عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 16 - (بابُ مَنْ زَارَ قَوْما فَلَمْ
يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من زار قوما وَهُوَ صَائِم فِي
التَّطَوُّع فَلم يفْطر عِنْدهم، وَهَذَا الْبَاب يُقَابل
الْبَاب الَّذِي قبله بِعشْرَة أَبْوَاب، وَهُوَ بَاب من
أقسم على أَخِيه ليفطر فِي التَّطَوُّع.
2891 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثني
خالِدٌ هُوَ ابنُ الحَارِثِ قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ عنْ
أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ دَخَلَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فأتَتْهُ بِتَمْرٍ
وسَمْنٍ قَالَ أعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ
وتَمْرَكُمْ فِي وِعائِهِ فإنِّي صائِمٌ ثُمَّ قامَ إلَى
ناحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ فصَلَّى غَيْرَ
الْمَكْتُوبَةِ فَدَعا لأُمِّ سُلَيْمٍ وأهْلِ بَيْتِها
فقالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رسولَ الله إنَّ لِي
خُوَيْصَةً قَالَ هِيَ قَالَتْ خادِمُكَ أنَسٌ فَمَا
تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ ولاَ دُنْيَا إلاَّ دَعا لِي بِهِ
قَالَ أللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالا وولَدا وبارِكْ لَهُ
فإنِّي لَمِنْ أكْثَرِ الأنْصَارِ مَالا ح وحدَّثَتْنِي
ابْنَتِي أُمُيْنةُ أنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبي مَقْدَمَ
حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وعِشْرُونَ وَمِائةٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا وهم
كلهم بصريون.
قَوْله: (هُوَ ابْن الْحَارِث) بَيَان من البُخَارِيّ
لِأَن شَيْخه كَأَنَّهُ قَالَ: حَدثنَا خَالِد، وَأَرَادَ
بِالْبَيَانِ رفع الْإِبْهَام لاشتراك من سمي خَالِدا فِي
الرِّوَايَة عَن حميد، وَلَكِن هَذَا غير مطرد لَهُ
فَإِنَّهُ كثيرا مَا يَقع لَهُ ولمشايخه مثل هَذَا
الْإِبْهَام وَلَا يلْتَفت إِلَى بَيَانه. وَهَذَا
الحَدِيث من أَفْرَاده. قَوْله: (على أم سليم) ، بِضَم
السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام: وَاسْمهَا الغميصاء،
وَقيل: الرميصاء، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: الرميصاء أم سليم
سهلة، وَيُقَال: وصيلة، وَيُقَال: رميئة، وَيُقَال: أنيفة،
وَيُقَال: مليكَة. وَقَالَ ابْن التِّين: كَانَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يزور أم سليم لِأَنَّهَا خَالَته من
الرضَاعَة، وَقَالَ أَبُو عمر: إِحْدَى خالاته من
(11/98)
النّسَب، لِأَن أم عبد الْمطلب سلمى بنت
عَمْرو بن زيد بن أَسد بن خِدَاش بن عَامر بن غنم بن عدي
بن النجار، وَأُخْت أم سليم أم حرَام بنت ملْحَان بن زيد
بن خَالِد بن حرَام بن جُنْدُب بن عَامر بن غنم، وَأنكر
الْحَافِظ الدمياطي هَذَا القَوْل، وَذكر أَن هَذِه خؤلة
بعيدَة لَا تثبت حُرْمَة وَلَا تمنع نِكَاحا. قَالَ: وَفِي
(الصَّحِيح) أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ لَا
يدحل على أحد من النِّسَاء إلاَّ على أَزوَاجه إلاَّ على
أم سليم، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، قَالَ: أرحمها، قُتِلَ
أَخُوهَا حرَام معي، فَبين تخصيصها بذلك، فَلَو كَانَ
ثمَّة عِلّة أُخْرَى لذكرها، لِأَن تَأْخِير الْبَيَان عَن
وَقت الْحَاجة لَا يجوز، وَهَذِه الْعلَّة مُشْتَركَة
بَينهَا وَبَين أُخْتهَا أم حرَام. قَالَ: وَلَيْسَ فِي
الحَدِيث مَا يدل على الْخلْوَة بهَا، فَلَعَلَّهُ كَانَ
ذَلِك مَعَ ولد أَو خَادِم أَو زوج أَو تَابع، وَأَيْضًا
فَإِن قتل حرَام كَانَ يَوْم بِئْر مَعُونَة فِي صفر سنة
أَربع، ونزول الْحجاب سنة خمس، فَلَعَلَّ دُخُوله
عَلَيْهَا. كَانَ قبل ذَلِك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُمكن
أَن يُقَال: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا
تستتر مِنْهُ النِّسَاء لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُوما،
بِخِلَاف غَيره. قَوْله: (فَأَتَتْهُ بِتَمْر وَسمن) أَي:
على سَبِيل الضِّيَافَة. قَوْله: (فِي سقائه) ، بِكَسْر
السِّين: وَهُوَ ظرف المَاء من الْجلد، وَالْجمع أسقية،
وَرُبمَا يَجْعَل فِيهَا السّمن وَالْعَسَل. قَوْله: (فصلى
غير الْمَكْتُوبَة) ، يَعْنِي: التَّطَوُّع، وَفِي
رِوَايَة أَحْمد عَن ابْن أبي عدي عَن حميد: (فصلى
رَكْعَتَيْنِ وصلينا مَعَه) . وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة
غير الْقِصَّة الَّتِي تقدّمت فِي أَبْوَاب الصَّلَاة
الَّتِي صلى فِيهَا على الْحَصِير وَأقَام أنسا خَلفه وَأم
سليم من وَرَائه، وَوَقع لمُسلم من طَرِيق سُلَيْمَان بن
الْمُغيرَة عَن ثَابت: (ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ تَطَوّعا
فَأَقَامَ أم حرَام وَأم سليم خلفنا، وأقامني عَن يَمِينه)
، وَهَذَا ظَاهر فِي تعدد الْقِصَّة من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْقِصَّة الْمُتَقَدّمَة لَا ذكر فِيهَا
لأم حرَام. وَالْآخر: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُنَا
لم يَأْكُل وَهُنَاكَ أكل. قَوْله: (خويصة) ، تَصْغِير
الْخَاصَّة، وَهُوَ مِمَّا اغتفر فِيهِ التقاء الساكنين،
وَفِي رِوَايَة (خويصتك أنس) ، فصغرته لصِغَر سنه
يَوْمئِذٍ، وَمَعْنَاهُ: هُوَ الَّذِي يخْتَص بخدمتك.
قَوْله: (قَالَ: مَا هِيَ؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَا الخويصة؟ (قَالَت: خادمك أنس) ،
وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (خادمك أنس) هُوَ عطف بَيَان أَو
بدل، وَالْخَبَر مَحْذُوف. قلت: تَوْجِيه الْكَلَام لَيْسَ
كَذَلِك. بل قَوْله: (خادمك) مَرْفُوع على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ خادمك، لِأَنَّهَا لما
قَالَت: إِن لي خويصة، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا
هِيَ؟ قَالَت: خادمك، يَعْنِي: هَذِه الخويصة هُوَ خادمك،
ومقصودها أَن وَلَدي أنسا لَهُ خُصُوصِيَّة بك، لِأَنَّهُ
يخدمك فَادع لَهُ دَعْوَة خَاصَّة. وَقَوله: (أنس)
مَرْفُوع لِأَنَّهُ عطف بَيَان أَو بدل، وَوَقع فِي
رِوَايَة أَحْمد من رِوَايَة ثَابت (عَن أنس: لي خويصة،
خويدمك أنس ادْع الله لَهُ) . قَوْله: (فَمَا ترك خير
آخِرَة) أَي: مَا ترك خيرا من خيرات الْآخِرَة، وتنكير
آخِرَة يرجع إِلَى الْمُضَاف وَهُوَ الْخَيْر، كَأَنَّهُ
قَالَ: مَا ترك خيرا من خيور الْآخِرَة وَلَا من خيور
الدُّنْيَا إلاَّ دَعَا لي بِهِ. وَقَوله: (اللَّهُمَّ
ارزقه مَالا وَولدا وَبَارك لَهُ) بَيَان لدعائه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة أَحْمد من
رِوَايَة عُبَيْدَة بن حميد عَن حميد: (إلاَّ دَعَا لي
بِهِ، فَكَانَ من قَوْله: أللهم) إِلَى آخِره. فَإِن قلت:
المَال وَالْولد من خير الدُّنْيَا، فَأَيْنَ ذكر خير
الْآخِرَة فِي الدُّعَاء لَهُ؟ قلت: الظَّاهِر أَن
الرَّاوِي اخْتَصَرَهُ، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن سعد
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن الْجَعْد (عَن أنس، قَالَ: أللهم
أَكثر مَاله وَولده وأطل عمره واغفر ذَنبه) ، وَوَقع فِي
رِوَايَة مُسلم عَن الْجهد (عَن أنس: فَدَعَا لي بِثَلَاث
دعوات، قد رَأَيْت مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا،
وَأَنا أَرْجُو الثَّالِثَة فِي الْآخِرَة) ، فَلم يبين
الثَّالِثَة وَهِي الْمَغْفِرَة، كَمَا بَينهَا ابْن سعد
فِي رِوَايَته، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ: (بَارك)
إِشَارَة إِلَى خير الْآخِرَة، وَالْمَال وَالْولد
الصالحان من جملَة خير الْآخِرَة أَيْضا لِأَنَّهُمَا
يستلزمانها. قَوْله: (وَبَارك لَهُ) وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (وَبَارك فِيهِ) ، وَإِنَّمَا أفرد الضَّمِير
نظرا إِلَى الْمَذْكُور من المَال وَالْولد، وَفِي
رِوَايَة أَحْمد فيهم نظرا إِلَى الْمَعْنى. قَوْله:
(فَإِنِّي لمن أَكثر الْأَنْصَار مَالا) الْفَاء فِيهَا
معنى التَّفْسِير فَإِنَّهَا تفسر معنى الْبركَة فِي
مَاله، وَاللَّام فِي: لمن، للتَّأْكِيد و: مَالا، نصب على
التَّمْيِيز. فَإِن قلت: وَقع عِنْد أَحْمد من رِوَايَة
ابْن أبي عدي أَنه لَا يملك ذَهَبا وَلَا فضَّة غير
خَاتمه، وَفِي رِوَايَة ثَابت عِنْد أَحْمد، (قَالَ أنس:
وَمَا أصبح رجل من الْأَنْصَار أَكثر مني مَالا، قَالَ:
يَا ثَابت! وَمَا أملك صفرا وَلَا بيضًا إلاَّ خَاتمِي؟)
قلت: مُرَاده أَن مَاله كَانَ من غير النَّقْدَيْنِ، وَفِي
(جَامع التِّرْمِذِيّ) قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: كَانَ
لأنس بُسْتَان يحمل فِي السّنة مرَّتَيْنِ، وَكَانَ فِيهِ
ريحَان يَجِيء مِنْهُ رَائِحَة الْمسك، وَفِي (الْحِلْية)
لأبي نعيم من طَرِيق حَفْصَة بنت سِيرِين (عَن أنس، قَالَ:
وَإِن أرضي لتثمر فِي السّنة مرَّتَيْنِ، وَمَا فِي
الْبَلَد شَيْء يُثمر مرَّتَيْنِ غَيرهَا) .
قَوْله: (وحدثتني ابْنَتي أمينة) ، بِضَم الْهمزَة وَفتح
الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون:
وَهُوَ تَصْغِير: آمِنَة، وَفِيه رِوَايَة الْأَب عَن بنته
لِأَن أنسا روى هَذَا عَن بنته أمينة، وَهُوَ من قبيل
رِوَايَة
(11/99)
الْآبَاء عَن الْأَبْنَاء. قَوْله: (إِنَّه
دفن لصلبي) أَي: من وَلَده دون أسباطه وأحفاده. قَوْله:
(مقدم الْحجَّاج) هُوَ: ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ وَكَانَ
قدومه الْبَصْرَة سنة خمس وَسبعين، وَعمر أنس حِينَئِذٍ
نَيف وَثَمَانُونَ سنة، وَقد عَاشَ أنس بعد ذَلِك إِلَى
سنة ثَلَاث وَيُقَال: اثْنَتَيْنِ، وَيُقَال: إِحْدَى
وَتِسْعين، وَقد قَارب الْمِائَة. فَإِن قلت: الْبَصْرَة
مَنْصُوبَة بِمَاذَا؟ وَلَا يجوز أَن يكون الْعَامِل
فِيهَا لفظ مقدم لِأَنَّهُ اسْم زمَان وَهُوَ لَا يعْمل؟
كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت: فِيهِ مُقَدّر تَقْدِيره
زمَان قدومه الْبَصْرَة، والمقدم هُنَا مصدر ميمي
فالكرماني لما رَآهُ على وزن اسْم الْفَاعِل ظن أَنه اسْم
زمَان، فَلذَلِك تكلّف فِي السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَأما
لفظ مقدم فَإِنَّهُ مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض تَقْدِيره:
إِلَى مقدم الْحجَّاج أَي: إِلَى قدومه، أَي: إِلَى وَقت
قدومه حَاصله أَن من مَاتَ من أول أَوْلَاده إِلَى وَقت
قدوم الْحجَّاج الْبَصْرَة، بضع وَعِشْرُونَ وَمِائَة،
وفْق رِوَايَة ابْن أبي عدي: نيفا على عشْرين وَمِائَة،
وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ، من رِوَايَة الْأنْصَارِيّ
عَن حميد: تسع وَعِشْرُونَ وَمِائَة، وَعند الْخَطِيب فِي
رِوَايَة الْآبَاء عَن الْأَوْلَاد، من هَذَا الْوَجْه:
ثَلَاث وَعِشْرُونَ وَمِائَة، وَفِي رِوَايَة حَفْصَة بنت
سِيرِين: (وَلَقَد دفنت من صلبي سوى ولد وَلَدي خَمْسَة
وَعشْرين وَمِائَة) ، وَفِي (الْحِلْية) أَيْضا من طَرِيق
عبد الله بن أبي طَلْحَة (عَن أنس، قَالَ: دفنت مائَة لَا
سقطا وَلَا ولد ولد) . وَلأَجل هَذَا الِاخْتِلَاف جَاءَ
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (بضع وَعِشْرُونَ وَمِائَة) ،
فَإِن الْبضْع مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع، وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: الْبضْع فِي الْعدَد، بِالْكَسْرِ، وَقد
يفتح: مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع، وَقيل: مَا بَين
الْوَاحِد إِلَى الْعشْرَة لِأَنَّهُ قِطْعَة من الْعدَد،
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول بضع سِنِين وَبضْعَة عشر رجلا
فَإِذا جَاوَزت لفظ الْعشْر لَا تَقول: بضع وَعِشْرُونَ.
قلت: الَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيث يرد عَلَيْهِ وَهُوَ
سَهْو مِنْهُ، وَكَيف لَا وَأنس من فصحاء الْعَرَب، وَأما
الَّذين بقوا، فَفِي رِوَايَة إِسْحَاق ابْن أبي طَلْحَة
(عَن أنس: وَأَن وَلَدي وَولد وَلَدي ليتعادون على نَحْو
الْمِائَة) ، رَوَاهُ مُسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: حجَّة لمَالِك والكوفيين
مِنْهُم أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن
الصَّائِم المتطوع لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يفْطر بِغَيْر
عذر وَلَا سَبَب يُوجب الْإِفْطَار. فَإِن قلت: هَذَا
يُعَارض حَدِيث أبي الدَّرْدَاء حِين زَارَهُ سلمَان،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد تقدم قلت: لَا مُعَارضَة
بَينهمَا لِأَن سلمَان امْتنع أَن يَأْكُل إِن لم يَأْكُل
أَبُو الدَّرْدَاء مَعَه، وَهَذِه عِلّة للفطر، لِأَن
للضيف حَقًا، كَمَا قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن الصَّائِم إِذا دعِي إِلَى طَعَام فَليدع
لأَهله بِالْبركَةِ) . ويؤنسهم بذلك لِأَن فِيهِ جبر خاطر
المزور إِذا لم يُؤْكَل عِنْده. وَفِيه: جَوَاز التصغير
على معنى التعطف لَهُ والترحم عَلَيْهِ والمودة لَهُ،
بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ للتحقير فَإِنَّهُ لَا يجوز.
وَفِيه: جَوَاز رد الْهَدِيَّة إِذا لم يشق ذَلِك على
الْمهْدي، وَإِن أَخذ من ردَّتْ عَلَيْهِ لَيْسَ من الْعود
فِي الْهِبَة. وَفِيه: حفظ الطَّعَام وَترك التَّفْرِيط.
وَفِيه: التلطف بقولِهَا: خادمك أنس. وَفِيه: جَوَاز
الدُّعَاء بِكَثْرَة الْوَلَد وَالْمَال. وَفِيه:
التَّارِيخ بِولَايَة الْأُمَرَاء، لقَوْله: مقدم
الْحجَّاج، وَقد بَينا وَقت قدومه. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة
الدُّعَاء عقيب الصَّلَاة. وَفِيه: تَقْدِيم الصَّلَاة
أَمَام طلب الْحَاجة. وَفِيه: زِيَارَة الإِمَام بعض
رَعيته. وَفِيه: دُخُول بَيت الرجل فِي غيبته لِأَنَّهُ لم
يقل فِي طرق هَذِه الْقِصَّة: إِن أَبَا طَلْحَة كَانَ
حَاضرا. قلت: يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا بالتفصيل، وَهُوَ
أَنه إِذا علم أَن الرجل لَا يصعب عَلَيْهِ ذَلِك جَازَ،
وإلاَّ لم يجز وَلَيْسَ أحد من النَّاس مثل سيد
الْأَوَّلين والآخرين. وَفِيه: التحديث بنعم الله تَعَالَى
والإخبار عَنْهَا عِنْد الْإِنْسَان، والإعلام بمواهبه
وَأَن لَا يجْحَد نعمه، وَبِذَلِك أَمر الله فِي كِتَابه
الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ: {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث}
(الضُّحَى: 11) . وَفِيه: بَيَان معْجزَة الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دُعَائِهِ لأنس ببركة المَال
وَكَثْرَة الْوَلَد مَعَ كَون بستانه صَار يُثمر
مرَّتَيْنِ فِي السّنة دون غَيره. وَفِيه: كَرَامَة أنس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: إِيثَار الْوَلَد على
النَّفس وَحسن التلطف فِي السُّؤَال. وَفِيه: أَن كَثْرَة
الْمَوْت فِي الْأَوْلَاد لَا تنَافِي إِجَابَة الدُّعَاء
بِطَلَب كثرتهم. وَفِيه: التَّارِيخ بِالْأَمر الشهير.
90 - (حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم قَالَ أخبرنَا يحيى قَالَ
حَدثنِي حميد قَالَ سمع أنسا رَضِي الله عَنهُ عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) هَذَا
طَرِيق آخر وَقع هَكَذَا بقوله حَدثنَا فِي رِوَايَة
كَرِيمَة والأصيلي فَيكون مَوْصُولا وَفِي رِوَايَة
غَيرهمَا وَقع هَكَذَا قَالَ
(11/100)
ابْن أبي مَرْيَم فَيكون مُعَلّقا وعَلى كل
تَقْدِير ففائدة ذكر هَذَا الطَّرِيق بَيَان سَماع حميد
لهَذَا الحَدِيث من أنس لِأَنَّهُ قد اشْتهر أَن حميدا
كَانَ رُبمَا دلّس عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَقَالَ ابْن أبي مَرْيَم إِلَى
آخِره كَذَا فِي بعض النّسخ وَكَذَا نَص أَصْحَاب لاطراف
عَلَيْهِ وَفِي أصل سَمَاعنَا وَغَيره حَدثنَا ابْن أبي
مَرْيَم وَهُوَ سعيد بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي الْمصْرِيّ
وَيحيى هُوَ ابْن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ أَبُو
الْعَبَّاس وَفِي بعض النّسخ وَقع يحيى بن أَيُّوب بنسبته
إِلَى أَبِيه -
26 - (بابُ الصَّوْمِ آخِرَ الشَّهْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّوْم فِي آخر
الشَّهْر، وَفِي بعض النّسخ: من آخر الشَّهْر، وَقَوله
هَذَا يُطلق على آخر كل شهر من الْأَشْهر، وَمَعَ هَذَا
الحَدِيث مُقَيّد بِشَهْر شعْبَان، وَالْوَجْه إِطْلَاقه
إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك لَا يخْتَص بشعبان، بل يُؤْخَذ
من الحَدِيث النّدب إِلَى صِيَام أَوَاخِر كل شهر ليَكُون
عَادَة للمكلف. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا النَّهْي بتقدم
رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ؟ قلت: لَا
مُعَارضَة لقَوْله فِي حَدِيث النَّهْي: (إلاَّ رجل كَانَ
يَصُوم صوما فليصمه) .
3891 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
مَهْدِيٌّ عنْ غَيْلاَنَ وحدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ
حدَّثنا مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُونٍ قَالَ حدَّثنا غَيْلانُ
بنُ جَرِيرٍ عنْ مُطَرِّفٍ عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ سَألَهُ أوْ سألَ رَجُلاٍ
وعِمْرَانُ يَسْمَعُ فَقَالَ يَا أبَا فُلانٍ أمَا صُمْتَ
سَرَرَ هَذا الشَّهْرِ قَالَ أظُنُّهُ قَالَ يَعْنِي
رَمَضَانَ قَالَ الرَّجُلُ لاَ يَا رسولَ الله قَالَ فإذَا
أفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ
أظُنُّهُ يَعْنِي رمَضَانَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ مِمَّا ذكرنَا الْآن فِي أول
الْبَاب.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الصَّلْت، بِفَتْح الصَّاد
الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من
فَوق: ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو همام
الخاركي. الثَّانِي: مهْدي، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الدَّال
الْمُهْملَة: ابْن مَيْمُون المعولي الْأَزْدِيّ.
الثَّالِث: غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن جرير المعولي
الْأَزْدِيّ. الرَّابِع: أَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن
الْفضل السدُوسِي، الْخَامِس: مطرف بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل
من التطريف بإهمال الطَّاء ابْن عبد الله بن الشخير
الْحَرَشِي العامري. السَّادِس: عمرَان بن حُصَيْن، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: إِضَافَة
رِوَايَة أبي النُّعْمَان إِلَى الصَّلْت لما وَقع فِيهَا
من تَصْرِيح مهْدي بِالتَّحْدِيثِ من غيلَان.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن
هدبة بن خَالِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زَكَرِيَّا
بن يحيى عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنه سَأَلَ) أَي: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ عمرَان أَو سَأَلَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا قَوْله: (أَو
سَأَلَ رجلا) ، شكّ من مطرف وثابت، رَوَاهُ عَنهُ
بِنَحْوِهِ على الشَّك أَيْضا، وَأخرجه مُسلم كَذَلِك،
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من وَجْهَيْن آخَرين عَن مطرف
بِدُونِ شكّ على الْإِبْهَام أَنه: قَالَ لرجل، وَزَاد
أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) : من أَصْحَابه، وَرَوَاهُ
أَحْمد من طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيّ بِهِ: قَالَ
لعمران، بِغَيْر شكّ. قَوْله: (وَعمْرَان يسمع) ، جملَة
إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَقَالَ: يَا أَبَا فلَان) ،
بالكنية، فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين: (يَا فلَان) قَوْله: (سرر هَذَا الشَّهْر) ،
بِالسِّين الْمُهْملَة وَفتحهَا وَفتح الرَّاء، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: ضبطوه بِفَتْح السِّين وَكسرهَا، وَحكي
ضمهَا، وَيُقَال أَيْضا: سرار، بِكَسْر السِّين وَفتحهَا،
وَكله من الاستسرار. وَقَالَ الْجُمْهُور: المُرَاد بِهِ
آخر الشَّهْر لاستسرار الْقَمَر فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم:
هُوَ وسط الشَّهْر، وسرر كل شَيْء وَسطه، والسرة الْوسط،
وَهِي الْأَيَّام الْبيض، وروى أَبُو دَاوُد عَن
الْأَوْزَاعِيّ أَن سرره أَوله، وَقَالَ ابْن قرقول: سرر،
بِفَتْح السِّين عِنْد الكافة وَعند العذري: سرر بِضَم
السِّين، وَقَالَ أَبُو عبيد: سرار الشَّهْر آخِره، حَيْثُ
يسْتَتر الْهلَال، وسرره أَيْضا، وَأنْكرهُ غَيره،
وَقَالَ: لم يَأْتِ فِي صَوْم آخر الشَّهْر حض، وسرار كل
شَيْء وَسطه وأفضله، فَكَأَنَّهُ يُرِيد الْأَيَّام الغر
من وسط الشَّهْر، وَقَالَ عبد الْملك
(11/101)
ابْن حبيب: السرر آخر الشَّهْر حِين يستسر
الْهلَال لثمان وَعشْرين ولتسع وَعشْرين، وَإِن كَانَ
تَاما فليلة ثَلَاثِينَ، وتبويب البُخَارِيّ يدل على أَنه
عِنْده آخر الشَّهْر، وَقَالَ الْخطابِيّ: يتَأَوَّل أمره
إِيَّاه بِصَوْم السرر على أَن الرجل كَانَ أوجبه على
نَفسه نذرا فَأمره بِالْوَفَاءِ أَو أَنه كَانَ اعتاده،
فَأمره بالمحافظة عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تأولناه للنَّهْي
عَن تقدم رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ.
فَائِدَة: أَسمَاء ليَالِي الشَّهْر عشرَة، لكل ثَلَاث
مِنْهَا اسْم. فالثلاث الأولى: غرر، لِأَن غرَّة كل شَيْء
أَوله. وَالثَّانيَِة: نفل على وزن صرد ونغر لزيادتها على
الْغرَر، وَالنَّفْل الزِّيَادَة. وَثَلَاث تسع إِذْ
آخرهَا تَاسِع. وَثَلَاث عشر لِأَن أَولهَا عَاشر، وزنهما
وزن زحل. وَثَلَاث تبع. وَثَلَاث درع ووزنهما كزحل أَيْضا
لاسوداد أوائلها وابيضاض أواخرها. وَثَلَاث ظلم لإظلامها.
وَثَلَاث حنادس لشدَّة سوادها. ثَلَاث دآدىء كسلالم
لِأَنَّهَا بقايا. وَثَلَاث محاق بِضَم الْمِيم، لانمحاق
الْقَمَر أول الشَّهْر والمحق المحو، وَيُقَال لَهما سرر
أَيْضا عِنْد الْجُمْهُور، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (أَظُنهُ) ، يَعْنِي: هَذِه اللَّفْظَة غير
مَحْفُوظَة، وَهَذَا الظَّن من أبي النُّعْمَان لتصريح
البُخَارِيّ فِي آخِره بِأَن ذَلِك لم يَقع فِي رِوَايَة
الصَّلْت، وَكَانَ ذَلِك وَقع من أبي النُّعْمَان لما حدث
بِهِ البُخَارِيّ وإلاَّ فقد رَوَاهُ الجوزقي من طَرِيق
أَحْمد بن يُوسُف السّلمِيّ عَن أبي النُّعْمَان بِدُونِ
ذَلِك، وَهُوَ الصَّوَاب، وَنقل الْحميدِي عَن البُخَارِيّ
أَنه قَالَ: شعْبَان أصح، وَقيل: إِن ذَلِك ثَابت فِي بعض
الرِّوَايَات فِي (الصَّحِيح) وَقَالَ الْخطابِيّ: ذكر
رَمَضَان هُنَا وهم لِأَن رَمَضَان يتَعَيَّن صَوْم
جَمِيعه، وَكَذَا قَالَ الدَّاودِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ.
فَإِن قلت: روى مُسلم: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شُعْبَة
قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون عَن الْجريرِي عَن
الْعَلَاء عَن مطرف (عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لرجل: هَل صمت من سرر هَذَا
الشَّهْر شَيْئا؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِذا أفطرت من رَمَضَان فَصم
يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ) . قلت: روى مُسلم أَيْضا من حَدِيث
هداب بن خَالِد (عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ أَو لآخر: أصمت من
سرر شعْبَان؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذا أفطرت فَصم
يَوْمَيْنِ) . فَهَذَا يدل على أَن المُرَاد من قَوْله فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ: (أما صمت سرر هَذَا الشَّهْر إِنَّه
شعْبَان؟) وَقَول أبي النُّعْمَان: أَظُنهُ يَعْنِي
رَمَضَان، وهم كَمَا ذكرنَا، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون
قَوْله: (رَمَضَان) فِي قَوْله (رَمَضَان) ظرفا لِلْقَوْلِ
الصَّادِر مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا لصيام
الْمُخَاطب بذلك، فيوافق رِوَايَة الْجريرِي عَن الْعَلَاء
عَن مطرف، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن. قلت: التَّحْقِيق فِيهِ
أَن المُرَاد من قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أصمت
سرر هَذَا الشَّهْر؟) فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَنه
شعْبَان، يُؤَيّدهُ ويوضحه رِوَايَة مُسلم من حَدِيث هداب
عَن عمرَان، وَكَذَلِكَ يُوضح حَدِيث هداب رِوَايَة مُسلم
من حَدِيث مطرف، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذكر شعْبَان،
وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَبَقِي
الْكَلَام فِي قَوْله: (فَإِذا أفطرت من رَمَضَان فَصم
يَوْمَيْنِ) ، فَنَقُول: هَذَا ابْتِدَاء كَلَام،
مَعْنَاهُ: أَنَّك إِذا تركت السرر من رَمَضَان الَّذِي
هُوَ فرض، فَصم يَوْمَيْنِ عوضه لِأَن السرر يَوْمَانِ من
آخر الشَّهْر، كَمَا ذَكرْنَاهُ، بِخِلَاف سرر شعْبَان،
فَإِنَّهُ لَيْسَ بمتعين عَلَيْهِ، فَلذَلِك لم يَأْمُرهُ
بِالْقضَاءِ بعد قَول الرجل: يَا رَسُول الله! يَعْنِي:
مَا صمت سرر هَذَا الشَّهْر الَّذِي هُوَ شعْبَان. فَإِن
قلت: كَيفَ قَالَ: (فَصم يَوْمَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة
مُسلم بعد قَوْله: (فَإِذا فطرت رَمَضَان؟) وَالَّذِي
يفْطر رَمَضَان هَل يَكْتَفِي فِي قَضَائِهِ بيومين؟ قلت:
تَقْدِيره من رَمَضَان، وحذفت لَفْظَة: من، وَهِي مُرَادة
كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَهُوَ من قبيل قَوْله
تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه} (الْأَعْرَاف: 551) .
أَي: من قومه، وَهَذَا هُوَ تَحْرِير هَذَا الْموضع
الَّذِي لم أر أحدا من شرَّاح البُخَارِيّ وَمن شرَّاح
مُسلم حرر هَذَا الْموضع كَمَا يَنْبَغِي، وَلَا سِيمَا من
يَدعِي فِي هَذَا الْفَنّ بدعاوى عريضة بمقدمات لَيْسَ
لَهَا نتيجة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ ثابِتٌ عنْ مُطَرِّفٍ عنْ
عِمْرَانَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ
سَرَرِ شَعْبَانَ
أَبُو عَبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَلَيْسَ فِي بعض
النّسخ هَذَا، وَأَرَادَ بِالتَّعْلِيقِ أَن المُرَاد من
قَوْله: (أصمت سرر هَذَا الشَّهْر) هُوَ سرر شعْبَان
وَلَيْسَ هُوَ برمضان. كَمَا ظَنّه أَبُو النُّعْمَان،
وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق مُسلم: حَدثنَا هداب بن خَالِد
قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت، وَلم أفهم
مطرفا من هداب (عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ أَو لآخر) الحَدِيث، وَقد
ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَالله أعلم.
(11/102)
36 - (بابُ صَوْمِ يَوْمِ الجُمْعَةِ فإذَا
أصْبَحَ صَائِما يَوْمَ الجُمْعَةِ فَعَلَيْهِ أنْ
يُفْطِرَ يَعْنِي إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ وَلا يُرِيدُ
أنْ يَصُومَ بَعْدَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَوْم يَوْم الْجُمُعَة،
وَحكمه أَنه إِذا أصبح صَائِما يَوْم الْجُمُعَة فَإِن
كَانَ صَامَ قبله وَلَا يُرِيد أَن يَصُوم بعده فليصمه،
وَإِن كَانَ لم يصم قبله وَلَا يُرِيد أَن يَصُوم بعده
فليفطر، لوُرُود النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة
وَحده على مَا يَجِيء، عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
وَوَقع فِي كثير من الرِّوَايَات: بَاب صَوْم يَوْم
الْجُمُعَة، وَإِذا أصبح صَائِما يَوْم الْجُمُعَة
فَعَلَيهِ أَن يَصُوم، هَكَذَا وَقع لَا غير، وَوَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت زِيَادَة، وَهِي قَوْله:
يَعْنِي إِذا لم يصم قبله وَلَا يُرِيد أَن يَصُوم بعده،
وَقَالَ بَعضهم: وَهَذِه الزِّيَادَة تشبه أَن تكون من
الْفربرِي أَو من دونه فَإِنَّهَا لم تقع فِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ عَن البُخَارِيّ، وَيبعد أَن يعبر البُخَارِيّ
عَمَّا يَقُوله بِلَفْظ: يَعْنِي، وَلَو كَانَ ذَلِك من
كَلَامه لقَالَ: أَعنِي، بل كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا
أصلا. قلت: عدم وُقُوع هَذِه الزِّيَادَة فِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ عَن البُخَارِيّ لَا يسْتَلْزم عدم وُقُوعهَا
من غَيره، سَوَاء كَانَ من الْفربرِي أَو من غَيره،
وَالظَّاهِر أَنَّهَا من البُخَارِيّ. وَقَوله: يَعْنِي،
فِي مَحَله وَلَيْسَ بِبَعِيد، لِأَنَّهُ يُوضح المُرَاد
من قَوْله: (وَإِذا أصبح صَائِما يَوْم الْجُمُعَة
فَعَلَيهِ أَن يفْطر) فأوضح بقوله: يَعْنِي، أَن هَذَا
لَيْسَ على إِطْلَاقه، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْإِفْطَار
إِذا لم يصم قبله وَلَا يُرِيد أَن يَصُوم بعده، فَقَوله:
(وَإِذا أصبح ... .) إِلَى آخِره، إِذا كَانَ من كَلَام
غَيره فَلفظ يَعْنِي فِي مَحَله، وَإِذا كَانَ من كَلَامه
فَكَأَنَّهُ جعل هَذَا لغيره بطرِيق التَّجْرِيد، ثمَّ
أوضحه بقوله: يَعْنِي، فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق.
4891 - حدَّثنا أبُو عاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ عَبْدِ
الحَمِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ محَمَّدِ بنِ عَبَّادٍ قَالَ
سألْتُ جابِرا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ نَهَى النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمْعَةِ قَالَ
نَعَمْ زَادَ غَيْرُ أبِي عاصِمٍ أنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن صَوْم يَوْم
الْجُمُعَة مُنْفَردا مَكْرُوه، لِأَنَّهُ منهى عَنهُ،
والترجمة تَتَضَمَّن معنى الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل
الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: عبد الحميد بن جُبَير مصغر:
الْجَبْر ابْن شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة عبد الله
الحَجبي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن عباد، بِفَتْح الْعين
وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: المَخْزُومِي. الْخَامِس:
جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن رَوَاهُ مَا خلا شَيْخه مكيون. وَفِيه: عبد
الحميد وَهُوَ تَابِعِيّ صَغِير روى عَن عمته صَفِيَّة بنت
شيبَة، قَالَ بَعضهم: وَهِي من صغَار الصَّحَابَة. قلت:
قَالَ ابْن الْأَثِير: اخْتلف فِي صحبتهَا. وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: لَا تصح لَهَا رُؤْيَة. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
وَفِيه: أَن عبد الحميد لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ
ثَلَاثَة أَحَادِيث، هَذَا، وَآخر فِي بَدْء الْخلق، وَآخر
فِي الْأَدَب. وَفِيه: رِوَايَة ابْن جريج عَن عبد الحميد.
وَفِي رِوَايَة: عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج أَخْبرنِي
عبد الحميد، وَابْن جريج، رُبمَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن
عباد عَن نَفسه، وَلم يذكر عبد الحميد. كَذَلِك أخرجه
النَّسَائِيّ، قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن عَليّ، قَالَ:
حَدثنَا يحيى، قَالَ: حَدثنَا ابْن جريج. قَالَ:
(أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر، قَالَ: قلت
لجَابِر: أسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ينْهَى أَن يفرد يَوْم الْجُمُعَة بِصَوْم؟ قَالَ: أَي
وَرب الْكَعْبَة) . وروى النَّسَائِيّ أَيْضا عَن ابْن
جريج عَن عبد الحميد بن جُبَير عَن مُحَمَّد بن عباد.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن
عَمْرو النَّاقِد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن يُوسُف بن سعيد
وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن سُلَيْمَان بن سَالم وَعَن
أَحْمد بن عُثْمَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن هِشَام
بن عمار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سَأَلت جَابِرا) وَفِي رِوَايَة
مُسلم: (سَأَلت جَابر بن عبد الله وَهُوَ يطوف
بِالْبَيْتِ، أنَهَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن صِيَام يَوْم الْجُمُعَة؟ فَقَالَ: نعم وَرب
الْكَعْبَة) . قَوْله: (زَاد غير أبي عَاصِم) أَي: قَالَ
البُخَارِيّ: زَاد غَيره من الشُّيُوخ
(11/103)
لفظ: أَن ينْفَرد بصومه، أَي: يَصُوم يَوْم
الْجُمُعَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أَن ينْفَرد
بِصَوْم) ، وَغير أبي عَاصِم هُوَ يحيى بن سعيد الْقطَّان،
وَقَالَ النَّسَائِيّ: حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ (عَن يحيى
عَن ابْن جريج: (أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر،
قَالَ: قلت لجَابِر: أسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ينْهَى أَن يفرد يَوْم الْجُمُعَة بِصَوْم؟ قَالَ:
أَي وَرب الْكَعْبَة) . وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من
طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل، وَلَفظه: (أَن جَابر سُئِلَ
عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة؟ فَقَالَ: نهى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفرد) . وروى أَيْضا من طَرِيق
حَفْص بن غياث، وَلَفظه: (نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن صِيَام يَوْم الْجُمُعَة مُنْفَردا) ،
وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث سعيد بن الْمسيب (عَن
عبد الله ابْن عَمْرو: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم دخل على جوَيْرِية بنت الْحَارِث يَوْم الْجُمُعَة
وَهِي صَائِمَة، فَقَالَ لَهَا: (أصمتِ أمس؟ قَالَت: لَا،
قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن تصومي غَدا. قَالَت: لَا، قَالَ:
فأفطري) .
وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن سِيرِين
(عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا الدَّرْدَاء؟ لَا تخص يَوْم
الْجُمُعَة بصيام دون الْأَيَّام، وَلَا تخص لَيْلَة
الْجُمُعَة بِقِيَام دون اللَّيَالِي) ، وَابْن سِيرِين لم
يسمع من أبي الدَّرْدَاء، وَقد اخْتلف فِيهِ على ابْن
سِيرِين، فَقيل: هَكَذَا، وَقيل: عَن هِشَام عَن ابْن
سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. وروى أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس
بِلَفْظ: (لَا تَصُومُوا يَوْم الْجُمُعَة) ، وَفِي
إِسْنَاده: الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبيد الله،
وَثَّقَهُ ابْن معِين وَضَعفه الْجُمْهُور. وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث بشير بن
الخصاصية بِلَفْظ (لَا تصم يَوْم الْجُمُعَة إلاَّ فِي
أَيَّام هُوَ أَحدهَا) ، وَرِجَاله ثِقَات. وروى
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة صَالح بن جبلة (عَن
أنس: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول:
من صَامَ الْأَرْبَعَاء وَالْخَمِيس وَالْجُمُعَة بنى الله
لَهُ فِي الْجنَّة قصرا من لُؤْلُؤ وَيَاقُوت وَزَبَرْجَد،
وَكتب لَهُ بَرَاءَة من النَّار) وَصَالح بن جبلة ضعفه
الْأَزْدِيّ، فَفِي هَذَا صَوْم يَوْم الْجُمُعَة مَعَ
يَوْم قبله، وروى الْبَزَّار من حَدِيث عَامر بن كَدين
بِلَفْظ: إِن يَوْم الْجُمُعَة فَلَا تصوموه إلاَّ أَن
تَصُومُوا يَوْمًا قبله أَو بعده) . وروى النَّسَائِيّ من
رِوَايَة حُذَيْفَة الْبَارِقي (عَن جُنَادَة الْأَزْدِيّ:
أَنهم دخلُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثَمَانِيَة نفر، وَهُوَ ثامنهم، فَقرب إِلَيْهِم رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما يَوْم جُمُعَة،
قَالَ: كلوا. قَالُوا: صِيَام! قَالَ: أصمتم أمس؟ قَالُوا:
لَا، قَالَ: فصائمون غَدا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فأفطروا)
.
فَإِن قلت: يُعَارض هَذِه الْأَحَادِيث مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَاصِم عَن زر (عَن عبد الله،
قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم
من كل غرَّة شهر ثَلَاثَة أَيَّام وَقل مَا كَانَ يفْطر
يَوْم الْجُمُعَة) ؟ وَقَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب،
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي
شيبَة حَدثنَا حَفْص حَدثنَا لَيْث عَن عُمَيْر بن أبي
عُمَيْر (عَن ابْن عمر، قَالَ: مَا رَأَيْت رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُفطرا يَوْم جُمُعَة قطّ) .
وَمَا أخرجه أَيْضا عَن حَفْص عَن لَيْث عَن طَاوس (عَن
ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا رَأَيْته مُفطرا يَوْم جُمُعَة
قطّ) . قلت: لَا نسلم هَذِه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ لَا
دلَالَة فِيهَا على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَامَ
يَوْم الْجُمُعَة وَحده، فنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة فِي هَذِه الْأَحَادِيث يدل
على أَن صَوْمه يَوْم الْجُمُعَة لم يكن فِي يَوْم
الْجُمُعَة وَحده، بل إِنَّمَا كَانَ بِيَوْم قبله أَو
بِيَوْم بعده، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يحمل فعله
على مُخَالفَة أمره إلاَّ بِنَصّ صَرِيح صَحِيح،
فَحِينَئِذٍ يكون نسخا أَو تَخْصِيصًا، وكل وَاحِد
مِنْهُمَا مُنْتَفٍ.
وَأما حكم الْمَسْأَلَة فَاخْتَلَفُوا فِي صَوْم يَوْم
الْجُمُعَة على خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: كَرَاهَته مُطلقًا، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ
وَالشعْبِيّ وَالزهْرِيّ وَمُجاهد، وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد حكى أَبُو عمر عَن
أَحْمد وَإِسْحَاق كَرَاهَته مُطلقًا، وَنقل ابْن
الْمُنْذر وَابْن حزم منع صَوْمه عَن عَليّ وَأبي
هُرَيْرَة وسلمان وَأبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
وشبهوه بِيَوْم الْعِيد، فَفِي الحَدِيث الصَّحِيح: أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِن هَذَا
يَوْم جعله الله عيدا) وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي
سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (لَا صِيَام يَوْم عيد) .
القَوْل الثَّانِي: إِبَاحَته مُطلقًا من غير كَرَاهَة،
وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَمُحَمّد بن
الْمُنْكَدر، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد بن
الْحسن، وَقَالَ مَالك: لم أسمع أحدا من أهل الْعلم
وَالْفِقْه وَمن يَقْتَدِي بِهِ ينْهَى عَن صِيَام يَوْم
الْجُمُعَة، قَالَ: وصيامه حسن.
القَوْل الثَّالِث: أَنه يكره إِفْرَاده بِالصَّوْمِ،
فَإِن صَامَ يَوْمًا قبله أَو بعده لم يكره، وَهُوَ قَول
أبي هُرَيْرَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وطاووس وَأبي يُوسُف،
وَفِي (كتاب الطّراز) : وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر،
وَاخْتلف عَن الشَّافِعِي، فَحكى الْمُزنِيّ عَنهُ
جَوَازه، وَحكى أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَنهُ
كَرَاهَته، وَكَذَا حَكَاهُ ابْن الصّباغ عَن تَعْلِيق أبي
حَامِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي يدل عَلَيْهِ
حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَبِه جزم الرَّافِعِيّ
وَالنَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) . وَقَالَ
(11/104)
فِي (شرح مُسلم) : إِنَّه قَالَ بِهِ
جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَمِمَّنْ صَححهُ من
الْمَالِكِيَّة، ابْن الْعَرَبِيّ، فَقَالَ: وبكراهته
يَقُول الشَّافِعِي وَهُوَ الصَّحِيح.
القَوْل الرَّابِع: مَا حَكَاهُ القَاضِي عَن الدَّاودِيّ
أَن النَّهْي إِنَّمَا هُوَ عَن تحريه واقتصاصه دون غَيره،
فَإِنَّهُ مَتى صَامَ مَعَ صَوْمه يَوْمًا غَيره فقد خرج
عَن النَّهْي، لِأَن ذَلِك الْيَوْم قبله أَو بعده إِذْ لم
يقل الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ، قَالَ القَاضِي عِيَاض:
وَقد يرجح مَا قَالَه قَوْله فِي الحَدِيث الآخر: (لَا
تخصوا يَوْم الْجُمُعَة بصيام من بَين الْأَيَّام، وَلَا
ليلته بِقِيَام من بَين اللَّيَالِي) . قلت: وَهَذَا
ضَعِيف جدا، وَيَردهُ حَدِيث جوَيْرِية فِي صَحِيح
البُخَارِيّ، وَقَوله لَهَا: (أصمت أمس؟ قَالَت: لَا.
قَالَ: تصومين غَدا؟ قَالَت: لَا. قَالَ: فأفطري) ، فَهُوَ
صَرِيح فِي أَن المُرَاد بِهِ قبله يَوْم الْخَمِيس وَمَا
بعده يَوْم السبت.
القَوْل الْخَامِس: أَنه يحرم صَوْم يَوْم الْجُمُعَة
إلاَّ لمن صَامَ يَوْمًا قبله أَو يَوْمًا بعده، أَو وَافق
عَادَته بِأَن كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا،
فَوَافَقَ يَوْم الْجُمُعَة صِيَامه، وَهُوَ قَول ابْن حزم
لظواهر الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن
تَخْصِيصه بِالصَّوْمِ، وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ
الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث ابْن مَسْعُود: كَانَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة
أَيَّام، وَقل مَا كَانَ يفْطر يَوْم الْجُمُعَة، قَالَ:
وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد:
كَانَ لَا يتَعَمَّد فطره إِذا وَقع فِي الْأَيَّام
الَّتِي كَانَ يصومها. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ
النَّسَائِيّ أَيْضا وَصَححهُ ابْن حبَان وَابْن عبد الْبر
وَابْن حزم، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل يتْرك مَا يدل
عَلَيْهِ ظَاهر الحَدِيث، وَيدْفَع حجيته بِالِاحْتِمَالِ
الناشيء عَن غير دَلِيل الَّذِي لَا يعْتَبر، وَلَا يعْمل
بِهِ، وَهَذَا كُله عسف ومكابرة.
ثمَّ إعلم أَنهم اخْتلفُوا أَيْضا فِي الْحِكْمَة فِي
النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة مُفردا على أَقْوَال:
الأول: مَا قَالَه النَّوَوِيّ عَن الْعلمَاء أَنه يَوْم
دُعَاء وَذكر وَعبادَة من الْغسْل والتبكير إِلَى
الصَّلَاة وانتظارها واستماع الْخطْبَة، وإكثار الذّكر
بعْدهَا لقَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة
فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله واذْكُرُوا
الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون} (الْجُمُعَة: 01) . وَغير
ذَلِك من الْعِبَادَات فِي يَوْمهَا، فاستحب الْفطر فِيهِ
ليَكُون أعون لَهُ على هَذِه الْوَظَائِف وأدائها بنشاط
وانشراح لَهَا، والتذاذ بهَا من غير ملل وَلَا سآمة.
قَالَ: وَهُوَ نَظِير الْحَاج يَوْم عَرَفَة فَإِن السّنة
لَهُ الْفطر، ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن قيل: لَو
كَانَ كَذَلِك لم يزل النَّهْي وَالْكَرَاهَة بِصَوْم
يَوْم قبله أَو بعده لبَقَاء الْمَعْنى؟ ثمَّ أجَاب عَن
ذَلِك: بِأَنَّهُ يحصل لَهُ بفضيلة الصَّوْم الَّذِي قبله
أَو بعده مَا يجْبر مَا قد يحصل من فتور أَو تَقْصِير فِي
وظائف يَوْم الْجُمُعَة بِسَبَب صَوْمه. انْتهى قلت: فِيهِ
نظر، إِذْ جبر مَا فَاتَهُ من أَعمال يَوْم الْجُمُعَة
بِصَوْم يَوْم آخر لَا تخْتَص بِكَوْن الصَّوْم قبله
بِيَوْم أَو بعده بِيَوْم، بل صَوْم يَوْم الْإِثْنَيْنِ
أفضل من صَوْم يَوْم السبت.
الثَّانِي: هُوَ كَونه يَوْم عيد، والعيد لَا صِيَام
فِيهِ، وَاعْترض على هَذَا بِالْإِذْنِ بصيامه مَعَ غَيره،
ورد بِأَن شبهه بالعيد لَا يسْتَلْزم استواءه مَعَه من كل
جِهَة، ألاَ ترى أَنه لَا يجوز صَوْمه مَعَ يَوْم قبله
وَيَوْم بعده؟ .
الثَّالِث: لأجل خوف الْمُبَالغَة فِي تَعْظِيمه، فيفتتن
بِهِ كَمَا افْتتن الْيَهُود بالسبت، وَاعْترض عَلَيْهِ
بِثُبُوت تَعْظِيمه بِغَيْر الصّيام، وَأَيْضًا فاليهود
لَا يعظمون السبت بالصيام، فَلَو كَانَ الملحوظ موافقتهم
لتحتم صَوْمه لأَنهم لَا يَصُومُونَ، وروى النَّسَائِيّ من
حَدِيث أم سَلمَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ يَصُوم يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، وَكَانَ
يَقُول: إنَّهُمَا يَوْمًا عيد للْمُشْرِكين، فَأحب أَن
أخالفهم، وَأخرجه ابْن حبَان وَصَححهُ.
الرَّابِع: خوف اعْتِقَاد وُجُوبه، وَاعْترض عَلَيْهِ
بِصَوْم الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيس.
الْخَامِس: خشيَة أَن يفْرض عَلَيْهِم كَمَا خشِي رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من قيام اللَّيْل. قيل:
هُوَ منتقض بِإِجَازَة صَوْمه مَعَ غَيره، وَلِأَنَّهُ لَو
كَانَ ذَلِك لجَاز بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لارْتِفَاع السَّبَب.
السَّادِس: مُخَالفَة النَّصَارَى، لِأَنَّهُ لَا يجب
عَلَيْهِم صَوْمه وَنحن مأمورون بمخالفتهم، نَقله
الْقَمُولِيّ، قَالَ بَعضهم: وَهُوَ ضَعِيف، وَلم يبين
وَجهه قيل أقوى الْأَقْوَال وأولاها بِالصَّوَابِ مَا ورد
فِيهِ صَرِيحًا حديثان: أَحدهمَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِم
وَغَيره من طَرِيق عَامر بن لدين عَن أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا، (يَوْم الْجُمُعَة يَوْم عيد فَلَا تجْعَلُوا
يَوْم عيدكم يَوْم صِيَامكُمْ إلاَّ أَن تَصُومُوا قبله
أَو بعده) . وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة
بِإِسْنَاد حسن عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: (من كَانَ مِنْكُم مُتَطَوعا من الشَّهْر فليصم
يَوْم الْخَمِيس وَلَا يصم يَوْم الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ
يَوْم طَعَام وشراب وَذكر) .
5891 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ قَالَ
حدَّثنا أبِي قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش قَالَ حَدثنَا أبُو
صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ
لاَ يَصُومَنَّ أحَدُكُم يَوْمَ الجُمُعَةِ
(11/105)
إلاَّ يَوْما قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح
ذكْوَان الزيات السمان.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَابْن مَاجَه جَمِيعًا فِي
الصَّوْم أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (لَا يصومنَّ) بنُون التَّأْكِيد رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (لَا يَصُوم) بِدُونِ
النُّون، وَلَفظ النَّفْي، وَالْمرَاد بِهِ النَّهْي.
قَوْله: (إلاَّ يَوْمًا قبله) ، تَقْدِيره: إلاَّ أَن
يَصُوم يَوْمًا قبله، لِأَن يَوْمًا لَا يصلح أَن يكون
اسْتثِْنَاء من يَوْم الْجُمُعَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
هُوَ ظرف ليصوم الْمُقدر، أَو يَوْم مَنْصُوب بِنَزْع
الْخَافِض، وَهُوَ بَاء المصاحبة أَي: بِيَوْم، وَأخذ
بَعضهم الْوَجْه الأول من كَلَام الْكرْمَانِي وَسكت
عَنهُ، ثمَّ ذكر الْوَجْه الثَّانِي بقوله: وَقَالَ
الْكرْمَانِي، وَفِي طَرِيق الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة
مُحَمَّد بن أشكاب عَن عمر بن حَفْص، شيخ البُخَارِيّ،
فِيهِ: (إِلَّا أَن تَصُومُوا يَوْمًا قبله أَو بعده) .
وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن
الْأَعْمَش: لَا يصم أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إلاَّ أَن
يَصُوم قبله أَو يَصُوم بعده) ، وَلمُسلم من طَرِيق هِشَام
عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة: (لَا تخصوا لَيْلَة
الْجُمُعَة بِقِيَام من اللَّيَالِي، وَلَا يَوْم
الْجُمُعَة بِصَوْم من بَين الْأَيَّام، إلاَّ أَن يكون
فِي صَوْم يَصُومهُ أحدكُم) . وَرَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق
عَوْف عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: (نهى أَن يفرد يَوْم
الْجُمُعَة بِصَوْم) ، وَمن طَرِيق أبي الأوبر زِيَاد
الْحَارِثِيّ: (أَن رجلا قَالَ لأبي هُرَيْرَة: أَنْت
الَّذِي تنْهى النَّاس عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة؟ قَالَ:
هَا، وَرب الْكَعْبَة ثَلَاثًا لقد سَمِعت مُحَمَّدًا صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا يَصُوم أحدكُم يَوْم
الْجُمُعَة وَحده إلاَّ فِي أَيَّام مَعَه) . وَله من
طَرِيق ليلى، امْرَأَة بشير بن الخصاصية، أَنه (سَأَلَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: لَا تصم يَوْم
الْجُمُعَة إلاَّ فِي أَيَّام هُوَ أَحدهَا) . وَهَذِه
الْأَحَادِيث تقيد النَّهْي الْمُطلق فِي حَدِيث جَابر
الْمَذْكُور، وَيُؤْخَذ من الِاسْتِثْنَاء جَوَازه لمن
صَامَ قبله أَو بعده، أَو اتّفق وُقُوعه فِي أَيَّام لَهُ
عَادَة يصومها، كمن يَصُوم أَيَّام الْبيض أَو من لَهُ
عَادَة بِصَوْم يَوْم معِين، كَيَوْم عَرَفَة فَوَافَقَ
يَوْم الْجُمُعَة.
6891 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ
شُعْبَةَ ح وحدَّثني محَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا غُنْدَرٌ
قَالَ حدَّثنا شعبَةُ عنْ قتَادَةَ عنْ أبِي أيُّوبَ عنْ
جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخَلَ
عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ
أصُمْتِ أمْسِ قالَتْ لاَ قَالَ تُرِيدينَ أنْ تَصُومِينَ
غَدا قالَتْ لاَ قَالَ فأفْطِرِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرجه من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن شُعْبَة عَن
قَتَادَة عَن أبي أَيُّوب يحيى بن مَالك المراغي
الْبَصْرِيّ، عَن جوَيْرِية تَصْغِير: الْجَارِيَة،
بِالْجِيم الْخُزَاعِيَّة، كَانَ اسْمهَا برة وسماها
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وَكَانَت امْرَأَة
حلوة مليحة لَا يكَاد يَرَاهَا أحد إلاَّ أخذت بِنَفسِهِ،
وَهِي من سَبَايَا بني المصطلق، وَلما تزوج رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بهَا أرسل كل الصَّحَابَة مَا
فِي أَيْديهم من سهم المصطلقين، فَلَا يعلم امْرَأَة
كَانَت أعظم بركَة على قَومهَا مِنْهَا، مَاتَت سنة سِتّ
وَخمسين. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد، اخْتلف فِي
مُحَمَّد هَذَا عَن غنْدر، فَذكر أَبُو نعيم فِي (مستخرجه)
والإسماعيلي: أَنه مُحَمَّد ابْن بشار الَّذِي يُقَال لَهُ
بنْدَار، وَقَالَ الجياني: لَا ينْسبهُ أحد من شُيُوخنَا
فِي شَيْء من الْمَوَاضِع، وَلَعَلَّه مُحَمَّد بن بشار،
وَإِن كَانَ مُحَمَّد بن الْمثنى يروي أَيْضا عَن غنْدر،
وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر يرْوى عَن شُعْبَة عَن
قَتَادَة ... إِلَى آخِره. والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد
أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن كثير وَحَفْص بن عمر
كِلَاهُمَا عَن هِشَام عَن قَتَادَة بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد
التَّيْمِيّ القَاضِي عَن يحيى الْقطَّان بِهِ، وَلَيْسَ
لجويرية زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
البُخَارِيّ من رِوَايَتهَا سوى هَذَا الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهِي صَائِمَة) ، جملَة إسمية
وَقعت حَالا. قَوْله: (أصمت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام
على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (أَن تصومين) ، ويروى: (أَن
تصومي) ، بِإِسْقَاط النُّون على الأَصْل. قَوْله:
(فأفطري) ، زَاد أَبُو نعيم فِي رِوَايَته: (إِذا) .
وَقَالَ حمَّادُ بنُ الجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ قَالَ
حدَّثني أبُو أيُّوبَ أنَّ جُوَيْرِيَّةَ حدَّثته
فأمَرَهَا فأفطَرَتْ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِي
(جمع حَدِيث هدبة بن خَالِد) قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن
الْجَعْد سُئِلَ قَتَادَة عَن صِيَام النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو أَيُّوب فَذكره،
وَقَالَ فِي آخِره: (فَأمرهَا فأفطرت) ، وَحَمَّاد بن
الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة،
وَيُقَال لَهُ:
(11/106)
ابْن أبي الْجَعْد، وَفِي (التَّوْضِيح) :
ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بحَديثه بَأْس،
وَذكره عبد الْغَنِيّ فِي (الْكَمَال) وَقَالَ: اسْتشْهد
بِهِ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِحَدِيث
وَاحِد مُتَابعَة، وَلم يذكر أَن غَيره أخرج لَهُ، وأسقطه
الذَّهَبِيّ فِي (الكاشف) وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ
سوى هَذَا الْموضع.
46 - (بابٌ هَلْ يَخُصُّ شَيْئا مِن الأيَّام)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يخص الشَّخْص الَّذِي
يُرِيد الصَّوْم شَيْئا من الْأَيَّام. وَفِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ: هَل يخص شَيْء، على صِيغَة بِنَاء
الْمَجْهُول، وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام
الَّذِي هُوَ الحكم لِأَن ظَاهر حَدِيث الْبَاب يدل على
عدم التَّخْصِيص، وَجَاء عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، مَا يَقْتَضِي نفي المداومة، وَهُوَ مَا
رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي سَلمَة، وَمن طَرِيق عبد الله
بن شَقِيق جَمِيعًا، (عَن عَائِشَة أَنَّهَا سُئِلت عَن
صِيَام رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَت:
كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَصُوم
حَتَّى نقُول قد صَامَ قد صَامَ، وَيفْطر حَتَّى تَقول قد
أفطر قد أفطر) . فلأجل هَذَا ذكر التَّرْجَمَة بالاستفهام،
ولينظر فِيهِ إِمَّا بالترجيح أَو بِالْجمعِ بَينهمَا.
7891 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى عنْ
سُفْيانَ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَة
قُلْتُ لِ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا هَلْ
كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْتَصُّ مِنَ
الأيَّامِ شَيْئا قالَتْ لاَ كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً
وأيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُطِيقُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ جَوَابا
للاستفهام الْمَذْكُور فِيهَا، وَهُوَ أَنه لَا يخص شَيْئا
من الْأَيَّام، وإيراد هَذَا الحَدِيث بِهَذِهِ
التَّرْجَمَة يدل على أَن ترك التَّخْصِيص هُوَ الْمُرَجح
عِنْده، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وابراهيم
هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن قيس النَّخعِيّ، وَهُوَ
خَال إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وَعم الْأسود بن زيد.
وَهَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا يعد من أصح الْأَسَانِيد،
ومسدد وَيحيى بصريان والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة
الرَّاوِي عَن خَاله.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الرقَاق عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن
جوَيْرِية. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن
عُثْمَان بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي (الشَّمَائِل)
عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث عَن جوَيْرِية بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَل كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يخْتَص من الْأَيَّام شَيْئا؟ قَالَت:
لَا) مَعْنَاهُ أَنه كَانَ لَا يخص شَيْئا من الْأَيَّام
دَائِما، وَلَا راتبا إلاَّ أَنه كَانَ أَكثر صِيَامه فِي
شعْبَان، وَقد حض على صَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس،
لَكِن كَانَ صَوْمه على حسب نشاطه، فَرُبمَا وَافق
الْأَيَّام الَّتِي رغب فِيهَا، وَرُبمَا لم يُوَافِقهَا،
وَفِي أَفْرَاد مُسلم: (عَن معَاذَة العدوية أَنَّهَا
سَأَلت عَائِشَة: أَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام؟ قَالَت: نعم،
فَقلت لَهَا: من أَي أَيَّام الشَّهْر كَانَ يَصُوم؟
قَالَت: لم يكن يُبَالِي من أَي أَيَّام الشَّهْر يَصُوم)
. وَنقل ابْن التِّين عَن بعض أهل الْعلم أَنه يكره أَن
يتحَرَّى يَوْمًا من الْأُسْبُوع بصيام لهَذَا الحَدِيث.
قَوْله: (يخْتَص) من بَاب الافتعال، وَفِي رِوَايَة جرير
عَن مَنْصُور فِي الرقَاق: (يخص) ، بِغَيْر تَاء مثناة من
فَوق. قَوْله: (دِيمَة) بِكَسْر الدَّال وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف، أَي: دَائِما لَا يَنْقَطِع، وَمن ذَلِك
قيل للمطر الَّذِي يَدُوم وَلَا يَنْقَطِع أَيَّامًا:
الديمة.
56 - (بابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَوْم يَوْم عَرَفَة،
وَلما لم تثبت عِنْده الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي
التَّرْغِيب فِي صَوْمه على شَرطه أبهم وَلم يبين الحكم.
8891 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ
مالِكٍ قَالَ حدَّثني عُمَيْرٌ مَوْلَى أُمِّ الفَضْلِ
أنَّ أُمَّ الفَضْلِ حدَّثَتْهُ ح وحدَّثنا عَبْدُ الله
بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي النَّضْرِ
مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ الله عنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى
عَبْدِ الله بنِ العَبَّاسِ عنْ أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ
(11/107)
الحَارِثِ أنَّ نَاسا تمارَوا عِنْدَها
يَوْمَ عَرَفة فِي صَومِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فقالَ بَعضُهُم هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بعضُهُمْ لَيْسَ
بِصائِمٍ فأرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحِ لبَنٍ وهْوَ وَاقِفٌ
عَلى بعِيرِهِ فشَرِبَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِبْهَام
الَّذِي فِي التَّرْجَمَة، وَيكون التَّقْدِير: بَاب صَوْم
يَوْم عَرَفَة غير مُسْتَحبّ، بل ذهب قوم إِلَى وجوب
الْفطر يَوْم عَرَفَة على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة، لِأَنَّهُ رُوِيَ من طَرِيقين:
الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: يحيى الْقطَّان. الثَّالِث:
مَالك بن أنس. الرَّابِع: سَالم هُوَ أَبُو النَّضر،
بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: مولى عمر
بن عبيد الله بن معمر الْقرشِي. الْخَامِس: عُمَيْر مصغر
عمر تَارَة يُقَال لَهُ: إِنَّه مولى أم الْفضل أم ابْن
عَبَّاس وَاسْمهَا لبَابَة، بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف
الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة أُخْرَى،
وَتارَة يُقَال: إِنَّه مولى عبد الله بن عَبَّاس،
وَالظَّاهِر أَنه لأم الْفضل حَقِيقَة، وينسب إِلَى
أَبِيهَا لملازمته لَهُ وَأَخذه عَنهُ، مر فِي التَّيَمُّم
فِي الْحَضَر. السَّادِس: أم الْفضل الْمَذْكُورَة بنت
الْحَارِث بن حزن الْهِلَالِيَّة، زوج الْعَبَّاس بن عبد
الْمطلب، وَهِي أُخْت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. السَّابِع: عبد الله بن
يُوسُف التنيسِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد كَذَلِك. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي
مَوضِع. وَفِيه: قَالَ مَالك: حَدثنِي سَالم ذكره فِي
هَذَا الطَّرِيق باسمه، وَفِي الثَّانِيَة بكنيته، وَهُوَ
بكنيته أشهر، وَرُبمَا جَاءَ باسمه وكنيته، فَيُقَال:
حَدثنَا سَالم أَبُو النَّضر. وَفِيه: أَنه سَاق الطَّرِيق
الأول مَعَ نُزُولهَا، لما فِيهِ من التَّصْرِيح
بِالتَّحْدِيثِ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي وَقعت بالعنعنة
فِي الطَّرِيق الثَّانِي مَعَ علوه، وَفِيه: أَن عُمَيْرًا
لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَقد
أخرجه فِي الْحَج أَيْضا فِي موضِعين، وَفِي الْأَشْرِبَة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَحَدِيث آخر تقدم فِي
التَّيَمُّم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْحَج عَن القعْنبِي وَعَن عَليّ بن عبد الله
أَيْضا، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن الْحميدِي وَعَن مَالك بن
إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن الْعَبَّاس. وَأخرجه مُسلم
فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عَمْرو عَن زُهَيْر بن
حَرْب وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث
مُخْتَصرا فِي كتاب الْحَج فِي موضِعين: أَحدهمَا: بَاب
صَوْم يَوْم عَرَفَة، وَالْآخر: بَاب الْوُقُوف على
الدَّابَّة بِعَرَفَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن نَاسا تماروا) ، أَي:
اخْتلفُوا وجادلوا، وَوَقع عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي
(الموطآت) من طَرِيق أبي روح عَن مَالك: (اخْتلف نَاس من
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله:
(فَأرْسلت) ، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم والغيبة، وَفِي
الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي عَقِيبه أَن مَيْمُونَة بنت
الْحَارِث هِيَ الَّتِي أرْسلت، فَيحْتَمل التَّعَدُّد
وَيحْتَمل أَنَّهُمَا أرسلتا مَعًا، فنسب ذَلِك إِلَى كل
مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا أختَان، كَمَا ذكرنَا، وَتَكون
مَيْمُونَة أرْسلت بسؤال أم الْفضل لَهَا بذلك بكشف
الْحَال فِي ذَلِك، وَيحْتَمل الْعَكْس. قَوْله: (وَهُوَ
وَاقِف على بعيره) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَزَاد
أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق يحيى بن سعيد
عَن مَالك: (وَهُوَ يخْطب النَّاس بِعَرَفَة) ، وللبخاري
فِي الْأَشْرِبَة من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة
عَن أبي النَّضر، وَهُوَ وَاقِف عَشِيَّة عَرَفَة،
وَلأَحْمَد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الله بن عَبَّاس
عَن أمه أم الْفضل: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أفطر بِعَرَفَة. قَوْله: (فشربه) ، زَاد فِي حَدِيث
مَيْمُونَة: (وَالنَّاس ينظرُونَ) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث: اسْتِحْبَاب الْفطر للْوَاقِف
بِعَرَفَة وَالْوُقُوف رَاكِبًا، وَجَوَاز الشّرْب
قَائِما، وَإِبَاحَة الْهَدِيَّة لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقبُول هَدِيَّة الْمَرْأَة المتزوجة
الموثوق بدينها. وَجَوَاز تصرف الْمَرْأَة فِي مَالهَا،
خرج من الثُّلُث أم لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يسْأَل هَل هُوَ من مَالهَا أَو مَال زَوجهَا؟
وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب صَوْم يَوْم عَرَفَة
فِي كتاب الْحَج.
(11/108)
9891 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمانَ
قَالَ حَدثنَا ابنُ وَهْبٍ أوْ قُرِيءَ عَلَيْهِ قَالَ
أَخْبرنِي عَمْرٌ وعنْ بُكَيْرٍ عَن كريب عنْ مَيْمُونةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي
صِيام النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عَرَفَةَ
فأرْسَلَتْ إليْهِ بِحلاَبٍ وَهْوَ وَاقِفٌ فِي المَوْقِفِ
فَشَرِبَ منْهُ والنَّاسُ يَنْظُرُونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي وَجه مُطَابقَة
الحَدِيث الَّذِي قبله.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: يحيى ابْن سُلَيْمَان بن
يحيى أَبُو سعيد الْجعْفِيّ، قدم مصر وَحدث بهَا وَتُوفِّي
بهَا سنة ثَمَان، وَيُقَال: سبع وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله ابْن وهب. الثَّالِث:
عَمْرو بن الْحَارِث. الرَّابِع: بكير بن عبد الله بن
الإشج. الْخَامِس: كريب بن أبي مُسلم الْقرشِي مولى عبد
الله بن عَبَّاس. السَّادِس: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: اثْنَان
من الروَاة مصغران: بكير وكريب. وَفِيه: أَن شَيْخه من
أَفْرَاده وَهُوَ كُوفِي الأَصْل وَابْن وهب وَعَمْرو
مصريان، والبقية مدنيون، وَفِيه: قَوْله: أَو قرىء
عَلَيْهِ، شكّ من يحيى فِي أَن الشَّيْخ قَرَأَ، أَو قرىء
على الشَّيْخ؟ .
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن هَارُون
بن سعيد الْأَيْلِي، رَحمَه الله تَعَالَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شكوا) ، بتَشْديد الْكَاف فِي
صِيَام النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم من
قَالَ: إِنَّه صَائِم بِنَاء على عَادَتهم فِي الْحَضَر،
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه غير صَائِم لكَونه مُسَافِرًا،
وَقد عرف نَهْيه عَن صَوْم الْفَرْض فِي السّفر فضلا عَن
النَّفْل. قَوْله: (بحلاب) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف اللَّام، وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ
اللَّبن، وَقيل: الحلاب اللَّبن المحلوب، وَقد يُطلق على
الْإِنَاء وَلَو لم يكن فِيهِ لبن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثين على اسْتِحْبَاب الْفطر يَوْم عَرَفَة
بِعَرَفَة، وَفِيه نظر، لِأَن فعله الْمُجَرّد لَا يدل على
نفي الِاسْتِحْبَاب، إِذْ قد يتْرك الشَّيْء الْمُسْتَحبّ
لبَيَان الْجَوَاز، وَيكون فِي حَقه أفضل لمصْلحَة
التَّبْلِيغ، نعم يتم الِاسْتِدْلَال بِمَا رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عِكْرِمَة: (أَن أَبَا
هُرَيْرَة حَدثهمْ أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، نهى عَن صَوْم يَوْم عَرَفَة بِعَرَفَة) ، وَصَححهُ
ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم، وَأخذ بِظَاهِرِهِ بعض السّلف
فَنقل عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه قَالَ: يجب فطر
يَوْم عَرَفَة للْحَاج، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا
أفطر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِعَرَفَة ليدل على
الِاخْتِيَار للحجاج، لَكِن بِأَن لَا يضعف عَن الدُّعَاء
وَالذكر الْمَطْلُوب يَوْم عَرَفَة، وَقيل: إِنَّمَا أفطر
لموافقته يَوْم الْجُمُعَة، وَقد نهى عَن إِفْرَاده
بِالصَّوْمِ، وَقيل: لِأَنَّهُ يَوْم عيد لأهل الْموقف
لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ، وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ أَصْحَاب
السّنَن عَن عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا، يَوْم عَرَفَة
وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام منى وعيدنا أهل الْإِسْلَام.
وَفِيه: أَن العيان أقطع للحجة، وَأَنه فَوق الْخَبَر.
وَفِيه: أَن الْأكل وَالشرب فِي المحافل مُبَاح، وَلَا
كَرَاهَة فِيهِ للضَّرُورَة، وَفِيه: تأسي النَّاس
بِأَفْعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه:
الْبَحْث وَالِاجْتِهَاد فِي حَيَاته، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، والمناظرة فِي الْعلم بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء،
والتحيل على الِاطِّلَاع على الحكم بِغَيْر سُؤال. وَفِيه:
فطنة مَيْمُونَة وَأم الْفضل أَيْضا لاستكشافهما عَن الحكم
الشَّرْعِيّ بِهَذِهِ الْوَسِيلَة اللائقة بِالْحَال،
لِأَن ذَلِك كَانَ فِي يَوْم حر بعد الظهيرة، قيل: لم
ينْقل أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ناول فَضله أحدا،
فَلَعَلَّهُ علم أَنَّهَا خصته بِهِ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ
مَسْأَلَة التَّمْلِيك الْمُقَيد، وَفِيه نظر، وَقد وَقع
فِي حَدِيث مَيْمُونَة (فَشرب مِنْهُ) ، فَهَذَا يدل على
أَنه لم يستوفِ شربه، وَالله أعلم.
66 - (بابُ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَوْم يَوْم الْفطر مَا حكمه؟
لم يُصَرح بالحكم اكْتِفَاء بِمَا يذكر فِي الحَدِيث على
عَادَته، قيل: لَعَلَّه أَشَارَ إِلَى الْخلاف فِيمَن نذر
صَوْم يَوْم فَوَافَقَ يَوْم الْعِيد، هَل ينْعَقد نَذره
أم لَا؟ قلت: إِذا قَالَ: لله عَليّ صَوْم يَوْم النَّحْر،
أفطر وَقضى، فَهَذَا النّذر صَحِيح عندنَا مَعَ إِجْمَاع
الْأمة على أَن صَوْمه وَصَوْم الْفطر منهيان. قَالَ
مَالك: لَو نذر صَوْم يَوْم فَوَافَقَ يَوْم
(11/109)
فطر أَو نحر يَقْضِيه فِي رِوَايَة ابْن
الْقَاسِم وَابْن وهب عَنهُ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ،
وَالْأَصْل عندنَا أَن النَّهْي لَا يَنْفِي مَشْرُوعِيَّة
الأَصْل. وَقَالَ صَاحب الْمَحْصُول: أَكثر الْفُقَهَاء
على أَن النَّهْي لَا يُفِيد الْفساد، وَقَالَ الرَّازِيّ:
لَا يدل النَّهْي على الْفساد أصلا، وَأطَال الْكَلَام
فِيهِ، وعَلى هَذَا الأَصْل مَشى أَصْحَابنَا فِيمَا
ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ من حَدِيث زِيَاد بن جُبَير، قَالَ: (جَاءَ
رجل إِلَى ابْن عمر فَقَالَ: نذر رجل صَوْم الْإِثْنَيْنِ
فَوَافَقَ يَوْم عيد؟ فَقَالَ ابْن عمر: أَمر الله بوفاء
النّذر، وَنهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن
صَوْم هَذَا الْيَوْم، فتوقف فِي الْفتيا) . وَسَيَجِيءُ
فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَقَالَ ابْن عبد الْملك: لَو
كَانَ صَوْمه مَمْنُوعًا مِنْهُ لعَينه، مَا توقف ابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ الشَّافِعِي
وَزفر وَأحمد: لَا يَصح صَوْم يومي الْعِيدَيْنِ وَلَا
النّذر بصومهما، وَهُوَ رِوَايَة أبي يُوسُف وَابْن
الْمُبَارك عَن أبي حنيفَة، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة
أَنه إِن نذر صَوْم يَوْم النَّحْر لَا يَصح، وَإِن نذر
صَوْم غَد وَهُوَ يَوْم النَّحْر صَحَّ، وَاحْتج بِحَدِيث
أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي
هُنَا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
0991 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَن أبي عُبَيْدٍ مولَى ابنِ
أزْهَرَ قَالَ شَهِدْتُ الْعِيدَ معَ عُمَرَ بنِ
الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ هَذَانِ
يَوْمَانِ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ
صِيَامِهِما يَوْمُ فِطْرِكُمُ مِنْ صِيَامِكُمْ
والْيَوْمُ الآخَرُ تأكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ.
(الحَدِيث 0991 طرفه فِي: 1755) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين إِبْهَام
التَّرْجَمَة، وَهُوَ أَن صَوْم يَوْم الْفطر لَا يَصح،
وَأَبُو عبيد اسْمه: سعد، مولى ابْن عبد الرَّحْمَن بن
الْأَزْهَر بن عَوْف وينسب أَيْضا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف لِأَنَّهُمَا ابْنا عَم الْقرشِي الزُّهْرِيّ، مَاتَ
سنة ثَمَان وَتِسْعين، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قد غلط من
جعله ابْن عَم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، بل هُوَ عبد
الرَّحْمَن بن أَزْهَر بن عبد عَوْف.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْأَضَاحِي عَن حبَان عَن ابْن الْمُبَارك.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن
مَالك بِهِ، وَفِي الْأَضَاحِي عَن عبد الْجَبَّار بن
الْعلي وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب،
وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعَن عبد بن حميد وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الصَّوْم عَن قُتَيْبَة وَزُهَيْر بن حَرْب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الْملك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم،
وَفِي الذَّبَائِح عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
الدَّوْرَقِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّوْم عَن سهل
بن أبي سهل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مولى ابْن أَزْهَر) ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (مولى بني أَزْهَر) ، وَكَذَا فِي
رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (شهِدت الْعِيد) ، زَاد يُونُس
عَن الزُّهْرِيّ فِي رِوَايَته الَّتِي تَأتي فِي
الْأَضَاحِي، (يَوْم الْأَضْحَى) . قَوْله: (هَذَانِ
يَوْمَانِ) ، فِيهِ التغليب، وَذَلِكَ أَن الْحَاضِر يشار
إِلَيْهِ بِهَذَا وَالْغَائِب يشار إِلَيْهِ بِذَاكَ،
فَلَمَّا أَن جَمعهمَا اللَّفْظ قَالَ: هَذَانِ،
تَغْلِيبًا، للحاضر على الْغَائِب. قَوْله: (يَوْم فطركم)
، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره:
أَحدهمَا يَوْم فطركم، وَقَالَ بَعضهم: أَو على الْبَدَل
من قَوْله: (يَوْمَانِ) . قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح على
مَا لَا يخفى. قَوْله: (من صِيَامكُمْ) كلمة: من،
بَيَانِيَّة، وَفِي رِوَايَة يُونُس فِي الْأَضَاحِي: (أما
أَحدهمَا فَيوم فطركم) . قَوْله: (من نسككم) ، بِضَم
السِّين وسكونها أَي: أُضْحِيَتكُم، وَفَائِدَة وصف
الْيَوْمَيْنِ الْإِشَارَة إِلَى الْعلَّة، وَهِي فِي
أَحدهمَا، وجوب الْفطر، وَفِي الآخر الْأكل من
الْأُضْحِية.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ منْ قالَ
مَوْلَى بنِ أزْهَرَ فقَدْ أصابَ ومَنْ قَالَ مَوْلَى
عَبْدِ الرَّحْمانِ فقَدْ أصابَ
هَذَا لَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ: أَبُو عبد الله
هُوَ البُخَارِيّ وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان بن
عُيَيْنَة، وَهَذَا حَكَاهُ عَنهُ عَليّ بن الْمَدِينِيّ
فِي (الْعِلَل) وَقد أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده)
عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: عَن أبي
عبيد مولى ابْن أَزْهَر. وَأخرجه الْحميدِي فِي (مُسْنده)
عَن ابْن عُيَيْنَة: حَدثنِي الزُّهْرِيّ سَمِعت أَبَا
عبيد، فَذكر الحَدِيث وَلم يصفه بِشَيْء. وَرَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ،
فَقَالَ: عَن أبي عبيد مولى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَقَالَ ابْن التِّين: وَجه كَون الْقَوْلَيْنِ صَوَابا
مَا رُوِيَ أَنَّهُمَا اشْتَركَا فِي ولائه، وَقيل: يحمل
أَحدهمَا على الْحَقِيقَة، وَالْآخر على الْمجَاز، أما
بِاعْتِبَار كَثْرَة ملازمته لأَحَدهمَا للْخدمَة، أَو
للأخذ عَنهُ، أَو لانتقاله من ملك أَحدهمَا إِلَى الآخر،
وَقد مر بعض الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
(11/110)
1991 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ
قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى
عنْ أبِيهِ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ صَوْمِ
يَوْمِ الفِطْرِ والنَّحْرِ وعنِ الصَّمَّاءِ وأنْ
يحْتَبِيَ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ. وعَنْ صَلاةٍ
بَعْدَ الصُّبْحِ والْعَصْرِ. .
هَذَا الحَدِيث قد مر فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي:
بَاب مَا يستر من الْعَوْرَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
قُتَيْبَة بن سعيد عَن اللَّيْث بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ،
وَلَيْسَ فِيهِ صَوْم يَوْم الْفطر، والنحر، وَلَا ذكر
الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَالْعصر، وَذكر فِي: بَاب لَا
يتحَرَّى الصَّلَاة قبل غرُوب الشَّمْس، عَن أبي سعيد حكم
الصَّلَاتَيْنِ وَذكر عَن غَيره أيضافي أَبْوَاب
مُتَفَرِّقَة هُنَاكَ، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
مُسْتَوفى، ووهيب تَصْغِير وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ،
وَعَمْرو بن يحيى ابْن عمَارَة الْأنْصَارِيّ، مر فِي:
بَاب مَا يستر عَوْرَته، وَأَبوهُ يحيى بن عمَارَة بن أبي
حسن الْمَازِني الْأنْصَارِيّ.
76 - (بابُ الصَّوْمِ يَوْمَ النَّحْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَوْم يَوْم النَّحْر،
وَالْكَلَام فِي إبهامه الحكم كَالْكَلَامِ فِي الَّذِي
قبله.
قَوْله: (بَاب الصَّوْم) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (بَاب صَوْم يَوْم
النَّحْر) .
3991 - حدَّثنا إبْراهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرَنا
هِشامٌ عنِ ابنِ جُرِيجٍ قَالَ أخبرَني عَمْرُو بنُ
دِينارٍ عنْ عَطاءِ بنِ مِينَاء قَالَ سَمِعْتُهُ
يُحَدِّثُ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ يُنْهَى عنْ صِيَامَيْنِ وبَيْعَتَيْنِ الْفِطْرِ
والنَّحْرِ والْمُلاَمَسَةِ والْمُنَابِذَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والنحر) ، فَإِن صَوْمه
أحد الصيامين المنهيين، وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد
الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير،
وَهِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ وَفِي بعض النّسخ هُوَ
مَذْكُور بنسبته إِلَى أَبِيه، وَابْن جريج هُوَ عبد
الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء بن ميناء،
بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون،
الْمَشْهُور أَنه مَقْصُور: مولى أبي ذُبَاب الْحَيَوَان
الْمَعْرُوف الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن
رَافع عَن عبد الرَّزَّاق.
قَوْله: (ينْهَى) كَذَا هُنَا بِضَم أَوله على الْبناء
للْمَجْهُول، وَفِي مُسلم بِلَفْظ: (نهى أَو نهي عَن
بيعَتَيْنِ: الْمُلَامسَة والمنابذة) . وَلم يذكر صوما.
قَوْله: (عَن صيامين) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ:
(عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: نهى يَعْنِي: النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صِيَام يَوْمَيْنِ وَعَن لبستين
وَعَن بيعَتَيْنِ، فَأَما صِيَام يَوْمَيْنِ: فالفطر
والأضحى، وَأما البيعتان: فالملامسة) وَلم يذكر
الْمُنَابذَة. وَعند الْبَيْهَقِيّ: (نهى عَن صِيَام يَوْم
الْأَضْحَى وَيَوْم الْفطر) ، وَعند ابْن مَاجَه: (أَيَّام
منى أَيَّام أكل وَشرب) . قَوْله: (الْفطر والنحر) ، فِيهِ
لف وَنشر يرجع إِلَى صيامين، وَقَوله: (الْمُلَامسَة
والمنابذة) يرجع إِلَى البيعتين، وَقد روى عَن أبي
هُرَيْرَة فِي: بَاب مَا يستر من الْعَوْرَة. وَقَالَ:
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيعَتَيْنِ،
عَن الملاس والنباذ) . الحَدِيث، وَقد مر بَيَانه هُنَاكَ.
4991 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا
مُعاذٌ قَالَ أخبرنَا ابنُ عَوْنٍ عنْ زِيادِ بنِ جُبَيْرٍ
قَالَ جاءَ رجُلٌ إِلَى ابنِ عُمعرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا فَقَالَ رجُلٌ نذَرَ أنْ يصُومَ يَوْمًا قَالَ
أظُنُّهُ قَالَ الاثْنَيْن فَوافقَ يَوْمَ عِيدٍ فَقَالَ
ابنُ عُمرَ أمَرَ الله بِوَفاءِ النَّذْرِ ونَهَى النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ صَوْمِ هَذا اليَوْمِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَنهى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَوْم هَذَا الْيَوْم) وَهُوَ
يُوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة. فَإِن قلت:
لم يُفَسر الْعِيد فِي الْأَثر فَكيف يكون التطابق؟ قلت:
المسؤول عَنهُ يَوْم النَّحْر لِأَنَّهُ مُصَرح بِهِ فِي
رِوَايَة يزِيد بن زُرَيْع عَن يُونُس (عَن زِيَاد بن
جُبَير، قَالَ: كنت مَعَ ابْن عمر فَسَأَلَهُ رجل،
فَقَالَ: نذرت أَن أَصوم كل يَوْم ثَلَاثًا، أَو أَرْبعا،
مَا عِشْت، فَوَافَقت
(11/111)
هَذَا الْيَوْم يَوْم النَّحْر، فَقَالَ:
أَمر الله تَعَالَى بوفاء النّذر، ونهينا أَن نَصُوم يَوْم
النَّحْر، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مثله لَا يزِيد
عَلَيْهِ) . رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان
وَالنُّذُور فِي: بَاب من نذر أَن يَصُوم أَيَّامًا
فَوَافَقَ يَوْم النَّحْر، على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. وَأخرجه مُسلم: (عَن زِيَاد بن جُبَير، قَالَ:
جَاءَ رجل إِلَى ابْن عمر، فَقَالَ: إِنِّي نذرت أَن أَصوم
يَوْمًا، فَوَافَقَ يَوْم أضحى أَو فطر. .) الحَدِيث،
وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة أَحْمد عَن إِسْمَاعِيل بن علية
عَن يُونُس، وَفِي رِوَايَة وَكِيع: فَوَافَقَ يَوْم أضحى
أَو فطر.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى،
وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: معَاذ بن معَاذ الْعَنْبَري.
الثَّالِث: ابْن عون هُوَ عبيد الله بن عون بن أرطبان
الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: زِيَاد بن جُبَير، بِضَم الحيم
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن حَيَّة، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف:
الثَّقَفِيّ، وَقد مر فِي: بَاب نحر الْإِبِل الْمقيدَة
بِالْحَجِّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ رجل) لم يدر اسْمه، وَفِي
رِوَايَة أَحْمد: عَن هشيم عَن يُونُس بن عبيد عَن زِيَاد
بن جُبَير: (رَأَيْت رجلا جَاءَ إِلَى ابْن عمر) ، فَذكره،
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن إِسْمَاعِيل عَن يُونُس
بِسَنَدِهِ: (سَأَلَ رجل ابْن عمر، وَهُوَ يمشي بمنى) .
قَوْله: (قَالَ: أَظُنهُ) أَي: قَالَ الرجل الجائي:
أَظُنهُ قَالَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ، فَهَذَا يدل على أَن
الْقَضِيَّة لَيست للرجل الجائي، لِأَنَّهُ قَالَ:
(فَقَالَ رجل: نذرت) ، وَرِوَايَة مُسلم الَّتِي
ذَكرنَاهَا الْآن تدل على أَن الْقَضِيَّة للرجل الجائي
حَيْثُ قَالَ زِيَاد بن جُبَير: (كنت مَعَ ابْن عمر
فَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: نذرت أَن أَصوم) الحَدِيث،
وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن يزِيد بن
زُرَيْع، وَقد مضى الْآن. قَوْله: (فَوَافَقَ ذَلِك) أَي:
وَافق نَذره بِصَوْم يَوْم عيد. قَوْله: (فَقَالَ ابْن
عمر) إِلَى آخِره: حَاصله أَن ابْن عمر توقف عَن الْجَزْم
بجوابه، لتعارض الْأَدِلَّة عِنْده، وَيحْتَمل أَنه عرض
للسَّائِل: بِأَن الِاحْتِيَاط لَك الْقَضَاء، فتجمع بَين
أَمر الله وَهُوَ قَوْله: {فليوفوا نذورهم} (الْحَج: 92) .
وَبَين أَمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ
أمره بترك صَوْم يومي الْعِيد، وَقَالَ الْخطابِيّ: قد
تورع ابْن عمر عَن قطع الْفتيا فِيهِ. انْتهى. وَقيل: إِذا
تلاقى الْأَمر وَالنَّهْي فِي مَحل قدم النَّهْي. وَقيل:
يحْتَمل أَن يكون ابْن عمر أَرَادَ أَن كلاًّ من
الدَّلِيلَيْنِ يعْمل بِهِ، فيصوم يَوْمًا مَكَان يَوْم
النّذر، وَيتْرك صَوْم يَوْم الْعِيد. وَقيل: إِن ابْن عمر
نبه على أَن الْوَفَاء بِالنذرِ عَام، وَالْمَنْع من صَوْم
يَوْم الْعِيد خَاص، فَكَأَنَّهُ أفهمهُ أَنه يقْضِي
بالخاص على الْعَام، ورد عَلَيْهِ بِأَن النَّهْي عَن
صَوْم يَوْم الْعِيد فِيهِ أَيْضا عُمُوم للمخاطبين،
وَلكُل عيد، فَلَا يكون من حمل الْخَاص على الْعَام.
5991 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ
قَالَ سَمِعْتُ قَزَعَةَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا سَعِيدٍ
الخُدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وكانَ غَزَا مَعَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
غَزْوَةً قَالَ سَمِعْتُ أرْبَعا مِنَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فأعْجَبْنَنِي قَالَ لَا تُسَافِرِ
المَرأةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إلاَّ ومَعَهَا زَوْجُهَا
أوْ ذُو مَحْرَمٍ ولاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ
والأضْحَى ولاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ ولاَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ ولاَ
تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلَى ثَلاَثَةِ مَساجِدَ
مَسْجِدِ الحَرَامِ ومَسْجِدِ الأقْصَى ومَسْجِدي هَذا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا صَوْم فِي
يَوْمَيْنِ الْفطر والأضحى) وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قد
مضى فِي أَوَاخِر الصَّلَاة فِي: بَاب مَسْجِد بَيت
الْمُقَدّس، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد
عَن شعبه عَن عبد الْملك عَن قزعة مولى زِيَاد، قَالَ:
سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ ... إِلَى آخِره. وَقَوله:
(وَكَانَ غزا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثِنْتَيْ عشرَة غَزْوَة) ، لَيْسَ هُنَاكَ. وَبعد قَوْله:
(فأعجبنني وآنقني) هُنَاكَ، وَالْبَاقِي سَوَاء، وَقد
بسطنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
وقزعة، بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة:
هُوَ ابْن يحيى، وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على أَحْكَام،
وَالْغَرَض من إِيرَاده هُنَا حكم الصَّوْم. وَقَالَ
بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ على جَوَاز صِيَام أَيَّام
التَّشْرِيق للإقتصار فِيهِ على ذكر يومي الْفطر والنحر
خَاصَّة! قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَال،
لِأَن الأَصْل جَوَاز الصَّوْم فِي الْأَيَّام كلهَا،
وَلَكِن جَاءَ النَّهْي عَن صَوْم يومي الْفطر والأضحى
وَصَوْم أَيَّام التَّشْرِيق أَيْضا على مَا يَجِيء
بَيَانه مَعَ الْخلاف فِيهِ.
(11/112)
86 - (بابُ صِيامِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق،
وَلم يذكر الحكم لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، واكتفاء
مِمَّا فِي الحَدِيث. وَأَيَّام التَّشْرِيق يُقَال لَهَا:
الْأَيَّام المعدودات، وَأَيَّام منى، وَهِي: الْحَادِي
عشر وَالثَّانِي عشر وَالثَّالِث عشر من ذِي الْحجَّة،
وَسميت أَيَّام التَّشْرِيق لِأَن لُحُوم الْأَضَاحِي تشرق
فِيهَا، أَي: تنشر فِي الشَّمْس، وإضافتها إِلَى منى لِأَن
الْحَاج فِيهَا فِي منى. وَقيل: لِأَن الْهَدْي لَا ينْحَر
حَتَّى تشرق الشَّمْس، وَقيل: لِأَن صَلَاة الْعِيد عِنْد
شروق الشَّمْس أول يَوْم مِنْهَا، فَصَارَت هَذِه
الْأَيَّام تبعا ليَوْم النَّحْر، وَهَذَا يعضد قَول من
يَقُول: يَوْم النَّحْر مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:
التَّشْرِيق التَّكْبِير دبر الصَّلَاة وَاخْتلفُوا فِي
تعْيين أَيَّام التَّشْرِيق وَالأَصَح أَنَّهَا ثَلَاثَة
أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر. وَقَالَ بَعضهم: بل أَيَّام
النَّحْر، وَعند أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد: لَا يدْخل
فِيهَا الْيَوْم الثَّالِث بعد يَوْم النَّحْر.
وَاخْتلفُوا فِي صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق على أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه لَا يجوز صيامها مُطلقًا وَلَيْسَت قَابِلَة
للصَّوْم، وَلَا للمتمتع الَّذِي لم يجد الْهَدْي وَلَا
لغيره، وَبِه قَالَ عَليّ بن أبي طَالب وَالْحسن وَعَطَاء،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَعَلِيهِ
الْعَمَل وَالْفَتْوَى عِنْد أَصْحَابه، وَهُوَ قَول
اللَّيْث بن سعد وَابْن علية وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه،
قَالُوا: إِذا نذر صيامها وَجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا.
وَالثَّانِي: أَنه يجوز الصّيام فِيهَا مُطلقًا، وَبِه
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي من الشَّافِعِيَّة،
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) عَن بعض أهل
الْعلم، وَحكى ابْن الْمُنْذر وَغَيره عَن الزبير بن
الْعَوام وَأبي طَلْحَة من الصَّحَابَة الْجَوَاز مُطلقًا.
وَالثَّالِث: أَنه يجوز للمتمتع الَّذِي لم يجد الْهَدْي
وَلم يصم الثَّلَاث فِي أَيَّام الْعشْر، وَهُوَ قَول
عَائِشَة وَعبد الله بن عمر وَعُرْوَة بن الزبير وَبِه
قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَقَالَ
الْمُزنِيّ: إِنَّه رَجَعَ عَنهُ. وَالرَّابِع: جَوَاز
صيامها للمتمتع، وَعَن النّذر: إِن نذر صيامها إِن قدر
صِيَام أَيَّام قبلهَا مُتَّصِلَة بهَا، وَهُوَ قَول لبَعض
أَصْحَاب مَالك. وَالْخَامِس: التَّفْرِقَة بَين
الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلين مِنْهَا وَالْيَوْم الْأَخير،
فَلَا يجوز صَوْم الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلين إلاَّ للمتمتع
الْمَذْكُور، وَيجوز صَوْم الْيَوْم الثَّالِث لَهُ،
وللنذر، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَة: إِن صَامَ قبله صياما
مُتَتَابِعًا، ثمَّ مرض وَصَحَّ فِيهِ، وَهِي رِوَايَة
ابْن الْقَاسِم عَن مَالك. وَالسَّادِس: جَوَاز صِيَام
الْيَوْم الآخر من أَيَّام التَّشْرِيق مُطلقًا، حَكَاهُ
ابْن الْعَرَبِيّ عَن عُلَمَائهمْ، فَقَالَ: قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: صَوْم يَوْم الْفطر وَيَوْم النَّحْر حرَام،
وَصَوْم الْيَوْم الرَّابِع لَا نهي فِيهِ. وَالسَّابِع:
أَنه يجوز صيامها للمتمتع بِشَرْطِهِ، وَفِي كَفَّارَة
الظِّهَار حَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَن مَالك قولا لَهُ.
وَالثَّامِن: جَوَاز صيامها عَن كَفَّارَة الْيَمين،
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: توقف فِيهِ مَالك. وَالتَّاسِع:
أَنه يجوز صيامها للنذر فَقَط، وَلَا يجوز للمتمتع وَلَا
غَيره، حَكَاهُ الخراسانيون عَن أبي حنيفَة، وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ: لَا يُسَاوِي سَمَاعه. قلت: لم يَصح هَذَا
عَن أبي حنيفَة، وَلَا يُسَاوِي سَماع هَذَا النَّقْل.
6991 - قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بنُ
المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيى عنْ هِشامٍ قَالَ أخبرَنِي أبِي
قَالَ كانَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
تَصُومُ أيَّامَ مِنًى وكانَ أبُوهَا يَصُومُهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِبْهَام
الَّذِي فِيهَا، وَهُوَ مَوْقُوف على عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ لم يُصَرح
فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ لكَونه مَوْقُوفا على عَائِشَة قلت:
إِنَّمَا ترك التحديث لِأَنَّهُ أَخذه عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى مذاكرة، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من عَادَته،
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن
عُرْوَة بن الزبير. قَوْله: (أَيَّام منى) ، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (أَيَّام التَّشْرِيق بمنى) .
قَوْله: (وَكَانَ أَبوهَا) ، أَي: أَبُو عَائِشَة، وَهُوَ
أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (يصومها)
أَي: أَيَّام التَّشْرِيق، هَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة.
وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: (وَكَانَ أَبوهُ) ، أَي: أَبُو
هِشَام، وَهُوَ عُرْوَة، كَانَ يَصُوم أَيَّام
التَّشْرِيق، وَالْقَائِل لهَذَا الْكَلَام أَعنِي:
وَكَانَ أَبوهُ هُوَ يحيى الْقطَّان، وَفِي رِوَايَة
كَرِيمَة الْقَائِل هُوَ عُرْوَة.
8991 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا
غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ
عِيسَى عنِ
(11/113)
الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ
وعنْ سَالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ
قالاَ لَمْ يُرَخَّصْ فِي أيَّامِ التَّشْرِيقِ أنْ
يَصُمْنَ إلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِطْلَاق
الَّذِي فِيهَا، وَكَانَ إِطْلَاقهَا لأجل الِاخْتِلَاف
فِي صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق، فأوضح الْخلاف الَّذِي
يتَضَمَّن هَذَا الْإِطْلَاق بأثر عَائِشَة وبأثرها أَيْضا
وَأثر ابْن عمر أَن الْجَوَاز لمن لم يجد الْهَدْي لَا
مُطلقًا. فَإِن قلت: أثر عَائِشَة الْمَذْكُورَة أَولا
مُطلق، وَالثَّانِي مُقَيّد، فَمَا وَجه ذَلِك؟ قلت: يجوز
أَن تكون عَائِشَة عدت أَيَّام التَّشْرِيق من أَيَّام
الْحَج، وخفي عَلَيْهَا مَا كَانَ من نهي النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصّيام فِي هَذِه الْأَيَّام،
الَّذِي يدل على أَنَّهَا لَا تدخل فِيمَا أَبَاحَ الله،
عز وَجل، صَوْمه من ذَلِك. فَإِن قلت: كَيفَ يخفي
عَلَيْهَا هَذَا الْمِقْدَار مَعَ مكانتها فِي الْعلم
وقربها من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت:
هَذَا مِنْهَا احتهاد، والمجتهد قد يخفى عَلَيْهِ مَا لَا
يخفى على غَيره.
ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: غنْدر
هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر. الثَّالِث: شُعْبَة بن
الْحجَّاج. الرَّابِع: عبد الله بن عِيسَى بن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَهُوَ ابْن أخي مُحَمَّد بن أبي
ليلى الْفَقِيه الْمَشْهُور، وَكَانَ عبد الله أسن من عَمه
مُحَمَّد، وَكَانَ يُقَال: إِنَّه أفضل من عَمه.
الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. السَّادِس:
عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّابِع: عَائِشَة أم
الْمُؤمنِينَ. الثَّامِن: سَالم بن عبد الله بن عمر.
التَّاسِع: أَبوهُ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن عبد الله بن عِيسَى
لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَآخر
فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، من رِوَايَته عَن جده عبد الرَّحْمَن عَن
كَعْب ابْن عجْرَة. وَفِيه: شُعْبَة: سَمِعت عبد الله بن
عِيسَى عَن الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ
من طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل: عَن شُعْبَة عَن عبد الله
بن عِيسَى سَمِعت الزُّهْرِيّ. وَفِيه: وَعَن سَالم هُوَ
من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن سَالم فَهُوَ مَوْصُول.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَا) أَي: عَائِشَة وَعبد الله
بن عمر. قَوْله: (لم يرخص) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة
الْمَجْهُول، كَذَا رَوَاهُ الْحفاظ من أَصْحَاب شُعْبَة.
وَقَوله: (يصمن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول للْجمع
الْمُؤَنَّث أَي: يصام فِيهِنَّ، فَحذف الْجَار، وأوصل
الْفِعْل إِلَى الضَّمِير. وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي
رِوَايَة يحيى بن سَلام عَن شُعْبَة عِنْد
الدَّارَقُطْنِيّ والطَّحَاوِي: (رخص رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم للمتمتع إِذا لم يجد الْهَدْي أَن يَصُوم
أَيَّام التَّشْرِيق) . قلت: هَذَا لفظ الدَّارَقُطْنِيّ،
وَلَفظ الطَّحَاوِيّ، لَيْسَ كَذَلِك، قَالَ: حَدثنَا
مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عبد الحكم، قَالَ: حَدثنَا يحيى
بن سَلام، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن ابْن أبي ليلى عَن
الزُّهْرِيّ (عَن سَالم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي الْمُتَمَتّع: إِذا لم يجد
الْهَدْي وَلم يصم فِي الْعشْر، أَنه يَصُوم أَيَّام
التَّشْرِيق) . وَذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا فِي معرض
الِاحْتِجَاج لمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، فَإِنَّهُم
قَالُوا: للمتمتع، إِذا لم يصم فِي أَيَّام الْعشْر لعدم
الْهَدْي، يجوز لَهُ أَن يَصُوم فِي أَيَّام التَّشْرِيق،
وَكَذَا الْقَارِن والمحصر، ثمَّ احْتج لأبي حنيفَة
وَأَصْحَابه بِحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: (خرج مُنَادِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِي أَيَّام التَّشْرِيق، فَقَالَ: إِن هَذِه
الْأَيَّام أَيَّام أكل وَشرب) . وَأخرجه بِإِسْنَاد حسن.
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد والدارمي
وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ بأطول مِنْهُ. وَفِيه:
(إِن هَذِه الْأَيَّام أَيَّام أكل وَشرب) . وَأخرج أَيْضا
من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن سعد بن أبي وَقاص
عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: (أَمرنِي رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن أنادي أَيَّام منى: إِنَّهَا
أَيَّام أكل وَشرب، فَلَا صَوْم فِيهَا) . يَعْنِي أَيَّام
التَّشْرِيق، وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْند) ، وَأخرجه
أَيْضا من حَدِيث عَطاء (عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَّام التَّشْرِيق
أَيَّام أكل وَشرب) . وَأخرج أَيْضا من حَدِيث سعيد بن أبي
كثير: أَن جَعْفَر بن الْمطلب أخبرهُ (أَن عبد الله بن
عَمْرو بن الْعَاصِ دخل على عَمْرو بن الْعَاصِ فَدَعَاهُ
إِلَى الْغَدَاء، فَقَالَ: إِنِّي صَائِم، ثمَّ
الثَّانِيَة فَكَذَلِك، ثمَّ الثَّالِثَة فَكَذَلِك،
فَقَالَا: لَا إلاَّ أَن تكون سمعته من رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَإِنِّي سمعته من رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي: النَّهْي عَن
الصّيام أَيَّام التَّشْرِيق.
وَأخرج أَيْضا من حَدِيث سُلَيْمَان بن يسَار (عَن عبد
الله بن حذافة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره
أَن يُنَادي فِي أَيَّام التَّشْرِيق: إِنَّهَا أَيَّام
أكل وَشرب) . وَإِسْنَاده صَحِيح. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ.
وَأخرج أَيْضا من حَدِيث عمر بن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَن
أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام أكل وَشرب،
وَذكر الله
(11/114)
عز وَجل. وَأخرج أَيْضا من حَدِيث أبي
الْمليح الْهُذلِيّ عَن نُبَيْشَة الْهُذلِيّ عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله. وَأخرجه مُسلم وَأخرج
أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار أَن نَافِع بن جُبَير
أخبرهُ عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ عمر: وَقد سَمَّاهُ نَافِع فَنسيته: أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لرجل من بني
غفار، وَيُقَال لَهُ: بشر بن سحيم: قُم فَأذن فِي النَّاس،
إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب، فِي أَيَّام منى. وَأخرجه
النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه.
وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث يزِيد الرقاشِي (عَن أنس بن
مَالك، قَالَ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق الثَّلَاثَة بعد يَوْم
النَّحْر) . وَأخرجه أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من حَدِيث
يزِيد الرقاشِي (عَن أنس: أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن صَوْم خَمْسَة أَيَّام من السّنة،
يَوْم الْفطر، وَيَوْم النَّحْر، وَأَيَّام التَّشْرِيق) .
وَهَذِه حجَّة قَوِيَّة لِأَصْحَابِنَا فِي حُرْمَة
الصَّوْم فِي الْأَيَّام الْخَمْسَة.
وَأخرج أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن جُبَير (عَن
معمر بن عبد الله الْعَدوي قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أؤذن فِي أَيَّام التَّشْرِيق
بمنى: لَا يصومن أحد فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب) ،
وَأخرجه أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ فِي (مُعْجم
الصَّحَابَة) وَأخرج أَيْضا من حَدِيث سُلَيْمَان بن
يسَار، وَقبيصَة بن ذُؤَيْب يحدثان عَن أم الْفضل،
امْرَأَة عَبَّاس بن عبد الْمطلب، قَالَت: كُنَّا مَعَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بمنى أَيَّام
التَّشْرِيق، فَسمِعت مناديا يَقُول: إِن هَذِه الْأَيَّام
أَيَّام طعم وَشرب، وَذكر لله، قَالَت: فَأرْسلت رَسُولا
من الرجل وَمن أمره، فَجَاءَنِي الرَّسُول فَحَدثني أَنه
رجل يُقَال لَهُ حذافة، يَقُول: أَمرنِي بهَا رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
وَأخرج أَيْضا عمر بن خلدَة الزرقي عَن أمه قَالَت: (بعث
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب
فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق، فَنَادَى فِي النَّاس: لَا
تَصُومُوا فِي هَذِه الْأَيَّام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل
وَشرب وبعال) . وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده) .
وَأخرج أَيْضا من حَدِيث مَسْعُود بن الحكم الزرقي قَالَ:
(حَدَّثتنِي أُمِّي قَالَت: لكَأَنِّي أنظر إِلَى عَليّ بن
أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على بغلة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْضَاء. حِين قَامَ إِلَى
شعب الْأَنْصَار. وَهُوَ يَقُول: يَا معشر الْمُسلمين!
إِنَّهَا لَيست بأيام صَوْم، إِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب
وَذكر لله عز وَجل) . وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا. وَأخرج
أَيْضا من حَدِيث مخرمَة بن بكير عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت
سُلَيْمَان بن يسَار يزْعم أَنه سمع ابْن الحكم الزرقي
يَقُول: حَدثنَا أبي أَنهم كَانُوا مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَمِعُوا رَاكِبًا وَهُوَ يصْرخ:
لَا يصومن أحد، فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب) . وَابْن
الحكم: هُوَ مَسْعُود بن الحكم، وَأَبوهُ الحكم الزرقي
ذكره ابْن الْأَثِير فِي الصحاب. وَأخرج أَيْضا من حَدِيث
يحيى بن سعيد أَنه سمع يُوسُف بن مَسْعُود بن الحكم الزرقي
يَقُول: حَدَّثتنِي جدتي فَذكر نَحوه، وجدته حَبِيبَة بنت
شريق.
وَأخرج أَيْضا من حَدِيث مَسْعُود بن الحكم الْأنْصَارِيّ
عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عبد الله
بن حذافة أَن يركب رَاحِلَته أَيَّام منى فَيَصِيح فِي
النَّاس: (أَلا لاَ يصومن أحد، فَإِنَّهَا أَيَّام أكل
وَشرب، قَالَ: فَلَقَد رَأَيْته على رَاحِلَته يُنَادي
بذلك) . وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد ضَعِيف وَفِي
آخِره: (أَلا إِن هَذِه أَيَّام عيد وَأكل وَشرب، وَذكر،
فَلَا يصومن إلاَّ محصر أَو متمتع لم يجد هَديا، وَلم يصم
فِي أَيَّام الْحَج المتتابعة فليصمهن) ، فَهَذَا
الطَّحَاوِيّ أخرج أَحَادِيث النَّهْي عَن الصَّوْم فِي
أَيَّام التَّشْرِيق عَن سِتَّة عشر نفسا من الصَّحَابَة،
وَهَذَا هُوَ الإِمَام الجهبذ صَاحب الْيَد الطُّولى فِي
هَذَا الْفَنّ.
وَفِي الْبَاب حَدِيث أم عَمْرو بن سليم عِنْد أَحْمد،
وَعقبَة ابْن عَامر عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَحَمْزَة بن
عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَكَعب بن
مَالك عِنْد أَحْمد وَمُسلم، وَعبد الله بن عمر وَعند
النَّسَائِيّ، وَعَمْرو بن الْعَاصِ عِنْد أبي دَاوُد،
وَبُدَيْل بن وَرْقَاء عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَزيد بن
خَالِد عِنْد أبي يعلى الْموصِلِي، وَلَفظه: (أَلا إِن
هَذِه الْأَيَّام أَيَّام أكل وَشرب وَنِكَاح) ، وَجَابِر
عِنْد ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا ثَبت بِهَذِهِ
الْآثَار عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
النَّهْي عَن صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق، وَكَانَ نَهْيه
عَن ذَلِك بمنى، وَالْحجاج مقيمون بهَا، وَفِيهِمْ
المتمتعون والقارنون، وَلم يسْتَثْن مِنْهُم مُتَمَتِّعا
وَلَا قَارنا، دخل المتمتعون والقارنون فِي ذَلِك، ثمَّ
أجَاب عَن حَدِيثهمْ، وَهُوَ حَدِيث عبد الله بن عمرَان،
فِي إِسْنَاده يحيى بن سَلام، أَنه حَدِيث مُنكر لَا
يُثبتهُ أهل الْعلم بالرواية لضعف يحيى بن سَلام، وَابْن
أبي ليلى وَفَسَاد حفظهما، وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا ضعف
يحيى بن سَلام، وَابْن أبي ليلى فِيهِ مقَال، وَكَانَ يحيى
بن سعيد يُضعفهُ، وَعَن أَحْمد: كَانَ سيء الْحِفْظ
مُضْطَرب الحَدِيث، وَعَن أبي حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا
يحْتَج بِهِ فَإِن قلت: ابْن أبي ليلى هُوَ عبد الله بن
عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن
(11/115)
ابْن أبي ليلى، وَهُوَ ثِقَة عِنْد الْكل.
قلت: ذكر الطَّحَاوِيّ ابْن أبي ليلى بِفساد حفظه وَضعه
يدل على أَنه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى،
إِذْ لَو كَانَ هُوَ عبد الله بن عِيسَى لما ذكره هَكَذَا،
على أَنا نقُول: قد قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: عبد الله بن
عِيسَى بن أبي ليلى عِنْدِي مُنكر، وَكَانَ يتشيع،
وَأَيْضًا فَالْحَدِيث الَّذِي فِيهِ عبد الله بن عِيسَى
لَيْسَ بمرفوع، بِخِلَاف الحَدِيث الَّذِي ذكره
الطَّحَاوِيّ وَقد اخْتلفُوا فِي قَول الصَّحَابِيّ:
أمرنَا بِكَذَا ونهينا عَن كَذَا، هَل لَهُ حكم الرّفْع؟
على أَقْوَال: ثَالِثهَا إِن أَضَافَهُ إِلَى عهد النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلهُ حكم الرّفْع، وإلاَّ فَلَا.
وَاخْتلف التَّرْجِيح فِيمَا إِذا لم يضفه ويلتحق بِهِ،
رخص لنا فِي كَذَا، أَو عزم علينا أَن لَا نَفْعل كَذَا.
فَالْكل فِي الحكم سَوَاء، وَقد حصل الْجَواب عَن أثر
عَائِشَة وَابْن عمر عِنْد ذكره عَن عبد الله بن عِيسَى.
9991 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالَ الصِّيامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلَى
الحَجِّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فإنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيا
ولَمْ يَصُمْ صامَ أيَّامَ مِنىً.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (صَامَ أَيَّام
منى) ، لِأَنَّهُ يُوضح إِطْلَاق التَّرْجَمَة كَمَا
ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (الصّيام) أَي:
الصّيام الَّذِي يفعل للمتمتع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج
يَنْتَهِي إِلَى يَوْم عَرَفَة، فَإِن لم يجد هَديا، وَفِي
رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (فَمن لم يجد) ، وَكَذَا هُوَ فِي
(الْمُوَطَّأ) . قَوْله: (صَامَ أَيَّام منى) وَهِي
أَيَّام التَّشْرِيق، فَهَذَا وَالَّذِي قبله من
الْحَدِيثين يدل على جَوَاز الصَّوْم للمتمتع الَّذِي لَا
يجد الْهَدْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَإِلَيْهِ مَال
البُخَارِيّ، وَعَن هَذَا قَالَ بَعضهم: ويترجح الْجَوَاز.
قلت: كَيفَ يتَرَجَّح الْجَوَاز مَعَ رِوَايَة جمَاعَة من
الصَّحَابَة مَا يناهز ثَلَاثِينَ صحابيا النَّهْي عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّوْم فِي
أَيَّام التَّشْرِيق؟ وَمَعَ هَذَا فَالْبُخَارِي مَا روى
فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ ثَلَاثَة من الْآثَار مَوْقُوفَة.
وعَنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ مِثْلَهُ
أَي: وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ
عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة مثله، أَي: مثل مَا
روى ابْن شهَاب عَن سَالم عَن عبد الله بن عمر.
تابَعَهُ إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ
يَعْنِي: تَابع مَالِكًا إِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد
الرَّحْمَن فِي رِوَايَته عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ،
وَوَصله الشَّافِعِي، قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم ابْن سعد
عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة، فِي
الْمُتَمَتّع: إِذا لم يجد هَديا وَلم يصم قبل عَرَفَة
فليصم أَيَّام منى وَعَن سَالم عَن أَبِيه مثله، وَوَصله
الطَّحَاوِيّ من وَجه آخر عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة (عَن
عَائِشَة، وَعَن سَالم عَن أَبِيه: أَنَّهُمَا كَانَ
يرخصان للمتمتع إِذا لم يجد هَديا، وَلم يكن صَامَ قبل
عَرَفَة، أَن يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق) . وَأخرجه ابْن
أبي شيبَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة، وَعَن سَالم عَن ابْن عمر نَحوه، وَالله أعلم.
96 - (بابُ صِيامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَوْم يَوْم عَاشُورَاء،
وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: فِي بَيَان اشتقاق عَاشُورَاء ووزنه: فاشتقاقه من
الْعشْر الَّذِي هُوَ اسْم للعدد الْمعِين، وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: عَاشُورَاء معدول عَن عاشرة للْمُبَالَغَة
والتعظيم، وَهُوَ فِي الأَصْل صفة لليلة الْعَاشِرَة،
لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْعشْر الَّذِي هُوَ اسْم
الْفِعْل، وَالْيَوْم مُضَاف إِلَيْهَا، فَإِذا قيل: يَوْم
عَاشُورَاء فَكَأَنَّهُ قيل: يَوْم اللَّيْلَة
الْعَاشِرَة، إلاَّ أَنهم لما عدلوا بِهِ عَن الصّفة غلبت
عَلَيْهَا الإسمية، فاستغنوا عَن الْمَوْصُوف فحذفوا
اللَّيْلَة، وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الْعشْر بِالْكَسْرِ
فِي أوراد الْإِبِل: تَقول الْعَرَب: وَردت الْإِبِل عشرا
إِذا وَردت الْيَوْم التَّاسِع، وَذَلِكَ لأَنهم يحسبون
فِي الإظماء يَوْم الْورْد، فَإِذا قَامَت فِي الرَّعْي
يَوْمَيْنِ ثمَّ وَردت فِي الثَّالِثَة، قَالُوا: وَردت
ربعا وَإِن رعت ثَلَاثًا، وَفِي الرَّابِع وَردت خمْسا،
لأَنهم حسبوا فِي كل هَذَا بَقِيَّة الْيَوْم الَّذِي
وَردت فِيهِ قبل الرَّعْي، وَأول الْيَوْم الَّذِي ترد
فِيهِ بعده، وعَلى هَذَا القَوْل يكون التَّاسِع
عَاشُورَاء. وَأما وَزنه: ففاعولاء،
(11/116)
قَالَ أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ:
عَاشُورَاء مَمْدُود، وَلم يجىء فاعولاء فِي كَلَام
الْعَرَب إلاَّ عَاشُورَاء، والضاروراء: اسْم الضراء،
والساروراء اسْم للسراء، والدالولاء اسْم للدالة، وخابوراء
اسْم مَوضِع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يَوْم عَاشُورَاء
وعاسوراء ممدودان، وَفِي (تثقيف اللِّسَان) للحميري: عَن
أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: عاشورا بِالْقصرِ، وَرُوِيَ
عَن أبي عمر، قَالَ: ذكر سِيبَوَيْهٍ فِيهِ الْقصر
وَالْمدّ بِالْهَمْز، وَأهل الحَدِيث تَرَكُوهُ على
الْقصر، وَقَالَ الْخَلِيل: بنوه على: فاعولاء، ممدودا
لِأَنَّهَا كلمة عبرانية، وَفِي (الجمهرة) : هُوَ إسم
إسلامي لَا يعرف فِي الْجَاهِلِيَّة، لِأَنَّهُ لَا يعرف
فِي كَلَامهم: فاعولاء، ورد على هَذَا بِأَن الشَّارِع نطق
بِهِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابه. قَالُوا: بِأَن عَاشُورَاء
كَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة، وَلَا يعرف إلاَّ بِهَذَا
الإسم.
النَّوْع الثَّانِي: اخْتلفُوا فِيهِ فِي أَي يَوْم:
فَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الْيَوْم الْعَاشِر، والاشتقاق
يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَمن بعدهمْ، فَمِمَّنْ ذهب
إِلَيْهِ من الصَّحَابَة: عَائِشَة، وَمن التَّابِعين:
سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَمن الْأَئِمَّة:
مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وأصحابهم، وَذهب
ابْن عَبَّاس إِلَى أَن عَاشُورَاء هُوَ الْيَوْم
التَّاسِع، وَفِي (المُصَنّف) : عَن الضَّحَّاك:
عَاشُورَاء الْيَوْم التَّاسِع، وَفِي (الْأَحْكَام)
لِابْنِ بزيزة: اخْتلف الصَّحَابَة فِيهِ: هَل هُوَ
الْيَوْم التَّاسِع أَو الْيَوْم الْعَاشِر أَو الْيَوْم
الْحَادِي عشر؟ وَفِي (تَفْسِير أبي اللَّيْث
السَّمرقَنْدِي) : عَاشُورَاء يَوْم الْحَادِي عشر،
وَكَذَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَاسْتحبَّ قوم صِيَام
الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا، رُوِيَ ذَلِك عَن أبي رَافع صَاحب
أبي هُرَيْرَة وَابْن سِيرِين، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي
وَأحمد وَإِسْحَاق، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه: كَانَ
يَصُوم الْيَوْمَيْنِ خوفًا أَن يفوتهُ، وَكَانَ يَصُومهُ
فِي السّفر، وَفعله ابْن شهَاب. وَصَامَ أَبُو إِسْحَاق
عَاشُورَاء ثَلَاثَة أَيَّام: يَوْمًا قبله وَيَوْما بعده
فِي طَرِيق مَكَّة، وَقَالَ: إِنَّمَا أَصوم قبله وَبعده
كَرَاهِيَة أَن يفوتني، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس
أَيْضا أَنه قَالَ: صُومُوا قبله يَوْمًا وَبعده يَوْمًا،
وخالفوا الْيَهُود. وَفِي (الْمُحِيط) : وَكره إِفْرَاد
يَوْم عَاشُورَاء بِالصَّوْمِ لأجل التَّشَبُّه باليهود،
وَفِي (الْبَدَائِع) : وَكره بَعضهم إِفْرَاده
بِالصَّوْمِ، وَلم يكرههُ عامتهم، لِأَنَّهُ من الْأَيَّام
الفاضلة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي يَوْم
عَاشُورَاء، أَي يَوْم هُوَ؟ حَدثنَا هناد وَأَبُو كريب،
قَالَا: حَدثنَا وَكِيع عَن حَاجِب بن عمر عَن الحكم بن
الْأَعْرَج، قَالَ: انْتَهَيْت إِلَى ابْن عَبَّاس وَهُوَ
مُتَوَسِّد رِدَاءَهُ فِي زَمْزَم، فَقلت: أَخْبرنِي عَن
يَوْم عَاشُورَاء أَي يَوْم أصومه؟ فَقَالَ: إِذا رَأَيْت
هِلَال الْمحرم فأعدد، ثمَّ أصبح من الْيَوْم التَّاسِع
صَائِما. قلت: أهكذا كَانَ يَصُومهُ مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم، حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا
عبد الْوَارِث عَن يُونُس عَن الْحسن عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَوْم
يَوْم عَاشُورَاء الْيَوْم الْعَاشِر. قَالَ أَبُو عِيسَى:
حَدِيث ابْن عَبَّاس حَدِيث حسن صَحِيح. قلت: حَدِيث ابْن
عَبَّاس الأول رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد، وَالثَّانِي
انْفَرد بِهِ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ مُنْقَطع بَين الْحسن
الْبَصْرِيّ وَابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُ لم يسمع مِنْهُ،
وَقَول التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن، لم يُوضح مُرَاده، أَي
حَدِيثي ابْن عَبَّاس أَرَادَ؟ ! وَقد فهم أَصْحَاب
الْأَطْرَاف أَنه أَرَادَ تَصْحِيح حَدِيثه الأول،
فَذكرُوا كَلَامه هَذَا عقيب حَدِيثه الأول، فَتبين أَن
الحَدِيث الثَّانِي مُنْقَطع وشاذ أَيْضا لمُخَالفَته
للْحَدِيث الصَّحِيح الْمُتَقَدّم. فَإِن قلت: هَذَا
الحَدِيث الصَّحِيح يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَن عَاشُورَاء
هُوَ التَّاسِع؟ قلت: أَرَادَ ابْن عَبَّاس من قَوْله:
فَإِذا أَصبَحت من تاسعه فَأصْبح صَائِما، أَي: صم
التَّاسِع مَعَ الْعَاشِر، وَأَرَادَ بقوله: نعم، مَا
رُوِيَ من عزمه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على صَوْم
التَّاسِع من قَوْله: لأصومن التَّاسِع. وَقَالَ القَاضِي:
وَلَعَلَّ ذَلِك على طَرِيق الْجمع مَعَ الْعَاشِر
لِئَلَّا يتشبه باليهود، كَمَا ورد فِي رِوَايَة أُخْرَى:
(فصوموا التَّاسِع والعاشر) ، وَذكر رزين هَذِه
الرِّوَايَة عَن عَطاء عَنهُ، وَقيل: معنى قَول ابْن
عَبَّاس: نعم، أَي نعم يَصُوم التَّاسِع لَو عَاشَ إِلَى
الْعَام الْمقبل. وَقَالَ أَبُو عمر: وَهَذَا دَلِيل على
أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَصُوم الْعَاشِر
إِلَى أَن مَاتَ، وَلم يزل يَصُومهُ حَتَّى قدم
الْمَدِينَة، وَذَلِكَ مَحْفُوظ من حَدِيث ابْن عَبَّاس،
والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس مضطربة.
النَّوْع الثَّالِث: لِمَ سُمِّيَ الْيَوْم الْعَاشِر
عَاشُورَاء؟ اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: لِأَنَّهُ عَاشر
الْمحرم، وَهَذَا ظَاهر، وَقيل: لِأَن الله تَعَالَى أكْرم
فِيهِ عشرَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام بِعشر كرامات. الأول: مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام، فَإِنَّهُ نصر فِيهِ، وفلق الْبَحْر لَهُ، وغرق
فِرْعَوْن وَجُنُوده. الثَّانِي: نوح عَلَيْهِ السَّلَام
اسْتَوَت سفينته على الجودي فِيهِ. الثَّالِث: يُونُس،
عَلَيْهِ السَّلَام،
(11/117)
أنجي فِيهِ من بطن الْحُوت. الرَّابِع:
فِيهِ تَابَ الله على آدم عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَه
عِكْرِمَة. الْخَامِس: يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام،
فَإِنَّهُ أخرج من الْجب فِيهِ. السَّادِس: عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ ولد فِيهِ، وَفِيه رفع.
السَّابِع: دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ تَابَ الله
عَلَيْهِ. الثَّامِن: إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام،
ولد فِيهِ. التَّاسِع: يَعْقُوب، عَلَيْهِ السَّلَام،
فِيهِ رد بَصَره. الْعَاشِر: نَبينَا مُحَمَّد، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا
تَأَخّر.
هَكَذَا ذكرُوا عشرَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: ذكر بَعضهم من الْعشْرَة:
إِدْرِيس، عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ رفع إِلَى مَكَان
فِي السَّمَاء، وَأَيوب، عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ كشف
الله ضره، وَسليمَان؟ عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ أعطي
الْملك.
النَّوْع الرَّابِع: اتّفق الْعلمَاء على أَن صَوْم يَوْم
عَاشُورَاء سنة وَلَيْسَ بِوَاجِب، وَاخْتلفُوا فِي حكمه
أول الْإِسْلَام، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: كَانَ وَاجِبا،
وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي على وَجْهَيْن: أشهرهما:
أَنه لم يزل سنة من حِين شرع وَلم يَك وَاجِبا قطّ فِي
هَذِه الْأمة، وَلكنه كَانَ يتَأَكَّد الِاسْتِحْبَاب،
فَلَمَّا نزل صَوْم رَمَضَان صَار مُسْتَحبا دون ذَلِك
الِاسْتِحْبَاب. وَالثَّانِي: كَانَ وَاجِبا كَقَوْل أبي
حنيفَة، وَقَالَ عِيَاض: كَانَ بعض السّلف يَقُول: كَانَ
فرضا وَهُوَ باقٍ على فرضيته لم ينْسَخ، قَالَ: وانقرض
الْقَائِلُونَ بِهَذَا، وَحصل الْإِجْمَاع على أَنه لَيْسَ
بِفَرْض، إِنَّمَا هُوَ مُسْتَحبّ.
النَّوْع الْخَامِس: فِي فضل صَوْمه، وروى التِّرْمِذِيّ
من حَدِيث أبي قَتَادَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: (صِيَام يَوْم عَاشُورَاء إِنِّي أحتسب على
الله أَن يكفر السّنة الَّتِي قبله) ، وَرَوَاهُ مُسلم
وَابْن مَاجَه أَيْضا وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن
أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ: (يَوْم عَاشُورَاء تصومه
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فصوموه
أَنْتُم) . وَفِي (كتاب الصّيام) للْقَاضِي يُوسُف، قَالَ
ابْن عَبَّاس: (لَيْسَ ليَوْم فضل على يَوْم فِي الصّيام
إلاَّ شهر رَمَضَان أَو يَوْم عَاشُورَاء) . وروى
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (سَأَلَ رجل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
أَي شَيْء تَأْمُرنِي أَن أَصوم بعد رَمَضَان؟ قَالَ: صم
الْمحرم، فَإِنَّهُ شهر الله، وَفِيه يَوْم تَابَ فِيهِ
على قوم وَيَتُوب فِيهِ على قوم آخَرين) . وَقَالَ: حسن
غَرِيب، وَعند النقاش فِي (كتاب عَاشُورَاء) : (من صَامَ
عَاشُورَاء فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر كُله وَقَامَ
ليله) . وَفِي لفظ: (من صَامَهُ يحْتَسب لَهُ بِأَلف سنة
من سني الْآخِرَة) .
النَّوْع السَّادِس: مَا ورد فِي صَلَاة لَيْلَة
عَاشُورَاء وَيَوْم عَاشُورَاء، وَفِي فضل الْكحل يَوْم
عَاشُورَاء لَا يَصح، وَمن ذَلِك حَدِيث جُوَيْبِر عَن
الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: (من اكتحل بالإثمد
يَوْم عَاشُورَاء لم يرمد أبدا) ، وَهُوَ حَدِيث مَوْضُوع،
وَضَعفه قتلة الْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: والاكتحال يَوْم عَاشُورَاء لم
يروَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ أثر،
وَهُوَ بِدعَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَمن أغرب مَا
رُوِيَ فِيهِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ فِي الصرد: إِنَّه أول طَائِر صَامَ عَاشُورَاء،
وَهَذَا من قلَّة الْفَهم، فَإِن الطَّائِر لَا يُوصف
بِالصَّوْمِ. قَالَ الْحَاكِم: وَضَعفه قتلة الْحُسَيْن،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: إِطْلَاق الصَّوْم للطائر
لَيْسَ بِوَجْه الصَّوْم الشَّرْعِيّ حَتَّى ينْسب قَائِله
إِلَى قلَّة الْفَهم، وَإِنَّمَا غَرَضه أَن الطَّائِر
أَيْضا يمسك عَن الْأكل يَوْم عَاشُورَاء تَعْظِيمًا لَهُ،
وَذَلِكَ بإلهام من الله تَعَالَى، فَيدل ذَلِك على فَضله
بِهَذَا الْوَجْه.
0002 - حدَّثنا أبُو عاصِمٍ عنْ عُمَرَ بنِ مُحَمَّدٍ عنُ
سالِمٍ عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عاشُورَاءَ إنْ
شاءَ صَامَ. (انْظُر الحَدِيث وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح الْإِبْهَام
الَّذِي فِيهَا، ثمَّ أَنه أورد فِيهِ أَحَادِيث وَقدم
مِنْهَا مَا هُوَ دالٌّ على عدم وجوب صَوْم عَاشُورَاء،
ثمَّ ذكر مَا يدل على التَّرْغِيب فِي صِيَامه.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل
الضَّحَّاك ابْن مخلد. الثَّانِي: عمر بن مُحَمَّد بن زيد
بن عبد الله بن عمر. الثَّالِث: سَالم بن عبد الله بن عمر.
الرَّابِع: عبد الله ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع،
وَفِي رِوَايَة
(11/118)
مُسلم عَن أبي عَاصِم شيخ البُخَارِيّ
فَصرحَ فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيع إِسْنَاده.
وَفِيه: رِوَايَة عمر عَن عَم أَبِيه سَالم بن عبد الله
ابْن عمر. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية مدنيون.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن أَحْمد بن عُثْمَان
النَّوْفَلِي عَن أبي عَاصِم شيخ البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن شَاءَ صَامَ) ، كَذَا وَقع
فِي جَمِيع النّسخ من البُخَارِيّ مُخْتَصرا، وَعند ابْن
خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) عَن أبي مُوسَى عَن أبي عَاصِم
بِلَفْظ: (إِن الْيَوْم يَوْم عَاشُورَاء، فَمن شَاءَ
فليصمه وَمن شَاءَ فليفطره) ، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ
قَالَ: (يَوْم عَاشُورَاء من شَاءَ صَامَهُ وَمن شَاءَ
أفطره) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ذكر عِنْد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاشُورَاء فَقَالَ: كَانَ يَوْم
يَصُومهُ أهل الْجَاهِلِيَّة، فَمن شَاءَ صَامَهُ وَمن
شَاءَ تَركه) . وروى الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ:
حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن عمر
وَاللَّيْث بن سعد عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أحب مِنْكُم أَن
يَصُوم يَوْم عَاشُورَاء فليصمه، وَمن لم يحب فليدعه) .
وَأخرجه الدَّارمِيّ فِي (سنَنه) : أخبرنَا يعلى عَن
مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا يَوْم
عَاشُورَاء، كَانَت قُرَيْش تصومه فِي الْجَاهِلِيَّة فَمن
أحب مِنْكُم أَن يَصُومهُ فليصمه، وَمن أحب مِنْكُم أَن
يتْركهُ فليتركه) . وَكَانَ ابْن عمر لَا يَصُوم إلاَّ أَن
يُوَافق صِيَامه، وَهَذَا كُله يدل على الِاخْتِيَار فِي
صَوْمه.
فَإِن قلت: قد مضى فِي أول كتاب الصَّوْم من حَدِيث ابْن
عمر قَالَ: (صَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَاشُورَاء وَأمر بصيامه فَلَمَّا فرض رَمَضَان تَركه) ،
وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ وَاجِبا، وَقد رُوِيَ فِي
ذَلِك أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ من حَدِيث حبيب بن هِنْد بن أَسمَاء عَن
أَبِيه قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى قومِي من أسلم، فَقَالَ: قل لَهُم فليصوموا
يَوْم عَاشُورَاء، فَمن وجدت مِنْهُم قد أكل فِي صدر
يَوْمه فليصم آخِره) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي
(مُسْنده) وَهَذَا أَيْضا يدل على أَن صَوْم عَاشُورَاء
كَانَ وَاجِبا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ
أَيْضا: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة، قَالَ: حَدثنَا روح،
قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن
بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ هُوَ الْمنْهَال عَن عَمه قَالَ:
(غدونا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبِيحَة
يَوْم عَاشُورَاء، وَقد تغدينا، فَقَالَ: أصمتم هَذَا
الْيَوْم فَقُلْنَا: قد تغدينا. فَقَالَ: أَتموا بَقِيَّة
يومكم) . وَقد اسْتدلَّ بِهِ من كَانَ يَقُول: إنَّ صَوْم
يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمرهم بإتمام بَقِيَّة يومهم ذَلِك بعد أَن تغدوا
فِي أول يومهم، فَهَذَا لم يكن إلاَّ فِي الْوَاجِب.
وَأجِيب: عَن هَذَا بِوُجُوه: الأول: قَالَه
الْبَيْهَقِيّ: بِأَن هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، لِأَن عبد
الرَّحْمَن فِيهِ مَجْهُول ومختلف فِي اسْم أَبِيه، وَلَا
يدْرِي من عَمه، ورد عَلَيْهِ بِأَن النَّسَائِيّ أخرجه من
حَدِيث عبد الرَّحْمَن هَذَا عَن عَمه (أَن أسلم أَتَت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أصمتم يومكم
هَذَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم
واقضوا) . وَعبد الرَّحْمَن بن سَلمَة وَيُقَال: ابْن
مسلمة الْخُزَاعِيّ، وَيُقَال: ابْن منهال بن مسلمة
الْخُزَاعِيّ ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وروى لَهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد،
وَعَمه صَحَابِيّ لم يذكر اسْمه، وجهالة الصَّحَابِيّ لَا
تضر صِحَة الحَدِيث. الْوَجْه الثَّانِي: مَا قيل بِأَن
هَذَا كَانَ حكما خَاصّا بعاشوراء، ورخصة لَيست لسواه،
وَزِيَادَة فِي فَضله وتأكيد صَوْمه، وَذهب إِلَى ذَلِك
ابْن حبيب الْمَالِكِي. الْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه
الْخطابِيّ: كَانَ ذَلِك على معنى الِاسْتِحْبَاب والإرشاد
لأوقات الْفضل، لِئَلَّا يغْفل عَنهُ عِنْد مصادفة وقته،
ورد هَذَا أَيْضا بِأَن الظَّاهِر أَن هَذَا كَانَ لأجل
فَرضِيَّة صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي
رِوَايَة أبي دَاوُد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَالنَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: (فَأتمُّوا
بَقِيَّة يومكم واقضوه) . فَهَذَا صَرِيح فِي دلَالَته على
الْفَرْضِيَّة، لِأَن الْقَضَاء لَا يكون إلاَّ فِي
الْوَاجِبَات.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد فِي (زياداته
على الْمسند) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَصُوم
عَاشُورَاء وَيَأْمُر بصيامه، وَرَوَاهُ الْبَزَّار
أَيْضا. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث
مُحَمَّد بن صَيْفِي، قَالَ: (قَالَ لنا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَاشُورَاء: مِنْكُم أحد طعم
الْيَوْم؟ قُلْنَا: منا من طعم وَمنا من لم يطعم. قَالَ:
أَتموا بَقِيَّة يومكم، من كَانَ طعم وَمن لم يطعم،
فأرسلوا إِلَى أهل الْعرُوض فليتموا بَقِيَّة يومهم) .
قَالَ: يَعْنِي بِأَهْل الْعرُوض حول الْمَدِينَة.
وَمِنْهَا: حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع، على مَا يَجِيء.
وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس على مَا يَجِيء.
وَمِنْهَا: حَدِيث الرّبيع بنت معوذ على مَا يَجِيء.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن الزبير. قَالَ،
وَهُوَ على الْمِنْبَر: (هَذَا يَوْم عَاشُورَاء فصوموه،
فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بصومه) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث عَائِشَة
بِلَفْظ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر
بصيام عَاشُورَاء يَوْم الْعَاشِر) ، وَرِجَاله رجال
(11/119)
الصَّحِيح. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط أَن أَبَا مُوسَى قَالَ
يَوْم عَاشُورَاء: (صُومُوا هَذَا الْيَوْم فَإِن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرنَا بصومه. وَمِنْهَا: مَا
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من
رِوَايَة سعيد بن الْمسيب أَنه سمع مُعَاوِيَة على
الْمِنْبَر يَوْم عَاشُورَاء يَقُول: (سَمِعت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بصيام هَذَا الْيَوْم) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَائِما
يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ لأَصْحَابه: (من كَانَ أصبح
صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن أكل من غداء أَهله فليتم
بَقِيَّة يَوْمه) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا
وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِيَوْم عَاشُورَاء أَن نصومه) . وَمِنْهَا: مَا
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث
أبي سعيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر يَوْم
عَاشُورَاء فَعظم مِنْهُ، قُم قَالَ لمن حوله: (من كَانَ
لم يطعم مِنْكُم فليصم يَوْمه هَذَا، وَمن كَانَ قد طعم
مِنْكُم فليصم بَقِيَّة يَوْمه) ، وَرِجَاله ثِقَات.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث
عبَادَة بن الصَّامِت بِلَفْظ: (بعث رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَسمَاء بن عبد الله يَوْم عَاشُورَاء،
فَقَالَ: إئت قَوْمك، فَمن أدْركْت مِنْهُم لم يَأْكُل
فليصم، وَمن طعم فليصم) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث خباب بن الأرتَّ: (أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم
عَاشُورَاء: أَيهَا النَّاس {من كَانَ مِنْكُم أكل فَلَا
يَأْكُل بَقِيَّة يَوْمه، وَمن نوى مِنْكُم الصَّوْم
فليصمه) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا
من حَدِيث معبد الْقرشِي أَنه قَالَ لرجل أَتَاهُ بِقديد:
(أطعمت الْيَوْم شَيْئا؟ قَالَ: إِنِّي شربت مَاء} قَالَ:
فَلَا تطعم شَيْئا حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَأمر من
وَرَاءَك أَن يَصُومُوا هَذَا الْيَوْم) ، وَرِجَاله
ثِقَات. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مجزأَة بن زَاهِر عَن أَبِيه
بِلَفْظ: (سَمِعت مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَوْم عَاشُورَاء وَهُوَ يَقُول: من كَانَ صَائِما
الْيَوْم فليتم صَوْمه، وَمن لم يكن صَائِما فليتم مَا
بَقِي، وليصم) وَرِجَال الْبَزَّار ثِقَات. وَمِنْهَا: مَا
رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث
عبد الله بن بدر من رِوَايَة ابْنه بعجة: أَن أَبَاهُ
أخبرهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لَهُم يَوْمًا: (هَذَا يَوْم عَاشُورَاء فصوموه) الحَدِيث.
وَمِنْهَا: حَدِيث رزينة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى.
قلت: روى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، قَالَ: كَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا بِصَوْم
يَوْم عَاشُورَاء، ويحثنا عَلَيْهِ ويتعاهدنا عِنْده،
فَلَمَّا فرض رَمَضَان لم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا عَنهُ،
وَلم يتعاهدنا عِنْده، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث قيس
بن سعد، قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بصيام عَاشُورَاء، فَلَمَّا نزل رَمَضَان لم يَأْمُرنَا
وَلم ينهنا، وَنحن نفعله. وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث عبد
الرَّحْمَن بن يزِيد قَالَ: دخل الْأَشْعَث بن قيس على عبد
الله وَهُوَ يتغدى، فَقَالَ: يَا با مُحَمَّد ادن إِلَى
الْغَدَاء! فَقَالَ: أوليس الْيَوْم يَوْم عَاشُورَاء؟
قَالَ: وَهل تَدْرِي مَا يَوْم عَاشُورَاء؟ قَالَ: وَمَا
هُوَ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ يَوْم كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُومهُ قبل أَن ينزل شهر رَمَضَان،
فَلَمَّا نزل رَمَضَان ترك. وَقَالَ أَبُو كريب: تَركه.
فَفِي هَذِه الْآثَار نسخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء،
وَدَلِيل أَن صَوْمه قد رد إِلَى التَّطَوُّع بعد أَن
كَانَ فرضا. وَاخْتلف أهل الْأُصُول أَن مَا كَانَ فرضا
إِذا نسخ هَل تبقى الْإِبَاحَة أم لَا؟ وَهِي مَسْأَلَة
مَشْهُورَة بَينهم، وَسَيَأْتِي أَن حَدِيث عَائِشَة
وَمُعَاوِيَة يدلان على مَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث
الْمَذْكُورَة.
1002 - حدَّثنا أَبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ
أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِصِيامِ يَوْمِ
عاشُورَاءَ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضانُ كانَ مَنْ شاءَ صامَ
ومنْ شاءَ أفطَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق،
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد ذكر غير مرّة، وَأَبُو
الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن أبي
حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأخرجه
النَّسَائِيّ أَيْضا بِهَذَا الْإِسْنَاد، فَهَذَا أَيْضا
يدل على انتساخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَفرض
رَمَضَان كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة.
2002 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ يَوْمُ عاشُورَاءَ تَصُومُهُ
قُرَيْشٌ فِي الجاهِلِيَّةِ وكانَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
(11/120)
يصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ المَدينَةَ
صامَهُ وأمَرَ بِصِيامِهِ فَلَمَّا فرِضَ رَمضانُ تَرَكَ
يَوْمَ عاشُورَاءَ فَمَنْ شاءَ صامَهُ ومَنْ شاءَ
تَرَكَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي مضى
فِي أول الْبَاب، وَهُوَ طَرِيق آخر عَن عَائِشَة. قَوْله:
(تصومه قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة) ، يَعْنِي: قبل
الْإِسْلَام. قَوْله: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَصُومهُ) ، يَعْنِي: قبل الْهِجْرَة،
وَقَالَ بَعضهم: إِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يصومونه،
وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَصُومهُ
فِي الْجَاهِلِيَّة، أَي: قبل أَن يُهَاجر إِلَى
الْمَدِينَة. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام غير موجه لِأَن
الْجَاهِلِيَّة إِنَّمَا هِيَ قبل الْبعْثَة، فَكيف
يَقُول: وَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يَصُومهُ فِي الْجَاهِلِيَّة؟ ثمَّ يفسره بقوله: أَي (قبل
الْهِجْرَة) وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَقَامَ
نَبيا فِي مَكَّة ثَلَاثَة عشرَة سنة؟ فَكيف يُقَال:
صَوْمه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَوْله: (فَلَمَّا قدم
الْمَدِينَة) ، وَكَانَ قدومه فِي ربيع الأول. قَوْله:
(صَامَهُ) أَي: صَامَ يَوْم عَاشُورَاء على عَادَته.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد
البُخَارِيّ، وَهَذَا أَيْضا يدل على النّسخ.
ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ
شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهُ
سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بنَ أبِي سُفْيانَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا يَوْمَ عاشُوراءَ عامَ حَجَّ عَلَى المِنْبَرِ
يقُولُ يَا أهْلَ المَدِينَةِ أيْنَ عُلَماؤكُمْ سَمِعْتُ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ هَذَا يَوْمُ
عاشُوراءَ ولَمْ يُكْتَبُ عَلَيُكمَ صِيامهُ وَأَنا
صَائِمٌ فَمَنْ شاءَ فَلْيَصُمْ ومنْ شاءَ فلْيُفْطِرْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة مَا قبله، وَحميد بن
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن حَرْمَلَة وَعَن
أبي الطَّاهِر وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن
مَنْصُور وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي.
قَوْله: (عَام حج) قَالَ الطَّبَرِيّ: أَي أول حجَّة
حَجهَا مُعَاوِيَة بعد أَن اسْتخْلف، كَانَت فِي أَربع
وَأَرْبَعين، وَآخر حجَّة حَجهَا سنة سبع وَخمسين. وَقَالَ
بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر أَن المُرَاد بهَا فِي هَذَا
الحَدِيث الْحجَّة الْأَخِيرَة. قلت: يحْتَمل هَذِه
الْحجَّة وَيحْتَمل تِلْكَ الْحجَّة، وَلَا دَلِيل على
الظُّهُور أَن حجَّته الَّتِي قَالَ فِيهَا مَا قَالَ
كَانَت هِيَ الْأَخِيرَة. قَوْله: (على الْمِنْبَر)
يتَعَلَّق بقوله: (سمع) ، أَي: سَمعه حَال كَونه على
الْمِنْبَر بِالْمَدِينَةِ، وَصرح يُونُس فِي رِوَايَته
بِالْمَدِينَةِ، وَلَفظه: يُونُس عَن ابْن شهَاب قَالَ:
(أَخْبرنِي حميد بن عبد الرَّحْمَن أَنه سمع مُعَاوِيَة بن
أبي سُفْيَان خَطِيبًا بِالْمَدِينَةِ) يَعْنِي: فِي قدمة
قدمهَا خطبهم يَوْم عَاشُورَاء ... الحَدِيث، رَوَاهُ
مُسلم عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب عَن يُونُس. قَوْله:
(أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟) قا النَّوَوِيّ الظَّاهِر إِنَّمَا
قَالَ هَذَا لما سمع من يُوجِبهُ أَو يحرمه أَو يكرههُ،
فَأَرَادَ إعلامهم بِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِب وَلَا محرم
وَلَا مَكْرُوه. وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يُرِيد
استدعاء موافقتهم، أَو بلغه أَنهم يرَوْنَ صِيَامه فرضا
أَو نفلا أَو للتبليغ. قَوْله: (لم يكْتب) ، أَي: لم يكْتب
الله تَعَالَى عَلَيْكُم صِيَامه، وَهَذَا كُله من كَلَام
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا بَينه
النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته. قَوْله: (وَأَنا صَائِم) ،
فِيهِ دَلِيل على فضل صَوْم يَوْم عَاشُورَاء لِأَنَّهُ لم
يَخُصُّهُ بقوله: (وَأَنا صَائِم) إلاَّ لفضل فِيهِ، وَفِي
رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة.
4002 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدثنَا عَبدُ
الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الله
ابنُ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قدِمَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ فرَأى الْيَهُودَ تَصُومُ
يَوْمَ عاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا قالُوا هَذَا يَوْمٌ
صالِحٌ هَذا يَوْمُ نَجَّى الله بَنِي إسْرَائيلَ مِنْ
عَدُوهم فصَامَهُ مُوسَى قَالَ فأنَا أحَقُّ بِمُوسَى
مِنْكُمْ فَصامَهُ وأمَرَ بِصِيامِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا فِي مُطلق
الصَّوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَهُوَ يتَنَاوَل كل صَوْم
بِيَوْم عَاشُورَاء على أَي وصف كَانَ من الْوُجُوب
والاستحباب وَالْكَرَاهَة، وَظَاهر حَدِيث ابْن عَبَّاس
يدل على الْوُجُوب لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صَامَ وَأمر بصيامه، وَلَكِن
(11/121)
نسخ الْوُجُوب وَبَقِي الِاسْتِحْبَاب
كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، بعد أَن روى هَذَا
الحَدِيث إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِنَّمَا صَامَهُ شكرا لله تَعَالَى فِي إِظْهَار مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَام، على فِرْعَوْن، فَذَلِك على
الِاخْتِيَار لَا على الْفَرْض. انْتهى. قلت: وَفِيه بحث،
لِأَن لقَائِل أَن يَقُول: لَا نسلم أَن ذَلِك على
الِاخْتِيَار دون الْفَرْض، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمر بصومه، وَالْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن
يدل على الْوُجُوب، وَكَونه صَامَهُ شكرا لَا يُنَافِي
كَونه للْوُجُوب كَمَا فِي سَجْدَة (ص) ، فَإِن أَصْلهَا
للشكر مَعَ أَنَّهَا وَاجِبَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد. الثَّانِي:
عبد الْوَارِث بن سعيد. الثَّالِث: أَيُّوب
السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: عبد الله بن سعيد بن جُبَير.
الْخَامِس: سعيد بن جُبَير. السَّادِس: عبد الله بن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن الروَاة الثَّلَاثَة الأول بصريون وَالثَّلَاثَة
الْأُخَر كوفيون. وَفِيه: أَن عبد الْوَارِث رَاوِي أبي
معمر شيخ البُخَارِيّ. وَفِيه: أَيُّوب عَن عبد الله بن
سعيد، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من وَجه آخر: عَن
سعيد بن جُبَير، وَالْمَحْفُوظ أَنه عَن أَيُّوب
بِوَاسِطَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان، وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
زِيَاد بن أَيُّوب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان وَعَن أسماعيل بن
يَعْقُوب. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن سهل بن أبي سهل عَن
سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَرَأى الْيَهُود تَصُوم) ، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (فَوجدَ الْيَهُود يَصُومُونَ) ، وَفِي
لفظ لَهُ: (فَوجدَ الْيَهُود صياما. قَوْله: (فَقَالَ: مَا
هَذَا؟) وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي تَفْسِير طه:
(فَسَأَلَهُمْ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فسئلوا عَن
ذَلِك، فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْم الَّذِي أظهر الله فِيهِ
مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل على فِرْعَوْن وَنحن نصومه) .
قَوْله: (فصَام) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
تَعْظِيمًا لَهُ. وَفِي لفظ لَهُ: (قَالُوا: هَذَا يَوْم
عَظِيم أنجى الله تَعَالَى فِيهِ مُوسَى وَقَومه وغرق
فِرْعَوْن وَقَومه، فصامه مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، شكرا، فَنحْن نصومه) . قَوْله: (فصامه) أَي:
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه
صَامَهُ ابْتِدَاء، لِأَنَّهُ قد علم فِي حَدِيث آخر أَنه
كَانَ يَصُومهُ قبل قدومه الْمَدِينَة، فعلى هَذَا
مَعْنَاهُ أَنه ثَبت على صِيَامه وداوم على مَا كَانَ
عَلَيْهِ. قيل: يحْتَمل أَنه كَانَ يَصُومهُ بِمَكَّة ثمَّ
ترك صَوْمه، ثمَّ لما علم مَا عِنْد أهل الْكتاب فِيهِ
صَامَهُ. فَإِن قيل: ظَاهر أَن الْخَبَر يَقْتَضِي أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم الْمَدِينَة وجد
الْيَهُود صياما يَوْم عَاشُورَاء، وَالْحَال أَنه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قدم الْمَدِينَة فِي ربيع الأول.
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد أول علمه بذلك، وسؤاله عَنهُ بعد
أَن قدم الْمَدِينَة لَا قبل أَن يقدمهَا علم ذَلِك،
وَقيل: فِي الْكَلَام حذف تَقْدِيره: قدم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَأَقَامَ إِلَى يَوْم
عَاشُورَاء، فَوجدَ الْيَهُود فِيهِ صياما. وَقيل: يحْتَمل
أَن يكون أُولَئِكَ الْيَهُود كَانُوا يحسبون يَوْم
عَاشُورَاء بِحِسَاب السنين الشمسية، فصادف يَوْم
عَاشُورَاء بحسابهم الْيَوْم الَّذِي قدم فِيهِ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، الْمَدِينَة. وَفِيه نظر لَا يخفى.
قَوْله: (وَأمر بصيامه) ، وللبخاري فِي تَفْسِير يُونُس من
طَرِيق أبي بشر: (فَقَالَ لأَصْحَابه: أَنْتُم أَحَق
بمُوسَى مِنْهُم فصوموه.
فَإِن قلت: خبر الْيَهُود غير مَقْبُول، فَكيف عمل، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بخبرهم؟ قلت: لَا يلْزم أَن يكون
عمله فِي ذَلِك اعْتِمَادًا على خبرهم، لاحْتِمَال أَن
الْوَحْي نزل حِينَئِذٍ على وفْق مَا حكوا من قصَّة هَذَا
الْيَوْم. وَقيل: إِنَّمَا صَامَهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقيل:
إِنَّه أخبرهُ من أسلم مِنْهُم، كَعبد الله بن سَلام،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَو كَانَ المخبرون من
الْيَهُود عدد التَّوَاتُر، وَلَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر
الْإِسْلَام، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ القَاضِي
عِيَاض: قد ثَبت أَن قُريْشًا كَانَت تصومه، وَأَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَصُومهُ،
فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة صَامَهُ فَلم يحدث لَهُ صَوْم
الْيَهُود حكما يحْتَاج إِلَى التَّكَلُّم عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا هِيَ صفة حَال وَجَوَاب سُؤال، فَدلَّ أَن
قَوْله فِي الحَدِيث: (فصامه) لَيْسَ ابْتِدَاء صَوْمه
بذلك حِينَئِذٍ، وَلَو كَانَ هَذَا لوَجَبَ أَن يُقَال:
صحّح هَذَا مِمَّن أسلم من عُلَمَائهمْ وَوَثَّقَهُ مِمَّن
هذاه من أَحْبَارهم كَابْن سَلام وَبني سعيد وَغَيرهم.
5002 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
أبُو أُسامَةَ عنْ أبِي عُمَيْسٍ عنْ قيْس بنُ مُسْلِمٍ
عنْ طارِقِ بنِ شِهابٍ عنْ أبِي موسَى رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ كانَ يَوْمُ عاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ
عِيدا قَالَ
(11/122)
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصُومُوهُ
أنْتُمْ. (الحَدِيث 5002 طرفه فِي: 2493) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصوموه أَنْتُم) ،
فَإِنَّهُ من جملَة مَا يدْخل تَحت إِطْلَاق التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: أَبُو
أُسَامَة، واسْمه: حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ.
الثَّالِث: أَبُو عُمَيْس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين
مُهْملَة: واسْمه عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن عبد الله بن
عتبَة بن عبد الله بن مَسْعُود الْهُذلِيّ المَسْعُودِيّ.
الرَّابِع: قيس بن مُسلم الجدلي العدواني أَبُو عَمْرو.
الْخَامِس: طَارق بن شهَاب بن عبد شمس البَجلِيّ الأحمسي
أَبُو عبد الله الصَّحَابِيّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رأى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمع مِنْهُ
شَيْئا. السَّادِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه:
عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ:
التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية
كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي: بَاب إتْيَان الْيَهُود النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، عَن أَحْمد أَو مُحَمَّد بن عبد الله
الغداني، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة وَابْن نمير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
حُسَيْن بن حُرَيْث عَن أبي أُسَامَة عَن أبي عُمَيْس
بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تعده الْيَهُود عيدا) وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا تعظمه
الْيَهُود وتتخذه عيدا) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ:
(كَانَ أهل خَيْبَر يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء يتخذونه
عيدا، وَيلبسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حليهم وشارتهم) . قلت:
شارتهم، بالشين الْمُعْجَمَة وَبعد الْألف رَاء وَهُوَ
بِالنّصب عطف على قَوْله: (حليهم) ، وَهُوَ مَنْصُوب
بقوله: (يلبسُونَ) ، من الإلباس، قَالَ ابْن الْأَثِير:
أَي لباسهم الْحسن الْجَمِيل، وَقَالَ بَعضهم: شارتهم
بالشين الْمُعْجَمَة أَي: هيئتهم الْحَسَنَة. قلت: هَذَا
التَّفْسِير هُنَا بِهَذِهِ الْعبارَة خطأ فَاحش،
وَالتَّفْسِير الصَّحِيح مَا قَالَه ابْن الْأَثِير،
وَهُوَ أَن الشارة هُوَ اللبَاس الْحسن الْجَمِيل،
وَالتَّفْسِير الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل تَفْسِير
الشورة بِالضَّمِّ لِأَن الشورة هِيَ الْجمال والهيئة
الْحَسَنَة، وَهنا الشارة وَقع مَفْعُولا لقَوْله:
(يلبسُونَ) ، من الإلباس، وَهُوَ يَقْتَضِي الملبس،
والملبس لَا يكون الْهَيْئَة، وَإِنَّمَا يكون اللبَاس،
فَمن لَهُ أدنى تَمْيِيز يدْرِي هَذَا. قيل: مَا وَجه
التَّوْفِيق بَين قَوْله: (عيدا) وَبَين مَا تقدم أَن
الْيَهُود تَصُوم يَوْم عَاشُورَاء، وَيَوْم الْعِيد يَوْم
الْإِفْطَار؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدهم
إِيَّاه عيدا كَونه عيدا، وَلَا من كَونه عيدا الْإِفْطَار
لاحْتِمَال أَن صَوْم يَوْم يَوْم الْعِيد جَائِز عِنْدهم،
أَو هَؤُلَاءِ الْيَهُود غير يهود الْمَدِينَة، فَوَافَقَ
الْمَدَنِيين حَيْثُ عرف أَنه الْحق، وَخَالف غَيرهم
لخلافه.
6002 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنِ ابنِ
عُيَيْنَةَ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبي يَزِيدَ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ مَا رَأيْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَحَرى صِيَامَ يَوْمٍ
فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرهِ إلاَّ هذَا الْيَوْمَ يَوْمَ
عاشُورَاءَ وهَذَا الشَّهْرَ يعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدْخل تَحت
إِطْلَاق التَّرْجَمَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَابْن
عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن أبي
يزِيد من الزِّيَادَة، مر فِي الْوضُوء.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو
النَّاقِد، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن
رَافع عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة عَن سُفْيَان.
قَوْله: (يتحَرَّى) ، من التَّحَرِّي وَهُوَ: الْمُبَالغَة
فِي طلب الشَّيْء. قَوْله: (فَضله) ، جملَة فِي مَحل
الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة يَوْم. قَوْله: (وَهَذَا الشَّهْر)
، عطف على: هَذَا الْيَوْم، قيل: كَيفَ صَحَّ هَذَا
الْعَطف وَلم يدْخل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ يقدر فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ: وَصِيَام شهر
فَضله على غَيره، وَهُوَ من اللف التقديري، أَو يعْتَبر
فِي الشَّهْر أَيَّامه يَوْمًا فيوما مَوْصُوفا بِهَذَا
الْوَصْف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: سَبَب تخصيصهما
أَن رَمَضَان فَرِيضَة، وعاشوراء كَانَ أَولا فَرِيضَة.
وَقَالَ: ورد أَن أفضل الْأَيَّام يَوْم عَرَفَة،
والمستفاد من الحَدِيث أَن أفضل الْأَيَّام عَاشُورَاء.
قَالَ: فَمَا التلفيق بَينهمَا؟ فَأجَاب: بِأَن عَاشُورَاء
أفضل من جِهَة الصَّوْم فِيهِ، وعرفة أفضل من جِهَة
أُخْرَى. قَالَ: وَلَو جعل الْهَاء فِي فَضله رَاجعا إِلَى
الصّيام لَكَانَ سُقُوط السُّؤَال ظَاهرا. قلت: فِيهِ نظر
لَا يخفى، وَقيل: إِنَّمَا جمع ابْن عَبَّاس
(11/123)
بَين عَاشُورَاء ورمضان، وَإِن كَانَ أَحدهمَا وَاجِبا
وَالْآخر مَنْدُوبًا لاشْتِرَاكهمَا فِي حُصُول الثَّوَاب،
لِأَن معنى: (يتحَرَّى) أَي: يقْصد صَوْمه لتَحْصِيل
ثَوَابه، وَالرَّغْبَة فِيهِ. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى،
لِأَن الِاشْتِرَاك فِي الثَّوَاب غير مَقْصُور
عَلَيْهِمَا. فَافْهَم.
7002 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ حدَّثنا
يَزِيدُ عنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ أمرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلاٍ
مِنْ أسْلَمَ أنْ أذِّنْ فِي النَّاسِ أنَّ منْ كانَ أكَلَ
فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ومَنْ لَمْ يَكُنْ أكَلَ
فَلْيَصُمْ فإنَّ الْيَوْمَ يَوْمَ عاشُورَاءَ. (انْظُر
الحَدِيث 4291 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق،
وكل مِنْهُمَا فِي التَّرْغِيب فِي صِيَام عَاشُورَاء،
وَقد مضى الحَدِيث فِي أثْنَاء الصَّوْم فِي: بَاب إِذا
نوى بِالنَّهَارِ صوما. وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ، وَيزِيد هُوَ ابْن أبي عبيد، وَهُوَ السَّادِس من
ثلاثيات البُخَارِيّ، وَهُنَاكَ أَيْضا أخرجه عَن ثَلَاثَة
أنفس عَن أبي عَاصِم عَن يزِيد عَن سَلمَة. قَوْله: (من
كَانَ أكل فليصم) ، أَي: فليمسك، لِأَن الصَّوْم
الْحَقِيقِيّ هُوَ الْإِمْسَاك من أول النَّهَار إِلَى
آخِره، وَالله أعلم. |