير
بَين أَصْحَابه فِيمَا يقسمهُ بَينهم، وَإِن فَاضل بَينهم
لأمر اقْتضى ذَلِك.
النَّوْع الثَّامِن: فِيهِ أَنه لَا بَأْس بتفضيل بَعضهم
على بعض فِي الْقِسْمَة لأمر يرَاهُ وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ
اجْتِهَاده، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصص أَبَا
طَلْحَة وَأم سليم بِشعر أحد الشقين، كَمَا تقدم.
النَّوْع التَّاسِع: أَن الحالق الْمَذْكُور اخْتلف فِي
تَعْيِينه، فَقَالَ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : زَعَمُوا
أَنه معمر بن عبد الله، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه
الصَّحِيح الْمَشْهُور، قَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ
الْكَبِير) : قَالَ عَليّ بن عبد الله: حَدثنَا عبد
الْأَعْلَى حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يزِيد بن أبي
حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عقبَة، مولى معمر، عَن معمر
الْعَدوي قَالَ: (كنت أرجِّل لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حِين قضى حجه، وَكَانَ يَوْم النَّحْر، جلس
يحلق رَأسه، فَرفع رَأسه فَنظر فِي وَجْهي، فَقَالَ: يَا
معمر! أمكنك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شحمة
أُذُنه، وَفِي يدك الموسى، فَقَالَ: ذَاك من الله تَعَالَى
عَليّ وفضله. قَالَ: نعم؟ فحلقته) ، وَقيل: إِن الَّذِي
حلق رَأسه
(10/63)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هُوَ خرَاش
بن أُميَّة بن ربيعَة، حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي (شرح
مُسلم) : وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله
تَعَالَى: هَذَا وهمٌ من قَائِله، وَإِنَّمَا حلق رَأسه
خرَاش بن أُميَّة يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَقد بَينه ابْن
عبد الْبر، فَقَالَ فِي تَرْجَمَة خرَاش، وَهُوَ الَّذِي
حلق رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم
الْحُدَيْبِيَة. انْتهى. فَمن ذكر أَنه حلق لَهُ يَوْم
النَّحْر فِي حجَّته فقد وهم، وَإِنَّمَا حلق لَهُ يَوْم
النَّحْر معمر بن عبد الله الْعَدوي. كَمَا تقدم، وَهُوَ
الصَّوَاب.
النَّوْع الْعَاشِر: أَن عِنْد أبي حنيفَة يبْدَأ بِيَمِين
الحالق ويسار المحلوق، قَالَه الْكرْمَانِي فِي
(مَنَاسِكه) وَعند الشَّافِعِي: يبْدَأ بِيَمِين المحلوق،
وَالصَّحِيح عِنْد أبي حنيفَة مثله.
النَّوْع الْحَادِي عشر: مَا ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) ،
فَقَالَ: يدْخل وَقت الْحلق من طُلُوع الْفجْر عِنْد
الْمَالِكِيَّة، وَعِنْدنَا ينصف لَيْلَة النَّحْر، وَلَا
آخر لوقته، وَالْحلق بمنى يَوْم النَّحْر أفضل. قَالُوا:
وَلَو أَخّرهُ حَتَّى بلغ بَلَده حلق. أَو أهْدى، فَلَو
وطىء قبل الْحلق فَعَلَيهِ هدي، بِخِلَاف الصَّيْد على
الْمَشْهُور عِنْدهم، وَقَالَ ابْن قدامَة: يجوز تَأْخِيره
إِلَى آخر أَيَّام النَّحْر، فَإِن أَخّرهُ عَن ذَلِك
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلَا دم عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ
عَطاء وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر، وَيُشبه مَذْهَب
الشَّافِعِي، لِأَن الله تَعَالَى بَين أول وقته بقوله:
{وَلَا تحلقوا رؤوسكم} (الْبَقَرَة: 691) . الْآيَة، وَلم
يبين آخِره، فَمَتَى أَتَى بِهِ أَجزَأَهُ، وَعَن أَحْمد:
عَلَيْهِ دم بِتَأْخِيرِهِ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة،
لِأَنَّهُ نسك أَخّرهُ عَن مَحَله، وَلَا فرق فِي
التَّأْخِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير، والساهي والعامد،
وَقَالَ مَالك وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة
وَمُحَمّد: من تَركه حَتَّى حل فَعَلَيهِ دم، لِأَنَّهُ
نسك فَيَأْتِي بِهِ فِي إِحْرَام الْحَج كَسَائِر
مَنَاسِكه.
7271 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ
عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ أللَّهُمَّ ارْحَمْ المحَلِّقينَ قالُوا
والمُقَصِّرينَ يَا رسولَ الله قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمِ
المُحَلِّقينَ قالُوا والمُقَصِّرِينَ يَا رسولَ الله
قَالَ والمُقَصِّرينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي الْحلق
وَالتَّقْصِير. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد أَيْضا بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور.
قَوْله: (أللهم ارْحَمْ المحلقين) ، هَذَا الدُّعَاء
الَّذِي وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالتكرار للمحلقين وأفراد الدُّعَاء للمقصرين، هَل كَانَ
ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع أَو فِي الْحُدَيْبِيَة؟
فَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: كَونه فِي الْحُدَيْبِيَة
هُوَ الْمَحْفُوظ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح
الْمَشْهُور أَنه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقَالَ
القَاضِي عِيَاض: لَا يبعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَه فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَا قَالَه القَاضِي
هُوَ الصَّوَاب جمعا بَين الْأَحَادِيث، فَفِي (صَحِيح
مُسلم) من حَدِيث أم الْحصين أَنه قَالَه فِي حجَّة
الْوَدَاع، وَقد رُوِيَ أَن ابْن إِسْحَاق قَالَ فِي
(السِّيرَة) : حَدثنِي ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد (عَن
ابْن عَبَّاس، قَالَ حلق: رجال يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَقصر
آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أللهم ارْحَمْ المحلقين، ثَلَاثًا. قيل: يَا رَسُول الله!
مَا بَال المحلقين ظَاهَرت لَهُم بالترحم؟ قَالَ: لأَنهم
لم يشكوا) . فَهَذَا يُوضح أَنه قَالَه فِي
الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَت عَادَتهم
اتِّخَاذ الشّعْر على الرؤوس وتوفيرها وتزيينها، وَكَانَ
الْحلق فيهم قَلِيلا، ويرون ذَلِك نوعا من الشُّهْرَة،
وَكَانَ يشق عَلَيْهِم الْحلق، فمالوا إِلَى التَّقْصِير.
فَمنهمْ من حلق وَمِنْهُم من قصر لما يجد فِي نَفسه
مِنْهُ، فَمن أجل ذَلِك سمح لَهُم بِالدُّعَاءِ
بِالرَّحْمَةِ، وَقصر، بالآخرين إِلَى أَن استعطف
عَلَيْهِم، فعممهم بِالدُّعَاءِ بعد ذَلِك. فَإِن قلت: مَا
معنى قَوْله: (لم يشكوا) ؟ وَمَا المُرَاد بِالشَّكِّ
وَوُجُود الشَّك من الصَّحَابَة مُشكل. قلت: مَعْنَاهُ لم
يشكوا أَن الحلاق أفضل قيل: فِيهِ نظر، لِأَن الصَّحَابَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِذا رَأَوْا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فعل فعلا رَأَوْهُ أفضل، وَإِنَّمَا
كَانُوا يقصدون مُتَابَعَته. قَوْله: (والمقصرين) عطف على
مَحْذُوف تَقْدِيره: قل: وَارْحَمْ الْمُقَصِّرِينَ
أَيْضا، وَيُسمى مثل هَذَا: بالْعَطْف التلقيني، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ،
وَمن ذريتي} (الْبَقَرَة: 421) . وَفِيه: مَا يدل على
أَفضَلِيَّة الْحلق لِأَنَّهُ أبلغ فِي الْعِبَادَة وأدل
على صدق النِّيَّة فِي التذلل لله، لِأَن المقصر مبق على
نَفسه من زينته الَّتِي قد أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يكون
الْحَاج مجانبا لَهَا. وَقيل: مَا ذكر من أَفضَلِيَّة
الْحلق على التَّقْصِير إِنَّمَا هِيَ فِي حقِّ الرِّجَال
دون النِّسَاء، لوُرُود النَّهْي عَن حلق النِّسَاء، وروى
أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَيْسَ على النِّسَاء الْحلق، إِنَّمَا على
النِّسَاء التَّقْصِير) . وروى التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ هَذَا
(10/64)
الحَدِيث: عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن
قَتَادَة (عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نهى أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا) .
وقالَ اللَّيْثُ حدَّثني نافَعٌ رَحِمَ الله
المُحَلِّقِينَ مَرِّةً أوْ مَرَّتيْنِ وَقَالَ عُبَيْدُ
الله حدَّثني نافعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ
والمقَصِّرينَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم وَلَفظه: (رحم الله
المحلقين، مرّة أَو مرَّتَيْنِ. قَالُوا: والمقصرين؟
قَالَ: والمقصرين) الشَّك فِيهِ من اللَّيْث وإلاَّ
فَأكْثر الروَاة يوافقون لما رَوَاهُ مَالك، فَإِن مُعظم
الرِّوَايَات عَن مَالك إِعَادَة الدُّعَاء للمحلقين
مرَّتَيْنِ، وَعطف الْمُقَصِّرِينَ عَلَيْهِ فِي الْمرة
الثَّالِثَة، وَانْفَرَدَ يحيى بن بكير دون رَوَاهُ
(الْمُوَطَّأ) بِإِعَادَة ذَلِك ثَلَاث مَرَّات نبه
عَلَيْهِ ابْن عبد الْبر فِي (التَّقَصِّي) وَلم يُنَبه
عَلَيْهِ فِي (التَّمْهِيد) بل قَالَ فِيهِ: إِنَّهُم لم
يَخْتَلِفُوا على مَالك فِي ذَلِك.
8271 - حدَّثنا عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ قَالَ حدَّثنا عُمَارَةُ بنُ
القَعْقَاعِ عَنْ أبِي زرْعَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ
قالُوا ولِلْمُقَصِّرِينَ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر
لِلْمُحَلِّقِينَ قالُوا ولِلْمُقَصِّرِينَ قالَهَا
ثَلَاثًا قَالَ ولِلْمُقَصِّرِينَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَيَّاش، بتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: هُوَ الرقام،
وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن عَبَّاس، بِالْبَاء
الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة، وَقَالَ أَبُو عَليّ
الجياني، وَالْأول أرجح. الثَّانِي: مُحَمَّد بن الفضيل،
بِضَم الْفَاء مصغر الْفضل بن غَزوَان أَبُو عبد
الرَّحْمَن الضَّبِّيّ. الثَّالِث: عمَارَة، بِضَم الْعين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع،
بِفَتْح الْقَاف الأولى وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: ابْن
شبْرمَة. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة بن عَمْرو بن جرير بن
عبد الله البَجلِيّ، قيل: اسْمه هرم، وَقيل: عبد الله،
وَقيل: عبد الرَّحْمَن، وَقيل: جرير. الْخَامِس: أَبُو
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل مكررا. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَبَقِيَّة
الروَاة كوفيون. وَفِيه: أَن رِوَايَة مُحَمَّد بن فُضَيْل
عَن عمَارَة من أَفْرَاده، وَرِوَايَة عمَارَة عَن أبي
زرْعَة من أَفْرَاده، وتابع أَبَا زرْعَة عَلَيْهِ عبد
الرَّحْمَن بن يَعْقُوب.
أخرجه مُسلم بعد أَن أخرج حَدِيث أبي زرْعَة عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أللهم إغفر
للمحلقين) إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، قَالَ:
وحَدثني أُميَّة بن بسطَام حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع
حَدثنَا روح عَن الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِمَعْنى حَدِيث أبي زرْعَة عَن أبي
هُرَيْرَة، وَأَبُو الْعَلَاء هُوَ عبد الرَّحْمَن بن
يَعْقُوب الْمَذْكُور وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إغفر للمحلقين) ، وَقد مر فِي
حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (إرحم
المحلقين) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يحْتَمل أَن يكون بعض
الناقلين رَوَاهُ على الْمَعْنى أَو إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ، وهمٌ، أَو قالهما صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم جَمِيعًا. قَوْله: (قَالَهَا ثَلَاثًا) أَي: قَالَ:
إغفر للمحلقين، ثَلَاث مَرَّات، وَفِي الرَّابِعَة قَالَ:
(للمقصرين، وَفِي حَدِيث ابْن عمر الَّذِي مضى آنِفا
قَالَ: للمقصرين، بعد الثَّانِيَة، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عمر قَالَ: رحم الله المحلقين مرّة
أَو مرَّتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: والمقصرين، وَفِي حَدِيث ابْن
عَبَّاس أخرجه ابْن مَاجَه، (قيل: يَا رَسُول الله! لم
ظَاهَرت المحلقين ثَلَاثًا والمقصرين وَاحِدَة؟) وَقد
ذَكرْنَاهُ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَابْن مَاجَه
أخرجه من طَرِيقه، وَفِي حَدِيث أم الْحصين أخرجه مُسلم
وَالنَّسَائِيّ: (دَعَا للمحلقين ثَلَاثًا وللمقصرين مرّة)
. وَفِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه ابْن أبي شيبَة: (رَأَيْت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول بِيَدِهِ: يرحم
الله المحلقين، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟
قَالَ فِي الثَّالِثَة: والمقصرين) . وَفِي حَدِيث أبي
مَرْيَم، أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) أَنه سمع رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أللهم اغْفِر للمحلقين
أللهم إغفر للمحلقين، قَالَ: يَقُول رجل من الْقَوْم:
والمقصرين؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة، والمقصرين. قَالَ وَأَنا
يَوْمئِذٍ محلوق الرَّأْس، فَمَا يسرني بحلق رَأْسِي حمر
النعم) . وَفِي حَدِيث حبشِي بن جُنَادَة، رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (أللهم اغْفِر للمحلقين
(10/65)
قَالُوا: يَا رَسُول الله، والمقصرين؟
قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر للمقصرين) . وَفِي حَدِيث جَابر
بن عبد الله أخرجه أَبُو قُرَّة يَقُول: حلق رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فحلق نَاس
كثير من أَصْحَابه حِين رَأَوْهُ حلق، وَقَالَ آخَرُونَ:
وَالله مَا طفنا بِالْبَيْتِ فقصروا، فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يرحم الله المحلقين، وَقَالَ
فِي الرَّابِعَة: والمقصرين) . وَفِي حَدِيث قَارب أخرجه
ابْن مَنْدَه فِي الصَّحَابَة من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة
عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن وهب بن عبد الله بن قَارب
عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (يرحم الله المحلقين) ، وَقَالَ أَبُو عمر: ولاأحفظ
هَذَا الحَدِيث من غير رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة وَغير
الْحميدِي، والْحميدِي يَقُول: قارت أَو مارب، وَغير
الْحميدِي يَقُول: قَارب من غير شكّ، وَهُوَ الصَّوَاب
وَهُوَ مَشْهُور مَعْرُوف من وُجُوه ثَقِيف. انْتهى. وقارب
هُوَ: ابْن عبد الله بن الْأسود بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ،
وَيُقَال لَهُ أَيْضا: قَارب بن الْأسود، ينْسب إِلَى جده،
وَأم الْحصين الْمَذْكُورَة لَا يعرف اسْمهَا، وَهِي
صحابية، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، شهِدت حجَّة
الْوَدَاع، وَهِي من أحمس ثمَّ من بجيلة، وَأَبُو مَرْيَم
اسْمه مَالك بن ربيعَة السَّلُولي صَحَابِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، سكن الْبَصْرَة وَهُوَ وَالِد يزِيد بن
أبي مَرْيَم، وَحبشِي بن جُنَادَة سلولي أَيْضا صَحَابِيّ
سكن الْكُوفَة.
9271 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ
قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَّةُ بنُ أسْماءَ عَنْ نافَعٍ أنَّ
عَبْدَ الله قَالَ حلَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وطَائِفَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ وقصَّرَ بَعْضُهُم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن
أَسمَاء بن عبيد بن مِخْرَاق الْبَصْرِيّ ابْن أخي
جُورِيَةُ بن أَسمَاء، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَأَسْمَاء من الْأَعْلَام الْمُشْتَركَة
بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَجُوَيْرِية مصغر الجالية
ابْن أَسمَاء بن عبيد الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث أَو
أَربع وَسبعين وَمِائَة، وَقَالَ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف)
حَدِيث حلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَائِفَة
من أَصْحَابه وَقصر بَعضهم، أخرجه البُخَارِيّ فِي الْحَج
عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعبد الله بن مُحَمَّد بن
أَسمَاء كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، هَكَذَا ذكره خلف وَذكره
أَبُو مَسْعُود عَن مُوسَى وَحده، وَالَّذِي وَجَدْنَاهُ
فِي (الصَّحِيح) : عَن عبد الله وَحده فِيهِ إِثْبَات
الْحلق وَالتَّقْصِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.
0371 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ
الْحَسَنِ بنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ
عنْ مُعاوِيَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالَ
قَصَّرْتُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمِشْقَصٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قصرت عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِيه: الْإِشَارَة إِلَى
جَوَاز التَّقْصِير وَإِن كَانَ الْحلق أفضل، وَأَبُو
عَاصِم النَّبِيل الضحام بن مخلد، وَابْن جريج عبد الْملك
بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَالْحسن بن مُسلم بن يناق،
مَاتَ قبل طَاوُوس وَقبل أَبِيه مُسلم، والرواة كلهم مكيون
سوى أبي عَاصِم شَيْخه فَإِنَّهُ بَصرِي، وَمُعَاوِيَة
هُوَ ابْن أبي سُفْيَان. وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن
صَحَابِيّ.
قَوْله: (عَن ابْن جريج عَن الْحسن) ، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: عَن جريج، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن مُسلم عَن
طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان
أخبرهُ قَالَ: قصرت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بمشقص، وَهُوَ على الْمَرْوَة، أَو: رَأَيْته يقصر
عَنهُ بمشقص، وَهُوَ على الْمَرْوَة، وَفِي لفظ لَهُ:
قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ لي مُعَاوِيَة: أعلمت أَنِّي قد
قصرت من رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد
الْمَرْوَة بمشقص؟ فَقلت لَهُ: لَا أعلم هَذِه إلاَّ حجَّة
عَلَيْك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول
على أَن مُعَاوِيَة قصر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي عمْرَة الْجِعِرَّانَة، لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع كَانَ قَارنا، وَثَبت
أَنه حلق بمنى، وَفرق أَبُو طَلْحَة شعره بَين النَّاس،
فَلَا يجوز حمل تَقْصِير مُعَاوِيَة على حجَّة الْوَدَاع،
وَلَا يَصح حمله أَيْضا على عمْرَة الْقَضَاء الْوَاقِعَة
سنة سبع من الْهِجْرَة، لِأَن مُعَاوِيَة لم يكن يَوْمئِذٍ
مُسلما، إِنَّمَا أسلم يَوْم الْفَتْح سنة ثَمَان، هَذَا
هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور، لَا يَصح قَول من حَملَة على
حجَّة الْوَدَاع، وَزعم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ مُتَمَتِّعا لِأَن هَذَا غلط فَاحش، فقد تظاهرت
الْأَحَادِيث فِي مُسلم وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ: مَا شَأْن النَّاس حلوا وَلم تحل
أَنْت؟ فَقَالَ: إِنِّي لبَّدت رَأْسِي وقلَّدت هَدْيِي
فَلَا أحل حَتَّى أنحر الْهَدْي، وَفِي رِوَايَة: حَتَّى
أحل من الْحَج. انْتهى. قيل: لَعَلَّ مُعَاوِيَة قصر عَنهُ
فِي عمْرَة الْجِعِرَّانَة فنسي بعد ذَلِك، وَظن أَنه
كَانَ فِي حجَّته فَإِن قلت: قد وَقع فِي رِوَايَة أَحْمد
من
(10/66)
طَرِيق قيس بن سعد عَن عَطاء أَن
مُعَاوِيَة حدث أَنه أَخذ من أَطْرَاف شعر رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام الْعشْر بمشقص معي وَهُوَ
محرم؟ قلت: قَالُوا: إِنَّهَا رِوَايَة شَاذَّة، وَقد
قَالَ قيس بن سعد عقيبها: وَالنَّاس يُنكرُونَ ذَلِك،
وَقيل: يحْتَمل أَن يكون فِي قَول مُعَاوِيَة: قصرت عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص، حذف
تَقْدِيره: قصرت أَنا شعري عَن أَمر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قلت: يرد هَذَا مَا فِي رِوَايَة أَحْمد:
قصرت عَن رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد
الْمَرْوَة، أخرجه من طَرِيق جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن
أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن حزم: يحْتَمل أَن
يكون مُعَاوِيَة قصر رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بَقِيَّة شعر لم يكن الحلاق اسْتَوْفَاهُ يَوْم
النَّحْر، ورد عَلَيْهِ بِأَن الحالق لم يبْق شعرًا يقصر،
وَلَا سِيمَا وَقد قسم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شعره بَين
الصَّحَابَة الشعرة والشعرتين، وَأَيْضًا فالنبي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يسعَ بَين الصَّفَا والمروة إلاَّ سعيا
وَاحِدًا فِي أول مَا قدم، فَمَاذَا كَانَ يصنع عِنْد
الْمَرْوَة؟ قَوْله: (بمشقص) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْقَاف وَفِي آخِره صَاد
مُهْملَة، قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ النصل الطَّوِيل
وَلَيْسَ بالعريض، وَقَالَ ابْن فَارس وَغَيره: هُوَ سهم
فِيهِ نصل عريض، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المشقص هُوَ كل نصل
طَال وَعرض، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ الطَّوِيل غير
العريض.
821 - (بابُ تَقْصيرِ المُتَمَتِّعِ بَعْدَ العُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَقْصِير الْمُتَمَتّع بعد
إحلاله من عمرته.
1371 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا
فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ
عُقْبَةَ أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ أمَرَ أصْحَابَهُ أنْ
يَطُوفُوا بِالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ثُمَّ
يَحِلُّوا ويَحْلِقُوا أوْ يُقَصِّرُوا.
(انْظُر الحَدِيث 5451 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو يقصروا) ،
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَمُحَمّد بن أبي بكر بن عَليّ
بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الثَّقَفِيّ مَوْلَاهُم
الْمَعْرُوف بالمقدمي الْبَصْرِيّ، وفضيل تَصْغِير فضل بن
سُلَيْمَان الْبَصْرِيّ، ومُوسَى بن عقبَة ابْن أبي
عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ
وَمِائَة.
وَفِيه: التَّخْيِير بَين الْحلق وَالتَّقْصِير، وَقد أجمع
الْعلمَاء على أَن التَّقْصِير مجزىء فِي الْحَج
وَالْعمْرَة مَعًا إلاَّ مَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن
الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه كَانَ يَقُول: يلْزمه الْحلق فِي
أول حجَّة وَلَا يجْزِيه التَّقْصِير. قلت: فيهنظر، لِأَن
ابْن أبي شيبَة روى فِي (مُصَنفه) عَن عبد الْأَعْلَى عَن
هِشَام عَن الْحسن فِي الَّذِي لم يحجّ قطّ، إِن شَاءَ حلق
وَإِن شَاءَ قصر، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى الْحسن
يرد مَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ، نعم حُكيَ ذَلِك
عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، قَالَ ابْن أبي شيبَة:
حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: إِذا حج
الرجل أول حجَّة حلق، وَإِن حج مرّة أُخْرَى إِن شَاءَ حلق
وَإِن شَاءَ قصر، وَالْحلق أفضل، وَإِذا اعْتَمر الرجل
وَلم يحجّ قطّ فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر، فَإِن
كَانَ مُتَمَتِّعا قصر ثمَّ حلق، وَالظَّاهِر أَن هَذَا
الْكَلَام من إِبْرَاهِيم لَيْسَ على سَبِيل الْوُجُوب، بل
الْفضل والاستحباب، بِدَلِيل مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة
عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم
قَالَ: كَانُوا يحبونَ أَن يحلقوا فِي أول حجَّة وَأول
عمْرَة، وَرُوِيَ أَيْضا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن
مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانُوا يستحبون للرجل
أول مَا يحجّ أَن يحلق وَأول مَا يعْتَمر أَن يحلق.
921 - (بابُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان زِيَارَة الْحَج الْبَيْت لأجل
الطّواف بِهِ يَوْم النَّحْر، وَالْمرَاد بِهِ طواف
الزِّيَارَة الَّذِي هُوَ ركن من أَرْكَان الْحَج، وَسمي
طواف الْإِفَاضَة أَيْضا.
وَقَالَ أبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أخَّرَّ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الزِّيارَةَ إلَى اللَّيْلِ
أَبُو الزبير، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه مُحَمَّد بن مُسلم
بن تدرس، بِلَفْظ الْمُخَاطب من الْمُضَارع من الدراسة، مر
فِي: بَاب من شكى إِمَامه، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله
التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن بشار
(10/67)
حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا
سُفْيَان عَن أبي الزبير عَن ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر طواف الزِّيَارَة
إِلَى اللَّيْل، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن
صَحِيح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن
بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن
ابْن مهْدي. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن بكر بن خلف، وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: وَأَبُو الزبير سمع من ابْن
عَبَّاس، وَفِي سَمَاعه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا نظر، قَالَه البُخَارِيّ فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض
مَا رَوَاهُ ابْن عمر وَجَابِر وَعَائِشَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه طَاف يَوْم النَّحْر نَهَارا؟ وَالْحَدِيثَانِ عَن
ابْن عمر وَجَابِر عِنْد مُسلم. أما حَدِيث ابْن عمر
فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن عبيد الله
ابْن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفَاضَ
يَوْم النَّحْر ثمَّ رَجَعَ فصلى الظّهْر بمنى، وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَأما حَدِيث جَابر
فَإِنَّهُ أخرجه من رِوَايَة جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن
جَابر فِي الحَدِيث الطَّوِيل وَفِيه: (ثمَّ ركب رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْت
فصلى بِمَكَّة الظّهْر) الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَائِشَة
فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن عبد
الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة قَالَت:
أَفَاضَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من آخر
يَوْمه حِين صلى الظّهْر ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى فَمَكثَ
بهَا ليَالِي التَّشْرِيق) .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تدل على أَنه طَاف طواف الزِّيَارَة
يَوْم النَّحْر، وَحَدِيث الْبَاب يدل على أَنه أَخّرهُ
إِلَى اللَّيْل. قلت: أُجِيب عَن هَذَا بِوُجُوه. الأول:
إِن الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة يحمل على الْيَوْم الأول،
وَحَدِيث الْبَاب يحمل على بَقِيَّة الْأَيَّام. الْوَجْه
الثَّانِي: أَن حَدِيث الْبَاب يحمل على أَنه أخر ذَلِك
إِلَى مَا بعد الزَّوَال، فَكَانَ مَعْنَاهُ: أخر طواف
الزِّيَارَة إِلَى الْعشي، وَأما الْحمل على مَا بعد
الْغُرُوب فبعيد جدا لما ثَبت فِي الْأَحَادِيث
الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة من أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم طَاف يَوْم النَّحْر نَهَارا وَشرب من سِقَايَة
زَمْزَم. الْوَجْه الثَّالِث: مَا ذكره ابْن حبَان من أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رمى جَمْرَة الْعقبَة وَنحر ثمَّ
تطيب للزيارة ثمَّ أَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طواف
الزِّيَارَة، ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى فصلى الظّهْر بهَا
وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء، ورقد رقدة بهَا، ثمَّ ركب
إِلَى الْبَيْت ثَانِيًا وَطَاف بِهِ طَوافا آخر
بِاللَّيْلِ. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) : عَن
عَائِشَة وَابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم زار لَيْلًا؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ
طواف الْوَدَاع أَو طواف زِيَارَة مَحْضَة، وَقد ورد
حَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور الْبَيْت كل لَيْلَة من ليَالِي
منى فَإِن قلت: مَا تَقول فِي الحَدِيث الَّذِي أخرجه
الْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة: أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أذن لأَصْحَابه فزاروا الْبَيْت يَوْم
النَّحْر ظَهره، وزار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا؟ قلت: هَذَا حَدِيث غَرِيب جدا،
فَلَا يُعَارض الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة الْمَشْهُورَة.
ويُذْكَرْ عَنْ أبِي حَسَّانَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كانَ يَزُورُ البَيْتَ أيَّامَ مِنىً
أَبُو حسان: اسْمه مُسلم بن عبد الله الْعَدوي الْبَصْرِيّ
الْمَشْهُور بالأجرد، وَيُقَال لَهُ: الْأَعْرَج أَيْضا،
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ عَن أبي الْحسن
بن عَبْدَانِ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عبيد الصفار حَدثنَا
المعمري حَدثنَا ابْن عرْعرة قَالَ: دفع إِلَيْنَا معَاذ
بن هِشَام كتابا قَالَ: سمعته من أبي وَلم يقرأه، قَالَ:
فَكَانَ فِيهِ: عَن قَتَادَة عَن أبي حسان عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور الْبَيْت كل لَيْلَة مَا
دَامَ بمنى، قَالَ: وَمَا رَأَيْت أحدا واطأه عَلَيْهِ،
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من طَرِيق قَتَادَة
عَنهُ، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ فِي (الْعِلَل) : روى
قَتَادَة حَدِيثا غَرِيبا لَا نَحْفَظهُ عَن أحد من
أَصْحَاب قَتَادَة إلاَّ من حَدِيث هِشَام، فنسخته من كتاب
ابْنه معَاذ بن هِشَام، وَلم أسمعهُ مِنْهُ عَن أَبِيه عَن
قَتَادَة: حَدثنِي أَبُو حسان عَن ابْن عَبَّاس أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور الْبَيْت كل
لَيْلَة مَا أَقَامَ بمنى، وَقَالَ الْأَثْرَم: قلت
لِأَحْمَد: تحفظ عَن قَتَادَة؟ فَذكر هَذَا الحَدِيث،
فَقَالَ: كتبوه من كتاب معَاذ، قلت: فَإِن هُنَا إنْسَانا
يزْعم أَنه سَمعه من معَاذ، فَأنْكر ذَلِك وَأَشَارَ
الْأَثْرَم بذلك إِلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عرْعرة،
فَإِن من طَرِيقه أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِهَذَا
الْإِسْنَاد. قلت: ولرواية أبي حسان هَذِه شَاهد مُرْسل
أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي عُيَيْنَة: حَدثنَا
ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يفِيض كل لَيْلَة، يَعْنِي: ليَالِي منى.
2371 - وقالَ لَنا أبُو نُعَيْمِ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ
عَنْ عُبَيْدِ الله عَن نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ
(10/68)
طافَ طَوَافا واحِدا ثُمَّ يَقِيلُ ثُمَّ
يأتِي مِنىً يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ ورفَعَهْ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ يَأْتِي منى يَوْم
النَّحْر) ، وَمُقْتَضَاهُ أَن يكون خرج مِنْهَا إِلَى
مَكَّة لأجل الطّواف قبل ذَلِك. وَأَبُو نعيم هُوَ الْفضل
بن دُكَيْن، ودكين لقب عَمْرو بن حَمَّاد وَالِد الْفضل
الْقرشِي التَّيْمِيّ الْكُوفِي الْأَحول، وسُفْيَان هُوَ
ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن
عمر بن الْخطاب الْعمريّ.
قَوْله: (وَرَفعه قَالَ) أَي: أَبُو نعيم، رفع الحَدِيث
الْمَذْكُور عبد الرَّزَّاق إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَوصل التَّعْلِيق الْمَذْكُور مُسلم:
أَنبأَنَا مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبيد
الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَفَاضَ يَوْم النَّحْر ثمَّ رَجَعَ فصلى
الظّهْر بمنى، وَيذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فعله، وَهَذَا صَرِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صلى الظّهْر يَوْم النَّحْر بمنى. وَفِي (الصَّحِيح)
أَيْضا من حَدِيث جَابر: فصلى يَوْم النَّحْر بِمَكَّة
الظّهْر، قَالَ ابْن حزم: وَكَذَا قالته عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَهَذَا
هُوَ الْفَصْل الَّذِي أشكل علينا الْفَصْل فِيهِ لصِحَّة
الطّرق فِي كل ذَلِك، وَلَا شكّ فِي أَن أحد الْخَبَرَيْنِ
وهم، وَلَا نَدْرِي أَيهمَا هُوَ. انْتهى. قلت:
الْأَحَادِيث كلهَا صَحِيحَة وَلَا شَيْء من وهم فِي ذَلِك
أصلا، وَذَلِكَ لِأَن رُجُوعه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
إِلَى منى، فِي وَقت الظّهْر مُمكن، لِأَن النَّهَار كَانَ
طَويلا. وَإِن كَانَ قد صدر مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِي صدر هَذَا النَّهَار، وَأَحَادِيث عَائِشَة
لَيست ناصة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى الظّهْر
بِمَكَّة، بل مُحْتَملَة أَن كَانَ الْمَحْفُوظ فِي
الرِّوَايَة حَتَّى صلى الظّهْر، وَإِن كَانَت
الرِّوَايَة: حِين صلى الظّهْر، وَهُوَ الْأَشْبَه، فَإِن
ذَلِك على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى الظّهْر
بمنى، قبل أَن يذهب إِلَى الْبَيْت، وَهُوَ مُحْتَمل،
وَالله أعلم. وَقَالَ محب الدّين الطَّبَرِيّ: الْجمع بَين
الرِّوَايَات كلهَا مُمكن، إِذْ يحْتَمل أَن يكون صلَّى
مُنْفَردا فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ، ثمَّ مَعَ جمَاعَة فِي
الآخر، أَو صلى بِأَصْحَابِهِ بمنى، ثمَّ أَفَاضَ فَوجدَ
قوما لم يصلوا فصلى بهم، ثمَّ لما رَجَعَ إِلَى منى، وجد
قوما آخَرين فصلى بهم لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لَا يتقدمه أحد فِي الصَّلَاة، أَو كرر الصَّلَاة بِمَكَّة
وَمنى ليتبين جَوَاز الْأَمريْنِ فِي هَذَا الْيَوْم توسعة
على الْأمة، وَيجوز أَن يكون أذن فِي الصَّلَاة فِي أحد
الْمَوْضِعَيْنِ فنسبت إِلَيْهِ. فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع
بَين حَدِيث الْبَاب وَبَين الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن هَذَا الْيَوْم أرخص الله
تَعَالَى لكم إِذا رميتم الْجَمْرَة أَن تحلوا يَعْنِي: من
كل شَيْء حرمتم إلاَّ النِّسَاء، فَإِذا أمسيتم قبل أَن
تطوفوا صرتم حرما كهيئتكم قبل أَن ترموا الْجَمْرَة حَتَّى
تطوفوا بِهِ) فَفِي هَذَا الحَدِيث إِن من أخَّر طواف
الْإِفَاضَة حَتَّى أَمْسَى عَاد محرما كَمَا كَانَ قبل
رمي الْجَمْرَة، يحرم عَلَيْهِ لبس الْمخيط وَغَيره من
مُحرمَات الْإِحْرَام. قلت: حَدِيث أم سَلمَة هَذَا شَاذ،
أَجمعُوا على ترك الْعَمَل بِهِ. وَقَالَ الْمُحب
الطَّبَرِيّ: وَهَذَا حكم لَا أعلم أحدا قَالَ بِهِ،
وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَنْسُوخ وَالْإِجْمَاع،
وَإِن كَانَ لَا ينْسَخ، فَهُوَ يدل على وجود نَاسخ وَإِن
لم يظْهر، وَالله أعلم.
3371 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَر بنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأعْرَجِ
قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ حَجَجْنَا
مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأفَضْنا يَوْمَ
النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فأرَادَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ
أهْلِهِ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أنَّهَا حائِضٌ قَالَ
حَابَسَتُنا هِي قالُوا يَا رَسولَ الله أفَاضَتْ يَوْمَ
النَّحْرِ قَالَ اخْرُجُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأفضنا يَوْم النَّحْر)
، لِأَن مَعْنَاهُ: طفنا طواف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير.
الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: جَعْفَر بن ربيعَة
ابْن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي. الرَّابِع:
الْأَعْرَج واسْمه عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. الْخَامِس:
أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف. السَّادِس: أم
الْمُؤمنِينَ، عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن
الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مصريون والاثنان مدنيان.
وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور
(10/69)
بنسبته إِلَى جده، وَاللَّيْث مَذْكُور
مُجَردا وَعبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز مَذْكُور بلقبه.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن عبد
الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد عَن أَبِيه عَن جده
بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فأفضنا) ، من الْإِفَاضَة أَي:
طفنا طواف الْإِفَاضَة. قَوْله: (صَفِيَّة) هِيَ بنت حييّ
بن أَخطب أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (فَأَرَادَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا) أَي: من صَفِيَّة: (مَا
يُرِيد الرجل من أَهله) أَي: من زَوجته، وَهَذَا كِنَايَة
عَن إِرَادَة الْجِمَاع، وَهَذَا من محَاسِن مُرَاعَاة
عَائِشَة طرق كَلَامهَا حَيْثُ لم تصرح باسم من أَسمَاء
الْجِمَاع. قَوْله: (حابستنا هِيَ) جملَة إسمية فَقَوله:
(هِيَ) مُبْتَدأ، و (حابستنا) خَبره، وَلَا يجوز الْعَكْس
إلاَّ أَن يُقَال: الْهمزَة مقدرَة قبل: حابستنا، فَيجوز
الْأَمر أَن حِينَئِذٍ لِأَن كلمة: هِيَ، وَإِن كَانَت
مضمرة لَكِنَّهَا ظَاهِرَة. قَوْله: (قَالَ: اخْرُجُوا)
أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمع
مِنْهُم أَنهم قَالُوا أفاضت صَفِيَّة يَوْم النَّحْر:
أخرجُوا، وَكَانَ ظن أَنَّهَا لم تطف طواف الزِّيَارَة
فتحبسهم إِلَى أَن تطهر فَتَطُوف طواف الزِّيَارَة،
فَلَمَّا قَالُوا: إِنَّهَا أفاضت يَوْم النَّحْر قَالَ
لَهُم: أخرجُوا يَعْنِي: إرحلوا، وَرخّص لَهَا فِي ترك
طواف الْوَدَاع لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِب على قَول أَكثر
الْعلمَاء إلاَّ خلافًا شاذا يرْوى عَن بعض السّلف
أَنَّهَا لَا تنفر حَتَّى تودع، والْحَدِيث حجَّة
عَلَيْهِ. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : إِذا ترك طواف
الْوَدَاع لزمَه دم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد
الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ أَكثر الْعلمَاء، فَهُوَ وَاجِب.
وَقَالَ مَالك وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر: هُوَ سنة لَا
شَيْء فِي تَركه، وَعَن مُجَاهِد رِوَايَتَانِ كالمذهبين.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ،
قَوْله: (حابستنا هِيَ) دَلِيل أَن الكري يحبس على الَّتِي
حَاضَت وَلم تطف طواف الْإِفَاضَة حَتَّى تطهر، وَهُوَ
قَول مَالك، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحبس عَلَيْهَا كري،
ولتكر حملهَا أَو يحمل مَكَانهَا غَيرهَا، وَهَذَا كُله
فِي الْأَمْن وَوُجُود ذِي الْمحرم، وَأما مَعَ الْخَوْف
أَو عدم ذِي الْمحرم فَلَا تحبس بِاتِّفَاق، إِذْ لَا
يُمكن أَن يسير بهَا وَحدهَا، وَيفْسخ الْكرَى وَلَا يحبس
عَلَيْهَا الرّفْقَة. وَمن فَوَائده: أَن فِي قَوْلهَا:
(فَأَرَادَ مِنْهَا مَا يُرِيد الرجل من أَهله) : أَنه لَا
بَأْس بالإعلام بذلك، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوه أَن
يَغْشَاهَا حَيْثُ يُسمع أَو يُرى.
ويُذْكَرُ عَنِ القَاسِمِ وَعُرْوَةَ والأسْوَدِ عنْ
عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أفاضَتْ صَفِيَّةُ
يَوْمَ النَّحْرِ
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَى أَن أَبَا
سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن لم ينْفَرد عَن عَائِشَة فِي
رِوَايَته عَنْهَا بذلك، أما طَرِيق الْقَاسِم فقد أخرجه
مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قَالَ: حَدثنَا
أَفْلح عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد (عَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: كُنَّا نتخوف أَن تحيض
صَفِيَّة قبل أَن تفيض. قَالَت: فجاءنا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أحابستنا صَفِيَّة؟
فَقُلْنَا: قد أفاضت قَالَ: فَلَا إِذن) . وَأما طَرِيق
عُرْوَة فَأخْرجهُ البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من طَرِيق
شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، أَن صَفِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، حَاضَت بَعْدَمَا أفاضت. . الحَدِيث على مَا
يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من
طَرِيق اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة وَعُرْوَة
عَن عَائِشَة، قَالَت: حَاضَت صَفِيَّة ... الحَدِيث،
وَفِي آخِره، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: فلتنفروا. وَأما طَرِيق الْأسود فَأخْرجهُ
البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي: بَاب الإدلاج من المحصب،
بِلَفْظ: حَاضَت صَفِيَّة ... الحَدِيث، وَفِيه: أطافت
يَوْم النَّحْر؟ قيل: نعم قَالَ: فانفري. وَأخرجه
الطَّحَاوِيّ من تسع طرق وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
كتاب الْحيض من حَدِيث عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن (عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت
لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن صَفِيَّة بنت
حييّ قد حَاضَت. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَعَلَّهَا تحبسنا إِن لم تكن طافت معكن؟ قَالُوا:
بلَى. قَالَ فاخرجي) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
031 - (بابٌ إذَا رَمَى بَعْدَ مَا أمْسَى أوْ حَلَقَ
قَبْلَ أنْ يَذْبَحَ ناسِيا أوْ جَاهِلاً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا رمى الْحَاج جَمْرَة
الْعقبَة بَعْدَمَا أَمْسَى، أَي: بعد مَا دخل فِي
الْمسَاء يَعْنِي إِذا رَمَاهَا لَيْلًا، وَيُطلق الْمسَاء
على مَا بعد الزَّوَال أَيْضا على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ
الله تَعَالَى، أَو حلق يَوْم النَّحْر قبل أَن يذبح
هَدْيه. قَوْله: (نَاسِيا) ، نصب على الْحَال، وأوجاهلاً)
كَذَلِك عطف عَلَيْهِ، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف
تَقْدِيره: لَا حرج عَلَيْهِ، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِمَا
ذكر فِي الحَدِيث أَو سكت عَنهُ إِشَارَة إِلَى أَن فِيهِ
خلافًا. وَهَذِه التَّرْجَمَة تشْتَمل على حكمين:
أَحدهمَا: رمي جَمْرَة الْعقبَة بِاللَّيْلِ،
(10/70)
وَالْآخر: الْحلق قبل الذّبْح، وكل
مِنْهُمَا إِمَّا نَاسِيا أَو جَاهِلا يحكمه. أما الأول:
فقد أجمع الْعلمَاء أَن من رمى جَمْرَة الْعقبَة من طُلُوع
الشَّمْس إِلَى الزَّوَال يَوْم النَّحْر فقد أصَاب سنتها
ووقتها الْمُخْتَار. وَأَجْمعُوا أَن من رَمَاهَا يَوْم
النَّحْر قبل المغيب فقد رَمَاهَا فِي وَقت لَهَا، وَإِن
لم يكن ذَلِك مستحسنا لَهُ، وَاخْتلفُوا فِيمَن أخر رميها
حَتَّى غربت الشَّمْس من يَوْم النَّحْر، فَذكر ابْن
الْقَاسِم أَن مَالِكًا كَانَ مرّة يَقُول: عَلَيْهِ دم،
وَمرَّة لَا يرى عَلَيْهِ شَيْئا، وَقَالَ الثَّوْريّ: من
أَخّرهَا عَامِدًا إِلَى اللَّيْل فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ: يرميها من
الْغَد وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقد أَسَاءَ، سَوَاء
تَركهَا عَامِدًا أَو نَاسِيا لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ
ابْن قدامَة: إِن أخر جَمْرَة الْعقبَة إِلَى اللَّيْل لَا
يرميها حَتَّى تَزُول الشَّمْس من الْغَد، وَبِه قَالَ
أَبُو حنيفَة وَإِسْحَاق. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمُحَمّد
وَابْن الْمُنْذر وَيَعْقُوب: يَرْمِي لَيْلًا، لقَوْله:
وَلَا حرج، وَلأبي حنيفَة: أَن ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: من فَاتَهُ الرَّمْي حَتَّى
تغيب الشَّمْس فَلَا يرم حَتَّى تَزُول الشَّمْس من
الْغَد، وَإِذا رمى جَمْرَة الْعقبَة قبل طُلُوع الْفجْر
يَوْم النَّحْر فَأكْثر الْعلمَاء على أَنه لَا يجزىء
وَعَلِيهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَأَصْحَابه وَمَالك وَأبي ثَوْر وَأحمد بن حَنْبَل
وَإِسْحَاق. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن أبي
مليكَة وَعِكْرِمَة بن خَالِد وَجَمَاعَة المكيين: يجْزِيه
وَلَا إِعَادَة على من فعله وَقَالَ الشَّافِعِي
وَأَصْحَابه: إِذا كَانَ الرَّمْي بعد نصف اللَّيْل جَازَ،
فَإِن رَمَاهَا بعد طُلُوع الْفجْر وَقبل طُلُوع الشَّمْس
فَجَائِز عِنْد الْأَكْثَرين، مِنْهُم أَبُو حنيفَة
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن
الْمُنْذر. وَقَالَ مُجَاهِد وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ:
لَا يرميها إلاَّ بعد طُلُوع الشَّمْس وَأما الثَّانِي:
فَإِن من حلق قبل أَن يذبح فجمهور الْعلمَاء على أَنه لَا
شَيْء عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَه عَطاء وطاووس وَسَعِيد
بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَمُجاهد وَالْحسن وَقَتَادَة،
وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري
وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد
وَمُحَمّد بن جرير. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: من حلق قبل أَن
يذبح اهراق دَمًا. وَقَالَ أَبُو الشعْثَاء: عَلَيْهِ
الْفِدْيَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ دم وَإِن
كَانَ قَارنا فدمان. وَقَالَ زفر: على الْقَارِن إِذا حلق
قبل الذّبْح ثَلَاثَة دِمَاء: دم للقران وَدَمَانِ للحلق.
قبل النَّحْر. وَاخْتلفُوا فِيمَن حلق قبل أَن يَرْمِي،
فَإِن مَالِكًا وَأَصْحَابه اخْتلفُوا فِي إِيجَاب
الْفِدْيَة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه: من قدم شَيْئا أَو أَخّرهُ
فَعَلَيهِ دم، وَلَا يَصح ذَاك عَنهُ، وَعَن إِبْرَاهِيم
وَجَابِر بن زيد مثل قَول مَالك فِي إِيجَاب الْفِدْيَة
على من حلق قبل أَن يَرْمِي، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين،
وَقَالَ الشَّافِعِي، وَأَبُو ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق
وَدَاوُد والطبري: لَا شَيْء على من حلق قبل أَن يَرْمِي،
وَلَا على من قدم شَيْئا أَو أَخّرهُ سَاهِيا مِمَّا يفعل
يَوْم النَّحْر. وَعَن الْحسن وطاووس: لَا شَيْء على من
حلق قبل أَن يَرْمِي، مثل قَول الشَّافِعِي وَمن تَابعه،
وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: من قدم نسكا قبل نسك فَلَا
حرج، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سعيد بن جُبَير وطاووس وَمُجاهد
وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن
الشَّافِعِي: من حلق قبل أَن يَرْمِي أَن عَلَيْهِ دَمًا،
وَزعم أَن ذَلِك حفظه عَن الشَّافِعِي وَهُوَ خطأ عَن
الشَّافِعِي، وَالْمَشْهُور من مذْهبه أَنه: لَا شَيْء على
من قدم أَو أخر شَيْئا من أَعمال الْحَج كلهَا إِذا كَانَ
سَاهِيا.
4371 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثَنَا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طَاوُسٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ والْحَلْقَ
والرَّمْيِ والتَّقْدِيمِ والتَّأخِيرِ فَقَالَ لَا
حَرَجَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا فِي التَّقْدِيم
وَالتَّأْخِير، والْحَدِيث كَذَلِك فيهمَا. فَإِن قلت: قيد
فِي التَّرْجَمَة كَونه نَاسِيا أَو جَاهِلا، وَلَيْسَ فِي
الحَدِيث ذَلِك؟ قلت: جَاءَ فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو
ذَلِك، وَهُوَ الَّذِي ذكره فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ
بقوله: (فَقَالَ رجل: لم أشعر فحلقت قبل أَن أذبح، قَالَ:
إذبح، وَلَا حرج، فجَاء آخر فَقَالَ: لم أشعر فنحرت قبل
أَن أرمي. قَالَ: إرم وَلَا حرج) الحَدِيث، فَإِن قَوْله:
لم أشعر، يَقْتَضِي عدم الشُّعُور، وَهُوَ أَعم من أَن
يكون بِجَهْل أَو بنسيان، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِك
لِأَن أصل الحَدِيث وَاحِد. وَإِن كَانَ الْمخْرج
مُتَعَددًا.
وَرِجَال الحَدِيث الْمَذْكُور قد ذكرُوا غير مرّة، ووهيب
بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَابْن
طَاوُوس هُوَ عبد الله بن طَاوُوس.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم
عَن بهز ابْن أَسد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو
بن مَنْصُور عَن الْمُعَلَّى بن أَسد كِلَاهُمَا عَن وهيب
بِهِ. قَوْله: (والتقديم) أَي: تَقْدِيم بعض هَذِه
الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة على بعض وتأخيرها عَنهُ. قَوْله:
(فَقَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَا حرج) أَي: لَا إِثْم
(10/71)
فِيهِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ مَا ملخصه:
إِن هَذَا القَوْل لَهُ احْتِمَالَانِ أَحدهمَا: أَنه
يحْتَمل أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاحَ ذَلِك
لَهُ توسعة وترفيها فِي حَقه، فَيكون للْحَاج أَن يقدم مَا
شَاءَ وَيُؤَخر مَا شَاءَ. وَالْآخر: أَنه يحْتَمل أَن
يكون قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا حرج) مَعْنَاهُ:
لَا إِثْم عَلَيْكُم فِيمَا فعلتموه من هَذَا لأنكم
فعلتموه على الْجَهْل مِنْكُم لَا على الْقَصْد مِنْكُم
خلاف السّنة، وَكَانَت السّنة خلاف هَذَا، وَالْحكم على
الِاحْتِمَال الثَّانِي وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أسقط عَنْهُم الْحَرج وأعذرهم لأجل النسْيَان وَعدم
الْعلم، لَا أَنه أَبَاحَ لَهُم ذَاك حَتَّى إِن لَهُم أَن
يَفْعَلُوا ذَلِك فِي الْعمد، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا
رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: (سُئِلَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ بَين
الْجَمْرَتَيْن عَن رجل حلق قبل أَن يَرْمِي. قَالَ: لَا
حرج، وَعَن رجل ذبح قبل أَن يَرْمِي، قَالَ: لَا حرج، ثمَّ
قَالَ: عباد الله وضع الله عز وَجل الضّيق والحرج، وتعلموا
مَنَاسِككُم فَإِنَّهَا من دينكُمْ) فذل ذَلِك على أَن
الْحَرج الَّذِي رَفعه الله عز وَجل عَنْهُم إِنَّمَا
كَانَ لجهلهم بِأَمْر الْمَنَاسِك لَا لغير ذَلِك،
وَذَلِكَ لِأَن السَّائِلين كَانُوا أُنَاسًا أعرابا لَا
علم لَهُم بالمناسك، فأجابهم رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: لَا حرج، يَعْنِي فِيمَا فَعلْتُمْ
بِالْجَهْلِ. لَا أَنه أَبَاحَ لَهُم ذَلِك فِيمَا بعد.
وَنفي الْحَرج لَا يسْتَلْزم نفي وجوب الْقَضَاء أَو
الْفِدْيَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن فعل ذَلِك
فَعَلَيهِ دم. وَالله أعلم.
وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن وجوب الْفِدْيَة يحْتَاج
إِلَى دَلِيل، وَلَو كَانَ وَاجِبا لبينه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ وَقت الْحَاجة فَلَا
يجوز تَأْخِيره. قلت: إِلَّا ثمَّ دَلِيل أقوى من قَوْله
تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي
مَحَله} (الْبَقَرَة: 691) . وَبِه احْتج النَّخعِيّ؟
فَقَالَ: فَمن حلق قبل الذّبْح اهراق دَمًا، رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة عَنهُ بِسَنَد صَحِيح، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل:
أُجِيب بِأَن المُرَاد ببلوغ مَحَله وُصُوله إِلَى الْموضع
الَّذِي يحل ذبحه فِيهِ فقد حصل، وَإِنَّمَا يتم المُرَاد
أَن لَو قَالَ: وَلَا تحلقوا حَتَّى تنحروا. انْتهى. قلت:
لَيْسَ المُرَاد الْكُلِّي مُجَرّد الْبلُوغ إِلَى الْمحل
الَّذِي يذبح فِيهِ، بل الْمَقْصد الْكُلِّي الذّبْح،
وَلِهَذَا لَو بلغ وَلم يذبح يجب عَلَيْهِ الْفِدْيَة.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتج الطَّحَاوِيّ
أَيْضا بقول ابْن عَبَّاس من قدم شَيْئا من نُسكه أَو
أَخّرهُ فليهرق لذَلِك دَمًا. قَالَ: وَهُوَ أحد من روى
أَن لَا حرج، فَدلَّ على أَن المُرَاد بِنَفْي الْحَرج نفي
الْإِثْم فَقَط. أُجِيب: بِأَن الطَّرِيق بذلك إِلَى ابْن
عَبَّاس فِيهَا ضعف، فَإِن ابْن أبي شيبَة أخرجهَا وفيهَا
إِبْرَاهِيم بن مهَاجر، وَفِيه مقَال. انْتهى. قلت: لَا
نسلم ذَلِك، فَإِن إِبْرَاهِيم ابْن مهَاجر روى لَهُ
مُسلم، وَفِي (الْكَمَال) روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ
البُخَارِيّ، وَرُوِيَ عَنهُ مثل الثَّوْريّ وَشعْبَة بن
الْحجَّاج وَالْأَعْمَش وَآخَرُونَ، فَلَا اعْتِبَار لذكر
ابْن الْجَوْزِيّ إِيَّاه فِي الضُّعَفَاء، وَلَئِن سلمنَا
مَا ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِل فِي هَذَا الطَّرِيق فقد
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من طَرِيق آخر لَيْسَ فِيهِ كَلَام،
فَقَالَ: حَدثنَا نصر بن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا الخصيب،
قَالَ: حَدثنَا وهيب عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير عَن
ابْن عَبَّاس مثله، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن
مَنْصُور عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
5371 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عَنْ
عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُسْئَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنىً فيَقُولْ لاَ حَرَجَ
فسَألَهُ رَجُلٌ فَقَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحْ ولاَ
حَرَجَ وَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أمْسَيْتُ فَقَالَ لَا
حَرَجَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن عَليّ
بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن يزِيد بن
زُرَيْع أبي مُعَاوِيَة الْبَصْرِيّ عَن خَالِد بن مهْرَان
الْحذاء الْبَصْرِيّ عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس
إِلَى آخِره. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُطَابقَة بَين
التَّرْجَمَة والْحَدِيث؟ قلت: فِي قَوْله: (بعد مَا
أمسيت) أَي: بعد مَا دخلت فِي الْمسَاء، وَالْمرَاد بِهِ
مَا بعد الزَّوَال، لِأَنَّهُ لُغَة الْعَرَب، يسمون مَا
بعده مسَاء وعشاء ورواحا، وروى مَالك عَن ربيعَة عَن
الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: مَا أدْركْت النَّاس
إلاَّ وهم يصلونَ الظّهْر بعشي، وَإِنَّمَا يُرِيد
تَأْخِيرهَا عَن الْوَقْت الَّذِي فِي شدَّة الْحر إِلَى
وَقت الْإِبْرَاد الَّذِي أَمر بِهِ الشَّارِع، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
(10/72)
(بابُ الفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ
الجَمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْفتيا على الدَّابَّة عِنْد
جَمْرَة الْعقبَة، يُقَال: استفتيت الْفَقِيه فِي
مَسْأَلَة فأفتاني، قَالَ الْجَوْهَرِي: والإسم الْفتيا
والفتوة، وَقد ذكر البُخَارِيّ بَابَيْنِ فِي كتاب الْعلم
أَحدهمَا: بَاب الْفتيا وَهُوَ وَاقِف على ظهر الدَّابَّة
أَو غَيرهَا، وَأورد فِيهِ حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن
الْعَاصِ. وَالْآخر: بَاب السُّؤَال والفتيا عِنْد رمي
الْجمار، وَأورد فِيهِ أَيْضا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو
بن الْعَاصِ، وَأورد هَهُنَا أَيْضا حَدِيث عبد الله بن
عَمْرو الْمَذْكُور فِي الْبَابَيْنِ، وَهَذَا مِنْهُ
نَادِر غَرِيب.
6371 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عِيسَى بنِ طَلْحَةَ عَنْ
عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وأنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وقفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فجَعَلُوا
يَسْألُونهُ فَقَالَ رجُلٌ لَمْ أشْعُرْ فحَلَقْتُ قَبْلَ
أنْ أذْبَحَ ولاَ حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ
أشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ قَالَ ارمِ ولاَ
حَرَجَ فَما سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عنْ شَيْءٍ قُدِّمَ ولاَ
أُخِّرَ إلاَّ قالَ افْعَلْ ولاَ حَرَجَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وقف فِي حجَّة
الْوَدَاع) ، لِأَن مَعْنَاهُ: وقف على نَاقَته، وَقد صرح
بِهِ عبد الله بن عَمْرو فِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي
هَذَا الْبَاب لِأَن البُخَارِيّ روى حَدِيثه فِي هَذَا
الْبَاب بِثَلَاثَة أوجه الأول: وقف فِي حجَّة الْوَدَاع.
وَالثَّانِي: أَنه شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهُوَ يخْطب. وَالثَّالِث: وقف رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته. وَقَوله: (فِي التَّرْجَمَة
على الدَّابَّة) يتَنَاوَل النَّاقة، وَأما دلَالَته على
أَنه كَانَ عِنْد الْجَمْرَة فَمن حَدِيث عبد الله بن
عَمْرو أَيْضا الَّذِي أخرجه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب
السُّؤَال والفتيا عِنْد الْجمار، عَن عِيسَى بن طَلْحَة
عَن عبد الله بن عمر وَقَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْجَمْرَة وَهُوَ يسْأَل ...
الحَدِيث، وَهُوَ وَاحِد والراوي وَاحِد.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، فالثلاثة الأول ذكرُوا غير
مرّة، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وَعِيسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ، مَاتَ سنة
مائَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ
عبد الله بن يُوسُف فَإِنَّهُ تنيسي وَأَصله من دمشق
وَأَنه من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَقد ذكرنَا فِي: بَاب الْفتيا وَهُوَ على ظهر الدَّابَّة
فِي كتاب الْعلم أَن هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة
السِّتَّة. وَقد ذكرنَا أَيْضا تعدد مَوْضِعه لكل مِنْهُم،
وتكلمنا على مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء هُنَاكَ،
ونتكلم أَيْضا على بعض مَا فاتنا هُنَاكَ.
فَقَوله: (مَالك عَن ابْن شهَاب) كَذَا فِي (الْمُوَطَّأ)
وَعند النَّسَائِيّ من طَرِيق يحيى الْقطَّان: عَن مَالك
حَدثنِي الزُّهْرِيّ. قَوْله: (عَن عِيسَى) فِي رواي صَالح
بن كيسَان: حَدثنِي عِيسَى، قَوْله: (عَن عبد الله) ، فِي
رِوَايَة صَالح: أَنه سمع عبد الله، وَفِي رِوَايَة ابْن
جريج، وَهِي الثَّانِيَة: أَن عبد الله حَدثهُ. قَوْله:
(وقف) فِي رِوَايَة ابْن جرير: أَنه شهد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه وقف، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا
الحَدِيث لَا يَقْتَضِي رفع الْحَرج فِي غير
الْمَسْأَلَتَيْنِ المذكورتين الْمَنْصُوص عَلَيْهِمَا فِي
رِوَايَة مَالك، لِأَنَّهُ صرح جَوَابا للسؤال، فَلَا
يدْخل فِيهِ غَيره. انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب مِنْهُ،
فَكَأَنَّهُ ذهل عَن قَوْله: فِي بَقِيَّة الحَدِيث (فَمَا
سُئِلَ عَن شَيْء وَقدم وَلَا أخر إِلَّا قَالَ: إفعل
وَلَا حرج) ، فَإِن قلت: يُمكن أَنه حمل هَذَا الْمُبْهم
على مَا ذكر؟ قلت: يرد ذَلِك رِوَايَة ابْن جريج
وَأَشْبَاه ذَلِك، كَمَا يَجِيء فِي الحَدِيث الَّذِي
يَأْتِي عقيب هَذَا الحَدِيث إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
318 - (حَدثنَا سعيد بن يحيى بن سعيد قَالَ حَدثنَا أبي
قَالَ حَدثنَا ابْن جريج قَالَ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن
عِيسَى بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي
رَضِي الله عَنهُ حَدثهُ أَنه شهد النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب يَوْم النَّحْر
فَقَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ كنت أَحسب أَن كَذَا قبل
كَذَا ثمَّ قَامَ آخر فَقَالَ كنت أَحسب أَن كَذَا قبل
كَذَا حلقت قبل أَن أنحر نحرت قبل أَن أرمي وَأَشْبَاه
(10/73)
ذَلِك فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - افْعَل وَلَا حرج لَهُنَّ كُلهنَّ
فَمَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَن شَيْء إِلَّا قَالَ افْعَل
وَلَا حرج) مطابقته التَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله "
يخْطب يَوْم النَّحْر " لِأَن فِي رِوَايَة صَالح بن
كيسَان وَمعمر على رَاحِلَته (فَإِن قلت) قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ إِن صَالح بن كيسَان تفرد بقوله " على
رَاحِلَته " (قلت) لَيْسَ كَمَا قَالَ فقد ذكر ذَلِك
يُونُس عِنْد مُسلم وَمعمر عِنْد أَحْمد كِلَاهُمَا عَن
الزُّهْرِيّ وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك بقوله "
تَابعه معمر عَن الزُّهْرِيّ " أَي فِي قَوْله " وقف على
رَاحِلَته " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول سعيد بن يحيى
بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد
شمس. الثَّانِي أَبوهُ يحيى بن سعيد الْمَذْكُور.
الثَّالِث عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عِيسَى بن
طَلْحَة ابْن عبيد الله. السَّادِس عبد الله بن عَمْرو بن
الْعَاصِ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي
موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه
بغدادي وَأَبوهُ كُوفِي وَابْن جريج مكي وَالزهْرِيّ
وَعِيسَى مدنيان وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن
التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَقد ذكرنَا تعدد مَوْضِعه
وَمن أخرجه غَيره فِي كتاب الْعلم فِي بَاب الْفتيا وَهُوَ
على ظهر الدَّابَّة. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " شهد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي
حَضَره قَوْله " يخْطب يَوْم النَّحْر " جملَة فعلية وَقعت
حَالا أَي يخْطب على رَاحِلَته كَمَا صرح بِهِ فِي
رِوَايَة صَالح بن كيسَان وَمعمر بن رَاشد قَوْله "
فَقَامَ إِلَيْهِ رجل " لم يدر اسْمه قَالَ شَيخنَا زين
الدّين رَحمَه الله اخْتلفت أَلْفَاظ حَدِيث عبد الله بن
عمر وَفِي مَكَان هَذَا السُّؤَال وَوَقفه فِي
الصَّحِيحَيْنِ " وقف فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى للنَّاس
يسألونه " وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ " رَأَيْته عِنْد
الْجَمْرَة وَهُوَ يسْأَل " وَفِي رِوَايَة لَهُ " وقف على
نَاقَته " وَعند مُسلم " أَتَاهُ رجل يَوْم النَّحْر
وَهُوَ وَاقِف عِنْد الْجَمْرَة " وَفِي رِوَايَة لَهُ "
رَأَيْته على نَاقَته بمنى " وَفِي رِوَايَة لَهُ "
بَيْنَمَا هُوَ يخْطب يَوْم النَّحْر " وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه قَالَ لنا أَبُو بكر
النَّيْسَابُورِي مَا وجدت يخْطب إِلَّا فِي حَدِيث ابْن
جريج عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ حسن انْتهى وَجه الْجمع
بَينهمَا أَنه لَا اخْتِلَاف فِي الْمَكَان فَقَوله " بمنى
" لَا يُنَافِيهِ قَوْله " عِنْد الْجَمْرَة " لِأَنَّهَا
أول منى وَقَوله " على نَاقَته " مَعَ قَوْله " يخْطب "
لَا مُنَافَاة أَيْضا بَينهمَا إِذْ قد يكون خطب على
رَاحِلَته وَقَالَ الدَّاودِيّ حِكَايَة عَن مَالك معنى
يخْطب أَي وقف للنَّاس يعلمهُمْ لَا أَنَّهَا من خطب
الْحَج قَالَ شَيخنَا وَيحْتَمل أَنه كَانَ فِي خطْبَة
يَوْم النَّحْر وَهِي الْخطْبَة الثَّالِثَة من خطب الْحَج
وَأما قَوْله " يَوْم النَّحْر " فَهُوَ معَارض لرِوَايَة
البُخَارِيّ لحَدِيث ابْن عَبَّاس " رميت بَعْدَمَا أمسيت
" فَهَذَا يدل على أَن السُّؤَال كَانَ بعد الْمسَاء
إِمَّا فِي اللَّيْل وَإِمَّا فِي الْيَوْم الَّذِي
يَلِيهِ أَو مَا بعده انْتهى (قلت) لَا مُعَارضَة لأَنا قد
ذكرنَا أَن الْمسَاء يُطلق على مَا يُطلق عَلَيْهِ العشى
والرواح والعشى يُطلق على مَا بعد الزَّوَال وَذكر ابْن
حزم فِي حجَّة الْوَدَاع أَن هَذِه الأسئلة كَانَت بعد
عوده إِلَى منى من إفَاضَة يَوْم النَّحْر وَقَالَ الْمُحب
الطَّبَرِيّ يحْتَمل أَنَّهَا تَكَرَّرت قبله وَبعده وَفِي
اللَّيْل وَالله أعلم وَقَالَ القَاضِي عِيَاض يحْتَمل أَن
ذَلِك فِي موضِعين أَحدهمَا وقف على رَاحِلَته عِنْد
الْجَمْرَة وَلم يقل فِي هَذَا الْوَجْه أَنه خطب
وَإِنَّمَا فِيهِ أَنه وقف وَسُئِلَ وَالثَّانِي بعد
صَلَاة الظّهْر يَوْم النَّحْر وقف للخطبة فَخَطب وَهِي
إِحْدَى خطب الْحَج الْمَشْهُورَة يعلمهُمْ فِيهَا مَا
بَين أَيْديهم من الْمَنَاسِك وَقَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا
الِاحْتِمَال هُوَ الصَّوَاب قَوْله " فَقَالَ كنت أَحسب
أَن كَذَا قبل كَذَا " أَي كنت أَظن مثلا أَن النَّحْر قبل
الرَّمْي وَله نَظَائِر أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله "
وَأَشْبَاه ذَلِك " أَي من الْأَشْيَاء الَّتِي كَانَ
يحسبها على خلاف الأَصْل وَوَقع ذَلِك بعبارات مُخْتَلفَة
فَفِي رِوَايَة يُونُس عِنْد مُسلم " لم أشعر أَن الرَّمْي
قبل الْحلق فنحرت قبل أَن أرمي وَقَالَ آخر لم أشعر أَن
النَّحْر قبل الْحلق فحلقت قبل أَن أنحر " وَفِي رِوَايَة
ابْن جريج " كنت أَحسب أَن كَذَا قبل كَذَا " وَوَقع فِي
رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة عَن الزُّهْرِيّ عِنْد
مُسلم " حلقت قبل أَن أرمي وَقَالَ آخر أفضت إِلَى
الْبَيْت قبل أَن أرمي " وَفِي حَدِيث معمر عِنْد أَحْمد
زِيَادَة الْحلق قبل الرَّمْي وَأَيْضًا فحاصل مَا فِي
حَدِيث عبد الله بن عمر وَالسُّؤَال عَن أَرْبَعَة
أَشْيَاء الْحلق قبل الذّبْح وَالْحلق قبل الرَّمْي والنحر
قبل الرَّمْي والإفاضة قبل الرَّمْي والأولان فِي حَدِيث
ابْن عَبَّاس أَيْضا وَعند الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث
ابْن عَبَّاس أَيْضا السُّؤَال عَن الْحلق قبل الرَّمْي
وَكَذَا فِي حَدِيث جَابر وَفِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد
(10/74)
الطَّحَاوِيّ السُّؤَال عَن منى والإفاضة
مَعًا قبل الْحلق وَفِي حَدِيث جَابر الَّذِي علقه
البُخَارِيّ فِيمَا مضى السُّؤَال عَن السَّعْي قبل
الطّواف قَوْله " لَهُنَّ كُلهنَّ " اللَّام فِيهِ إِمَّا
مُتَعَلق يُقَال أَي قَالَ لأجل هَذِه الْأَفْعَال كُلهنَّ
افْعَل وَلَا حرج أَو مُتَعَلق بِمَحْذُوف نَحْو قَالَ
يَوْم النَّحْر لَهُنَّ أَو مُتَعَلق بِلَا حرج أَي لَا
حرج لأجلهن عَلَيْك قَوْله " عَن شَيْء " أَي من الْأُمُور
الَّتِي هِيَ وظائف يَوْم النَّحْر.
8371 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا يَعْقُوبُ بنُ
إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا أبِي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ
شِهَابٍ قَالَ حدَّثني عِيسَى بنُ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ
الله أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ عَمْرِو بنِ العاصِ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ وقَفَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى ناقَتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ..
هَذَا طَرِيق ثَالِث للْحَدِيث الْمَذْكُور عَن إِسْحَاق،
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: إِسْحَاق مُجَردا
غير مَنْسُوب، وَنسبه أَبُو عَليّ بن السكن. فَقَالَ:
إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) من مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،
وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب، لِأَن أَبَا نعيم يروي من حَدِيث
عبد الله بن مُحَمَّد بن شيرويه عَن إِسْحَاق عَن
يَعْقُوب، وَابْن شيرويه يروي عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه
بِسَنَدِهِ، وَلم يعلم لَهُ رِوَايَة عَن إِسْحَاق بن
مَنْصُور، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن سعيد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي
الزُّهْرِيّ، روى عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد، يروي عَن
صَالح بن كيسَان مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، يروي عَن
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم.
وَفِيه: من اللطائف: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب،
وَرِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين، يروي بَعضهم عَن بعض،
وهم صاحل وَالزهْرِيّ وَعِيسَى. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ
صَالح بعد الْأَرْبَعين وَالْمِائَة، وَكَانَ تابعيا، رأى
عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله:
(وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته)
قَالَ ابْن عبد الْبر: فِي وقُوف النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على نَاقَته مَعَ مَا رُوِيَ عَن جَابر
وَغَيره دلَالَة لما استحبه حماعة مِنْهُم الشَّافِعِي
وَمَالك قَالُوا: رمى جَمْرَة الْعقبَة رَاكِبًا، قَالَ
مَالك: وَفِي غير يَوْم النَّحْر مَاشِيا، وَعَن أبي
حنيفَة: يرميها كلهَا مَاشِيا أَو رَاكِبًا. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رمى
الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا. وَقَالَ ابْن حزم:
يرميها كلهَا رَاكِبًا. قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ مصححا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، إِنَّه كَانَ إِذا رمى الْجمار مَشى إِلَيْهَا
ذَاهِبًا وراجعا، ويخبر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يفعل ذَلِك، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل
الْعلم. قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: يركب يَوْم النَّحْر
وَيَمْشي فِي الْأَيَّام الَّتِي بعد يَوْم النَّحْر.
انْتهى.
وَقد أجمع الْعلمَاء على جَوَاز الْأَمريْنِ مَعًا
وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل من ذَلِك، فَذهب أَحْمد
إِسْحَاق إِلَى اسْتِحْبَاب الرَّمْي مَاشِيا، وروى
الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى جَابر بن عبد الله أَنه
كَانَ يكره أَن يركب إِلَى شَيْء من الْجمار إلاَّ من
ضَرُورَة، وَذهب مَالك إِلَى اسْتِحْبَاب الْمَشْي فِي رمي
أَيَّام التَّشْرِيق، وَأما جَمْرَة الْعقبَة يَوْم
النَّحْر فيرميها على حسب حَاله كَيفَ كَانَ، وَقَالَ
القَاضِي عِيَاض: لَيْسَ من سنة الرَّمْي الرّكُوب لَهُ
وَلَا التَّرَجُّل، وَلَكِن يَرْمِي الرجل على هَيئته
الَّتِي يكون حِينَئِذٍ عَلَيْهَا من ركُوب أَو مشي، وَلَا
ينزل إِن كَانَ رَاكِبًا لرمي، وَلَا يركب إِن كَانَ
مَاشِيا، وَأما الْأَيَّام بعْدهَا فَيَرْمِي مَاشِيا
لِأَن النَّاس نازلون مَنَازِلهمْ بمنى فيمشون للرمي وَلَا
يركبون، لِأَنَّهُ خُرُوج عَن التَّوَاضُع حِينَئِذٍ،
هَذَا مَذْهَب مَالك. انْتهى وَاخْتَارَ بَعضهم الرّكُوب
فِي الْيَوْم الأول والأخير وَالْمَشْي فِيمَا بَينهمَا،
وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَطاء بن أبي
رَبَاح قَالَ: رمي الْجمار ركُوب يَوْمَيْنِ ومشي
يَوْمَيْنِ، وَحمله الْبَيْهَقِيّ على ركُوب الْيَوْم
الأول والأخير، وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن
الشَّافِعِي وموافقيه: أَنه يسْتَحبّ لمن وصل منى رَاكِبًا
أَن يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا،
وَلَو رَمَاهَا مَاشِيا جَازَ، وَأما من وَصلهَا مَاشِيا
فيرميها مَاشِيا، قَالَ: وَهَذَا فِي يَوْم النَّحْر،
وَأما اليومان الْأَوَّلَانِ من أَيَّام التَّشْرِيق
فَالسنة أَن يَرْمِي فيهمَا جَمِيعًا الجمرات مَاشِيا،
وَفِي الْيَوْم الثَّالِث يَرْمِي رَاكِبًا. انْتهى.
وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: كل رمي بعده رمي كرمي
الْجَمْرَتَيْن الأولى وَالْوُسْطَى فِي الْأَيَّام
الثَّلَاثَة يَرْمِي مَاشِيا، وَإِن لم يكن بعده رمي كرمي
جَمْرَة الْعقبَة، والجمرة الْأَخِيرَة فِي الْأَيَّام
الثَّلَاثَة، فَيَرْمِي رَاكِبًا. هَذَا هُوَ الْفَضِيلَة،
وَأما الْجَوَاز فثابت كَيفَ مَا كَانَ.
(10/75)
تابَعَهُ مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع صَالح بن كيسَان معمر بن رَاشد فِي رِوَايَة
عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرج مُسلم هَذِه الْمُتَابَعَة عَن
ابْن أبي عمر وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر
عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد: (رَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته بمنى فجَاء رجل.
.) الحَدِيث.
231 - (بابُ الْخطْبَةِ أيَّامَ مِنىً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْخطْبَة
أَيَّام منى، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الرّد على
من زعم أَن يَوْم النَّحْر لَا خطْبَة فِيهِ للْحَاج،
وَأَن الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث من قبيل الْوَصَايَا
الْعَامَّة لَا على أَنه من شَعَائِر الْحَج، فَأَرَادَ
البُخَارِيّ أَن يبين أَن الرَّاوِي قد سَمَّاهَا خطْبَة
كَمَا سمي الَّتِي وَقعت فِي عَرَفَات خطْبَة، وَقد
اتَّفقُوا على مَشْرُوعِيَّة الْخطْبَة بِعَرَفَات،
فَكَأَنَّهُ ألحق الْمُخْتَلف فِيهِ بالمتفق عَلَيْهِ.
انْتهى. قلت: أَرَادَ هَذَا الْقَائِل بِهَذَا الرَّد على
الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْخطْبَة الْمَذْكُورَة
لَيست من متعلقات الْحَج لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهَا شَيْئا
من أُمُور الْحَج، وَإِنَّمَا ذكر فِيهَا وَصَايَا
عَامَّة، وَلم ينْقل أحد أَنه علمهمْ شَيْئا من الَّذِي
يتَعَلَّق بِيَوْم النَّحْر، فَعرفنَا أَنَّهَا لم تقصد
لأجل الْحَج. انْتهى. قلت: رد هَذَا الْقَائِل عَن
الطَّحَاوِيّ أَو على غَيره مِمَّن قَالَ مثل مَا قَالَ
الطَّحَاوِيّ مَرْدُود عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم
يذكر شَيْئا أصلا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور من أُمُور
الْحَج، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك من أجل تَبْلِيغ مَا ذكره
لِكَثْرَة الْجمع الَّذِي الَّذِي اجْتمع من أقاصي
الدُّنْيَا، هَكَذَا قَالَ ابْن الْقصار أَيْضا، ثمَّ
قَالَ: فَظن الَّذِي رَآهُ أَنه خطب، وَقَالَ بَعضهم،
نصْرَة للقائل الْمَذْكُور: وَأجِيب بِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نبه فِي الْخطْبَة الْمَذْكُورَة على
تَعْظِيم يَوْم النَّحْر، وعَلى تَعْظِيم شهر ذِي
الْحجَّة، وعَلى تَعْظِيم الْبَلَد الْحَرَام، وَقد جزم
الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بتسميتها
خطْبَة فَلَا يلْتَفت إِلَى تَأْوِيل غَيرهم. انْتهى. قلت:
لَيْت شعري مَا وَجه هَذَا الَّذِي ذكره أَن يكون جَوَابا؟
وتعظيم هَذِه الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَيْسَ لَهُ دخل
فِي أُمُور الْحَج، وتعظيم هَذِه الْأَشْيَاء غير مُقَيّد
بأوقات الْحَج، بل يجب تعظيمها مُطلقًا. وَقَوله: وَقد جزم
الصَّحَابَة ... إِلَى آخِره، دَعْوَى بِلَا دَلِيل. على
أَنا نقُول: إِن تسميتهم للتبليغ الْمَذْكُور خطْبَة لَيست
على حَقِيقَة الْخطْبَة الْمَعْهُودَة الْمُشْتَملَة على
أَشْيَاء شَتَّى، وَقَالَ بَعضهم فِي الرَّد على
الطَّحَاوِيّ فِي قَوْله: وَلم ينْقل أحد أَنه، عَلَيْهِ
السَّلَام، علمهمْ شَيْئا من أُمُور الْحَج، بقوله: وَأما
قَول الطَّحَاوِيّ: وَلم ينْقل أحد ... إِلَى آخِره، لَا
يَنْفِي وُقُوع ذَلِك أَو شَيْء مِنْهُ فِي نفس الْأَمر،
بل قد ثَبت فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه شهد النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب يَوْم النَّحْر وَذكر فِيهِ
السُّؤَال عَن تَقْدِيم بعض الْمَنَاسِك على بعض، فَكيف
سَاغَ للطحاوي هَذَا النَّفْي الْمُطلق مَعَ رِوَايَته
هُوَ حَدِيث عبد الله بن عَمْرو؟ انْتهى. قلت: كَيفَ سَاغَ
لهَذَا الْقَائِل أَن يحط على الطَّحَاوِيّ بفهمه كَلَامه
على غير أَصله؟ فَإِنَّهُ لم ينف مُطلقًا، وَإِنَّمَا
مُرَاده نفي دلَالَة حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِي
هَذَا الْبَاب على أَنه خطْبَة وَقعت يَوْم النَّحْر،
وَلَا يلْزم من هَذَا أَن يَنْفِي نفيا مُطلقًا، وتأييد
رده عَلَيْهِ بِحَدِيث عبد الله بن عَمْرو يُؤَيّد ضعف مَا
فهمه من كَلَامه، لِأَن حَدِيث عبد الله بن عَمْرو لَيْسَ
فِيهِ مَا يدل صَرِيحًا على لفظ: خطب، فَإِن لفظ
البُخَارِيّ وَمُسلم: (وقف فِي حجَّة الْوَدَاع فَجعلُوا
يسألونه) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: (وقف رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على رَاحِلَته فَطَفِقَ
نَاس يسألونه) ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ (أَن رجلا
سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ:
حلقت قبل أَن أذبح) الحَدِيث، وَلَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه
الْأَلْفَاظ مَا يدل على أَنه خطْبَة، وَإِنَّمَا هُوَ
سُؤال وَجَوَاب وَتَعْلِيم وَتعلم، فَلَا يُسمى هَذَا
خطْبَة، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَحَادِيث أُخْرَى غير
حَدِيث عبد الله بن عَمْرو مَا يدل على أَنه خطْبَة، وروى
أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، (قَالَ: جَاءَ رجل، يَا رَسُول الله! حلقت قبل أَن
أنحر) الحَدِيث، وروى النَّسَائِيّ عَن جَابر: (أَن رجلا
قَالَ: يَا رَسُول الله ذبحت قبل أَن أرمي) الحَدِيث، وروى
ابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ عَن جَابر أَيْضا يَقُول:
(قعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى يَوْم
النَّحْر للنَّاس، فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله
إِنِّي حلقت قبل أَن أذبح. .) ، وروى الْأَئِمَّة
السِّتَّة، خلا التِّرْمِذِيّ، عَن ابْن عَبَّاس من طَرِيق
وَلَيْسَ فِيهَا مَا يدل على أَنه خطْبَة، فروى
الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة ابْن طَاوُوس عَن
أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قيل لَهُ فِي الذّبْح وَالْحلق وَالرَّمْي والتقديم
وَالتَّأْخِير، قَالَ: لَا حرج) ، وروى البُخَارِيّ
وَأَصْحَاب السّنَن، خلا التِّرْمِذِيّ، من رِوَايَة
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (كَانَ النَّبِي
(10/76)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسأب يَوْم
النَّحْر بمنى) الحَدِيث، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مَنْصُور عَن عَطاء عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن حلق) الحَدِيث، وروى البُخَارِيّ من رِوَايَة عَطاء
أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، (قَالَ رجل للنَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: زرت قبل أَن أرمي. .) الحَدِيث، فَهَذِهِ
كلهَا سُؤَالَات وأجوبة، وَقد مضى فِي الْبَاب الَّذِي
قبله مَا يُوضح مَا ذَكرْنَاهُ هُنَا.
320 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنِي يحيى بن
سعيد قَالَ حَدثنَا فُضَيْل بن غَزوَان قَالَ حَدثنَا
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب
النَّاس يَوْم النَّحْر فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس أَي
يَوْم هَذَا قَالُوا يَوْم حرَام قَالَ فَأَي بلد هَذَا
قَالُوا بلد حرَام قَالَ فَأَي شهر هَذَا قَالُوا شهر
حرَام قَالَ فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ
عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي بلدكم هَذَا
فِي شهركم هَذَا فَأَعَادَهَا مرَارًا ثمَّ رفع رَأسه
فَقَالَ اللَّهُمَّ هَل بلغت اللَّهُمَّ هَل بلغت قَالَ
ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ
إِنَّهَا لوصيته إِلَى أمته فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب
لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " خطب النَّاس يَوْم
النَّحْر " وَقد ذكرنَا أَن قَوْله " خطب " لَيْسَ من
الْخطْبَة الْمَعْهُودَة وَإِطْلَاق الْخطْبَة عَلَيْهِ
بِاعْتِبَار أَنَّهَا فِي الأَصْل كَلَام وَقَول وَعلي بن
عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ وَيحيى
هُوَ الْقطَّان وفضيل بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد
الْمُعْجَمَة ابْن غَزوَان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الزَّاي وبالنون فِي آخِره وَفِيه أَن شيخ
وَعِكْرِمَة مدنيان وَيحيى بَصرِي وفضيل كُوفِي والْحَدِيث
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن
أشكاب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ
عَن يحيى بِهِ. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " خطب النَّاس
يَوْم النَّحْر " قد ذكرنَا أَن إِطْلَاق لفظ الْخطْبَة
لَيْسَ على حَقِيقَة الْخطْبَة الْمَعْهُودَة لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَمر من أُمُور الْحَج كَمَا
ذَكرْنَاهُ عَن قريب وَالْخطْبَة الْحَقِيقِيَّة فِي
حَدِيث ابْن عَبَّاس مَا رَوَاهُ جَابر بن زيد عَنهُ قَالَ
سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يخْطب بِعَرَفَات كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب
فَهَذِهِ الْخطْبَة الْحَقِيقِيَّة لِأَن فِيهَا تَعْلِيم
النَّاس الْوُقُوف بِعَرَفَة والمزدلفة والإفاضة مِنْهَا
وَرمي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر وَالذّبْح وَالْحلق
وَطواف الزِّيَارَة وَلَيْسَ فِي خطْبَة يَوْم النَّحْر
شَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا هِيَ سُؤَالَات وأجوبة كَمَا
ذكرنَا وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث الهرماس بن زِيَاد وَأبي
أُمَامَة عِنْد أبي دَاوُد وَحَدِيث جَابر بن عبد الله
عِنْد أَحْمد " خَطَبنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم النَّحْر فَقَالَ أَي يَوْم
أعظم حُرْمَة " الحَدِيث وَإِطْلَاق الْخطْبَة فِي كل
ذَلِك لَيْسَ على حَقِيقَته قَوْله " فَقَالَ يَا أَيهَا
النَّاس " خطاب لمن كَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت
وَوَصِيَّة أَيْضا للشاهدين بِأَن يبلغُوا الغائبين كَمَا
يَأْتِي ذَلِك عَن قريب قَوْله " أَي يَوْم هَذَا " خرج
مخرج الِاسْتِفْهَام وَالْمرَاد بِهِ التَّقْدِير
لِأَنَّهُ أبلغ وَكَذَلِكَ الاستفهامان الْآخرَانِ قَوْله
" قَالُوا يَوْم حرَام " يَعْنِي يحرم فِيهِ الْقِتَال
وتوصيف الْيَوْم بالحرام مجَاز مُرْسل من قبيل قَوْلهم رجل
عدل لِأَن الْحَرَام لَيْسَ عين الْيَوْم وَإِنَّمَا هُوَ
الَّذِي يَقع فِيهِ من الْقِتَال وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي
قَوْله " بلد حرَام وَشهر حرَام " وَقَالَ الْكرْمَانِي
(فَإِن قلت) الْمُسْتَفَاد من الحَدِيث الأول وَهُوَ
حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنهم أجابوه بِأَنَّهُ يَوْم حرَام
وَمن الثَّانِي وَهُوَ حَدِيث أبي بكرَة أَنهم سكتوا عَنهُ
وفوضوه إِلَيْهِ فَمَا التَّوْفِيق بَينهمَا (قلت)
السُّؤَال الثَّانِي فِيهِ فخامة لَيست فِي الأول بِسَبَب
زِيَادَة لفظ أَتَدْرُونَ فَلهَذَا سكتوا فِيهِ بِخِلَاف
الأول وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ يَوْم كَذَا بعد أَن قَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَيْسَ هَذَا
يَوْم النَّحْر وَكَذَا فِي أَخَوَيْهِ فالسكوت كَانَ
أَولا وَالْجَوَاب بِالتَّعْيِينِ كَانَ آخرا انْتهى ووفق
بَعضهم بَين الْحَدِيثين بقوله لعلهما وَاقِعَتَانِ ورده
بَعضهم بقوله وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْخطْبَة يَوْم
النَّحْر إِنَّمَا تشرع مرّة وَاحِدَة وَقد قَالَ فِي كل
مِنْهُمَا أَن ذَلِك كَانَ يَوْم النَّحْر انْتهى (قلت)
لَيْسَ لهَذَا الرَّد وَجه لِأَنَّهُ لَا مَانع من تعدد
الْقَضِيَّة وَقَوله لِأَن الْخطْبَة يَوْم النَّحْر إِلَى
آخِره
(10/77)
بِنَاء على أَن الْخطْبَة فِي حَدِيث ابْن
عَبَّاس على حَقِيقَتهَا على زعمهم وَهَذَا لَا يَقُول
بِهِ خصمهم قَوْله " وَأَعْرَاضكُمْ " جمع عرض بِكَسْر
الْعين وَهُوَ مَا يحميه الْإِنْسَان وَيلْزمهُ الْقيام
بِهِ قَالَه أَبُو عَمْرو وَقَالَ الْأَصْمَعِي هُوَ مَا
يمدح بِهِ ويذم وَقيل الْعرض الْحسب وَقيل النَّفس فَإِن
الْعرض يُقَال للنَّفس وللحسب يُقَال فلَان نقي الْعرض أَي
بَرِيء أَن يشْتم أَو يعاب وَالْعرض رَائِحَة الْجَسَد أَو
غَيره طيبَة أَو خبيثة وَفِي شرح السّنة لَو كَانَ
المُرَاد من الْأَعْرَاض النُّفُوس لَكَانَ تَكْرَارا
لِأَن ذكر الدِّمَاء كَاف إِذْ المُرَاد بهَا النُّفُوس
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ الظَّاهِر أَن المُرَاد بالأعراض
الْأَخْلَاق النفسانية وَذكر فِي النِّهَايَة الْعرض
مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان سَوَاء كَانَ فِي
نَفسه أَو فِي سلفه وَلما كَانَ مَوضِع الْعرض النَّفس
قَالَ من قَالَ الْعرض النَّفس إطلاقا للمحل على الْحَال
وَحين كَانَ الْمَدْح نِسْبَة الشَّخْص إِلَى الْأَخْلَاق
الحميدة والذم نسبته إِلَى الذميمة سَوَاء كَانَت فِيهِ
أَو لَا قَالَ من قَالَ الْعرض الْخلق إطلاقا الِاسْم
اللَّازِم على الْمَلْزُوم قَوْله " كَحُرْمَةِ يومكم
هَذَا " إِنَّمَا شبهها فِي الْحُرْمَة بِهَذِهِ
الْأَشْيَاء لأَنهم كَانُوا لَا يرَوْنَ اسْتِبَاحَة
تِلْكَ الْأَشْيَاء وانتهاك حرمتهَا بِحَال وَقيل مثل
بِالْيَوْمِ وبالشهر وبالبلد لتوكيد تَحْرِيم مَا حرم من
الدِّمَاء وَالْأَمْوَال والأعراض قَوْله " فَأَعَادَهَا
مرَارًا " أَي أعَاد الْمَذْكُورَات مرَارًا وَأقله أَن
يكون ثَلَاث مَرَّات قَوْله " ثمَّ رفع رَأسه " وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه ثمَّ رفع
رَأسه إِلَى السَّمَاء قَوْله " اللَّهُمَّ هَل بلغت "
إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ فرضا عَلَيْهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يبلغ وَمِنْه
سميت حجَّة الْبَلَاغ قَوْله " إِنَّهَا لوصيته " أَي أَن
الْكَلِمَات الَّتِي قَالَهَا لوصيته إِلَى أمته يُرِيد
بذلك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب " إِلَى آخر الحَدِيث
وَالْمرَاد بِالشَّاهِدِ الْحَاضِر فِي ذَلِك الْمجْلس
وَقَوله قَالَ ابْن عَبَّاس فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ
إِنَّهَا لوصيته إِلَى أمته قسم من ابْن عَبَّاس صدر بِهِ
كَلَامه للتَّأْكِيد وَهُوَ إِلَى آخر كَلَامه معترض بَين
قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَل بلغت
" وَبَين قَوْله " فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب " وَاللَّام
فِي قَوْله " لوصيته " مَفْتُوحَة وَهِي لَام التَّأْكِيد
وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَذكرنَا أَن الضَّمِير فِي
أَنَّهَا يرجع إِلَى الْكَلِمَات الَّتِي قَالَهَا وَهِي "
فليبلغ الشَّاهِد " إِلَى آخِره وَالضَّمِير وَإِن كَانَ
مقدما فِي الذّكر فالقرينة تدل على أَنه مُؤخر فِي
الْمَعْنى قَوْله " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا " قَالَ
الْكرْمَانِي أَي كالكفار أَو لَا يكفر بَعْضكُم بَعْضًا
فتستحقوا الْقِتَال وَقَالَ الطَّيِّبِيّ أَي لَا تكن
أفعالكم شَبيهَة بأعمال الْكفَّار فِي ضرب رِقَاب
الْمُسلمين (قلت) ذكرُوا فِيهِ أقوالا. الأول كفر فِي حق
المستحل بِغَيْر حق. الثَّانِي كفر النِّعْمَة وَحقّ
الْإِسْلَام. الثَّالِث يقرب من الْكفْر وَيُؤَدِّي
إِلَيْهِ. الرَّابِع فعل كَفعل الْكفَّار. الْخَامِس
حَقِيقَة الْكفْر يَعْنِي لَا تكفرُوا بل دوموا مُسلمين.
السَّادِس المتكفرين بِالسِّلَاحِ يُقَال للابس السِّلَاح
كَافِر. السَّابِع لَا يكفر بَعْضكُم بَعْضًا فتستحلوا
قتال بَعْضكُم بَعْضًا (فَإِن قلت) مَا معنى قَوْله بعدِي
وهم لَو رجعُوا فِي زَمَانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُم هَذَا الَّذِي ذكره لَهُم (قلت)
إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد علم
أَنهم لَا يرجعُونَ فِي حَيَاته أَو أَرَادَ بعد فراقي من
موقفي هَذَا أَو الْمَعْنى بعد حَياتِي قَوْله " يضْرب
بَعْضكُم رِقَاب بعض " الرِّوَايَة بِرَفْع الْبَاء وَيصِح
بِهِ الْمَقْصُود وَقَالَ عِيَاض وَضَبطه بَعضهم بِسُكُون
الْبَاء وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء على تَقْدِير شَرط مضمن
أَي أَن ترجعوا بعدِي وَقَالَ الطَّيِّبِيّ يضْرب بَعْضكُم
رِقَاب بعض جملَة مستأنفة مبينَة لقَوْله " فَلَا ترجعوا
بعدِي كفَّارًا " فَيَنْبَغِي أَن يحمل على الْعُمُوم
وَأَن يُقَال لَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا فَلَا تسفكوا
دماءكم وَلَا تهتكوا أعراضكم وَلَا تستبيحوا أَمْوَالكُم
وَنَحْوه أَي فِي إِطْلَاق الْخَاص وَإِرَادَة الْعُمُوم
قَوْله تَعَالَى {الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى
ظلما} انْتهى (قلت) هَذَا كُله فِي شرح قَوْله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا ترجعوا بعدِي ضلالا "
لِأَن الْمَتْن الَّذِي شَرحه وَهُوَ متن الْمشكاة وَقع "
ضلالا " ثمَّ قَالَ ويروى " كفَّارًا " ثمَّ نقل كَلَام
صَاحب الْمظهر بقوله يَعْنِي إِذا فَارَقت الدُّنْيَا
فاثبتوا بعدِي على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من الْإِيمَان
وَالتَّقوى وَلَا تظلموا أحدا وَلَا تَحَارَبُوا
الْمُسلمين وَلَا تَأْخُذُوا أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ
فَإِن هَذِه الْأَفْعَال من الضَّلَالَة والعدول من الْحق
إِلَى الْبَاطِل ثمَّ قَالَ الطَّيِّبِيّ بعد ذَلِك مَا
ذكرنَا عَنهُ من قَوْله جملَة مستأنفة إِلَى آخِره (ذكر
مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد على
أَن الْخطْبَة يَوْم النَّحْر سنة وَقَالَ ابْن قدامَة
وَعَن بعض أَصْحَابنَا لَا يخْطب فِيهِ وَهُوَ مَذْهَب
مَالك قلت الْخطْبَة عِنْد أَصْحَابنَا فِي الْحَج فِي
ثَلَاثَة أَيَّام الأولى فِي الْيَوْم السَّابِع من
(10/78)
ذِي الْحجَّة وَالثَّانيَِة بِعَرَفَات
يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة بمنى فِي الْيَوْم الْحَادِي
عشر وَعند زفر يخْطب فِي ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَة
أَولهَا يَوْم التَّرويَة وَقَالَ ابْن الْمُنْذر خطب
سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يَوْم السَّابِع وَكَذَا أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ وَقَرَأَ سُورَة بَرَاءَة عَلَيْهِم رَوَاهُ ابْن
عمر. وَفِي التَّلْوِيح وَأما الْخطب الَّتِي وَردت فِي
الْآثَار أَيَّام الْحَج فَمِنْهَا خطْبَة يَوْم
التَّرويَة وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة
وَهُوَ يُوَافق قَول زفر لِأَن الْجَمَاعَة لَا يرَوْنَ
فِيهِ خطْبَة بل الْخطْبَة الأولى قبل يَوْم التَّرويَة
بِيَوْم وَهُوَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة وَبِه
قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَقَالَ عَطاء أدركتهم يخرجُون
وَلَا يخطبون بِمَكَّة قَالَ ابْن الْمُنْذر قَول مَالك
كَقَوْل عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ الْخطب الْمَشْرُوعَة فِي الْحَج
عندنَا أَرْبَعَة أَولهَا بِمَكَّة عِنْد الْكَعْبَة فِي
الْيَوْم السَّابِع قَالَ وَهِي مسنونة عِنْد الشَّافِعِي
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعد صَلَاة الظّهْر
وَالثَّانيَِة بِبَطن عُرَنَة يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة
يَوْم النَّحْر وَالرَّابِعَة يَوْم النَّفر وَهُوَ
الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق وَكلهَا
أَفْرَاد إِلَّا الَّتِي يَوْم عَرَفَات فَإِنَّهَا خطبتان
بعد صَلَاة الظّهْر وَقبل الصَّلَاة انْتهى. وَمِنْهَا
خطْبَة يَوْم عَرَفَة لما رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث جَابر "
حَتَّى إِذا زَالَت الشَّمْس أَمر بالقصواء فرحلت فَأتى
بطن الْوَادي فَخَطب " وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث زيد بن
أسلم عَن رجل من بني ضميرَة عَن أَبِيه أَو عَمه قَالَ "
رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- وَهُوَ على الْمِنْبَر يَوْم عَرَفَة وروى أَبُو دَاوُد
أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر يرفعهُ " فَلَمَّا أَتَى
عَرَفَة " فَذكر كلَاما. وَفِيه " حَتَّى إِذا كَانَ عِنْد
صَلَاة الظّهْر رَاح مهجرا فَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر
ثمَّ خطب النَّاس " الحَدِيث وروى ابْن أبي شيبَة من
حَدِيث قيس بن الْمطلب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب بِعَرَفَة وروى أَحْمد من
حَدِيث نبيط أَنه رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَاقِفًا بِعَرَفَة على بعير أَحْمَر يخْطب
فَسَمعهُ يَقُول أَي يَوْم أحرم قَالُوا هَذَا الْيَوْم
قَالَ فَأَي بلد أحرم قَالُوا هَذَا الْبَلَد قَالَ فَأَي
شهر أحرم قَالُوا هَذَا الشَّهْر " الحَدِيث وَعَن العداء
بن خَالِد " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يخْطب بِعَرَفَات وَهُوَ قَائِم وَهُوَ
يُنَادي بِأَعْلَى صَوته يَا أَيهَا النَّاس أَي يَوْم
هَذَا " الحَدِيث وروى ابْن ماجة من حَدِيث ابْن مَسْعُود
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَهُوَ على نَاقَته بِعَرَفَات أَتَدْرِي أَي يَوْم هَذَا
الحَدِيث وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه من حَدِيث ابْن
عَبَّاس " لما وقف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِعَرَفَة أَمر ربيعَة بن أُميَّة بن خلف
فَقَامَ تَحت نَاقَته فَقَالَ اُصْرُخْ أَيهَا النَّاس
أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا فَصَرَخَ فَقَالَ النَّاس
الشَّهْر الْحَرَام " الحَدِيث. وَمِنْهَا خطْبَة يَوْم
النَّحْر رَوَاهَا جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم الهرماس
بن زِيَاد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ " رَأَيْت النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب النَّاس على
نَاقَته الجدعاء يَوْم الْأَضْحَى " وروى عَن أبي أُمَامَة
قَالَ سَمِعت خطْبَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمنى يَوْم النَّحْر وروى عَن عبد
الرَّحْمَن بن معَاذ التَّيْمِيّ قَالَ " خَطَبنَا رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنحن بمنى "
وروى عَن رَافع بن عَمْرو الْمُزنِيّ قَالَ " رَأَيْت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخْطب
النَّاس بمنى حِين ارْتَفع الضُّحَى على بغلة شهباء "
الحَدِيث وروى ابْن أبي شيبَة عَن مَسْرُوق أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطبهم يَوْم
النَّحْر. وَمِنْهَا خطْبَة الْيَوْم الْحَادِي عشر من ذِي
الْحجَّة وَقَالَ ابْن حزم وخطب النَّاس أَيْضا يَعْنِي
سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم النَّحْر وَهُوَ يَوْم
الرؤس وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَهُوَ أول أَيَّام
التَّشْرِيق وَهُوَ يَوْم النَّفر وروى أَبُو دَاوُد من
حَدِيث سرا بنت نَبهَان قَالَت " خَطَبنَا النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الرؤس فَقَالَ
أَي يَوْم هَذَا قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ
أَلَيْسَ أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق " وَعَن رجلَيْنِ من
بني بكر " رَأينَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يخْطب بَين أوساط أَيَّام التَّشْرِيق وَنحن
عِنْد رَاحِلَته " وروى أَحْمد من حَدِيث أبي حرَّة
الرقاشِي " عَن عمر قَالَ كنت آخذ بزمام نَاقَة رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَوسط
أَيَّام التَّشْرِيق أذود عَنهُ النَّاس فَقَالَ يَا
أَيهَا النَّاس هَل تَدْرُونَ فِي أَي شهر أَنْتُم "
الحَدِيث وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث كَعْب بن عَاصِم
الْأَشْعَرِيّ " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب بمنى أَوسط أَيَّام الْأَضْحَى
" وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز هَذِه الْخطْبَة بعد الظّهْر من
غير جُلُوس فِيهَا وَلَا قِرَاءَة جهرية فِي شَيْء من
صلَاتهَا. وَمِنْهَا خطْبَة يَوْم الأكارع وَقَالَ ابْن
حزم وَقد رُوِيَ أَيْضا أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - خطبهم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْم
الأكارع وَأوصى بذوي الْأَرْحَام خيرا وروى
الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الرّبيع بن
أبي سُبْرَة عَن أَبِيه عَن جده " أَن رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خطب وسط أَيَّام
التَّشْرِيق " قَالَ ابْن قدامَة يَعْنِي يَوْم النَّفر
الأول وروى عَن أبي هُرَيْرَة
(10/79)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ
يخْطب الْعشْر كُله وَفِي المُصَنّف وَكَذَلِكَ ابْن
الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا -
0471 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ
قَالَ أَخْبرنِي عَمْرٌ وَقَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ
زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَخْطُبُ بَعَرَفَاتٍ..
لَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهرا وَلَكِن لما
روى عَن ابْن عَبَّاس خطْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَوْم النَّحْر وَهُوَ من أَيَّام منى مطابقا
للتَّرْجَمَة، ذكر هَذَا الحَدِيث أَيْضا هَهُنَا لكَونه
عَن ابْن عَبَّاس، ويستأنس بِهَذَا الْمِقْدَار فِي وَجه
الْمُطَابقَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حَفْص بن عمر بن
الْحَارِث الحوضي. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن زيد
أَبُو الشعْثَاء الْأَزْدِيّ اليحمدي. الْخَامِس: عبد الله
بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من
أَفْرَاده وَأَنه بَصرِي وَأَن شُعْبَة واسطي وَأَن عمرا
مكي وَأَن جَابِرا بَصرِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ
عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره هَذَا الحَدِيث طرف من
حَدِيث سَيَأْتِي فِي: بَاب لبس الْخُفَّيْنِ للْمحرمِ،
وَأخرجه البُخَارِيّ عَن حَفْص بن عمر وَأبي الْوَلِيد
وآدَم فرقهم، ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة، وَأخرجه فِي
اللبَاس عَن أبي نعيم وَمُحَمّد بن يُوسُف كِلَاهُمَا عَن
سُفْيَان الثَّوْريّ وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن
مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ وَعَن أبي كريب وَعَن يحيى بن
يحيى وقتيبة وَأبي الرّبيع الزهْرَانِي، ثَلَاثَتهمْ عَن
حَمَّاد بن زيد وَعَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن عَليّ
بن خشرم وَعَن عَليّ ابْن حجر وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن أَيُّوب
بن مُحَمَّد الْوزان وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَفِي
الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحَج عَن هِشَام بن عمار
وَمُحَمّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة. وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت عَن قريب.
تابَعَهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍ
وَأي: تَابع شُعْبَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَفِي رِوَايَة
هَذَا الحَدِيث عَن عَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ صَاحب
التَّلْوِيح: مُرَاد البُخَارِيّ بِأَنَّهُ تَابعه فِي
الْخطْبَة خَاصَّة دون ذكر عَرَفَات ويوضحه قَول مُسلم:
وَأخرجه من طرق
إِلَى عَمْرو بن دِينَار لم يذكر وَاحِد مِنْهُم يخْطب
بِعَرَفَات غير شُعْبَة.
1471 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدثنَا
أبُو عامِرٍ قَالَ حَدثنَا قرَّةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ
سِيرينَ قَالَ أخبرَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي
بَكْرَةَ ورَجُلٌ أفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ
الرَّحْمانِ حَمِيدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي
بَكْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خَطَبَنا
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ
أتَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ هاذَا قُلْنَا الله ورسُولُهُ
أعْلَمُ فَسَكَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ
بِغَيْرِ اسْمهِ قَالَ ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنا
بَلَى قَالَ أيُّ شَهْرٍ هذَا قُلْنا الله ورسولُهُ
أعْلَمُ فسكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ
بِغَيْرِ اسْمِهِ قالَ أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر قُلْنَا
بلَى قُلْنَا أَي شهر هَذَا قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم
فَسكت حَتَّى ذننا أَنه سيسميه بِغَيْر اسْمه فَقَالَ
أَلَيْسَ ذُو الْحجَّة قُلْنَا بلَى قَالَ أَي بلد هَذَا
قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم فَسكت حَتَّى ظننا أَنه
سيسميه بِغَيْر اسْمه قَالَ ألَيْسَتْ بالْبَلدَةِ
الحَرَامِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فإنَّ دَمَاءَكُمْ
وأمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم
هذَا فِي شَهْرِكُمْ هاذا فِي بلَدِكُمْ هَذَا إِلَى
يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ألاَ هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا
نعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ
الغَائِبُ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلاَ
تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ
بَعْضٍ.
.
(10/80)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن
عبد الله أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي.
الثَّانِي: أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو الْعَقدي.
الثَّالِث: قُرَّة، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء: ابْن
خَالِد أَبُو مُحَمَّد السدُوسِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن
سِيرِين وَقد تكَرر ذكره. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن
أبي بكرَة وَاسم أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث بن كلدة.
السَّادِس: حميد بن عبد الرَّحْمَن. قَالَ الْكرْمَانِي:
هُوَ حميد بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ، وَقَالَ بَعضهم
هُوَ حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي، وَإِنَّمَا
كَانَ عِنْد ابْن سِيرِين أفضل من عبد الرَّحْمَن بن أبي
بكرَة لكَون عبد الرَّحْمَن دخل فِي الولايات، وَكَانَ
حميد زاهدا. قلت: كل وَاحِد من حميد بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف وَحميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي سمع من أبي
بكرَة وَسمع مِنْهُ مُحَمَّد بن سِيرِين وَلم يظْهر لي
أَيهمَا المُرَاد هَهُنَا. السَّابِع: أبوبكرة، بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ نفيع الْمَذْكُور.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي
موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَن أَبَا عَامر وقرة
وَمُحَمّد بن سِيرِين وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة
بصريون، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن إِن كَانَ هُوَ
الْحِمْيَرِي فَهُوَ بَصرِي وَإِن كَانَ ابْن عَوْف فَهُوَ
مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: مُحَمَّد بن
سِيرِين وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَحميد بن عبد
الرَّحْمَن.
وَقد ذكرنَا تعدده وَمن أخرجه غَيره فِي كتاب الْعلم فِي:
بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رب مبلغ أوعى
من سامع.
ذكر مَعْنَاهُ: مِمَّا لم نذكرهُ هُنَاكَ. قَوْله: (وَرجل)
، بِالرَّفْع لَا غير عطفا على عبد الرَّحْمَن. قَوْله:
(أفضل فِي نَفسِي من عبد الرَّحْمَن) يَعْنِي من ابْن أبي
بكرَة. قَوْله: (حميد بن عبد الرَّحْمَن) ، ارْتِفَاع حميد
على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ حميد بن عبد
الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي. قَوْله: (أَلَيْسَ يَوْم
النَّحْر) ، بِنصب يَوْم على أَنه خبر: لَيْسَ، أَي:
لَيْسَ الْيَوْم يَوْم النَّحْر، وَيجوز الرّفْع على أَنه
إسم لَيْسَ وَالتَّقْدِير: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر هَذَا
الْيَوْم. قَوْله: (أَلَيْسَ ذُو الْحجَّة) ، بِالرَّفْع
اسْم: لَيْسَ، وخبرنا مَحْذُوف أَي: لَيْسَ ذُو الْحجَّة
هَذَا الشَّهْر، وَيجوز فِيهِ فتح الْحَاء وَكسرهَا.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : فتح الْحَاء أشهر. قلت:
نَقله عَن صَاحب (التَّلْوِيح) وَهُوَ نَقله عَن الْقَزاز،
وَفِي (المثلث) لِابْنِ سَيّده جَعلهمَا سَوَاء، وَلَكِن
فِي ألسن الْعَامَّة الكسرة أشهر. قَوْله: (أليست بالبلدة
الْحَرَام) ، الضَّمِير فِي: أليست، يرجع إِلَى الْبَلَد
فِي قَوْله: (أَي بلد هَذَا) . قَالَ الْجَوْهَرِي:
الْبَلَد والبلدة وَاحِد الْبِلَاد والبلدان، وَإِنَّمَا
وصف الْبَلدة بالحرام، والبلدة تؤنث لِأَن لفظ الْحَرَام
اضمحل مِنْهُ معنى الوصفية وَصَارَ إسما. قَالَ
الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة لم يُوجد لفظ
الْحَرَام، وَقَالَ التوربشتي: وَجه تَسْمِيَتهَا بالبلدة،
وَهِي تقع على سَائِر الْبلدَانِ أَنَّهَا الْبَلدة
الجامعة للخير الْمُسْتَحقَّة أَن تسمى بِهَذَا الإسم
لتفوقها سَائِر مسميات أحناسها تفوق الْكَعْبَة فِي
تَسْمِيَتهَا بِالْبَيْتِ سَائِر مسميات أجناسها حَتَّى
كَأَنَّهَا هِيَ الْمحل الْمُسْتَحق للإقامة بهَا. وَقَالَ
ابْن جني: من عَادَة الْعَرَب أَن يوقعوا على الشَّيْء
الَّذِي يختصونه بالمدح اسْم الْجِنْس، ألاَ تراهم كَيفَ
سموا الْكَعْبَة بِالْبَيْتِ، وَكتاب سِيبَوَيْهٍ
بِالْكتاب، وَقَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: إِن الْبَلدة خَاص
لمَكَّة، أَو: اللَّام، للْعهد عَن قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي
حرمهَا} (النَّمْل: 19) . إِلَى قَوْله: {إِلَى يَوْم
تلقونَ} ، بِفَتْح يَوْم وكسره مَعَ التَّنْوِين وَعَدَمه،
وَترك التَّنْوِين مَعَ الْكسر هُوَ الَّذِي ثَبت بِهِ
الرِّوَايَة. قَوْله: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) ، لما كَانَ
التَّبْلِيغ فرضا عَلَيْهِ أشهد الله تَعَالَى أَنه أدّى
مَا أوجبه عَلَيْهِ. قَوْله: (فَرب مبلغ) بِفَتْح اللَّام
الْمُشَدّدَة، أَي: رب شخص بلغه كَلَامي كَانَ أحفظ لَهُ
وَأفهم لمعناه من الَّذِي نَقله. قَوْله: (أوعى) ، أَي:
أحفظ. فَإِن قلت: كلمة رب أَصْلهَا للتقليل، وَقد
تسْتَعْمل للتكثير فَأَيّهمَا المُرَاد هُنَا؟ قلت:
الظَّاهِر أَن المُرَاد معنى التقليل تدل عَلَيْهِ
الرِّوَايَة الَّتِي تقدّمت فِي كتاب الْعلم، عَسى أَن
يبلغ من هُوَ أوعى لَهُ مِنْهُ.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: وجوب تَبْلِيغ الْعلم على
الْكِفَايَة، وَقد يتَعَيَّن فِي حق بعض النَّاس. وَفِيه:
تَأْكِيد التَّحْرِيم وتغليظه بأبلغ مُمكن من تكْرَار
وَنَحْوه. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة ضرب الْمثل وإلحاق النظير
بالنظير ليَكُون أوضح للسامع.
2471 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدثنَا
يَزِيدُ بنُ هَارُونَ قَالَ أخبرنَا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدِ
بنِ زَيْدٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمِنىً أتدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ هاذَا
(10/81)
قَالُوا الله ورسُولُهُ أعْلَمُ فَقال
فإنَّ هذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أفَتَدْرُونَ أيُّ بَلَدٍ هاذا
قالُوا الله ورسولُهُ أعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ
أفَتَدْرُونَ أيُّ شَهْرٍ هذَا قالُوا الله ورسولُه
أعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حرامٌ قَالَ فإنَّ الله حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وأمْوالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي
بَلَدِكُم هذَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (قَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى) لِأَن قَوْله بِهَذِهِ
الْكَلِمَات أَعنِي قَوْله: (أفتدرون) إِلَى آخِره عبارَة
عَن خطْبَة بمنى، وَلَكِن لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ
الْخطْبَة الْحَقِيقِيَّة الَّتِي فِيهَا شَيْء من
مَنَاسِك الْحَج، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي أول
الْبَاب.
وَرِجَاله: خَمْسَة، مِنْهُم: عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد
يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب، وَمُحَمّد يروي عَن جده عبد الله بن عَمْرو،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن أبي
الْوَلِيد، وَفِي الْفِتَن عَن حجاج بن منهال، وَفِي
الْأَدَب عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب، وَفِي الْحُدُود
عَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن
سُلَيْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة
بن يحيى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي بكر بن خَلاد
وَعَن عبيد الله بن معَاذ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
السّنة عَن أبي الْوَلِيد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْمُحَاربَة عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن دُحَيْم.
قَوْله: (بمنى) ، فِي مَحل النصب على الْحَال، وَالْبَاء،
بِمَعْنى: فِي. قَوْله: (أفتدرون؟) وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْقَاسِم الْمُطَرز عَن مُحَمَّد
بن الْمثنى شيخ البُخَارِيّ قَالَ: أوتدرون.
وقالَ هِشَامُ بنُ الْغَازِ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وقَفَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الجَمَرَاتِ
فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ هَذا يَوْمُ
الحَجِّ الأكْبَرِ فَطَفِقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُولُ أللَّهُمَّ اشْهَدْ وودَّعَ النَّاسَ
فقالُوا هاذِهِ حَجَّةُ الوَدَاعِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِشَام بن الْغَاز،
بالغين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي بِلَفْظ الْفَاعِل
من الْغَزْو بِحَذْف الْيَاء وإثباتها: ابْن ربيعَة،
بِفَتْح الرَّاء: الجرشِي بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء
وبالشين الْمُعْجَمَة، مَاتَ سنة سبع وَخمسين وَمِائَة،
وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو دَاوُد: حَدثنَا المؤمل بن
الْفضل عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن هِشَام بن الْغَاز،
قَالَ: حَدثنَا نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف
يَوْم النَّحْر فِي الْحجَّة الَّتِي حج فِيهَا، فَقَالَ:
أَي يَوْم هَذَا؟ فَقَالُوا: يَوْم النَّحْر. فَقَالَ:
هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه
أَيْضا وَالطَّبَرَانِيّ.
قَوْله: (بَين الجمرات) ، بِفَتْح الْجِيم وَالْمِيم: جمع
جَمْرَة، وَفِيه تعْيين الْمَكَان الَّذِي وقف فِيهِ،
كَمَا أَن فِي الرِّوَايَة الَّتِي قبلهَا تعْيين
الزَّمَان، وكما أَن فِي حَدِيثي ابْن عَبَّاس وَأبي بكرَة
تعين الْيَوْم. وَوَقع تعْيين الْوَقْت فِي الْيَوْم فِي
رِوَايَة رَافع بن عَمْرو الْمُزنِيّ عِنْد أبي دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ، وَلَفظه: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخْطب النَّاس بمنى حِين ارْتَفع الضُّحَى)
الحَدِيث. قَوْله: (فِي الْحجَّة الَّتِي حج) ، وَوَقع فِي
رِوَايَة الْكشميهني: (فِي حجَّته الَّتِي حج) ،
وللطبراني: (فِي حجَّة الْوَدَاع) . قَوْله: (بِهَذَا) ،
قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: وقف متلبسا بِهَذَا الْكَلَام
الْمَذْكُور، واستغرب بَعضهم من الْكرْمَانِي هَذَا
التَّفْسِير، وَقَالَ: بِهَذَا، أَي: بِالْحَدِيثِ الَّذِي
تقدم من طَرِيق مُحَمَّد بن زيد عَن جده. قلت: فِي طَرِيق
مُحَمَّد بن زيد عَن جده، (قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم)
. وَفِي طَرِيق هِشَام بن الْغَاز الَّذِي وَصله أَبُو
دَاوُد وَابْن مَاجَه، قَالُوا: (يَوْم النَّحْر) ،
وَهَذَا كَمَا ترى مُخْتَلف، لِأَن طَرِيق مُحَمَّد بن زيد
فِيهِ التَّفْوِيض، وَفِي طَرِيق هِشَام الْجَواب بِيَوْم
النَّحْر. فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه
وَغَيرهمَا، وَكَانَ فِي طَرِيق هِشَام: ورد اللفظان
الْمَذْكُورَان أَعنِي التَّفْوِيض وَالْجَوَاب. وَفِي
تَعْلِيق البُخَارِيّ عَنهُ اللَّفْظ هُوَ التَّفْوِيض،
فَلذَلِك فسر الْكرْمَانِي لَفْظَة: بِهَذَا، بقوله: أَي
وقف متلبسا بِهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور، وَأَرَادَ
بالْكلَام الْمَذْكُور قَوْلهم: الله وَرَسُوله أعلم،
وَهُوَ التَّفْوِيض، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه فَلَا ينْسب
إِلَى الاستغراب لِأَن كلمة: الْبَاء، فِي قَوْله:
بِهَذَا. تتَعَلَّق بقوله: وقف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَمن تَأمل سر التراكيب لم يزغ عَن طَرِيق
الصَّوَاب. قَوْله: (وَقَالَ: هَذَا يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر) أَي: يَوْم النَّحْر، هَذَا هُوَ يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر، وَاخْتلفُوا فِيهِ فَقيل: هُوَ الَّذِي يُقَال
لَهُ:
(10/82)
الْحَج الْأَكْبَر، وَالْعمْرَة يُقَال
لَهَا الْحَج الْأَصْغَر. وَقيل: الْحَج الَّذِي كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَاقِفًا فِيهِ:
الْحَج الْأَكْبَر، وَقيل إِنَّمَا قَالَ: عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر)
لِاجْتِمَاع الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فِيهِ، وموافقته
لأعياد أهل الْكتاب.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَج
الْأَكْبَر: حَدثنَا عبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد حَدثنَا
أبي عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الْحَارِث
(عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَأَلت
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر؟ فَقَالَ: يَوْم النَّحْر) . وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا عَن عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا، وَقَالَ: وَهُوَ
الْأَصَح. قلت: انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ
مَرْفُوعا وموقوفا، وَقد رُوِيَ من غير طَرِيق ابْن
إِسْحَاق عَن أبي إِسْحَاق مَرْفُوعا، وَرَوَاهُ ابْن
مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من رِوَايَة مُغيرَة الضَّبِّيّ،
وَمن رِوَايَة الْأَجْلَح كِلَاهُمَا عَن أبي إِسْحَاق عَن
الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي
الْبَاب عَن عبد الله بن عمر، وَقد ذكر الْآن وَعَن أبي
هُرَيْرَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: (بَعَثَنِي
أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَن يُؤذن يَوْم
النَّحْر بمنى أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك وَلَا يطوف
بِالْبَيْتِ عُرْيَان) . وَيَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم
النَّحْر، وَالْحج الْأَكْبَر الْحَج. وَعَن عبد الله بن
أبي أوفى رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَنهُ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَوْم
الْأَضْحَى يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَفِي إِسْنَاده
ضعف. وَعَن عَمْرو بن الْأَحْوَص رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
فِي حَدِيث طَوِيل فِي الْفِتَن وَالتَّفْسِير عَنهُ
قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول فِي حجَّة الْوَدَاع، فَقَالَ: أَي يَوْم هَذَا
قَالُوا: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَعَن رجل من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ
النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَة حَمْرَاء مخطومة، فَقَالَ:
أَتَدْرُونَ أَي يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم النَّحْر.
قَالَ: صَدقْتُمْ يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَقد ورد أَن
الْحَج الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْن
مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من رِوَايَة ابْن جريج عَن
مُحَمَّد بن قيس (عَن الْمسور بن مخرمَة، قَالَ: خَطَبنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِعَرَفَات،
فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: أما بعد فَإِن
هَذَا الْيَوْم يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَلَا يُعَارض
هَذَا الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة لمجيئها من عدَّة طرق
صَحِيحَة، بِخِلَاف حَدِيث الْمسور لِأَنَّهُ فَردا، وتؤول
هَذَا كتأويل قَوْله: (الْحَج عَرَفَة) ، على معنى أَن
الْوُقُوف هُوَ المهم من أَفعاله، لكَون الْحَج يفوت
بفواته، وَكَذَلِكَ قَوْله: (يَوْم النَّحْر يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر) ، بِمَعْنى أَن أَكثر أَفعَال الْحَج من
الرَّمْي وَالْحلق وَالطّواف فِيهِ، وَفِي (شرح
التِّرْمِذِيّ) لشَيْخِنَا زين الدّين، رَحمَه الله
تَعَالَى.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على
أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يَوْم النَّحْر، وَهُوَ قَول
عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعبد
الله بن أبي أوفى وَالشعْبِيّ وَمُجاهد. وَالْقَوْل
الثَّانِي: أَنه يَوْم عَرَفَة، ويروى ذَلِك عَن عمر
وَابْنه عبد الله بن عمر. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه
أَيَّام الْحَج كلهَا، وَقد يعبر عَن الزَّمَان
بِالْيَوْمِ كَقَوْلِهِم: يَوْم بُعَاث وَيَوْم الْجمل
وَيَوْم صفّين وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ قَول سُفْيَان
الثَّوْريّ. وَقَالَ مُجَاهِد: الْأَكْبَر الْقرَان،
والأصغر الْإِفْرَاد، وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره
من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم
حج أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . زَاد
فِي رِوَايَة: (بِالنَّاسِ) .
قَوْله: (فَطَفِقَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَقُول) إعلم أَن طفق من أَفعَال المقاربة، وَهِي على
ثَلَاثَة أَنْوَاع: مِنْهَا: مَا وضع للدلالة على
الشُّرُوع فِي الْخَبَر، وَكلمَة طفق من هَذَا الْقَبِيل،
وَهُوَ يعْمل عمل كَاد إلاَّ أَن خَبره يجب أَن يكون
جملَة، وَهَهُنَا قَول: يَقُول، جملَة وَقعت خَبرا لَهُ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: طفق يفعل كَذَا يطفق طفقا، أَي: جعل
يفعل. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وطفقا يخصفان}
(الْأَعْرَاف: 22 وطه: 121) . قَالَ الْأَخْفَش:
وَبَعْضهمْ يَقُول: طفق، بِالْفَتْح، يطفق طفوقا. انْتهى.
قلت: الأول: من بَاب علم يعلم، وَالثَّانِي: من بَاب ضرب
يضْرب، فَافْهَم. وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره
بَين قَوْله: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَبَين قَوْله:
(فَطَفِقَ) من الزِّيَادَة وَهِي قَوْله: (ودماؤكم
وَأَمْوَالكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ هَذَا الْبَلَد
فِي هَذَا الْيَوْم) . قَوْله: (فودع النَّاس) ، لِأَنَّهُ
علم أَنه لَا يتَّفق لَهُ بعد هَذَا وَقْفَة أُخْرَى وَلَا
اجْتِمَاع آخر مثل ذَلِك، وَسبب ذَلِك مَا رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ: (أَنه أنزلت {إِذا جَاءَ نصر الله
وَالْفَتْح) (الْفَتْح: 1) . على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي وسط أَيَّام التَّشْرِيق، وَعرف أَنه
الْوَدَاع فَأمر براحلته الْقَصْوَاء فرحلت لَهُ، فَركب
فَوقف بِالْعقبَةِ وَاجْتمعَ النَّاس إِلَيْهِ، فَقَالَ:
يَا أَيهَا النَّاس إِن كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة)
الحَدِيث بِطُولِهِ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا
زيد بن الْحباب حَدثنَا مُوسَى بن عُبَيْدَة، الربذي
حَدثنِي صَدَقَة بن يسَار (عَن ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: إِن هَذِه السُّورَة نزلت على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوسط أَيَّام
التَّشْرِيق بمنى وَهُوَ فِي حجَّة الْوَدَاع {إِذا جَاءَ
نصر الله وَالْفَتْح} (الْفَتْح: 1) . حَتَّى خَتمهَا،
فَعرف رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه
(10/83)
الْوَدَاع) الحَدِيث بِطُولِهِ، ومُوسَى بن
عُبَيْدَة ضَعِيف. قَوْله: (فَقَالُوا) أَي الصَّحَابَة:
هَذِه الْحجَّة حجَّة الْوَدَاع، والوداع بِفَتْح الْوَاو،
وَجَاء بِكَسْرِهَا.
331 - (بابٌ هَلْ يَبِيتُ أصْحَابُ السِّقَايَةِ أوْ
غَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنىً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يبيت أَصْحَاب
السِّقَايَة، وَهِي المَاء الْمعد للشُّرْب، وسقاية
الْعَبَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام مَشْهُورَة. قَوْله:
(أَو غَيرهم) ، أَي: أَو غير أَصْحَاب السِّقَايَة مِمَّن
كَانَ لَهُ عذر من مرض أَو شغل كالحطابين والرعاء،
وَالْبَاء فِي: بِمَكَّة، تتَعَلَّق بقوله: يبيت. وليالي،
مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ
جَوَاب الِاسْتِفْهَام؟ قلت: الظَّاهِر أَنه اكْتفى بِمَا
فِي حَدِيث الْبَاب عَن ذكر الْجَواب. وَقيل: يحْتَمل أَن
البُخَارِيّ لَا يرى ذَلِك إلاَّ لأهل السِّقَايَة خَاصَّة
وحدهم، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْبَعْض، وَيحْتَمل أَن يكون
طرد الْإِبَاحَة فِي ذَلِك لأَصْحَاب الْأَعْذَار، كَمَا
أُبِيح لأَصْحَاب السِّقَايَة، فَلذَلِك لم يذكر الْجَواب.
3471 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ مَيْمُونٍ
قَالَ حَدثنَا عِيسَى بنُ يُونُسَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ
نافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا
رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
أخرج حَدِيث ابْن عمر هَذَا من ثَلَاثَة طرق، وَاقْتصر
عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق الأول بقوله: رخص، وَفِي الثَّانِي
بقوله: أذن، وَلم يعلم الترخيص وَالْأُذن فِيمَا ذَا،
وَبَين ذَلِك فِي الطَّرِيق الثَّالِث كَمَا يَجِيء عَن
قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. ومطابقتها للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة.
وَرِجَال هَذَا خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن عبيد، مصغر:
العَبْد، ابْن مَيْمُون مولى هَارُون بن يزِيد بن مهَاجر
بن قنفذ الْمدنِي الْمَشْهُور بِمُحَمد بن أبي عباد وَهُوَ
من أَفْرَاده. الثَّانِي: عِيسَى بن يُونُس بن أبي
إِسْحَاق، واسْمه عَمْرو بن عبد الله الْهَمدَانِي
الْكُوفِي. الثَّالِث: عبيد الله الْعمريّ، وَقد تكَرر
ذكره. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد
الله ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (رخص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) جملَة من
الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَالْمَفْعُول مَحْذُوف تَقْدِيره:
رخص فِي البيتوتة ليَالِي منى بِمَكَّة لأهل السِّقَايَة.
وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مستقصىً فِي: بَاب
سِقَايَة الْحَاج، فَإِنَّهُ أخرج حَدِيث ابْن عمر هُنَاكَ
من طَرِيق عبيد الله عَن نَافِع، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، عَنهُ.
4471 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى قَالَ حَدثنَا
مُحَمَّدُ بنُ بَكْرٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جرَيْجٍ قَالَ
أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أذِنَ..
هَذَا طَرِيق ثَان عَن يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم
أبي زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال
لَهُ: خت، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن مُحَمَّد بن بكر بن
عُثْمَان البرْسَانِي الْبَصْرِيّ عَن عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج عَن عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع.
وَأخرجه مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن حَاتِم وَعبد بن
حميد، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن بكر عَن ابْن جريج عَن
عبيد الله عَن نَافِع.
قَوْله: (أذن) أَي: أذن للْعَبَّاس بن عبد الْمطلب للسقاية
بِأَن يبيت ليَالِي منى بِمَكَّة.
5471 - قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ
نمَيْرٍ قَالَ حَدثنَا أبِي قَالَ حَدثنَا عُبَيْدُ الله
قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا أنَّ العَبَّاسَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
اسْتَأْذَنَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَبِيتَ
بِمَكَّةَ لَيالِي مِنىً مِنْ أجْلِ سِقَايَتِهِ فأذِنَ
لَهُ..
هَذَا طَرِيق ثَالِث أخرجه عَن مُحَمَّد بن نمير، بِضَم
النُّون وَفتح الْمِيم إِلَى آخِره، وَمضى هَذَا فِي بَاب
سِقَايَة الْحَاج عَن ابْن عمر بِلَفْظ: (اسْتَأْذن
الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى من أجل سقايته فَأذن
لَهُ) . وَقَالَ ابْن الْمُنْذر السّنة أَن يبيت النَّاس
بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق إلاَّ من أرخص لَهُ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ
أرخص للْعَبَّاس أَن يبيت بِمَكَّة
(10/84)
لأجل سقايته، وأرخص لرعاء الْإِبِل وأرخص لمن أَرَادَ
التَّعْجِيل أَن ينفر فِي النَّفر الأول.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَن بَات لَيْلَة منى بِمَكَّة من
غير من رخص لَهُ، فَقَالَ مَالك: عَلَيْهِ دم، وَقَالَ
الشَّافِعِي: إِن بَات لَيْلَة أطْعم عَنْهَا مِسْكينا،
وَإِن بَات ليَالِي منى كلهَا أَحْبَبْت أَن يهريق دَمًا،
وَجعل أَبُو حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَأَصْحَابه
لَا شَيْء عَلَيْهِ إِن كَانَ يَأْتِي منى، وَيَرْمِي
الْجمار، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
تابَعَهُ أبُو أسَامَةَ وعُقْبَةُ بنُ خَالِدٍ وأبُو
ضَمْرَةَ
أَي: تَابع مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير أَبُو أُسَامَة
حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَأخرج هَذِه
الْمُتَابَعَة مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، قَالَ:
حَدثنَا ابْن نمير وَأَبُو أُسَامَة، قَالَا: حَدثنَا عبيد
الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَحدثنَا ابْن نمير،
وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا عبيد
الله، قَالَ: حَدثنِي نَافِع (عَن ابْن عمر أَن الْعَبَّاس
بن عبد الْمطلب اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى من أجل سقايته، فَأذن
لَهُ.
قَوْله: (وَعقبَة بن خَالِد) عطف على قَوْله: (أَبُو
أُسَامَة) أَي: تَابع ابْن نمير أَيْضا عقبَة بن خَالِد
أَبُو مَسْعُود الْكُوفِي. وَأخرج مُتَابَعَته عُثْمَان بن
أبي شيبَة فِي مُسْنده عَنهُ.
قَوْله: (وَأَبُو ضَمرَة) عطف على مَا قبله أَي: تَابع
ابْن نمير أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْمِيم، واسْمه أنس بن عِيَاض.
وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي: بَاب سِقَايَة الْحَاج عَن عبد
الله بن أبي الْأسود عَن أبي ضَمرَة عَن عبيد الله عَن
نَافِع الحَدِيث. وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ هَذِه
المتابعات هُنَا بعد أَن روى هَذَا الحَدِيث من ثَلَاث طرق
لأجل شكّ وَقع فِي رِوَايَة يحيى بن سعيد الْقطَّان فِي
وَصله، وَقد أخرجه أَحْمد عَن يحيى عَن عبيد الله عَن
نَافِع، قَالَ: لَا أعلمهُ إلاَّ عَن ابْن عمر، وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: وصل هَذَا الحَدِيث بِلَا شكّ فِيهِ
الدَّرَاورْدِي، وَعلي بن مسْهر وَأَبُو حَمْزَة وَعقبَة
بن خَالِد وَمُحَمّد بن فليح ومُوسَى بن عقبَة عَن عبيد
الله وأرسله ابْن الْمُبَارك عَن عبيد الله. |