عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 3 - (بابٌ كم اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: كم اعْتَمر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: كم لَهُ عمْرَة؟
5771 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عَن
منْصُورٍ عنْ مجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْتُ أنَا وعُرْوَةُ بنُ
الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذا عَبْدُ الله بنُ عُمرَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا جالِسٌ إلَى حُجْرَةِ
عائِشَةَ وإذَا أُناسٌ يُصَلُّونَ فِي المَسْجِدِ صَلاَةَ
الضُّحَى قَالَ فَسَألْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ فَقال
بِدْعَةٌ ثُمَّ قالَ لَهُ كَمِ اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرْبَعٌ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ
فَكَرِهْنَا أنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ وسَمِعْنَا
اسْتِنانَ عائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنينَ فِي الحُجْرَةِ
فقالَ عُرْوَةُ يَا أُمَّاهُ يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ ألاَ
تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ قالَتْ
مَا يَقُولُ قَالَ يَقُولُ إنَّ
(10/110)
رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اعْتَمَرَ أرْبَعَ عُمُرَاتٍ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ
قالَتْ يَرْحَمُ الله أبَا عَبْدِ الرَّحْمانِ مَا
اعْتَمَرَ عُمْرَةً إلاَّ وهُوَ شَاهِدُهُ وَمَا اعْتَمَرَ
فِي رَجَبٍ قَط.
مطابقته فِي قَوْله: (كم اعْتَمر؟) ، وَفِي قَوْله:
(اعْتَمر أَربع عمرات) وَفِي كَونهَا ثَلَاثًا على قَول
عَائِشَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم
هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن
جرير ... إِلَى آخِره نَحوه، غيران فِي رِوَايَته
(وَالنَّاس يصلونَ صَلَاة الضحي) وَفِي هُنَا أَن نكذبه
ونرد عَلَيْهِ) قَوْله (دخلت أَنا وعدوه) إِلَى آخِره
فِيهِ دفع لما ذكره يحيى بن سعيد وَابْن معِين وَأَبُو
حَاتِم فِي آخَرين أَن مُجَاهدًا لم يسمع من عَائِشَة.
قَوْله: (الْمَسْجِد) ، يَعْنِي: مَسْجِد الْمَدِينَة
النَّبَوِيَّة. قَوْله: (فَإِذا) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة،
و: عبد الله، مُبْتَدأ، و: جَالس، خَبره وَكَذَلِكَ:
وَإِذا، الثَّانِيَة للمفاجأة وَالْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: (نَاس) بِغَيْر ألف فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي
رِوَايَة غَيره: (وَإِذا أنَاس) بِالْألف وهما بِمَعْنى
وَاحِد. قَوْله: (قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَن صلَاتهم) أَي:
فسألنا ابْن عمر عَن صَلَاة هَؤُلَاءِ الَّذين يصلونَ فِي
الْمَسْجِد. قَوْله: (بِدعَة) أَي: صلَاتهم بِدعَة،
وَإِنَّمَا قَالَ: بِدعَة، وَإِنَّمَا الْبِدْعَة إِحْدَاث
مَا لم يكن فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة
الضُّحَى فِي بَيت أم هانىء، وَقد مر فِي: بَاب صَلَاة
الضُّحَى، لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لم تثبت عِنْده
فَلذَلِك أطلق عَلَيْهَا الْبِدْعَة، وَقيل: أَرَادَ
أَنَّهَا من الْبدع المستحسنة، كَمَا قَالَ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فِي صَلَاة التَّرَاوِيح، نعمت
الْبِدْعَة هَذِه، وَقيل: أَرَادَ أَن إظهارها فِي
الْمَسْجِد والاجتماع لَهَا هُوَ الْبِدْعَة، لَا أَن نفس
تِلْكَ الصَّلَاة بِدعَة، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجه. قَوْله:
(قَالَ أَربع) ، كَذَا هُوَ مَرْفُوعا فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (أَرْبعا) ،
وَلَقَد نقل الْكرْمَانِي وَغَيره عَن ابْن مَالك فِي وَجه
هَذَا الرّفْع وَالنّصب مَا فِيهِ تعسف جدا، وَالْأَحْسَن
أَن يُقَال: إِن وَجه الرّفْع هُوَ أَن يكون خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف تَقْدِيره: الَّذِي اعتمره النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَربع أَي: أَربع عمر، وَوجه النصب على أَن
يكون خبر كَانَ محذوفا، تَقْدِيره: الَّذِي اعتمره كَانَ
أَرْبعا قَوْله: (وَسَمعنَا استنان عَائِشَة) ، قيل:
استنانها سواكها. وَقيل: اسْتِعْمَالهَا المَاء. قَالَ
ابْن فَارس: سننت المَاء على وَجْهي إِذا أَرْسلتهُ
إرْسَالًا إلاَّ أَن يكون اسْتنَّ، لم تستعمله الْعَرَب
إلاَّ فِي السِّوَاك، وَقيل: مَعْنَاهُ سمعنَا حس مُرُور
السِّوَاك على أسنانها. قلت: فِيهِ مَا فِيهِ، وَفِي
رِوَايَة عَطاء عَن عُرْوَة عِنْد مُسلم، قَالَ: (وَإِنَّا
لنسمع ضربهَا بِالسِّوَاكِ تستن) . قَوْله: (يَا أُمَّاهُ)
، كَذَا هُوَ بِالْألف وَالْهَاء الساكنة فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (يَا أمه) ،
بِحَذْف الْألف. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة قَوْله: (يَا أم
الْمُؤمنِينَ) بعد أَن قَالَ (يَا أُمَّاهُ) أَرَادَ بقوله
(يَا أُمَّاهُ) الْمَعْنى الْأَخَص لكَون عَائِشَة خَالَته
وَأَرَادَ بقوله يَا أم الْمُؤمنِينَ الْمَعْنى الْأَعَمّ
لكَونهَا أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (أَبُو عبد الرَّحْمَن)
، هُوَ كنية عبد الله بن عمر قَوْله: (عمرات) ، يجوز ضم
الْمِيم فِيهَا وسكونها، وَبِضَمِّهَا كَمَا فِي عَرَفَات
وحجرات. قَوْله: (إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَب) ، أَي: إِحْدَى
العمرات كَانَت فِي شهر رَجَب. قَوْله: (يرحم الله أَبَا
عبد الرَّحْمَن) ، ذكرته بكنيته تَعْظِيمًا لَهُ. قَوْله:
(مَا اعْتَمر) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(عمْرَة قطّ إلاَّ وَهُوَ) أَي: ابْن عمر شَاهده، أَي
حَاضر مَعَه، وَقَالَت ذَلِك مُبَالغَة فِي نسبته إِلَى
النسْيَان، وَلم تنكر عَائِشَة على ابْن عمر إلاَّ قَوْله:
(إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَب) .
وَاعْلَم أَن إِحْدَى العمرات فِي رِوَايَة مَنْصُور عَن
مُجَاهِد (كَانَت فِي رَجَب) ، وَخَالفهُ أَبُو إِسْحَاق
فَرَوَاهُ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر قَالَ: (اعْتَمر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرَّتَيْنِ، فَبلغ ذَلِك
عَائِشَة، فَقَالَت: اعْتَمر أَربع مَرَّات) . أخرجه
أَحْمد وَأَبُو دَاوُد، فَجعل مَنْصُور الِاخْتِلَاف فِي
شهر الْعمرَة وَأَبُو إِسْحَاق جعل الِاخْتِلَاف فِي عدد
الاعتمار، وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث الْبَراء بن
عَازِب: اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي
الْقعدَة قبل أَن يحجّ مرَّتَيْنِ، وَفِي (سنَن أبي
دَاوُد) بِإِسْنَاد على شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث
عَائِشَة: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر فِي
شَوَّال: أخرجه مَالك فِي (موطئِهِ) أَيْضا، وَفِي (سنَن
الدَّارَقُطْنِيّ) من حَدِيثهَا: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم اعْتَمر فِي رَمَضَان) ، وَهُوَ غَرِيب. قَالَ ابْن
بطال: وَالصَّحِيح أَنه اعْتَمر ثَلَاثًا، وَالرَّابِعَة
إِنَّمَا تجوز نسبتها إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمر النَّاس
بهَا، وعملت بِحَضْرَتِهِ لَا أَنه اعْتَمَرَهَا
بِنَفسِهِ، فَيدل على صِحَة ذَلِك أَن عَائِشَة ردَّتْ على
ابْن عمر قَوْله، (وَقَالَت: مَا اعْتَمر فِي رَجَب قطّ) .
وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: إِنَّه وهم من ابْن عمر
لإِجْمَاع الْمُسلمين أَنه اعْتَمر ثَلَاثًا، وروى
الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن
هِشَام بن عُرْوَة (عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر ثَلَاث عمر: عمْرَة فِي
شَوَّال، وعمرتين فِي ذِي الْقعدَة) ، والْحَدِيث عِنْد
أبي دَاوُد من رِوَايَة دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن عَن
هِشَام، إلاَّ
(10/111)
أَنه قَالَ: (اعْتَمر عمْرَة فِي ذِي
الْقعدَة وَعمرَة فِي شَوَّال) وروى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا
من رِوَايَة عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: (اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث
عمر كلهَا فِي ذِي الْقعدَة) . وَقَالَ شَيخنَا: كَأَن
عَائِشَة تُرِيدُ وَالله أعلم بِعُمْرَة شَوَّال عمْرَة
الْحُدَيْبِيَة، وَالصَّحِيح إِنَّمَا كَانَت فِي ذِي
الْقعدَة، كَمَا فِي حَدِيث أنس فِي الصَّحِيح، وَإِلَيْهِ
ذهب الزُّهْرِيّ وَنَافِع مولى ابْن عمر وَقَتَادَة
ومُوسَى بن عقبَة وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَغَيرهم،
وَاخْتلف فِيهِ على عُرْوَة بن الزبير، فروى هِشَام ابْنه
عَنهُ: أَنَّهَا كَانَت فِي شَوَّال، وروى ابْن لَهِيعَة
عَن أبي الْأسود عَنهُ: أَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هُوَ الصَّحِيح، وَقد عد النَّاس
هَذِه فِي عمْرَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ صد
عَن الْبَيْت فَنحر الْهَدْي وَحلق.
وَأما الْعمرَة الثَّانِيَة، فَهِيَ أَيْضا فِي ذِي
الْقعدَة سنة سبع وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ فِيمَا علمت،
قَالَه نَافِع مولى ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، وَسليمَان التَّيْمِيّ وَعُرْوَة بن الزبير
ومُوسَى بن عقبَة وَابْن شهَاب وَمُحَمّد بن إِسْحَاق
وَغَيرهم، لَكِن ذكر ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : أَنَّهَا
كَانَت فِي رَمَضَان، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي
(كتاب العري) وَلم ينْقل ذَلِك أحد غَيره، وَالْمَشْهُور
أَنَّهَا فِي ذِي الْقعدَة. وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (خرج
مُعْتَمِرًا فِي رَمَضَان) . وَقَالَ الْمُحب: فلعلها
الَّتِي فعلهَا فِي شَوَّال وَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي
رَمَضَان. وروى أَبُو بكر بن أبي دَاوُد فِي (فَوَائده) من
حَدِيث ابْن عمر: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
اعْتَمر قبل حجَّته عمرتين أَو ثَلَاثًا، إِحْدَى عُمَرِهِ
فِي رَمَضَان) ، وَلَعَلَّه أَرَادَ ابْتِدَاء إِحْرَامه
بهَا، وَتسَمى عمْرَة الْقَضَاء، وَعمرَة الْقَضِيَّة،
وَعمرَة الْقصاص. وَسميت عمْرَة الْقَضَاء، لِأَنَّهُ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَاضِي أهل مَكَّة عَام
الْحُدَيْبِيَة على أَن يعْتَمر الْعَام الْمقبل، لِأَن
الْمُسلمين قضوها عَن عمْرَة الْحُدَيْبِيَة. وَعَن ابْن
عمر: لم تكن هَذِه الْعمرَة قَضَاء، وَلَكِن شرطا على
الْمُسلمين أَن يعتمروا الْقَابِل فِي الشَّهْر الَّذِي
صدهم الْمُشْركُونَ فِيهِ. وَسميت: عمْرَة الْقصاص، لِأَن
الله، عز وَجل، أنزل فِي تِلْكَ الْعمرَة {الشَّهْر
الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص} (الْبَقَرَة:
491) . فَاعْتَمَرَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فِي الشَّهْر الْحَرَام الَّذِي صد فِيهِ، وَقيل: يحْتَمل
أَن يكون من الْقصاص الَّذِي هُوَ أَخذ الْحق، فكأنهم
اقتصوا، أَي: اخذوا فِي السّنة الثَّانِيَة مَا مَنعهم
الْمُشْركُونَ من الْحق فِي كَمَال عمرهم.
وَأما الْعمرَة الثَّالِثَة فَهِيَ فِي ذِي الْقعدَة
أَيْضا سنة ثَمَان، وَهِي: عمْرَة الْجِعِرَّانَة، قَالَ
ذَلِك عُرْوَة بن الزبير ومُوسَى بن عقبَة وَغَيرهمَا،
وَهُوَ كَذَلِك. وَفِي (الصَّحِيح) من حَدِيث أنس:
أَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، وَقَالَ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) : إِن عمْرَة الْجِعِرَّانَة كَانَت فِي
شَوَّال. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَلم ينْقل ذَلِك أحد
غَيره فِيمَا علمت، وَالْمَشْهُور أَنَّهَا فِي ذِي
الْقعدَة. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: إِن الثَّلَاث
كَانَت فِي ذِي الْقعدَة.
وَأما الْعمرَة الرَّابِعَة فَهِيَ الَّتِي مَعَ حجَّته،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت أفعالها فِي الْحجَّة
بِلَا خلاف، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدم
مَكَّة فِي الرَّابِع من ذِي الْحجَّة. وَأما إحرامها
فَالصَّحِيح أَنه كَانَ فِي ذِي الْقعدَة، لأَنهم خَرجُوا
لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة، كَمَا فِي (الصَّحِيح) .
وَكَانَ إِحْرَامه فِيهَا فِي وَادي العقيق كَمَا فِي
(الصَّحِيح) ، وَذَلِكَ قبل أَن يدْخل ذُو الْحجَّة.
وَقيل: كَانَ إِحْرَامه لَهَا فِي ذِي الْحجَّة، لِأَن فِي
بعض طرق الحَدِيث: (خرجنَا موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة) ،
وَالصَّحِيح الأول، وَأسْقط بَعضهم عمرته هَذِه فَجَعلهَا
ثَلَاث عمر، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ القَاضِي عِيَاض.
وَلَا شكّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْتَمر عَام
حجَّة الْوَدَاع عمْرَة مُفْردَة لَا قبل الْحَج وَلَا
بعده، أما قبله فَلِأَنَّهُ لم يحل حَتَّى فرغ من الْحَج،
وَأما بعده فَلم ينْقل أَنه اعْتَمر، فَلم يبْق إلاَّ أَنه
قرن الْحَج بِعُمْرَة، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب جمعا بَين
الْأَحَادِيث، إلاَّ أَنه أحرم أَولا بِالْحَجِّ، ثمَّ
أَدخل عَلَيْهِ الْعمرَة بالعقيق لما جَاءَهُ جِبْرِيل،
عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ: صلِّ فِي هَذَا الْوَادي
الْمُبَارك، وَقل: عمْرَة فِي حجَّة، وَلِهَذَا اخْتلفت
الصَّحَابَة فِي عدد عمره، فَمن قَالَ: أَرْبعا فَهَذَا
وَجهه، وَمن قَالَ: ثَلَاثًا أسقط الْأَخِيرَة لدُخُول
أفعالها فِي الْحَج، وَمن قَالَ: اعْتَمر عمرتين أسقط
الْعمرَة الأولى، وَهِي: عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، لكَوْنهم
صدوا عَنْهَا، وَأسْقط الْأَخِيرَة لدخولها فِي أَعمال
الْحَج، وَأثبت عمْرَة الْقَضِيَّة وَعمرَة
الْجِعِرَّانَة.
7771 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ
قَالَ أَخْبرنِي عَطاءٌ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ
قَالَ سألْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ
مَا اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
رَجَبٍ.
(انْظُر الحَدِيث 6771 وطرفه) .
هَذَا من تَعْلِيق الحَدِيث السَّابِق لإنكار عَائِشَة على
ابْن عمر فِي كَون عمرته فِي رَجَب، وَهنا أَيْضا أنْكرت
اعتماره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(10/112)
فِي رَجَب بقولِهَا: وَمَا اعْتَمر فِي
رَجَب قطّ، وَأوردهُ مُخْتَصرا عَن أبي عَاصِم النَّبِيل
الضَّحَّاك، بن مخلد عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن
جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح. وَأخرجه مُسلم مطولا،
فَقَالَ: حَدثنَا هَارُون بن عبد الله، قَالَ: أخبرنَا
مُحَمَّد بن بكر البرْسَانِي، قَالَ: (أخبرنَا ابْن جريج،
قَالَ: سَمِعت عَطاء يخبر، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة بن
الزبير، قَالَ: كنت أَنا وَابْن عمر مستندين إِلَى حجرَة
عَائِشَة، وَأَنا أسمع ضربهَا بِالسِّوَاكِ تستن، قَالَ:
فَقلت: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن {اعْتَمر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رَجَب؟ قَالَ: نعم، فَقلت
لعَائِشَة: أَي أُمَّاهُ} أَلا تسمعين مَا يَقُول أَبُو
عبد الرَّحْمَن؟ قَالَت: وَمَا يَقُول؟ قلت: يَقُول:
اعْتَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رَجَب.
فَقَالَت: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، لعمري مَا
اعْتَمر فِي رَجَب، وَمَا اعْتَمر فِي عمْرَة إلاَّ وَأَنه
لمعه. قَالَ: وَابْن عمر يسمع، فَمَا قَالَ: لَا وَلَا
نعم، سكت) . فَإِن قلت: نفت عَائِشَة وَأثبت ابْن عمر،
وَالْقَاعِدَة تَقْدِيم الْإِثْبَات على النَّفْي، فَهَلا
حكم لِابْنِ عمر على عَائِشَة؟ قلت: إِن إِثْبَات ابْن عمر
كَونهَا فِي رَجَب يُعَارضهُ إِثْبَات آخر، وَهُوَ كَونهَا
فِي ذِي الْقعدَة، فكلاهما نافٍ لوقت ومثبت لوقت آخر،
فعائشة، وَإِن نفت رَجَب، فقد أَثْبَتَت كَونهَا فِي ذِي
الْقعدَة، وَقد اتّفقت عَائِشَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس
على نفي الزِّيَادَة فِي عدد عمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
على أَربع، وأثبتت عَائِشَة كَون الثَّلَاثَة فِي ذِي
الْقعدَة خلا الَّتِي فِي حجَّته، فترجح إِثْبَات عَائِشَة
لذَلِك، فَإِن إِثْبَات ابْن عَبَّاس أَيْضا كَذَلِك،
وَانْفَرَدَ ابْن عمر بِإِثْبَات رَجَب، فَكَانَ إِثْبَات
عَائِشَة مَعَ ابْن عَبَّاس أقوى من إِثْبَات ابْن عمر
وَحده، وانضم لذَلِك كَون عَائِشَة أنْكرت عَلَيْهِ مَا
أثْبته من الاعتمار فِي رَجَب، وَسكت، فَوَجَبَ الْمصير
إِلَى قَول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. فَإِن
قلت: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث لَا يدْخل
فِي: بَاب كم اعْتَمر، وَإِنَّمَا يدْخل فِي: بَاب مَتى
اعْتَمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: أجَاب بَعضهم
بِأَن غَرَض البُخَارِيّ الطَّرِيق الأولى، وَإِنَّمَا
أورد هَذَا لينبه على الْخلاف فِي السِّيَاق، وَقَالَ
صَاحب (التَّوْضِيح) : بل دَاخل فِيهِ، وَالزَّمَان وَقع
اسْتِطْرَادًا. قلت: الْأَوْجه فِي ذَلِك مَا ذكرته فِي
أول شرح الحَدِيث أَنه من تَعْلِيق الحَدِيث السَّابِق،
وداخل فِي عداده، فالترجمة تَشْمَل الْكل. فَافْهَم.
8771 - حدَّثنا حَسَّانُ بنُ حَسَّانَ قَالَ حدَّثنا
هَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ قَالَ سَألْتُ أنَسا رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ كَمِ اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ أرْبَعٌ عُمْرَةُ الحُدَيْبِيَّةِ فِي ذِي
القَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ المُاشْرِكُونَ وعُمْرةٌ مِنَ
العَامِ المُقْبِلِ فِي ذِي القَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ
وعُمْرَةُ الجِعْرَانَةِ إذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ أُرَاهُ
حُنَيْنٍ قُلْتُ كَمْ حَجَّ قَالَ واحِدَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَحسان بن حسان أَبُو
عَليّ الْبَصْرِيّ، سكن مَكَّة وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ، وَقَالَ: مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة
وَمِائَتَيْنِ.، وَهَمَّام، بتَشْديد الْمِيم: ابْن يحيى
بن دِينَار العوزي الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة
ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة.
وَأخرجه أَيْضا عَن أبي الْوَلِيد فِيهِ، وَفِي الْجِهَاد
وَفِي الْمَغَازِي عَن هذبة بن خَالِد، وَأخرجه مُسلم فِي
الْحَج عَن هدبة وَعَن أبي مُوسَى عَن عبد الصَّمد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد وهدبة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور،
وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (أَربع) أَي: الَّذِي اعتمره أَربع عمر. قَوْله:
(عمْرَة الْحُدَيْبِيَة) ، أَي: من الْأَرْبَع عمْرَة
الْحُدَيْبِيَة، وَهِي بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح
الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره
هَاء، وَكثير من الْمُحدثين يشددون هَذِه الْيَاء، وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: هِيَ قَرْيَة كَبِيرَة من مَكَّة، سميت
ببئر هُنَاكَ، وَقَالَ الصغاني: الْحُدَيْبِيَة، بتَخْفِيف
الْيَاء: مِثَال دويهية، بِئْر على مرحلة من مَكَّة،
مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة، وَقَالَ الْخطابِيّ: سميت
الْحُدَيْبِيَة بشجرة حدباء هُنَاكَ. قَوْله: (حَيْثُ صده)
، أَي: مَنعه الْمُشْركُونَ من دُخُول مَكَّة، وَهُوَ فِي
غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَت فِي ذِي الْقعدَة سنة
سِتّ بِلَا خلاف، نَص على ذَلِك الزُّهْرِيّ وَآخَرُونَ.
قَوْله: (وَعمرَة الْجِعِرَّانَة) فِيهَا لُغَتَانِ
إِحْدَاهمَا: كسر الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة
وَفتح الرَّاء المخففة. وَبعد الْألف نون، وَالثَّانيَِة:
كسر الْعين وَتَشْديد الرَّاء، وَإِلَى التَّخْفِيف ذهب
الْأَصْمَعِي وَصَوَّبَهُ الْخطابِيّ، وَقَالَ فِي
(تَصْحِيف الْمُحدثين) : إِن هَذَا مِمَّا ثقلوه وَهُوَ
مخفف، وَحكى القَاضِي عَن ابْن الْمَدِينِيّ. قَالَ: أهل
الْمَدِينَة يثقلونه، وَأهل الْعرَاق يخففونه، وَهِي
(10/113)
مَا بَين الطَّائِف وَمَكَّة، وَهِي إِلَى
مَكَّة أقرب. قَوْله: (إِذْ قسم) أَي: حِين قسم غنيمَة،
وغنيمة مَنْصُوب بِلَا تَنْوِين بِلَفْظ قسم لِأَنَّهُ
مُضَاف فِي نفس الْأَمر إِلَى حنين. قَوْله: (أرَاهُ) ،
بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ، معترض بَين الْمُضَاف
والمضاف إِلَيْهِ، وَكَانَ الرَّاوِي طَرَأَ عَلَيْهِ شكّ
فَأدْخل لفظ: أرَاهُ، بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ،
وَقد رَوَاهُ مُسلم عَن هدبة عَن همام بِغَيْر شكّ،
فَقَالَ: حَيْثُ قسم غَنَائِم حنين، وَيَوْم حنين كَانَت
غَزْوَة هوَازن، وحنين وادٍ بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة
أَمْيَال، وَكَانَت فِي سنة ثَمَان، وَهِي سنة غَزْوَة
الْفَتْح، وَكَانَت غَزْوَة هوَازن بعد الْفَتْح فِي
خَامِس شَوَّال. فَإِن قلت: سَأَلَ قَتَادَة عَن أنس: كم
اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَأجَاب بقوله:
أَربع، وَلَيْسَ فِي حَدِيثه إلاَّ ذكر ثَلَاث؟ قلت: سقط
من هَذِه الرِّوَايَة أَعنِي: رِوَايَة حسان الْمَذْكُورَة
ذكر الْعمرَة الرَّابِعَة، وَلِهَذَا روى البُخَارِيّ بعد
رِوَايَة أبي الْوَلِيد، وفيهَا ذكر الرَّابِعَة، وَهُوَ
قَوْله: (وَعمرَة مَعَ حجَّته) على مَا يَأْتِي عَن قريب،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَكَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق
عبد الصَّمد عَن هِشَام، فَظهر بِهَذَا أَن التَّقْصِير
فِيهِ من حسان شيخ البُخَارِيّ.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: أَيْن الرَّابِعَة؟ قلت:
هِيَ دَاخِلَة فِي الْحَج، لِأَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا متمتع أَو قَارن أَو مُفْرد، وَأفضل
الْأَنْوَاع الْإِفْرَاد. وَلَا بُد فِيهِ من الْعمرَة فِي
تِلْكَ السّنة، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا
يتْرك الْأَفْضَل. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ مَا
ادّعى أَنه الْأَفْضَل مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء،
فَكيف ينْسب فعل ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم؟ انْتهى. قلت: مَا ادّعى الْكرْمَانِي
الْأَفْضَلِيَّة عِنْد الْجَمِيع، وَإِنَّمَا مُرَاده أَن
الْإِفْرَاد أفضل مُطلقًا بِنَاء على زَعمه ومعتقد
إِمَامه، فَلَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْإِنْكَار. وَلَكِن
ترديد الْكرْمَانِي بقوله: إِمَّا متمتع أَو قَارن أَو
مُفْرد؟ غير موجه لأَنهم وَإِن كَانُوا اخْتلفُوا فِيهِ
وَلَكِن أَكْثَرهم على أَفضَلِيَّة الْقرَان. وَكَيف لَا
وَقد تظاهرت الرِّوَايَات وتكاثرت عَن قوم خُصُوصا عَن أنس
بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل فِي الْعمرَة
وَالْحج جَمِيعًا؟ وَهُوَ عين الْقرَان، فَكَانَ أفضل
الْأَنْوَاع القِران. وَقد قَالَ ابْن حزم: سِتَّة عشر من
الثِّقَات اتَّفقُوا على أنس على أَن لفظ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إهلالاً بِحجَّة وَعمرَة
مَعًا. وصرحوا عَن أنس أَنه سمع ذَلِك مِنْهُ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وهم: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، وَأَبُو
قلَابَة، وَحميد الطَّوِيل، وَأَبُو قزعة وثابت
الْبنانِيّ، وَحميد بن هِلَال، وَيحيى بن أبي إِسْحَاق،
وَقَتَادَة، وَأَبُو أَسمَاء، وَالْحسن الْبَصْرِيّ،
وَمصْعَب بن سليم، وَمصْعَب بن عبد الله بن الزبْرِقَان،
وَسَالم بن أبي الْجَعْد، وَأَبُو قدامَة، وَزيد بن أسلم،
وَعلي بن زيد. وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ عَن تِسْعَة
مِنْهُم، وَقد شرحنا جَمِيع ذَلِك فِي شرحنا (شرح مَعَاني
الْآثَار) فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَليرْجع
إِلَيْهِ. وَمن جملَة من أخرج مِنْهُم الطَّحَاوِيّ
رِوَايَة أبي أَسمَاء عَن أنس، قَالَ: حَدثنَا أَبُو
أُميَّة، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن مُوسَى وَابْن نفَيْل،
قَالَا: حَدثنَا أَبُو خَيْثَمَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي
أَسمَاء (عَن أنس، قَالَ: خرجنَا نصرخ بِالْحَجِّ،
فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة أمرنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن نَجْعَلهَا عمْرَة، وَقَالَ: لَو
اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لجعلتها عمْرَة،
وَلَكِنِّي سقت الْهَدْي وقرنت الْحَج وَالْعمْرَة) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَأحمد أَيْضا نَحْو رِوَايَة
الطَّحَاوِيّ، فَهَذَا مُصَرح بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذكر بِلَفْظ: أَنه كَانَ قَارنا، وَوَافَقَ قَوْله
فعله، فَدلَّ قطعا أَن الْقرَان أفضل فَكيف يَدعِي
الْكرْمَانِي وَغَيره مِمَّن نحى نَحوه بِأَن أفضل
الْأَنْوَاع الْإِفْرَاد، وَلَيْسَ مَا وَرَاء عبادان
قَرْيَة، وَالْوُقُوف على حَظّ النَّفس مُكَابَرَة.
9771 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بنُ عَبْدِ
المَلِكِ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتادَةَ قَالَ
سألْتُ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ اعْتَمَرَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ رَدُّوهُ ومِنَ
القَابِلِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَّةِ وعُمْرَةً فِي ذِي
القَعْدَةِ وعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ..
هَذَا بِعَيْنِه هُوَ الحَدِيث الأول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور، وَغير أَنه روى الأول عَن حسان عَن همام،
وروى هَذَا عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، وَفِيه ذكر
الْعُمر الْأَرْبَعَة بِخِلَاف الأول، فَإِن الرَّابِعَة
فِيهِ سَاقِطَة، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَمن الْقَابِل)
أَي: وَمن الْعَام الْقَابِل، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا
أرَاهُ وهما، لِأَن الَّتِي ردُّوهُ فِيهَا هِيَ عمْرَة
الْحُدَيْبِيَة، وَأما الَّتِي من قَابل فَلم يردوه
مِنْهَا، ورد عَلَيْهِ بِأَن كلا مِنْهُمَا كَانَ من
الْحُدَيْبِيَة.
357 - (حَدثنَا هدبة قَالَ حَدثنَا همام وَقَالَ اعْتَمر
أَربع عمر فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي اعْتَمر
(10/114)
مَعَ حجَّته عمرته من الْحُدَيْبِيَة وَمن
الْعَام الْمقبل وَمن الْجِعِرَّانَة حَيْثُ قسم غَنَائِم
حنين وَعمرَة مَعَ حجَّته) هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث
أنس أخرجه عَن هدبة بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال
الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد
الْقَيْسِي مر فِي كتاب الصَّلَاة عَن همام بن يحيى قَوْله
" وَقَالَ اعْتَمر " أَي بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور
وَهُوَ عَن قَتَادَة عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَأخرجه مُسلم عَن هداب بن خَالِد وَهُوَ هدبة الْمَذْكُور
فَقَالَ حَدثنَا هداب بن خَالِد قَالَ حَدثنَا همام قَالَ
حَدثنَا قَتَادَة أَن أنسا أخبرهُ أَن رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمر أَربع عمر
كُلهنَّ فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته
عمْرَة من الْحُدَيْبِيَة وزمن الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي
الْقعدَة وَعمرَة من الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة
وَعمرَة من جعرانة حَيْثُ قسم غَنَائِم حنين فِي ذِي
الْقعدَة وَعمرَة مَعَ حجَّته " قَوْله " أَربع عمر فِي
ذِي الْقعدَة " يَعْنِي كُلهنَّ كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم
ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك عمرته الَّتِي كَانَت مَعَ حجَّته
فَإِنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْحجَّة وَاعْترض ابْن التِّين
فِي هَذَا الْإِسْنَاد فَقَالَ هُوَ كَلَام زَائِد
لِأَنَّهُ عد الْعمرَة الَّتِي مَعَ حجَّته فِي الحَدِيث
فَكيف يستثنيها أَولا وَأجِيب بِأَنَّهُ كَانَ قَالَ فِي
ذِي الْقعدَة مِنْهَا ثَلَاث وَالرَّابِعَة عمرته فِي
حجَّته انْتهى (قلت) لَا إِشْكَال فِيهِ وَلَا هَذَا
الْجَواب بسديد وَإِنَّمَا الْجَواب أَنه اسْتثِْنَاء
صَحِيح لِأَن الِاسْتِثْنَاء بعض مِمَّا يتَنَاوَلهُ صدر
الْكَلَام وَصدر الْكَلَام يشْعر بِأَن عمره الْأَرْبَع
كَانَت فِي ذِي الْقعدَة ثمَّ اسْتثْنى مِنْهُ عمرته
الَّتِي كَانَت مَعَ حجَّته لِأَنَّهَا كَانَت فِي ذِي
الْحجَّة ثمَّ بَين الْأَرْبَع الْمَذْكُورَة بقوله "
عمرته من الْحُدَيْبِيَة " أَي أَولهَا عمرته من
الْحُدَيْبِيَة قَوْله " وَمن الْعَام الْمقبل " أَي
وَالثَّانيَِة عمرته من الْعَام الْمقبل قَوْله " وَمن
الْجِعِرَّانَة " أَي وَالثَّالِثَة من الْجِعِرَّانَة
وَهَذِه الثَّلَاث كَانَت فِي ذِي الْقعدَة قَوْله "
وعمرته مَعَ حجَّته " أَي الرَّابِعَة عمرته الَّتِي
كَانَت مَعَ حجَّته وَكَانَت فِي ذِي الْحجَّة -
1871 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ قَالَ حدَّثنا
شُرَيْحُ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ
يُوسُفَ عنْ أبِيهِ عَنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سألْتُ
مَسْرُوقا وعَطاءً ومجاهِدا فَقالُوا اعْتَمَرَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي القَعْدَةِ قَبلَ أنُ
يَحُجَّ وَقَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ بنَ عَازِبٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي القَعْدَةِ قَبْلَ أنْ
يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة: الأول: أَحْمد بن عُثْمَان بن
حَكِيم بن دِينَار أَبُو عبد الله الأودي، مَاتَ فِي سنة
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: شُرَيْح،
بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن مسلمة،
بِفَتْح الميمين وَاللَّام. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن
يُوسُف بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي
السبيعِي. الرَّابِع: أَبوهُ يُوسُف بن إِسْحَاق.
الْخَامِس: أَبُو إِسْحَاق واسْمه عَمْرو بن عبد الله
السبيعِي. السَّادِس: مَسْرُوق ابْن الأجدع. السَّابِع:
عَطاء بن أبي رَبَاح. الثَّامِن: مُجَاهِد بن جُبَير.
التَّاسِع: الْبَراء بن عَازِب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
السُّؤَال. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن هَؤُلَاءِ كلهم كوفيون إلاَّ عَطاء
ومجاهدا فَإِنَّهُمَا مكيان. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن
الْأَب وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي إِسْحَاق (عَن
الْبَراء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر
فِي ذِي الْقعدَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
قلت: لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على عدد عمره فِي ذِي الْقعدَة،
هَل اعْتَمر فِيهِ مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) .
وروى أَبُو يعلى من حَدِيث أبي إِسْحَاق (عَن الْبَراء
قَالَ: اعْتَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل
أَن يحجّ) ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على عدد عمره، وَلَا
مَا يدل على وَقت عمرته من أَي شهر، وَالصَّحِيح أَن عمره
الثَّلَاث كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، وَقيل: اعْتَمر
مرَّتَيْنِ فِي شَوَّال، وَعمرَة فِي ذِي الْقعدَة.
(10/115)
4 - (بابُ عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل عمْرَة تفعل فِي شهر
رَمَضَان، دلّ على هَذَا حَدِيث البابد فَلهَذَا اقْتصر
على هَذَا اتلقدر من التَّرْجَمَة، وَلم يُصَرح فِيهَا
بِشَيْء، وَقَالَ بَعضهم: لم يُصَرح فِي التَّرْجَمَة
بفضيلة وَلَا غَيرهَا، وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا
رُوِيَ (عَن عَائِشَة، قَالَت: خرجت مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمْرَة فِي رَمَضَان فَأفْطر
وَصمت، وَقصر وَأَتْمَمْت) الحَدِيث، أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ إِسْنَاده حسن، وَقَالَ صَاحب
(الْهَدْي) إِنَّه غلط لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يعْتَمر فِي رَمَضَان، ثمَّ قَالَ هَذَا
الْقَائِل: وَيُمكن حمله على أَن قَوْلهَا فِي رَمَضَان
مُتَعَلق بقولِهَا: خرجت وَيكون المُرَاد سفر فتح مَكَّة،
فَإِنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَان. انْتهى. قلت: هَذَا كُله
تعسف وَتصرف بِغَيْر وَجه بطرِيق تخمين، فَمن قَالَ: إِن
البُخَارِيّ وقف على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور حَتَّى
يُشِير إِلَيْهِ، وَقَوله: وَيُمكن حَملَة إِلَى آخِره
مستبعد جدا لِأَن ذكر الْإِمْكَان هُنَا غير موجه أصلا،
لِأَن قَوْلهَا فِي رَمَضَان يتَعَلَّق بقولِهَا: خرجت
قطعا، فَمَا الْحَاجة فِي ذكر ذَلِك بالإمكان؟ وَلَا
يساعده أَيْضا قَوْله؟ فَإِنَّهُ أَي: فَإِن فتح مَكَّة
كَانَ فِي رَمَضَان فِي اعتذاره عَن البُخَارِيّ فِي
اقْتِصَاره فِي التَّرْجَمَة على قَوْله: عمْرَة فِي
رَمَضَان لِأَن عمرته فِي تِلْكَ السّنة لم تكن فِي
رَمَضَان، بل كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، فَإِنَّهُ أَيْضا
صرح بقوله: وَاعْتمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فِي تِلْكَ السّنة من الْجِعِرَّانَة لَكِن فِي ذِي
الْقعدَة.
2871 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ عنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا يخْبِرُنا يَقُولُ قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإِمْرَأةٍ مِنَ الأنْصَارِ
سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَها مَا مَنَعَكَ
أنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا قالَتْ كانَ لَنَا ناضِحٌ
فَرَكِبَهُ أبُو فُلانٍ وابْنُهُ لِزَوْجِهَا وابْنِهَا
وتَرَكَ ناضِحا نَنْضَحُ علَيْهِ قَالَ فإذَا كانَ
رَمضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فإنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ
حَجَّةٌ أوْ نَحْوا مِمَّا قالَ.
(الحَدِيث 2871 طرفه فِي: 3681) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اعتمري فِيهِ) أَي: فِي
رَمَضَان ... إِلَى آخِره.
وَرِجَاله: قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان،
وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج،
وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن
حَاتِم عَن يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن
مسْعدَة عَن سُفْيَان بن حبيب، وَفِي الصَّوْم عَن عمرَان
بن يزِيد.
قَوْله: (عَن عَطاء) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أَخْبرنِي عَن
عَطاء) . قَوْله: (يخبرنا يَقُول) جملتان وقعتا حَالا، و:
يَقُول، من الْأَحْوَال المترادفة أَو المتداخلة. قَوْله:
(فنسيت اسْمهَا) ، الْقَائِل هُوَ ابْن جريج، قَالَ
شَيخنَا زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَإِنَّمَا
قَالَ ذَلِك مَعَ أَن الذِّهْن لَا يتَبَادَر إلاَّ إِلَى
عَطاء أَنه هُوَ الْقَائِل، لِأَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا
الحَدِيث فِي: بَاب حج النِّسَاء، من طَرِيق حبيب الْمعلم
عَن عَطاء، فسماها. وَلَفظه: (لما رَجَعَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم من حجَّته قَالَ لأم سِنَان
الْأَنْصَارِيَّة: مَا مَنعك من الْحَج؟) الحَدِيث. فَعلم
من هَذَا أَن الْمَرْأَة المبهمة فِي قَوْله (لامْرَأَة من
الْأَنْصَار) هِيَ أم سِنَان الْأَنْصَارِيَّة، وَقد ورد
فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ ذَلِك لأم
سليم، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من رِوَايَة
يَعْقُوب بن عَطاء عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ:
جَاءَت أم سليم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَت: حج أَبُو طَلْحَة وَابْنه، وتركاني، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أم سليم! عمْرَة
فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) . وَيَعْقُوب هَذَا هُوَ ابْن
عَطاء بن أبي رَبَاح، وَفِي تَرْجَمته: روى ابْن عدي هَذَا
الحَدِيث فِي (الْكَامِل) وروى قَول أَحْمد: فِيهِ ضعف،
وَقَول ابْن معِين: ضَعِيف الحَدِيث، وَلَيْسَ بمتروك.
قَوْله: (إِن تحجين مَعنا) ، هَكَذَا هُوَ بالنُّون فِي
رِوَايَة كَرِيمَة، والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا:
(أَن تحجي، بِحَذْف النُّون، وَهَذَا هُوَ الأَصْل، لِأَن:
أَن، ناصبة فتحذف النُّون فِيهِ، وَقيل: كثيرا يسْتَعْمل
بِدُونِ النصب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إلاَّ أَن يعفون أَو
يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} (الْبَقَرَة:
732) . على قِرَاءَة من قَرَأَ بِسُكُون الْوَاو فِي:
يعْفُو، وَكَقَوْلِه: {أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة:
332) . بِالرَّفْع على قِرَاءَة مُجَاهِد. قَوْله:
(نَاضِح) ، بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة
وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: هُوَ الْبَعِير الَّذِي يستقى
عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: الناضح: الْبَعِير أَو الثور
أَو الْحمار الَّذِي يَسْتَقِي عَلَيْهِ، لَكِن المُرَاد
هُنَا الْبَعِير
(10/116)
لتصريحه فِي رِوَايَة بكر بن عبد
الْمُزنِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أبي دَاوُد
بِكَوْنِهِ جملا فَإِن قلت: وَلَو لم يُصَرح بذلك فِي
الحَدِيث، فَإِن المُرَاد بِهِ الْبَعِير، لأَنهم لَا
يستعملون غَالِبا فِي السواقي إلاَّ البعران. قَوْله:
(وَابْنه) أَي: ابْن أبي فلَان. قَوْله: (لزَوجهَا
وَابْنهَا) الضَّمِير فيهمَا يرجع إِلَى الْمَرْأَة
الْمَذْكُورَة من الْأَنْصَار، وَرِوَايَة مُسلم توضح معنى
هَذَا، وَهِي قَوْله: (قَالَت: ناضحان كَانَا لأبي فلَان،
زَوجهَا، حج هُوَ وَابْنه على أَحدهمَا، وَكَانَ الآخر
يسْقِي نخلا لنا) . وَهُوَ معنى قَوْله: (وَترك ناضحا ننضح
عَلَيْهِ) ، بِكَسْر الضَّاد، وَفِي رِوَايَة لمُسلم:
(قَالَت: لم يكن لنا إلاَّ ناضحان، فحج أَبُو وَلَدهَا
وَابْنهَا على نَاضِح، وَترك لنا ناضحا ننضح عَلَيْهِ)
الحَدِيث، قَوْله: (فَإِن عمْرَة فِي رَمَضَان حجَّة)
وارتفاع حجَّة على أَنه خبر ان تَقْدِيره كحجة وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم وَهِي قَوْله: (فَإِن عمْرَة
فِيهِ تعدل حجَّة) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: (فعمرة
فِي رَمَضَان تقضي حجَّة، أَو حجَّة معي) . وَكَأن
البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى هَذَا بقوله: (أَو نَحوا مِمَّا
قَالَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ظَاهره يَقْتَضِي أَن عمْرَة فِي
رَمَضَان تقوم مقَام حجَّة الْإِسْلَام، فَهَل هُوَ
كَذَلِك؟ قلت: مَعْنَاهُ: كحجة الْإِسْلَام فِي الثَّوَاب،
والقرينة الْإِجْمَاع على عدم قِيَامهَا مقَامهَا. وَقَالَ
ابْن خُزَيْمَة: إِن الشَّيْء يشبه بالشَّيْء، وَيجْعَل
عدله إِذا أشبهه فِي بعض الْمعَانِي لَا جَمِيعهَا، لِأَن
الْعمرَة لَا يقْضى بهَا فرض الْحَج، وَلَا النّذر، وَنقل
التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَن معنى هَذَا
الحَدِيث نَظِير مَا جَاءَ أَن {قل هُوَ الله أحد}
(الْإِخْلَاص: 1) . تعدل ثلث الْقُرْآن، وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ: حَدِيث الْعمرَة هَذَا صَحِيح، وَهُوَ فضل من
الله ونعمة، فقد أدْركْت الْعمرَة منزلَة الْحَج بانضمام
رَمَضَان إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ أَن
ثَوَاب الْعَمَل يزِيد بِزِيَادَة شرف الْوَقْت، كَمَا
يزِيد بِحُضُور الْقلب وبخلوص الْقَصْد. وَقيل: يحْتَمل
أَن يكون المُرَاد أَن عمْرَة فَرِيضَة فِي رَمَضَان كحجة
فَرِيضَة، وَعمرَة نَافِلَة فِي رَمَضَان كحجة نَافِلَة،
وَقَالَ ابْن التِّين. قَوْله: (كحجة) ، يحْتَمل أَن يكون
على بَابه، وَيحْتَمل أَن يكون لبركة رَمَضَان، وَيحْتَمل
أَن يكون مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَرْأَة. وَقد قَالَ بعض
الْمُتَقَدِّمين: بِأَنَّهُ مَخْصُوص بِهَذِهِ الْمَرْأَة،
فروى أَحْمد بن منيع فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح عَن
سعيد بن جُبَير عَن امْرَأَة من الْأَنْصَار، يُقَال لَهَا
أم سِنَان: أَنَّهَا أَرَادَت الْحَج، فَذكر الحَدِيث،
وَفِيه: (فَقَالَ سعيد بن جُبَير: وَلَا نعلم لهَذِهِ
الْمَرْأَة وَحدهَا) ، وَوَقع عِنْد أبي دَاوُد من حَدِيث
يُوسُف بن عبد الله بن سَلام عَن أم معقل فِي آخر
حَدِيثهَا: (فَكَانَت تَقول: الْحَج حجَّة وَالْعمْرَة
عمْرَة، وَقد قَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لي، فَمَا أَدْرِي إليَّ خَاصَّة أَو للنَّاس
عَامَّة؟) انْتهى. وَالظَّاهِر حمله على الْعُمُوم.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْأسود بن يزِيد عَن ابْن
أم معقل عَن أم معقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) ، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد من وَجه آخر من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن مهَاجر
(عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أَخْبرنِي رَسُول
مَرْوَان الَّذِي أرسل إِلَى أم معقل، قَالَ: قَالَت أم
معقل: كَانَ أَبُو معقل حَاجا مَعَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا قدم قَالَت أم معقل: قد علمت أَن
عَليّ حجَّة) الحَدِيث، وَفِيه: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل
حجَّة) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة الزُّهْرِيّ
عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن امْرَأَة من بني أَسد
يُقَال لَهَا: أم معقل، فَذكره وَلم يذكر رَسُول مَرْوَان،
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فَجعله من مُسْند أبي معقل، وَلم
يقل عَن أم معقل وَابْن أبي معقل الَّذِي لم يسم فِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ اسْمه معقل كَذَا ورد مُسَمّى فِي
كتاب الصَّحَابَة لِابْنِ مَنْدَه من طَرِيق عبد
الرَّزَّاق عَن الْأَوْزَاعِيّ، عَن يحيى بن أبي كثير عَن
أبي سَلمَة عَن معقل ابْن أبي معقل عَن أم معقل. قَالَت:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عمْرَة فِي
رَمَضَان تعدل حجَّة) ، وَمَعْقِل هَذَا مَعْدُود فِي
الصَّحَابَة من أهل الْمَدِينَة، قَالَ مُحَمَّد بن سعد:
صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَنهُ، وَهُوَ
معقل بن أبي معقل بن نهيك بن أساف بن عدي بن زيد ابْن جشم
بن حَارِثَة، وَقيل: إِن اسْم أبي معقل الْهَيْثَم، وَأم
معقل لم يدر اسْمهَا، وَهِي أسدية من بني أَسد بن
خُزَيْمَة، وَقيل: أنصارية، وَقيل: أشجعية. قَالَ
التِّرْمِذِيّ: بعد أَن روى حَدِيث أم معقل، وَفِي الْبَاب
عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَأنس ووهب بن
خنبش وَيُقَال: هرم ابْن خنبش قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس
فِي البُخَارِيّ وَمُسلم وَقد مر. وَحَدِيث جَابر أخرجه
ابْن مَاجَه عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) . وَحَدِيث أبي
هُرَيْرَة. وَحَدِيث أنس رَوَاهُ أَبُو أَحْمد بن عدي فِي
(الْكَامِل) عَنهُ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (عمْرَة فِي رَمَضَان كحجة معي) وَفِي
إِسْنَاده مقَال. وَحَدِيث وهب بن خنبش
(10/117)
رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان
عَن بَيَان وَجَابِر عَن الشّعبِيّ عَن وهب بن خنبش،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(عمْرَة فِي رَمَضَان تعدل حجَّة) .
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن يُوسُف بن عبد الله بن
سَلام وَأبي طليق وَأم طليق. فَحَدِيث يُوسُف بن عبد الله
أخرجه النَّسَائِيّ عَن حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر، قَالَ:
سَمِعت يُوسُف بن عبد الله بن سَلام قَالَ: (قَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجل من الْأَنْصَار
وَامْرَأَته اعتمرا فِي رَمَضَان: فَإِن عمْرَة فِيهِ
كحجة) . وَحَدِيث أبي طليق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من حَدِيث طلق بن حبيب (عَن أبي طليق: أَن
امْرَأَته أم طليق قَالَت: يَا نَبِي الله {مَا يعدل
الْحَج مَعَك؟ قَالَ: عمْرَة فِي رَمَضَان) . وَحَدِيث أم
طليق رَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي كتاب (معرفَة الصَّحَابَة)
من رِوَايَة أبي كريب، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحِيم بن
سُلَيْمَان عَن الْمُخْتَار بن فلفل عَن طلق بن حبيب (عَن
أبي طليق: أَن امْرَأَته وَهِي أم طليق قَالَت لَهُ، وَله
جمل وناقة: أَعْطِنِي جملك أحج عَلَيْهِ} فَقَالَ: هُوَ
حبيس فِي سَبِيل الله، ثمَّ إِنَّهَا سَأَلت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يعدل الْحَج؟ فَقَالَ:
عمْرَة فِي رَمَضَان) . قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه
الله تَعَالَى: وَيجوز أَن يكون هَذَا الطَّرِيق أَيْضا من
حَدِيث أبي طليق لَا من حَدِيثهَا، وَقد قيل: إِن أم طليق
هِيَ أم معقل، لَهَا كنيتان حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن
بَعضهم فِي تَرْجَمَة أم معقل، وَقَالَ شَيخنَا: وَقد
رَأَيْت فِي كَلَام بَعضهم أَن أم سِنَان الْمَذْكُورَة
فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هِيَ أم معقل هَذِه، قَالَ:
وَفِيه نظر قلت: يُمكن أَن يكون وَجه النّظر مَا قَالَه
بَعضهم أَن أم سِنَان أنصارية، وَأم معقل أسدية، وَلَكِن
قد قيل: إِنَّهَا أنصارية، فعلى هَذَا القَوْل تكون
الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هِيَ أم
عقيل.
5 - (بابُ العُمْرَةِ لَيْلَةَ الحَصْبَةِ وغَيْرِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة الْعمرَة لَيْلَة
الحصبة، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد
الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي
اللَّيْلَة الَّتِي تلِي لَيْلَة النَّفر الْأَخير،
وَالْمرَاد بهَا لَيْلَة الْمبيت بالمحصب. قَوْله:
(وَغَيرهَا) أَي: وَغير لَيْلَة الحصبة، وَأَشَارَ بذلك
إِلَى أَن الْحَاج إِذا تمّ حجه بعد انْقِضَاء أَيَّام
التَّشْرِيق يجوز لَهُ أَن يعْتَمر، وَاخْتلف السّلف فِي
الْعمرَة فِي أَيَّام الْحَج، فروى عبد الرَّزَّاق
بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد، قَالَ: سُئِلَ عمر وَعلي
وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن الْعمرَة
لَيْلَة الحصبة، فَقَالَ عمر: هِيَ خير من لَا شَيْء،
وَقَالَ عَليّ: من مِثْقَال ذرة، وَنَحْوه، وَقَالَت
عَائِشَة: الْعمرَة على قدر النَّفَقَة. انْتهى.
كَأَنَّهَا أشارت بذلك إِلَى أَن الْخُرُوج لقصد الْعمرَة
من الْبَلَد إِلَى مَكَّة أفضل من الْخُرُوج من مَكَّة
إِلَى أدنى الْحل، وَذَلِكَ أَنه يحْتَاج إِلَى نَفَقَة
كَثِيرَة فِي خُرُوجه من بَلَده إِلَى مَكَّة لأجل
الْعمرَة، بِخِلَاف حَالَة خُرُوجه من مَكَّة إِلَى الْحل،
وَعَن عَائِشَة أَيْضا، لِأَن أَصوم ثَلَاثَة أَيَّام أَو
أَتصدق على عشرَة مَسَاكِين أحب إِلَيّ من أَن أعتمر
بِالْعُمْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرت من التَّنْعِيم. وَقَالَ
طَاوُوس فِيمَن اعْتَمر بعد الْحَج: لَا أَدْرِي أيعذبون
عَلَيْهَا أم يؤجرون؟ وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: اعتمرنا
بعد الْحَج، فعاب ذَلِك علينا سعيد بن جُبَير، وَأَجَازَ
ذَلِك آخَرُونَ. وروى ابْن عُيَيْنَة عَن الْوَلِيد بن
هِشَام، قَالَ: سَأَلت أم الدَّرْدَاء عَن الْعمرَة بعد
الْحَج، فأمرتني بهَا. وَسُئِلَ عَطاء عَن عمْرَة
التَّنْعِيم قَالَ هِيَ تَامَّة وتجزيه وَقَالَ الْقَاسِم
بن مُحَمَّد عمْرَة الْمحرم تَامَّة وَقد روى مثل هَذَا
الْمَعْنى قَالَ تمت الْعمرَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم
عَرَفَة والنحر، وَأَيَّام التَّشْرِيق للْحَاج وَغَيره،
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْعمرَة جَائِزَة السّنة كلهَا
إلاَّ يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام
التَّشْرِيق. قلت: فَذهب أَصْحَابنَا أَن الْعمرَة تجوز
فِي جَمِيع السّنة إلاَّ أَنَّهَا تكره فِي الْأَيَّام
الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا تكره فِي
وَقت مَا، وَعند مَالك: تكره فِي أشهر الْحَج.
3871 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا أبُو
مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبيهِ عنْ
عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرجْنَا
معَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَافِينَ
لِهِلالِ ذِي الحِجَّةِ فَقَالَ لَنَا مَنْ أحَبَّ
مِنْكُمْ أنْ يِهِلَّ بِالحَجِّ فَلْيُهِلَّ ومَنْ أحَبَّ
أنْ يِهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بَعُمْرَةٍ فَلَوْلاَ
أنِّي أهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ قالَتْ فَمِنَّا
مَنْ أهَلَّ بَعُمْرَةٍ ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ
وكُنْتُ مِمَّنْ أهَلَّ
(10/118)
بِعُمْرَةٍ فأظَلَّنِي يَوْمَ عَرَفَةَ
وأنَا حَائِضٌ فَشَكَوْتُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقال ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وانْقُضِي رَأسَكِ
وامْتَشِطِي وأَهِلِّي بالحَجِّ فلَمَّا كانَ لَيْلَةُ
الحَصْبَةِ أرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمانِ إِلَى
التَّنْعِيمِ فأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة
الحصبة) إِلَى آخِره، وَهَذَا الحَدِيث قد مر غير مرّة،
وَذكره فِي كتاب الْحيض فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب، وَأَبُو
مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم الضَّرِير الْبَصْرِيّ،
وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة، وَأَبُو عُرْوَة ابْن الزبير
بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (موافين) أَي: مكملين ذَا الْقعدَة مُسْتَقْبلين
لهِلَال ذِي الْحجَّة. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: وافى
فلَان: إِذا أَتَى. وَيُقَال: وفى: إِذا تمّ. وَقد سبق
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى وَعند التَّرْجَمَة
أَيْضا، وَمن حَدِيث الْبَاب اسْتحبَّ مَالك للْحَاج أَن
يعْتَمر حَتَّى تغيب الشَّمْس من آخر أَيَّام التَّشْرِيق،
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كَانَ وعد عَائِشَة
بِالْعُمْرَةِ، وَقَالَ لَهَا: كوني فِي حجك، عَسى الله
أَن يرزقكها، وَلَو اسْتحبَّ لَهَا الْعمرَة فِي أَيَّام
التَّشْرِيق لأمرها بِالْعُمْرَةِ فِيهَا، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي، وَإِنَّمَا كرهت الْعمرَة فِيهَا للْحَاج
خَاصَّة لِئَلَّا يدْخل عملا على عمل، لِأَنَّهُ لم يكمل
عمل الْحَج بعد، وَمن أحرم بِالْحَجِّ فَلَا يحرم
بِالْعُمْرَةِ، لِأَنَّهُ لَا تُضَاف الْعمرَة إِلَى
الْحَج عِنْد مَالك وَطَائِفَة من الْعلمَاء. وَأما من
لَيْسَ بحاج فَلَا يمْنَع من ذَلِك. فَإِن قلت: قد روى
أَبُو مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن
عَائِشَة فِي هَذَا الْبَاب: (وَكنت مِمَّن أهلَّ
بِعُمْرَة) ، وروى مثله يحيى الْقطَّان عَن هِشَام فِي
الْبَاب بعد هَذَا وَهَذَا بِخِلَاف مَا تقدم عَن عَائِشَة
أَنَّهَا أهلت بِالْحَجِّ. قلت: أَحَادِيث عَائِشَة قد
أشكلت على الْأَئِمَّة قَدِيما، فَمنهمْ من جعل
الِاضْطِرَاب فِيهَا من قبلهَا، وَمِنْهُم من جعله من قبل
الروَاة عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى غير
مرّة.
6 - (بابُ عُمْرَةِ التنْعِيمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعمرَة من التَّنْعِيم: هَل
يتَعَيَّن لمن كَانَ بِمَكَّة أم لَا؟ وَإِذا لم يتَعَيَّن
هَل لَهَا فضل على الاعتمار من غَيرهَا من جِهَات الْحل
أَو لَا؟ وَتَفْسِير التَّنْعِيم مر غير مرّة.
4871 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفيانُ عَنْ عَمْرٍ وسَمِعَ عَمْرَو بنَ أوْسٍ أنَّ
عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ أخبرهُ أنَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أمَرَهُ أنْ يُرْدِفَ عائِشَةَ ويُعْمِرَهَا مِنَ
التَّنْعِيمِ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً سَمِعْتُ عَمْرا
كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَمْرٍ و.
(الحَدِيث 4871 طرفه فِي: 5892) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويعمرها من
التَّنْعِيم) ، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن
الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو
هُوَ ابْن دِينَار، وَعَمْرو بن أَوْس، بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره سين مُهْملَة، الثَّقَفِيّ
الْمَكِّيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه
مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد ابْن
عبد الله بن نمير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى وَمُحَمّد بن
يحيى بن أبي عَمْرو. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي
قدامَة عبيد الله بن سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه، رَحمَه
الله تَعَالَى فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي
إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن يردف) أَي: بِأَن يردف،
وَأَن، مَصْدَرِيَّة أَي: بالإرداف، وَمَعْنَاهُ أمره أَن
يركب عَائِشَة أُخْته وَرَاءه على نَاقَته. قَوْله:
(ويعمرها) ، بِضَم الْيَاء من الإعمار، أَي: وَأَن يعمرها،
وَقَالَ بَعضهم: ويعمرها من التَّنْعِيم، مَعْطُوف على
قَوْله: (أمره أَن يردف) ، وَهَذَا يدل على أَن إعمارها من
التَّنْعِيم كَانَ بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قلت: هَذَا كَلَام عَجِيب، لِأَن كَون عطف: يعمرها
على قَوْله: يردف لَا يشك فِيهِ أحد وَلَا نزاع فِيهِ.
وَقَوله: وَهَذَا يدل على أَن إعمارها من التَّنْعِيم،
كَأَن بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعجب من
ذَاك، لِأَن قَوْله: (ويعمرها) دَاخل فِي حكم: أَن يردف
بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيكون
قَوْله: يعمرها أَيْضا بِأَمْر رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا صَرِيح، وَلم يكتف هَذَا
الْقَائِل بِهَذَا حَتَّى قَالَ: وأصرح مِنْهُ
(10/119)
مَا أخرجه أَبُو اود من طَرِيق حَفْصَة بنت
عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر عَن أَبِيهَا: (أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يَا عبد الرَّحْمَن، أرْدف
أختك عَائِشَة، فأعمرها من التَّنْعِيم) الحَدِيث. قَوْله:
(سَمِعت عمرا) إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن فِيهِ ثُبُوت
السماع صَرِيحًا بِخِلَاف الَّذِي فِي السَّنَد
الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ مُعَنْعَن حَيْثُ قَالَ سُفْيَان:
عَن عَمْرو، مَعَ أَن جَمِيع معنعنات البُخَارِيّ
مَحْمُولَة على السماع. وَوَقع عِنْد الْحميدِي عَن
سُفْيَان، حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ سُفْيَان:
هَذَا مِمَّا يعجب شُعْبَة، يَعْنِي التَّصْرِيح بالإخبار
فِي جَمِيع الْإِسْنَاد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْمُعْتَمِر
الْمَكِّيّ لَا بُد لَهُ من الْخُرُوج إِلَى الْحل ثمَّ
يحرم مِنْهُ، وَإِنَّمَا عين التَّنْعِيم هُنَا دون
الْمَوَاضِع الَّتِي خَارج الْحرم لِأَن التَّنْعِيم أقرب
إِلَى الْحل من غَيرهَا. وَفِي (التَّوْضِيح) : ويجزىء أقل
الْحل وَهُوَ التَّنْعِيم، وأفضله عندنَا الْجِعِرَّانَة،
ثمَّ الْحُدَيْبِيَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَذهب قوم
إِلَى أَن الْعمرَة لمن كَانَ بِمَكَّة لَا وَقت لَهَا غير
التَّنْعِيم، وَجعلُوا التَّنْعِيم خَاصَّة وقتا لعمرة أهل
مَكَّة. وَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لَهُم أَن يُجَاوِزُوهُ،
كَمَا لَا يَنْبَغِي لغَيرهم أَن يجاوزوا ميقاتا وقته
لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَخَالفهُم
فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: الْوَقْت لأهل مَكَّة
الَّذِي يحرمُونَ مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ الحِلّ فَمن أَي
الْحل أَحْرمُوا أجزاهم ذَلِك، والتنعيم وَغَيره عِنْدهم
فِي ذَلِك سَوَاء، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قد يجوز أَن
يكون، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قصد إِلَى التَّنْعِيم فِي
ذَلِك لقُرْبه لَا أَن غَيره لَا يجزىء، وَقد رُوِيَ من
حَدِيث عَائِشَة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ
لعبد الرَّحْمَن: (إحمل أختك فأخرجها من الْحرم) . قَالَت:
وَالله مَا ذكر الْجِعِرَّانَة وَلَا التَّنْعِيم، فَكَانَ
أدنى مَا فِي الْحرم التَّنْعِيم، فَأَهْلَلْت بِعُمْرَة،
فَأخْبرت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْصد إلاَّ
الْحل لَا موضعا معينا، وَقصد التَّنْعِيم لقُرْبه، فَثَبت
أَن وَقت أهل مَكَّة لعمرتهم هُوَ الْحل، وَهُوَ قَول أبي
حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ. وَمن ذَلِك: مَا
اسْتدلَّ بِهِ على أَن أفضل جِهَات الْحل التَّنْعِيم، ورد
بِأَن إِحْرَام عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من
التَّنْعِيم إِنَّمَا وَقع لكَونه أقرب جِهَات الْحل إِلَى
الْحرم، كَمَا ذكرنَا، لَا أَنه الْأَفْضَل. وَمن ذَلِك:
جَوَاز الْخلْوَة بالمحارم سفرا أَو حضرا، وإرداف الْمحرم
لمحرمه مَعَه. فَافْهَم.
5871 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا
عَبدُ الوَهَّابِ بنُ عَبْدِ المَجِيدِ عنْ حَبيبٍ
المُعَلِّمِ عنْ عَطاءٍ قَالَ حدَّثني جابِرُ بنُ عَبْدِ
الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أهَلَّ وأصْحَابُهُ بالحَجِّ ولَيْسَ مَعَ
أحَدٍ مِنْهُمْ هَديٌ غيْرَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وطَلْحَةَ وكانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنَ اليَمَنِ
ومَعَهُ الهَدْيُ فَقالَ أهْلَلْتُ بِما أَهَلَّ بِهِ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَّ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أذِنَ لأِصْحَابِهِ أنْ يَجْعَلُوهَا
عُمْرَةً يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا
ويَحِلُّوا إلاَّ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيِ فقَالُوا
نَنْطَلِقُ إِلَى مِنىً وذَكَرُ أحَدِنا يَقْطُرُ فبَلَغَ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ
مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ ولَوْلاَ
أنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ وأنَّ عائِشَةَ حاضَتْ
فَنَسَكَتْ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أنَّهَا لَمْ
تَطُفْ بِالبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طهُرَتْ وطافَتْ قالَتْ
يَا رَسُولَ الله أتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ
وأنْطَلِقُ بِالحَجِّ فأمَرَ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي
بَكْرٍ أنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ
فاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ فِي ذِي الحَجَّةِ وأنَّ
سُرَاقَةَ بنَ مَالِكٍ بنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ بالعَقَبةِ وهْوَ يَرْمِيهَا
فَقَالَ ألَكُمْ هاذِهِ خَاصَّةً يَا رسولَ الله قَالَ لاَ
بَلْ لِلأبَدِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمر عبد الله بن أبي
بكر أَن يخرج مَعهَا إِلَى التَّنْعِيم) ، وَرِجَاله قد
ذكرُوا غير مرّة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح
الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّمَنِّي عَن
الْحسن بن عمر هُوَ ابْن شَقِيق عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن
عَطاء، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج أَيْضا عَن أَحْمد
بن حَنْبَل عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ.
قَوْله: (وَطَلْحَة) هُوَ ابْن عبيد الله بن عُثْمَان
التَّيْمِيّ الْقرشِي الْمدنِي أَبُو مُحَمَّد، أحد
الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، وَهُوَ عطف على النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: وَغير طَلْحَة، وَالْحَاصِل
أَنه لم يكن هدي إلاَّ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَمَعَ طَلْحَة فَقَط، فَإِن قلت: مَا تَقول فِيمَا
رَوَاهُ أَحْمد وَمُسلم وَغَيرهمَا
(10/120)
من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن
أَبِيه (عَن عَائِشَة: إِن الْهَدْي كَانَ مَعَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر وَذَوي
الْيَسَار) ؟ وروى البُخَارِيّ أَيْضا، على مَا سَيَأْتِي،
من طَرِيق أَفْلح عَن الْقَاسِم بِلَفْظ: (وَرِجَال من
أَصْحَابه ذَوي قُوَّة) ، الحَدِيث. وَهَذَا يُخَالف مَا
رَوَاهُ جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ قلت:
التَّوْفِيق بَينهمَا بِأَن يحمل على أَن كلا مِنْهُمَا قد
ذكر مَا شَاهده واطلع عَلَيْهِ، وَقد روى مُسلم أَيْضا من
طَرِيق مُسلم القري، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء، عَن
ابْن عَبَّاس فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ طَلْحَة مِمَّن
سَاق الْهَدْي فَلم يحل، وَهَذَا يشْهد لحَدِيث جَابر فِي
ذكر طَلْحَة فِي ذَلِك، وَيشْهد أَيْضا لحَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي أَن طَلْحَة لم ينْفَرد
بذلك، وداخل فِي قَوْلهَا (وَذَوي الْيَسَار) ، وروى مُسلم
أَيْضا من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر أَن الزبير كَانَ
مِمَّن كَانَ مَعَه هدي. قَوْله: (وَكَانَ على قدم من
الْيمن) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عَن عَطاء عِنْد مُسلم
(من سعايته) . قَوْله: (وَمَعَهُ الْهَدْي) جملَة وَقعت
حَالا. قَوْله: (أَهلَلْت بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله ت) ،
ويروى (بِمَا أهل بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عَن عَطاء عَن جَابر وَعَن
ابْن جريج عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذَا
الحَدِيث عِنْد البُخَارِيّ فِي الشّركَة: (فَقَالَ
أَحدهمَا يَقُول: لبيْك بِمَا أهل بِهِ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الآخر: لبيْك بِحجَّة رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمره أَن يُقيم على
إِحْرَامه وإشراكه فِي الْهَدْي) وَقد مضى بَيَان ذَلِك
فِي: بَاب من أهل فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بإهلال النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أذن لأَصْحَابه
أَن يجعلوها عمْرَة) ، زَاد ابْن جريج عَن عَطاء فِيهِ
(وأصيبوا النِّسَاء. قَالَ عَطاء: وَلم يعزم عَلَيْهِم،
وَلَكِن أحلهن لَهُم) يَعْنِي إتْيَان النِّسَاء، لِأَن من
لَازم الْإِحْلَال إِبَاحَة إتْيَان النِّسَاء، وَقد مضى
الْبَحْث فِيهِ فِي آخر: بَاب التَّمَتُّع وَالْقرَان.
قَوْله: (أَن يجعلوها) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى
الْحَج فِي قَوْله: (أهلَّ وَأَصْحَابه بِالْحَجِّ) إِلَّا
أَنه أنثه بِاعْتِبَار الْحجَّة. قَوْله: (يطوفوا
بِالْبَيْتِ) . قَوْله: (ثمَّ يقصروا) عطف على: (يطوفوا)
وَقَوله: (ويحلوا) عطف على مَا قبله إِلَّا من كَانَ مَعَه
الْهَدْي، فَلَا يحل. وَفِي رِوَايَة مُسلم، (قَالَ عَطاء:
قَالَ جَابر: فَقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صبح
رَابِعَة مَضَت من ذِي الْحجَّة فَأمرنَا أَن نحل. قَالَ
عَطاء: قَالَ: حلوا وأصيبوا النِّسَاء. قَالَ عَطاء: وَلم
يعزم عَلَيْهِم وَلَكِن أحلهن لَهُم، فَقُلْنَا: لما لم
يكن بَيْننَا وَبَين عَرَفَة إلاَّ خمس أمرنَا أَن نفضي
إِلَى نسائنا فنأتي عَرَفَة تقطر مذاكيرنا بالمني، قَالَ:
يَقُول جَابر بِيَدِهِ: كَأَنِّي أنظر إِلَى قَوْله
بِيَدِهِ يحركها، قَالَ: فَقَامَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِينَا فَقَالَ: قد علمْتُم أَنِّي
أَتْقَاكُم لله وأصدقكم وأبركم، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحللت
كَمَا تحِلُّونَ، وَلَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا
اسْتَدْبَرت لم أسق الْهَدْي، فحلوا. فَحَلَلْنَا
وَسَمعنَا وأطعنا) الحَدِيث. قَوْله: (فَقَالُوا) أَي:
أَصْحَابه. قَوْله: (وَذكر أَحَدنَا يقطر) جملَة حَالية
أَي: يقطر بالمني، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَنَّهُ شقّ
عَلَيْهِم أَن يحلوا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم محرم، وَلم يعجبهم أَن يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم عَن
نَفسه ويتركوا الِاقْتِدَاء بِهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ
ولعلهم إِنَّمَا شقّ عَلَيْهِم لإفضائهم إِلَى النِّسَاء
قبل انْقِضَاء الْمَنَاسِك. قَوْله: (فَبلغ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بلغه مَا قَالُوا من القَوْل
الْمَذْكُور. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تطييبا لقُلُوبِهِمْ: (لَو اسْتقْبلت
من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا أهديت) ، أَي: لَو علمت
فِي الأول مَا علمت فِي الآخر مَا سقت الْهَدْي وأحللت
وتمتعت، والمقدمة الأولى لِلتَّمَنِّي عَمَّا فَاتَ،
وَالثَّانيَِة لحكم الْحَال، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أَي
لَو عنَّ لي هَذَا الرَّأْي الَّذِي رَأَيْته آخرا لأمرتكم
بِهِ فِي أول أَمْرِي. قَوْله: (وَأَن عَائِشَة حَاضَت) ،
عطف على أَن الْمَذْكُورَة فِي أول الحَدِيث، وَكَانَ
حَيْضهَا بسرف قبل دُخُولهمْ مَكَّة، وَفِي رِوَايَة مُسلم
عَن أبي الزبير (عَن جَابر: أَن دُخُول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا وشكواها ذَلِك لَهُ كَانَ يَوْم
التَّرويَة) . وروى مُسلم أَيْضا من طَرِيق مُجَاهِد عَن
عَائِشَة أَن طهرهَا كَانَ بِعَرَفَة، وَفِي رِوَايَة
الْقَاسِم عَنْهَا: (وطهرت صَبِيحَة لَيْلَة عَرَفَة حِين
قدمنَا منى) ، وَله من طَرِيق آخر: (فَخرجت فِي حجتي
حَتَّى نزلنَا منى فتطرهت ثمَّ طفنا بِالْبَيْتِ. .)
الحَدِيث، واتفقت الرِّوَايَات كلهَا على أَنَّهَا طافت
طواف الْإِفَاضَة يَوْم النَّحْر. قَوْله: (وَأَن سراقَة)
، عطف على أَن الَّتِي قبله، وسراقة، بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالقاف: ابْن مَالك بن
جعْشم، بِضَم الْجِيم والشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين
بَينهمَا: الْكِنَانِي المدلجي، مر فِي: بَاب من أهلَّ فِي
زمن النَّبِي
(10/121)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَهُوَ
بِالْعقبَةِ) جملَة حَالية أَي: وَالنَّبِيّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بعقبة منى. قَوْله: (وَهُوَ يرميها)
جملَة حَالية أَيْضا أَي: وَالنَّبِيّ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة. قَوْله: (فَقَالَ) أَي:
سراقَة. قَوْله: (ألكم هَذِه؟) أَي: هَذِه الفعلة، وَهِي
جعل الْحَج عمْرَة أَو الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، وَالْألف
فِي: (ألكم؟) للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، أَرَادَ أَن
هَذِه الفعلة مَخْصُوصَة بكم فِي هَذِه السّنة أَو لكم
ولغيركم أبدا؟ فَأجَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بقوله: (لِلْأَبَد) وَفِي رِوَايَة يزِيد بن زُرَيْع (لنا
هَذِه خَاصَّة؟) وَفِي رِوَايَة جَعْفَر عِنْد مُسلم:
(فَقَامَ سراقَة فَقَالَ: يَا رَسُول الله {ألعامنا هَذَا
أم لِلْأَبَد؟ فشبك أَصَابِعه وَاحِدَة فِي الْأُخْرَى،
وَقَالَ: دخلت الْعمرَة فِي الْحَج، مرَّتَيْنِ لَا بل
لأبد الْأَبَد) .
وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي مَعْنَاهُ على
أَقْوَال: أَصَحهَا، وَبِه قَالَ جمهورهم: مَعْنَاهُ أَن
الْعمرَة يجوز فعلهَا فِي أشهر الْحَج. الثَّانِي:
مَعْنَاهُ جَوَاز القِران، وَتَقْدِير الْكَلَام دخلت
أَفعَال الْعمرَة فِي أَفعَال الْحَج إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة. وَالثَّالِث: تَأْوِيل بعض الْقَائِلين بِأَن
الْعمرَة لَيست وَاجِبَة، قَالُوا: مَعْنَاهُ سُقُوط
الْعمرَة، وَمعنى دُخُولهَا فِي الْحَج سُقُوط وُجُوبهَا،
وَهَذَا ضَعِيف أَو بَاطِل، وَسِيَاق الحَدِيث يَقْتَضِي
بُطْلَانه. وَالرَّابِع: تَأْوِيل بعض أهل الظَّاهِر أَن
مَعْنَاهُ جَوَاز فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَهَذَا
أَيْضا ضَعِيف، ورد هَذَا بِأَن سِيَاق السُّؤَال يُقَوي
هَذَا التَّأْوِيل، بل الظَّاهِر أَن السُّؤَال وَقع عَن
الْفَسْخ، وَفِيه نظر.
وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا
الْفَسْخ هَل هُوَ خَاص للصحابة تِلْكَ السّنة خَاصَّة أم
بَاقٍ لَهُم ولغيرهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَيجوز لكل
من أحرم بِحَجّ وَلَيْسَ مَعَه هدي أَن يقلب إِحْرَامه
عمْرَة ويتحلل بأعمالها؟ وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأَبُو حنيفَة وجماهير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف:
هُوَ مُخْتَصّ بهم فِي تِلْكَ السّنة، لَا يجوز بعْدهَا،
وَإِنَّمَا أمروا بِهِ تِلْكَ السّنة ليخالفوا مَا كَانَت
عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من تَحْرِيم الْعمرَة فِي أشهر
الْحَج. وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ للجماهير حَدِيث أبي ذَر
الَّذِي رَوَاهُ مُسلم كَانَت فِي الْحَج لأَصْحَاب
مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَاصَّة يَعْنِي: فسخ
الْحَج إِلَى الْعمرَة، وروى النَّسَائِيّ عَن الْحَارِث
بن بِلَال عَن أَبِيه، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله} فسخ
الْحَج لنا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟ فَقَالَ: بل لنا
خَاصَّة) . وَأما الَّذِي فِي حَدِيث سراقَة (ألعامنا
هَذَا أم لِلْأَبَد؟ . فَقَالَ: لَا بل لِلْأَبَد) .
فَمَعْنَاه جَوَاز الاعتمار فِي أشهر الْحَج وَالْقرَان
كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور جَوَاز التَّمَتُّع
وَتَعْلِيق الْإِحْرَام بِإِحْرَام الْغَيْر، وَجَوَاز
قَول: لَو، فِي التأسف على فَوَات أُمُور الدّين،
والمصالح. وَأما الحَدِيث فِي: أَن لَو تفتح عمل
الشَّيْطَان، فَمَحْمُول على التأسف فِي حظوظ الدُّنْيَا.
7 - (بابُ الاعْتِمَارِ بَعْدَ الحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الاعتمار فِي
أشهر الْحَج بعد الْفَرَاغ من الْحَج بِغَيْر هدي يلْزمه.
6871 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا
يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشامٌ قَالَ أخْبَرَنِي أبي قَالَ
أخْبَرَتْنِي عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ
خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُوَافِينَ لِهِلاَلٍ ذِي الحَجَّةِ فَقَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أحَبَّ أنْ يُهِلَّ
بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ ومَنْ أحَبَّ أنْ يِهِلَّ
بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ ولَوْلاَ أنِّي أهْدَيْتُ
لأَهْلَلْتِ بِعُمْرَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ
ومِنْهُمْ منْ أهَلَّ بِحَجَّةٍ وكُنْتُ مِمَّنْ أهَلَّ
بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْلَ أنْ أدْخُلَ مَكَّةَ
فأدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وأنَا حَائِضٌ فَشَكَوْتُ
إلَى رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ دَعي
عُمْرَتَكِ وانْقضِي رَأْسَكِ وامْتَشِطِي وأهِلِّي
بالحَجِّ ففَعَلْتُ فَلَمَّا كانَتْ لَيْلَة الحَصْبَةِ
أرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمانِ إلَى التَّنْعِيمِ
فأرْدَفَهَا فأهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتها
فقَضَى الله حَجَّهَا وعُمْرَتَها ولَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ
مِنْ ذالِكَ هَدْيٌ ولاَ صَدَقَةٌ ولاَ صَوْمٌ.
.
(10/122)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأهلت
بِعُمْرَة) إِلَى آخر الحَدِيث.
وَهَذَا الحَدِيث قد أخرجه فِي مَوَاضِع خُصُوصا بِعَين
هَذَا الْمَتْن فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب نقض الْمَرْأَة
شعرهَا عِنْد غسل الْمَحِيض، عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن
أبي أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَأخرجه
أَيْضا فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَهُوَ: بَاب امتشاط
الْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض، عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة
عَن عَائِشَة، وَفِي: بَاب كَيفَ تهل الْحَائِض بِالْحَجِّ
وَالْعمْرَة، عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن
ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي
كتاب الْحَج فِي: بَاب إِذا حَاضَت الْمَرْأَة بَعْدَمَا
أفاضت، عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور
عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا
فِي: بَاب الْعمرَة لَيْلَة الحصبة، عَن مُحَمَّد بن سَلام
عَن أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،
وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب عمْرَة الْقَضَاء عَن مُحَمَّد
بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن حبيب الْمعلم عَن عَطاء
عَن جَابر، وَفِيه قصَّة عَائِشَة، وَأخرجه عَن مُحَمَّد
بن الْمثنى عَن يحيى الْقطَّان عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن
أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة، وَقد
مر الْكَلَام فِي هَذِه الطّرق كلهَا مُسْتَوفى، ولنذكر
بعض شَيْء من ذَلِك.
قَوْله: (موافين لهِلَال ذِي الْحجَّة) ، أَي: قرب طلوعه،
وَقد مضى أَنَّهَا قَالَت: (خرجنَا لخمس بَقينَ من ذِي
الْقعدَة) وَالْخمس قريبَة من آخر الشَّهْر فوافاهم
الْهلَال وهم فِي الطَّرِيق لأَنهم دخلُوا مَكَّة فِي
الرَّابِع من ذِي الْحجَّة. قَوْله: (لأهللت بِعُمْرَة) ،
وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: (لأحللت) ، بِالْحَاء
الْمُهْملَة أَي: بِحَجّ. قَوْله: (فأردفها) ، فِيهِ
الْتِفَات لِأَن الأَصْل أَن يُقَال: فاردفني. قَوْله:
(مَكَان عمرتها) ، يَعْنِي مَكَان عمرتها الَّتِي أَرَادَت
أَن تكون مُنْفَرِدَة عَن الْحَج. قَوْله: (فَقضى الله
حجتها وعمرتها) إِلَى آخِره، قيل: الظَّاهِر أَن ذَلِك من
قَول عَائِشَة، لَكِن صرح فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب نقض
الْمَرْأَة شعرهَا فِي آخر هَذَا الحَدِيث، قَالَ هِشَام:
وَلم يكن فِي شَيْء من ذَلِك هدي وَلَا صَوْم وَلَا
صَدَقَة. وَقَالَ ابْن بطال: قَوْله: (فَقضى الله حَجهَا)
إِلَى آخِره، لَيْسَ من قَول عَائِشَة، وَإِنَّمَا هُوَ من
كَلَام هِشَام بن عُرْوَة، حدث بِهِ هَكَذَا فِي الْعرَاق.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَلم يذكر ذَلِك أحد غَيره،
وَلَا يَقُوله الْفُقَهَاء، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا أَن
عَائِشَة لم تكن قارنة، إِذْ لَو كَانَت قارنة لوَجَبَ
عَلَيْهَا الْهَدْي للقران. وَأجِيب: بِأَن هَذَا
الْكَلَام مدرج من قَول هِشَام، كَأَنَّهُ نفى ذَلِك
بِحَسب علمه، وَلَا يلْزم من ذَلِك نَفْيه فِي نفس
الْأَمر، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: معنى قَوْله: (لم يكن
فِي شَيْء من ذَلِك هدي) أَي: فِي تَركهَا لعمل الْعمرَة
الأولى وإدراجها لَهَا فِي الْحَج وَلَا فِي عمرتها
الَّتِي اعتمرتها من التَّنْعِيم أَيْضا. انْتهى. قلت:
لِأَن عمرتها بعد انْقِضَاء الْحَج، وَلَا خلاف بَين
الْعلمَاء أَن من اعْتَمر بعد انْقِضَاء الْحَج وَخُرُوج
أَيَّام التَّشْرِيق أَنه لَا هدي عَلَيْهِ فِي عمرته،
لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتمتع، وَإِنَّمَا الْمُتَمَتّع من
اعْتَمر فِي أشهر الْحَج وَطَاف للْعُمْرَة قبل الْوُقُوف،
وَأما من اعْتَمر بعد يَوْم النَّحْر، فقد وَقعت عمرته فِي
غير أشهر الْحَج، فَلذَلِك ارْتَفع حكم الْهَدْي عَنْهَا
فَإِن قلت: الصَّحِيح من قَول مَالك أَن أشهر الْحَج:
شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر لَيَال من ذِي الْحجَّة،
وَمَعَ هَذَا لم يكن عَلَيْهَا هدي فِي حَجهَا؟ قلت:
لِأَنَّهَا كَانَت مُفْردَة، على مَا رُوِيَ عَنْهَا
الْقَاسِم وَعُرْوَة، وَلم يَأْخُذ بذلك مَالك، بل كَانَت
عِنْده قارنة ولزمها لذَلِك هدي القِران، وَلم يَأْخُذ
أَبُو حنيفَة أَيْضا بذلك لِأَنَّهَا كَانَت عِنْده رافضة
لعمرتها، والرافضة عِنْده عَلَيْهَا دم للرفض، وَعَلَيْهَا
عمر. وَالله المتعال أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
8 - (بابُ أجْرِ العُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن أجر الْعمرَة على قدر
النصب، بِفَتْح النُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة: أَي
التَّعَب.
7871 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ
زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنِ القَاسِمِ بنِ
مُحَمَّدٍ وعنِ ابنِ عَوْنٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ
قالاَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا يَا
رسولَ الله يَصْدُرُ النَّاسُ بنُسُكَيْنِ وأصْدُرُ
بنُسُكٍ فَقيلَ لَهَا انْتَظِرِي فإذَا طَهُرْتِ فاخْرُجِي
إلَى التَّنْعِيمِ فأهِلِّي ثُمَّ ائتِينَا بِمَكَانِ كذَا
وكَذَا ولَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أوْ نَصَبكِ.
.
(10/123)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث.
وَأخرجه من طَرِيقين. أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن يزِيد بن
زُرَيْع الْعَبْسِي الْبَصْرِيّ عَن عبد الله بن عون بن
أرطبان الْبَصْرِيّ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر
الصّديق عَن عَائِشَة. وَالْآخر: عَن مُسَدّد عَن يزِيد
ابْن زُرَيْع عَن عبد الله بن عون عَن إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ عَن الْأسود النَّخعِيّ عَن عَائِشَة. وَأخرجه
مُسلم حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة. قَالَ: حَدثنَا
ابْن علية عَن ابْن عون عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن
أم الْمُؤمنِينَ، وَعَن الْقَاسِم (عَن أم الْمُؤمنِينَ
قَالَت: قلت يَا رَسُول الله! يصدر النَّاس بنسكين وأصدر
بنسكٍ واحدٍ؟ قَالَ: انتظري فَإِذا طهرت فاخرجي إِلَى
التَّنْعِيم فأهلي مِنْهُ، ثمَّ ألقينا عِنْد كَذَا
وَكَذَا، قَالَ: أَظُنهُ قَالَ: غَدا، وَلكنهَا على قدر
نصبك أَو نَفَقَتك) . وَحدثنَا ابْن الْمثنى، قَالَ:
حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن ابْن عون عَن الْقَاسِم
وَإِبْرَاهِيم، قَالَ: لَا أعرف حَدِيث أَحدهمَا من الآخر،
إِن أم الْمُؤمنِينَ قَالَت: يَا رَسُول الله يصدر النَّاس
بنسكين ... فَذكر الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْحَج أَيْضا عَن أَحْمد بن منيع عَن إِسْمَاعِيل بن علية
عَنهُ بالإسنادين جَمِيعًا عَن أم الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ:
لَا أحفظ حَدِيث هَذَا من حَدِيث هَذَا. وَعَن الْحسن بن
مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي عَن حُسَيْن بن حسن عَن ابْن عون
عَن الْقَاسِم وَإِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا، عَن أم
الْمُؤمنِينَ، وَلم يذكر الْأسود.
قَوْله: (قَالَا) أَي: الْقَاسِم وَالْأسود. قَوْله: (يصدر
النَّاس) ، أَي: يرجع النَّاس، من الصُّدُور وَهُوَ
الرُّجُوع، وَفعله من بَاب نصر ينصر. قَوْله: (بنسكين)
أَي: بِحجَّة وَعمرَة. قَوْله: (وأصدر بنسك؟) أَي: وأرجع
أَنا بِحجَّة. قَوْله: (فَقيل لَهَا) أَي: لعَائِشَة،
ويروى: (فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
. قَوْله: (فَإِذا طهرت) ، بِضَم الْهَاء وَفتحهَا.
قَوْله: (ثمَّ ائتينا) ، بِصِيغَة الْمُؤَنَّث من
الْإِتْيَان، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ ألقينا) كَمَا
مر. قَوْله: (بمَكَان كَذَا وَكَذَا) ، وَأَرَادَ بِهِ
الأبطح، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: بِحَبل كَذَا)
، بِالْحَاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَرِوَايَة غَيره
بِالْجِيم. قَوْله: (وَلكنهَا) أَي: وَلَكِن عمرتك على قدر
نَفَقَتك أَو نصبك أَي: أَو على قدر نصبك، أَي: تعبك.
وَكلمَة أَو، إِمَّا للتنويع فِي كَلَام الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو شكّ من الرَّاوِي، وَقد روى
فِيهِ مَا يدل على كل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ، فَيدل على
أَنَّهَا للشَّكّ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا من
طَرِيق أَحْمد بن منيع عَن إِسْمَاعِيل: (على قدر نصبك أَو
على قدر تعبك) . وَفِي رِوَايَة لَهُ من طَرِيق حُسَيْن بن
حسن: (على قدر نَفَقَتك أَو نصبك) . أَو كَمَا قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيدل على أَنَّهَا
للتنويع مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم من
طَرِيق هشيم عَن ابْن عون بِلَفْظ: (إِن لَك من الْأجر على
قدر نصبك ونفقتك) ، بواو الْعَطف، ثمَّ معنى هَذَا
الْكَلَام أَن الثَّوَاب فِي الْعِبَادَة يكثر بِكَثْرَة
النصب وَالنَّفقَة.
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: هَذَا لَيْسَ بمطرد، فقد تكون
بعض الْعِبَادَة أخف من بعض، وَهِي أَكثر فضلا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَان كقيام لَيْلَة الْقدر
بِالنِّسْبَةِ لقِيَام ليَالِي من رَمَضَان غَيرهَا.
وبالنسبة للمكان كَصَلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِد
الْحَرَام بِالنِّسْبَةِ لصَلَاة رَكْعَات فِي غَيره.
وبالنسبة إِلَى شرف الْعِبَادَة الْمَالِيَّة والبدنية
كَصَلَاة الْفَرِيضَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكثر من عدد
ركعاتها أَو من قرَاءَتهَا، وَنَحْو ذَلِك من صَلَاة
النَّافِلَة، وكدرهم من الزَّكَاة بِالنِّسْبَةِ إِلَى
أَكثر مِنْهُ من التَّطَوُّع. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي
ذكره لَا يمْنَع الإطراد، لِأَن الْكَثْرَة الْحَاصِلَة
فِي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَيست من ذَاتهَا،
وَإِنَّمَا هِيَ بِحَسب مَا يعرض لَهَا من الْأُمُور
الْمَذْكُورَة. فَافْهَم فَإِنَّهُ دَقِيق، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: المُرَاد بِالنّصب الَّذِي لَا يذمه
الشَّرْع، وَكَذَا النَّفَقَة. وَفِي (التَّوْضِيح)
أَفعَال الْبر كلهَا على قدر الْمَشَقَّة وَالنَّفقَة،
وَلِهَذَا اسْتحبَّ الشَّافِعِي وَمَالك الْحَج رَاكِبًا،
ومصداق ذَلِك فِي كتاب الله عز وَجل فِي قَوْله تَعَالَى:
{الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله
بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله}
(التَّوْبَة: 02) . وَفِي هَذَا فضل الْغنى وإنفاق المَال
فِي الطَّاعَات، وَلما فِي قمع النَّفس عَن شهواتها من
الْمَشَقَّة على النَّفس، ووعد الله عز وَجل الصابرين
فَقَالَ: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر
حِسَاب} (الزمر: 01) . وبظاهر الحَدِيث الْمَذْكُور
اسْتدلَّ على أَن الاعتمار لمن كَانَ بِمَكَّة من جِهَة
الْحل الْقَرِيبَة أقل أجرا من الاعتمار من جِهَته
الْبَعِيدَة. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْإِمْلَاء) :
أفضل بقاع الْحل للاعتمار الْجِعِرَّانَة، لِأَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم مِنْهَا، ثمَّ التَّنْعِيم
لِأَنَّهُ أذن لعَائِشَة مِنْهَا. انْتهى. قلت: اعتماره
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجِعِرَّانَة لم يكن
بِالْقَصْدِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ حِين رَجَعَ من
الطَّائِف مجتازا إِلَى الْمَدِينَة، وَأذنه لعَائِشَة من
التنيعم لكَونهَا أقرب وأسهل عَلَيْهَا من غَيرهَا.
(10/124)
9 - (بابُ المُعْتَمِرِ إذَا طافَ طَوَافَ
الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئهُ مِنْ طَوَافِ
الوَدَاعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي باين حكم الْمُعْتَمِر إِذا طَاف
إِلَى آخِره، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: يجْزِيه
ويغني طواف الْعمرَة عَن طواف الْوَدَاع. وَقَالَ بَعضهم:
كَأَن البُخَارِيّ لما لم يكن فِي حَدِيث عَائِشَة
التَّصْرِيح بِأَنَّهَا مَا طافت للوداع بعد طواف الْعمرَة
لم يثبت الحكم فِي التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: الحَدِيث
يدل على أَن طواف الْعمرَة يُغني عَن طواف الْوَدَاع،
وَإِن لم يدل على ذَلِك صَرِيحًا، إِذْ لَو كَانَ لَا بُد
من طواف الْوَدَاع لذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي الحَدِيث، وَلم يذكر إلاَّ طواف الْعمرَة.
8871 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا أفْلَحُ بنُ
حُمَيْدٍ عنِ القَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مُهِلِّينَ بالحَجِّ فِي أشْهُرِ
الحَجِّ وَفِي حُرُمِ الحَجِّ فنَزَلْنَا بِسَرِفَ فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِصْحَابِهِ منْ لَمْ
يَكُنْ معَهُ هَدْيٌ فأحَبَّ أنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَة
فَلْيَفْعَلْ ومنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ فلاَ وكانَ معَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورِجَالٌ مِنْ أصْحَابِهِ
ذَوِي قُوِّةٍ الهَدْيَ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ عُمْرَةً
فَدَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا
أبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ قُلْتُ سَمِعْتِكَ تَقُولُ
لأِصْحَابِكَ مَا قُلْتَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ قَالَ
وَمَا شأنُك قُلْتُ لاَ أصَلِّي قَالَ فَلاَ يُضِرُّكِ
أنْتِ مِنْ بَناتِ آدَمَ كُتِبَ عَلَيْكِ مَا كُتِبَ
علَيْهِنَّ فَكونِي فِي حَجَّتِكِ عَسَى الله أَن
يَرْزُقَكِهَا قالَتْ فكُنْتُ حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنىً
فنَزَلْنَا المُحَصَّبَ فدَعَا عبْدَ الرَّحْمانِ فقالَ
اخْرُجْ بِأُخْتِكَ إلَى الحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ
ثُمَّ افرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا أنْتَظِرْ كَمَا هَهُنَا
فأتَيْنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فقالَ فرَغْتُمَا قُلْتُ
نَعَمْ فَنادَى بالرَّحِيلِ فِي أصْحَابِهِ فارْتَحَلَ
النَّاسُ ومنْ طافَ بالْبَيْتِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ
ثُمَّ خَرَجَ مُتَوَجِّها إلَى المَدِينَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فلتهل
بِعُمْرَة) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو نعيم،
بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن بشار
عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا
عَن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن نمير عَن إِسْحَاق بن
سُلَيْمَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بن
السّري، وغالب مَا فِيهِ من الْأَحْكَام قد ذكر فِيمَا مضى
مفرقا.
قَوْله: (وَفِي حرم الْحَج) بِضَم الْحَاء وَالرَّاء،
وَهِي الْحَالَات والأماكن والأوقات الَّتِي لِلْحَجِّ،
وَرُوِيَ، بِفَتْح الرَّاء جمع حُرْمَة أَي مُحرمَات
الْحَج. قَوْله: (بسرف) أَي: فِي سرف، وَقد فسرناه غير
مرّة، وَهُوَ مَكَان بِقرب مَكَّة. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر
وَأبي الْوَقْت: (سرف) ، بِحَذْف الْبَاء، وَكَذَا فِي
رِوَايَة مُسلم من طَرِيق إِسْحَاق بن عِيسَى بن الطباع
عَن أَفْلح. قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لأَصْحَابه: من لم يكن مَعَه هدي) ظَاهره أَنه أَمر
لأَصْحَابه بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. فَإِن قلت:
قَوْله هَذَا كَانَ بسرف، وَفِي غير هَذِه الرِّوَايَة أَن
قَوْله لَهُم ذَلِك كَانَ بعد دُخُوله مَكَّة؟ قلت:
يحْتَمل التَّعَدُّد. قَوْله: (وَرِجَال) ، بِالْجَرِّ عطف
على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (ذَوي
قُوَّة) ، صفة لقَوْله: (أَصْحَابه) . قَوْله: (الْهَدْي)
مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: كَانَ. قَوْله: (وَأَنا أبْكِي)
، جملَة حَالية. قَوْله: (فمنعت) ، على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (الْعمرَة) ، مَنْصُوب على نزع
الْخَافِض أَي: من الْعمرَة. قَوْله: (لَا أُصَلِّي) ،
كِنَايَة عَن الْحيض، وَهِي من ألطف الْكِنَايَات. قَوْله:
(كتب عَلَيْك) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذِه رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (كتب الله عَلَيْك)
. وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (فكوني فِي حجتك) ،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فِي حجك) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة
مُسلم. قَوْله: (فَعَسَى الله) ، ويروى (عَسى الله) ،
بِدُونِ الْفَاء. قَوْله: (فنزلنا) المحصب وَهُوَ الأبطح،
وَفِيه اخْتِصَار أظهرته رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ: (حَتَّى
نزلنَا منى فتطهرت ثمَّ طفت بِالْبَيْتِ فَنزل رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المحصب) . قَوْله: (فَدَعَا عبد
الرَّحْمَن) ، هُوَ ابْن أبي بكر أَخُو عَائِشَة، رَضِي
(10/125)
الله تَعَالَى عَنْهُم، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عبد
الرَّحْمَن بن أبي بكر. قَوْله: (اخْرُج بأختك إِلَى
الْحرم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من الْحرم) وَكَذَا
فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (فأتينا فِي جَوف اللَّيْل) ،
ويروى: (فَجِئْنَا من جَوف اللَّيْل) ، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (من آخر اللَّيْل) . قَوْله: (وَمن
طَاف بِالْبَيْتِ) ، هَذَا من عطف الْخَاص على الْعَام،
لِأَن النَّاس أَعم من الطائفين، قيل: يحْتَمل أَن يكون:
من طَاف صفة النَّاس، وتوسط العاطف بَينهمَا، وَهَذَا
جَائِز. وَنقل عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه أجَاز: مَرَرْت بزيد
وَصَاحِبك، إِذا أُرِيد بالصاحب زيد الْمَذْكُور، فَوَقع
الْوَاو بَين الصّفة والموصوف، وَقيل: الظَّاهِر أَن فِيهِ
تحريفا، وَالصَّوَاب فارتحل النَّاس ثمَّ طَاف
بِالْبَيْتِ، أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل
صَلَاة الصُّبْح، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من
طَرِيق أبي بكر الْحَنَفِيّ عَن أَفْلح، بِلَفْظ: (فَأذن
فِي أَصْحَابه بالرحيل، فارتحل فَمر بِالْبَيْتِ قبل
صَلَاة الصُّبْح، فَطَافَ بِهِ حَتَّى خرج ثمَّ انْصَرف
مُتَوَجها إِلَى الْمَدِينَة) . وَفِي رِوَايَة مُسلم:
(فَأذن فِي أَصْحَابه بالرحيل، فَخرج فَمر بِالْبَيْتِ
فَطَافَ بِهِ قبل صَلَاة الصُّبْح ثمَّ خرج إِلَى
الْمَدِينَة) ، وَقد أخرجه البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه
فِي: بَاب: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) .
بِلَفْظ: (فارتحل النَّاس مُتَوَجها إِلَى الْمَدِينَة) .
قَوْله: (مُتَوَجها) من التَّوَجُّه من بَاب التفعل، هَذِه
رِوَايَة ابْن عَسَاكِر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (موجها) ،
بِضَم الْمِيم وَفتح الْوَاو وَتَشْديد الْجِيم: من
التَّوْجِيه، وَهُوَ الِاسْتِقْبَال تِلْقَاء وَجه.
فَافْهَم، وَالله تَعَالَى أعلم. |