عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 13 - (كِتَابُ التَّرَاوِيحِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي باين صَلَاة التَّرَاوِيح، كَذَا وَقع
هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفِي رِوَايَة
غَيره لم يُوجد هَذَا، والتراويح جمع ترويحة، وَيجمع
أَيْضا على ترويحات، والترويحة فِي الأَصْل اسْم للجلسة،
وَسميت بالترويحة لاستراحة النَّاس بعد أَربع رَكْعَات
بالجلسة، ثمَّ سميت كل أَربع رَكْعَات ترويحة مجَازًا لما
فِي آخرهَا من الترويحة، وَيُقَال: الترويحة اسْم لكل
أَربع رَكْعَات، وَأَنَّهَا فِي الأَصْل إِيصَال
الرَّاحَة، وَهِي الجلسة. وَفِي (الْمغرب) : روحت
بِالنَّاسِ، أَي: صليت بهم التَّرَاوِيح.
1 - (بابُ فَضْلِ مَنْ قامَ رَمَضَانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من قَامَ رَمَضَان. قَالَ
الْكرْمَانِي: اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بقيامه صَلَاة
التَّرَاوِيح. قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِقِيَام
رَمَضَان صَلَاة التَّرَاوِيح، وَلَكِن الِاتِّفَاق من
أَيْن أَخذه؟ بل المُرَاد من قيام اللَّيْل مَا يحصل بِهِ
مُطلق الْقيام، سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا.
8002 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ
عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرنِي أبُو
سَلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ سمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ
لِرَمَضَانَ مَنْ قامَهُ إيمَانا واحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ
مَا تقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَعقيل: بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب
مُحَمَّد بن مُسلم، وَأَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن.
والْحَدِيث مر فِي: بَاب تطوع قيام رَمَضَان من
الْإِيمَان، فِي أَوَائِل كتاب الْإِيمَان، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن ابْن شهَاب
عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من قَامَ رَمَضَان
إِيمَانًا) الحَدِيث.
قَوْله: (عَن ابْن شهَاب) ، وَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم
عِنْد النَّسَائِيّ عَن مَالك: (حَدثنِي ابْن شهَاب) .
قَوْله: (أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة) ، كَذَا رَوَاهُ عقيل،
وَتَابعه يُونُس وَشُعَيْب وَابْن أبي ذِئْب وَمعمر
وَغَيرهم، وَخَالفهُ مَالك، فَقَالَ: عَن ابْن شهَاب عَن
حميد بن عبد الرَّحْمَن، بدل أبي سَلمَة. وَقد صَحَّ
الطريقان عِنْد البُخَارِيّ، فأخرجهما على الْوَلَاء. وَقد
أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق جوَيْرِية بن أَسمَاء عَن
مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَذكر
الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَصحح
الطَّرِيقَيْنِ، وَحكى أَن أَبَا همام رَوَاهُ عَن ابْن
عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، فَخَالف الْجَمَاعَة، فَقَالَ:
عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (يَقُول
لرمضان) أَي: لفضل رَمَضَان أَو لأجل رَمَضَان. قَالَ
بَعضهم يحْتَمل أَن تكون: اللَّام، بِمَعْنى: عَن، أَي:
يَقُول عَن رَمَضَان. قلت: هَذَا يبعد، وَإِن كَانَت:
اللَّام، تَأتي بِمَعْنى: عَن.
(11/124)
نَحْو: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين
آمنُوا} (مَرْيَم: 37، العنكبوت: 21، يس: 74،) . وَجه
الْبعد أَن لفظا من مَادَّة القَوْل إِذا اسْتعْمل
بِكَلِمَة: عَن، يكون بِمَعْنى النَّقْل، وَهَذَا بعيد
جدا، بل غير موجه، وَيجوز أَن تكون اللَّام، هُنَا
بِمَعْنى: فِي، أَي: يَقُول فِي رَمَضَان، أَي: فِي فَضله
وَنَحْو ذَلِك، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة}
(الْأَنْبِيَاء: 74) . أَي: فِي يَوْم الْقِيَامَة، وَيجوز
أَن يكون أَيْضا بِمَعْنى: عِنْد، أَي: تَصْدِيقًا
بِأَنَّهُ حق، أَي: مُعْتَقدًا فضيلته، قَالَه
النَّوَوِيّ. قَوْله: (واحتسابا) أَي: طلبا للآخرة.
وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي نِيَّة وعزيمة وانتصابهما على
الْحَال، أَي: مُؤمنا ومحتسبا. قَوْله: (غفر لَهُ مَا تقدم
من ذَنبه) ، ظَاهره يتَنَاوَل كل ذَنْب من الْكَبَائِر
والصغائر، وَبِه قطع ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ النَّوَوِيّ:
الْمَعْرُوف أَنه يخْتَص بالصغائر، وَبِه قطع إِمَام
الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: هُوَ مَذْهَب أهل
السّنة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، من رِوَايَة
قُتَيْبَة عَن سُفْيَان: (وَمَا تَأَخّر) ، وَكَذَا
زَادهَا حَامِد بن يحيى عِنْد قَاسم بن أصبغ، وَالْحُسَيْن
بن الْحسن الْمروزِي فِي كتاب الصّيام لَهُ، وَهِشَام ابْن
عمار فِي الْجُزْء الثَّانِي عشر من (فَوَائده) ويوسف بن
يَعْقُوب النجاحي فِي (فَوَائده) : كلهم عَن ابْن
عُيَيْنَة، ووردت هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا من طَرِيق أبي
سَلمَة من وَجه آخر أخرجه أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن
سَلمَة عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد
وَردت هَذِه الزِّيَادَة أَعني لفظ:: (وَمَا تَأَخّر) فِي
عدَّة أَحَادِيث فَإِن قلت: الْمَغْفِرَة تستدعي سبق شَيْء
من ذَنْب، والمتأخر من الذُّنُوب لم يَأْتِ فَكيف يغْفر؟
قلت: هَذَا كِنَايَة عَن حفظ الله إيَّاهُم من
الْكَبَائِر، فَلَا يَقع مِنْهُم كَبِيرَة بعد ذَلِك،
وَقيل: مَعْنَاهُ أَن ذنوبهم تقع مغفورة.
9002 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ قامَ
رَمَضانِ إِيمَانًا واحْتِسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ ابنُ شِهابٍ فتُوُفِّيَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والأمْرُ عَلَى ذلِكَ ثُمَّ كانَ
الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ وصَدْرا
مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما. .
هَذَا مضى فِي كتاب الْإِيمَان، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) ، أَي: مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ. قَوْله: (وَالْأَمر على ذَلِك) ، جملَة
حَالية وَالْمعْنَى: اسْتمرّ الْأَمر فِي هَذِه الْمدَّة
الْمَذْكُورَة على أَن كل أحد يقوم رَمَضَان فِي أَي وَجه
كَانَ جمعهم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(وَالْأَمر على ذَلِك) رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة غَيره: (وَالنَّاس على ذَلِك) ، يَعْنِي: على ترك
الْجَمَاعَة فِي التَّرَاوِيح. فَإِن قلت: روى ابْن وهب
عَن أبي هُرَيْرَة: (خرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَإِذا النَّاس فِي رَمَضَان يصلونَ فِي نَاحيَة
الْمَسْجِد، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقيل: نَاس يُصَلِّي بهم
أبي بن كَعْب. فَقَالَ: أَصَابُوا، ونِعْمَ مَا صَنَعُوا)
ذكره ابْن عبد الْبر. قلت: فِيهِ مُسلم بن خَالِد، وَهُوَ
ضَعِيف، وَالْمَحْفُوظ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، هُوَ الَّذِي جمع النَّاس على أبي بن كَعْب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
وعنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ
عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ القَارِيِّ أنَّهُ قَالَ
خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ لَيْلَةً فِي رمَضَانَ إلَى المَسْجِدِ فإذَا
النَّاسُ أوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ
لِنَفْسِهِ ويُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ
الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي أرَى لَوْ جَمَعْتُ
هؤلاَءِ عَلَى قاريءٍ واحِدٍ لكَانَ أمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ
فَجَمَعَهُمْ عَلى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ
مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ
قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ
والَّتِي يَنامُونَ أفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ
يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وكانَ النَّاسُ يَقُومُونَ
أوَّلَهُ.
(11/125)
قَوْله: (عَن ابْن شهَاب) عطف على قَوْله:
(قَالَ ابْن شهَاب) ، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور. قَوْله: (عَن عبد الرَّحْمَن ابْن عبد
الْقَارِي) بتَشْديد الْيَاء: نِسْبَة إِلَى القارة بن ديش
محلم بن غَالب الْمدنِي، وَكَانَ عَامل عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على بَيت الْمُسلمين، مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ سنة ثَمَانِينَ وَله ثَمَان وَسَبْعُونَ
سنة. قَالَ ابْن معِين: هُوَ ثِقَة، وَقيل: إِن لَهُ
صُحْبَة. قَوْله: (فَإِذا النَّاس) كلمة: إِذا، للمفاجأة،
قَوْله: (أوزاع) ، بِسُكُون الْوَاو بعْدهَا زَاي. قَالَ
ابْن الْأَثِير: أَي متفرقون، أَرَادَ أَنهم كَانُوا
يتنفلون فِي الْمَسْجِد بعد صَلَاة الْعشَاء مُتَفَرّقين.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أوزاع من النَّاس، أَي: جماعات.
قَالَ الْخطابِيّ: لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا قلت: فعلى
قَوْله: متفرقون، فِي الحَدِيث يكون صفة: لأوزاع، أَي:
جماعات متفرقون، وعَلى قَول ابْن الْأَثِير يكون: متفرقون،
تَأْكِيدًا لفظيا. قَوْله: (يُصَلِّي الرجل) ، يجوز أَن
يكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس أَو للْعهد. قَوْله:
(الرَّهْط) مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة،
وَيُقَال إِلَى الْأَرْبَعين. قَوْله: (إِنِّي أرى) ،
هَذَا من اجْتِهَاد عمر، واستنباطه من إِقْرَار الشَّارِع
النَّاس يصلونَ خَلفه لَيْلَتَيْنِ، وقاس ذَلِك على جمع
النَّاس على وَاحِد فِي الْفَرْض، وَلما فِي اخْتِلَاف
الْأَئِمَّة من افْتِرَاق الْكَلِمَة، وَلِأَنَّهُ أنشط
لكثير من النَّاس على الصَّلَاة. قَوْله: (لَكَانَ أمثل) ،
أَي: أفضل. وَقيل: أسَدُّ. قَوْله: (فَجَمعهُمْ على أبي بن
كَعْب) ، أَي: جعله لَهُم إِمَامًا يُصَلِّي بهم
التَّرَاوِيح، وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
اخْتَارَهُ عملا بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يؤمهم
أقرؤهم لكتاب الله) . وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق
عُرْوَة: (أَن عمر جمع النَّاس على أبي بن كَعْب، فَكَانَ
يُصَلِّي بِالرِّجَالِ، وَكَانَ تَمِيم الدَّارِيّ
يُصَلِّي بِالنسَاء) . وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر فِي
كتاب: قيام اللَّيْل لَهُ من هَذَا الْوَجْه، فَقَالَ:
سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة بدل: تَمِيم الدَّارِيّ،
وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ فِي وَقْتَيْنِ. قَوْله: (ثمَّ خرجت
مَعَه) أَي: مَعَ عمر لَيْلَة أُخْرَى، وَفِيه إِشْعَار
بِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ لَا يواظب
الصَّلَاة مَعَهم، وَكَأَنَّهُ يرى أَن الصَّلَاة فِي
بَيته أفضل، وَلَا سِيمَا فِي آخر اللَّيْل، وَعَن هَذَا
قَالَ الطَّحَاوِيّ: التَّرَاوِيح فِي الْبَيْت أفضل.
قَوْله: (نعم الْبِدْعَة) ، ويروى: (نعمت الْبِدْعَة) ،
بِزِيَادَة التَّاء، وَيُقَال: نعم، كلمة تجمع المحاسن
كلهَا، وَبئسَ، كلمة تجمع المساوىء كلهَا، وَإِنَّمَا
دَعَاهَا بِدعَة لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لم يسنها لَهُم، وَلَا كَانَت فِي زمن أبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَرغب رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِيهَا بقوله: نعم، ليدل على فَضلهَا،
وَلِئَلَّا يمْنَع هَذَا اللقب من فعلهَا. والبدعة فِي
الأَصْل أَحْدَاث أَمر لم يكن فِي زمن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ الْبِدْعَة على نَوْعَيْنِ: إِن
كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستحسن فِي الشَّرْع فَهِيَ
بِدعَة حَسَنَة، وَإِن كَانَت مِمَّا ينْدَرج تَحت مستقبح
فِي الشَّرْع فَهِيَ بِدعَة مستقبحة. قَوْله: (وَالَّتِي
ينامون عَنْهَا) أَي: الْفرْقَة الَّتِي ينامون عَن صَلَاة
التَّرَاوِيح أفضل من الْفرْقَة الَّتِي يقومُونَ. يُرِيد
آخر اللَّيْل. وَفِيه تَصْرِيح أَن الصَّلَاة فِي آخر
اللَّيْل أفضل من أَوله، وَلم يَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة
عدد الرَّكْعَات الَّتِي كَانَ يُصَلِّي بهَا أبي بن
كَعْب.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْعدَد الْمُسْتَحبّ فِي قيام
رَمَضَان على أَقْوَال كَثِيرَة، فَقيل: إِحْدَى
وَأَرْبَعُونَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رأى بَعضهم أَن
يُصَلِّي إِحْدَى وَأَرْبَعين رَكْعَة مَعَ الْوتر، وَهُوَ
قَول أهل الْمَدِينَة، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْدهم
بِالْمَدِينَةِ. قَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: وَهُوَ أَكثر
مَا قيل فِيهِ. قلت: ذكر ابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) :
عَن الْأسود بن يزِيد كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعِينَ رَكْعَة،
ويوتر بِسبع، هَكَذَا ذكره، وَلم يقل: إِن الْوتر من
الْأَرْبَعين. وَقيل: ثَمَان وَثَلَاثُونَ، رَوَاهُ
مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق ابْن أَيمن عَن مَالك. قَالَ:
يسْتَحبّ أَن يقوم النَّاس فِي رَمَضَان بثمان
وَثَلَاثِينَ رَكْعَة، ثمَّ يسلم الإِمَام وَالنَّاس، ثمَّ
يُوتر بهم بِوَاحِدَة. قَالَ: وَهَذَا الْعَمَل
بِالْمَدِينَةِ قبل الْحرَّة مُنْذُ بضع وَمِائَة سنة
إِلَى الْيَوْم، هَذَا روى ابْن أَيمن عَن مَالك،
وَكَأَنَّهُ جمع رَكْعَتَيْنِ من الْوتر مَعَ قيام
رَمَضَان وسماها من قيام رَمَضَان، وإلاَّ فَالْمَشْهُور
عَن مَالك سِتّ وَثَلَاثُونَ وَالْوتر بِثَلَاث، وَالْعدَد
وَاحِد. وَقيل: سِتّ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ الَّذِي
عَلَيْهِ عمل أهل الْمَدِينَة، وروى ابْن وهب، قَالَ:
سَمِعت عبد الله بن عمر يحدث عَن نَافِع، قَالَ: لم أدْرك
النَّاس إلاَّ وهم يصلونَ تسعا وَثَلَاثِينَ رَكْعَة
ويوترون مِنْهَا بِثَلَاث وَقيل: أَربع وَثَلَاثُونَ على
مَا حُكيَ عَن زُرَارَة بن أوفى أَنه كَذَلِك كَانَ
يُصَلِّي بهم فِي الْعشْر الْأَخير، وَقيل: ثَمَان
وَعِشْرُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن زُرَارَة بن أوفى فِي
الْعشْرين الْأَوَّلين من الشَّهْر، وَكَانَ سعيد بن
جُبَير يَفْعَله فِي الْعشْر الْأَخير. وَقيل: أَربع
وَعِشْرُونَ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن سعيد بن جُبَير. وَقيل:
عشرُون، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن أَكثر أهل الْعلم،
فَإِنَّهُ روى عَن عمر وَعلي وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة،
وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة.
أما أثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَرَوَاهُ
(11/126)
مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) بِإِسْنَاد
مُنْقَطع فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق فِي (المُصَنّف)
عَن دَاوُد بن قيس وَغَيره عَن مُحَمَّد بن يُوسُف (عَن
السَّائِب بن يزِيد: أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، جمع النَّاس فِي رَمَضَان على أبي بن
كَعْب، وعَلى تَمِيم الدَّارِيّ على إِحْدَى وَعشْرين
رَكْعَة يقومُونَ بالمئين وينصرفون فِي بزوغ الْفجْر، قلت:
قَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ مَحْمُول على أَن الْوَاحِدَة
للوتر. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وروى الْحَارِث بن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ذُبَاب عَن السَّائِب بن يزِيد، قَالَ:
كَانَ الْقيام على عهد عمر بِثَلَاث وَعشْرين رَكْعَة.
قَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا مَحْمُول على أَن الثَّلَاث
للوتر. وَقَالَ شَيخنَا: وَمَا حمله عَلَيْهِ فِي
الْحَدِيثين صَحِيح، بِدَلِيل مَا روى مُحَمَّد بن نصر من
رِوَايَة يزِيد بن خصيفَة عَن السَّائِب بن يزِيد أَنهم
كَانُوا يقومُونَ فِي رَمَضَان بِعشْرين رَكْعَة فِي زمَان
عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأما أثر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره
وَكِيع عَن حسن بن صَالح عَن عَمْرو بن قيس عَن أبي
الْحَسْنَاء عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه
أَمر رجلا يُصَلِّي بهم رَمَضَان عشْرين رَكْعَة.
وَأما غَيرهمَا من الصَّحَابَة فَروِيَ ذَلِك عَن عبد الله
بن مَسْعُود، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي قَالَ:
أخبرنَا يحيى بن يحيى أخبرنَا حَفْص بن غياث عَن
الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب، قَالَ: (كَانَ عبد الله بن
مَسْعُود يُصَلِّي لنا فِي شهر رَمَضَان) فَيَنْصَرِف
وَعَلِيهِ ليل، قَالَ الْأَعْمَش: كَانَ يُصَلِّي عشْرين
رَكْعَة ويوتر بِثَلَاث) .
وَأما الْقَائِلُونَ بِهِ من التَّابِعين: فشتير بن شكل،
وَابْن أبي مليكَة والْحَارث الْهَمدَانِي وَعَطَاء بن أبي
رَبَاح، وَأَبُو البحتري وَسَعِيد بن أبي الْحسن
الْبَصْرِيّ أَخُو الْحسن وَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر
وَعمْرَان الْعَبْدي. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهُوَ قَول
جُمْهُور الْعلمَاء، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ
وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَهُوَ الصَّحِيح عَن
أبي بن كَعْب من غير خلاف من الصَّحَابَة. وَقيل: سِتّ
عشرَة، فَهُوَ مَرْوِيّ عَن أَب مجلز أَنه كَانَ يُصَلِّي
بهم أَربع ترويحات، وَيقْرَأ لَهُم سبع الْقُرْآن فِي كل
لَيْلَة، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نصر من رِوَايَة عمرَان بن
حدير عَن أبي مجلز.
وَقيل ثَلَاث عشرَة، وَاخْتَارَهُ مُحَمَّد بن إِسْحَاق،
روى مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق بن إِسْحَاق، قَالَ:
حَدثنِي مُحَمَّد بن يُوسُف بن عبد الله بن يزِيد ابْن
أُخْت نمر عَن جده السَّائِب بن يزِيد، قَالَ: (كُنَّا
نصلي فِي زمَان عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فِي رَمَضَان ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، وَلَكِن وَالله
مَا كُنَّا نخرج إلاَّ فِي وجاه الصُّبْح، كَانَ القارىء
يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِخَمْسِينَ آيَة وَسِتِّينَ آيَة)
. قَالَ ابْن إِسْحَاق: مَا سَمِعت فِي ذَلِك حَدِيثا هُوَ
أثبت عِنْدِي وَلَا أَحْرَى بِأَن يكون من حَدِيث
السَّائِب، وَذَلِكَ أَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَت من اللَّيْل ثَلَاث عشرَة رَكْعَة.
وَقَالَ شَيخنَا: لَعَلَّ هَذَا كَانَ من فعل عمر أَولا،
ثمَّ نقلهم إِلَى ثَلَاث وَعشْرين.
وَقيل: إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، وَهُوَ اخْتِيَار مَالك
لنَفسِهِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر الْعَرَبِيّ.
/
1102 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدَّثني مالكٌ عنِ ابنِ
شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى
وذَلِكَ فِي رمَضانَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي
التَّرَاوِيح، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَقد ذكر
البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث تَاما فِي أَبْوَاب
التَّهَجُّد فِي: بَاب تحريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على قيام اللَّيْل، فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن
يُوسُف، قَالَ: أخبرنَا مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة
ابْن الزبير (عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ: أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صلى ذَات لَيْلَة فِي
الْمَسْجِد، فصلى بِصَلَاتِهِ نَاس، ثمَّ صلى من
الْقَابِلَة فَكثر النَّاس، ثمَّ اجْتَمعُوا من اللَّيْلَة
الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة، فَلم يخرج إِلَيْهِم رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أصبح قَالَ: قد
رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُم فَلم يَمْنعنِي من الْخُرُوج
إِلَيْكُم إلاَّ أَنِّي خشيت أَن يفْرض عَلَيْكُم،
وَذَلِكَ فِي رَمَضَان) . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى، وَهنا أورد هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا جدا،
فَذكر من أَوله: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صلى، ثمَّ اختصر إِلَى قَوْله فِي آخر الحَدِيث: وَذَلِكَ
فِي رَمَضَان. قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا فعله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلَاته فِي الليلتين.
2102 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي
عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
أخبرَتْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ
لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فصَلَّى فِي المَسْجِدِ
وصلَّى رِجالٌ بِصلاَتِهِ فأصبَحَ النَّاسُ فتَحَدَّثُوا
فاجْتَمَعَ أكثرُ مِنْهُمْ فصَلُّوا معَهُ فأصْبَحَ
(11/127)
النَّاسُ فتَحَدَّثُوا فكَثُرَ أهْلُ
المَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَلَّى فصلَّوْا بِصَلاتِهِ
فلَمَ كانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عجَزَ المَسْجِدُ
عنْ أهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ فلَمَّا
قَضَى الْفَجْرَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فتَشَهدَ ثُمَّ
قالَ أمَّا بعْدُ فَإنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكانُكُمْ
ولَكِنِّي خَشِيتُ أنُ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فتَعْجِزُوا
عَنْها، فتُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
والأمرُ علَى ذالِكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق،
وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن مضى فِي
كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة بعد
الثَّنَاء: أما بعد، قَوْله: (فَتوفي رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَمر على ذَلِك) من كَلَام ابْن
شهَاب الزُّهْرِيّ. فَافْهَم.
1 - (بابُ فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل لَيْلَة الْقدر ثَبت فِي
رِوَايَة أبي ذَر قبل الْبَاب بَسْمَلَة، وَمعنى لَيْلَة
الْقدر: لَيْلَة تَقْدِير الْأُمُور وقضائها وَالْحكم
وَالْفضل، يقْضِي الله فِيهَا قَضَاء السّنة، وَهُوَ مصدر
قَوْلهم: قدر الله الشَّيْء قدرا وَقدرا، لُغَتَانِ،
كالنهر وَالنّهر، وَقدره تَقْديرا بِمَعْنى وَاحِد. وَقيل:
سميت بذلك لخطرها وشرفها. وَعَن الزُّهْرِيّ: هِيَ لَيْلَة
العظمة والشرف، من قَول النَّاس: فلَان عِنْد الْأَمِير
قدر، أَي: جاه ومنزلة. وَيُقَال: قدرت فلَانا أَي عَظمته،
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} . أَي:
مَا عظموه حق عَظمته، وَقَالَ أَبُو بكر الْوراق: سميت
بذلك لِأَن من لم يكن ذَا قدر وخطر يصير فِي هَذِه
اللَّيْلَة ذَا قدر وخطر إِذا أدْركهَا وأحياها. وَقيل:
لِأَن كل عمل صَالح يُوجد فِيهَا من الْمُؤمن يكون ذَا قدر
وَقِيمَة عِنْد الله، لكَونه مَقْبُولًا فِيهَا. وَقيل:
لِأَنَّهُ أنزل فِيهَا كتاب ذُو قدر.
(11/128)
وَقَالَ سهل بن عبد الله: لِأَن الله
تَعَالَى يقدر الرَّحْمَة فِيهَا على عباده الْمُؤمنِينَ،
وَقيل: لِأَنَّهُ ينزل فِيهَا إِلَى الأَرْض ثَلَاثَة من
الْمَلَائِكَة أولي قدر وخطر، وَعَن الْخَلِيل بن أَحْمد:
لِأَن الأَرْض يضيق فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ من قَوْله
وَيقدر. {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} (الطَّلَاق: 7) . وَقيل:
الْقدر هُنَا بِمَعْنى: الْقدر، بِفَتْح الدَّال الَّذِي
يواخي الْقَضَاء، وَالْمعْنَى: أَنه يقدر فِيهَا أَحْكَام
تِلْكَ السّنة، لقَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كل أَمر
حَكِيم} (الدُّخان: 4) . وَقيل: إِنَّمَا جَاءَ الْقدر
بِسُكُون الدَّال، وَإِن كَانَ الشَّائِع فِي الْقدر
الَّذِي هُوَ يواخي الْقَضَاء فتح الدَّال ليعلم أَنه لم
يرد بِهِ ذَلِك، وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ تَفْصِيل مَا جرى
بِهِ الْقَضَاء، وإظهاره وتحديده فِي تِلْكَ السّنة،
لتَحْصِيل مَا يلقى إِلَيْهِم فِيهَا مِقْدَارًا
بِمِقْدَار.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {إنَّا أنزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
القَدْرِ وَمَا أدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ
القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ
المَلاَئِكَةُ والرُّوحُ فِيها بإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ
كُلِّ أمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ}
(الْقدر: كَامِلَة) .
قَول الله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (فضل لَيْلَة
الْقدر) ، أَي: وَفِي بَيَان تَفْسِير قَول الله تَعَالَى،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ ... } (الْقدر: 1) . إِلَى آخِره، وَفِي
رِوَايَة كَرِيمَة: السُّورَة كلهَا مَذْكُورَة، ومطابقة
ذكر هَذِه السُّورَة عقيب التَّرْجَمَة فِي لَيْلَة الْقدر
لكَونهَا فِي هَذِه السُّورَة قد ذكرت مكررة لأجل تفضيلها،
وَهَذِه السُّورَة مائَة وإثنا عشر حرفا، وَثَلَاثُونَ
كلمة، وَخمْس آيَات وَهِي، مَدَنِيَّة، قَالَه الضَّحَّاك
وَمُقَاتِل، وَالْأَكْثَر على أَنَّهَا مَكِّيَّة. وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: هِيَ أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} (الْقدر: 1) . أَي: الْقُرْآن جملَة
وَاحِدَة فِي لَيْلَة الْقدر، من اللَّوْح الْمَحْفُوظ
إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، فوضعناه فِي بَيت الْعِزَّة،
وأملاه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، على السفرة، ثمَّ
كَانَ ينزله جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، على مُحَمَّد،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نجوما، فَكَانَ بَين أَوله إِلَى
آخِرَة ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ سنة، ثمَّ عجب نبيه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَة
الْقدر} (الْقدر) . يَعْنِي: وَلم تبلغ درايتك غَايَة
فَضلهَا، ومنتهى علو قدرهَا. قَوْله: {لَيْلَة الْقدر خير
من ألف شهر} (الْقدر) . وَسبب نُزُولهَا مَا ذكره الواحدي
بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد، قَالَ: ذكر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، رجلا من بني إِسْرَائِيل لبس
السِّلَاح فِي سَبِيل الله ألف شهر، فَعجب الْمُسلمُونَ من
ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى عز وَجل: {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر، وَمَا أَدْرَاك مَا
لَيْلَة الْقدر لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} (الْقدر) .
قَالَ: خير من الَّذِي لبس السِّلَاح فِيهَا ذَلِك الرجل.
انْتهى. وَذكر بعض الْمُفَسّرين، رَحْمَة الله تَعَالَى
عَلَيْهِم، أَنه كَانَ فِي الزَّمن الأول نَبِي يُقَال
لَهُ: شمسون، عَلَيْهِ السَّلَام، قَاتل الْكَفَرَة فِي
دين الله ألف شهر وَلم ينْزع الثِّيَاب وَالسِّلَاح،
فَقَالَت الصَّحَابَة: يَا لَيْت لنا عمرا طَويلا حَتَّى
نُقَاتِل مثله؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة، وَأخْبر، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَن لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر
الَّذِي لبس السِّلَاح فِيهَا شمسون فِي سَبِيل الله،
وَالظَّاهِر أَن ذَلِك الرجل الَّذِي ذكره الواحدي هُوَ:
شمسون هَذَا،
وَعَن أبي الْخطاب: الْجَارُود ابْن سُهَيْل. حَدثنَا
مُسلم بن قُتَيْبَة حَدثنَا الْقَاسِم بن فضل، حَدثنَا
عِيسَى بن مَازِن، قَالَ: قلت لِلْحسنِ بن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا: عَمَدت لهَذَا الرجل فَبَايَعت
لَهُ، يَعْنِي: مُعَاوِيَة، فَقَالَ: إِن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أرِي بني أُميَّة يعلون منبره
خَليفَة بعد خَليفَة، فشق ذَلِك عَلَيْهِ، فَأنْزل الله
سُورَة الْقدر. قَالَ الْقَاسِم: فحسبنا ملك بني أُميَّة
فَإِذا هُوَ ألف شهر. وَقيل: ذكر رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمًا أَرْبَعَة من بني إِسْرَائِيل
عبدُوا الله ثَمَانِينَ سنة لم يعصوا طرفَة عين، فعجبت
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من ذَلِك،
فَأَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّد عجبت أمتك من عبَادَة هَؤُلَاءِ النَّفر
ثَمَانِينَ سنة لم يعصوا الله طرفَة عين؟ فقد أنزل الله
عَلَيْك خيرا من ذَلِك، ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ: {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} (الْقدر) . الْآيَات،
وَقَالَ: هَذَا أفضل مِمَّا عجبت أَنْت وَأمتك، فسر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس مَعَه.
وَذكر فِي بعض الْكتب أَن أَبَا عُرْوَة، قَالَ: ذكر
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يوماأربعة من بني
إِسْرَائِيل، فَقَالَ: عبدُوا الله ثَمَانِينَ عَاما لم
يعصوه طرفَة عين، فَذكر أَيُّوب وزَكَرِيا وحزقيل ويوشع بن
نون، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ ذكر الْبَاقِي
نَحْو مَا ذكرنَا. وَعَن ابْن عَبَّاس: تفكر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أَعمار أمته وأعمار الْأُمَم
السالفة، فَأنْزل الله هَذِه السُّورَة وَخص هَذِه الْأمة
بِتَضْعِيف الْحَسَنَات لقصر أعمارهم، وَيُقَال: إِن
(11/129)
الرجل فِيمَا مضى كَانَ لَا يسْتَحق أَن
يُقَال لَهُ: فلَان عَابِد، حَتَّى يعبد الله ألف شهر،
وَهِي ثَلَاث وَثَمَانُونَ سنة، وَأَرْبَعَة أشهر، فَجعل
الله لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة خيرا
من ألف شهر، كَانُوا يعْبدُونَ فِيهَا. وَقيل: مَعْنَاهُ
عمل صَالح فِي لَيْلَة الْقدر خير من عمل ألف شهر لَيْسَ
فِيهَا لَيْلَة الْقدر.
وَقَالَ مُجَاهِد: سَلام الْمَلَائِكَة وَالروح عَلَيْك
تِلْكَ اللَّيْلَة خير من سَلام الْخلق عَلَيْك ألف شهر.
قَوْله: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح} أَي: جِبْرِيل،
عَلَيْهِ وَالسَّلَام، {فِيهَا} أَي: فِي لَيْلَة الْقدر.
قَوْله: {من كل أَمر} أَي تنزل من أجل كل أَمر قَضَاهُ
الله وَقدره فِي تِلْكَ السّنة إِلَى قَابل تمّ الْكَلَام
عِنْد قَوْله {من كل أَمر} أَي تنزل من أجل كل أَمر
قَضَاهُ الله وَقدره فِي تِلْكَ السّنة إِلَى قَابل، تمّ
الْكَلَام عِنْد قَوْله: ( {من كل أَمر} ثمَّ ابْتَدَأَ
فَقَالَ: {سَلام} أَي: مَا لَيْلَة الْقدر إلاَّ سَلامَة
وَخير كلهَا لَيْسَ فِيهَا شَرّ. وَقَالَ الضَّحَّاك: لَا
يقدر الله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إلاَّ السَّلامَة كلهَا،
فَأَما اللَّيَالِي الْأُخَر فَيَقْضِي فِيهِنَّ الْبلَاء
والسلامة. وَقيل: هُوَ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة لَيْلَة
الْقدر على أهل الْمَسَاجِد من حِين تغيب الشَّمْس إِلَى
أَن يطلع الْفجْر، يَمرونَ على كل مُؤمن، وَيَقُولُونَ:
السَّلَام عَلَيْك يَا مُؤمن حَتَّى مطلع الْفجْر، أَي
إِلَى مطلع الْفجْر، قَرَأَ الْكسَائي وَخلف: مطلع،
بِكَسْر اللَّام فَإِنَّهُ مَوضِع الطُّلُوع،
وَالْبَاقُونَ بِفَتْح اللَّام، بِمَعْنى: الطُّلُوع.
قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ مَا كانَ فِي القُرْآنِ: مَا
أدْرَاكَ، فَقَدْ أعْلَمَهُ. وَمَا قالَ وَمَا يُدْرِيكَ،
فإنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ
هَذَا التَّعْلِيق عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَصله
مُحَمَّد بن يحيى بن أبي عمر فِي كتاب الْإِيمَان لَهُ من
رِوَايَة أبي حَاتِم الرَّازِيّ عَنهُ، قَالَ: حَدثنَا
سُفْيَان بن عُيَيْنَة ... فَذكره بِلَفْظ: كل شَيْء فِي
الْقُرْآن {وَمَا أَدْرَاك} فقد أخبرهُ بِهِ، وكل شَيْء
فِيهِ: {وَمَا يدْريك} فَلم يُخبرهُ بِهِ، وَقد اعْترض
عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحصْر بقوله: {وَمَا يدْريك لَعَلَّه
يزكّى} (عبس: 3) . فَإِنَّهَا نزلت فِي ابْن أم مَكْتُوم،
وَقد علم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَالهِ وَأَنه
مِمَّن يزكّى، ونفعته الذكرى. وَقَالَ بَعضهم: وعواه
مغلطاي فِيمَا قَرَأت بِخَطِّهِ لتفسير ابْن عُيَيْنَة
رِوَايَة سعيد ابْن عبد الرَّحْمَن عَنهُ، وَقد راجعت
مِنْهُ نُسْخَة بِخَط الْحَافِظ الضياء فَلم أَجِدهُ
فِيهِ. انْتهى. قلت: فِي هَذِه الْعبارَة إساءة الْأَدَب،
لَا يخفى ذَلِك على الْمنصف، وَعدم وجدانه ذَلِك فِي
نُسْخَة الْحَافِظ الضياء بِخَطِّهِ لَا يسْتَلْزم عَدمه
بِخَط غَيره.
4102 - حدَّثنا عَلَيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ وإنَّمَا حَفِظَ مِنَ
الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ منْ صامَ رَمضَانَ إِيمَانًا واحْتِسابا غفِرَ
لَهُ مَا تقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومنْ قامَ لَيْلَةَ
القَدْرِ إِيمَانًا واحْتِسابا غُفِرَ لَهُ مَا تقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن قَامَ لَيْلَة
الْقدر) إِلَى آخِره، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن
الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (قَالَ حفظناه) أَي: قَالَ سُفْيَان: حفظنا هَذَا
الحَدِيث. قَوْله: (وَأَيّمَا حفظ) معترض بَين قَوْله:
(حفظناه) وَبَين قَوْله: (من الزُّهْرِيّ) وَقَوله: (من
الزُّهْرِيّ) مُتَعَلق بقوله: (حفظناه) ، وَأَيّمَا:
بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف،
وَكلمَة: مَا، زَائِدَة، وَحفظ بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون
الْفَاء مصدر من: حفظ، يحفظ، و: أَي، مَرْفُوع على
الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: وَأي حفظ
حفظناه. من الزُّهْرِيّ، يدل عَلَيْهِ: حفظناه أَولا،
وَحَاصِله أَنه يصف حفظه بِكَمَال الْأَخْذ وَقُوَّة
الضَّبْط، لِأَن إِحْدَى مَعَاني: أَي: للكمال كَمَا
تَقول: زيد رجل أَي رجل، أَي: كَامِل فِي صِفَات
الرِّجَال، وروى: أَيّمَا حفظ، بِنصب: أَي: على أَنه مفعول
مُطلق: لحفظناه، الْمُقدر. وَرَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة
مقروءة: وَإِنَّمَا حفظ، بِكَلِمَة: إِن، الَّتِي أضيف
إِلَيْهَا كلمة: مَا، للحصر، وَحفظ على صِيغَة الْمَاضِي،
فَإِن صحت هَذِه تكون هَذِه الْجُمْلَة من كَلَام عَليّ بن
عبد الله شيخ البُخَارِيّ فَافْهَم. قَوْله: (من صَامَ
رَمَضَان) ، قد تقدم فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب صَوْم
رَمَضَان احتسابا من الْإِيمَان. قَوْله: (وَمن قَامَ
لَيْلَة الْقدر) إِلَى آخِره، من زِيَادَة سُفْيَان بن
عُيَيْنَة فِي رِوَايَته هُنَا. وروى التِّرْمِذِيّ،
فَقَالَ: حَدثنَا هناد، قَالَ: حَدثنَا عَبدة والمحاربي
عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من
صَامَ رَمَضَان وقامه إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا
تقدم من ذَنبه، وَمن قَامَ لَيْلَة الْقدر إِيمَانًا
واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، قَالَ أَبُو
عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
تابَعَهُ سُلَيْمانُ بنُ كَثِيرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ
(11/130)
أَي: تَابع سُفْيَان سُلَيْمَان بن كثير
الْعَبْدي الوَاسِطِيّ، وَيُقَال الْبَصْرِيّ فِي
رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَقَالَ
بَعضهم: وَصله الذهلي فِي الزهريات. وَلم يزدْ عَلَيْهِ
شَيْئا، وَالظَّاهِر أَنه لم يُورد فِيهَا.
2 - (بابُ الْتِماسِ لَيْلَةِ القَدْرِ فِي السَّبْعِ
الأوَاخِرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن التمَاس أَي طلب لَيْلَة
الْقدر يَنْبَغِي أَن يكون فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: بَاب التمسوا لَيْلَة الْقدر،
بِصِيغَة الْأَمر، وَلَفظ: بَاب، فِيهِ منون تَقْدِيره:
هَذَا بَاب يذكر فِيهِ التمسوا، وَهَهُنَا ثَلَاثَة
أَسْبَاع: السَّبع الْأَوَائِل فِي الْعشْر الأول من
الشَّهْر، والسبع الأواسط فِي الْعشْر الثَّانِي، والسبع
الْأَوَاخِر فِي الْعشْر الْأَخير مِنْهُ، وَيكون طلبَهَا
فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين، وَالثَّالِث وَالْعِشْرين،
وَالْخَامِس وَالْعِشْرين، وَالسَّابِع وَالْعِشْرين.
وَجَاء: (اطلبوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر) فَتدخل فِيهَا
لَيْلَة التَّاسِع وَالْعِشْرين.
5102 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنَا
مالِكٌ عنْ نافَعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا أنَّ رِجَالاً مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنامِ فِي
السَّبْعِ الأواخِرِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أرى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأتْ فِي السَّبْعِ
الأوَاخِرِ فَمَنْ كانَ مُتَحَرِّيهَا فلْيَتَحَرَّهَا فِي
السَّبْعِ الأوَاخِرِ. (انْظُر الحَدِيث 8511 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليتحرها فِي السَّبع
الْأَوَاخِر) .
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن يحيى بن
يحيى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد
بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن
الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
قَوْله: (أروا) بِضَم الْهمزَة، مَجْهُول فعل مَاض من
الإراءة، وَقَالَ بَعضهم: أَي: قيل لَهُم فِي الْمَنَام:
فِي السَّبع الْأَوَاخِر. قلت: هَذَا التَّفْسِير لَيْسَ
بِصَحِيح، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن نَاسا قَالُوا لَهُم
إِن لَيْلَة الْقدر فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَلَيْسَ
هَذَا تَفْسِير قَوْله: (أروا لَيْلَة الْقدر فِي
الْمَنَام) ، بل تَفْسِيره أَن نَاسا أروهم إِيَّاهَا
فَرَأَوْا، وعَلى تَفْسِير هَذَا الْقَائِل أخبروا
بِأَنَّهَا فِي السَّبع الْأَوَاخِر، وَلَا يسْتَلْزم
هَذَا رُؤْيَتهمْ. قَوْله: (فِي السَّبع الْأَوَاخِر) ،
لَيْسَ ظرفا للإراءة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَسكت،
وَمَعْنَاهُ: إِنَّه صفة لقَوْله: (فِي الْمَنَام) ، أَي:
فِي الْمَنَام الْوَاقِع أَو الْكَائِن فِي السَّبع
الْأَوَاخِر. قَوْله: (قد تواطأت) أَي: توافقت، وأصل
الْكَلِمَة بِالْهَمْزَةِ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي
التَّعْبِير من طَرِيق الزُّهْرِيّ (عَن سَالم عَن أَبِيه
أَن نَاسا أروا لَيْلَة الْقدر فِي السَّبع الْأَوَاخِر،
وَأَن نَاسا أروا أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر،
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (التمسوها فِي
السَّبع الْأَوَاخِر) ، وَلم يقل: فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ نظر إِلَى الْمُتَّفق
عَلَيْهِ من الرؤيتين، فَأمر بِهِ. قَوْله: (فَمن كَانَ
متحريها) أَي: طالبها وقاصدها، لِأَن التَّحَرِّي الْقَصْد
وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب، ثمَّ إِن هَذَا الحَدِيث دلّ
على أَن لَيْلَة الْقدر فِي السَّبع الْأَوَاخِر لَكِن من
غير تعْيين.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا، فَقيل: هِيَ أول لَيْلَة من
رَمَضَان. وَقيل: لَيْلَة سبع عشرَة. وَقيل: لَيْلَة
ثَمَان عشرَة. وَقيل: لَيْلَة تسع عشرَة. وَقيل: لَيْلَة
إِحْدَى وَعشْرين. وَقيل: ثَلَاث وَعشْرين. وَقيل: لَيْلَة
خمس وَعشْرين. وَقيل: لَيْلَة سبع وَعشْرين. وَقيل:
لَيْلَة تسع وَعشْرين. وَقيل: آخر لَيْلَة من رَمَضَان.
وَقيل: فِي أشفاع هَذِه الْأَفْرَاد. وَقيل: فِي السّنة
كلهَا. وَقيل: جَمِيع شهر رَمَضَان. وَقيل: يتَحَوَّل فِي
ليَالِي الْعشْر كلهَا. وَذهب: أَبُو حنيفَة إِلَى
أَنَّهَا فِي رَمَضَان، تتقدم وتتأخر. وَعند أبي يُوسُف
وَمُحَمّد: لَا تتقدم وَلَا تتأخر، لَكِن غير مُعينَة.
وَقيل: هِيَ عِنْدهمَا فِي النّصْف الْأَخير من رَمَضَان.
وَعند الشَّافِعِي فِي الْعشْر الْأَخير لَا تنْتَقل وَلَا
تزَال إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ أَبُو بكر
الرَّازِيّ: هِيَ غير مَخْصُوصَة بِشَهْر من الشُّهُور،
وَبِه قَالَ الحنفيون، وَفِي (قاضيخان) : الْمَشْهُور عَن
أبي حنيفَة أَنَّهَا تَدور فِي السّنة كلهَا، وَقد تكون
فِي رَمَضَان، وَقد تكون فِي غَيره، وَصَحَّ ذَلِك عَن
ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَغَيرهم، وَقد
زيف الْمُهلب هَذَا القَوْل. وَقَالَ: لَعَلَّ صَاحبه بناه
على دوران الزَّمَان لنُقْصَان الْأَهِلّة، وَهُوَ فَاسد،
لِأَن ذَلِك لم يعْتَبر فِي صِيَام رَمَضَان، فَلَا
يعْتَبر فِي غَيره حَتَّى تنْتَقل لَيْلَة الْقدر عَن
رَمَضَان انْتهى. قلت: تزييفه هَذَا القَوْل فَاسد، لِأَن
قَصده تزييف قَول الْحَنَفِيَّة، وَلَا يدْرِي أَنه فِي
نفس الْأَمر تزييف
(11/131)
قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس،
وَهَذَا جرْأَة مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا ماخذ ابْن مَسْعُود
كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) عَن أبي بن كَعْب أَنه
أَرَادَ أَن لَا يتكل النَّاس، وَقَالَ الإِمَام نجم
الدّين أَبُو حَفْص عمر النَّسَفِيّ فِي منظومته:
(وَلَيْلَة الْقدر بِكُل الشَّهْر ... دَائِرَة وعيناها
فأدر)
وَذهب ابْن الزبير إِلَى لَيْلَة سبع عشرَة، وَأَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين،
وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي، وَعَن عبد الله بن أنيس:
لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين، وَعَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من
جمَاعَة من الصَّحَابَة: لَيْلَة سبع وَعشْرين، وَعَن
بِلَال: لَيْلَة أَربع وَعشْرين، وَعَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: لَيْلَة تسع عشرَة. وَقيل: هِيَ فِي
الْعشْر الْأَوْسَط وَالْعشر الْأَخير. وَقيل: فِي أشفاع
الْعشْر الْأَوَاخِر. وَقيل: فِي النّصْف من شعْبَان.
وَقَالَ الشِّيعَة: إِنَّهَا رفعت، وَكَذَا حكى
الْمُتَوَلِي فِي (التَّتِمَّة) عَن الروافض، وَكَذَا حكى
الْفَاكِهَانِيّ فِي (شرح الْعُمْدَة) عَن الْحَنَفِيَّة.
قلت: هَذَا النَّقْل عَن الْحَنَفِيَّة غير صَحِيح،
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (التمسوها فِي كَذَا
وَكَذَا) يرد عَلَيْهِم، وَقد روى عبد الرَّزَّاق من
طَرِيق دَاوُد بن أبي عَاصِم عَن عبد الله بن خُنَيْس: قلت
لأبي هُرَيْرَة: زَعَمُوا أَن لَيْلَة الْقدر رفعت؟ قَالَ:
كذب من قَالَ ذَلِك، وَقَالَ ابْن حزم: فَإِن كَانَ
الشَّهْر تسعا وَعشْرين، فَهِيَ فِي أول الْعشْر الْأَخير
بِلَا شكّ، فَهِيَ إِمَّا فِي لَيْلَة عشْرين أَو لَيْلَة
إثنين وَعشْرين أَو لَيْلَة أَربع وَعشْرين، أول لَيْلَة
سِتّ وَعشْرين، أَو لَيْلَة ثَمَان وَعشْرين. وَإِن كَانَ
الشَّهْر ثَلَاثِينَ فَأول الْعشْر الْأَوَاخِر بِلَا شكّ،
إِمَّا لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين، أَو لَيْلَة ثَلَاث
وَعشْرين، أَو لَيْلَة خمس أَو لَيْلَة سبع أَو لَيْلَة
تسع وَعشْرين فِي وترها. وَعَن ابْن مَسْعُود: أَنَّهَا
لَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان، لَيْلَة بدر، وَحَكَاهُ
ابْن أبي عَاصِم أَيْضا عَن زيد بن أَرقم.
وَقيل: إِن لَيْلَة الْقدر خَاصَّة بِسنة وَاحِدَة، وَقعت
فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكَاهُ
الفاكهي. وَقيل: خَاصَّة بِهَذِهِ الْأمة، وَلم تكن فِي
الْأُمَم قبلهم، جزم بِهِ ابْن حبيب وَغَيره من
الْمَالِكِيَّة، وَنَقله عَن الْجُمْهُور صَاحب (الْعدة)
من الشَّافِعِيَّة وَرجحه، وَيرد عَلَيْهِم مَا رَوَاهُ
النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي ذَر حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (قلت:
يَا رَسُول الله! أتكون مَعَ الْأَنْبِيَاء فَإِذا مَاتُوا
رفعت؟ قَالَ: بل هِيَ بَاقِيَة) . فَإِن قلت: روى مَالك
فِي (الْمُوَطَّأ) : بَلغنِي أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تقاصر أَعمار أمته عَن أَعمار الْأُمَم
الْمَاضِيَة. فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى لَيْلَة الْقدر.
قلت: هَذَا مُحْتَمل للتأويل، فَلَا يدْفع الصَّرِيح فِي
حَدِيث أبي ذَر، وَذكر بَعضهم فِيهَا خَمْسَة وَأَرْبَعين
قولا، وأكثرها يتداخل، وَفِي الْحَقِيقَة يقرب من خَمْسَة
وَعشْرين. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذِه الْأَقْوَال؟ قلت:
مَفْهُوم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ، فَلَا مُنَافَاة.
وَعَن الشَّافِعِي: وَالَّذِي عِنْدِي أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُجيب على نَحْو مَا يسْأَل عَنهُ،
يُقَال لَهُ: نلتمسها فِي لَيْلَة كَذَا؟ فَيَقُول:
التمسوها فِي لَيْلَة كَذَا. وَقيل: إِن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يحدث بميقاتها جزما، فَذهب كل
وَاحِد من الصَّحَابَة بِمَا سَمعه، والذاهبون إِلَى سبع
وَعشْرين هم الْأَكْثَرُونَ.
122 - (حَدثنَا معَاذ بن فضَالة قَالَ حَدثنَا هِشَام عَن
يحيى عَن أبي سَلمَة قَالَ سَأَلت أَبَا سعيد وَكَانَ لي
صديقا فَقَالَ اعتكفنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان
فَخرج صَبِيحَة عشْرين فَخَطَبنَا وَقَالَ إِنِّي أريت
لَيْلَة الْقدر ثمَّ أنسيتها أَو نسيتهَا فالتمسوها فِي
الْعشْر الْأَوَاخِر فِي الْوتر وَإِنِّي رَأَيْت أَنِّي
أَسجد فِي مَاء وطين فَمن كَانَ اعْتكف مَعَ رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَليرْجع فرجعنا
وَمَا نرى فِي السَّمَاء قزعة فَجَاءَت سَحَابَة فمطرت
حَتَّى سَالَ سقف الْمَسْجِد وَكَانَ من جريد النّخل
وأقيمت الصَّلَاة فَرَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسْجد فِي المَاء والطين حَتَّى
رَأَيْت أثر الطين فِي جَبهته) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي
قَوْله " فالتمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر " وَهَذَا
الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة
مِنْهَا فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب السُّجُود على الْأنف
فِي الطين فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُوسَى عَن همام بن
يحيى عَن أبي سَلمَة وَهنا أخرجه عَن معَاذ بن فضَالة
بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة عَن
هِشَام الدستوَائي عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بن
عبد الرَّحْمَن
(11/132)
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب
السُّجُود على الْأنف فِي الطين ونتكلم أَيْضا زِيَادَة
للْبَيَان فَقَوله " أَبَا سعيد " هُوَ الْخُدْرِيّ واسْمه
سعد بن مَالك وَهنا لم يذكر المسؤل عَنهُ فِي هَذِه
الطَّرِيق وَفِي رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك تَأتي فِي
الِاعْتِكَاف " سَأَلت أَبَا سعيد هَل سَمِعت رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يذكر لَيْلَة
الْقدر فَقَالَ نعم " فَذكر الحَدِيث وَفِي رِوَايَة مُسلم
من طَرِيق معمر عَن يحيى تَذَاكرنَا لَيْلَة الْقدر فِي
نفر من قُرَيْش فَأتيت أَبَا سعيد فَذكره وَفِي رِوَايَة
همام عَن يحيى فِي بَاب السُّجُود فِي المَاء والطين من
صفة الصَّلَاة " انْطَلَقت إِلَى أبي سعيد فَقلت أَلا تخرج
بِنَا إِلَى النّخل نتحدث فَخرج فَقلت حَدثنِي مَا سَمِعت
من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
لَيْلَة الْقدر " فَأفَاد بَيَان سَبَب السُّؤَال قَوْله "
اعتكفنا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - الْعشْر الْأَوْسَط " هَكَذَا وَقع فِي أَكثر
الرِّوَايَات وَالْمرَاد من الْعشْر اللَّيَالِي وَكَانَ
من حَقّهَا أَن تُوصَف بِلَفْظ التَّأْنِيث لِأَن
الْمَشْهُور فِي الِاسْتِعْمَال تَأْنِيث الْعشْر وَأما
تذكيره فَهُوَ بِاعْتِبَار الْوَقْت أَو الزَّمَان وَوَقع
فِي الْمُوَطَّأ الْعشْر الْوسط بِضَم الْوَاو وَفتح
السِّين جمع وسطى مثل كبر وكبرى وَرَوَاهُ الْبَاجِيّ فِي
الْمُوَطَّأ بإسكانها على أَنه جمع وَاسِط كبازل وبزل
وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم فِي الْبَاب
الَّذِي يَلِيهِ كَانَ يُجَاوز الْعشْر الَّتِي فِي وسط
الشَّهْر وَفِي رِوَايَة مَالك الْآتِيَة فِي أول
الِاعْتِكَاف كَانَ يعْتَكف وَفِي رِوَايَة لمُسلم من
طَرِيق أبي نَضرة " عَن أبي سعيد اعْتكف الْعشْر
الْأَوْسَط من رَمَضَان يلْتَمس لَيْلَة الْقدر قبل أَن
تبان لَهُ قَالَ فَلَمَّا انقضين أَمر بِالْبِنَاءِ فقوض
ثمَّ أبينت لَهُ أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَوَاخِر فَأمر
بِالْبِنَاءِ فأعيد " وَزَاد فِي رِوَايَة عمَارَة بن
غزيَّة عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَنه اعْتكف الْعشْر
الأول ثمَّ اعْتكف الْعشْر الْأَوْسَط ثمَّ اعْتكف الْعشْر
الْأَوَاخِر وَمثله فِي رِوَايَة همام الْمَذْكُورَة
وَزَاد فِيهَا أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاهُ
فِي الْمَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ إِن الَّذِي تطلب أمامك "
بِفَتْح الْهمزَة أَي قدامك قَالَ الطَّيِّبِيّ وصف الأول
والأوسط بالمفرد والأخير بِالْجمعِ إِشَارَة إِلَى تصور
لَيْلَة الْقدر فِي كل لَيْلَة من ليَالِي الْعشْر
الْأَخير دون الْأَوَّلين قَوْله " فَخرج صَبِيحَة عشْرين
فَخَطَبنَا " (فَإِن قلت) يشكل على هَذَا رِوَايَة مَالك
من حَدِيث أبي سعيد على مَا يَأْتِي فَإِن فِيهِ كَانَ "
يعْتَكف فِي الْعشْر الْأَوْسَط من رَمَضَان فاعتكف عَاما
حَتَّى إِذا كَانَ لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين وَهِي
اللَّيْلَة الَّتِي يخرج من صبيحتها من اعْتِكَافه " (قلت)
معنى قَوْله " وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي يخرج من صبيحتها
أَي من الصُّبْح الَّذِي قبلهَا فَيكون فِي إِضَافَة
الصُّبْح إِلَيْهَا تجوز ويوضحه أَن فِي رِوَايَة الْبَاب
الَّذِي يَلِيهِ " فَإِذا كَانَ حِين يُمْسِي من عشْرين
لَيْلَة تمْضِي وتستقبل إِحْدَى وَعشْرين رَجَعَ إِلَى
مَسْكَنه " قَوْله " وَقَالَ إِنِّي أريت " على صِيغَة
الْمَجْهُول من الرُّؤْيَا أَي أعلمت بهَا أَو من
الرُّؤْيَة أَي أبصرتها وَإِنَّمَا أرى علامتها وَهُوَ
السُّجُود فِي المَاء والطين كَمَا وَقع فِي رِوَايَة همام
فِي بَاب السُّجُود على الْأنف فِي الطين قَوْله " ثمَّ
أنسيتها " من الإنساء قَوْله " أَو نسيتهَا " شكّ من
الرَّاوِي من التنسية فَالْأول من بَاب الْأَفْعَال
وَالثَّانِي من بَاب التفعيل وَالْمعْنَى أَنه أنسى علم
تَعْيِينهَا فِي تِلْكَ السّنة وَسَيَأْتِي سَبَب
النسْيَان فِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله
عَنهُ بعد بَاب وَقَالَ الْكرْمَانِي وأنسيتها وَفِي
بَعْضهَا من النسْيَان ثمَّ قَالَ (فَإِن قلت) إِذا جَازَ
النسْيَان فِي هَذِه الْمَسْأَلَة جَازَ فِي غَيرهَا
فَيفوت مِنْهُ التَّبْلِيغ إِلَى الْأمة (قلت) نِسْيَان
الْأَحْكَام الَّتِي يجب عَلَيْهِ التَّبْلِيغ لَهَا لَا
يجوز وَلَو جَازَ وَوَقع لذكره الله تَعَالَى قَوْله " فِي
الْوتر " أَي أوتار اللَّيَالِي كليلة الْحَادِي
وَالْعِشْرين وَالثَّالِث وَالْعِشْرين لَا فِي إشفاعها
قَوْله " إِنِّي أَسجد " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " أَن
أَسجد " قَوْله " فَليرْجع " أَي إِلَى مُعْتَكفه فِي
الْعشْر الْأَوْسَط لأَنهم كَانُوا معتكفين فِي الْعشْر
الْمُتَقَدّم على الْعشْر الْأُخَر قَوْله " قزعة "
بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي وَالْعين الْمُهْملَة وَهِي
الْقطعَة الرقيقة من السَّحَاب قَوْله " فمطرت " بالفتحات
وَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ من وَجه آخر "
فاستهلت السَّمَاء فأمطرت " قَوْله " حَتَّى سَالَ سقف
الْمَسْجِد " وَفِيه مجَاز من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة
الْحَال كَمَا يُقَال سَالَ الْوَادي وَفِي رِوَايَة مَالك
" فوكف الْمَسْجِد " أَي قطر المَاء من سقفه قَوْله "
وَكَانَ من جريد النّخل " الجريد سعف النّخل سميت بِهِ
لِأَنَّهُ قد جرد عَنهُ خوصه (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ)
فِيهِ ترك مسح جبهة الْمُصَلِّي من أثر التُّرَاب؛ وَفِيه
جَوَاز السُّجُود فِي الطين، وَفِيه الْأَمر بِطَلَب
الأولى والإرشاد إِلَى تَحْصِيل الْأَفْضَل، وَفِيه أَن
النسْيَان جَائِز على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لَكِن لَا فِي الْأَحْكَام كَمَا مر ذكره.
وَفِيه جَوَاز اسْتِعْمَال لفظ رَمَضَان بِدُونِ ذكر شهر
وَفِيه اسْتِحْبَاب الِاعْتِكَاف وترجيحه فِي الْعشْر
الْأَخير.
(11/133)
وَفِيه ترَتّب الحكم على رُؤْيا
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَفِيه تَقْدِيم
الْخطْبَة على التَّعْلِيم وتقريب الْبعيد فِي الطَّاعَة
وتسهيل الْمَشَقَّة فِيهَا بِحسن التلطف والتدريج
إِلَيْهَا -
3 - (بابُ تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ
العَشْرِ الأوَاخِرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان طلب لَيْلَة الْقدر
بِالِاجْتِهَادِ فِي الْوتر من الْعشْر الْأَوَاخِر، مثل:
الْحَادِي وَالْعِشْرين، وَالثَّالِث وَالْعِشْرين،
وَالْخَامِس وَالْعِشْرين، وَالسَّابِع وَالْعِشْرين
وَالتسع وَالْعِشْرين. وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة
إِلَى أَن لَيْلَة الْقدر منحصرة فِي الْعشْر الْأَخير من
رَمَضَان، لَا فِي لَيْلَة مِنْهُ بِعَينهَا، وروى مُسلم
وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: (أريت لَيْلَة الْقدر ثمَّ أيقظني بعض
أَهلِي فنسيتها، فالتمسوها فِي الْعشْر الغوابر) . وروى
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عَاصِم بن
كُلَيْب عَن أَبِيه أَن خَاله الفلتان بن عَاصِم أخبرهُ
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أما
لَيْلَة الْقدر فالتمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر) . وروى
النَّسَائِيّ من حَدِيث طَوِيل لأبي ذَر، وَفِيه: (فِي
السَّبع الْأَوَاخِر) ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي
بكرَة: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول:
(التمسوها فِي تسع يبْقين، أَو خمس يبْقين، أَو ثَلَاث
تبقين، أَو آخر لَيْلَة) . وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح،
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا وَالْحَاكِم، وَقَالَ:
صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وروى ابْن أبي عَاصِم
بِسَنَد صَالح عَن معَاذ ابْن جبل، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن
لَيْلَة الْقدر؟ فَقَالَ: فِي الْعشْر الْأَوَاخِر) . فِي
الْخَامِسَة أَو السَّابِعَة) . وَعَن أبي الدَّرْدَاء
بِسَنَد فِيهِ ضعف، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (التمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان،
فَإِن الله تَعَالَى يفرق فِيهَا كل أَمر حَكِيم، وفيهَا
أنزلت التَّوْرَاة وَالزَّبُور وصحف مُوسَى وَالْقُرْآن
الْعَظِيم، وفيهَا غرس الله الْجنَّة وجبل طِينَة آدم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقد ورد لليلة الْقدر عَلَامَات: مِنْهَا: فِي (صَحِيح
مُسلم) : عَن أبي بن كَعْب: (أَن الشَّمْس تطلع فِي
صبيحتها لَا شُعَاع لَهَا) وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(التمسوا لَيْلَة الْقدر فِي الْعشْر الْأَوَاخِر،
فَإِنِّي قد رَأَيْتهَا فنسيتها، وَهِي لَيْلَة مطر وريح،
أَو قَالَ: قطر وريح) . وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار)
: هَذَا يدل على أَنه أَرَادَ فِي ذَلِك الْعَام.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن
جَابر بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِنِّي كنت أريت لَيْلَة الْقدر ثمَّ
نسيتهَا، وَهِي فِي الْعشْر الْأَوَاخِر، وَهِي طَلْقَة
بلجة لَا جَارة وَلَا بَارِدَة، كَأَن فِيهَا قمرا يفصح
كواكبها، لَا يخرج شيطانها حَتَّى يضيء فجرها. وَمِنْهَا:
مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت
مَرْفُوعا. (أَنَّهَا صَافِيَة بلجة كَأَن فِيهَا قمرا
ساطعا، سَاكِنة ضاحية لَا حر فِيهَا وَلَا برد، وَلَا يحل
لكوكب يَرْمِي بِهِ فِيهَا، وَأَن من أمارتها أَن الشَّمْس
فِي صبيحتها تخرج مستوية لَيْسَ لَهَا شُعَاع، مثل
الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، لَا يحل للشَّيْطَان أَن يخرج
مَعهَا يَوْمئِذٍ) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ لبن أبي شيبَة
من حَدِيث ابْن مَسْعُود (إِن الشَّمْس تطلع كل يَوْم بَين
قَرْني شَيْطَان إِلَّا صبحية لَيْلَة الْقدر) وَمِنْهَا
مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا: (أَن الْمَلَائِكَة تِلْكَ اللَّيْلَة أَكثر
فِي الأَرْض من عدد الْحَصَى) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق مُجَاهِد: (لَا يُرْسل فِيهَا
شَيْطَان وَلَا يحدث دَاء) ، وَمن طَرِيق الضَّحَّاك:
(يقبل الله التَّوْبَة فِيهَا من كل تائب، وتفتح فِيهَا
أَبْوَاب السَّمَاء، وَهِي من غرُوب الشَّمْس إِلَى
طُلُوعهَا) . وَذكر الطَّبَرِيّ عَن قوم أَن الْأَشْجَار
فِي تِلْكَ اللَّيْلَة تسْقط إِلَى الأَرْض، ثمَّ تعود
إِلَى منابتها، وَأَن كل شَيْء يسْجد فِيهَا. وروى
الْبَيْهَقِيّ فِي فَضَائِل الْأَوْقَات من طَرِيق
الْأَوْزَاعِيّ عَن عَبدة بن أبي لبَابَة أَنه سَمعه
يَقُول: (إِن الْمِيَاه المالحة تعذب تِلْكَ اللَّيْلَة) .
وروى أَبُو عمر من طَرِيق زهرَة بن معبد نَحوه.
فِيهِ عِبَادَةُ
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَيَجِيء فِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ، ويروى: فِيهِ عَن عبَادَة.
7102 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ حدَّثنا أبُو سُهَيْلٍ عنْ
أبِيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَحَرَّوْا
لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الَعَشْرِ
الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ.
(11/134)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة،
وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ
الْمُؤَدب الْمَدِينِيّ، وَأَبُو سُهَيْل: اسْمه نَافِع بن
مَالك ابْن أبي عَامر الأصبحي الْمَدِينِيّ، عَم مَالك بن
أنس، وَلَيْسَ لِأَبِيهِ فِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة غير
هَذَا الحَدِيث.
قَوْله: (تحري) ، من التَّحَرِّي وَهُوَ الطّلب
بِالِاجْتِهَادِ.
8102 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني
ابنُ أبِي حازِمٍ والدَّرَاوَرْدِيُّ عنْ يَزِيدَ عنْ
مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي
سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُجَاوِرُ فِي
رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وسَطِ الشَّهْرِ فإذَا
كانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي
ويَسْتَقْبِلُ إحْدَى وعِشْرِينَ رَجَعَ إلَى مَسْكَنِهِ
ورَجَعَ منْ كانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ وأنَّهُ أقَامَ فِي
شَهْرٍ جاورَ فيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كانَ يَرْجِعُ
فِيهَا فخَطَبَ الناسَ فأمَرَهُمْ مَا شاءَ الله ثمَّ قالَ
كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ ثُمَّ قَدْ بَدَا لي
أنْ أُجَاوِرَ هذِهِ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ فَمَنْ كانَ
اعْتَكَفَ مَعي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ وقَدْ
أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا
فابْتَغُوهَا فِي الْعَشْر الأوَاخِرِ وابْتَغُوها فِي
كلِّ وِتْرٍ وقَدْ رأيْتُنِي أسْجُدُ فِي ماءٍ وطِينٍ
فاسْتَهلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ
فأمْطَرَتْ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلةَ إحدَى وعِشْرينَ فبَصُرَتْ
عَيْنِي نَظَرْتُ إلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ
ووَجْهُهِ مُمْتَلِىءٌ طِينا وَمَاء. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فابتغوها فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر) . وَإِبْرَاهِيم بن حَمْزَة أَبُو إِسْحَاق
الزبيرِي الْأَسدي الْمَدِينِيّ وَهُوَ من أَفْرَاده،
وَابْن أبي حَازِم هُوَ عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم،
وَاسم أبي حَازِم: سَلمَة بن دِينَار، والدراوردي
بالمهملات هُوَ: عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، فنسبته إِلَى
دراورد، قَرْيَة من قرى خُرَاسَان، وَيزِيد من الزِّيَادَة
هُوَ ابْن الْهَاد، وَهُوَ يزِيد بن عبد الله بن أُسَامَة
بن الْهَاد اللَّيْثِيّ، وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم بن
الْحَارِث أَبُو عبد الله التَّيْمِيّ الْقرشِي
الْمَدِينِيّ.
قَوْله: (يجاور) ، أَي: يعْتَكف. قَوْله: (الَّتِي فِي وسط
الشَّهْر) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وسط الشَّهْر)
بِدُونِ كلمة: فِي قَوْله: (فَإِذا كَانَ حِين يُمْسِي) ،
بِالرَّفْع اسْم كَانَ، وَبِالنَّصبِ ظرف. قَوْله:
(تمْضِي) فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله:
(لَيْلَة) ، الَّتِي هِيَ مَنْصُوبَة على التَّمْيِيز.
قَوْله: (وَيسْتَقْبل) عطف على قَوْله: (يُمْسِي) ، لَا
على قَوْله: (تمْضِي) ، وَهُوَ بِالْإِفْرَادِ رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (يمضين) ، بِالْجمعِ.
قَوْله: (وَرجع من كَانَ يجاور مَعَه) أَي: من كَانَ
يعْتَكف مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكلمَة:
مَن، فَاعل قَوْله: (رَجَعَ) . قَوْله: (ثمَّ بدا لي) أَي:
ظهر لي، من الرَّأْي أَو من الْوَحْي. قَوْله: (الْعشْر
الْأَوَاخِر) ، وَإِنَّمَا وصف الْعشْر بالأواخر
بِاعْتِبَار جنس الأعشار، كَمَا يُقَال: الدِّرْهَم
الْبيض، وَأَيَّام الْعشْر الْأَوَاخِر، فوصفه بِاعْتِبَار
الْأَيَّام. قَوْله: (فليثبت) من الثَّبَات، وَهُوَ
رِوَايَة الْأَكْثَرين، ويروي: (فليلبث) ، من اللّّبْث
وَهُوَ الْمكْث. قَوْله: (وَقد أُريت) ، بِضَم الْهمزَة
على بِنَاء الْمَجْهُول. قَوْله: (ثمَّ أُنسيتها) بِضَم
الْهمزَة من الإنساء من بَاب الْأَفْعَال. قَوْله:
(فابتغوها) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والغين الْمُعْجَمَة،
وَمَعْنَاهُ: اطلبوها. قَوْله: (وَقد رأيتُني) بِضَم
التَّاء، اجْتمع فِيهِ: الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميران
لشَيْء وَاحِد، وَهَذَا من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب،
وَالتَّقْدِير: رَأَيْت نَفسِي. قَوْله: (فاستهلت
السَّمَاء) ، من الاستهلال، يُقَال استهلت السَّمَاء إِذا
أمْطرت بِشدَّة وَصَوت، وَمِنْه: اسْتهلّ الْهلَال، إِذا
رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ عِنْد رُؤْيَته. قَوْله:
(فأمطرت) ، تَأْكِيد لما قبله، لِأَن: استهلت، تَتَضَمَّن
معنى: أمْطرت. قَوْله: (فوكف الْمَسْجِد) من قَوْلهم: وكف
الدمع إِذا تقاطر، وَكَذَا وكف الْبَيْت. قَوْله: (فبصرت
عَيْني) ، هُوَ مثل: أخذت بيَدي، وَإِنَّمَا يُؤَكد بذلك
فِي أَمر يعز الْوُصُول إِلَيْهِ إِظْهَارًا للتعجب من
حُصُول تِلْكَ الْحَالة الغريبة. قَوْله: (ثمَّ نظرت
إِلَيْهِ) أَي: إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (وَوَجهه ممتلىء) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: (طينا) ، نصب على التَّمْيِيز (وَمَاء) ، عطف
عَلَيْهِ.
(11/135)
9102 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى
قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبِي عَن
عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْتَمِسُوا. ح. (انْظُر الحَدِيث
7102 وطرفه) .
2202 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْودِ قَالَ
حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا عاصِمٌ عنْ أبِي
مِجْلَزً وعِكْرِمَةَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم هِيَ فِي العَشْرِ هِيَ فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أوْ
فِي سَبْعٍ يبْقِينَ يَعْنِي لَيلَةَ الْقَدْرِ. (انْظُر
الحَدِيث 1202) .
(11/136)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله
هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي الْأسود، واسْمه حميد
الْبَصْرِيّ الْحَافِظ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الْوَاحِد بن
زِيَاد وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول
الْبَصْرِيّ، وَأَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون
الْجِيم وَفتح اللَّام وَفِي آخِره زَاي: واسْمه لَاحق بن
حميد بن سعيد السدُوسِي الْبَصْرِيّ، وَقد مر فِيمَا مضى.
قَوْله: (هِيَ) ، أَي: لَيْلَة الْقدر فِي الْعشْر.
قَوْله: (هِيَ فِي تسع) إِلَى آخِره، بَيَان للعشر، أَي:
فِي لَيْلَة التَّاسِع وَالْعِشْرين. قَوْله: (أَو سبع
يبْقين) أَي: لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، وَفِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين هُنَا: (فِي تسع) ، بِالتَّاءِ
الْمُثَنَّاة من فَوق قبل السِّين مقدما، وَبعده: (فِي
سبع) بِتَقْدِيم السِّين قبل الْبَاء الْمُوَحدَة، وبلفظ
الْمُضِيّ فِي الأول، وَلَفظ الْبَقَاء فِي الثَّانِي.
وللكشميهني بِلَفْظ: الْمُضِيّ فيهمَا، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ بِتَقْدِيم السِّين فِي
الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأما رِوَايَة:
فِي سبع يبْقين، فَيحْتَمل لَيْلَة الثَّالِث
وَالْعِشْرين، أَو هِيَ مَعَ سَائِر اللَّيَالِي الَّتِي
بعْدهَا إِلَى آخر الشَّهْر كُلهنَّ، وَقد قيل: إِن هَذَا
الحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَارِيّ مَرْفُوعا مَوْقُوف،
رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة وَعَاصِم
أَنَّهُمَا سمعا عِكْرِمَة يَقُول: قَالَ ابْن عَبَّاس:
دَعَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَصْحَاب رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وسألهم عَن لَيْلَة
الْقدر؟ فَأَجْمعُوا على أَنَّهَا فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر، قَالَ ابْن عَبَّاس لعمر: إِنِّي لَا أعلم
أَو أَظن أَي لَيْلَة هِيَ؟ قَالَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أَي لَيْلَة هِيَ؟ فَقلت: سابغة تمْضِي
أَو سابعة تبقى من الْعشْر الْأَوَاخِر. فَقَالَ: من أَيْن
علمت ذَلِك؟ قلت: خلق الله سبع سموات وَسبع أَرضين
وَسَبْعَة أَيَّام، والدهر يَدُور فِي سبع، وَالْإِنْسَان
خلق من سبع. وَيَأْكُل من سبع وَيسْجد على سبع، وَالطّواف
والجمار وَأَشْيَاء ذكرهَا، فَقَالَ عمر: لقد فطنت لأمر
مَا فطنا لَهُ، وَله طَرِيق آخر أخرجهَا إِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه)
وَالْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي (سنَنه) من رِوَايَة عَاصِم بن
كُلَيْب الْجرْمِي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ:
كَانَ عمر بن الْخطاب يدعوني مَعَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيَقُول لي: لَا تَتَكَلَّم حَتَّى
يتكلموا. قَالَ: فَدَعَاهُمْ وسألهم عَن لَيْلَة الْقدر،
فَقَالَ: أَرَأَيْتُم قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: التمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر، أَي: لَيْلَة
نُزُولهَا؟ قَالَ: فَقَالَ بَعضهم: لَيْلَة ثَلَاث،
وَقَالَ آخر: خمس، وَأَنا سَاكِت، فَقَالَ: مَا لَك لَا
تَتَكَلَّم؟ قَالَ: فَقلت: أحدثكُم برأيي؟ قَالَ: عَن
ذَلِك نَسْأَلك. قَالَ: فَقلت: السَّبع، رَأَيْت الله ذكر
سبع سموات، وَمن الأَرْض سبعا، وَخلق الْإِنْسَان من سبع،
ونبات الأَرْض سبع ... ، وَذكر بَقِيَّته، فَقَالَ عمر:
مَا أرى القَوْل إلاَّ كَمَا قلت، وَقَالَ فِي آخِره:
فَقَالَ عمر: أعجزتم أَن تَكُونُوا مثل هَذَا الْغُلَام
الَّذِي مَا اسْتَوَت شؤون رَأسه؟ وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن
نصر فِي قيام اللَّيْل من هَذَا الْوَجْه، وَزَاد فِيهِ:
وَأَن الله جعل النّسَب فِي سبع، وَالطُّهْر فِي سبع، ثمَّ
تَلا: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} (النِّسَاء: 32) .
تابَعَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ عنْ أيُّوبَ
أَي: تَابع وهيبا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ فِي
رِوَايَته عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَوصل هَذِه
الْمُتَابَعَة أَحْمد وَابْن أبي عمر فِي (مسنديهما) عَن
عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب
مُتَابعًا لوهيب فِي إِسْنَاده وَلَفظه، وَهَذِه
الْمُتَابَعَة وَقعت عِنْد الْأَكْثَرين من رِوَايَة
الْفربرِي، وَعند النَّسَفِيّ وَقعت عقيب طَرِيق وهيب عَن
أَيُّوب.
وعنْ خالِدٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ الْتَمِسُوا
فِي أرْبَعٍ وعِشْرِينَ
أَي: وروى عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس، قيل: هَذِه مَوْصُولَة بِالْإِسْنَادِ الأول،
وَإِنَّمَا حذفهَا أَصْحَاب المسندات لكَونهَا مَوْقُوفَة.
قلت: جزم الْحَافِظ الْمُزنِيّ بِأَن طَرِيق خَالِد هَذِه
معلقَة، وروى أنس: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يتحَرَّى لَيْلَة الْقدر ثَلَاثَة وَعشْرين وَلَيْلَة
أَربع وَعشْرين) . وَقَالَ ابْن حبيب: يتحَرَّى يتم
الشَّهْر أَو ينقص، فيتحراها فِي لَيْلَة من السَّبع
الْبَوَاقِي، فَإِن كَانَ تَاما فَهِيَ لَيْلَة أَربع
وَعشْرين، وَإِن كَانَ نَاقِصا فَثَلَاث. وَلَعَلَّ ابْن
عَبَّاس إِنَّمَا قصد فِي الْأَرْبَع احْتِيَاطًا. وروى
أَحْمد فِي (مُسْنده) من طَرِيق سماك بن حَرْب عَن
عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أتيت وَأَنا نَائِم،
فَقيل لي: اللَّيْلَة لَيْلَة الْقدر، فَقُمْت وَأَنا
ناعس، فتعلقت بِبَعْض أطناب رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا هُوَ يُصَلِّي. قَالَ: فَنَظَرت
فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَإِذا هِيَ لَيْلَة أَربع
وَعشْرين) . وروى الطَّيَالِسِيّ من طَرِيق أبي نَضرة عَن
أبي سعيد مَرْفُوعا: (لَيْلَة الْقدر لَيْلَة أَربع
وَعشْرين) روى ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَالشعْبِيّ
وَالْحسن وَقَتَادَة، وحجتهم حَدِيث وَاثِلَة: أَن
الْقُرْآن نزل لأَرْبَع وَعشْرين
(11/137)
من رَمَضَان، وروى أَحْمد من طَرِيق ابْن
لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن
الصنَابحِي عَن بِلَال مَرْفُوعا: التمسوا لَيْلَة الْقدر
لَيْلَة أَربع وَعشْرين) . قَالَ: أَخطَأ ابْن لَهِيعَة
فِي رَفعه، فقد رَوَاهُ عَمْرو بن الْحَارِث عَن يزِيد
بِهَذَا الْإِسْنَاد مَوْقُوفا بِغَيْر لَفظه.
4 - (بابُ رفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ القَدْرِ لتلاحِي
النَّاسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع معرفَة لَيْلَة الْقدر
وَإِنَّمَا قيد بالمعرفة لِئَلَّا يظنّ أَنَّهَا رفعت
بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا رفعت مَعْرفَتهَا أَي معرفَة
تَعْيِينهَا. قَوْله: (لتلاحي النَّاس) أَي لأجل مخاصمتهم
والتلاحي والملاحات الْمُخَاصمَة والمعاولة يُقَال لحيت
الرجل الحاه لحيا إِذا لمته وعذلته ولاحيته ملاحاة ولحاء
إِذا نازعته.
3202 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدثنَا
خالِدُ بنُ الحَارِثِ قَالَ حَدثنَا حُمَيْدٌ قَالَ
حدَّثنا أنسٌ عنْ عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ خَرَجَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُخْبِرَنا بِلَيْلَةِ
الْقَدْرِ فتَلاحَى رَجُلانِ مِنَ المُسْلِمينَ فَقَالَ
خَرَجْتُ لأِخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى
فُلانٌ وفُلانٌ فَرُفِعَتْ وعَسَى أنْ يَكُونَ خَيْرا
لَكُمْ فالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعةِ والسَّابِعَةِ
والخَامِسَةِ. (انْظُر الحَدِيث 94 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا،
وخَالِد بن الْحَارِث الهُجَيْمِي مر فِي الْجُمُعَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب خوف
الْمُؤمن من أَن يحبط عمله، وَهُوَ لَا يشْعر، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر
عَن حميد عَن أنس عَن عبَادَة بن الصَّامِت، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (أنس بن عبَادَة بن
الصَّامِت) وَهُنَاكَ: أنس أَخْبرنِي عبَادَة بن
الصَّامِت، كَذَا رَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب حميد عَن أنس عَن
عبَادَة، وَرَوَاهُ مَالك فَقَالَ: عَن حميد عَن أنس،
قَالَ: خرج علينا، وَلم يقل: عَن عبَادَة، فَجعل الحَدِيث
من مُسْند أنس، وَقَالَ أَبُو عمر وَالصَّوَاب إِثْبَات
عبَادَة، وَأَن الحَدِيث من مُسْنده.
قَوْله: (فتلاحى رجلَانِ) ، وَفِي رِوَايَة أبي نَضرة عَن
أبي سعيد عِنْد مُسلم: (فجَاء رجلَانِ يختصمان مَعَهُمَا
الشَّيْطَان) . قَوْله: (فلَان وَفُلَان) ، قيل: هما عبد
الله بن أبي حَدْرَد وَكَعب بن مَالك. قَوْله: (فَرفعت) ،
أَي: من قلبِي، فنسيت تَعْيِينهَا للاشتغال بالمتخاصمين،
وَقيل: الْمَعْنى رفعت بركتها فِي تِلْكَ السّنة، وَقيل:
التَّاء فِي: رفعت، للْمَلَائكَة، لَا: لليلة.
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: قَالَ بَعضهم: رفعت، أَي
مَعْرفَتهَا، وَالْحَامِل لَهُ على ذَلِك أَن رَفعهَا
مَسْبُوق بوقوعها، فَإِذا وَقعت لم يكن لرفعها معنى.
قَالَ: وَيُمكن أَن يُقَال: المُرَاد برفعها أَنَّهَا شرعت
أَن تقع، فَلَمَّا تخاصما رفعت، فَنزل الشُّرُوع منزلَة
الْوُقُوع. انْتهى. قلت: هَذَا القَوْل الَّذِي نَقله
الطَّيِّبِيّ هُوَ مُوَافق للتَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث يدل على أَن سَبَب الرّفْع هُوَ
ملاحاة الرجلَيْن، وَقد روى مُسلم من طَرِيق أبي سَلمَة
عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: (أريت لَيْلَة الْقدر ثمَّ أيقظني أَهلِي
فنسيتها) ، وَهَذَا يدل على أَن سَبَب الرّفْع هُوَ
النسْيَان. قلت: يُمكن أَن يحمل على التَّعَدُّد، بِأَن
تكون الرُّؤْيَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مناما فَيكون
سَبَب النسْيَان الإيقاظ، وَأَن تكون الرُّؤْيَا فِي
حَدِيث غَيره فِي الْيَقَظَة، فَيكون سَبَب النسْيَان مَا
ذكر من الْمُخَاصمَة، وَيُمكن أَن يحمل على اتِّحَاد
الْقَضِيَّة، وَيكون النسْيَان وَقع مرَّتَيْنِ عَن سببين
فَإِن قلت: لما تقرر أَن الَّذِي ارْتَفع علم تَعْيِينهَا
فِي تِلْكَ السّنة، فَهَل أعلم النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بعد ذَلِك بتعيينها؟ قلت: رُوِيَ عَن ابْن
عُيَيْنَة أَنه أعلم بعد ذَلِك بتعيينها. فَإِن قلت: روى
مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق واهب الْمعَافِرِي أَنه سَأَلَ
زَيْنَب بنت أم سَلمَة: هَل كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يعلم لَيْلَة الْقدر؟ فَقَالَت: لَا، لَو
علمهَا لما قَامَ النَّاس فِي غَيرهَا. قلت: الَّذِي قالته
زَيْنَب إِنَّمَا قالته احْتِمَالا، وَهَذَا لَا يُنَافِي
علمه بذلك.
قَوْله: (وَعَسَى أَن يكون خيرا لكم) ، يُرِيد أَن
الْبَحْث عَنْهَا والطلب لَهَا بِكَثِير من الْعَمَل هُوَ
خير، من هَذِه الْجِهَة، قَالَه ابْن بطال، وَقَالَ ابْن
التِّين: لَعَلَّه يُرِيد أَنه لَو أخْبرهُم بِعَينهَا
لأقلوا من الْعَمَل فِي غَيرهَا وأكثروه فِيهَا، وَإِذا
غيبت عَنْهُم أَكْثرُوا الْعَمَل فِي سَائِر اللَّيَالِي
رَجَاء موافقتها. قَوْله: (فالتمسوها فِي التَّاسِعَة
وَالسَّابِعَة وَالْخَامِسَة) ، يحْتَمل أَن يُرِيد
بالتاسعة: تَاسِع لَيْلَة من الْعشْر الْأَخير، فَتكون
لَيْلَة تسع وَعشْرين، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بهَا: تَاسِع
لَيْلَة تبقى من الشَّهْر، فَيكون ليله إِحْدَى أَو
ثِنْتَيْنِ، بِحَسب تَمام الشَّهْر ونقصانه.
(11/138)
5 - (بابُ الْعَمَلِ فِي العَشرِ
الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاجْتِهَاد فِي الْعَمَل فِي
الْعشْر الْأَوَاخِر من شهر رَمَضَان وَفِيه رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: فِي رَمَضَان.
4202 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عنْ أبِي يَعْفُورٍ عنْ أبِي
الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا قالَتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا
دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وأحْيا لَيْلَهُ
وأيْقَظَ أهْلَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن شدّ المئزر وإحياء
اللَّيْل وإيقاظ الْأَهْل كلهَا من الْعَمَل فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن
عُيَيْنَة. الثَّالِث: أَبُو يَعْفُور، بِفَتْح الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الْفَاء
وبالراء، منصرفا، اسْمه عبد الرَّحْمَن بن عبيد البكائي
العامري. الرَّابِع: أَبُو الضُّحَى، مُسلم بن صبيح مصغر
الصُّبْح. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع. السَّادِس:
عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، ثَلَاثَة فِي نسق
وَاحِد عَن الصحابية، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا يَعْفُور
تَابِعِيّ صَغِير، وَلَهُم أَبُو يَعْفُور آخر اسْمه:
وقدان، تَابِعِيّ كَبِير، ومسروق تَابِعِيّ كَبِير.
وَفِيه: عَن سُفْيَان عَن أبي يَعْفُور، وَفِي رِوَايَة
أَحْمد عَن ابْن عبيد بن نسطاس، وَهُوَ أَبُو يَعْفُور،
لِأَنَّهُ عبد الرَّحْمَن بن عبيد كَمَا ذكرنَا وَعبيد بن
نسطاس. وَفِيه: اثْنَان مذكوران باسمهما من غير نِسْبَة
وَاثْنَانِ مذكوران بالكنى أَحدهمَا: بيعفور، وَهُوَ
الظبي، وَقيل: الخشف. وَالْآخر: بالضحى، وَهُوَ فَوق
الضحوة، وَهُوَ ارْتِفَاع أول النَّهَار. وَفِيه: أَن
شَيْخه بَصرِي وسُفْيَان مكي والبقية كوفيون.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن إبي عمر. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن نصر بن عَليّ وَدَاوُد بن
أُميَّة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الِاعْتِكَاف
عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المقرىء. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الصَّوْم عَن عبد الله بن مُحَمَّد
الزُّهْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا دخل الْعشْر) ، أَي: الْعشْر
الآخر، وَصرح بِهِ فِي حَدِيث عَليّ عِنْد ابْن أبي شيبَة.
قَوْله: (شدّ مِئْزَره) أَي: إزَاره، كَقَوْلِهِم: ملحفة
ولحاف، وَهُوَ كِنَايَة إِمَّا عَن ترك الْجِمَاع،
وَإِمَّا عَن الاستعداد لِلْعِبَادَةِ، وَالِاجْتِهَاد
لَهَا زَائِدا على مَا هُوَ عَادَته، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَأما عَنْهُمَا كليهمَا مَعًا، وَلَا يُنَافِي
إِرَادَة الْحَقِيقَة أَيْضا بِأَن شدّ مِئْزَره ظَاهرا
أَيْضا وَجزم عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ أَن المُرَاد
بِهِ الاعتزال من النِّسَاء، وَاسْتشْهدَ بقول الشَّاعِر:
(قوم إِذا حَاربُوا شدوا مآزرهم ... عَن النساءِ وَلَو
باتت بأطهار)
وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي بكر بن عَيَّاش نَحوه، وَفِي
(التَّلْوِيح) : المئزر والإزار مَا يأتزر بِهِ الرجل من
أَسْفَله، وَهُوَ يذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ كِنَايَة عَن
الْجد والتشمير فِي الْعِبَادَة، وَعَن الثَّوْريّ أَنه من
ألطف الْكِنَايَات عَن اعتزال النِّسَاء، وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: وَقد ذهب بعض أَئِمَّتنَا إِلَى أَنه
عبارَة عَن الِاعْتِكَاف. قَالَ: وَفِيه بعد. لقَوْله:
(أيقظ أَهله) ، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ مَعَهم فِي
الْبَيْت، وَهُوَ كَانَ فِي حَال اعْتِكَافه فِي
الْمَسْجِد، وَمَا كَانَ يخرج مِنْهُ إلاَّ لحَاجَة
الْإِنْسَان، على أَنه يَصح أَن يوقظهن من مَوْضِعه من
بَاب الخوخة الَّتِي كَانَت لَهُ إِلَى بَيته فِي
الْمَسْجِد. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يحْتَمل أَيْضا
أَن يكون قَوْله: (يوقظ أَهله) ، أَي: المعتكفة مَعَه فِي
الْمَسْجِد، وَيحْتَمل أَن يوقظهن إِذا دخل الْبَيْت
لِحَاجَتِهِ. قَوْله: (وَأَحْيَا ليله) ، يَعْنِي
بِاجْتِهَادِهِ فِي الْعشْر الآخر من رَمَضَان، لاحْتِمَال
أَن يكون الشَّهْر إِمَّا تَاما وَإِمَّا نَاقِصا فَإِذا
أحيى ليَالِي الْعشْر كلهَا لم يفته مِنْهَا شفع وَلَا
وتر، وَقيل: لِأَن الْعشْر آخر الْعَمَل فَيَنْبَغِي أَن
يحرص على تجويد الخاتمة، وَنسبَة الْإِحْيَاء إِلَى
اللَّيْل مجَاز، فَإِذا سهر فِيهِ للطاعة فَكَأَنَّهُ
أَحيَاء، لِأَن النّوم أَخُو الْمَوْت. وَمِنْه قَوْله:
(لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبورا) ، أَي: لَا تناموا
فتكونوا كالأموات، فَتكون بُيُوتكُمْ كالقبور. قَالَ
شَيخنَا: وَفِي حَدِيث عَائِشَة فِي (الصَّحِيح) إحْيَاء
اللَّيْل كُله، وَالظَّاهِر وَالله أعلم مُعظم اللَّيْل،
بِدَلِيل قَوْلهَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (مَا عَلمته
قَامَ لَيْلَة حَتَّى الصَّباح) . وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَقَوْلها: (أَحْيَا اللَّيْل) أَي: استغرقه بالسهر فِي
الصَّلَاة وَغَيرهَا، قَالَ: وَفِيه
(11/139)
اسْتِحْبَاب إحْيَاء لياليه بالعبادات. قَالَ: وَأما قَول
أَصْحَابنَا: يكره قيام اللَّيْل، فَمَعْنَاه الدَّوَام
عَلَيْهِ، وَلم يَقُولُوا بِكَرَاهَة لَيْلَة وليلتين
وَالْعشر، وَلِهَذَا، اتَّفقُوا على اسْتِحْبَاب إحْيَاء
لَيْلَتي الْعِيد وَغير ذَلِك. قَوْله: (وَأَيْقَظَ أَهله)
أَي: للصَّلَاة وَالْعِبَادَة، وروى التِّرْمِذِيّ من
حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يوقظ أَهله فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر من رَمَضَان) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن
صَحِيح، وروى أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يجْتَهد فِي الْعشْر الْأَوَاخِر مَا لَا
يجْتَهد فِي غَيرهَا) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح،
وروى مُحَمَّد بن نصر من حَدِيث زَيْنَب بنت سَلمَة: (لم
يكن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا بَقِي من
رَمَضَان عشرَة أَيَّام يدع أحدا من أَهله يُطيق الْقيام
إلاَّ أَقَامَهُ. |