عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 431 - (بابُ رَمْيِ الجِمَارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَقت رمي الْجمار، وَإِنَّمَا
قَدرنَا هَكَذَا لِأَن حَدِيث الْبَاب لَا يدل إلاَّ على
بَيَان وَقت الْجمار.
وَقَالَ جابِرٌ رَمَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْمَ النَّحْرِ ضُحىً ورمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ
الزَّوَالِ
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من الْوَجْه الَّذِي
ذَكرْنَاهُ الْآن، وَهَذَا مُعَلّق وَصله مُسلم، وَقَالَ:
حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو
خَالِد الْأَحْمَر وَابْن إِدْرِيس عَن ابْن جريج عَن أبي
الزبير (عَن جَابر، قَالَ: رمى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى وَأما بعد
فَإِذا زَالَت الشَّمْس) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من
رِوَايَة يحيى بن سعيد، وَالتِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن
خشرم: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن جريج عَن أبي
الزبير (عَن جَابر، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَرْمِي يَوْم النَّحْر ضحى وَأما بعد
ذَلِك فَبعد زَوَال الشَّمْس) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من
رِوَايَة عبد الله بن إِدْرِيس.
قَوْله: (ضحى) الرِّوَايَة فِيهِ بِالتَّنْوِينِ على أَنه
مَصْرُوف، وَهُوَ مَذْهَب النُّحَاة من أهل الْبَصْرَة،
سَوَاء قصد التَّعْرِيف أَو التنكير. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: تَقول: لَقيته ضحى وضحى إِذا أردْت بِهِ ضحى
يَوْمك لم تنونه، وَأما وَقت الضُّحَى بِالضَّمِّ
وَالْقصر. فَقَالَ الْجَوْهَرِي: ضحوة النَّهَار بعد
طُلُوع الشَّمْس، ثمَّ بعده الضُّحَى وَهُوَ حِين تشرق
الشَّمْس مَقْصُور يؤنث وَيذكر، فَمن أنث ذهب إِلَى
أَنَّهَا جمع: ضحوة، وَمن ذكر ذهب إِلَى أَنه إسم على فعل
مثل صرد ونغر، وَهُوَ ظرف غير مُتَمَكن مثل: سحر. قَالَ:
ثمَّ بعده الضحاء مَمْدُود مُذَكّر، وَهُوَ عِنْد
ارْتِفَاع النَّهَار الْأَعْلَى. قَوْله: (وَرمى بعد ذَلِك
بعد الزَّوَال) يَعْنِي رمي الْجمار أَيَّام التَّشْرِيق.
وَيُسْتَفَاد من الحَدِيث حكمان: الأول: أَن وَقت رمي
جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر ضحى اقْتِدَاء بِهِ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْمُسْتَحبّ
أَن يَرْمِي بعد طُلُوع الشَّمْس ثمَّ يَأْتِي بباقي
الْأَعْمَال فَيَقَع الطّواف فِي ضحوة النَّهَار. انْتهى.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: وَمَا
قَالَه الرَّافِعِيّ مُخَالف للْحَدِيث على مُقْتَضى
تَفْسِير أهل اللُّغَة أَن ضحوة النَّهَار مُتَقَدّمَة على
الضُّحَى، وَهَذَا وَقت الِاخْتِيَار، وَأما أول وَقت
الْجَوَاز فَهُوَ بعد طُلُوع الشَّمْس، وَهَذَا مَذْهَبنَا
لما روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: أَي بني لَا ترموا
(10/85)
الْجَمْرَة حَتَّى تطلع الشَّمْس. وَأما
آخِره فَإلَى غرُوب الشَّمْس، وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز
الرَّمْي بعد النّصْف الْأَخير من اللَّيْل، وَفِي (شرح
التِّرْمِذِيّ) لشَيْخِنَا: وَأما آخر وَقت رمي جَمْرَة
الْعقبَة فَاخْتلف فِيهِ كَلَام الرَّافِعِيّ، فَجزم فِي
(الشَّرْح الصَّغِير) أَنه يَمْتَد إِلَى الزَّوَال،
قَالَ: وَالْمَذْكُور فِي (النِّهَايَة) جزما امتداده
إِلَى الْغُرُوب، وَحكى وَجْهَيْن فِي امتداده إِلَى
الْفجْر: أصَحهمَا: أَنه لَا يَمْتَد. وَكَذَا صَححهُ
النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) وَفِي (التَّوْضِيح) : رمي
جَمْرَة الْعقبَة من أَسبَاب التَّحَلُّل عندنَا، وَلَيْسَ
بِرُكْن، خلافًا لعبد الْملك الْمَالِكِي حَيْثُ قَالَ: من
خرجت عَنهُ أَيَّام منى وَلم يرم جَمْرَة الْعقبَة بَطل
حجه، فَإِن ذكر بعد غرُوب شمس يَوْم النَّحْر فَعَلَيهِ
دم، وَإِن تذكر بعد فَعَلَيهِ بَدَنَة، وَقَالَ ابْن وهب:
لَا شَيْء عَلَيْهِ مَا دَامَت أَيَّام منى. وَفِي
(الْمُحِيط) أَوْقَات رمي جَمْرَة الْعقبَة ثَلَاثَة:
مسنون بعد طُلُوع الشَّمْس، ومباح بعد زَوَالهَا إِلَى
غُرُوبهَا، ومكروه وَهُوَ الرَّمْي بِاللَّيْلِ. وَلَو لم
يرم حَتَّى دخل اللَّيْل فَعَلَيهِ أَن يرميها فِي
اللَّيْل، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَعَن أبي يُوسُف، وَهُوَ
قَول الثَّوْريّ: لَا يَرْمِي فِي اللَّيْل وَعَلِيهِ دم،
وَلَو لم يرمِ فِي يَوْم النَّحْر حَتَّى أصبح من الْغَد
رَمَاهَا وَعَلِيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة، خلافًا لَهما.
الحكم الثَّانِي: هُوَ أَن الرَّمْي فِي أَيَّام
التَّشْرِيق مَحَله بعد زَوَال الشَّمْس، وَهُوَ كَذَلِك،
وَقد اتّفق عَلَيْهِ الْأَئِمَّة. وَخَالف أَبُو حنيفَة
فِي الْيَوْم الثَّالِث مِنْهَا، فَقَالَ: يجوز الرَّمْي
فِيهِ قبل الزَّوَال اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ: إِن رمى فِي
الْيَوْم الأول أَو الثَّانِي قبل الزَّوَال أعَاد، وَفِي
الثَّالِث يجْزِيه. وَقَالَ عَطاء وطاووس: يجوز فِي
الثَّلَاثَة قبل الزَّوَال، وَاتفقَ مَالك وَأَبُو حنيفَة
وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: أَنه إِذا
مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق وَغَابَتْ الشَّمْس من آخرهَا
فقد فَاتَ الرَّمْي، وَيجْبر ذَلِك بِالدَّمِ.
6471 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا مِسْغَرٌ عَنْ
وَبَرَةَ قَالَ سألْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا مَتَى أرْمِي الجِمَارَ قَالَ إذَا رَمَى
إمَامُكَ فأرْمِهْ فأعَدْتُ عَلَيْهِ المَسْألَةَ قَالَ
كُنَّا نَتَحَيَّنُ فإذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل هَذَا،
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن ومسعر بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة
وبالراء ابْن كدام، مر فِي كتاب الْوضُوء، وبرة، بِالْوَاو
وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء المفتوحات على وزن
شَجَرَة: ابْن عبد الرَّحْمَن الْمسلي، بِضَم الْمِيم
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا لَام، وَكلهمْ
كوفيون.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن مُحَمَّد
الزُّهْرِيّ عَن سُفْيَان ومسعر.
قَوْله: (مَتى أرمي الْجمار؟) ، يَعْنِي: فِي غير يَوْم
الْأَضْحَى. قَوْله: (إِذا رمى إمامك) أَرَادَ بِهِ
الْأَمِير الَّذِي على الْحَج، وَكَانَ ابْن عمر خَافَ
عَلَيْهِ أَن يُخَالف الْأَمِير فَيحصل لَهُ مِنْهُ ضَرَر،
فَلَمَّا أعَاد إِلَيْهِ الْمَسْأَلَة لم يَسعهُ الكتمان،
فَأعلمهُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي زمن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فارمه) ، بهاء سَاكِنة
لِأَنَّهَا هَاء السكت، والْحَدِيث رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة
عَن مسعر بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَقَالَ فِيهِ: (فَقلت
لَهُ: أَرَأَيْت إِن أخر إمامي؟) أَي: الرَّمْي، فَذكر
لَهُ الحَدِيث، أخرجه ابْن أبي عمر فِي (مُسْنده) عَنهُ
وَمن طَرِيقه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَفظه: (فَإِذا زاغت
الشَّمْس) ، أَو زَالَت. قَوْله: (كُنَّا نتحيَّن) على
وزن: نتفعل، من: الْحِين، وَهُوَ الزَّمَان أَي: نراقب
الْوَقْت. قَوْله: (فَإِذا زَالَت الشَّمْس رمينَا) أَي:
فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَعند الْجُمْهُور: لَا يجوز
الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَهِي الْأَيَّام
الثَّلَاثَة إلاَّ بعد الزَّوَال. وَقَالَ عَطاء وطاووس:
يجْزِيه فِيهَا قبل الزَّوَال، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَاتَّفَقُوا أَنه إِذا مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق
وَغَابَتْ الشَّمْس من آخرهَا فقد فَاتَ الرَّمْي، وَيجْبر
بِالدَّمِ. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِذا أخر رمي يَوْم إِلَى
يَوْم بعده أَو أخر الرَّمْي كُله إِلَى آخر أَيَّام
التَّشْرِيق ترك السّنة، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَعند أبي
حنيفَة: إِن ترك حَصَاة أَو حصاتين أَو ثَلَاثًا إِلَى
الْغَد رَمَاهَا وَعَلِيهِ لكل حَصَاة نصف صَاع، وَإِن ترك
أَرْبعا إِلَى الْغَد فَعَلَيهِ دم، وَالله أعلم.
531 - (بابُ رَمْيِ الجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رمي الْجمار من بطن الْوَادي،
وَأَرَادَ بِهِ رمي جمار الْعقبَة يَوْم النَّحْر، وَهَذَا
هُوَ صفة رمي جَمْرَة الْعقبَة وَهِي أَن يَرْمِي من بطن
الْوَادي من أَسْفَل إِلَى أَعلَى. فَإِن قلت: روى ابْن
أبي شيبَة عَن عَطاء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ يعلوا إِذا رمى الْجَمْرَة؟ قلت: هَذَا فِي
الْجَمْرَتَيْن الآخرتين، وَأما فِي جَمْرَة الْعقبَة فَمن
بطن الْوَادي.
(10/86)
7471 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ
قَالَ أخْبرَنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ يَزيدَ قَالَ رَمَى عَبْدُ
الله منْ بَطْنِ الوَادِي فَقُلْتُ يابا عَبْدِ
الرَّحْمانِ إنَّ نَاسا يَرْمُونَها مِنْ فَوْقِهَا فقَال
والَّذِي لاَ إل هـ غَيْرُهُ هاذَا مَقَامُ الَّذِي
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن كثير ضد
الْقَلِيل وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: سُفْيَان
الثَّوْريّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع:
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن
يزِيد النَّخعِيّ. السَّادِس: عبد الله بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وسُفْيَان
مكي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن خَاله
لِأَن عبد الرَّحْمَن هُوَ خَال إِبْرَاهِيم. وَفِيه:
ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض، وَهُوَ
الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وَعبد الرَّحْمَن.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا عَن مُسَدّد وَعَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه مُسلم فِي
الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن منْجَاب بن
الْحَارِث، وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن أبي
عمر وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَبُنْدَار وَابْن
الْمثنى، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر وَعَن عبيد الله بن معَاذ
وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن يحيى كِلَاهُمَا عَن
أبي المحياة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر
وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
يُوسُف بن عِيسَى، وهناد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد
الزَّعْفَرَانِي وَمَالك بن الْخَلِيل وَعَن مُجَاهِد بن
مُوسَى وَعَن هناد عَن أبي المحياة. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رمى عبد الله) ، أَي ابْن
مَسْعُود أَي: رمى جَمْرَة الْعقبَة من بطن الْوَادي،
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: لما أَتَى عبد الله جَمْرَة
الْعقبَة استبطن الْوَادي، أَي: وقف فِي بطن الْوَادي.
قَوْله: (يَا با عبد الرَّحْمَن) أَصله: يَا أَبَا،
بِالْهَمْزَةِ وعادتهم تسهيل الْهمزَة فِي هَذَا، وَأَبُو
عبد الرَّحْمَن كنية عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله:
(وَالَّذِي لَا إل هـ غَيره. .) إِلَى آخِره، حلف ابْن
مَسْعُود من غير دَاع لذَلِك لأجل تَأْكِيد كَلَامه،
وَذَلِكَ أَنه لما سمع من عبد الرَّحْمَن بن يزِيد مَا نقل
عَن هَؤُلَاءِ الَّذين يرْمونَ جَمْرَة الْعقبَة من فَوق
الْوَادي على خلاف مَا يَفْعَله الشَّارِع صَعب عَلَيْهِ
ذَلِك، وَكَرِهَهُ مِنْهُم، وَأنكر عَلَيْهِم غَايَة
الْإِنْكَار حَتَّى أَلْجَأَهُ ذَلِك إِلَى الْيمن. ثمَّ
الْحِكْمَة فِي ذكر ابْن مَسْعُود لسورة الْبَقَرَة دون
غَيرهَا من السُّور، وَإِن كَانَ قد أنزل عَلَيْهِ كل
السُّور، وَأَن مُعظم الْمَنَاسِك مَذْكُور فِي سُورَة
الْبَقَرَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من هُنَا رمى من أنزل
عَلَيْهِ أُمُور الْمَنَاسِك وَأخذ عَنهُ الشَّرْع فَهُوَ
أولى وأحق بالاتباع مِمَّن رمى الْجَمْرَة من فَوْقهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن السّنة رمي جَمْرَة
الْعقبَة من بطن الْوَادي، وَلَو رَمَاهَا من أَسْفَلهَا
كره. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَلَو رَمَاهَا من أَسْفَلهَا
جَازَ. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يرميها من فَوْقهَا
ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا يرميها إلاَّ من أَسْفَلهَا
وَقَالَ ابْن بطال رمى جَمْرَة الْعقبَة من حَيْثُ
يَتَيَسَّر من الْعقبَة من أَو أَسْفَلهَا أَو أَعْلَاهَا
أَو أوسطها، كل ذَلِك وَاسع، والموضع الَّذِي يخْتَار بهَا
بطن الْوَادي من أجل حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَكَانَ جَابر
بن عبد الله يرميها من بطن الْوَادي، وَبِه قَالَ عَطاء
وَسَالم، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق، وَقَالَ مَالك، فرميها من أَسْفَلهَا أحب
إِلَيّ. وَقد روى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أَنه جَاءَ والزحام عِنْد الْجَمْرَة، فَصَعدَ فَرَمَاهَا
من فَوْقهَا. وَفِيه: أَنه لَا يكره قَول الرجل سُورَة
الْبَقَرَة وَسورَة آل عمرَان، وَنَحْو ذَلِك وَهُوَ قَول
كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ مَا حكى عَن بعض التَّابِعين
كَرَاهَة ذَلِك، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يُقَال السُّورَة
الَّتِي يذكر فِيهِ كَذَا، وَالأَصَح قَول الْجُمْهُور
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْآيَتَيْنِ
من آخر سُورَة الْبَقَرَة فِي لَيْلَة كفتاه) . وَغير
ذَلِك من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المرفوعة.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ الوَلِيدِ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ
الأعْمَشِ بِهاذَا
(10/87)
هَذَا تَعْلِيق وَصله عبد الرَّحْمَن بن
مَنْدَه بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن الْوَلِيد
الْعَدنِي، هَذَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان
الْأَعْمَش بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عبد الله بن
مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
631 - (بابُ رَمْيِ الجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَياتٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن عدد رمي الْجمار إِنَّمَا
هُوَ بِسبع حَصَيَات، بِفَتْح الصَّاد وَالْيَاء، جمع
حَصَاة وَهُوَ الصَّوَاب بِخِلَاف مَا وَقع فِي رِوَايَة
أبي الْحسن: حصايات.
ذكَرَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: ذكر السَّبع عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَوَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب إِذا رمى
الْجَمْرَتَيْن، وَهُوَ الْبَاب الرَّابِع بعد هَذَا
الْبَاب على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله.
8471 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ
عنِ الحَكَمِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ
يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ انْتَهَى إلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى
جعَلَ الْبَيْتَ عَن يَسَارِهِ ومِنىً عَنْ يَمِينِهِ
ورَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ هاكَذا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ
عَلَيْهِ سورَةُ البَقَرَةِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ
هُوَ ابْن عُيَيْنَة، بِضَم الْعين وَفتح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَوَقع فِي بعض النّسخ
مَذْكُورا عَن الحكم بن عتيبة وَإِبْرَاهِيم هُوَ
النَّخعِيّ.
قَوْله: (إِلَى الْجَمْرَة الْكُبْرَى) هِيَ جَمْرَة
الْعقبَة آخر الجمرات الثَّلَاث بِالنِّسْبَةِ إِلَى
المتوجه من منى إِلَى مَكَّة. قَوْله: (وَمنى عَن يَمِينه)
أَي: وَجعل منى عَن يَمِينه. قَوْله: (وَرمى بِسبع) ، أَي:
بِسبع حَصَيَات.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن رمي الْجَمْرَة لَا بُد أَن يكون
بِسبع حَصَيَات، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء وَذهب عَطاء
إِلَى أَنه إِن رمى بِخمْس أَجزَاء، وَقَالَ مُجَاهِد إِن
رمى بست فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ أَحْمد
وَإِسْحَاق، وَاحْتج من قَالَ بذلك بِمَا رَوَاهُ
النَّسَائِيّ من حَدِيث سعد بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: (رَجعْنَا فِي الْحجَّة مَعَ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وبعضنا يَقُول: رميت بست حَصَيَات،
وبعضنا يَقُول: رميت بِسبع، فَلم يُعِبْ بعضُنا على بعض) ،
وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة أبي
مجلز، قَالَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، عَن شَيْء من أَمر الْجمار، فَقَالَ: مَا
أَدْرِي، رَمَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بست أَو سبع؟ وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور
أَن الْوَاجِب سبع، كَمَا صحّح من حَدِيث ابْن مَسْعُود
وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَغَيرهم. وَأجِيب:
عَن حَدِيث سعد: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْنَد، وَعَن حَدِيث
ابْن عَبَّاس: أَنه ورد على الشَّك من ابْن عَبَّاس، وَشك
الشاك لَا يقْدَح فِي جزم الْجَازِم، فَإِنَّهُ رَمَاهَا
بِأَقَلّ من سبع حَصَيَات، فَذهب الْجُمْهُور فِيمَا
حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض إِلَى أَن عَلَيْهِ دَمًا، وَهُوَ
قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو
ثَوْر إِلَى أَن تَارِك حَصَاة مدا من طَعَام، وَفِي
اثْنَتَيْنِ مَدين، وَفِي ثَلَاث فَأكْثر دَمًا.
وَللشَّافِعِيّ قَول آخر: إِن فِي الْحَصَاة ثلث دم، وَله
قَول آخر: إِن فِي الْحَصَاة درهما.
وَذهب أَبُو حنيفَة وصاحباه إِلَى أَنه إِن ترك أَكثر من
نصف الجمرات الثَّلَاث فَعَلَيهِ دم، وَإِن ترك أقل من
نصفهَا فَفِي كل حَصَاة نصف صَاع، وَعَن طَاوُوس إِن رمى
سِتا يطعم تَمْرَة أَو لقْمَة. وَذكر الطَّبَرِيّ عَن
بَعضهم: أَنه لَو ترك رمي جَمِيعهنَّ بعد أَن يكبر عِنْد
كل جَمْرَة سبع تَكْبِيرَات أَجزَأَهُ ذَلِك، وَقَالَ:
إِنَّمَا جعل الرَّمْي فِي ذَلِك بالحصى سَببا لحفظ
التَّكْبِيرَات السَّبع، كَمَا جعل عقد الْأَصَابِع
بالتسبيح سَببا لحفظ الْعدَد، وَذكر عَن يحيى ابْن سعيد
أَنه سُئِلَ عَن الخرز والنوى يسبح بِهِ؟ قَالَ: حسن، قد
كَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول:
إِنَّمَا الْحَصَى للجمار ليحفظ بِهِ التَّكْبِيرَات.
وَقَالَ الحكم وَحَمَّاد: من نسي جَمْرَة أَو جمرتين أَو
حصاتين يهريق دَمًا. وَقَالَ عَطاء من نسي شَيْئا من رمي
الْجمار فَذكر لَيْلًا أَو نَهَارا فَيلْزم مَا نسي، وَلَا
شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق
فَعَلَيهِ دم. وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ مَالك:
إِن نسي حَصَاة من الْجَمْرَة حَتَّى ذهبت أَيَّام
الرَّمْي ذبح شَاة، وَإِن نسي جَمْرَة تَامَّة ذبح بقرة.
وَاخْتلفُوا فِيمَن
(10/88)
رمى سبع حَصَيَات فِي كل مرّة وَاحِدَة.
فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجْزِيه إلاَّ عَن
حَصَاة وَاحِدَة وَيَرْمِي بعْدهَا سِتا. وَقَالَ عَطاء:
تجزيه عَن السَّبع، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة كَمَا فِي سياط
الْحَد سَوْطًا سَوْطًا، ومجتمعة إِذا علم وُصُول الْكل
إِلَى بدنه، هَذَا الَّذِي ذكر عَن أبي حنيفَة ذكره صَاحب
(التَّوْضِيح) . وَذكر فِي (الْمُحِيط) : وَلَو رمى
إِحْدَى الْجمار بِسبع حَصَيَات رمية وَاحِدَة فَهِيَ
بِمَنْزِلَة حَصَاة، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يَرْمِي سِتّ
مَرَّات. قلت: الْعُمْدَة فِي النَّقْل عَن صَاحب مَذْهَب
من الْمذَاهب على نقل صَاحب من أَصْحَاب ذَلِك الْمَذْهَب.
وَمن فَوَائده: أَنه يَرْمِي الْجَمْرَة وَهُوَ يَجْعَل
الْبَيْت عَن يسَاره وَمنى عَن يَمِينه، وَهُوَ أحد
الْوُجُوه للشَّافِعِيَّة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ
الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، قَالَ: وَبِه قَالَ جُمْهُور
الْعلمَاء، وَفِي وَجه: أَنه يستدبر الْقبْلَة وَيسْتَقْبل
الْجَمْرَة مِمَّا يَلِي مَكَّة، وَتَكون منى أَيْضا
أَمَامه، وَبِه قطع الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَفِي وَجه:
يسْتَقْبل الْقبْلَة وَيجْعَل الْجَمْرَة على يَمِينه
وَمنى خلف ظَهره. وَمِنْهَا: أَنه لَا بُد من مُسَمّى
الرَّمْي وَأَنه لَا يَكْفِي الْوَضع، وَهُوَ كَذَلِك
عِنْد الْجُمْهُور، وَحكى القَاضِي عِيَاض عَن
الْمَالِكِيَّة: أَن الطرح والوضع لَا يجزىء. قَالَ:
وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي يجزىء الطرح وَلَا يجزء
الْوَضع. قَالَ: ووافقنا أَبُو ثَوْر إلاَّ أَنه قَالَ:
إِن كَانَ يُسَمِّي الطرح رميا أَجزَأَهُ، وَحكى إِمَام
الْحَرَمَيْنِ أَيْضا عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه
يَكْفِي الْوَضع. قلت: قَالَ صَاحب (الْمُحِيط) : وضع
الْحَصَاة لَا يجْزِيه عَن الرَّمْي ويجزيه طرحها
لِأَنَّهُ رمى حَقِيقَة. وَمِنْهَا: أَن المُرَاد بِسبع
جمرات وَهِي الحصيات. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يجوز الرَّمْي
بِكُل مَا كَانَ من جنس الأَرْض: كالحجر والمدر،
وَالْمرَاد السبج وَكسر الآحر، وَلَا يجوز بِمَا لَيْسَ من
جنس الأَرْض: كالذهب وَالْفِضَّة واللؤلؤ والعنبر، وَذهب
دَاوُد إِلَى جَوَازه بِكُل شَيْء حَتَّى بالبعرة والعصفور
الْمَيِّت، وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: لَا يجوز إلاَّ
بالحصى، وَقَالَ أَحْمد: لَا يجوز بِالْحجرِ الْكَبِير.
731 - (بابُ مَنْ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ فجَعَلَ
الْبَيْتَ عنْ يَسَارِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من رمى جَمْرَة الْعقبَة وَهِي
الْجَمْرَة الْكُبْرَى، وَجعل الْبَيْت عَن يسَاره وَجعل
منى عَن يَمِينه. قَوْله: (فَجعل) ويروى: (وَجعل)
بِالْوَاو.
9471 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ
حَدثنَا الحَكَمُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ
بنِ يَزِيدَ أنَّهُ حَجَّ مَعَ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ فرَآهُ يَرْمِي الجَمرَةَ الْكُبْرَى
بِسَبْعِ حَصَياتٍ فجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ
ومِنىً عنْ يَمِينِه ثُمَّ قَالَ هَذا مَقامُ الَّذِي
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سورَةُ الْبَقَرَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ طَرِيق آخر لحَدِيث
ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. أخرجه عَن آدم
ابْن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن الحجم بن
عتيبة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن
يزِيد النَّخعِيّ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى فِي الحَدِيث السَّابِق.
831 - (بابٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ تَكْبِيرَةً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْحَاج إِذا رمى جَمْرَة
الْعقبَة يكبر مَعَ كل حَصَاة تَكْبِيرَة.
قالَهُ ابنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ كل حَصَاة عبد الله بن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَاوِيا عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا ذكره البُخَارِيّ
مَوْصُولا فِي: بَاب إِذا رمى الْجَمْرَتَيْن، يقوم،
يَأْتِي بعد هَذَا الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب.
0571 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ عَبْدِ الوَاحِدِ قَالَ
حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ الحَجَّاجَ يَقُولُ علَى
المِنْبَرِ السُّورَةَ الَّتي يُذْكَرُ فِيها الْبَقَرةُ
والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ
والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ قَالَ
فَذَكَرْتُ ذالِكَ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ حدَّثني عَبْدُ
الرَّحْمانِ بنُ يَزِيدَ أنَّهُ كانَ معَ ابنِ
(10/89)
مَسْعُودَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حِينَ
رمَى جَمرَةَ الْعَقَبَةِ فاسْتَبْطَنَ الوَادِي حَتَّى
إذَا حاذَى بالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا فرَمَى بِسَبْعِ
حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ قالَ مِنْ
هاهُنَا والَّذِي لاَ إِلاهَ غَيْرُهُ قامَ الَّذِي
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يكبر مَعَ كل حَصَاة) ،
وَهَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد
الْبَصْرِيّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَالْحجاج
هُوَ ابْن يُوسُف نَائِب عبد الْملك بن مَرْوَان بالعراق.
قَوْله: (قَالَ سَمِعت الْحجَّاج يَقُول) هَذَا حِكَايَة
عَن الْأَعْمَش عَن الْحجَّاج لأجل إِظْهَار خطئه، وَلم
يقْصد بِهِ الرِّوَايَة عَنهُ لِأَنَّهُ لم يكن أَهلا
لذَلِك، وأصل الْقَضِيَّة أَن الْأَعْمَش سمع الْحجَّاج
يَقُول وَهُوَ على الْمِنْبَر: السُّورَة الَّتِي تذكر
فِيهَا الْبَقَرَة وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا آل
عمرَان وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا النِّسَاء، وَلم
يقل: سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة آل عمرَان وَسورَة
النِّسَاء، وَلم ير بِإِضَافَة السُّورَة إِلَى الْبَقَرَة
وَلَا إِلَى آل عمرَان وَلَا إِلَى النِّسَاء، وَنَحْو
ذَلِك. وروى النَّسَائِيّ بِلَفْظ: لَا تَقولُوا: سُورَة
الْبَقَرَة، قولا: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا
الْبَقَرَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأَعْمَش، قَالَ:
سَمِعت الْحجَّاج بن يُوسُف يَقُول وَهُوَ يخْطب على
الْمِنْبَر: ألفوا الْقُرْآن كَمَا أَلفه جِبْرِيل،
عَلَيْهِ السَّلَام، السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا
الْبَقَرَة، وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا آل عمرَان.
قَالَ: فَلَقِيت إِبْرَاهِيم فَأَخْبَرته بقوله، فَسَبهُ،
ثمَّ قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن يزِيد أَنه حج مَعَ
عبد الله بن مَسْعُود فَأتى جَمْرَة الْعقبَة، فاستبطن
الْوَادي فاستعرضها فَرَمَاهَا من بطن الْوَادي بِسبع
حَصَيَات، يكبر مَعَ كل حَصَاة. قَالَ: فَقلت: يابا عبد
الرَّحْمَن إِن النَّاس يَرْمُونَهَا من فَوْقهَا؟
فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إل هـ غَيره مقَام الَّذِي أنزلت
عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة. انْتهى. وَلما قَالَ
الْأَعْمَش لإِبْرَاهِيم مَا قَالَ، وحدثه إِبْرَاهِيم عَن
عبد الرَّحْمَن، رد عَلَيْهِ بذلك وَأظْهر خطأ الْحجَّاج
عَلَيْهِ مَا يسْتَحق، وَقَالَ عِيَاض: إِن كَانَ
الْحجَّاج أَرَادَ بقوله: كَمَا أَلفه جِبْرِيل، عَلَيْهِ
السَّلَام، تأليف الْآي فِي كل سُورَة ونظمها على مَا هِيَ
عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصحف، فَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين،
أَجمعُوا أَن ذَلِك تأليف سيدنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ يُرِيد تأليف السُّورَة
بَعْضهَا على أثر بعض، فَهُوَ قَول بعض الْفُقَهَاء
والقراء، وَخَالفهُم جمَاعَة من الْمُحَقِّقين، وَقَالُوا:
بل هُوَ اجْتِهَاد من الْأمة وَلَيْسَ بتوقيف، وَقَالَ
أَبُو الْفضل: تَقْدِيم الْحجَّاج سُورَة النِّسَاء على آل
عمرَان فِي رِوَايَة مُسلم دَلِيل على أَنه لم يرد إلاَّ
نظم الْآي، لِأَن الْحجَّاج إِنَّمَا كَانَ يتبع مصحف
عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا يُخَالِفهُ.
قَوْله: (حِين رمى جَمْرَة الْعقبَة) ، هِيَ الْجَمْرَة
الْكُبْرَى وَلَيْسَت هِيَ من منى بل هِيَ حد منى من جِهَة
مَكَّة، وَهِي الَّتِي بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الْأَنْصَار عِنْدهَا على الْهِجْرَة، والجمرة اسْم
لمجتمع الْحَصَى، سميت بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس بهَا،
فَيَقُول: تجمر بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا. وَقيل: إِن
الْعَرَب تسمي الْحَصَى الصغار جمارا، فَسَمت الشَّيْء
بلازمه. قَوْله: (فاستبطن الْوَادي) أَي: دخل فِي بطن
الْوَادي. قَوْله: (حَتَّى إِذا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ)
أَي: قابلها، وَالْبَاء فِيهِ زَائِدَة، وَهَذَا يدل على
أَنه كَانَ هُنَاكَ شَجَرَة عِنْد الْجَمْرَة. وَقد روى
ابْن أبي شيبَة عَن الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب قَالَ:
رَأَيْت الْقَاسِم وسالما ونافعا يرْمونَ من الشَّجَرَة،
وَمن طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْأسود: أَنه كَانَ إِذا
جاور الشَّجَرَة رمى جَمْرَة الْعقبَة من تَحت غُصْن من
أَغْصَانهَا. قَوْله: (اعترضها) أَي: الشَّجَرَة. قَالَ
بَعضهم: قلت: مَعْنَاهُ أَتَاهَا من عرضهَا، نبه عَلَيْهِ
الدَّاودِيّ. قَوْله: (فَرمى) ، أَي: الْجَمْرَة. قَوْله:
(يكبر) جملَة حَالية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ مِنْهَا: لَا بُد من رمي سبع
بحصات. وَمِنْهَا: التَّكْبِير مَعَ كل حَصَاة،
وَأَجْمعُوا على اسْتِحْبَابه فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي
عِيَاض، وَأَنه لَو ترك التَّكْبِير أَجزَأَهُ إِجْمَاعًا
وَفِيه نظر، لِأَن بَعضهم يعده وَاجِبا. وَقَالَ
أَصْحَابنَا: يكبر مَعَ كل حَصَاة، وَيَقُول: بِسم الله
وَالله أكبر رغما للشَّيْطَان وَحزبه، وَكَانَ عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول، كلما رمى حَصَيَات:
أللهم إهدني بِالْهدى، وقني بالتقوى، وَاجعَل الْآخِرَة
خيرا لي من الأولى. وَكَانَ ابْن مَسْعُود وَابْن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يَقُولَانِ عِنْد ذَلِك:
أللهم اجْعَلْهُ حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا.
وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: فَإِن سبح لَا شَيْء عَلَيْهِ.
(10/90)
931 - (بابُ منْ رَمَى جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ ولَمْ يَقِفْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من رمى جَمْرَة الْعقبَة،
وَالْحَال أَنه لم يقف عِنْدهَا.
قالَهُ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة
وَلَا يقف عِنْدهَا. أخرج البُخَارِيّ هَذَا مُسْندًا فِي
الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، وَقد روى أَحْمد فِي
(مُسْنده) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده
نَحوه، وَلَا يعرف فِيهِ خلاف.
041 - (بابٌ إذَا رَمىَ الجَمْرَتَيْنِ يَقُومُ ويُسْهِلُ
مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا رمى الْجَمْرَتَيْن، وهما
الْجَمْرَة الأولى وَالثَّانيَِة غير جَمْرَة الْعقبَة.
قَوْله: (يقوم) أَي: يقف عِنْدهمَا طَويلا. وَاخْتلفُوا
فِي مِقْدَار مَا يقف عِنْد الْجَمْرَة الأولى، فَكَانَ
ابْن مَسْعُود يقف عِنْدهَا قدر قِرَاءَة سُورَة
الْبَقَرَة مرَّتَيْنِ، وَعَن ابْن عمر: كَانَ يقف
عِنْدهَا قدر قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة عِنْد
الْجَمْرَتَيْن، وَعَن أبي مجلز قَالَ: كَانَ ابْن عمر
يشبر ظله ثَلَاثَة أشبار ثمَّ يَرْمِي، وَقَامَ عِنْد
الْجَمْرَتَيْن قدر قِرَاءَة سُورَة يُوسُف، وَكَانَ ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يقف بِقدر
قِرَاءَة سُورَة من المئين، وَلَا تَوْقِيف فِي ذَلِك
عِنْد الْعلمَاء، وَإِنَّمَا هُوَ ذكر وَدُعَاء، فَإِن لم
يقف وَلم يدع فَلَا حرج عَلَيْهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء
إلاَّ الثَّوْريّ فَإِنَّهُ اسْتحبَّ أَن يطعم شَيْئا أَو
يهريق دَمًا. قَوْله: (ويسهل) ، بِضَم الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، أَي: يقْصد السهل
من الأَرْض وَهُوَ الْمَكَان المصطحب الَّذِي لَا
ارْتِفَاع فِيهِ. قَوْله: (مُسْتَقْبل الْقبْلَة) كَلَام
إضافي وَقع حَالا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يُسهل أَن ينزل
إِلَى السهل من بطن الْوَادي، يُقَال: أسهل الْقَوْم إِذا
نزلُوا من الْجَبَل إِلَى السهل.
1571 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا
طَلحَةُ بنُ يَحْيَى قَالَ حَدثنَا يُونسُ عنِ
الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ كانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ
الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَياتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إثْرِ كُلِّ
حَصاةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ
مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً ويَدْعُو
ويَرْفَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى ثُمَّ يأخُذُ
ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُّ ويَقُومُ مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلاً ويَدْعُو ويَرْفَعُ
يَدَيْهِ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ
الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي ولاَ يَقِفُ عِنْدَهَا
ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ هاكَذَا رَأيْتُ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَلُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. هَذَا الحَدِيث من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَذكره أَيْضا فِي بَابَيْنِ بعده،
وَعُثْمَان بن أبي شيبَة هُوَ أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة،
وَطَلْحَة بن يحيى بن النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش الزرقي
الْأنْصَارِيّ الْمَدِينِيّ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذَا
الْكتاب غير هَذَا الحَدِيث. فَإِن قلت: فِيهِ مقَال،
فَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِقَوي، وَلِهَذَا لم يخرج
لَهُ مُسلم شَيْئا قلت: وَثَّقَهُ ابْن معِين، على أَن
البُخَارِيّ لم يحْتَج بِهِ وَحده، فقد استظهر بمتابعة
سُلَيْمَان بن بِلَال فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وبمتابعة
عُثْمَان بن عمر أَيْضا، كِلَاهُمَا عَن يُونُس، وتابعهم
عبد الله بن عمر النميري عَن يُونُس عِنْد
الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي،
وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
قَوْله: (الْجَمْرَة الدُّنْيَا) ، بِضَم الدَّال أَو
بِكَسْرِهَا أَي: الْقَرِيبَة إِلَى جِهَة مَسْجِد الْخيف،
وَهِي أولى الجمرات الَّتِي ترمي من ثَانِي يَوْم
النَّحْر، وَهِي أقرب الجمرات من منى وأبعدها من مَكَّة.
قَوْله: (على إِثْر كل حَصَاة) إِثْر الشَّيْء، بِكَسْر
الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: عقيبة. قَوْله:
(حَتَّى يسهل) ، بِنصب اللَّام بِتَقْدِير: أَن، وَقد مر
تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله:
(10/91)
(فَيقوم طَويلا) ، وَفِي رِوَايَة سلميان بن بِلَال:
فَيقوم قيَاما طَويلا. قَوْله: (وَيرْفَع يَدَيْهِ) أَي:
فِي الدُّعَاء، وَهَذَا يدل على مَشْرُوعِيَّة رفع
الْيَدَيْنِ عِنْد الدُّعَاء، وروى مَالك مَنعه فِي جَمِيع
المشاعر، وروى فِي الاسْتِسْقَاء: (رَافعا يَدَيْهِ وَقد
جعل بطونهما إِلَى الأَرْض، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا أعلم أحدا أنكر ذَلِك غير
مَالك فَإِن ابْن الْقَاسِم حكى عَنهُ أَنه لم يكن يعرف
رفع الْيَدَيْنِ هُنَالك قَالَ وَاتِّبَاع السّنة أفضل
وَقيل يرفع حَكَاهُ ابْن التِّين وَابْن الْحَاجِب.
قَوْله: (ثمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى) أَي: الْجَمْرَة
الْوُسْطَى. قَوْله: (ثمَّ يَأْخُذ ذَات الشمَال) ،
بِكَسْر الشين أَي: جَانب الشمَال. قَوْله: (ثمَّ يَرْمِي
جَمْرَة ذَات الْعقبَة) ، هِيَ جَمْرَة الْعقبَة. وَفِي
رِوَايَة عُثْمَان بن عمر: (ثمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة
الَّتِي عِنْد الْعقبَة) . قَوْله: (ثمَّ ينْصَرف) ، وَفِي
رِوَايَة سُلَيْمَان: (وَلَا يقف عِنْدهَا) . |