عمدة القاري شرح صحيح البخاري

64 - (بابٌ إذَا أفطَرَ فِي رمَضَانَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أفطر الصَّائِم وَهُوَ يظنّ غرُوب الشَّمْس ثمَّ طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، وَلم يذكرهُ لمَكَان الِاخْتِلَاف فِي وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ.

(11/67)


9591 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ فَاطِمَةَ عَنْ أسْمَاءَ بنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ أفْطَرْنا عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ قِيلَ لِهشَامٍ فَأُمِرُوا بالْقَضاءِ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءِ، وَقَالَ مَعْمَرٌ سَمِعْتُ هِشاما لَا أدْرِي أقَضَوْا أمْ لاَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأمروا بِالْقضَاءِ) وَيقدر من هَذَا جَوَاب لكلمة: إِذا، فِي التَّرْجَمَة، وَالتَّقْدِير: إِذا أفطر فِي رَمَضَان ثمَّ طلعت الشَّمْس عَلَيْهِ الْقَضَاء، لِأَن مُقْتَضى قَوْله: (فَأمروا بِالْقضَاءِ) : عَلَيْهِم الْقَضَاء.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن أبي شيبَة هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة أَبُو بكر، وَاسم أبي شيبَة: إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، وَهِي ابْنة عَم هِشَام وَزَوجته. الْخَامِس: أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد أَولا وبصيغة الْجمع ثَانِيًا. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَأَبا أُسَامَة كوفيان والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن زَوجته وَهُوَ هِشَام فَإِن فَاطِمَة امْرَأَته وَرِوَايَته أَيْضا عَن ابْنة عَمه كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: رِوَايَة الراوية عَن جدَّتهَا لِأَن أَسمَاء جدة فَاطِمَة. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم أَيْضا عَن هَارُون بن عبد الله وَمُحَمّد بن الْعَلَاء، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَوْم غيم) ، بِنصب يَوْم على الظَّرْفِيَّة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن خُزَيْمَة: (فِي يَوْم) ، قَوْله: (على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: على زَمَنه وَأَيَّام حَيَاته. قَوْله: (قيل لهشام) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (قَالَ أُسَامَة: قلت لهشام) . وَكَذَا أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَأحمد فِي (مُسْنده) قَوْله: (لَا بُد من قَضَاء) يَعْنِي لَا يتْرك، وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين (بُد من قَضَاء؟) قَالَ بَعضهم: هُوَ اسْتِفْهَام إِنْكَار مَحْذُوف الأداة، وَالْمعْنَى: لَا بُد من قَضَاء. قلت: هَذَا كَلَام مخبط وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الصَّوَاب أَن يُقَال: هُنَا حرف اسْتِفْهَام مُقَدّر، تَقْدِيره: هَل بُد من قَضَاء؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لَا يحفظ فِي حَدِيث أَسمَاء إِثْبَات الْقَضَاء وَلَا نَفْيه. قلت: إِن كَانَ كَلَامه هَذَا من جِهَة الشَّارِع صَرِيحًا فَمُسلم، وإلاَّ فهشام، يَقُول: فَأمروا بِالْقضَاءِ، وَيَقُول: لَا بُد من الْقَضَاء. وَقَوله: (فَأمروا) يسْتَند إِلَى أَمر الشَّارِع، لِأَن غير الشَّارِع لَا يسْتَند إِلَيْهِ الْأَمر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: دلّ الحَدِيث على أَن من أفطر وَهُوَ يرى أَن الشَّمْس قد غربت فَإِذا هِيَ لم تغرب أمسك بَقِيَّة يَوْمه، وَعَلِيهِ الْقَضَاء وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَمَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق، وَأوجب أَحْمد الْكَفَّارَة فِي الْجِمَاع وروى عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعُرْوَة بن الزبير أَنهم قَالُوا: لَا قَضَاء عَلَيْهِ وجعلوه بِمَنْزِلَة من أكل نَاسِيا، وَعَن عمر بن الْخطاب رِوَايَتَانِ فِي الْقَضَاء، وَعَن عمر أَنه قَالَ: من أكل فليقض يَوْمًا مَكَانَهُ، رَوَاهُ الْأَثْرَم، وروى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ أَنه قَالَ: الْخطب يسير واجتهدنا. وَعَن عمر أَنه أفطر وَأفْطر النَّاس، فَصَعدَ الْمُؤَذّن ليؤذن، فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، هَذِه الشَّمْس لم تغرب، فَقَالَ عمر: من كَانَ أفطر فليصم يَوْمًا مَكَانَهُ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن عمر: (لَا نبالي وَالله نقضي يَوْمًا مَكَانَهُ) رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيّ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: روى زيد بن وهب قَالَ: (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس فِي مَسْجِد الْمَدِينَة فِي رَمَضَان، وَالسَّمَاء متغيمة قد غَابَتْ، وَإِنَّا قد أمسينا، فأخرجت لنا عساس من لبن من بَيت حَفْصَة فَشرب وشربنا، فَلم نَلْبَث أَن ذهب السَّحَاب وبدت الشَّمْس، فَجعل بَعْضنَا يَقُول لبَعض: نقضي يَوْمنَا هَذَا، فَسمع عمر ذَلِك، فَقَالَ: وَالله لَا نقضيه، وَمَا تجانفنا الْإِثْم) ، وغلطوا زيد بن وهب فِي هَذِه الرِّوَايَة الْمُخَالفَة لبَقيَّة الرِّوَايَات، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: فِي هَذِه الرِّوَايَة إرْسَال وَيَعْقُوب بن سُفْيَان كَانَ يحمل على زيد بن وهب بِهَذِهِ الرِّوَايَة الْمُخَالفَة لبَقيَّة الرِّوَايَات، وَزيد ثِقَة ألاَّ أَن الْخَطَأ غير مَأْمُون. قلت: عساس، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبسينين مهملتين، جمع عس، بِضَم الْعين وَتَشْديد السِّين: وَهُوَ الْقدح، وَمِنْهُم من

(11/68)


وفْق فَقَالَ: ترك الْقَضَاء إِذا لم يعلم، وَوَقع الْفطر على الشَّك، وَالْقَضَاء فِيمَا إِذا وَقع الْفطر فِي النَّهَار بِغَيْر شكّ، وَهُوَ خلاف ظَاهر الْأَثر. وَفِي (الْمَبْسُوط) فِي حَدِيث عمر، بَعْدَمَا أفطر: وَقد صعد الْمُؤَذّن المأذنة، قَالَ: الشَّمْس يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! قَالَ: بعثناك دَاعيا وَلم نبعثك رَاعيا، مَا تجانفنا الْإِثْم، وَقَضَاء يَوْم علينا يسير. وروى الْبَيْهَقِيّ أَن صهيبا أفطر فِي رَمَضَان فِي يَوْم غيم، فطلعت الشَّمْس فَقَالَ: طعمة الله، أَتموا صِيَامكُمْ إِلَى اللَّيْل واقضوا يَوْمًا مَكَانَهُ وَفِي (الْأَشْرَاف) اخْتلفُوا فِي الَّذِي أكل وَهُوَ لَا يعلم بِطُلُوع الْفجْر ثمَّ علم بِهِ فَقَالَت طَائِفَة يتم صَوْمه وَيَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، رُوِيَ هَذَا القَوْل عَن مُحَمَّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير، وَبِه قَالَ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو حنيفَة، وَحكي عَن إِسْحَاق أَنه: لَا قَضَاء عَلَيْهِ وَأحب إِلَيْنَا أَن نقضيه.
قَوْله: (وَقَالَ معمر) ، بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد الْأَزْدِيّ الْحَرَّانِي الْبَصْرِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد بن حميد، قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر سَمِعت هِشَام بن عُرْوَة فَذكر الحَدِيث، وَفِي آخِره، فَقَالَ إِنْسَان لهشام: أقضوا أم لَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَالله أعلم.

74 - (بابُ صَوْمَ الصِّبْيَانِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَوْم الصّبيان: هَل يشرع أم لَا؟ وَالْجُمْهُور على أَنه لَا يجب على من دون الْبلُوغ، وَاسْتحبَّ جمَاعَة من السّلف، مِنْهُم ابْن سِيرِين وَالزهْرِيّ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي: أَنهم يؤمرون بِهِ للتمرين عَلَيْهِ إِذا أطاقوه، وحد ذَلِك عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي بالسبع وَالْعشر كَالصَّلَاةِ، وَعند إِسْحَاق: حَده اثْنَتَيْ عشرَة سنة، وَعند أَحْمد فِي رِوَايَة: عشر سِنِين، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِذا أطَاق صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام تباعا لَا يضعف فِيهِنَّ حمل على الصَّوْم، وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة: أَنه لَا يشرع فِي حق الصّبيان. وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء أَنه لَا تلْزم الْعِبَادَات والفرائض إلاَّ عِنْد الْبلُوغ، إلاَّ أَن أَكثر الْعلمَاء استحسنوا تدريب الصّبيان على الْعِبَادَات رَجَاء الْبركَة، وَأَنَّهُمْ يعتادونها فتسهل عَلَيْهِم إِذا ألزمهم، وَأَن من فعل ذَلِك بهم مأجور. وَفِي (الْأَشْرَاف) : اخْتلفُوا فِي الْوَقْت الَّذِي يُؤمر فِيهِ الصَّبِي بالصيام، فَكَانَ ابْن سِيرِين وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَعَطَاء وَعُرْوَة وَقَتَادَة وَالشَّافِعِيّ يَقُولُونَ: يُؤمر بِهِ إِذا أطاقه، وَنقل عَن الْأَوْزَاعِيّ مثل مَا ذكرنَا الْآن، وَاحْتج بِحَدِيث ابْن أبي لَبِيبَة عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا صَامَ الْغُلَام ثَلَاثَة أَيَّام متتابعة فقد وَجب عَلَيْهِ صِيَام رَمَضَان) . وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: إِذا طاقوا الصّيام ألزموه، فَإِذا أفطروا بِغَيْر عذر وَلَا عِلّة فَعَلَيْهِم الْقَضَاء. وَقَالَ أَشهب: يسْتَحبّ لَهُم إِذا أطاقوه. وَقَالَ عُرْوَة: إِذا أطاقوا الصَّوْم وَجب عَلَيْهِم. قَالَ عِيَاض: وَهَذَا غلط يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) ، فَذكر: الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم، وَفِي رِوَايَة: (حَتَّى يبلغ) .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لِنَشْوَانَ فِي رَمَضَانَ وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ فَضَرَبَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وصبياننا صِيَام) ، وَإِنَّمَا كَانُوا يصومونهم لأجل التمرين ليتعودوا بذلك ويكونوا على نشاط بذلك بعد الْبلُوغ. قَوْله: (لنشوان) ، أَي: لرجل سَكرَان، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، من نشى الرجل من الشَّرَاب نشوا ونشوة، وتنشى وانتشى كُله: سكر، وَرجل نشوان ونشيان على الْعَاقِبَة، وَالْأُنْثَى نشواء، وَجمعه نشاوى كسكارى، وَزَاد الْقَزاز: وَالْجمع النشوات، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَهُوَ نش، وَامْرَأَة نشئة ونشوانة، وفعلانة قَلِيل إلاَّ فِي بني أَسد، هَكَذَا ذكر الْفراء، وَفِي (نَوَادِر اللحياني) : يُقَال: نشئت من الشَّرَاب أنشأ نشوة ونشوة، وَقَالَ ابْن خالويه: سكر الرجل وانتشى، وثمل ونزف وانزف، فَهُوَ سَكرَان ونشوان، وَقَالَ ابْن التِّين: النشوان السكر الْخَفِيف، قيل: كَأَنَّهُ من كَلَام المولدين. قَوْله: (صِيَام) جمع صَائِم، ويروى: (صوام) ، ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق وَهُوَ أثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصله سعيد بن مَنْصُور وَالْبَغوِيّ فِي: الجعديات، من طَرِيق عبد الله بن أبي الهدير (أَن عمر بن الْخطاب أَتَى بِرَجُل شرب الْخمر فِي رَمَضَان، فَلَمَّا دنا مِنْهُ جعل يَقُول: للمنخرين والفم) ، وَفِي رِوَايَة الْبَغَوِيّ: (فَلَمَّا رفع إِلَيْهِ عثر، فَقَالَ عمر: على وَجهك وَيحك وصبياننا صِيَام؟ . ثمَّ أَمر فَضرب ثَمَانِينَ سَوْطًا، ثمَّ سيره إِلَى الشَّام) . وَفِي رِوَايَة الْبَغَوِيّ: (فَضَربهُ الْحَد وَكَانَ إِذا غضب على إِنْسَان سيره إِلَى الشَّام فسيره إِلَى الشَّام) وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: من شرب الْخمر فِي رَمَضَان ضرب مائَة. انْتهى. هَذَا كَانَ فِي مُسْتَنده مَا ذكره سُفْيَان عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان، عَن أَبِيه أَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَتَى بالنجاشي الشَّاعِر، وَقد شرب الْخمر فِي رَمَضَان

(11/69)


فَضَربهُ ثَمَانِينَ، ثمَّ ضربه من الْغَد عشْرين، وَقَالَ: ضربناك الْعشْرين لجرأتك على الله تَعَالَى وإفطارك فِي رَمَضَان.

0691 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا خالِدُ ابنُ ذَكْوَانَ عنِ الرُّبَيْعِ بِنْتِ مُعَوَّذٍ قالَتْ أرْسَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاةَ عاشُورَاءَ إلَى قُرى الأنْصَارِ مَنْ أصْبَحَ مُفْطِرا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ومَنْ أصْبَحَ صائِما فَلْيَصُمْ قالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْد ونُصَوِّمُ صِبْيَانَنا ونَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ فإذَا بَكَى أحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أعْطَيْناهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإفْطَارِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ونصوم صبياننا) .
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْفضل، بِلَفْظ الْمَفْعُول من التَّفْضِيل بالضاد الْمُعْجَمَة، مر فِي الْعلم، الثَّالِث: خَالِد بن ذكْوَان أَبُو الْحسن. الرَّابِع: الرّبيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة: بنت معوذ، بِلَفْظ الْفَاعِل من التعويذ بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة: الْأَنْصَارِيَّة من المبايعات تَحت الشَّجَرَة، وَلها قدر عَظِيم، وَقَالَ الغسائي: معوذ، بِفَتْح الْوَاو، وَيُقَال بِكَسْرِهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن مُسَددًا وَشَيْخه بصريان وَأَن خَالِدا من أهل الْمَدِينَة، سكن الْبَصْرَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصحابية وخَالِد تَابِعِيّ صَغِير لَيْسَ لَهُ من الصَّحَابَة سوى الرّبيع هَذِه وَهِي أَيْضا من صغَار الصَّحَابَة وَلم يخرج البُخَارِيّ من حَدِيثه عَن غَيرهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن نَافِع، وَعَن يحيى بن يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن الرّبيع) ، فِي رِوَايَة مُسلم من وَجه آخر: عَن خَالِد سَأَلت الرّبيع. قَوْله: (إِلَى قرى الْأَنْصَار) وَزَاد مُسلم: (الَّتِي حول الْمَدِينَة) . قَوْله: (صبياننا) زَاد مُسلم: (الصغار وَنَذْهَب بهم إِلَى الْمَسْجِد) . قَوْله: (فليصم) أَي: فليستمر على صَوْمه. قَوْله: (كُنَّا نصومه) أَي: نَصُوم عَاشُورَاء. قَوْله: (اللعبة) ، بِضَم اللَّام وَهِي الَّتِي يُقَال لَهَا: لعب الْبَنَات. قَوْله: (من العهن) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ الصُّوف، وَقد فسره البُخَارِيّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي فِي آخر الحَدِيث: قيل: العهن الصُّوف الْمَصْبُوغ. قَوْله: (أعطيناه ذَلِك حَتَّى يكون عِنْد الْإِفْطَار) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (أعطيناها إِيَّاه عِنْد الْإِفْطَار) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وصنيع اللّعب من العهن وَهُوَ الصُّوف الْأَحْمَر لصوم الصّبيان، وَلَعَلَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعلم بذلك، وبعيد أَن يكون أَمر بذلك، لِأَنَّهُ تَعْذِيب صَغِير بِعبَادة شاقة غير متكررة فِي السّنة، ورد عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث رزينة (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر برضعائه فِي عَاشُورَاء، ورضعاء فَاطِمَة، فيتفل فِي أَفْوَاههم وَيَأْمُر أمهاتهم أَن لَا يرضعن إِلَى اللَّيْل) . ورزينة، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي، كَذَا ضَبطه بَعضهم وَضَبطه شَيخنَا بِخَطِّهِ بِضَم الرَّاء، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : رزينة، خادمة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومولاة زَوجته صَفِيَّة، رَوَت عَنْهَا ابْنَتهَا أمة الله، وروى أَبُو يعلى الْموصِلِي: حَدثنَا عبد الله بن عمر القواريري (حَدَّثتنَا علية عَن أمهَا، قَالَت: قلت لأمة الله بنت رزينة يَا أمة الله حدثتك أمك رزينة أَنَّهَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر صَوْم عَاشُورَاء؟ قَالَت: نعم، وَكَانَ يعظمه حَتَّى يَدْعُو برضعائه ورضعاء ابْنَته فَاطِمَة، فيتفل فِي أفواههن وَيَقُول للأمهات: لَا ترضعونهن إِلَى اللَّيْل) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فَقَالَ علية بنت الْكُمَيْت عَن أمهَا أُمْنِية.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن صَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا قبل أَن يفْرض رَمَضَان. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة تمرين الصّبيان. وَفِيه: أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ فعلنَا كَذَا فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ حكمه الرّفْع لِأَن سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك يدل على تقريرهم عَلَيْهِ، إِذْ لَو لم يكن رَاضِيا بذلك لأنكر عَلَيْهِم.

84 - (بابُ الوِصالِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وصال الصَّائِم صَوْمه بِالنَّهَارِ وبالليل جَمِيعًا، وَلم يذكر حكمه اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب من الْأَحَادِيث.

(11/70)


وَمن قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالى {ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَة: 781) . ونَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ رَحْمَةً لَهُمْ وإبْقَاءً عَلَيْهِمْ ومَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ
كل هَذَا من التَّرْجَمَة، وَهِي تشْتَمل على ثَلَاثَة فُصُول:
الأول: قَوْله: (وَمن قَالَ، وَهُوَ فِي مَحل الْجَرّ عطفا على لفظ الْوِصَال، تَقْدِيره: وَبَاب فِي بَيَان من قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْل صِيَام، يَعْنِي: اللَّيْل لَيْسَ محلا للصَّوْم، لِأَن الله تَعَالَى جعل حد الصَّوْم إِلَى اللَّيْل فَلَا يدْخل فِي حكم مَا قبله، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} (الْبَقَرَة: 781) . وَقد ورد فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخَيْر: (إِن الله لم يكْتب الصّيام بِاللَّيْلِ، فَمن صَامَ فقد بغى وَلَا أجر لَهُ) ، أخرجه ابْن السكن وَغَيره من الصَّحَابَة، والدولابي وَغَيره فِي (الكنى) كلهم من طَرِيق أبي فَرْوَة الرهاوي عَن معقل الْكِنْدِيّ عَن عبَادَة بن نسى عَنهُ وَقَالَ ابْن مَنْدَه غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه وَقَالَ التِّرْمِذِيّ سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ: مَا أرى عبارَة سمع من أبي سعيد الْخَيْر، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: حَدِيث أبي سعيد الْخَيْر لم أَقف عَلَيْهِ، وَقد اخْتلف فِي صحبته، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: أَبُو سعيد الْخَيْر صَحَابِيّ، روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَنهُ قيس ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ وفراس الشَّعْبَانِي، وَقَالَ شَيخنَا: وروى عَنهُ مِمَّن لم يذكرهُ يُونُس بن حليس ومهاجر بن دِينَار وَابْن لأبي سعيد الْخَيْر غير مُسَمّى، وَذكره الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّحَابَة، وروى لَهُ خَمْسَة أَحَادِيث، وَقيل: هُوَ أَبُو سعيد الْخَيْر بِزِيَادَة يَاء آخر الْحُرُوف، وَهَكَذَا ذكر أَبُو أَحْمد الْحَاكِم فِي (الكنى) فَقَالَ: سعيد الْخَيْر لَهُ صُحْبَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثه فِي أهل الشَّام. وَقَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ، فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : أَبُو سعيد الْخَيْر الْأَنمَارِي، وَقيل: أَبُو سعيد الْخَيْر: اسْمه عَامر بن سعد، شَامي، لَهُ فِي الشَّفَاعَة وَفِي الْوضُوء، روى عَنهُ قيس بن الْحَارِث وَعبادَة بن نسي. وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم، بعد أَن روى لَهُ حَدِيثا، قَالَ: أَبُو سعيد الْأَنمَارِي، وَيُقَال: أَبُو سعيد الْخَيْر لَهُ صُحْبَة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَلست أحفظ لَهُ إسما وَلَا نسبا إِلَى أقْصَى أَب فجعلهما اثْنَيْنِ، وَجمع الطَّبَرَانِيّ بَين الترجمتين فجعلهما تَرْجَمَة وَاحِدَة، وَقَالَ شَيخنَا: وَقد قيل إِن أَبَا سعيد الْخَيْر هُوَ أَبُو سعيد الحبراني الْحِمصِي الَّذِي روى عَن أبي هُرَيْرَة، وَرُوِيَ عَنهُ حُصَيْن الحبراني، وعَلى هَذَا فَهُوَ تَابِعِيّ، وَهَكَذَا ذكره الْعجلِيّ فِي (الثِّقَات) : فَقَالَ: شَامي تَابِعِيّ، ثِقَة، وَكَذَا ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) التَّابِعين، وَاخْتلف فِي اسْمه، فَيُقَال: إسمه زِيَاد، وَيُقَال: عَامر بن سعد، قَالَ الْحَافِظ الْمزي: وأراهما اثْنَيْنِ، وَالله أعلم.
الْفَصْل الثَّانِي: قَوْله: (وَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ) أَي عَن الْوِصَال، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِلَفْظ: (نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَحْمَة لَهُم) ، على مَا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وإبقاء عَلَيْهِم) أَي: على الْأمة، وَأَرَادَ حفظا لَهُم فِي بَقَاء أبدانهم على قوتها، وروى أَبُو دَاوُد وَغَيره من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن رجل من الصَّحَابَة، قَالَ: (نهى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الْحجامَة والمواصلة وَلم يحرمهما إبْقَاء على أَصْحَابه) ، وَإِسْنَاده صَحِيح.
الْفَصْل الثَّالِث: قَوْله: (وَمَا يكره من التعمق) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عطف إِمَّا على الضَّمِير الْمَجْرُور، وَإِمَّا على قَوْله: (رَحْمَة) . أَي: لكَرَاهَة التعمق، وَهُوَ تكلّف مَا لم يُكَلف، وعمق الْوَادي قَعْره، وَقيل: وَمَا يكره من التعمق من كَلَام البُخَارِيّ مَعْطُوف على قَوْله: (الْوِصَال) أَي: بَاب ذكر الْوِصَال وَذكر مَا يكره من التعمق، وَقد روى البُخَارِيّ فِي كتاب التَّمَنِّي، من طَرِيق ثَابت بن قيس (عَن أنس، فِي قصَّة الْوِصَال، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو مد بِي الشَّهْر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم) .

1691 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثني يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ قَالَ حدَّثني قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تُوَاصِلُوا قالُوا إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ لَسْتُ كأحَدٍ مِنْكُمْ إنِّي أطعَمُ وأُسْقَى أوْ أنِّي أبيتُ أُطْعَمُ وأُسْقَى. (انْظُر الحَدِيث 1691 وطرفه فِي: 1427) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فَإِنَّهُ يُوضح جَوَاب التَّرْجَمَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان.
وَأخرجه مُسلم من رِوَايَة سُلَيْمَان عَن ثَابت (عَن أنس قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي رَمَضَان) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (فَأخذ يواصل

(11/71)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ فِي آخر الشَّهْر، فَأخذ رجال من أَصْحَابه يواصلون، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا بَال رجال يواصلون؟ إِنَّكُم لَسْتُم مثلي. أما وَالله! لَو تماد بِي الشَّهْر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم) . وَفِي لفظ لَهُ: (إِنِّي لست مثلكُمْ، إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي ويسقيني) ، وَفِي لفظ: (إِنِّي لست كهيئتكم.
قَوْله: (إِنِّي: لست كأحدٍ مِنْكُم) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (كأحدكم) ، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: (إِنِّي لست مثلكُمْ) ، وَفِي حَدِيث أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم: (لَسْتُم فِي ذَلِك مثلي) وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة سَيَأْتِي، (وَأَيكُمْ مثلي) . أَي على صِفَتي أَو منزلتي من رَبِّي. قَوْله: (أَو إِنِّي أَبيت) ، الشَّك من شُعْبَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن بهز عَنهُ: (إِنِّي أظل أَو قَالَ: أَنِّي أَبيت) وَقد رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة بِلَفْظ: (إِن رَبِّي يطعمني ويسقيني) ، أخرجه التِّرْمِذِيّ. قَوْله: (لَا تواصلوا) نهي، وَأَدْنَاهُ يَقْتَضِي الْكَرَاهَة.
وَلَكِن اخْتلفُوا: هَل هِيَ رِوَايَة تَنْزِيه أَو تَحْرِيم؟ على وَجْهَيْن حَكَاهُمَا صَاحب (الْمُهَذّب) وَغَيره، أصَحهمَا عِنْدهم: أَن الْكَرَاهَة للتَّحْرِيم. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي، وَحكى صَاحب (الْمُفْهم) عَن قوم: أَنه يحرم، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر. قَالَ: وَذهب الْجُمْهُور وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَجَمَاعَة من أهل الْفِقْه إِلَى كَرَاهَته، وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز الْوِصَال لمن قوي عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ كَانَ يواصل عبد الله بن الزبير وَابْن عَامر وَابْن وضاح من الْمَالِكِيَّة، كَانَ يواصل أَرْبَعَة أَيَّام، حَكَاهُ ابْن حزم. وَقد حكى القَاضِي عِيَاض عَن ابْن وهب وَإِسْحَاق وَابْن حَنْبَل أَنهم أَجَازُوا الْوِصَال، وَالْجُمْهُور ذَهَبُوا إِلَى أَن الْوِصَال من خَواص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله: (إِنِّي لست كَأحد مِنْكُم) ، وَهَذَا دَال على التَّخْصِيص، وَأما غَيره من الْأمة فَحَرَام عَلَيْهِ. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) (من حَدِيث عَائِشَة: كَانَ يُصَلِّي بعد الْعَصْر وَينْهى عَنْهَا، ويواصل وَينْهى عَن الْوِصَال) ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ من الصَّحَابَة عَليّ بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَاحْتج من أَبَاحَ الْوِصَال بقول عَائِشَة: (نَهَاهُم عَن الْوِصَال رَحْمَة لَهُم) ، فَقَالُوا: إِنَّمَا نَهَاهُم رفقا لَا إلزاما لَهُم، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِكَوْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل بِأَصْحَابِهِ يَوْمَيْنِ حِين أَبَوا أَن ينْتَهوا. قَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : وَهُوَ يدل على أَن الْوِصَال لَيْسَ بِحرَام وَلَا مَكْرُوه من حَيْثُ هُوَ وصال، لَكِن من حَيْثُ يذهب بِالْقُوَّةِ. وَأجَاب المحرمون عَن الْحَدِيثين، بِأَن قَالُوا: لَا يمْنَع قَوْله: (رَحْمَة لَهُم) أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ للتَّحْرِيم، وَسبب تَحْرِيمه الشَّفَقَة عَلَيْهِم لِئَلَّا يتكلفوا مَا يشق عَلَيْهِم، قَالُوا: وَأما وصاله بهم فلتأكيد الزّجر وَبَيَان الْحِكْمَة فِي نهيهم والمفسدة المترتبة على الْوِصَال، وَهِي الْملَل من الْعِبَادَة وَخَوف التَّقْصِير فِي غَيره من الْعِبَادَات. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وتمكينهم مِنْهُ تنكيل لَهُم، وَمَا كَانَ على طَرِيق الْعقُوبَة لَا يكون من الشَّرِيعَة. فَإِن قلت: كَيفَ يحسن قَوْلهم لَهُ بعد النَّهْي عَن الْوِصَال: (فَإنَّك تواصل؟) وهم أَكثر النَّاس آدابا؟ قلت: لم يكن ذَلِك على سَبِيل الِاعْتِرَاض، وَلَكِن على سَبِيل اسْتِخْرَاج الحكم أَو الْحِكْمَة أَو بَيَان التَّخْصِيص.
قَوْله: (إِنِّي أطْعم وأسقى) اخْتلف فِي تَأْوِيله، فَقيل: إِنَّه على ظَاهره وَأَنه يُؤْتى على الْحَقِيقَة بِطَعَام وشراب يتناولهما فَيكون ذَلِك تَخْصِيص كَرَامَة لَا شركَة فِيهَا لأحد من أَصْحَابه، ورد صَاحب (الْمُفْهم) هَذَا وَقَالَ: لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما صدق عَلَيْهِ قَوْلهم: (إِنَّك تواصل) ؟ وَلَا ارْتَفع اسْم الْوِصَال عَنهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مُفطرا، وَكَانَ يخرج كَلَامه عَن أَن يكون جَوَابا لما سُئِلَ عَنهُ، وَلِأَن فِي بعض أَلْفَاظه: (إِنِّي أظل عِنْد رَبِّي يطعمني ويسقيني) ، وظل إِنَّمَا يُقَال فِيمَن فعل الشَّيْء نَهَارا، وَبَات فِيمَن يَفْعَله لَيْلًا، وَحِينَئِذٍ كَانَ يلْزم عَلَيْهِ فَسَاد صَوْمه، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع، وَقيل: إِن الله تَعَالَى يخلق فِيهِ من الشِّبَع والري مَا يُغْنِيه عَن الطَّعَام وَالشرَاب، وَاعْترض صَاحب (الْمُفْهم) على هَذَا أَيْضا وَقَالَ: وَهَذَا القَوْل أَيْضا يبعده النّظر إِلَى حَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ كَانَ يجوع أَكثر مِمَّا يشْبع ويربط على بَطْنه الْحِجَارَة من الْجُوع، وَبعده أَيْضا النّظر إِلَى الْمَعْنى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو خلق فِيهِ الشِّبَع والري لما وجد لعبادة الصَّوْم روحها الَّذِي هُوَ الْجُوع وَالْمَشَقَّة، وَحِينَئِذٍ كَانَ يكون ترك الْوِصَال أولى. وَقيل: إِن الله تَعَالَى يحفظ عَلَيْهِ قوته من غير طَعَام وشراب، كَمَا يحفظها بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، فَعبر بِالطَّعَامِ والسقيا عَن فائدتهما، وَهِي: الْقُوَّة، وَعَلِيهِ اقْتصر ابْن الْعَرَبِيّ، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن المَسْعُودِيّ قَالَ: أصح مَا قيل فِي مَعْنَاهُ أَنِّي أعْطى قُوَّة الطاعم والشارب.

2691 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الوِصالِ قالُوا إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إنِّي أُطْعَمُ وأُسقى. (انْظُر الحَدِيث 2291) .

(11/72)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب بركَة السّحُور فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن جوَيْرِية عَن نَافِع (عَن عبد الله بن عمر أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاصل فواصل النَّاس فشق عَلَيْهِم فنهاهم. .) الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام هُنَاكَ مُسْتَوفى.

3691 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ الْهَادِ عنْ عَبْدِ الله بنِ خَبَّابٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لَا تُوَاصِلُوا فأيُّكُمْ إذَا أرَادَ أنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ فإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رسولَ الله قَالَ إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أبيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وساقٍ يَسْقِينِي. (الحَدِيث 3691 طرفه فِي: 7691) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن الْهَاد هُوَ يزِيد بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ الْمدنِي، مر فِي الصَّلَاة، وَعبد الله بن الْخَبَّاب بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، من موَالِي الْأَنْصَار وَلَيْسَ الْخَبَّاب بن الْأَرَت الصَّحَابِيّ، وَلَيْسَت لَهُ رِوَايَة إلاَّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَلم يذكر لَهُ رِوَايَة عَن غير أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَتوقف الْجوزجَاني فِي معرفَة حَاله، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَأَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ابْن الْهَاد أَيْضا وَلم يخرج مُسلم حَدِيث أبي سعيد وعزو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد إِلَى مُسلم وهم قَوْله: (فليواصل إِلَى السحر) ، وَفِيه رد على من قَالَ: إِن الْإِمْسَاك بعد الْغُرُوب لَا يجوز، وَحَقِيقَة الْوِصَال هُوَ أَن يصل صَوْم يَوْم بِصَوْم يَوْم آخر من غير أكل أَو شرب بَينهمَا، هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي تَحْقِيق الْوِصَال، وَقيل: هُوَ الْإِمْسَاك بعد تَحِلَّة الْفطر، وَحكى فِي حكمه ثَلَاثَة أَقْوَال: التَّحْرِيم، وَالْجَوَاز، وَثَالِثهَا أَنه يواصل إِلَى السحر. قَالَه أَحْمد وَإِسْحَاق.
قَوْله: (كهيئتكم) ، الْهَيْئَة صُورَة الشَّيْء وشكله وحالته، وَالْمعْنَى: إِنِّي لست مثل حالتكم وصفتكم فِي أَن من أكل مِنْكُم أَو شرب انْقَطع وصاله، وَإِنِّي لست مثلكُمْ، ولي قرب من الله، وَهُوَ معنى قَوْله: (أَبيت ولي مطعم يطعمني ليَالِي صيامي، وساقٍ يسقيني) ، فَإِن حملناه على الْحَقِيقَة يكون هَذَا كَرَامَة لَهُ من الله تَعَالَى وخصوصية، وإلاَّ يكون هَذَا فيضا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ بِحَيْثُ يسد مسد طَعَامه وَشَرَابه من حَيْثُ إِنَّه يشْغلهُ عَن إحساس الْجُوع والعطش ويقويه على الطَّاعَة ويحرسه من تَحْلِيل يُفْضِي إِلَى كلال القوى وَضعف الْأَعْضَاء. وَقَوله: (لي مطعم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا بِدُونِ الْوَاو، وَقَوله: (يطعمني) جملَة فعلية حَال أَيْضا من الْأَحْوَال المتداخلة. قَوْله: (وسَاق) أَي: ولي سَاق، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: (لي مطعم) . فَافْهَم.

4691 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ ومُحَمَّدٌ قالاَ أخبرنَا عَبْدَةُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ فقالُوا إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ أنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي. (الحَدِيث 3691 طرفه فِي: 7691) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعُثْمَانُ بن أبي شيبَة هُوَ أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَكِلَاهُمَا من مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام وَعَبدَة هُوَ ابْن سُلَيْمَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِيمَان عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (رَحْمَة لَهُم) نصب على التَّعْلِيل، أَي لأجل الترحم لَهُم، وَهَذِه إِشَارَة إِلَى بَيَان السَّبَب فِي مَنعهم عَن الْوِصَال.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله لَمْ يَذْكُرْ عُثْمَانُ رَحْمَةً لَهُمْ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ. قَوْله: (لم يذكر عُثْمَان) يَعْنِي ابْن أبي شيبَة شَيْخه فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (رَحْمَة لَهُم) يَعْنِي لم يذكر عُثْمَان هَذَا اللَّفْظ فِي رِوَايَته فَدلَّ هَذَا على أَن هَذَا من رِوَايَة مُحَمَّد بن سَلام وَحده، وَقد أخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَعُثْمَان بن أبي شيبَة جَمِيعًا. وَفِيه: (رَحْمَة لَهُم) وَلم يبين أَنَّهَا لَيست فِي رِوَايَة عُثْمَان، وَقد

(11/73)


أخرجه أَبُو يعلى وَالْحسن بن سُفْيَان فِي مسنديهما عَن عُثْمَان وَلَيْسَ فِيهِ: (رَحْمَة لَهُم) . وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَنْهُمَا كَذَلِك. وَأخرجه الجوزقي من طَرِيق مُحَمَّد بن حَاتِم عَن عُثْمَان، وَفِيه: (رَحْمَة لَهُم) ، فَدلَّ هَذَا على أَن عُثْمَان كَانَ تَارَة يذكرهَا وَتارَة يحفظها، وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن جَعْفَر الْفرْيَابِيّ عَن عُثْمَان، فَجعل ذَلِك من قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظه: (قَالُوا إِنَّك تواصل؟ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ رَحْمَة رحمكم الله بهَا إِنِّي لست كهيئتكم) الحَدِيث، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت البُخَارِيّ قد أخرج حَدِيث الْوِصَال عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة، وهم أنس وَعبد الله بن عمر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَعَائِشَة وَأَبُو هُرَيْرَة، وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَجَابِر وَبشير بن الخصاصية وَعبد الله بن ذَر.
فَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وسلمّ: (لَا مُوَاصلَة) ، وَرَوَاهُ أَحْمد عَنهُ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يواصل من السحر إِلَى السحر) . وَحَدِيث جَابر رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا مُوَاصلَة فِي الصّيام) وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَحَدِيث بشير رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَنْهَا، (قَالَت: كنت أَصوم فأواصل، فنهاني بشير، وَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهاني عَن هدا، قَالَ: إِنَّمَا يفعل ذَلِك النَّصَارَى، وَلَكِن صومي كَمَا أَمر الله تَعَالَى، ثمَّ أتمي الصّيام إِلَى اللَّيْل فَإِذا كَانَ اللَّيْل فأفطري) . وَحَدِيث عبد الله بن ذَر رَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَابْن قَانِع فِي (معجميهما) عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل بَين يَوْمَيْنِ وَلَيْلَة، فَأَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: قبلت مواصلتك وَلَا تحل لأمتك) ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا تدل على أَن الْوِصَال من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أَن غَيره مَمْنُوع مِنْهُ إلاَّ مَا وَقع فِيهِ الترخيص من الْإِذْن فِيهِ إِلَى السحر.

94 - (بابُ التَّنْكِيلِ لِمَنْ أكْثَرَ الوِصَالَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تنكيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن أَكثر الْوِصَال فِي صَوْمه، والتنكيل من النكال وَهُوَ الْعقُوبَة الَّتِي تنكل النَّاس عَن فعل جعلت لَهُ جَزَاء، وَقد نكل بِهِ تنكيلاً وَنكل بِهِ إِذا جعله عِبْرَة لغيره، وَقيد الأكثرية يقْضِي عدم النكال فِي الْقَلِيل، وَلَكِن لَا يلْزم من عدم النكال الْجَوَاز.
رَوَاهُ أنَس عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى التنكيل لمن أَكثر الْوِصَال أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب التَّمَنِّي فِي: بَاب مَا يجوز من اللوم، من طَرِيق حميد بن ثَابت (عَن أنس قَالَ: وَاصل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخر الشَّهْر وواصل أنَاس من النَّاس، فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَو مد بِي الشَّهْر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إِنِّي لست مثلكُمْ، إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي ويسقيني) . وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث حميد عَن ثَابت (عَن أنس، قَالَ: وَاصل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أول شهر رَمَضَان، فواصل نَاس من الْمُسلمين، فَبَلغهُ ذَلِك، فَقَالَ: لَو مد لنا الشَّهْر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إِنَّكُم لَسْتُم مثلي، أَو قَالَ: إِنِّي لست مثلكُمْ إِنِّي أظل يطعمني رَبِّي ويسقيني) .

5691 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الوِصَالِ فِي الصَّوْمِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رسولَ الله قَالَ وأيُّكُمْ مِثْلِي إنَّي أبيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي فَلَمَّا أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا عنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْما ثُمَّ يَوْما ثُمَّ رَأوْا الْهِلاَلَ فَقَالَ لَوْ تَأخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كالتَّنْكِيل لَهُمْ حِينَ أبَوْا أنْ يَنْتَهُوا.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَو تَأَخّر لزدتكم. .) إِلَى آخِره، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم أَيْضا عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أَبِيه عَن شُعَيْب بِهِ. قَوْله: (حَدثنِي أَبُو سَلمَة) ، ويروى: (أَخْبرنِي) ، هَكَذَا رَوَاهُ شُعَيْب

(11/74)


عَن الزُّهْرِيّ وَتَابعه عقيل عَن الزُّهْرِيّ كَمَا سَيَأْتِي فِي: بَاب التعذير، وَمعمر كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّمَنِّي، وَتَابعه يُونُس عِنْد مُسلم، وَخَالفهُم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر، فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، علقه المُصَنّف فِي الْمُحَاربين، وَفِي التَّمَنِّي وَلَيْسَ اخْتِلَافا ضارا، فقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن خَالِد هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن نمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد، وَأبي سَلمَة جَمِيعًا عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا ذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن الزبيد تَابع ابْن نمر على الْجمع بَينهمَا. قَوْله: (قَالَ لَهُ رجل) وَفِي رِوَايَة عقيل: (فَقَالَ لَهُ رجل) . قَوْله: (فَلَمَّا أَبَوا) قيل: كَيفَ جَازَ للصحابة مُخَالفَة حكم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُم فَهموا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه للتنزيه لَا للتَّحْرِيم. قَوْله: (عَن الْوِصَال) ، فِي رِوَايَة الْكشميهني: (من الْوِصَال) . قَوْله: (يَوْمًا ثمَّ يَوْمًا ثمَّ رَأَوْا الْهلَال) ، ظَاهره أَن المواصلة بهم كَانَت يَوْمَيْنِ، وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة معمر. قيل: كَيفَ جوز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم الْوِصَال؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ احْتمل للْمصْلحَة تَأْكِيدًا لزجرهم وبيانا للمفسدة المترتبة على الْوِصَال، وَهِي: الْملَل من الْعِبَادَة والتعرض للتقصير فِي سَائِر الْوَظَائِف. قَوْله: (لَو تَأَخّر) أَي: الْهلَال وَهُوَ الشَّهْر. وَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز قَول: فَإِن قلت: ورد النَّهْي عَن ذَلِك {} قلت: النَّهْي فِيمَا لَا يتَعَلَّق بالأمور الشَّرْعِيَّة. قَوْله: (لزدتكم) ، أَي: فِي الْوِصَال إِلَى أَن تعجزوا عَنهُ، فتسألوا التَّخْفِيف عَنهُ بِالتّرْكِ. قَوْله: (كالتنكيل) ، وَفِي رِوَايَة معمر: (كالمنكل لَهُم) ، وَوَقع عِنْد الْمُسْتَمْلِي: (كالمنكر) ، من الإنكاء بالراء فِي آخِره، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (المنكي) بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون، على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من الْإِنْكَار، قَالَ بَعضهم: المنكي من النكاية. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل من الإنكاء لِأَنَّهُ من بَاب الْمَزِيد، لَا يَذُوق مثل هَذَا إلاَّ من لَهُ يَد فِي التصريف. قَوْله: (حِين أَبَوا) أَي: حِين امْتَنعُوا. قَوْله: (أَن ينْتَهوا) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: الِانْتِهَاء.

6691 - حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إيَّاكُمْ والوِصَالِ مَرَّتَيْنِ قِيلَ إنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي فاكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى وَقع كَذَا غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا يحيى بن مُوسَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحيى هُوَ إِمَّا يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي، وَإِمَّا يحيى بن جَعْفَر البُخَارِيّ. قلت: يحيى بن مُوسَى بن عبد ربه بن سَالم أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْحدانِي الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت. قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
قَوْله: (إيَّاكُمْ والوصال) مرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق بِهَذَا الْإِسْنَاد: (إيَّاكُمْ والوصال) ، فعلى هَذَا قَوْله: (مرَّتَيْنِ) اخْتِصَار من البُخَارِيّ أَو من شَيْخه، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إيَّاكُمْ والوصال) ثَلَاث مَرَّات، وَإِسْنَاده صَحِيح، وانتصاب الْوِصَال على التحذير يَعْنِي: احْذَرُوا الْوِصَال. قَوْله: (أَبيت) ، كَذَا فِي الطَّرِيقَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة لفظ أَبيت، وَقد تقدم فِي رِوَايَة أنس بِلَفْظ: (أظل) . وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن عَائِشَة، وَأكْثر الرِّوَايَات، وَكَانَ بعض الروَاة عبر عَن (أَبيت) بِلَفْظ: أظل نظرا إِلَى اشتراكهما فِي مُطلق الْكَوْن، أَلا يرى أَنه يُقَال: أضحى فلَان كَذَا، مثلا وَلَا يُرَاد بِهِ تَخْصِيص ذَلِك بِوَقْت الضُّحَى، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى ظلّ وَجهه مسودا} (النَّحْل: 85) . فَإِن المُرَاد بِهِ مُطلق الْوَقْت وَلَا اخْتِصَاص لذَلِك بنهار دون ليل. قَوْله: (فاكلفوا) بِفَتْح اللَّام لِأَنَّهُ من: كلفت بِهَذَا الْأَمر أكلف، من: بَاب علم يعلم، أَي: أولعت بِهِ، وَالْمعْنَى هَهُنَا: تكلفوا مَا تطيقونه، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وتطيقونه، صلَة وعائد، أَي الَّذِي تقدرون عَلَيْهِ وَلَا تتكلفوا فَوق مَا تطيقونه فتعجزوا.

05 - (بابُ الوِصَالِ إلَى السَّحَرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْوِصَال إِلَى السحر، وَقد مضى أَنه مَذْهَب أَحْمد وَطَائِفَة من أَصْحَاب الحَدِيث، وَمن الشَّافِعِيَّة من قَالَ: إِن هَذَا لَيْسَ بوصال.

(11/75)


7691 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني ابنُ أبي حازِمٍ عنْ يَزِيدَ عنْ عَبْدِ الله بنِ خَبَّابٍ عنْ أبِي سَعيد الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ لاَ تُوَاصِلوا فأيُّكُمْ أرَادَ أنْ يُوَاصِلَ فلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ قالُوا فإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رسولَ الله قَالَ إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وساقٍ يَسْقِينِي. (انْظُر الحَدِيث 3691) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَيكُمْ أَرَادَ أَن يواصل فليواصل حَتَّى السحر) ، وَإِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، مر فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي كتاب الْإِيمَان، وَابْن أبي حَازِم هُوَ عبد الْعَزِيز، وَيزِيد من الزِّيَادَة هُوَ ابْن عبد الله بن الْهَاد.
وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب الْوِصَال فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن ابْن الْهَاد ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح (عَن أبي هُرَيْرَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يواصل إِلَى السحر، فَفعل بعض أَصْحَابه ذَلِك، فَنَهَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنَّك تفعل ذَلِك ... ؟) الحَدِيث، فَظَاهره يُعَارض حَدِيث أبي سعيد هَذَا، فَإِن فِي حَدِيث أبي صَالح إِطْلَاق النَّهْي عَن الْوِصَال، وَفِي حَدِيث أبي سعيد جَوَازه إِلَى السحر. قلت: ذكرُوا أَن رِوَايَة عُبَيْدَة بن حميد شَاذَّة، وَقد خَالفه أَبُو مُعَاوِيَة وَهُوَ أضبط أَصْحَاب الْأَعْمَش، فَلم يذكر ذَلِك، أخرجه أَحْمد وَغَيره عَن أبي مُعَاوِيَة، قيل: على تَقْدِير أَن تكون رِوَايَة عُبَيْدَة مَحْفُوظَة فَالْجَوَاب أَن ابْن خُزَيْمَة جمع بَينهمَا بِأَن يكون النَّهْي عَن الْوِصَال أَولا مُطلقًا سَوَاء فِي ذَلِك جَمِيع اللَّيْل أَو بعضه، ثمَّ خص النَّهْي بِجَمِيعِ اللَّيْل، فأباح الْوِصَال إِلَى السحر، فَيحمل حَدِيث أبي سعيد على هَذَا، وَحَدِيث عُبَيْدَة على الأول، وَقيل: يحمل النَّهْي فِي حَدِيث أبي صَالح على كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَفِي حَدِيث أبي سعيد على مَا فَوق السحر على كَرَاهَة التَّحْرِيم.

15 - (بابُ مَنْ أقْسَمَ عَلَى أخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ ولَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذا كانَ أوْفَقَ لَهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من حلف على أَخِيه وَكَانَ صَائِما ليفطر، وَالْحَال أَنه كَانَ فِي صَوْم التَّطَوُّع، وَلم ير على هَذَا الْمُفطر قَضَاء عَن ذَلِك الْيَوْم الَّذِي أفطر فِيهِ. قَوْله: (إِذا كَانَ الْإِفْطَار أوفق لَهُ) أَي: للمفطر بِأَن كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ، بِأَن عزم عَلَيْهِ أَخُوهُ فِي الْإِفْطَار، وَهَذَا الْقَيْد يدل على أَنه: لَا يفْطر إِذا كَانَ بِغَيْر عذر، وَلَا يتَعَمَّد ذَلِك. ويروى: إِذا كَانَ، يَعْنِي: حِين كَانَ، ويروى: أرْفق، أَيْضا بالراء وبالواو، وَالْمعْنَى صَحِيح فيهمَا، وَهَذَا تصرف البُخَارِيّ واختياره وَفِيه خلاف بَين الْفُقَهَاء سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

8691 - ح دَّثنا محَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ عَوْنٍ قَالَ حدَّثنا أبُو الْعُمَيْسِ عنْ عَوْنِ ابنِ أبِي جُحَيْفَة عنْ أبيهِ قَالَ آخَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ سَلْمانَ وأبِي الدَّرْدَاءِ فزَارَ سَلْمانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبِذِّلَةً فَقَالَ لَها مَا شَأنُكِ قالَتْ أخُوكَ أبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ فصَنَعَ لَهُ طَعَاما فَقَالَ كْلْ قَالَ فإنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ قَالَ فأكَلَ فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فنامَ ثُمَّ ذهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كانَ منْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمانُ قُمِ الآنَ فَصَلَّيَا فَقال لَهُ سَلْمَانُ إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقَّا ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًا ولأِهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّا فأعْطِ كلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فأتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَ سَلْمَانُ. (الحَدِيث 8691 طرفه فِي: 9316) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا الدَّرْدَاء صنع لسلمان طَعَاما وَكَانَ سلمَان صَائِما فَأفْطر بعد محاورة، ثمَّ لما أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(11/76)


وَأخْبرهُ بذلك لم يَأْمُرهُ بِالْقضَاءِ، وَقَالَ بَعضهم: ذكر الْقسم لم يَقع فِي حَدِيث أبي جُحَيْفَة هُنَا، وَأما الْقَضَاء فَلَيْسَ فِي شَيْء من طرقه إلاَّ أَن الأَصْل عَدمه، وَقد أقره الشَّارِع، وَلَو كَانَ الْقَضَاء وَاجِبا لبينه مَعَ حَاجته إِلَى الْبَيَان. انْتهى. قلت: فِي رِوَايَة الْبَزَّار عَن مُحَمَّد ابْن بشار شيخ البُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث، (فَقَالَ: أَقْسَمت عَلَيْك لتفطرنّ) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن حبَان، فَكَأَن شيخ البُخَارِيّ مُحَمَّد بن بشار لما حدث بِهَذَا الحَدِيث لم يذكر لَهُ هَذِه الْجُمْلَة، وَبلغ البُخَارِيّ ذَلِك من غَيره فَذكرهَا فِي التَّرْجَمَة، وَإِن لم يَقع فِي رِوَايَته، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي كتاب الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن بشار بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلم يذكر هَذِه الْجُمْلَة أَيْضا.
وَقيل: الْقسم مُقَدّر قبل قَوْله: (مَا أَنا بآكل) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إلاَّ واردها} (مَرْيَم: 17) . وَأما قَوْله: وَأما الْقَضَاء ... إِلَى آخِره، فَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْقَضَاء ثَبت فِي غَيره من الْأَحَادِيث، ونذكرها الْآن، وَقَوله: فَلَيْسَ فِي شَيْء من طرقه، لَا يسْتَلْزم عدم ذكره الْقَضَاء فِي طرق هَذَا الحَدِيث نفي وجوب الْقَضَاء فِي طرق غَيره، وَقَوله: إلاَّ أَن الأَصْل عَدمه أَي: عدم الْقَضَاء، غير مُسلم، بل الأَصْل وجوب الْقَضَاء، لِأَن الَّذِي يشرع فِي عبَادَة يجب عَلَيْهِ أَن يَأْتِي بهَا وإلاَّ يكون مُبْطلًا لعمله، وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . فَإِن قلت: قَالَ أَبُو عمر: أما من احْتج فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . فجاهل بأقوال أهل الْعلم، وَذَلِكَ أَن الْعلمَاء فِيهَا على قَوْلَيْنِ، فَيَقُول أَكثر أهل السّنة: لَا تبطلوها بالرياء أخلصوها لله تَعَالَى، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم بارتكاب الْكَبَائِر. قلت: من أَيْن لأبي عمر هَذَا الْحصْر.
وَقد اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقيل: لَا تُبْطِلُوا الطَّاعَات بالكبائر، وَقيل: لَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم بِمَعْصِيَة الله ومعصية رَسُوله، وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تبطلوها بالرياء والسمعة، عَنهُ بِالشَّكِّ، والنفاق، وَقيل: بالعجب، فَإِن الْعجب يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب. وَقيل: لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى على أَن قَوْله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . عَام يتَنَاوَل كل من يبطل عمله، سَوَاء كَانَ فِي صَوْم أَو فِي صَلَاة وَنَحْوهمَا من الْأَعْمَال الْمَشْرُوعَة، فَإِذا نهى عَن إِبْطَاله يجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ليخرج عَن عُهْدَة مَا شرع فِيهِ وأبطله.
وَأما الْأَحَادِيث الْمَوْعُود بذكرها. فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا كثير بن هِشَام حَدثنَا جَعْفَر بن برْقَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، (قَالَت: كنت أَنا وَحَفْصَة صائمتين فَعرض لنا طَعَام اشتهيناه، فأكلنا مِنْهُ، فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبدرتني إِلَيْهِ حَفْصَة وَكَانَت ابْنة أَبِيهَا فَقَالَت: يَا رَسُول الله إِنَّا كُنَّا صائمتين فَعرض لنا طَعَام اشتهيناه فأكلنا مِنْهُ {} فَقَالَ: إقضيا يَوْمًا آخر مَكَانَهُ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة يزِيد بن الْهَاد عَن زميل مولى عُرْوَة عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: أهدي لي ولحفصة طَعَام وَكُنَّا صائمتين فأفطرنا، ثمَّ دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُول الله إِنَّا أهديت لنا هَدِيَّة فاشتهيناها فأفطرنا! فَقَالَ: لَا عَلَيْكُمَا، صوما مَكَانَهُ يَوْمًا آخر) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة جَعْفَر بن برْقَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة يحيى بن أَيُّوب عَن إِسْمَاعِيل بن عقبَة. قَالَ: وَعِنْدِي فِي مَوضِع آخر: أَو إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَ (يحيى بن أَيُّوب وحَدثني صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ مثله، قَالَ النَّسَائِيّ: وجدته فِي مَوضِع آخر عِنْدِي: حَدثنِي صَالح بن كيسَان وَيحيى بن سعيد، مثله. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَاهُ مَالك بن أنس وَمعمر وَعبيد الله بن عمر وَزِيَاد بن سعد وَغير وَاحِد من الْحفاظ عَن الزُّهْرِيّ عَن عَائِشَة مُرْسلا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا فِي (الْعِلَل) : سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا يَصح حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة فِي هَذَا، قَالَ: وجعفر بن برْقَان ثِقَة، وَرُبمَا يخطىء فِي الشَّيْء، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي: لَا يَصح عَن عُرْوَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه) بعد أَن رَوَاهُ: هَذَا خطأ. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) بعد ذكره لهَذَا الحَدِيث: مدَار حَدِيث صَالح بن كيسَان وَيحيى بن سعيد على يحيى بن أَيُّوب وَهُوَ صَالح، وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم مَتْرُوك الحَدِيث، وجعفر بن برْقَان فِي الزُّهْرِيّ لَيْسَ بِشَيْء، وسُفْيَان بن حُسَيْن وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر فِي حَدِيثهمَا خطأ كثير، قَالَ: وحفاظ بن شهَاب يَرْوُونَهُ مُرْسلا. قلت: وَقد وَصله آخَرُونَ فجعلوه عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وهم جَعْفَر بن برْقَان وسُفْيَان بن حُسَيْن وَمُحَمّد بن أبي حَفْصَة وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة وَصَالح بن كيسَان وحجاج بن أَرْطَأَة. وَإِذا دَار الحَدِيث بَين الِانْقِطَاع والاتصال فطريق الِاتِّصَال أولى، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين، وَذَلِكَ لِأَن طَرِيق الِانْقِطَاع سَاكِت عَن

(11/77)


الرَّاوِي وحاله أصلا، وَفِي طَرِيق الِاتِّصَال بَيَان لَهُ، وَلَا مُعَارضَة بَين السَّاكِت والناطق، وَلَئِن سلمنَا أَنه روى مُرْسلا أَنه أصح، وَقد وَافقه حَدِيث مُتَّصِل وَهُوَ حَدِيث عَائِشَة بنت طَلْحَة، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا الْمُزنِيّ قَالَ: حَدثنَا الشَّافِعِي، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن طَلْحَة بن يحيى عَن عمته عَائِشَة بنت طَلْحَة (عَن عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت لَهُ: يَا رَسُول الله إِنَّا قد خبأنا لَك حَيْسًا، فَقَالَ: أما إِنِّي كنت أُرِيد الصَّوْم، وَلَكِن قربيه سأصوم يَوْمًا مَكَان ذَلِك) . قَالَ: مُحَمَّد هُوَ ابْن إِدْرِيس، سَمِعت سُفْيَان عَامَّة مجالستي إِيَّاه لَا يذكر فِيهِ (سأصوم يَوْمًا مَكَان ذَلِك) ، قَالَ: ثمَّ إِنِّي عرضت عَلَيْهِ الحَدِيث قبل أَن يَمُوت بِسنة فَأجَاب، فِيهِ: سأصوم يَوْمًا مَكَان ذَلِك، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه الْكَبِير) من طَرِيق الطَّحَاوِيّ وَفِي كِتَابه (الْمعرفَة) أَيْضا، فَفِي هَذَا الحَدِيث ذكر وجوب الْقَضَاء. وَفِي حَدِيث عَائِشَة مَا قد وَافق ذَلِك.
ثمَّ انْظُر مَا أَقُول لَك، من الْعجب العجاب، وَهُوَ أَن أَحْمد قَالَ: هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ جمَاعَة عَن سُفْيَان دون هَذِه اللَّفْظَة، وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن طَلْحَة ابْن يحيى دون اللَّفْظَة مِنْهُم: سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد ووكيع بن الْجراح وَيحيى بن سعيد الْقطَّان ويعلى بن عبيد وَغَيرهم، وَأخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عبد الْوَاحِد وَغَيره دون هَذِه اللَّفْظَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن الْكَبِيرَة) : رِوَايَة هَؤُلَاءِ تدل على خطأ هَذِه اللَّفْظَة، وَهَذَا الْعجب العجاب مِنْهُ أَن يخطِّيء هَهُنَا إِمَامه الشَّافِعِي ويخطِّىء مثل سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالشَّافِعِيّ إِمَام ثِقَة، وروى هَذِه اللَّفْظَة من مثل سُفْيَان الَّذِي هُوَ من أكبر مشايخه، ثمَّ لم يذكر خِلَافه عَنهُ، ثمَّ يتَلَفَّظ بِمثل هَذَا الْكَلَام البشيع لأجل تَضْعِيف مَا احتجت بِهِ الْحَنَفِيَّة، وغمض عَيْنَيْهِ من جِهَة الشَّافِعِي وَمن جِهَة شَيْخه، وَلَيْسَ هَذَا من دأب الْعلمَاء الراسخين، فضلا عَن الْعلمَاء المقلدين.
وَأما قَول البُخَارِيّ والذهلي: إِنَّه لَا يَصح، فَهُوَ نفي، وَالْإِثْبَات مقدم عَلَيْهِ. وَقَوله: قَالَ النَّسَائِيّ هَذَا خطأ دَعْوَى بِلَا إِقَامَة برهَان، لِأَن كَونه مُرْسلا على زعمهم لَا يسْتَلْزم كَونه خطأ، وَقَول أبي عمر فِيهِ وهمان: أَحدهمَا: أَن قَوْله: مدَار حَدِيث يحيى بن سعيد على يحيى بن أَيُّوب غَفلَة مِنْهُ، فَإِنَّهُ هُوَ بعد هَذَا بأسطر رَوَاهُ من رِوَايَة أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. وَالثَّانِي: أَن قَوْله: وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم مَتْرُوك الحَدِيث، قد انْقَلب عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم فَظن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن حَبِيبَة، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث وَلَيْسَ هُوَ الرَّاوِي لهَذَا الحَدِيث، وَهَذَا إِسْمَاعِيل بن عقبَة، احْتج بِهِ البُخَارِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الَّتِي تقدّمت وذكرناها آنِفا زميل مولى عُرْوَة عَن عُرْوَة، قَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح لزميل سَماع من عُرْوَة وَلَا ليزِيد من زميل، وَلَا تقوم بِهِ الْحجَّة. قلت: فِي (سنَن) النَّسَائِيّ التَّصْرِيح بِسَمَاع يزِيد مِنْهُ، وَقَول البُخَارِيّ لَا يَصح لزميل سَماع عَن عُرْوَة نفي فَيقدم عَلَيْهِ الْإِثْبَات، وزميل هُوَ ابْن عَبَّاس أَو عَيَّاش مولى عُرْوَة قيل: بِضَم الزَّاي وَفتح الْمِيم، وَقيل: بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْمِيم، وَلِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، طَرِيق آخر رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن عِيسَى عَن ابْن وهب عَن جرير بن حَازِم عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، الحَدِيث وَفِي آخِره قَالَ: صوما يَوْمًا مَكَانَهُ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن ابْن قُتَيْبَة عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) وَأحسن حَدِيث فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث ابْن الْهَاد عَن زميل عَن عُرْوَة، وَحَدِيث جرير بن حَازِم عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة خطاب بن الْقَاسِم عَن خصيف عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل على حَفْصَة وَعَائِشَة وهما صائمتان، ثمَّ خرج فَرجع وهما يأكلان، فَقَالَ: ألم تَكُونَا صائمتين؟ قَالَتَا: بلَى، وَلَكِن أهدي لنا هَذَا الطَّعَام فأعجبنا فأكلنا مِنْهُ، فَقَالَ: صوما يَوْمًا مَكَانَهُ) فَإِن قلت: قَالَ النَّسَائِيّ وَابْن عبد الْبر: هَذَا الحَدِيث مُنكر؟ قلت: إِنَّمَا قَالَا ذَلِك بِسَبَب خطاب ابْن الْقَاسِم عَن خصيف، لِأَن فيهمَا مقَالا فِيمَا قَالَه عبد الْحق، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: خطاب ثِقَة، قَالَه ابْن معِين وَأَبُو زرْعَة، وَلَا أحفظ لغَيْرِهِمَا فِيهِ مَا يُنَاقض ذَلِك. وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَيحيى بن معِين وَأَبُو زرْعَة وَالْعجلِي: خصيف ثِقَة، عَن ابْن معِين: صَالح، وَعنهُ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي (تَارِيخ الضُّعَفَاء) من حَدِيث مُحَمَّد ابْن أبي سَلمَة عَن مُحَمَّد بن عمر وَعَن أبي سَلمَة (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: أهديت لعَائِشَة وَحَفْصَة هَدِيَّة وهما صائمتان فأكلتا مِنْهَا، فذكرتا ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: اقضيا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تعودا) . أوردهُ فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن أبي سَلمَة الْمَكِّيّ، وَقَالَ: لَا يُتَابع على حَدِيثه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ

(11/78)


فِي الْأَفْرَاد من رِوَايَة مُحَمَّد بن حميد عَن الضَّحَّاك بن حمرَة عَن مَنْصُور بن أبان (عَن الْحسن عَن أمه عَن أم سَلمَة: أَنَّهَا صَامت يَوْمًا تَطَوّعا، فأفطرت، فَأمرهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن تقضي يَوْمًا مَكَانَهُ) . فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بِهِ الضَّحَّاك عَن مَنْصُور، وَالضَّحَّاك لَيْسَ بِشَيْء، قَالَه ابْن معِين وَمُحَمّد بن حميد: كَذَّاب، قَالَه أَبُو زرْعَة؟ قلت: الضَّحَّاك بن حمرَة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَبعد الْمِيم رَاء: الأملوكي الوَاسِطِيّ، ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَإِذا كَانَ الضَّحَّاك ثِقَة لَا يروي عَن كَذَّاب.
وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ، قَالَ: (صنع رجل من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طَعَاما، فَدَعَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأصحابا لَهُ، فَلَمَّا أُتِي بِالطَّعَامِ تنحى أحدهم، فَقَالَ لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لَك؟ فَقَالَ: إِنِّي صَائِم، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تكلّف لَك أَخُوك وصنع، ثمَّ تَقول: إِنِّي صَائِم؟ كُلْ، وصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ) . وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث سعيد بن أبي الْحسن (عَن ابْن عَبَّاس: أَنه أخبر أَصْحَابه أَنه صَامَ ثمَّ خرج عَلَيْهِم وَرَأسه يقطر، فَقَالُوا: ألم تَكُ صَائِما؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِن مرت بِي جَارِيَة لي فأعجبتني فأصبتها وَكَانَت حَسَنَة، فهممت بهَا وَأَنا قاضيها يَوْمًا آخر) . وَأخرج ابْن حزم فِي (الْمحلى) من طَرِيق وَكِيع (عَن سيف بن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ قَالَ: خرج عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْمًا على الصَّحَابَة، فَقَالَ: إِنِّي أَصبَحت صَائِما، فمرت بِي جَارِيَة فَوَقَعت عَلَيْهَا، فَمَا ترَوْنَ؟ قَالَ: فَلم يألوا مَا شكوا عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أصبت حَلَالا وتقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، قَالَ لَهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنْت أحْسنهم فتيا) . وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : (حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن عُثْمَان البتي عَن أنس ابْن سِيرِين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه: صَامَ يَوْم عَرَفَة فعطش عطشا شَدِيدا فَأفْطر، فَسَأَلَ عدَّة من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأمروه أَن يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ) .
وَرُوِيَ وجوب الْقَضَاء عَن أبي بكر وَعمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَجَابِر بن عبد الله وَعَائِشَة وَأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير فِي قَول، وَأبي حنيفَة وَمَالك وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد رَحِمهم الله. وَمذهب مُجَاهِد وطاووس وَعَطَاء وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: أَن المتطوع بِالصَّوْمِ إِذا أفطر بِعُذْر أَو بِغَيْر عذر لَا قَضَاء عَلَيْهِ، إلاَّ أَنه يحب هُوَ أَن يَقْضِيه، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أم هانىء رَوَاهُ أَحْمد عَنْهَا: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شرب شرابًا فناولها لتشرب، فَقَالَت إِنِّي صَائِمَة، وَلَكِنِّي كرهت أَن أرد سؤرك، فَقَالَ: إِن كَانَ من قَضَاء رَمَضَان فاقضي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِن كَانَ تَطَوّعا فَإِن شِئْت فاقضي. وَإِن شِئْت فَلَا تقضي) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَلَاث طرق، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: أَنبأَنَا شُعْبَة: كنت أسمع سماك بن حَرْب يَقُول: حَدثنِي أحد بني أم هانىء فَلَقِيت أفضلهم، وَكَانَ اسْمه جعدة، (فَحَدثني عَن جدته أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دخل عَلَيْهَا فدعى بشراب فَشرب ثمَّ ناولها فَشَرِبت فَقَالَت يارسول الله أما اني كنت صَائِمَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّائِم المتطوع أَمِير نَفسه، إِن شَاءَ صَامَ وَإِن شَاءَ أفطر) . قَالَ شُعْبَة: فَقلت لَهُ: أَنْت سَمِعت هَذَا من أم هانىء؟ قَالَ: لَا أَخْبرنِي أَبُو صَالح، وأهلنا عَن أم هانىء، وروى حَمَّاد بن سَلمَة هَذَا الحَدِيث عَن سماك، فَقَالَ: ابْن بنت أم هانىء، وَرِوَايَة شُعْبَة أحسن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أم هانىء فِي إِسْنَاده مقَال؟ قلت: هَذَا الحَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب متْنا وسندا. أما الأول: فَظَاهر، وَقد ذكر فِيهِ أَنه كَانَ يَوْم الْفَتْح، وَهِي أسلمت عَام الْفَتْح، وَكَانَ الْفَتْح فِي رَمَضَان، فَكيف لَا يلْزمهَا قَضَاؤُهُ؟ وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (مُخْتَصر سنَن الْبَيْهَقِيّ) : وَلَا أرَاهُ يَصح، فَإِن يَوْم الْفَتْح كَانَ صَومهَا فرضا لِأَنَّهُ رَمَضَان. وَقَالَ غَيره: وَمِمَّا يوهن هَذَا الْخَبَر أَنَّهَا يَوْم الْفَتْح فَلَا يجوز لَهَا أَن تكون متطوعة لِأَنَّهَا كَانَت فِي شهر رَمَضَان قطعا.
وَأما اضْطِرَاب سَنَده فَاخْتلف سماك فِيهِ، فَتَارَة رَوَاهُ عَن أبي صَالح، وَتارَة عَن جعدة، وَتارَة عَن هَارُون. أما أَبُو صَالح فَهُوَ باذان، وَيُقَال: باذام ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضَعِيف لَا يحْتَج بِخَبَرِهِ، وَقَالَ فِي: بَاب أصل الْقسَامَة: أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس ضَعِيف، وَعَن الْكَلْبِيّ، قَالَ لي أَبُو صَالح: كل مَا حدثتك بِهِ كذب، وَفِي (السّنَن الْكُبْرَى) للنسائي: هُوَ ضَعِيف الحَدِيث، وَعَن حبيب بن أبي ثَابت: كُنَّا نُسَمِّيه: الدرودن،، وَهُوَ باللغة الفارسية: الْكذَّاب. وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَقد رُوِيَ أَنه قَالَ فِي مَرضه: كل شَيْء حدثتكم بِهِ فَهُوَ كذب. وَأما جعدة فمجهول، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لم يسمعهُ جعدة عَن أم هانىء. وَأما هَارُون فمجهول الْحَال، قَالَه ابْن الْقطَّان. وَاخْتلف فِي نسبه، فَقيل:

(11/79)


ابْن أم هانىء، وَقيل: ابْن هانىء، وَقيل: ابْن ابْنة أم هانىء، وَقيل: هَذَا وهم، فَإِنَّهُ لَا يعرف لَهَا بنت، وَقَالَ النَّسَائِيّ: اخْتلف على سماك فِيهِ، وَسماك لَا يعْتَمد عَلَيْهِ إِذا انْفَرد بِالْحَدِيثِ، وَقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره من غير طَرِيق سماك فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْله: (فَإِن شِئْت فاقضيه وَإِن شِئْت فَلَا تقضيه) . وَلم يرو هَذَا اللَّفْظ عَن سماك غير حَمَّاد بن سَلمَة. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة حَاتِم بن أبي صعيرة وَأبي عوَانَة كِلَاهُمَا عَن سماك، وَلَيْسَ فِيهِ هَذِه اللَّفْظَة.
ذكر رجال الحَدِيث: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة. الثَّانِي: جَعْفَر ابْن عون، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره نون: أَبُو عون المَخْزُومِي الْقرشِي. الثَّالِث: أَبُو العميس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، واسْمه: عتبَة بن عبد الله بن مَسْعُود، وَقد مر فِي زِيَادَة الْإِيمَان. الرَّابِع: عون بن أبي جُحَيْفَة. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء. واسْمه: وهب بن عبد الله السوَائِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن مُحَمَّد بن بشار بَصرِي ويلقب ببندار لِأَنَّهُ كَانَ بندارا فِي الحَدِيث، والبندار: الْحَافِظ، وَهُوَ شيخ الْجَمَاعَة، والبقية كوفيون. وَفِيه: أَن هَذَا الحَدِيث لم يروه إلاَّ أَبُو العميس عَن عون بن أبي جُحَيْفَة، وَلَا لأبي العميس راوٍ إلاَّ جَعْفَر بن عون، وأنهما منفردان بذلك، نبه عَلَيْهِ الْبَزَّار، وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي الْأَدَب، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن بشار فِي الزّهْد، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (آخى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من المؤاخاة وَهِي اتِّخَاذ الْأُخوة بَين الْإِثْنَيْنِ، يُقَال: وآخاه مواخاة وإخاء وتآخيا على تفاعلاً، وتأخيت إخاء، أَي: اتَّخذت أَخا، ذكر أهل السّير والمغازي: أَن المؤاخاة بَين الصَّحَابَة وَقعت مرَّتَيْنِ: الأولى: قبل الْهِجْرَة بَين الْمُهَاجِرين خَاصَّة على الْمُوَاسَاة والمناصرة، وَكَانَ من ذَلِك أخوة زيد بن حَارِثَة وَحَمْزَة بن عبد الْمطلب، ثمَّ آخى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، بعد أَن هَاجر وَذَلِكَ بعد قدومه الْمَدِينَة. فَإِن قلت: روى الْوَاقِدِيّ عَن الزُّهْرِيّ أَنه كَانَ يُنكر كل مؤاخاة وَقعت بعد بدر، وَيَقُول: قطعت بدر الْمَوَارِيث، وسلمان إِنَّمَا أسلم بعد وقْعَة أحد، وَأول مُشَاهدَة الخَنْدَق. قلت: الَّذِي قَالَه الزُّهْرِيّ إِنَّمَا يُرِيد بِهِ المؤاخاة الْمَخْصُوصَة الَّتِي كَانَت عقدت بَينهم ليتوارثوا بهَا، ومؤاخاة سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء إِنَّمَا كَانَت على المؤاساة، والمؤاخاة الْمَخْصُوصَة لَا تدفع المؤاخاة من أَصْلهَا. وروى ابْن سعد من طَرِيق حميد بن هِلَال، قَالَ: وآخى بَين سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء، فَنزل سلمَان الْكُوفَة وَنزل أَبُو الدَّرْدَاء الشَّام. قَوْله: (فزار سلمَان أَبَا الدَّرْدَاء) ، يَعْنِي فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوجدَ أَبَا الدَّرْدَاء غَائِبا فَرَأى أم الدَّرْدَاء متبذلة، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة، أَي: لابسة ثِيَاب البذلة، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة: وَهِي المهنة وزنا وَمعنى وَالْمرَاد: أَنَّهَا تاركة للبس ثِيَاب الزِّينَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مبتذلة، بِتَقْدِيم الْبَاء الْمُوَحدَة وَالتَّخْفِيف من الابتذال من بَاب الافتعال، ومعناهما وَاحِد، وَوَقع فِي (الْحِلْية) لأبي نعيم بِإِسْنَاد آخر إِلَى أم الدَّرْدَاء عَن أبي الدَّرْدَاء: أَن سلمَان دخل عَلَيْهِ فَرَأى امْرَأَته رثَّة الْهَيْئَة، فَذكر الْقِصَّة مختصرة، وَأم الدَّرْدَاء هَذِه اسْمهَا: خيرة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بنت أبي حَدْرَد الأسْلَمِيَّة، صحابية بنت صَحَابِيّ، وحديثها عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي (مُسْند أَحْمد) وَغَيره، وَمَاتَتْ قبل أبي الدَّرْدَاء، وَلأبي الدَّرْدَاء امْرَأَة أُخْرَى أَيْضا يُقَال لَهَا: أم الدَّرْدَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَيْضا اسْمهَا: هجيمة تابعية، عاشت بعده دهرا، وروت عَنهُ. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا. قَوْله: (فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنك؟) وَزَاد التِّرْمِذِيّ فِي رِوَايَته: (يَا أم الدَّرْدَاء؟) . قَوْله: (لَيست لَهُ حَاجَة فِي الدُّنْيَا) وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من وَجه آخر عَن مُحَمَّد بن عون (فِي نسَاء الدُّنْيَا) ، وَزَاد فِيهِ ابْن خُزَيْمَة عَن يُوسُف بن مُوسَى عَن جَعْفَر بن عون: (يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل) . قَوْله: (فجَاء أَبُو الدَّرْدَاء) ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (فَرَحَّبَ بسلمان وَقرب إِلَيْهِ طَعَاما) . قَوْله: (فَقَالَ: كل. قَالَ: فَإِنِّي صَائِم) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ

(11/80)


(فَقَالَ: كل فَإِنِّي صَائِم) . فعلى رِوَايَة أبي ذَر الْقَائِل بقوله: كل، هُوَ سلمَان، وَالْمقول لَهُ هُوَ: أَبُو الدَّرْدَاء، وَهُوَ الْمُجيب بِأَنَّهُ صَائِم، وعَلى رِوَايَة التِّرْمِذِيّ الْقَائِل بقوله: كل، هُوَ أَبُو الدَّرْدَاء، وَالْمقول لَهُ سلمَان. قَوْله: (قَالَ: مَا أَنا بآكل) أَي: قَالَ سلمَان: مَا أَنا بآكل من طَعَامك حَتَّى تَأْكُل، وَالْخطاب لأبي الدَّرْدَاء. قَوْله: (فَأكل) أَي: أَبُو الدَّرْدَاء، ويروى: فأكلا، يَعْنِي سلمَان وَأَبا الدَّرْدَاء. قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل) ، يَعْنِي أول اللَّيْل ذهب أَبُو الدَّرْدَاء يقوم يَعْنِي للصَّلَاة، وَمحل: يقوم، نصب على الْحَال. قَوْله: (فَقَالَ: نم) ، أَي: قَالَ سلمَان لأبي الدَّرْدَاء: نم، وَفِي رِوَايَة ابْن سعد من وَجه آخر مُرْسلا، (فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاء: أتمنعني أَن أَصوم لرَبي وأصلي لرَبي؟) قَوْله: (فَلَمَّا كَانَ من آخر اللَّيْل) ، أَرَادَ عِنْد السحر، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَعند التِّرْمِذِيّ: (فَلَمَّا كَانَ عِنْد الصُّبْح) ، وَفِي رِوَايَة الدراقطني: (فَلَمَّا كَانَ فِي وَجه الصُّبْح) . قَوْله: (قَالَ سلمَان: قُم الْآن) أَي: قَالَ سلمَان لأبي الدَّرْدَاء: قُم فِي هَذَا الْوَقْت، يَعْنِي: وَقت السحر. قَوْله: (فَصَليَا) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: فقاما وصليا، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: (فقاما وتوضآ ثمَّ ركعا ثمَّ خرجا إِلَى الصَّلَاة) . قَوْله: (ولأهلك عَلَيْك حَقًا) ، وَزَاد التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة: (ولضيفك عَلَيْك حَقًا) . وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ: (فصُمْ وأفْطِرْ وصَلِّ ونَمْ وائتِ أهْلَك) . قَوْله: (فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فَأتى أَبُو الدَّرْدَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر ذَلِك، أَي: مَا ذكر من الْأُمُور لَهُ، أَي: للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (فَأتيَا) ، بالتثنية. وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: (ثمَّ خرجا إِلَى الصَّلَاة، فَدَنَا أَبُو الدَّرْدَاء، ليخبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالَّذِي قَالَ لَهُ سلمَان، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاء {إِن لجسدك عَلَيْك حَقًا) . مثل مَا قَالَ سلمَان، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ إِلَيْهِمَا بِأَنَّهُ علم بطرِيق الْوَحْي مَا دَار بَينهمَا، وَلَيْسَ ذَلِك فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن بشار، وَيُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَنَّهُ كاشفهما بذلك أَولا ثمَّ أطلعه أَبُو الدَّرْدَاء على صُورَة الْحَال، فَقَالَ لَهُ: صدق سلمَان، وروى هَذَا الحَدِيث الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن مُحَمَّد بن سِيرِين مُرْسلا، فعين اللَّيْلَة الَّتِي بَات سلمَان فِيهَا عِنْد أبي الدَّرْدَاء، وَلَفظه: (قَالَ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاء يحيى لَيْلَة الْجُمُعَة ويصوم يَوْمهَا، فَأَتَاهُ سلمَان) ، فَذكر الْقِصَّة مختصرة، وَزَاد فِي آخرهَا: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عُوَيْمِر} سلمَان أفقه مِنْك) . انْتهى، وعويمر تَصْغِير: عَامر، أسم لأبي الدَّرْدَاء، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْحِلْية) : (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد أُوتِيَ سلمَان من الْعلم) ، وَفِي رِوَايَة ابْن سعد: (لقد أشْبع سلمَان علما) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الْفطر من صَوْم التَّطَوُّع، لما ترْجم لَهُ البُخَارِيّ، ثمَّ الْقَضَاء هَل يجب عَلَيْهِ أم لَا؟ قد ذَكرْنَاهُ مَعَ الْخلاف فِيهِ، وَقد نقل ابْن التِّين عَن مَذْهَب مَالك: أَنه لَا يفْطر لضيف نزل بِهِ، وَلَا لمن حلف عَلَيْهِ بِالطَّلَاق وَالْعتاق، وَكَذَا لَو حلف هُوَ بِاللَّه ليفطرنَّ كفر، وَلَا يفْطر. وَسَيَأْتِي من حَدِيث أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفْطر لما زَارَهُ سليم وَكَانَ صَائِما تَطَوّعا، وَقد صَحَّ عَن عَائِشَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يفْطر من صَوْم التَّطَوُّع، وَزَاد بَعضهم فِيهِ: (فَأكل ثمَّ قَالَ: لَكِن أَصوم يَوْمًا مَكَانَهُ) . وَفِي (الْمَبْسُوط) : بعد الشُّرُوع فِي الصَّوْم لَا يُبَاح لَهُ الْإِفْطَار بِغَيْر عذر عندنَا، فَيكون بالإفطار جانيا، فَيلْزمهُ الْقَضَاء، وَلَا خلاف أَنه يُبَاح لَهُ الْإِفْطَار بِعُذْر.
وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي الضِّيَافَة، فروى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه يُبِيح الْفطر، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَنه لَا يكون عذرا، وروى ابْن أبي مَالك عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة: أَنه عذر، وَهُوَ الْأَظْهر، وَيجب الْقَضَاء فِي الْإِفْطَار بِعُذْر كَانَ أَو بِغَيْر عذر، وَكَانَ الْإِفْطَار بصنعه أَو بِغَيْر صنعه، كالصائمة تَطَوّعا إِذا حَاضَت عَلَيْهَا الْقَضَاء فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي (الفتاوي) : دعِي إِلَى طَعَام وَهُوَ صَائِم فِي النَّفْل إِن صنع لأَجله، فَلَا بَأْس بِأَن يفْطر. وَعَن مُحَمَّد: إِن دخل على أَخ لَهُ فَدَعَاهُ أفطر وَقيل: إِن تأذى بامتناعه أفطر، وَعَن الْحسن: أَنه لَا يفْطر إلاَّ بِعُذْر. وَفِي (الْمُنْتَقى) : لَهُ أَن يفْطر. قيل: تَأْوِيله بِعُذْر، وَقيل: قبل الزَّوَال لَهُ أَن يفْطر وَبعده لَا يفْطر، وَفِي الْقَضَاء وَصَوْم الْفَرْض لَا يفْطر، وَعَن مُحَمَّد: لَا بَأْس بِهِ.
وَإِن حلف غَيره بِطَلَاق امْرَأَته أَن يفْطر، قَالَ نصير وَخلف بن أَيُّوب: لَا يفْطر. ودعه يَحْنَث، وَعَن مُحَمَّد: لَا بَأْس بِأَن يفْطر، وَإِن كَانَ فِي قَضَاء. وَفِي (الْمُحِيط) إِن حلف بِطَلَاق امْرَأَته يفْطر فِي التَّطَوُّع دون الْقَضَاء. وَهُوَ قَول أبي اللَّيْث. وَفِي (المرغيناني) : الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن صَاحب الدعْوَة إِذا كَانَ رَضِي بِمُجَرَّد حُضُوره لَا يفْطر، وَقَالَ الْحلْوانِي: أحسن مَا قيل فِيهِ إِن كَانَ يَثِق من نَفسه بِالْقضَاءِ يفْطر وإلاَّ فَلَا يفْطر، وَإِن كَانَ فِيهِ أَذَى لمُسلم، وَفِي (المأمونية) لِلْحسنِ بن زِيَاد: إِذا دعِي إِلَى وَلِيمَة فليجب وَلَا يفْطر فِي

(11/81)


التَّطَوُّع، فَإِن أقسم عَلَيْهِ أهل الْوَلِيمَة فَأفْطر فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَ يتَأَذَّى يفْطر وَيَقْضِي، وَبعد الزَّوَال لَا يفْطر إلاَّ إِذا كَانَ فِي تَركه عقوق بالوالدين أَو بِأَحَدِهِمَا.
وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة المواخاة فِي الله. وَفِيه: زِيَارَة الإخوان وَالْمَبِيت عِنْدهم. وَفِيه: جَوَاز مُخَاطبَة الْأَجْنَبِيَّة للْحَاجة. وَفِيه: السُّؤَال عَمَّا تترتب عَلَيْهِ الْمصلحَة وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر لَا يتَعَلَّق بالسائل. وَفِيه: النصح للْمُسلمِ وتنبيه من كَانَ غافلاً. وَفِيه: فضل قيام آخر اللَّيْل. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة تَزْيِين الْمَرْأَة لزَوجهَا. وَفِيه: ثُبُوت حق الْمَرْأَة على الزَّوْج فِي حسن الْعشْرَة، وَقد يُؤْخَذ مِنْهُ ثُبُوت حَقّهَا فِي الْوَطْء. لقَوْله: (ولأهلك عَلَيْك حَقًا) ، وَفِيه: جَوَاز النَّهْي عَن المستحبات إِذا خشِي إِن ذَلِك يُفْضِي إِلَى السَّآمَة والملل وتفويت الْحُقُوق الْمَطْلُوبَة الْوَاجِبَة أَو المندوبة الرَّاجِح فعلهَا على فعل الْمُسْتَحبّ. وَفِيه: أَن الْوَعيد الْوَارِد على من نهى مُصَليا عَن الصَّلَاة مَخْصُوص بِمن نَهَاهُ ظلما وعدوانا. وَفِيه: كَرَاهِيَة الْحمل على النَّفس فِي الْعِبَادَة. وَفِيه: النّوم للتقوي على الصّيام، وَفِيه: النَّهْي عَن الغلو فِي الدّين.

25 - (بابُ صَوْمَ شَعْبَانَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل صَوْم شهر شعْبَان، وَهَذَا الْبَاب أول شُرُوعه فِي التطوعات من الصّيام، واشتقاق شعْبَان من الشّعب، وَهُوَ الِاجْتِمَاع، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يتشعب فِيهِ خير كثير كرمضان، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يتشعبون فِيهِ بعد التَّفْرِقَة، وَيجمع على: شعابين، وشعبانات، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمي بذلك لتشعبهم فِيهِ، أَي: لتفرقهم فِي طلب الْمِيَاه. وَفِي (الْمُحكم) سمي بذلك لتشعبهم فِي الغارات، وَقَالَ ثَعْلَب: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا سمي شعبانا لِأَنَّهُ: شَعَبَ، أَي: ظهر بَين رَمَضَان وَرَجَب، وَعَن ثَعْلَب: كَانَ شعْبَان شهرا تتشعب فِيهِ الْقَبَائِل، أَي تتفرق لقصد الْمُلُوك والتماس الْعَطِيَّة، وَفِي (التَّلْوِيح) : وَأما الْأَحَادِيث الَّتِي فِي صَلَاة النّصْف مِنْهُ فَذكر أَبُو الْخطاب أَنَّهَا مَوْضُوعَة، وفيهَا عِنْد التِّرْمِذِيّ حَدِيث مَقْطُوع قلت: هُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع، حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن يحيى بن أبي كثير عَن عُرْوَة: (عَن عَائِشَة قَالَت: فقدت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخرجت فَإِذا هُوَ بِالبَقِيعِ، فَقَالَ: أكنتِ تَخَافِينَ أَن يَحِيف الله عَلَيْك وَرَسُوله؟ قلت: يَا رَسُول الله! ظَنَنْت أَنَّك أتيت بعض نِسَائِك، فَقَالَ: إِن الله عز وَجل، ينزل لَيْلَة النّصْف من شعْبَان إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَيغْفر لأكْثر من عدد شعر غنم بني كلب) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث عَائِشَة لَا نعرفه إلاَّ من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث الْحجَّاج، وَسمعت مُحَمَّدًا يضعف هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عُرْوَة، وَالْحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير. وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا من طَرِيق يزِيد بن هَارُون، وَقَول أبي الْخطاب: إِنَّه مَقْطُوع هُوَ أَنه مُنْقَطع فِي موضِعين: أَحدهمَا: مَا بَين الْحجَّاج وَيحيى، وَالْآخر: مَا بَين يحيى وَعُرْوَة. فَإِن قلت: أثبت ابْن معِين ليحيى السماع من عُرْوَة. قلت: اتّفق البُخَارِيّ وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم على أَنه لم يسمع مِنْهُ، والمثبت مقدم على النَّافِي، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَهُوَ مَقْطُوع فِي مَوضِع وَاحِد، وَلَا يخرج عَن الِانْقِطَاع.
وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة ابْن أبي سُبْرَة عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن عَليّ بن أبي طَالب، كرم الله وَجهه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا كَانَت لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فَقومُوا لَيْلهَا وصوموا نَهَارهَا، فَإِن الله تَعَالَى ينزل فِيهَا لغروب الشَّمْس إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول: ألاَ مَن يستغفرني فَأغْفِر لَهُ؟ أَلا من يسترزق فأرزقه؟ ألاَ من مبتلَى فأعافيه؟ ألاَ كَذَا؟ ألاَ كَذَا؟ حَتَّى يطلع الْفجْر) . وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَابْن أبي سُبْرَة هُوَ أَبُو بكر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سُبْرَة مفتي الْمَدِينَة وقاضي بَغْدَاد ضَعِيف، وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد هُوَ ابْن أبي يحيى ضعفه الْجُمْهُور، ولعلي بن أبي طَالب حَدِيث آخر، قَالَ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة النّصْف من شعْبَان قَامَ فصلى أَربع عشرَة رَكْعَة، ثمَّ جلس، فَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن أَربع عشرَة مرّة) الحَدِيث. وَفِي آخِره: (من صنع هَكَذَا لَكَانَ لَهُ كعشرين حجَّة مبرورة، وكصيام عشْرين سنة مَقْبُولَة، فَإِن أصبح فِي ذَلِك الْيَوْم صَائِما كَانَ لَهُ كصيام سِتِّينَ سنة مَاضِيَة، وَسِتِّينَ سنة مُسْتَقْبلَة) . رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الموضوعات) وَقَالَ: هَذَا مَوْضُوع، وَإِسْنَاده مظلم. ولعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَدِيث آخر رَوَاهُ أَيْضا فِي (الموضوعات) فِيهِ: (من صلى مائَة رَكْعَة فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان) الحَدِيث، وَقَالَ: لَا شكّ أَنه مَوْضُوع، وَكَانَ بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي هَذِه الصَّلَاة مقاولات، فَابْن الصّلاح يزْعم أَن لَهَا أصلا من السّنة، وَابْن عبد السَّلَام يُنكره.
وَأما الْوقُود فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَزعم ابْن دحْيَة أَن أول مَا كَانَ

(11/82)


ذَلِك زمن يحيى بن خَالِد بن برمك، أَنهم كَانُوا مجوسا فأدخلوا فِي دين الْإِسْلَام مَا يموهون بِهِ على الطَّعَام. قَالَ: وَلما اجْتمعت بِالْملكِ الْكَامِل وَذكرت لَهُ ذَلِك قطع دابر هَذِه الْبِدْعَة الْمَجُوسِيَّة من سَائِر أَعمال الْبِلَاد المصرية.

9691 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي النَّضْرِ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُومُ حَتَّى نقُولَ لاَ يُفْطِرُ ويُفْطِرُ حَتَّى نقُولَ لاَ يَصُومُ فَمَا رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رأيْتُهُ أكْثَرَ صِيَاما مِنْهُ فِي شَعْبَانَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمَا رَأَيْته أَكثر صياما مِنْهُ من شعْبَان) وَأَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: اسْمه سَالم بن أبي أُميَّة، قد مر فِي: بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن أبي مُصعب الزُّهْرِيّ عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن مَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث.
قَوْله: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم حَتَّى نقُول لَا يفْطر) ، يَعْنِي: يَنْتَهِي صَوْمه إِلَى غَايَة نقُول: إِنَّه لَا يفْطر، فينتهي إفطاره إِلَى غَايَة حَتَّى نقُول: إِنَّه لَا يَصُوم، وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال الَّتِي يتَطَوَّع بهَا لَيست منوطة بأوقات مَعْلُومَة، وَإِنَّمَا هِيَ على قدر الْإِرَادَة لَهَا والنشاط فِيهَا. قَوْله: (فَمَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتكْمل صِيَام شهر إلاَّ رَمَضَان) ، وَهَذَا يدل على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصم شهرا تَاما غير رَمَضَان. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سَلمَة (عَن أم سَلمَة: لم يكن يَصُوم فِي السّنة شهرا كَامِلا إلاَّ شعْبَان يصله برمضان) . وَهَذَا يُعَارض حَدِيث عَائِشَة، وَكَذَلِكَ روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سَالم بن أبي الْجَعْد عَن أبي سَلمَة (عَن أم سَلمَة، قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين إلاَّ شعْبَان ورمضان) . وَهَذَا أَيْضا يُعَارضهُ. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: رُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ: هُوَ جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب إِذا صَامَ أَكثر الشَّهْر أَن يُقَال: صَامَ الشَّهْر كُله، وَيُقَال: قَامَ فلَان ليله أجمع، وَلَعَلَّه تعشى واشتغل بِبَعْض أمره، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَانَ ابْن الْمُبَارك قد رأى كلا الْحَدِيثين متفقين، يَقُول: إِنَّمَا معنى هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ يَصُوم أَكثر الشَّهْر. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا فِيهِ مَا فِيهِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ إلاَّ شعْبَان ورمضان، فعطف رَمَضَان عَلَيْهِ يبعد أَن يكون المُرَاد بشعبان أَكْثَره، إِذْ لَا جَائِز أَن يكون المُرَاد برمضان بعضه، والعطف يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِيمَا عطف عَلَيْهِ، وَإِن مَشى ذَلِك فَإِنَّمَا يمشي على رَأْي من يَقُول: إِن اللَّفْظ الْوَاحِد يحمل على حَقِيقَته ومجازه، وَفِيه خلاف لأهل الْأُصُول. انْتهى. قلت: لَا يمشي هُنَا مَا قَالَه على رَأْي الْبَعْض أَيْضا، لِأَن من قَالَ ذَلِك قَالَ فِي اللَّفْظ الْوَاحِد، وَهنا لفظان: شعْبَان ورمضان، وَقَالَ ابْن التِّين: إِمَّا أَن يكون فِي أَحدهمَا وهم، أَو يكون فعل هَذَا وَهَذَا، أَو أطلق الْكل على الْأَكْثَر مجَازًا. وَقيل: كَانَ يَصُومهُ كُله فِي سنة وَبَعضه فِي سنة أُخْرَى، وَقيل: كَانَ يَصُوم تَارَة من أَوله وَتارَة من آخِره وَتارَة مِنْهُمَا، لَا يخلي مِنْهُ شَيْئا بِلَا صِيَام.
فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيصه شعْبَان بِكَثْرَة الصَّوْم؟ قلت: لكَون أَعمال الْعِبَادَة ترفع فِيهِ. فَفِي النَّسَائِيّ من حَدِيث أُسَامَة (قلت: يَا رَسُول الله {أَرَاك لَا تَصُوم من شهر من الشُّهُور مَا تَصُوم من شعْبَان؟ قَالَ: ذَاك شهر ترفع فِيهِ الْأَعْمَال إِلَى رب الْعَالمين فَأحب أَن يرفع عَمَلي وَأَنا صَائِم) . وَرُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا (قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لي أَرَاك تكْثر صيامك فِيهِ؟ قَالَ: يَا عَائِشَة} إِنَّه شهر ينْسَخ فِيهِ ملك الْمَوْت من يقبض، وَأَنا أحب أَن لَا ينْسَخ إسمي إلاَّ وَأَنا صَائِم) . قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: غَرِيب من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة بِهَذَا اللَّفْظ، رَوَاهُ ابْن أبي الفوارس فِي أصُول أبي الْحسن الحمامي عَن شُيُوخه، وَعَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن نصر بن كثير عَن يحيى بن سعيد عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، قَالَت: لما كَانَت لَيْلَة النّصْف من شعْبَان انْسَلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مِرْطِي) الحَدِيث. وَفِي آخِره: (هَل تَدْرِي مَا فِي هَذِه اللَّيْلَة؟ قَالَت: مَا فِيهَا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: فِيهَا أَن يكْتب كل مَوْلُود من بني آدم فِي هَذِه السّنة. وفيهَا أَن يكْتب كل هَالك من بني آدم فِي هَذِه السّنة، وفيهَا ترفع

(11/83)


أَعْمَالهم، وفيهَا: تنزل أَرْزَاقهم) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب (الْأَدْعِيَة) وَقَالَ: فِيهِ بعض من يجهل. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث صَدَقَة بن مُوسَى عَن ثَابت عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي الصَّوْم أفضل بعد رَمَضَان؟ قَالَ: شعْبَان، لتعظيم رَمَضَان. وَسُئِلَ: أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: صَدَقَة فِي رَمَضَان) . ثمَّ قَالَ: حَدِيث غَرِيب، وَصدقَة لَيْسَ عِنْدهم بِذَاكَ الْقوي، وَقد رُوِيَ أَن هَذَا الصّيام كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ يلْتَزم صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، كَمَا قَالَ ابْن عمر، فَرُبمَا يشْتَغل عَن صيامها أشهرا فَيجمع ذَلِك كُله فِي شعْبَان، فيتداركه قبل رَمَضَان، حَكَاهُ ابْن بطال، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أرى الْإِكْثَار فِيهِ أَنه يَنْقَطِع عَنهُ التَّطَوُّع برمضان، وَقيل: يجوز أَنه كَانَ يَصُوم صَوْم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام، فَيبقى عَلَيْهِ بَقِيَّة يعملها فِي هَذَا الشَّهْر.
وَجمع الْمُحب الطَّبَرِيّ فِيهِ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ يلْتَزم صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، فَرُبمَا تَركهَا فيتداركها فِيهِ. ثَانِيهَا: تَعْظِيمًا لرمضان. ثَالِثهَا: أَنه ترفع فِيهِ الْأَعْمَال. رَابِعهَا: لِأَنَّهُ يغْفل عَنهُ النَّاس. خَامِسهَا: لِأَنَّهُ تنسخ فِيهِ الْآجَال. سادسها: أَن نِسَاءَهُ كن يصمن فِيهِ مَا فاتهن من الْحيض فيتشاغل عَنهُ بِهِ، وَالْحكمَة فِي كَونه لم يستكمل غير رَمَضَان لِئَلَّا يظنّ وُجُوبه. فَإِن قلت: صَحَّ فِي مُسلم: أفضل الصَّوْم بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم، فَكيف أَكثر مِنْهُ فِي شعْبَان؟ ويعارضه أَيْضا رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (أَي الصَّوْم أفضل بعد رَمَضَان؟ قَالَ: شعْبَان) . قلت: لَعَلَّه كَانَ يعرض لَهُ فِيهِ إعذار من سفر أَو مرض أَو غير ذَلِك، أَو لَعَلَّه لم يعلم بِفضل الْمحرم إلاَّ فِي آخر عمره قبل التَّمَكُّن مِنْهُ، وَلِأَن مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ لَا يُقَاوم مَا رَوَاهُ مُسلم.
قَوْله: (أَكثر صياما) كَذَا هُوَ بِالنّصب عِنْد أَكثر الروَاة، وَحكى السُّهيْلي أَنه رُوِيَ بالخفض، قيل: هُوَ وهم، وَلَعَلَّ بعض النساخ كتب الصّيام بِغَيْر ألف على رَأْي من يقف على الْمَنْصُوب بِغَيْر ألف فَتوهم مخفوضا، أَو ظن بعض الروَاة أَنه مُضَاف إِلَيْهِ، فَلَا يَصح ذَلِك، وَأما لَفْظَة: أَكثر، فَإِنَّهُ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان لقَوْله: (وَمَا رَأَيْته) . قَوْله: (من شعْبَان) ، وَزَاد يحيى بن أبي كثير فِي رِوَايَته: (فَإِنَّهُ كَانَ يَصُوم شعْبَان كُله) ، وَزَاد ابْن أبي لبيد: (عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر صياما مِنْهُ فِي شعْبَان، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُوم شعْبَان إلاَّ قَلِيلا) . وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة (عَن عَائِشَة، أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي شهر أَكثر صياما فِيهِ فِي شعْبَان، كَانَ يَصُومهُ إلاَّ قَلِيلا، بل كَانَ يَصُومهُ كُله) . انْتهى.
قَالُوا: معنى: كُله، أَكْثَره، فَيكون مجَازًا. قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه: الأول: أَن هَذَا الْمجَاز قَلِيل الِاسْتِعْمَال جدا. وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة: كل، تَأْكِيد لإِرَادَة الشُّمُول، وَتَفْسِيره بِالْبَعْضِ منَاف لَهُ. وَالثَّالِث: أَن فِيهِ كلمة الإضراب، وَهِي تنَافِي أَن يكون المُرَاد الْأَكْثَر، إِذْ لَا يبْقى فِيهِ حِينَئِذٍ فَائِدَة، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه بِاعْتِبَار عَاميْنِ فَأكْثر، فَكَانَ يَصُومهُ كُله فِي بعض السنين، وَكَانَ يَصُوم أَكْثَره فِي بعض السنين، وَذكر بعض الْعلمَاء إِنَّه وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصل شعْبَان برمضان وفصله مِنْهُ وَذَلِكَ فِي سنتَيْن فَأكْثر، وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) : فإنَّ وَصلَ شعْبَان برمضان فَجَائِز، فعل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة، وَفصل مرَارًا كَثِيرَة، انْتهى. قلت: على هَذَا الْوَجْه يبعد وجوده مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث، نعم، وَقع مِنْهُ الْوَصْل والفصل، أما الْوَصْل فَهُوَ فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة (عَن أم سَلمَة، قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين إلاَّ شعْبَان ورمضان) . وَأما الْفَصْل فَفِي حَدِيث أبي دَاوُد من رِوَايَة عبد الله بن أبي قيس (عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتحفظ من هِلَال شعْبَان مَا لَا يتحفظ من غَيره، ثمَّ يَصُوم لرمضان، فَإِن غم عَلَيْهِ عد ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صَامَ) . وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: (هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك، وَقَالَ: هَذَا صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يصل شعْبَان برمضان) . وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي ثَعْلَبَة بِلَفْظ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شعْبَان ورمضان يصلهمَا) . وَفِي إِسْنَاده الْأَحْوَص بن حَكِيم وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ حَدِيث أبي أُمَامَة وَفِي إِسْنَاده يُوسُف بن عَطِيَّة وَهُوَ ضَعِيف.
فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَحَادِيث وَبَين حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن؟ فَأَبُو دَاوُد من حَدِيث الدَّرَاورْدِي وَالتِّرْمِذِيّ كَذَلِك، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي العميس، وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مُسلم بن خَالِد، كلهم عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا بَقِي نصف من شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ أبي دَاوُد: (إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تَصُومُوا) ، وَلَفظ النَّسَائِيّ:

(11/84)


(فكفوا عَن الصَّوْم) ، وَلَفظ ابْن مَاجَه: (إِذا كَانَ النّصْف من شعْبَان فَلَا صَوْم) ، وَفِي لفظ ابْن حبَان: (فأفطروا حَتَّى يَجِيء رضمان) ، وَفِي لفظ ابْن عدي: (إِذا انتصف شعْبَان فأفطروا) ، وَفِي لفظ الْبَيْهَقِيّ: (إِذا مضى النّصْف من شعْبَان فأمسكوا عَن الصّيام حَتَّى يدْخل رَمَضَان) قلت: أما أَولا: فقد اخْتلف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث، فصححه التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان وَابْن عَسَاكِر وَابْن حزم، وَضَعفه أَحْمد فِيمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي دَاوُد، قَالَ: قَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث مُنكر، قَالَ: وَكَانَ عبد الرَّحْمَن لَا يحدث بِهِ) وَأما ثَانِيًا: فَقَالَ قوم، مِمَّن لَا يَقُول بِحَدِيث الْعَلَاء: بِأَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَصُوم فِي النّصْف الثَّانِي من شعْبَان، فَدلَّ على أَن مَا رَوَاهُ مَنْسُوخ، وَقيل: يحمل النَّهْي على من لم يدْخل تِلْكَ الْأَيَّام فِي صِيَام أَو عبَادَة.

0791 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنُ يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حدَّثَتْهُ قالَتْ لَمْ يَكُنْ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُومُ شَهْرا أكْثَرَ مِنْ شَعْبانَ فإنَّهُ كانَ يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ وكانَ يَقُولُ خُذُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَأحَبُّ الصَّلاةِ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وإنْ قَلَّتْ وكانَ إذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا. (انْظُر الحَدِيث 9691 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ فِي الصَّوْم أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه بِهِ.
قَوْله: (كُله) قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : أَي: أَكْثَره، وَقد جَاءَ عَنْهَا مُفَسرًا: (كَانَ يَصُوم شعْبَان أَو عَامَّة شعْبَان) ، وَفِي لفظ: كَانَ يَصُومهُ كُله إلاَّ قَلِيلا) ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريبن. قَوْله: (خُذُوا من الْعَمَل مَا تطيقون) أَي تطيقون الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا ضَرَر أَو اجْتِنَاب التعمق فِي جَمِيع أَنْوَاع الْعبارَات قَوْله: (فَإِن الله لَا يمل) قَالَ النَّوَوِيّ: الْملَل والسامة بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارف فِي حَقنا، وَهُوَ محَال فِي حق الله تَعَالَى، فَيجب تَأْوِيل الحَدِيث، فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَعْنَاهُ: لَا يعاملكم مُعَاملَة الْملَل فَيقطع عَنْكُم ثَوَابه وفضله وَرَحمته حَتَّى تقطعوا أَعمالكُم. وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يمل إِذا مللتم، و: حَتَّى، بِمَعْنى: حِين، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: لَا يمل أبدا مللتم أم لَا تملوا. وَقيل: سمي مللاً على معنى الأزدواج، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} (الْبَقَرَة: 491) . فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يقطع عَنْكُم فَضله حَتَّى تملوا سُؤَاله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِطْلَاق الْملَل على الله تَعَالَى إِطْلَاق مجازي عَن ترك الْجَزَاء. قَوْله: (مَا دووم عَلَيْهِ) ، بواوين، وَفِي بعض النّسخ بواو، وَالصَّوَاب الأول لِأَنَّهُ مَجْهُول، ماضٍ من المداومة من: بَاب المفاعلة، ويروي (مَا ديم عَلَيْهِ) وَهُوَ مَجْهُول دَامَ، وَالْأول مَجْهُول داوم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الديمة الْمَطَر الدَّائِم فِي سُكُون، شبه عمله فِي دَوَامه مَعَ الاقتصاد بديمة الْمَطَر، وَأَصله الْوَاو فَانْقَلَبت يَاء لكسرة مَا قبلهَا، وَقد مر هَذَا الْكَلَام فِي هَذِه الْأَلْفَاظ فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب أحب الدّين إِلَى الله تَعَالَى أَدْوَمه.