عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 79 - (بابُ بَيْعِ الأرْضِ والدُّورِ
والعُرُوضِ مُشاعا غَيْرَ مَقْسُومٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الأَرْض ... إِلَى
آخِره. قَوْله: (الدؤر) بِالْهَمْز وَالْوَاو كليهمَا
بِالْوَاو فَقَط جمع دَار، وَالْعرُوض بالضاد الْمُعْجَمَة
جمع عرض بِالْفَتْح، وَهُوَ الْمَتَاع. قَوْله: (مشَاعا) ،
نصب على الْحَال، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: مشاعة،
لَكِن لما صَار: الْمشَاع كالاسم، وَقطع النّظر فِيهِ عَن
الوصفية جَازَ تذكيره أَن يكون بِاعْتِبَار الْمَذْكُور
أَو بِاعْتِبَار كل وَاحِد.
4122 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ مَحْبُوب قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ
عنْ أبِي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرِ بنِ
عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَضَي
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ
مالٍ لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ
الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: كل مَا لَا يقسم، وَقد
ذكرنَا أَن هَذَا اللَّفْظ عَام، وَأُرِيد بِهِ الْخَاص
فِي الْعقار، والبحث فِيهِ قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق
من أَن الشُّفْعَة فِي الْأَرْضين والدور خَاصَّة. وَأما
بيع الْعرُوض مشَاعا فَأكْثر الْعلمَاء أَنه: لَا شُفْعَة
فِيهَا، كَمَا مر، وَإِنَّمَا ذكر الْعرُوض فِي
التَّرْجَمَة وَلَيْسَ لَهَا ذكر فِي الحَدِيث تَنْبِيها
على الْخلاف فِيهِ على الْإِجْمَال، فَيُوقف عَلَيْهِ من
الْخَارِج.
وَرِجَال الحَدِيث كلهم قد مروا، فمحمد بن مَحْبُوب ضد
المبغوض قد مر فِي الْغسْل، وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد قد
مر فِي بَاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم} (الْإِسْرَاء:
58) . وَقَالَ الْخطابِيّ هُنَا: معنى الشَّفَقَة نفي
الضَّرَر، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق مَعَ الشّركَة وَلَا ضَرَر
على الْجَار، فَلَا وَجه لنزع ملك الْمُبْتَاع مِنْهُ بعد
استقراره. انْتهى. قلت: هَذَا مدافعة للأحاديث الصَّحِيحَة
الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَة للْجَار، وَقد ذَكرنَاهَا عَن
قريب. قَوْله: (وَلَا ضَرَر على الْجَار) مَمْنُوع
لاحْتِمَال أَن يكون المُشْتَرِي من شرار النَّاس، أَو
مِمَّن يشْتَغل بِالْمَعَاصِي فيتضرر بِهِ الْجَار، وَلَا
ضَرَر أعظم من هَذَا لاستمراره لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَقَوله: بعد استقراره، غير صَحِيح، لِأَن حق الْغَيْر
فِيهِ، فَكيف يُقَال إِنَّه مُسْتَقر وَهَذِه كلهَا معاندة
ومكابرة.
751 - ح دَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ
بِهَذَا وَقَالَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث عَن شَيْخه
أَحدهمَا مُحَمَّد بن مَحْبُوب عَن عبد الْوَاحِد،
وَالْآخر عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد، وَأَشَارَ بِهِ
أَيْضا إِلَى اخْتِلَاف كل فِي قَوْله فِي كل مَا لم يقسم،
فَإِن فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن مَحْبُوب: فِي كل مَا لم
يقسم، وَفِي رِوَايَة مُسَدّد. وَفِي كل مَال لم يقسم.
قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بِهَذَا الحَدِيث، الْمَذْكُور.
تابَعَهُ هِشَامٌ عنْ مَعْمَرٍ
أَي: تَابع عبد الْوَاحِد هِشَام بن يُوسُف الْيَمَانِيّ
فِي رِوَايَته: فِي كل مَال لم يقسم، وَهَذِه المتابة
وَصلهَا البُخَارِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي ترك
الْحِيَل.
قَالَ عبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كُلِّ مالٍ رَواهُ عَبْدُ
الرَّحْمانِ بنُ إسْحَاقَ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: قَالَ عبد الرَّزَّاق فِي رِوَايَته عَن معمر: فِي كل
مَال، وَكَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق الْقرشِي،
قَالَ أَبُو دَاوُد: إِنَّه قدري ثِقَة. قَوْله: (عَن
الزُّهْرِيّ) ، أَي: رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ، وَطَرِيق عبد الرَّزَّاق وَصله البُخَارِيّ
فِي الْبَاب السَّابِق، وَطَرِيق عبد الرَّحْمَن بن
إِسْحَاق وَصله مُسَدّد فِي (مُسْنده) عَن بشر بن الْمفضل
عَنهُ، وَوَقع عِنْد السَّرخسِيّ فِي رِوَايَة عبد
الرَّزَّاق وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد فِي
الْمَوْضِعَيْنِ: فِي كل مَال، وللباقين: فِي كل مَا لم
يقسم، فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد، و: كل مَال، فِي
رِوَايَة عبد الرَّزَّاق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا
الْفرق بَين هَذِه الأساليب الثَّلَاثَة؟ قلت:
الْمُتَابَعَة هِيَ أَن يروي الرَّاوِي الآخر الحَدِيث
بِعَيْنِه، وَالرِّوَايَة أَعم مِنْهَا، وَالْقَوْل
إِنَّمَا يسْتَعْمل عِنْد السماع على سَبِيل المذاكرة.
انْتهى. قلت: هَذِه فَائِدَة جليلة وَأَرَادَ بالأساليب
الثَّلَاثَة قَوْله: تَابعه، وَقَوله: قَالَ عبد
الرَّزَّاق، وَقَوله: رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن.
(12/22)
89 - (بابٌ إذَا اشْتَرَى شَيْئا
لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَرَضِيَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اشْترى أحد شَيْئا لأجل
غَيره بِغَيْر إِذن مِنْهُ، يَعْنِي بطرِيق الفضول،
وَأَشَارَ بِهِ البُخَارِيّ إِلَى بيع الْفُضُولِيّ،
وَكَأَنَّهُ مَال إِلَى جَوَاز بيع الْفُضُولِيّ، فَلذَلِك
عقد هَذِه التَّرْجَمَة. قَوْله: (فَرضِي) أَي: فَرضِي
ذَلِك الْغَيْر بذلك الشِّرَاء بعد وُقُوعه بِغَيْر إِذن
مِنْهُ.
5122 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْراهيم حدَّثنا أَبُو
عاصِمٍ أخبرَنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرَني مُوسى ابنُ
عُقْبةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
خَرَجَ ثَلاثَةٌ يَمْشُونَ فأصَابَهُمُ المَطَرُ فدَخَلُوا
فِي غارٍ فِي جَبَلً فانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ
فَقَالَ بعضُهُمْ لِبَعْضٍ ادْعُوا الله بِأفْضَلِ عَمَلٍ
عَمِلْتُمُوهُ فَقَالَ أحدُهُمْ اللَّهُمَّ إنِّي كانَ لِي
أبَوَانِ شَيْخَانِ كبِيرانِ فكُنْتُ أخْرُجُ فأرْعَى
ثُمَّ أجيءُ فأحْلُبُ فأجِيءُ بالحِلاَبِ فآتِي بِهِ
أبَوَي فيَشْرَبانِ ثُمَّ أسْقِي الصِّبْيَةَ وأهْلِي
وامْرَأتِي فاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً فَجِئْتُ فإذَا هُمَا
نائِمان قَالَ فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا والصِّبْيَةُ
يتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ فلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأبِي
ودَأبَهُمَا حَتَّى طلَعَ الفَجْرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ
فافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَراى مِنْهَا السَّماءَ قَالَ
فَفُرِجَ عَنْهُمْ وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأةً منْ بناتِ عَمِّي
كأشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّساءَ فقالَتْ لَا
تَنالُ ذَلِكَ مِنْها حَتَّى تُعْطِيهَا مائَةَ دِينارٍ
فسَعَيْتُ فِيها حتَّى جَمعْتُها فلَمَّا قَعدْتُ بَيْنَ
رِجْلَيْهَا قالَتِ اتَّقِ الله ولاَ تَفُض الخَاتَمَ
إلاَّ بِحَقِّهِ فقُمْتُ وتَرَكْتُهَا فإنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ
فافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً قَالَ ففَرَجَ عَنْهُمُ
الثُّلْثَيْنِ وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أنِّي اسْتَأجَرْتُ أجِيرا بِفَرَقٍ مِنْ ذرَّةٍ
فأعطيته وأبى ذَاك أنْ يأخُذَ فَعَمَدْتُ إِلَى ذالِكَ
الْفَرْقِ فزَرَعْتُهُ حتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرا
وراعِيهَا ثُمَّ جاءَ فَقال يَا عَبْدَ الله أعْطِنِي
حَقِّي فَقُلْتُ انْطَلِقْ إلاى تِلْكَ الْبَقَرِ وراعِيها
فإنَّها لَكَ فقالَ أتَسْتَهْزِىءُ بِي فقُلْتُ مَا
أسْتَهْزِيءُ بِكَ ولاكِنَّها لَكَ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ
فافْرُجْ عَنَّا فَكُشِفَ عَنْهُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى اشْتريت مِنْهُ
بقرًا) فَإِنَّهُ اشْترى شَيْئا لغيره بِغَيْر إِذْنه،
ثمَّ لما جَاءَ الْأَجِير الْمَذْكُور وَأخْبرهُ الرجل
بذلك فَرضِي وَأَخذه.
وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي، وَأَبُو
عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك
ابْن عبد الْعَزِيز، ومُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش
الْأَسدي الْمَدِينِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن
إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض. وَأخرجه
مُسلم فِي التَّوْبَة عَن الْمسَيبِي عَن أنس بن عِيَاض
وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن
أبي عَاصِم بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّقَائِق
عَن يُوسُف بن سعيد عَن حجاج عَن ابْن جريج بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج ثَلَاثَة) أَي: ثَلَاثَة من
النَّاس، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: بَيْنَمَا ثَلَاثَة
نفر يَمْشُونَ. وَقَوله: (يَمْشُونَ) حَال وَمحله النصب.
قَوْله: (أَصَابَهُم الْمَطَر) بِالْفَاءِ، عطف على: خرج
ثَلَاثَة، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: أَصَابَهُم،
بِدُونِ الْفَاء لِأَنَّهُ خبر بَيْنَمَا. قَوْله:
(فَدَخَلُوا فِي غَار) ، فِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فأووا
إِلَى غَار، بقصر الْهمزَة، وَيجوز مدها أَي: انضموا إِلَى
الْغَار وجعلوه
(12/23)
لَهُم مأوى. قَوْله: (فِي جبل) أَي: فِي
غَار كَائِن فِي جبل. قَوْله: (فانحطت عَلَيْهِم صَخْرَة)
، أَي: على بَاب غارهم، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة:
فانحطت على فَم الْغَار صَخْرَة من الْجَبَل. قَوْله:
(قَالَ) ، أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
(فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أدعوا الله بِأَفْضَل عمل عملتموه)
وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقَالَ بَعضهم لبَعض:
انْظُرُوا أعمالاً عملتموها صَالِحَة لله تَعَالَى فَادعوا
الله بهَا، لَعَلَّه يفرجها عَنْكُم. قَالَ أحدهم: أَي أحد
الثَّلَاثَة، وَهَهُنَا: فَقَالَ، بِالْفَاءِ. قَوْله:
(أللهم) . إعلم أَن لفظ: اللَّهُمَّ، يسْتَعْمل فِي كَلَام
الْعَرَب على ثَلَاثَة أنحاء: أَحدهَا: للنداء الْمَحْض
وَهُوَ ظَاهر. وَالثَّانِي: للإيذان بنذرة الْمُسْتَثْنى
كَقَوْلِك بعد كَلَام: أللهم، إلاَّ إِذا كَانَ كَذَا.
وَالثَّالِث: ليدل على تَيَقّن الْمُجيب فِي الْجَواب
المقترن هُوَ بِهِ، كَقَوْلِك لمن قَالَ: أَزِيد قَائِم
أللهم نعم أَو أللهم لَا، كَأَنَّهُ يُنَادِيه تَعَالَى
مستشهدا على مَا قَالَ من الْجَواب. وأللهم هَذَا هُنَا من
هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (إِنِّي كَانَ لي أَبَوَانِ
شَيْخَانِ كبيران) . قَوْله: أَبَوَانِ، من بَاب التغليب
لِأَن الْمَقْصُود الْأَب وَالأُم، وَفِي رِوَايَة
الْمُزَارعَة: أللهم إِنَّه كَانَ لي والدان شَيْخَانِ
كبيران ولي صبية صغَار وَكنت أرعى عَلَيْهِم، وَفِي
رِوَايَة هَذَا الْبَاب: وَكنت أخرج فأرعى، يَعْنِي: كنت
أخرج إِلَى المرعى فأرعى، أَي: إبلي. قَوْله: (ثمَّ أجيء)
أَي: من المرعى (فأحلب) أَي: الَّتِي يحلب مِنْهَا، وَفِي
رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَإِذا رحت عَلَيْهِم حلبت.
قَوْله: (فأجيء بالحلاب) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف اللَّام: وَهُوَ الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ،
وَيُرَاد بِهِ هَهُنَا اللَّبن المحلوب فِيهِ. قَوْله:
(فَآتي بِهِ) أَي: بالحلاب. قَوْله: (أَبَوي) ، من بَاب
التغليب، كَمَا ذكرنَا عَن قريب، وَأَصله: أَبَوَانِ لي،
فَلَمَّا أضيف إِلَيّ يَاء الْمُتَكَلّم وَسَقَطت النُّون
وانتصب على المفعولية قلبت ألف التَّثْنِيَة ياءٍ وأدغمت
الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (فيشربان) مَعْطُوف على
مَحْذُوف تَقْدِيره: فأناولهما إِيَّاه فيشربان. قَوْله:
(وأسقي الصبية) ، بِكَسْر الصَّاد: جمع صبي وَكَذَلِكَ
الصبوة، والواوو الْقيَاس وَالْيَاء أَكثر اسْتِعْمَالا.
وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَبَدَأت بوالدي أسقيهما قبل
بني، أَي: قبل أَن أَسْقِي بني، وَأَصله بنُون لي،
فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم وَسَقَطت النُّون
وقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، فَصَارَ:
بني، بِضَم النُّون، وأبدلت الضمة كسرة لأجل الْيَاء
فَصَارَ: بني، قَوْله: (وَأَهلي) ، المُرَاد بالأهل
هَهُنَا الأقرباء نَحْو: الْأَخ وَالْأُخْت، حَتَّى لَا
يكون عطف امْرَأَتي على أَهلِي عطف الشَّيْء على نَفسه.
قَوْله: (فاحتبست لَيْلَة) أَي: تَأَخَّرت لَيْلَة من
اللَّيَالِي بِسَبَب أَمر عرض لي، وَفِي بَاب
الْمُزَارعَة: وَإِنِّي استأخرت ذَات يَوْم فَلم آتٍ
حَتَّى أمسيت. قَوْله: (استأخرت) بِمَعْنى تَأَخَّرت،
يُقَال: تَأَخّر واستأخر بِمَعْنى، وَلَيْسَ السِّين فِيهِ
للطلب. قَوْله: (ذَات يَوْم) الْإِضَافَة فِيهِ من قبيل
إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى الإسم أَي: قِطْعَة من زمَان
هَذَا الْيَوْم أَي: من صَاحِبَة هَذَا الإسم. قَوْله:
(فَإِذا هما نائمان) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَقد ذكر غير
مرّة أَنَّهَا تُضَاف إِلَى جملَة، فَقَوله: هما، مُبْتَدأ
و: نائمان، خَبره. وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فوجدتهما
نَامَا فحلبت كَمَا كنت أحلب. قَوْله: (فَكرِهت أَن
أوقظهما) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقُمْت عِنْد
رؤوسهما أكره أَن أوقظهما وأكره أَن أَسْقِي الصبية.
قَوْله: (والصبية يتضاغون) ، أَي: يصيحون، وَهُوَ من بَاب
التفاعل من: الضغاء، بالمعجمتين وَهُوَ: الصياح بالبكاء،
وَيُقَال: ضغا الثَّعْلَب ضغاء أَي: صَاح، وَكَذَلِكَ
السنور، وَيُقَال: ضغا يضغو ضغوا وضغاء: إِذا صَاح وضج.
قَوْله: (عِنْد رجْلي) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة:
يتضاغون عِنْد قدمي حَتَّى طلع الْفجْر. قَوْله: (فَلم يزل
ذَلِك دأبي ودأبهما) ، الدأب الْعَادة والشأن، وَقَالَ
الْفراء: أَصله من دأبت، إلاَّ أَن الْعَرَب حولت
مَعْنَاهُ إِلَى الشَّأْن. قَوْله: (أللهم إِن كنت تعلم
أَنِّي فعلت ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَإِن
كنت تعلم أَنِّي فعلته، وَلَيْسَ فِيهِ لَفْظَة: أللهم.
قَوْله: (ابْتِغَاء وَجهك) ، أَي: طلبا لمرضاتك،
وَالْمرَاد بِالْوَجْهِ الذَّات، وانتصاب ابْتِغَاء على
أَنه مفعول لَهُ، أَي: لأجل ابْتِغَاء وَجهك. قَوْله:
(فأفرجْ عَنَّا) أَمر من: فرج يفرج، من بَاب: نصر ينصر،
وَقَالَ ابْن التِّين: هُوَ بِضَم الرَّاء فِي أَكثر
الْأُمَّهَات. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِنَّه بِكَسْرِهَا،
وَهُوَ دُعَاء فِي صُورَة الْأَمر، وَفِي رِوَايَة
الْمُزَارعَة: فأفرج لنا. قَوْله: (فُرْجَة) ، بِضَم
الْفَاء وَفتحهَا، والفرجة فِي الْحَائِط كالشق، والفرجة
انفراج الكروب، وَقَالَ النّحاس: الفرجة بِالْفَتْح فِي
الْأَمر، والفرجة بِالضَّمِّ فِيمَا يُرى من الْحَائِط
وَنَحْوه، قلت: الفرجة هُنَا بِالضَّمِّ قطعا على مَا لَا
يخفى. قَوْله: (فَفرج عَنْهُم) أَي: فرج بِقدر مَا
دَعَاهُ، وَهِي الَّتِي بهَا ترى السَّمَاء، وَفِي
رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَفرج الله لَهُم فَرَأَوْا
السَّمَاء. قَوْله: (وَقَالَ الآخر: أللهم إِن كنت تعلم
أَنِّي كنت أحب أمْرَأَة من بَنَات عمي كأشد مَا يحب الرجل
النِّسَاء) وَفِي كتاب الْمُزَارعَة: أللهم إِنَّهَا
كَانَت لي بنت عَم أحببتها كأشد مَا يحب الرِّجَال
النِّسَاء. قَوْله: (كأشد) الْكَاف
(12/24)
زَائِدَة أَو أَرَادَ تَشْبِيه محبته بأشد
المحبات. قَوْله: (فَقَالَت: لَا تنَال ذَلِك مِنْهَا)
أَي: قَالَت بنت عَمه: لَا تنَال مرادك مِنْهَا حَتَّى
تعطيها مائَة دِينَار، وَفِيه الْتِفَات لِأَن مُقْتَضى
الْكَلَام: لَا تنَال مني حَتَّى تُعْطِينِي، وَفِي بَاب
الْمُزَارعَة: فطلبت مِنْهَا فَأَبت حَتَّى أتيتها
بِمِائَة دِينَار أَي: طلبت من بنت عمي فامتنعت، وَقَالَت:
حَتَّى تُعْطِينِي مائَة دِينَار، فجمعتها حَتَّى أتيتها
بِمِائَة دِينَار الَّتِي طلبتها. قَوْله: (فسعيت فِيهَا)
أَي: فِي مائَة دِينَار (حَتَّى جمعتها) وَفِي رِوَايَة
الْمُزَارعَة: فبغيت حَتَّى جمعتها، أَي: فطلبت، من
الْبَغي وَهُوَ الطّلب هَكَذَا فِي رِوَايَة السجري، وَفِي
رِوَايَة العذري والسمرقندي وَابْن ماهان، فَبعثت حَتَّى
جمعتها. وَفِي (الْمطَالع) : وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف،
بالغين الْمُعْجَمَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف دون
الثَّانِي، وَهُوَ بِالْعينِ الْمُهْملَة والثاء
الْمُثَلَّثَة. قَوْله: (فَلَمَّا قعدت بَين رِجْلَيْهَا)
وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَلَمَّا وَقعت بَين
رِجْلَيْهَا. قَوْله: (قَالَت: إتق الله) ، وَفِي رِوَايَة
الْمُزَارعَة: قَالَت: يَا عبد الله إتق الله، أَي: خف
الله وَلَا ترتكب الْحَرَام. قَوْله: (وَلَا تقض الْخَاتم
إلاَّ بِحقِّهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: وَلَا
تفتح الْخَاتم إلاَّ بِحقِّهِ، و: لَا تفض، بِفَتْح
الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسرهَا، و: الْخَاتم، بِفَتْح
التَّاء وَكسرهَا، وَهُوَ كِنَايَة عَن بَكَارَتهَا.
قَوْله: (إلاَّ بِحقِّهِ) أَي: إلاَّ بِالنِّكَاحِ، أَي:
لَا تُزِلِ البكارةَ إلاَّ بحلال. قَوْله: (فَقُمْت) أَي:
من بَين رِجْلَيْهَا وتركتها، يَعْنِي لم أفعل بهَا
شَيْئا، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: وتركتها.
قَوْله: (فَفرج عَنْهُم الثُّلثَيْنِ) أَي: فَفرج الله
عَنْهُم ثُلثي الْموضع الَّذِي عَلَيْهِ الصَّخْرَة،
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُزَارعَة إلاَّ قَوْله: فَفرج،
لَيْسَ إلاَّ قَوْله: (أللهم إِن كنت تعلم أَنِّي
اسْتَأْجَرت أَجِيرا بفرق من ذرة) وَفِي الْمُزَارعَة:
أللهم إِنِّي اسْتَأْجَرت أَجِيرا بفرق أرز، الْفرق،
بِفَتْح الرَّاء وسكونها: مكيال يسع ثَلَاثَة آصَع.
وَقَالَ ابْن قرقول: روينَاهُ بالإسكان وَالْفَتْح عَن
أَكثر شُيُوخنَا، وَالْفَتْح أَكثر. قَالَ الْبَاجِيّ:
وَهُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا قيدناه عَن أهل اللُّغَة، وَلَا
يُقَال: فرق بالإسكان، وَلَكِن فرق بِالْفَتْح، وَكَذَا
حكى النّحاس، وَذكر ابْن دُرَيْد أَنه قد قيل بالإسكان.
قَوْله: (ذرة) 7 بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء
الْخَفِيفَة، وَهُوَ حب مَعْرُوف، وَأَصله ذرو أَو ذري،
وَالْهَاء عوض. و: الْأرز، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الرَّاء
وَتَشْديد الزَّاي، وَهُوَ مَعْرُوف، وَفِيه سِتّ لُغَات:
أرز وأرز فتتبع الضمة الضمة، و: ارز وارز مثل: رسل ورسل،
ورز ورنز، وَهُوَ لُغَة عبد الْقَيْس. قَوْله: (فأعطيته
وأبى ذَاك أَن يَأْخُذ) ، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة:
فَلَمَّا قضى عمله قَالَ: أَعْطِنِي حَقي، فعرضت عَلَيْهِ
فَرغب عَنهُ. قَوْله: (أَعْطيته) أَي: أَعْطَيْت الْفرق من
ذرة، (وأبى) أَي: امْتنع. قَوْله: (ذَاك) ، أَي: الْأَجِير
الْمَذْكُور. قَوْله: (أَن يَأْخُذ) ، كلمة: أَن،
مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: أَبى من الْأَخْذ، وَهُوَ معنى
قَوْله: فَرغب عَنهُ، أَي: أعرض عَنهُ فَلم يَأْخُذهُ.
قَوْله: (فعمدت) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: قصدت، يُقَال:
عَمَدت إِلَيْهِ وعمدت لَهُ أعمد عمدا أَي: قصدت. قَوْله:
(فزرعته) أَي: الْفرق الْمَذْكُور (حَتَّى اشْتريت مِنْهُ
بقرًا وراعيها) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فرغت عَنهُ
فَلم أزل أزرعه حَتَّى جمعت مِنْهُ بقرًا وراعيها، ويروى:
ورعاتها بِضَم الرَّاء جمع راعي. قَوْله: (ثمَّ جَاءَ)
أَي: الْأَجِير الْمَذْكُور، (فَقَالَ: يَا عبد الله
أَعْطِنِي حَقي) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَجَاءَنِي
فَقَالَ اتَّقِ الله قَوْله: (فَقلت انْطلق إِلَى تِلْكَ
الْبَقر وراعيها فَإِنَّهَا لَك) . وَفِي رِوَايَة
الْمُزَارعَة: فَقلت: إذهب إِلَى ذَلِك الْبَقر ورعاتها
فَخذ، ويروى: إِلَى تِلْكَ الْبَقر. قَوْله: (فَقَالَ
أتستهزىء بِي؟) من اسْتَهْزَأَ بفلان: إِذا سخر مِنْهُ،
وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة، فَقَالَ: اتَّقِ الله وَلَا
تستهزىء بِي. قَوْله: (فَقلت: مَا استهزىء بك وَلكنهَا
لَك) وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: فَقَالَ: إِنِّي لَا
استهزىء بك فَخذه، فَأَخذه. ويروى: فَقلت إِنِّي ... إِلَى
آخِره. قَوْله: (فافرج عَنَّا، فكشف عَنْهُم) أَي: فكشف
بَاب المغارة، وَفِي رِوَايَة المز ارعة، فافرج مَا بَقِي،
فَفرج أَي فَفرج الله مَا بَقِي من بَاب المغارة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْإِخْبَار عَن
مُتَقَدِّمي الْأُمَم وَذكر أَعْمَالهم لترغيب أمته فِي
مثلهَا، وَلم يكن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَكَلَّم
بِشَيْء إلاَّ لفائدة، وَإِذا كَانَ مزاحه كَذَلِك فَمَا
ظَنك بأخباره؟ وَفِيه: جَوَاز بيع الْإِنْسَان مَال غَيره
بطرِيق الفضول، وَالتَّصَرُّف فِيهِ بِغَيْر إِذن مَالِكه
إِذا أجَازه الْمَالِك بعد ذَلِك، وَلِهَذَا عقد
البُخَارِيّ التَّرْجَمَة، وَقَالَ بَعضهم: طَرِيق
الِاسْتِدْلَال بِهِ يبتنى على أَن شرع من قبلنَا شرع لنا،
وَالْجُمْهُور على خِلَافه. انْتهى. قلت: شرع من قبلنَا
يلْزمنَا مَا لم يقص الشَّارِع الْإِنْكَار عَلَيْهِ،
وَهنا طَرِيق آخر فِي الْجَوَاز، وَهُوَ: أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ذكر هَذِه الْقِصَّة فِي معرض الْمَدْح
وَالثنَاء على فاعلها، وَأقرهُ على ذَلِك، وَلَو كَانَ لَا
يجوز لبينه. وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه: دَلِيل على صِحَة
قَول ابْن الْقَاسِم: إِذا أودع رجل رجلا طَعَاما
فَبَاعَهُ الْمُودع بِثمن: فَرضِي الْمُودع بِهِ، فَلهُ
الْخِيَار إِن شَاءَ أَخذ الثّمن الَّذِي بَاعه بِهِ،
وَإِن شَاءَ أَخذ مثل طَعَامه، وَمنع أَشهب. قَالَ:
لِأَنَّهُ طَعَام بِطَعَام فِيهِ
(12/25)
خِيَار. وَفِيه: الِاسْتِدْلَال لأبي ثَوْر
فِي قَوْله: إِن من غصب قمحا فزرعه إِن كل مَا أخرجت
الأَرْض من الْقَمْح فَهُوَ لصَاحب الْحِنْطَة. وَقَالَ
الْخطابِيّ: اسْتدلَّ بِهِ أَحْمد على أَن الْمُسْتَوْدع
إِذا أتجر فِي مَال الْوَدِيعَة وَربح أَن الرِّبْح
إِنَّمَا يكون لرب المَال، قَالَ: وَهَذَا لَا يدل على مَا
قَالَ، وَذَلِكَ أَن صَاحب الْفرق إِنَّمَا تبرع
بِفِعْلِهِ وتقرب بِهِ إِلَى الله، عز وَجل، وَقد قَالَ:
إِنَّه اشْترى بقرًا وَهُوَ تصرف مِنْهُ فِي أَمر لم
يُوكله بِهِ، فَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ ربحا، وَالْأَشْبَه
بِمَعْنَاهُ أَنه قد تصدق بِهَذَا المَال على الْأَجِير
بعد أَن أتجر فِيهِ، وأنماه، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر
الْفُقَهَاء فِي الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر بِمَال
الْوَدِيعَة وَالْمُضَارب إِذا خَالف رب المَال فربحا أَنه
لَيْسَ لصَاحب المَال من الرِّبْح شَيْء، وَعند أبي
حنيفَة: الْمضَارب ضَامِن لرأس المَال وَالرِّبْح لَهُ
وَيتَصَدَّق بِهِ، والوضيعة عَلَيْهِ. وَقَالَ
الشَّافِعِي: إِن كَانَ اشْترى السّلْعَة بِعَين المَال
فَالْبيع بَاطِل، وَإِن كَانَ بِغَيْر عينه فالسلعة ملك
المُشْتَرِي وَهُوَ ضَامِن لِلْمَالِ. وَقَالَ ابْن بطال:
وَأما من أتجر فِي مَال غَيره؟ فَقَالَت طَائِفَة: يطيب
لَهُ الرِّبْح إِذا رد رَأس المَال إِلَى صَاحبه، سَوَاء
كَانَ غَاصبا لِلْمَالِ أَو كَانَ وَدِيعَة عِنْده
مُتَعَدِّيا فِيهِ، هَذَا قَول عَطاء وَمَالك وَاللَّيْث
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف، وَاسْتحبَّ
مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ تنزهه عَنهُ،
وَيتَصَدَّق بِهِ. وَقَالَت طَائِفَة: يرد المَال
وَيتَصَدَّق بِالرِّبْحِ كُله، وَلَا يطيب لَهُ مِنْهُ
شَيْء، هَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَزفر.
وَقَالَت طَائِفَة: الرِّبْح لرب المَال وَهُوَ ضَامِن لما
تعدى فِيهِ، هَذَا قَول ابْن عمر وَأبي قلَابَة، وَبِه
قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ ابْن بطال: وإصح هَذِه
الْأَقْوَال قَول من قَالَ: إِن الرِّبْح للْغَاصِب
والمتعدي وَالله أعلم. وَفِيه: إِثْبَات كرامات
الْأَوْلِيَاء وَالصَّالِحِينَ. وَفِيه: فضل الْوَالِدين
وَوُجُوب النَّفَقَة عَلَيْهِمَا، وعَلى الْأَوْلَاد
والأهل، قَالَ الْكرْمَانِي: نَفَقَة الْفُرُوع
مُتَقَدّمَة على الْأُصُول فَلم تَركهم جائعين؟ قلت:
لَعَلَّ فِي دينهم نَفَقَة الأَصْل مُقَدّمَة، أَو كَانُوا
يطْلبُونَ الزَّائِد على سد الرمق، والصياح لم يكن من
الْجُوع، قلت: قَوْله: والصياح لم يكن من الْجُوع، فِيهِ
نظر لَا يخفى. وَفِيه: أَنه يسْتَحبّ الدُّعَاء فِي حَال
الكرب والتسل بِصَالح الْعَمَل إِلَى الله تَعَالَى، كَمَا
فِي الاسْتِسْقَاء. وَفِيه: فضل بر الْوَالِدين وَفضل
خدمتهما وإيثارهما على من سواهُمَا من الْأَوْلَاد
وَالزَّوْجَة. وَفِيه: فضل العفاف والانكفاف عَن
الْمُحرمَات بعد الْقُدْرَة عَلَيْهَا. وَفِيه: جَوَاز
الْإِجَارَة بِالطَّعَامِ. وَفِيه: فَضِيلَة أَدَاء
الْأَمَانَة. وَفِيه: قبُول التَّوْبَة، وَأَن من صلح
فِيمَا بَقِي، غفر لَهُ، وَأَن من هم بسيئة فَتَركهَا
ابْتِغَاء وَجهه كتب لَهُ أجرهَا. {وَلمن خَافَ مقَام ربه
جنتان} (الرَّحْمَن: 64) . وَفِيه: سُؤال الرب جلّ جَلَاله
بإنجاز وعده، قَالَ تَعَالَى: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ
مخرجا} (الطَّلَاق: 2) . وَقَالَ: {وَمن يتق الله يَجْعَل
لَهُ من أمره يسرا} (الطَّلَاق: 4) .
99 - (بابُ الشِّرَاءِ والبَيْعِ مَعَ المُشْرِكِينَ
وأهْلِ الحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ
الْمُشْركين. قَوْله: (وَأهل الْحَرْب) ، من عطف الْخَاص
على الْعَام، وَفِي بعض النّسخ: أهل الْحَرْب، بِدُونِ:
الْوَاو، فعلى هَذَا يكون: أهل الْحَرْب، صفة:
للْمُشْرِكين.
6122 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدثنَا
مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي عُثْمَانَ
عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ جاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعانٌ
طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُها فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَيْعا أمْ عَطِيَّةً أوْ قَالَ أمْ هِبَةً
قَالَ لاَ بَلْ بَيْعٌ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاة.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَاشْترى مِنْهُ شَاة)
، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي،
ومعتمر بن سُلَيْمَان بن طرخان، وَأَبُو عُثْمَان عبد
الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن أبي
النُّعْمَان أَيْضا. وَأخرجه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُوسَى
بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن عبيد
الله بن معَاذ وحامد بن عَمْرو وَمُحَمّد بن عبد
الْأَعْلَى ثَلَاثَتهمْ عَن مُعْتَمر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مشعان) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة وَبعدهَا عين مُهْملَة وَبعد الْألف
نون مُشَدّدَة: أَي
(12/26)
طَوِيل جدا فَوق الطول، وَعَن
الْأَصْمَعِي: شعر مشعان، بتَشْديد النُّون: متنفش،
وإشعانّ الشّعْر اشعينانا: كاحمارّ احميرارا، وَفِي
(التَّهْذِيب) : تَقول الْعَرَب: رَأَيْت فلَانا مشعانَّ
الرَّأْس إِذا رَأَيْته شعثا متنفش الرَّأْس مغبرا، وروى
عَمْرو عَن أَبِيه: أشعن الرجل إِذا نامى عدوه، فاشعان
شعره. قَوْله: (بيعا؟) ، مَنْصُوب على المصدرية أَي: اتبيع
بيعا. قيل: وَيجوز الرّفْع أَي: أَهَذا بيع؟ قَوْله: (أم
عَطِيَّة) ، بِالنّصب عطف على: بيعا. قَوْله: (أَو قَالَ)
شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ الرجل:
لَيْسَ عَطِيَّة، أَو: لَيْسَ هبة (بل بيع) أَي: بل هُوَ
بيع، وَأطلق البيع عَلَيْهِ بِاعْتِبَار مَا يؤول
إِلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز بيع الْكَافِر
وَإِثْبَات ملكه على مَا فِي يَده، وَقَالَ الْخطابِيّ فِي
قَوْله: أم هبة؟ دَلِيل على قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشرك
لَو وهب. فَإِن قلت: قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لعياض بن حمَار حِين أهْدى لَهُ فِي شركه: إِنَّا لَا نقبل
زبد الْمُشْركين، يُرِيد عطاهم. قلت: قَالَ أَبُو
سُلَيْمَان: يشبه أَن يكون ذَلِك مَنْسُوخا، لِأَنَّهُ قبل
هَدْيه غير وَاحِد من أهل الشّرك، أهْدى لَهُ الْمُقَوْقس
وأكيدر دومة. قَالَ: إلاَّ أَن يزْعم زاعم أَن بَين
هَدَايَا أهل الشّرك وهدايا أهل الْكتاب فرقا. انْتهى.
قلت: فِيهِ نظر فِي مَوَاضِع.
الأول: أَن الزَّعْم بِالْفرقِ الْمَذْكُور يردهُ قَول عبد
الرَّحْمَن فِي نفس هَذَا الحَدِيث: إِن هَذَا الرجل كَانَ
مُشْركًا، وَقد قَالَ لَهُ: أبيع أم هَدِيَّة؟
الثَّانِي: هَدِيَّة أكيدر كَانَت قبل إِسْلَام عبد
الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
رَاوِي هَذَا الحَدِيث، لِأَن إِسْلَامه كَانَ فِي هدنة
الْحُدَيْبِيَة، وَذَلِكَ فِي سنة سبع، وهدنة أكيدر كَانَت
بعد وَفَاة سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
الَّذِي قَالَ فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما عجب
النَّاس من هَدِيَّة أكيدر: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ،
لمناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة أحسن من هَذِه، وَسعد
توفّي بعد غَزْوَة بني قُرَيْظَة سنة أَربع فِي قَول
عقبَة، وَعند إِبْنِ إِسْحَاق: سنة خمس، وأيّا مَا كَانَ
فَهُوَ قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن، وبَعْثُ حَاطِب بن
أبي بلتعة إِلَى الْمُقَوْقس كَانَ فِي سنة سِتّ، ذكره
ابْن مَنْدَه وَغَيره، فَدلَّ على أَنه قبل هَذَا
الحَدِيث.
الثَّالِث: لقَائِل أَن يَقُول: هَذَانِ اللَّذَان قبل
مِنْهُمَا هديتهما لَيْسَ سوقة، إِنَّمَا هما ملكان. فَقبل
هديتهما تألفا، لِأَن فِي رد هديتهما نوع حُصُول شَيْء.
الرَّابِع: نقُول: كَانَ قبُول هديتهم بإثابته
عَلَيْهِمَا، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهَذَا
الْمُشرك أَيْضا كَانَ تأنيسا لَهُ، وَلِأَن يثيبه
بِأَكْثَرَ مِمَّا أهْدى، وَكَذَا يُقَال فِي هَدِيَّة
كسْرَى الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْحَرْبِيّ من حَدِيث
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ورد هَدِيَّة عِيَاض بن
حمَار وَكَانَ بَينه وَبَين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، معرفَة قبل الْبعْثَة، فَلَمَّا بعث أهْدى لَهُ
فَرد هديته، وَكَذَا رد هَدِيَّة ذِي الجوشن، وَكَانَت
فرسا، وَكَذَا رد هَدِيَّة ملاعب الأسنة، لأَنهم كَانُوا
سوقة وَلَيْسوا ملوكا، وَأهْدى لَهُ ملك أَيْلَة بغلة،
وفروة الجذامي هَدِيَّة فقبلهما وَكَانَا ملكَيْنِ،
وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا مَا ذكره أَبُو عبيد فِي (كتاب
الْأَمْوَال) : أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قبل
هَدِيَّة أبي سُفْيَان بن حَرْب لِأَنَّهَا كَانَت فِي
مُدَّة الْهُدْنَة، وَكَذَا هَدِيَّة الْمُقَوْقس إِنَّمَا
كَانَ قبلهَا لِأَنَّهُ أكْرم حَاطِبًا وَأقر بنبوته صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يؤيسه من إِسْلَامه، وَقبُول
هَدِيَّة الأكيدر لِأَن خَالِدا، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قدم بِهِ فحقن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَمه
وَصَالَحَهُ على الْجِزْيَة، لِأَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيّا
ثمَّ خلى سَبيله، وَكَذَا ملك أَيْلَة لما أهْدى كَسَاه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بردا لَهُ، وَهَذَا كُله يرجع
إِلَى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يقبل
هَدِيَّة إلاَّ ويكافىء.
ثمَّ إعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِيمَا يهدى للأئمة،
فَروِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ
يُوجب رده إِلَى بَيت المَال، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو
حنيفَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مَا أهْدى إِلَيْهِ أهل
الْحَرْب فَهُوَ لَهُ دون بَيت المَال، وَأما مَا يهدى
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فَهُوَ فِي
ذَلِك بِخِلَاف النَّاس، لِأَن الله تَعَالَى اختصه فِي
أَمْوَال أهل الْحَرْب بِخَاصَّة لم تكن لغيره، قَالَ
تَعَالَى: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء}
(الْحَشْر: 6) . بعد قَوْله: {مَا أَفَاء الله على
رَسُوله} (الْحَشْر: 6) . فسبيل مَا تصل إِلَيْهِ يَده من
أَمْوَالهم على جِهَة الْهَدِيَّة وَالصُّلْح سَبِيل
الْفَيْء يَضَعهُ حَيْثُ أرَاهُ الله، فَأَما الْمُسلمُونَ
إِذا أهدوا إِلَيْهِ فَكَانَ من سجيته أَن لَا يردهَا بل
يثيبهم عَلَيْهَا.
وَفِيه: أَن ابتياع الأشاء من الْمَجْهُول الَّذِي لَا
يعرف جَائِز حَتَّى يطلع على مَا يلْزم التورع عَنهُ، أَو
يُوجب ترك مبايعته غصب أَو سَرقَة أَو شبههما، وَقَالَ
ابْن الْمُنْذر: من كَانَ بِيَدِهِ شَيْء فَظَاهره أَنه
مَالِكه، وَلَا يلْزم المُشْتَرِي أَن يعلم حَقِيقَة ملكه.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مبايعة من الْغَالِب على مَاله
الْحَرَام
(12/27)
وَقبُول هديته وجائزته، فرخصت فِيهِ
طَائِفَة، فَكَانَ الْحسن بن أبي الْحسن لَا يرى بَأْسا
أَن يَأْكُل الرجل من طَعَام العشار والصراف وَالْعَامِل،
وَيَقُول: قد أحل الله طَعَام الْيَهُود وَالنَّصَارَى،
وَقد أخبر أَن الْيَهُود أكالون للسحت. قَالَ الْحسن: مَا
لم يعرفوا شَيْئا مِنْهُ حَرَامًا، يَعْنِي: معينا. وَعَن
الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول: إِذا كَانَ المَال فِيهِ حرَام
وحلال فَلَا بَأْس أَن يُؤْكَل مِنْهُ، إِنَّمَا يكره من
ذَلِك الشَّيْء الَّذِي يعرف بِعَيْنِه، وَقَالَ
الشَّافِعِي: لَا أحب مبايعة من أَكثر مَاله رَبًّا أَو
كَسبه من حرَام، فَإِن بُويِعَ لَا يفْسخ البيع. وَقَالَ
ابْن بطال: وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَالْحَرْبِيّ فِي
هَذَا سَوَاء، وَحجَّة من رخص حَدِيث الْبَاب، وَحَدِيث
رَهنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم درعه عِنْد الْيَهُودِيّ،
وَكَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، يأخذان هَدَايَا الْمُخْتَار، وَبعث عَمْرو بن
عبيد الله بن معمر إِلَى ابْن عمر بِأَلف دِينَار، وَإِلَى
الْقَاسِم بن مُحَمَّد بِأَلف دِينَار فَأَخذهَا ابْن عمر
وَقَالَ: لقد جاءتنا على حَاجَة، وأبى أَن يقبلهَا
الْقَاسِم، فَقَالَت امْرَأَته: إِن لم تقبلهَا فَأَنا
ابْنة عَمه كَمَا هُوَ ابْن عَمه، فأخذتها. وَقَالَ عَطاء:
بعث مُعَاوِيَة إِلَى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، بطوق من ذهب فِيهِ جَوْهَر قوم بِمِائَة ألف،
وقسمته بَين أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. وكرهت طَائِفَة
الْأَخْذ مِنْهُم رُوِيَ ذَلِك عَن مَسْرُوق وَسَعِيد بن
الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَبشر بن سعيد وطاووس
وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَمُحَمّد
بن وَاسع وَأحمد، وَأخذ ابْن الْمُبَارك قذاة من الأَرْض
وَقَالَ: من أَخذ مِنْهُم مثل هَذِه فَهُوَ مِنْهُم.
001 - (بابُ شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ
وهِبَتِهِ وعِتْقِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شِرَاء الْمَمْلُوك من
الْحَرْبِيّ، وَحكم هِبته وعتقه. وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض
البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِثْبَات ملك
الْحَرْبِيّ وَجَوَاز تصرفه فِي ملكه بِالْبيعِ وَالْهِبَة
وَالْعِتْق وَغَيرهَا، إِذْ أقرّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
سلمَان عِنْد مَالِكه من الْكفَّار وَأمره أَن يُكَاتب،
وَقبل الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هبة
الْجَبَّار وَغير ذَلِك مِمَّا تضمنه أَحَادِيث الْبَاب.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِسَلْمَانَ
كاتِبْ وكانَ حُرّا فَظَلَمُوهُ وباعُوهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يعلم من قَضِيَّة
سلمَان تَقْرِير أَحْكَام الْحَرْبِيّ على مَا كَانَ
عَلَيْهِ، وسلمان هُوَ الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وقصته طَوِيلَة على مَا ذكره ابْن إِسْحَاق
وَغَيره، وملخصها: أَنه هرب من أَبِيه لطلب الْحق وَكَانَ
مجوسيا، فلحق براهب ثمَّ براهب ثمَّ بآخر، وَكَانَ يصحبهم
إِلَى وفاتهم حَتَّى دله الْأَخير إِلَى الْحجاز وَأخْبرهُ
بِظُهُور رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقصده
مَعَ بعض الْأَعْرَاب فغدروا بِهِ وباعوه فِي وَادي الْقرى
ليهودي، ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيّ آخر من بني
قُرَيْظَة، فَقدم بِهِ الْمَدِينَة، فَلَمَّا قدم رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأى عَلَامَات
النُّبُوَّة أسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب عَن نَفسك، عَاشَ مِائَتَيْنِ
وَخمسين سنة، وَقيل: مِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين سنة،
وَمَات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بالمداين.
ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق الَّذِي علقه البُخَارِيّ أخرجه
ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) . وَالْحَاكِم من حَدِيث زيد بن
صوحان سلمَان. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث
مَحْمُود بن لبيد عَن سلمَان. قَالَ: كنت رجلا فارسيا ...
فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: ثمَّ مر بِي نفر من بني
كلب تجار، فحملوني مَعَهم حَتَّى إِذا قدمُوا وَادي الْقرى
ظلموني فباعوني من رجل يَهُودِيّ ... الحَدِيث، وَفِيه:
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب يَا
سلمَان. قَالَ: فكاتب صَاحِبي على ثَلَاثمِائَة ودية ...
الحَدِيث، وَفِي حَدِيث الْحَاكِم مَا يدل أَنه هُوَ ملك
رقبته لَهُم، وَعِنْده من حَدِيث أبي الطُّفَيْل عَن
سلمَان وَصَححهُ، وَفِيه: فَمر نَاس من أهل مَكَّة فسألتهم
عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا نعم،
ظهر منا رجل يزْعم أَنه نَبِي، فَقلت لبَعْضهِم: هَل لكم
أَن أكون عبدا لبعضكم على أَن تحملوني عقبَة وتطعموني من
الْكسر، فَإِذا بَلغْتُمْ إِلَى بِلَادكُمْ فَمن شَاءَ أَن
يَبِيع بَاعَ وَمن شَاءَ أَن يستعبد استعبد؟ فَقَالَ رجل
مِنْهُم: أَنا، فصرت عبدا لَهُ حَتَّى أَتَى بِي مَكَّة
فجعلني فِي بُسْتَان لَهُ ... الحَدِيث.
قَوْله: (كَاتب) أَمر من الْمُكَاتبَة. قَوْله: (وَكَانَ
حرا) ، جملَة وَقعت حَالا من: قَالَ، لَا من قَوْله:
(كَاتب) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ أمره
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْكِتَابَةِ
وَهُوَ حر؟ قلت: أَرَادَ بِالْكتاب صُورَة الْكِتَابَة لَا
حَقِيقَتهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أفد عَن نَفسك وتخلص من
ظلمه. انْتهى. قلت: هَذَا السُّؤَال غير وَارِد، فَلَا
يحْتَاج إِلَى الْجَواب، فَكَانَ الْكرْمَانِي اعْتقد أَن
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَكَانَ حرا، يَعْنِي فِي
حَال الْكِتَابَة، فَإِنَّهُ فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ فِي
ملك الَّذِي اشْتَرَاهُ لِأَنَّهُ غلب عَلَيْهِ
(12/28)
بعض الْأَعْرَاب فِي وَادي الْقرى فملكه
بالقهر، ثمَّ بَاعه من يَهُودِيّ، وَاشْترى مِنْهُ
يَهُودِيّ آخر كَمَا ذكرنَا. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (وَكَانَ حرا) إِخْبَار مِنْهُ بحريَّته فِي أول
أمره قبل أَن يخرج من دَار الْحَرْب، وَالْعجب من
الْكرْمَانِي أَنه قَالَ: قَوْله: (وَكَانَ حرا) حَال من:
قَالَ، يَعْنِي من: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لَا من: قَوْله: (كَاتب) فَكيف غفل عَن هَذَا
وَسَأَلَ هَذَا السُّؤَال السَّاقِط؟ وَنَظِير ذَلِك مَا
قَالَه صَاحب (التَّوْضِيح) : وَلَكِن مَا هُوَ فِي الْبعد
مثل مَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَهُوَ أَنه قَالَ: فَإِن
قلت: كَيفَ جَازَ لِلْيَهُودِيِّ ملك سلمَان وَهُوَ مُسلم،
فَلَا يجوز للْكَافِرِ ملك مُسلم؟ قلت: أجَاب عَنهُ
الطَّبَرِيّ: بِأَن حكم هَذِه الشَّرِيعَة أَن من غلب من
أهل الْحَرْب على نفس غَيره أَو مَاله، وَلم يكن المغلوب
على ذَلِك مِمَّن دخل فِي الْإِسْلَام، فَهُوَ ملك
للْغَالِب، وَكَانَ سلمَان حِين غلب نَفسه لم يكن مُؤمنا،
وَإِنَّمَا كَانَ إيمَانه تَصْدِيق النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِذا بعث مَعَ إِقَامَته على شَرِيعَة
عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، انْتهى.
وَيُؤَيّد مَا ذكره الطَّبَرِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لما قدم الْمَدِينَة وَسمع بِهِ سلمَان فَذهب
إِلَيْهِ بِبَعْض تمر يختبره إِن كَانَ هُوَ هَذَا
النَّبِي يقبل الْهَدِيَّة وَيرد الصَّدَقَة، فَلَمَّا
تحَققه دخل فِي ذَلِك الْوَقْت فِي الْإِسْلَام، كَمَا
هوشرطه، فَلذَلِك أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بِالْكِتَابَةِ ليخرج من ملك مَوْلَاهُ الْيَهُودِيّ.
وسُبِيَ عَمَّارٌ وصُهَيْبٌ وبِلاَلٌ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أم عمار كَانَت من
موَالِي بني مَخْزُوم وَكَانُوا يعاملون عمارا مُعَاملَة
السَّبي، فَهَذَا هُوَ السَّبي، فَهَذَا هُوَ الْوَجْه
هُنَا لِأَن عمارا مَا سبي، على مَا نذكرهُ. وَأما صُهَيْب
وبلاد فباعهما الْمُشْركُونَ على مَا نذكرهُ، فدخلا فِي
قَوْله فِي التَّرْجَمَة: شِرَاء الْمَمْلُوك من
الْحَرْبِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَوْله:
(وَسبي عمار وصهيب وبلال) يَعْنِي: أَنه كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّة يسبي بَعضهم بَعْضًا ويملكون بذلك. انْتهى.
قلت: هَذَا الْكَلَام الَّذِي يقرب قطّ من الْمَقْصُود
أَخذه من صَاحب (التَّلْوِيح) ، وَكَون أهل الْجَاهِلِيَّة
سابين بَعضهم بَعْضًا لَا يسْتَلْزم كَون عمار مِمَّن سبي
وَلَا بلالد وَإِنَّمَا كَانَا يعذبان فِي الله تَعَالَى
حَتَّى خلصهما الله تَعَالَى ببركة إسلامهما، نعم سبي
صُهَيْب وَبيع على يَد الْمُشْركين، وَرُوِيَ عَن ابْن سعد
أَنه قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي وَأَبُو
حُذَيْفَة مُوسَى بن مَسْعُود، قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر بن
مُحَمَّد عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن حَمْزَة بن
صُهَيْب عَن أَبِيه، قَالَ: إِنِّي رجل من الْعَرَب من
النمر بن قاسط، وَلَكِنِّي سبيت، سبتني الرّوم غُلَاما
صَغِيرا بعد أَن عقلت أَهلِي وقومي وَعرفت نسبي، وَعَن
ابْن سعد: كَانَ أَبَاهُ من النمر بن قاسط، وَكَانَ عَاملا
لكسرى: فسبت الرّوم صهيبا لما غزت أهل فَارس فابتاعه
مِنْهُم عبد الله بن جدعَان، وَقيل: هرب من الرّوم إِلَى
مَكَّة فحالف ابْن جدعَان، فَهَذَا يُنَاسب التَّرْجَمَة،
لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من
الْحَرْبِيّ. وَأما بِلَال فَإِن ابْن إِسْحَاق ذكر فِي
(الْمَغَازِي) : حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه
قَالَ: مر أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأمية بن
خلف وَهُوَ يعذب بِلَالًا، فَقَالَ: أَلا تتقي الله فِي
هَذَا الْمِسْكِين؟ فَقَالَ: انقذه أَنْت بِمَا ترى.
فَأعْطَاهُ أَبُو بكر غُلَاما أجلد مِنْهُ، وَأخذ
بِلَالًا، فَأعْتقهُ. وَقيل غير ذَلِك، فحاصل الْكَلَام
أَنه أَيْضا يُنَاسب التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ دخل فِي
قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ، أما الشِّرَاء
فَإِن أَبَا بكر قايض مَوْلَاهُ، والمقايضة نوع من
الْبيُوع، وَأما كَونه اشْترى من الْحَرْبِيّ لِأَن مَكَّة
فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَت دَار الْحَرْب وَأَهْلهَا من
أهل الْحَرْب، وَأما عمار فَإِنَّهُ كَانَ عَرَبيا عنسيا،
بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة، مَا وَقع عَلَيْهِ سباء،
وَإِنَّمَا سكن أَبوهُ يَاسر، مَكَّة وحالف بني مَخْزُوم
فَزَوجُوهُ سميَّة، بِضَم السِّين: وَهِي من مواليهم، أسلم
عمار بِمَكَّة قَدِيما، وَأَبوهُ وَأمه وَكَانُوا مِمَّن
يعذب فِي الله، عز وَجل، (فَمر بهم النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وهم يُعَذبُونَ: فَقَالَ صبرا آل يَاسر،
فَإِن مَوْعدكُمْ الْجنَّة) . وَقيل أَبُو جهل سميَّة،
طَعنهَا بِحَرْبَة فِي قُبُلِها فَكَانَت أول شَهِيد فِي
الْإِسْلَام. وَقَالَ مُسَدّد: لم يكن أحد أَبَوَاهُ
مسلمان غير عمار بن يَاسر، وَلَيْسَ لَهُ وَجه فِي دُخُوله
فِي التَّرْجَمَة إلاَّ بتعسف، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَوْله: سبي، أَي أسر: وَلم يذكر شَيْئا
غَيره، لِأَنَّهُ لم يجد شَيْئا يذكرهُ، على أَن السَّبي
هَل يَجِيء بِمَعْنى الْأسر؟ فِيهِ كَلَام.
وَقَالَ الله تَعَالَى {وَالله فَضَّلَ بَعْضُكُمْ عَلَى
بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ
سَوَاءٌ أفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} (النَّحْل: 17) .
(12/29)
مُطَابقَة هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {على مَا ملكت أَيْمَانهم}
(النَّحْل: 17) . وَالْخطاب فِيهِ للْمُشْرِكين، فَأثْبت
لَهُم ملك الْيَمين مَعَ كَون ملكهم غَالِبا على غير
الأوضاع الشَّرْعِيَّة. وَقيل: مَقْصُوده صِحَة ملك
الْحَرْبِيّ وَملك الْمُسلم عَنهُ. قلت: إِذا صَحَّ ملكهم
يَصح تصرفهم فِيهِ بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْهِبَة
وَالْعِتْق وَنَحْوهَا، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ:
أَن الله فضل الْملاك على مماليكهم، فَجعل الْمَمْلُوك لَا
يقوى على ملك مَعَ مَوْلَاهُ، وَاعْلَم أَن الْمَالِك لَا
يُشْرك مَمْلُوكه فِيمَا عِنْده، وهما من بني آدم، فَكيف
تَجْعَلُونَ بعض الرزق الَّذِي يرزقكم الله لله، وَبَعضه
لأصنامكم فتشركون بَين الله وَبَين الْأَصْنَام وَأَنْتُم
لَا ترْضونَ ذَاك مَعَ عبيدكم لأنفسكم؟ وَقَالَ ابْن بطال:
تَضَمَّنت التقريع للْمُشْرِكين والتوبيخ لَهُم على
تسويتهم عبَادَة الْأَصْنَام بِعبَادة الرب تَعَالَى،
وتعظم فنبههم الله تَعَالَى على أَن مماليكهم غير مساوين
فِي أَمْوَالهم فَالله تَعَالَى أولى بإفراد الْعِبَادَة،
وَأَنه لَا يُشْرك مَعَه أحد من عبيده إِذْ لَا مَالك فِي
الْحَقِيقَة سواهُ، وَلَا يسْتَحق الإلهية غَيره. قَوْله:
{أفبنعمة الله يجحدون} (النَّحْل: 17) . الِاسْتِفْهَام
على سَبِيل الْإِنْكَار، مَعْنَاهُ: لَا تجحدوا نعْمَة
الله وَلَا تكفرُوا بهَا، وجحودهم بِأَن جعلُوا مَا رزقهم
الله لغيره، وَقيل: أنعم الله عَلَيْهِم بالبراهين فجحدوا
نعمه.
7122 - حدَّثنا أبوُ اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاجرَ إبراهِيمُ عَلَيْهِ
الصَّلَاة والسَّلامُ بِسارَةَ فدَخَلَ بِها قَرْيَةً
فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ أوْ جَبَّارٌ مِنَ
الجَبَابِرَةَ فَقِيلَ دَخَلَ إبْرَاهِيمُ بامْرَأةٍ هِيَ
مِنْ أحْسَنِ النِّساءِ فأرْسَلَ إلَيْهِ أنْ يَا
إبْرَاهِيمُ مَنْ هاذِهِ الَّتِي معَكَ قَالَ أُخْتِي
ثُمَّ رجَعَ إلَيْهَا فَقَالَ لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي
فإنِّي أخْبَرْتُهُمْ أنَّكِ أُخْتِي وَالله إنْ عَلَى
الأرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وغَيْرُكِ فأرْسَلَ بِهَا
إلَيْهِ فقامَ إلَيْهَا فقامَتْ تَوَضَّأُ وتصَلِّي
فقالَتْ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وبِرَسُولِكَ
وأحْصَنْتُ فَرْجِي إلاَّ عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ
عَلَيَّ الكَافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ
الأعْرَجُ قَالَ أبُو سلَمَةَ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ إنَّ
أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قالَتِ اللَّهُمَّ إنْ يَمُتْ
يُقالُ هِيَ قَتَلَتْهُ فارْسِلَ ثُمَّ قامَ إلَيهَا
فَقَامَتْ تَوَضَّأ وتُصَلي وتَقُولُ أللَّهُمَّ إنْ
كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وبِرَسُولِكَ وأحصَنْتِ فَرْجِي إلاَّ
علَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ هاذا الكافِرَ
فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ عَبْدُ
الرَّحْمانِ قَالَ أبُو سَلَمَةَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ
فقالَتِ اللَّهُمَّ إنْ يَمُتُ فيُقَالُ هِيَ قتَلَتْهُ
فأُرْسِلَ فِي الثَّانيَةِ أوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ
وَالله مَا أرْسَلْتُمْ إلَيَّ إلاَّ شَيْطانا ارْجِعُوهَا
إلَى إبْرَاهِيمَ وأعْطُوها آجَرَ فرَجعَتْ إلَى
إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَت أشَعَرْتَ أنَّ
الله كبَتَ الكَافِرَ وأخْدَمَ ولِيدَةً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: أعطوها هَاجر فَقَبلتهَا
سارة، فَهَذِهِ هبة من الْكَافِر إِلَى الْمُسلم، فَدلَّ
ذَلِك على جَوَاز تصرف الْكَافِر فِي ملكه، وَرِجَاله كلهم
قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء
آخر الْحُرُوف، وَتَخْفِيف الْمِيم: الحكم بن نَافِع
الْحِمصِي، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو
الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان،
والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة وَفِي
الْإِكْرَاه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَاجر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بسارة) أَي: سَافر بهَا، و: سارة،
بتَخْفِيف الرَّاء، بنت توبيل ابْن ناحور. وَقيل: سارة بنت
هاران بن ناحور، وَقيل: بنت هاران بن ناحور، وَقيل: بنت
هاران بن تارخ، وَهِي بنت أَخِيه على هَذَا وَأُخْت لوط.
قَالَه الْعُتْبِي فِي (المعارف) والنقاش فِي التَّفْسِير
قَالَ: وَذَلِكَ أَن نِكَاح بنت الْأَخ كَانَ حَلَالا إِذْ
ذَاك، ثمَّ إِن النقاش نقض هَذَا القَوْل، فَقَالَ فِي
تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى
بِهِ نوحًا} (الشورى: 31) . إِن هَذَا يدل على تَحْرِيم
بنت الْأَخ على لِسَان نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، قَالَ السُّهيْلي: هَذَا هُوَ الْحق،
وَإِنَّمَا توهموا أَنَّهَا بنت أَخِيه، لِأَن هاران
أَخُوهُ، وَهُوَ هاران الْأَصْغَر، وَكَانَت هِيَ بنت
هاران الْأَكْبَر وَهُوَ عَمه. قَوْله: (فَدخل بهَا
قَرْيَة) الْقرْيَة من قريت المَاء فِي الْحَوْض أَي:
جمعته، سميت بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا، وَتجمع
(12/30)
على قرى، قَالَ الدَّاودِيّ: الْقرْيَة تقع
على المدن الصغار والكبار، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة:
الْقرْيَة الْأُرْدُن وَالْملك صادوق، وَكَانَت هَاجر لملك
من مُلُوك القبط، وَعند الطَّبَرِيّ: كَانَت امْرَأَة ملك
من مُلُوك مصر، فَلَمَّا قَتله أهل عين شمس احتملوها
مَعَهم، وَزعم أَن الْملك الَّذِي أَرَادَ سارة اسْمه
سِنَان بن علوان، أَخُو الضَّحَّاك، وَقَالَ ابْن هِشَام
فِي (كتاب التيجان) : إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، خرج من مَدين إِلَى مصر، وَكَانَ مَعَه من
الْمُؤمنِينَ ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبمصر ملكهَا
عَمْرو بن امرىء الْقَيْس بن نابليون من سبأ. قَوْله: (أَو
جَبَّار) ، شكّ من الرَّاوِي، والجبار يُطلق على ملك عَاتٍ
ظَالِم. قَوْله: (فَقيل: دخل إِبْرَاهِيم بِامْرَأَة) ،
وَقَالَ ابْن هِشَام وشى بِهِ حناط كَانَ إِبْرَاهِيم
يتمار مِنْهُ، فَأمر بِإِدْخَال إِبْرَاهِيم وَسَارة
عَلَيْهِ، ثمَّ نحى إِبْرَاهِيم وَقَامَ إِلَى سارة،
فَلَمَّا صَار إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، خَارج الْقصر جعله الله لَهُ كالقارورة
الصافية، فَرَأى الْملك وَسَارة وَسمع كَلَامهمَا، فهم
عَمْرو بسارة وَمد يَده إِلَيْهَا، فيبست فَمد الْأُخْرَى
فَكَذَلِك، فَلَمَّا رأى ذَلِك كف عَنْهَا. وَقَالَ ابْن
هِشَام: وَكَانَ الحناط أخبر الْملك بِأَنَّهُ رَآهَا
تطحن، فَقَالَ الْملك: يَا إِبْرَاهِيم! مَا يَنْبَغِي
لهَذِهِ أَن تخذم نَفسهَا؟ فَأمر لَهُ بهاجر. قَوْله:
(قَالَ: أُخْتِي) يَعْنِي: فِي الدّين.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا الحَدِيث إِشْكَال
مَا زَالَ يختلج فِي صَدْرِي، وَهُوَ أَن يُقَال: مَا معنى
توريته، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن الزَّوْجَة بالأخت،
وَمَعْلُوم أَن ذكرهَا بِالزَّوْجِيَّةِ كَانَ أسلم لَهَا،
لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: هَذِه أُخْتِي قَالَ: زوجنيها.
وَإِذا قَالَ امْرَأَتي سكت هَذَا إِن كَانَ الْملك يعْمل
بِالشَّرْعِ، فَأَما إِذا كَانَ كَمَا وصف من جوره فَمَا
يُبَالِي إِذا كَانَت زَوْجَة أَو أُخْتا إِلَى أَن وَقع
لي أَن الْقَوْم كَانُوا على دين الْمَجُوس، وَفِي دينهم
أَن الْأُخْت إِذا كَانَت زَوْجَة كَانَ أَخُوهَا الَّذِي
هُوَ زَوجهَا أَحَق بهَا من غَيره، فَكَانَ الْخَلِيل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يستعصم من
الْجَبَّار بِذكر الشَّرْع الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ، فَإِذا
هُوَ جَبَّار لَا يُرَاعِي جَانب دينه. قَالَ: وَاعْترض
على هَذَا بِأَن الَّذِي جَاءَ على مَذْهَب الْمَجُوس
زرادشت، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن هَذَا الزَّمن، فَالْجَوَاب
أَن لمَذْهَب الْقَوْم أصلا قَدِيما ادَّعَاهُ زرادشت
وَزَاد عَلَيْهِ خرافات، وَقد كَانَ نِكَاح الْأَخَوَات
جَائِزا فِي زمن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَيُقَال:
كَانَت حرمته على لِسَان مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، قَالَ: وَيدل على أَن دين الْمَجُوس لَهُ أصل
مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر، وَمَعْلُوم أَن
الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إلاَّ مِمَّن لَهُ كتاب أَو
شُبْهَة كتاب، ثمَّ سَأَلت عَن هَذَا بعض عُلَمَاء أهل
الْكتاب فَقَالَ: كَانَ من مَذْهَب الْقَوْم أَن من لَهُ
زَوْجَة لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج إلاَّ أَن يهْلك
زَوجهَا، فَلَمَّا علم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، هَذَا قَالَ: هِيَ أختى، كَأَنَّهُ قَالَ:
إِن كَانَ الْملك عادلاً، فَخَطَبَهَا مني أمكنني دَفعه،
وَإِن كَانَ ظَالِما تخلصت من الْقَتْل، وَقيل: إِن
النُّفُوس تأبى أَن يتَزَوَّج الْإِنْسَان بِامْرَأَة
وَزوجهَا مَوْجُود، فَعدل، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن
قَوْله: زَوْجَتي، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَتله أَو
طرده عَنْهَا، أَو تَكْلِيفه لفراقها. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: قيل: إِن من سيرة هَذَا الْجَبَّار أَنه
لَا يغلب الْأَخ على أُخْته وَلَا يَظْلمه فِيهَا، وَكَانَ
يغلب الزَّوْج على زَوجته. وَالله أعلم.
قَوْله: (إِن على الأَرْض) كلمة: إِن، بِكَسْر الْهمزَة
وَسُكُون النُّون للنَّفْي، يَعْنِي: وَالله مَا على
الأَرْض مُؤمن غَيْرِي وَغَيْرك. قَوْله: (وَغَيْرك) ،
بِالْجَرِّ عطفا على: غَيْرِي، ويروى بِالرَّفْع بَدَلا
عَن الْمحل، ويروى: مَنْ يُؤمن، بِكَلِمَة: مَنْ،
الموصولة: وَصدر صلتها مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالله،
الَّذِي على الأَرْض لَيْسَ بِمُؤْمِن غَيْرِي وَغَيْرك.
قَوْله: (فَقَامَتْ تَوَضَّأ) ، بِرَفْع الْهمزَة فِي مَحل
النصب على الْحَال، وَتصلي (عطف عَلَيْهِ) . قَوْله:
(أللهم إِن كنت آمَنت. .) قيل: شَرط مَدْخُول أَن كَونه
مشكوكا فِيهِ، وَالْإِيمَان مَقْطُوع بِهِ. وَأجِيب:
بِأَنَّهَا كَانَت قَاطِعَة بِهِ، وَلكنهَا ذكرته على
سَبِيل الْفَرْض هَهُنَا هضما لنَفسهَا. قَوْله: (فغط) ،
قَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي بعض الْأُصُول بِفَتْح
الْغَيْن وَالصَّوَاب بِالضَّمِّ، كَذَا فِي بعض
الْأُصُول. قلت: هُوَ بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد
الطَّاء الْمُهْملَة، وَمَعْنَاهُ: أَخذ مجاري نَفسه
حَتَّى سمع لَهُ غطيط، يُقَال: غط المخنوق إِذا سمع
غَطِيطه. قَوْله: (حَتَّى ركض بِرجلِهِ) ، أَي: حركها
وضربها على الأَرْض. قَوْله: (قَالَ الْأَعْرَج) ، هُوَ
الْمَذْكُور فِي السَّنَد، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن
هُرْمُز، قَالَ أَبُو سَلمَة: إِن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ:
قَالَت: أللهم إِن يمت (ح) هُوَ مَوْقُوف ظَاهرا، وَكَذَا
ذكره صَاحب (الْأَطْرَاف) ، وَكَانَ أَبَا الزِّنَاد روى
الْقطعَة الأولى مُسندَة، وَهَذِه مَوْقُوفَة. قَوْله:
(يُقَال: هِيَ قتلته) ، ويروى: يقل هِيَ قتلته، وَهُوَ
الظَّاهِر لوُجُوب الْجَزْم فِيهِ، وَوجه رِوَايَة:
يُقَال: هُوَ، إِمَّا أَن الْألف حصلت من إشباع الفتحة،
وَإِمَّا أَنه كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا
يدرككم الْمَوْت} (النِّسَاء: 87) . بِالرَّفْع فِي
قِرَاءَة بَعضهم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قيل: هُوَ
بِتَقْدِير الْفَاء: قلت: تَقْدِيره: فيدرككم الْمَوْت،
وَكَذَلِكَ
(12/31)
هُنَا يكون التَّقْدِير: فَيُقَال. قَوْله:
(فِي الثَّانِيَة) ، أَي: أرسل سارة فِي الْمرة
الثَّانِيَة. قَوْله: (أَو فِي الثَّالِثَة) ، شكّ من
الرَّاوِي أَي: أَو أرسلها فِي الْمرة الثَّالِثَة.
قَوْله: (إلاَّ شَيْطَانا) أَي: متمردا من الْجِنّ،
وَكَانُوا يهابون الْجِنّ ويعظمون أَمرهم، وَيُقَال: سَبَب
قَوْله ذَلِك أَنه جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: لما قبضت
يَده عَنْهَا، قَالَ لَهَا: ادعِي لي، فَقَالَ ذَلِك
لِئَلَّا يتحدث بِمَا ظهر من كرامتها فتعظم فِي نفوس
النَّاس وتتبع، فَلبس على السَّامع بِذكر الشَّيْطَان.
قَوْله: (إرجعوا) ، بِكَسْر الْهمزَة أَي: ردوهَا إِلَى
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله:
(وأعطوها آجر) أَي: أعْطوا سارة آجر، وَهِي الوليدة:
اسْمهَا آجر، بِهَمْزَة ممدودة وجيم مَفْتُوحَة وَفِي
آخِره رَاء، واستعملوا الْهَاء مَوضِع الْهمزَة، فَقيل:
هَاجر، وَهِي أم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَمَا أَن سارة أم إِسْحَاق، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: إِن هَاجر من حقن من كورة
أنصنا قَوْله. قلت: حقن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الْقَاف وَفِي آخِره نون، وَهُوَ اسْم لقرية من
صَعِيد مصر، قَالَه ابْن الْأَثِير. قلت: هُوَ كفر من كفور
كورة أنصنا، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَكسر
الصَّاد الْمُهْملَة ثمَّ نون ثَانِيَة وَألف مَقْصُورَة،
وَهِي بَلْدَة بالصعيد الْأَوْسَط على شط النّيل من الْبر
الشَّرْقِي فِي قبالة الأشمونيين من الْبر الآخر، وَبهَا
آثَار عَظِيمَة ومزدرع كثير. وَقَالَ اليعقوبي: هِيَ
مَدِينَة قديمَة يُقَال إِن سحرة فِرْعَوْن كَانُوا
فِيهَا. قَوْله: (أشعرت) ، أَي: أعلمت تخاطب إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَوْله: (كبت الْكَافِر)
، أَي: رده خاسئا خائبا. وَقيل: أحزنه. وَقيل: أغاظه،
لِأَن الكبت شدَّة الغيظ، وَقيل: صرعه، وَقيل: أذله،
وَقيل: أَخْزَاهُ، وَقيل: أَصله كبد، أَي: بلغ الْهم كبده
فأبدل من الدَّال تَاء. قَوْله: (واخدم وليدة) أَي: أعطي
خَادِمًا أَي: أَعْطَاهَا أمة تخدمها، والوليدة تطلق على
الْجَارِيَة وَإِن كَانَت كَبِيرَة، وَفِي الأَصْل
الْوَلِيد الطِّفْل وَالْأُنْثَى وليدة وَالْجمع ولائد.
فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الْمعَارض
لقَوْله: إِنَّهَا أُخْتِي وَإِنَّهَا مندوحة عَن
الْكَذِب. وَفِيه: إِن أخوة الْإِسْلَام أخوة تجب أَن
يتسمى بهَا. وَفِيه: الرُّخْصَة فِي الأنقياد للظالم أَو
الْغَاصِب. وَفِيه: قبُول صلَة السُّلْطَان الظَّالِم
وَقبُول هَدِيَّة الْمُشرك. وَفِيه: إِجَابَة الدُّعَاء
بإخلاص النِّيَّة وكفاية الرب، جلّ جَلَاله، لمن أخلصها
بِمَا يكون نوعا من الْآفَات وَزِيَادَة فِي الْإِيمَان
تَقْوِيَة على التَّصْدِيق وَالتَّسْلِيم والتوكل. وَفِيه:
ابتلاء الصَّالِحين لرفع درجاتهم. وَفِيه: أَن من قَالَ
لزوجته: أُخْتِي، وَلم ينوِ شَيْئا لَا يكون طَلَاقا،
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: مثل أُخْتِي، لَا يكون ظِهَارًا.
وَفِيه: أَخذ الحذر مَعَ الْإِيمَان بِالْقدرِ. وَفِيه:
مُسْتَند لمن يَقُول: إِن طَلَاق الْمُكْره لَا يَقع،
وَلَيْسَ بِشَيْء. وَفِيه: الْحِيَل فِي التَّخَلُّص من
الظلمَة، بل إِذا علم أَنه لَا يتَخَلَّص إلاَّ
بِالْكَذِبِ جَازَ لَهُ الْكَذِب الصراح، وَقد يجب فِي بعض
الصُّور بالِاتِّفَاقِ لكَونه يُنجي نَبيا أَو وليا مِمَّن
يُرِيد قَتله أَو لنجاة الْمُسلمين من عدوهم، وَقَالَ
الْفُقَهَاء: لَو طلب ظَالِم وَدِيعَة لإِنْسَان ليأخذها
غصبا وَجب عَلَيْهِ الْإِنْكَار وَالْكذب فِي أَنه لَا
يعلم موضعهَا.
8122 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ
ابنِ شِهابٍ عَن عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أنَّها قالَتِ اخْتَصَمَ سَعْدُ بنُ أبِي
وقاصٍ وعَبْدُ بنُ زَمْعَةَ فِي غلامٍ فقالَ سَعْدٌ هَذَا
يَا رسولَ الله ابنُ أخي عُتْبَةَ بنِ أبِي وقَّاصٍ عَهدَ
إلَى أنَّهُ ابْنُهُ انْظُر إِلَى شبَهِهِ وَقَالَ عَبدُ
بنُ زَمْعَةَ هَذَا أخي يَا رسولَ الله وُلِدَ علَى فِراشِ
أبِي مِنْ ولِيدَتِهِ فنَظَرَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلاى شبَهِهِ فرَأى شبَها بَيِّنا
بِعُتْبَةَ فَقال هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ الوَلدُ لِلْفِراشِ
ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ واحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ
بِنْتَ زَمْعَةَ فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عبد بن زَمعَة قَالَ:
هَذَا ابْن أمة أبي، ولد على فرَاشه، فَأثْبت لِأَبِيهِ
أمه وملكا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلم يُنكر صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك، وَسمع خصامهما وَهُوَ دَلِيل
على تَنْفِيذ عهد الْمُشرك وَالْحكم بِهِ، وَإِن تصرف
الْمُشرك فِي ملكه يجوز كَيفَ شَاءَ، وَحكم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم هُنَا بِأَن الْوَلَد للْفراش فَلم
ينظر إِلَى الشّبَه وَلَا اعْتَبرهُ. والْحَدِيث قد مر فِي
تَفْسِير المشبهات فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يحيى بن
قزعة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة ... إِلَى
آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَوْله: (أنظر
إِلَى شبهه) أَي: إِلَى مشابهة الْغُلَام بِعتبَة،
والعاهر: الزَّانِي.
(12/32)
9122 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ
قَالَ حَدثنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سَعْدٍ
عنْ أبِيهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ لِصُهَيْبٍ اتَّقِ الله وَلَا تدَّعِ
إلَى غَيْرِ أبيكَ فقالَ صُهَيْبٌ مَا يَسُرُّنِي أنَّ لي
كَذَا وكَذا وَأنِّي قُلْتُ ذَلِكَ وَلاكِنِّي سُرِقْتُ
وأنَا صَبِيٌّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من تَتِمَّة قصَّته، وَهِي
أَن كَلْبا ابتاعه من الرّوم فَاشْتَرَاهُ ابْن جدعَان
فاعتقه، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وغندر بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة: هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ،
وَسعد هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لِصُهَيْب: إتق
الله) إِلَى آخِره إِنَّمَا قَالَ عبد الرَّحْمَن ذَلِك
لِأَن صهيبا كَانَ يَقُول: إِنَّه ابْن سِنَان بن مَالك بن
عبد عَمْرو بن عقيل، نسبه إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى النمر
بن قاسط، وَأَن أمه من بني تَمِيم، وَكَانَ لِسَانه أعجميا
لِأَنَّهُ رَبِّي بَين الرّوم فغلب عَلَيْهِ لسانهم. فَإِن
قلت: وروى الْحَاكِم من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو بن
عَلْقَمَة عَن يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَن
أَبِيه قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
لِصُهَيْب: مَا جدت عَلَيْك فِي الْإِسْلَام إلاَّ
ثَلَاثَة أَشْيَاء: اكتنيت أَبَا يحيى، وَإنَّك لَا تمسك
شَيْئا، وتدعى إِلَى النمر بن قاسط، فَقَالَ: أما الكنية،
فَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كناني. وَأما
النَّفَقَة، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَمَا أنفقتم من
شَيْء فَهُوَ يخلفه} . وَأما النّسَب، فَلَو كنت من
رَوْثَة لانتسبت إِلَيْهَا، وَلَكِن كَانَ الْعَرَب يسبي
بَعضهم بَعْضًا، فسباني نَاس بعد أَن عرفت مولدِي وَأَهلي،
فباعوني، فَأخذت بلسانهم يَعْنِي بِلِسَان الرّوم قلت:
سِيَاق الحَدِيث يدل على أَن الْمُرَاجَعَة كَمَا كَانَت
بَين صُهَيْب وَبَين عبد الرَّحْمَن كَانَت كَذَلِك بَينه
وَبَين عمر بن الْخطاب. قلت: النمر بن قاسط فِي ربيعَة بن
نزار، وَهُوَ النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن
جديلة بن أَسد بن ربيعَة بن نزار. قَوْله: (اتَّقِ الله) ،
أَي: خف الله وَلَا تنتسب إِلَى غير أَبِيك، فَكَأَن عبد
الرَّحْمَن كَانَ يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك، وَلَا يحملهُ
إلاَّ على خِلَافه، فَأجَاب صُهَيْب بقوله: (مَا يسرني أَن
لي كَذَا وَكَذَا) .
0222 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ
أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ أخبرَهُ أنَّهُ قَالَ يَا رسولَ
الله أرَأيْتَ أُمُورا كُنْتُ أتَحَنَّثُ أوْ أتَحَنَّثُ
بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وعَتاقَةٍ وصَدَقَةٍ
هَلْ لِي فِيها أجْرٌ قَالَ حَكِيمٌ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْلَمْتَ
عَلَى مَا سَلفَ لَك مِنْ خَيْرٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِيمَا تضمنه الحَدِيث من وُقُوع
الصَّدَقَة والعتاقة من الْمُشرك، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن
صِحَة ملك الْمُشرك لِأَن صِحَة الْعتْق متوقفة على صِحَة
الْملك فيطابق هَذَا قَوْله فِي التَّرْجَمَة وهبته وعتقه،
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، والْحَدِيث مضى فِي
كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب من تصدق فِي الشّرك، ثمَّ أسلم،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن
هِشَام عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (أَرَأَيْت أمورا؟) وَهُنَاكَ: أَرَأَيْت
أَشْيَاء. وَقَوله: (أَو أتحنت) ، غير مَذْكُور هُنَاكَ،
وَفِي التَّلْوِيح: أتحنث أَو أتحنت، كَذَا فِي نُسْخَة
السماع الأول بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالثَّانِي بِالتَّاءِ
الْمُثَنَّاة، وَعَلَيْهَا تمريض وَفِي بعض النّسخ
بِالْعَكْسِ، كَذَا ذكره ابْن التِّين، قَالَ: وَلم يذكر
أحد من اللغويين التَّاء الْمُثَنَّاة، وَإِنَّمَا هُوَ
الْمُثَلَّثَة كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث حراء،
(فَيَتَحَنَّث) أَي: فيتعبد، وَفِي (الْمطَالع) قَول
حَكِيم بن حزَام: (كنت أتحنت) بتاء مثناة، رَوَاهُ
الْمروزِي فِي: بَاب من وصل رَحمَه، وَهُوَ غلط من جِهَة
الْمَعْنى، وَأما الرِّوَايَة فصحيحة، وَالوهم فِيهِ من
شُيُوخ البُخَارِيّ بِدَلِيل قَول البُخَارِيّ: وَيُقَال
أَيْضا عَن أبي الْيَمَان: (أتحنث أَو أتحنت) ، على
الشَّك، وَالصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ الكافة بالثاء
الْمُثَلَّثَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: (أتحبب) ، من
الْمحبَّة، وَالله تَعَالَى أعلم.
101 - (بابُ جُلُودِ المَيْتَةِ قَبْلَ أنْ تدْبَغَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم جُلُود الْميتَة قبل
دباغها، هَل يَصح بيعهَا أم لَا؟ وسنوضح فِي الحَدِيث
جَوَاز بيعهَا.
(12/33)
1222 - حدَّثنا زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ
حَدثنَا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا أبِي عنْ
صالِحٍ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهَابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله بنَ
عَبْدِ الله قَالَ أخبَرَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بِشاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ
هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بإهَابِهَا قالُوا إنَّها مَيِّتَة
قَالَ إنَّمَا حَرُمَ أكْلُهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (هلا انتفعتم
بإهابها؟) لِأَنَّهُ يدل على أَنه ينْتَفع بجلد الْمَيِّت،
وَالِانْتِفَاع بِهِ يدل على جَوَاز بَيْعه، لِأَن
الشَّارِع خص الْحُرْمَة فِيهَا بِغَيْر الْأكل، وَغير
الْأكل أَعم من أَن يكون بِالْبيعِ وَغَيره، وَظَاهره
جَوَاز الِانْتِفَاع بِهِ، سَوَاء دبغ أَو لم يدبغ، وَهُوَ
مَذْهَب الزُّهْرِيّ، وَكَانَ البُخَارِيّ أَيْضا اخْتَار
هَذَا الْمَذْهَب، وَبِمَا ذَكرْنَاهُ يسْقط اعْتِرَاض من
يُورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي
أوردهُ تعرض للْبيع، والْحَدِيث أَيْضا أوضح الْإِبْهَام
الَّذِي فِي التَّرْجَمَة.
وَرِجَاله سَبْعَة: زُهَيْر مصغر زهر ابْن حَرْب ضد
الصُّلْح ابْن شَدَّاد أَبُو خَيْثَمَة، وَيَعْقُوب ابْن
إِبْرَاهِيم بن سعد، وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سعد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَصَالح هُوَ
ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابْن
وتكبير الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد الْفُقَهَاء
السَّبْعَة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب
الصَّدَقَة على موَالِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سعيد بن
عفير عَن ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عبد الله
بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مستقصىً.
201 - (بابُ قَتْلِ الخِنْزِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قتل الْخِنْزِير: هَل هُوَ
مَشْرُوع كَمَا شرع تَحْرِيم أكله؟ أَي: مَشْرُوع؟
وَالْجُمْهُور على جَوَاز قَتله مُطلقًا إلاَّ مَا رُوِيَ
شاذا من بعض الشَّافِعِيَّة أَنه يتْرك الْخِنْزِير إِذا
لم يكن فِيهِ ضراوة، وَقَالَ ابْن التِّين: وَمذهب
الْجُمْهُور أَنه إِذا وجد الْخِنْزِير فِي دَار الْكفْر
وَغَيرهَا وتمكنا من قَتله قَتَلْنَاهُ. قلت: يَنْبَغِي
أَن يسْتَثْنى خِنْزِير أهل الذِّمَّة لِأَنَّهُ مَال
عِنْدهم، وَنحن نهينَا عَن التَّعَرُّض إِلَى أَمْوَالهم.
فَإِن قلت: يَأْتِي عَن قريب أَن عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَام، حِين ينزل يقتل الْخِنْزِير مُطلقًا. قلت: يقتل
الْخِنْزِير بعد قتل أَهله، كَمَا أَنه يكسر الصَّلِيب
لِأَنَّهُ ينزل وَيحمل النَّاس كلهم على الْإِسْلَام
لتقرير شَرِيعَة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا
جَازَ قتل أهل الْكفْر حِينَئِذٍ سَوَاء كَانُوا من أهل
الذِّمَّة أَو من أهل الْحَرْب، فَقتل خنزيرهم وَكسر
صليبهم بطرِيق الأولى والأحق، ألاَ تَرى أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (يضع الْجِزْيَة) ، يَعْنِي: يرفعها لِأَن
النَّاس كلهم يسلمُونَ؟ فَمن لم يدْخل فِي الْإِسْلَام
يقْتله، فَلَا يبْقى وَجه لأخذ الْجِزْيَة لِأَن
الْجِزْيَة، إِنَّمَا تُؤْخَذ فِي هَذِه الْأَيَّام لتصرف
فِي مصَالح الْمُسلمين، مِنْهَا دفع أعدائهم، وَفِي زمن
عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يبْقى عَدو
للدّين، لِأَن النَّاس كلهم مُسلمُونَ، وَيفِيض المَال
بَينهم فَلَا يحْتَاج أحد إِلَى شَيْء من الْجِزْيَة
لارتفاعها بذهاب أَهلهَا. فَإِن قلت: مَا وَجه دُخُول
هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الْبيُوع؟ قلت: كَانَ
البُخَارِيّ فهم أَن كل مَا حرم وَلم يجز بَيْعه يجوز
قَتله، فالخنزير حرم الشَّارِع بَيْعه كَمَا فِي حَدِيث
جَابر الْآتِي، فَجَاز قَتله، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة
أَدخل هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الْبيُوع، وَقَالَ
بَعضهم: وَوجه دُخُوله فِي أبوواب البيع الْإِشَارَة إِلَى
أَن مَا أَمر بقتْله لَا يجوز بَيْعه. قلت: فِيهِ نظر من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه يحْتَاج إِلَى بَيَان الْموضع
الَّذِي أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقتل
الْخِنْزِير، وَتَحْرِيم بَيْعه لَا يسْتَلْزم جَوَاز
قَتله، وَالْآخر أَن قَوْله: (ماأمر بقتْله لَا يجوز
بَيْعه) ، لَيْسَ بكلي، فَإِن الشَّارِع أَمر بقتل
الْحَيَّات صَرِيحًا، مَعَ أَن جمَاعَة من الْعلمَاء،
مِنْهُم أَبُو اللَّيْث، قَالُوا: يجوز بيع الْحَيَّات
إِذا كَانَت ينْتَفع بهَا للأدوية.
وَقَالَ جابرٌ حَرَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَيْعَ الخِنْزِيرِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَشْرُوعِيَّة قتل
الْخِنْزِير كَانَ مَبْنِيا على كَونه محرما أكله، فَهَذَا
الْقدر بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّة يَكْفِي لوُجُود
الْمُطَابقَة، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث
البُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر، بِلَفْظ: سَمِعت
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
(12/34)
عَام الْفَتْح، وَهُوَ بِمَكَّة، يَقُول:
إِن الله تَعَالَى وَرَسُوله حرما بيع الْخمر وَالْميتَة
وَالْخِنْزِير والأصنام بعد تِسْعَة أَبْوَاب.
2222 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ أنَّهُ
سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُولُ
قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والَّذِي
نَفْسِي بيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ
مَرْيَمَ حَكما مُقْسِطا فيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ويَقْتُلَ
الخِنْزِيرَ ويَضَعَ الجِزْيَةَ ويَفِيضَ المالُ حَتَّى
لاَ يَقْبَلَهُ أحدٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيقتل الْخِنْزِير) ،
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْإِيمَان عَن
قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث
بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن قُتَيْبَة
بِهِ. وَقَالَ حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ليوشكن) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة
للتَّأْكِيد، ويوشكن من أَفعَال المقاربة، وَهُوَ مضارع
دخلت عَلَيْهِ نون التَّأْكِيد، وماضيه: أوشك، وَأنكر
الْأَصْمَعِي مَجِيء الْمَاضِي مِنْهُ، وَحكى الْخَلِيل
اسْتِعْمَال الْمَاضِي فِي قَول الشَّاعِر:
وَلَو سالوا الشرَّاب لأوشكونا
وأفعال المقاربة أَنْوَاع: نوع: مِنْهَا: مَا وضع للدلالة
على دنو الْخَبَر، وَهُوَ ثَلَاثَة: كَاد وكرب وأوشك،
وَمَعْنَاهُ هُنَا: ليسرعن، وَقَالَ الدَّاودِيّ:
مَعْنَاهُ لَيَكُونن. قَالَ: وَجَاء يُوشك بِمَعْنى: يكون
وَمعنى يقرب. قَوْله: (أَن ينزل) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة
فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية، وَالْمعْنَى: ليسرعن نزُول
ابْن مَرْيَم فِيكُم، ونزوله من السَّمَاء، فَإِن الله
رَفعه إِلَيْهَا وَهُوَ حَيّ ينزل عِنْد المنارة
الْبَيْضَاء بشرقي دمشق وَاضِعا كفيه على أَجْنِحَة
ملكَيْنِ، وَكَانَ نُزُوله عِنْد انفجار الصُّبْح. قَوْله:
(حكما) بِفتْحَتَيْنِ، بِمَعْنى الْحَاكِم. قَوْله:
(مقسطا) أَي: عادلاً، من الإقساط، يُقَال: أقسط إِذا عدل،
وقسط إِذا ظلم، فَكَأَن الْهمزَة فِيهِ للسلب، كَمَا
يُقَال: شكا إِلَيْهِ فأشكاه. قَوْله: (فيكسر الصَّلِيب) ،
الْفَاء فِيهِ تفصيلية لقَوْله حكما مقسطا، وويرى: حكما
عدلا، قَالَ الطَّيِّبِيّ: يُرِيد بقوله: يكسر الصَّلِيب
إبِْطَال النَّصْرَانِيَّة وَالْحكم بشرع الْإِسْلَام.
وَفِي (التَّوْضِيح) : يكسر الصَّلِيب، أَي: بعد قتل
أَهله. قلت: فتح لي هُنَا معنى من الْفَيْض الإلهي،
وَهُوَ: أَن المُرَاد من كسر الصَّلِيب إِظْهَار كذب
النَّصَارَى حَيْثُ ادعوا أَن الْيَهُود صلبوا عِيسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على خشب، فَأخْبر الله
تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز بكذبهم وافترائهم،
فَقَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه لَكِن شبه لَهُم}
(النِّسَاء: 751) . وَذَلِكَ أَنهم لما نصبوا لَهُ خَشَبَة
ليصلبوا عَلَيْهَا، ألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى على
الَّذِي دلهم عَلَيْهِ، واسْمه: يهوذا، وصلبوه مَكَانَهُ،
وهم يظنون أَنه عِيسَى، وَرفع الله عِيسَى إِلَى
السَّمَاء، ثمَّ تسلطوا على أَصْحَابه بِالْقَتْلِ والصلب
وَالْحَبْس حَتَّى بلغ أَمرهم إِلَى صَاحب الرّوم، فَقيل
لَهُ: إِن الْيَهُود قد تسلطوا على أَصْحَاب رجل كَانَ
يذكر لَهُم أَنه رَسُول الله، وَكَانَ يحيي الْمَوْتَى
ويبرىء الأكمه والأبرص وَيفْعل الْعَجَائِب، فعدوا
عَلَيْهِ وقتلوه وصلبوه، فَأرْسل إِلَى المصلوب فَوضع عَن
جذعه وَجِيء بالجذع الَّذِي صلب عَلَيْهِ فَعَظمهُ، صَاحب
الرّوم وَجعلُوا مِنْهُ صلبانا، فَمن ثمَّ عظمت
النَّصَارَى الصلبان، وَمن ذَلِك الْوَقْت دخل دين
النَّصْرَانِيَّة فِي الرّوم، ثمَّ يكون كسر عِيسَى
الصَّلِيب حِين ينزل إِشَارَة إِلَى كذبهمْ فِي دَعوَاهُم
أَنه قتل وصلب، وَإِلَى بطلَان دينهم، وَأَن الدّين الْحق
هُوَ الدّين الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ دين
الْإِسْلَام دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي
هُوَ نزل لإظهاره وَإِبْطَال بَقِيَّة الْأَدْيَان بقتل
النَّصَارَى وَالْيَهُود وَكسر الْأَصْنَام، وَقتل
الْخِنْزِير وَغير ذَلِك. قَوْله: (وَيقتل الْخِنْزِير) ،
قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَمعنى قتل الْخِنْزِير تَحْرِيم
اقتنائه وَأكله، وَإِبَاحَة قَتله. وَفِيه بَيَان أَن
أعيانها نَجِسَة، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، إِنَّمَا يَقْتُلهَا على حكم شرع الْإِسْلَام
وَالشَّيْء الطَّاهِر المنتفع بِهِ لَا يُبَاح إِتْلَافه.
انْتهى. وَقيل: يحْتَمل أَنه لتضعيف أهل الْكفْر عِنْدَمَا
يُرِيد قِتَالهمْ، وَيحْتَمل أَنه يقْتله بَعْدَمَا
يقتلهُمْ. قَوْله: (وَيَضَع الْجِزْيَة) ، وَقد مر
تَفْسِيره فِي أول الْبَاب. قَوْله: (وَيفِيض المَال) ،
أَي: يكثر ويتسع، من فاض المَاء إِذا سَالَ وارتفع،
وَضَبطه الدمياطي بِالنّصب عطفا على مَا قبله من
المنصوبات، وَقَالَ ابْن التِّين: إعرابه بِالضَّمِّ
لِأَنَّهُ كَلَام مُسْتَأْنف غير مَعْطُوف لِأَنَّهُ
لَيْسَ من فعل عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: (حَتَّى لَا يقبله أحد) ، لكثرته واستغناء كل
وَاحِد بِمَا فِي يَده، وَيُقَال: يكثر المَال حَتَّى يفضل
مِنْهُ بأيدي ملاكه مَا لَا حَاجَة لَهُم بِهِ فيدور
وَاحِد مِنْهُم على من يقبل شَيْئا مِنْهُ فَلَا يجده.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث مَا فِيهِ: قَالَه ابْن
بطال دَلِيل على أَن الْخِنْزِير حرَام فِي شَرِيعَة
عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَتله لَهُ
تَكْذِيب
(12/35)
لِلنَّصَارَى أَنه حَلَال فِي شريعتهم.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الِانْتِفَاع بِشعرِهِ، فكرهه ابْن
سِيرِين وَالْحكم وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد
وَإِسْحَاق، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا ينْتَفع من
الْخِنْزِير بِشَيْء وَلَا يجوز بيع شَيْء مِنْهُ، وَيجوز
للخرازين أَن يبيعوا شَعْرَة أَو شعرتين للخرازة، وَرخّص
فِيهِ الْحسن وَطَائِفَة، وَذكر عَن مَالك: أَنه لَا بَأْس
بالخرازة بِشعرِهِ، وَأَنه لَا بَأْس بِبيعِهِ وشرائه،
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يجوز للخراز أَن يَشْتَرِيهِ،
وَلَا يجوز لَهُ أَن يَبِيعهُ، وَمِنْه مَا قَالَه
الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) أَن الْخِنْزِير أَسْوَأ حَالا
من الْكَلْب، لِأَنَّهُ لم ينزل بقتْله بِخِلَافِهِ. قلت:
الْخِنْزِير نجس الْعين حَتَّى لَا يجوز دباغة جلده،
بِخِلَاف الْكَلْب على مَا عرف فِي الْفُرُوع.
301 - (بابٌ لاَ يُذَابُ شَحْمُ المَيْتَةِ ولاَ يُباعُ
ودَكُهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يذاب شَحم الْميتَة،
وَلَا يذاب مَجْهُول من: يذيب إذابة، من ذاب الشيى ذوبا
ضد: جمد قَوْله: (ودكه) بِفَتْح الْوَاو وَالدَّال، وَفِي
(الْمغرب) : الودك من اللَّحْم والشحم مَا يتحلب مِنْهُ،
وَقَول الْفُقَهَاء: ودك الْميتَة من ذَلِك، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الودك: هُوَ دسم اللَّحْم ودهنه الَّذِي
يسْتَخْرج مِنْهُ.
روَاهُ جابِرٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى الْمَذْكُور من ترك إذابة شَحم الْميتَة وَترك
بيع الودك جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا تَعْلِيق أسْندهُ البُخَارِيّ فِي
بَاب بيع الْميتَة والأصنام، يَأْتِي بعد ثَمَانِيَة
أَبْوَاب.
166 - (حَدثنَا الْحميدِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ
حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار قَالَ أَخْبرنِي طَاوس أَنه سمع
ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول بلغ عمر أَن
فلَانا بَاعَ خمرًا فَقَالَ قَاتل الله فلَانا ألم يعلم
أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ قَاتل الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها
فَبَاعُوهَا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله حرمت
عَلَيْهِم الشحوم فجملوها بِالْجِيم والْحميدِي بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة هُوَ عبد الله بن الزبير ابْن عِيسَى
الْقرشِي الْمَكِّيّ وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَكَانَ الْحميدِي أثبت
النَّاس وَفِيه وَقَالَ جالسته تسع عشرَة سنة أَو نَحْوهَا
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني
إِسْرَائِيل عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان وَأخرجه
مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَزُهَيْر بن حَرْب واسحق بن إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن
ابْن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن أُميَّة بن بسطَام عَن يزِيد بن
زُرَيْع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح وَفِي
التَّفْسِير عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَأخرجه ابْن
ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ
قَوْله " قَاتل الله فلَانا " قَالَ الْبَيْضَاوِيّ أَي
عاداهم وَقيل قَتلهمْ فَأخْرج فِي صُورَة الْمُبَالغَة أَو
عبر عَنهُ بِمَا هُوَ سَبَب عَنهُ فَمنهمْ بِمَا اخترعوا
من الْحِيَل انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته وَمن قَاتله
قَتله وَقَالَ الْخطابِيّ قيل أَن الَّذِي فِيهِ عمر رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ هَذَا القَوْل سَمُرَة فَإِنَّهُ
خللها ثمَّ بَاعهَا وَكَيف يجوز على مثل سَمُرَة أَن
يَبِيع عين الْخمر وَقد شاع تَحْرِيمهَا لكنه أول فِيهَا
بِأَن خللها وَغير اسْمهَا كَمَا أولوه بالإذابة فِي
الشَّحْم فعابه عمر على ذَلِك انْتهى قلت قَالَ مُسلم
حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب
وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَاللَّفْظ لأبي بكر قَالَ
حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو وَعَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس
قَالَ بلغ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن سَمُرَة
بَاعَ خمرًا فَقَالَ قَاتل الله سَمُرَة ألم يعلم أَن
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
لعن الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها
فَبَاعُوهَا " وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق
الزَّعْفَرَانِي عَن سُفْيَان وَزَاد فِي رِوَايَته
سَمُرَة بن جُنْدُب وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره اخْتلف
فِي تَفْسِيره بيع سَمُرَة الْخمر على ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهمَا أَنه أَخذهَا من أهل الْكتاب عَن قيمَة
الْجِزْيَة فَبَاعَهَا مِنْهُم مُعْتَقدًا جَوَاز ذَلِك
وَالثَّانِي أَن يكون بَاعَ الْعصير مِمَّن يَتَّخِذهُ
خمرًا والعصير يُسمى خمرًا كَمَا يُسمى الْعِنَب بِهِ
لِأَنَّهُ يؤول إِلَيْهِ قَالَ الْخطابِيّ وَلَا يظنّ
بسمرة أَنه بَاعَ عين الْخمر بعد أَن شاع تَحْرِيمهَا
وَإِنَّمَا بَاعَ الْعصير وَالثَّالِث أَن يكون خلل الْخمر
وباعها لما ذكرنَا آنِفا وَقَالَ
(12/36)
الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي كِتَابه الْمدْخل
يجوز أَن سَمُرَة علم بتحريمها وَلم يعلم بِحرْمَة بيعهَا
وَلَو لم يكن كَذَلِك لما أقره عمر على عمله ولعزله لَو
فعله عَن علم انْتهى وَهَذَا يرد قَول بَعضهم وَلم أر فِي
شَيْء من الْأَخْبَار أَن سَمُرَة كَانَ واليا لعمر على
شَيْء من أَعماله انْتهى لِأَن قَول الَّذِي اطلع على
شَيْء حجَّة على قَول من يَدعِي عدم الِاطِّلَاع عَلَيْهِ
وَأَيْضًا الدَّعْوَى بِعَدَمِ رُؤْيَة شَيْء فِي
الْأَخْبَار الَّذِي نَقله غير وَاحِد من الْحفاظ غير
مسموعة لِأَنَّهُ يبعد أَن يطلع أحد على جَمِيع مَا وَقع
فِي قَضِيَّة من الْأَخْبَار قَوْله " قَاتل الله
الْيَهُود " فسره البُخَارِيّ من رِوَايَة أبي ذَر باللعنة
وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
وَقَالَ الْهَرَوِيّ مَعْنَاهُ قَتلهمْ الله وَحكى عَن
بَعضهم عاداهم وَالْأَصْل فِي فَاعل أَن يكون من اثْنَيْنِ
وَرُبمَا يكون من وَاحِد مثل سَافَرت وطارقت قَوْله "
فجملوها " بِالْجِيم أَي أذابوها يُقَال جمل الشَّحْم
يجمله من بَاب نصر ينصر إِذا أذابه وَمِنْه الْجَمِيل
وَهُوَ الشَّحْم الْمُذَاب وَقَالَ الدَّاودِيّ وَمِنْه
سمى الْجمال لِأَنَّهُ يكون عَن الشَّحْم وَلَيْسَ هَذَا
بَين لِأَنَّهُ قد يكون بعد الهزال وَقَالَ بَعضهم وَجه
تَشْبِيه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بيع الْمُسلمين
الْخمر بِبيع الْيَهُودِيّ الْمُذَاب من الشَّحْم
الِاشْتِرَاك فِي النَّهْي عَن تنَاول كل مِنْهُمَا قلت
هَذَا لَا يُسمى تَشْبِيها لعدم شُرُوط التَّشْبِيه فِيهِ
وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيل يَعْنِي بيع فلَان الْخمر مثل
بيع الْيَهُودِيّ الشَّحْم الْمُذَاب وَالْمعْنَى حَال
هَذَا الرجل الَّذِي بَاعَ الْخمر العجيبة الشَّأْن كَحال
الْيَهُود الَّذين حرم عَلَيْهِم الشَّحْم ثمَّ جملوه
فباعوه وعلماء الْبَيَان قد فرقوا بَين التَّشْبِيه
والتمثيل وَجعلُوا لكل وَاحِد بَابا مُفردا نعم إِذا كَانَ
وَجه التَّشْبِيه منتزعا من أُمُور يُسمى تمثيلا كَمَا فِي
تَشْبِيه {مثل الَّذِي حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها
كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} فَإِن تَشْبِيه مثل الْيَهُود
الَّذين كلفوا بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاة ثمَّ لم
يعملوا بذلك بِمثل الْحمار الْحَامِل للأسفار فَإِن وَجه
التَّشْبِيه بَينهمَا وَهُوَ حرمَان الِانْتِفَاع بأبلغ
نَافِع مَعَ الكد والتعب فِي استصحابه لَا يخفى كَونه
منتزعا من عدَّة أُمُور وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا كل
مَا حرم تنَاوله حرم بَيْعه قلت قد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن
هَذَا لَيْسَ بكلي فَإِن الْحَيَّة يحرم تنَاولهَا وَلَا
يحرم بيعهَا للضَّرُورَة للتداوي وَقَالَ أَيْضا وَتَنَاول
الْخمر وَالسِّبَاع وَغَيرهمَا مِمَّا حرم أكله إِنَّمَا
يَتَأَتَّى بعد ذبحه وَهُوَ بِالذبْحِ يصير ميتَة
لِأَنَّهُ لَا ذَكَاة لَهُ وَإِذا صارة ميتَة صَار نجسا
وَلم يجز بَيْعه انْتهى قلت كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن
يَقُول هَذَا فِي مَذْهَبنَا لِأَن من لم يقف على مَذَاهِب
الْعلمَاء فِي مثل هَذَا يعْتَقد أَنه أَمر مجمع عَلَيْهِ
وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن عندنَا مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه
إِذا ذبح يطهر لَحْمه حَتَّى إِذا صلى وَمَعَهُ من ذَلِك
أَكثر من قدر الدِّرْهَم تصح صلَاته وَلَو وَقع فِي المَاء
لَا يُنجسهُ لِأَنَّهُ بالذكاة يطهر لِأَن الذَّكَاة أبلغ
من الدّباغ فِي إِزَالَة الدِّمَاء والرطوبات وَقَالَ
الْكَرْخِي كل حَيَوَان يطهر جلده بالدباع يطهر بالذكاة
فَهَذَا يدل على أَنه يطهر لَحْمه وشحمه وَسَائِر
أَجْزَائِهِ وَفِي الْبَدَائِع الذَّكَاة تطهر المذكي
بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ إِلَّا الدَّم المسفوح هُوَ
الصَّحِيح وَقَالَ ابْن بطال أجمع الْعلمَاء على تَحْرِيم
بيع الْميتَة بِتَحْرِيم الله تَعَالَى لَهَا قَالَ
تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} وَاعْترض بعض
الْمَلَاحِدَة بِأَن الابْن إِذا ورث من أَبِيه جَارِيَة
كَانَ الْأَب وَطئهَا فَإِنَّهَا تحرم على الابْن وَيحل
لَهُ بيعهَا بِالْإِجْمَاع وَأكل ثمنهَا وَقَالَ القَاضِي
هَذَا تمويه على من لَا علم عِنْده لِأَن جَارِيَة الْأَب
لم يحرم على الابْن مِنْهَا غير الِاسْتِمْتَاع على هَذَا
الْوَلَد دون غَيره من النَّاس وَيحل لهَذَا الابْن
الِانْتِفَاع بهَا فِي جَمِيع الْأَشْيَاء سوى
الِاسْتِمْتَاع وَيحل لغيره الِاسْتِمْتَاع وَغَيره
بِخِلَاف الشحوم فَإِنَّهَا مُحرمَة الْمَقْصُود مِنْهَا
وَهُوَ الْأكل مِنْهَا على جَمِيع الْيَهُود وَكَذَلِكَ
شحوم الْميتَة مُحرمَة الْأكل على كل وَاحِد فَكَانَ مَا
عدا الْأكل تَابعا بِخِلَاف مَوْطُوءَة الْأَب وَفِي
الحَدِيث لعن العَاصِي الْمعِين وَلَكِن يحْتَمل أَن قَول
عمر كَانَ للتغليظ لِأَن هَذَا كلمة تَقُولهَا الْعَرَب
عِنْد إِرَادَة الزّجر وَلَيْسَت على حَقِيقَتهَا وَفِيه
إبِْطَال الْحِيَل والوسائل إِلَى الْمحرم وَفِيه تَحْرِيم
بيع الْخمر وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَغَيره فِيهِ
الْإِجْمَاع وشذ من قَالَ يجوز بيعهَا وَيجوز بيع العنقود
المستحيل بَاطِنه خمرًا وَقَالَ بَعضهم فِيهِ أَن الشَّيْء
إِذا حرم عينه حرم ثمنه قلت هَذَا لَيْسَ بكلي وَقَالَ
أَيْضا فِيهِ دَلِيل على أَن بيع الْمُسلم الْخمر من
الذِّمِّيّ لَا يجوز وَكَذَا تَوْكِيل الذِّمِّيّ الْمُسلم
فِي بيع الْخمر قلت لَا خلاف فِي المسئلة الأولى وَلَا فِي
الثَّانِيَة وَلَكِن الْخلاف فِيمَا إِذا وكل الذِّمِّيّ
الْمُسلم بِبيع الْخمر والْحَدِيث لَا يدل على مسئلة
التَّوْكِيل من الْجَانِبَيْنِ وَفِيه اسْتِعْمَال
الْقيَاس فِي الْأَشْبَاه والنظائر وَقَالَ بَعضهم
وَاسْتدلَّ بِهِ على تَحْرِيم جثة الْكَافِر إِذا
قَتَلْنَاهُ وَأَرَادَ الْكفَّار شِرَاءَهُ قلت وَجه هَذَا
الِاسْتِدْلَال من هَذَا الحَدِيث غير ظَاهِرَة -
(12/37)
4222 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا
عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ
سَمِعْتُ سَعِيد بنَ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قاتَلَ الله يَهُودَ حُرِّمَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فباعُوهَا وأكلُوا أثْمانَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وعبدان هُوَ: عبد الله بن
عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك
الْمروزِي، وَيُونُس ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم بِإِسْنَاد البُخَارِيّ. قَوْله:
(يهود) يُغير تَنْوِين لِأَنَّهُ لَا ينْصَرف للعلمية
والتأنيث، لِأَنَّهُ علم للقبيلة، ويروى: يهودا،
بِالتَّنْوِينِ، وَوَجهه أَن يكون بِاعْتِبَار الْحَيّ
فَيبقى بعلة وَاحِدَة فَيَنْصَرِف.
قَالَ أَبُو عَبدِ الله قاتَلَهُمُ الله لَعَنَهُمْ قُتِلَ
لعِنَ الخَرَّاصُونَ. الْكَذَّابُونَ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَأَبُو عبد الله
هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقَالَ: تَفْسِير قَاتلهم لعنهم،
وَاسْتشْهدَ على ذَلِك بقوله تَعَالَى: {قتل الخراصون}
(الذاريات: 01) . يَعْنِي: لعن الخراصون، وَهُوَ تَفْسِير
ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: قتل، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَنهُ
فِي تَفْسِيره، والخراصون الكذابون، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ
أَيْضا عَن مُجَاهِد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي معنى
اللَّعْن عَن قريب.
401 - (بابُ بَيْعِ التَّصاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيها
رُوحٌ وَمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التصاوير، أَي: المصورات
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا روح: كالأشجار وَنَحْوهَا. قَوْله:
(وَمَا يكره) أَي: وَفِي بَيَان مَا يكره من ذَلِك من
اتِّخَاذ أَو عمل أَو بيع أَو نَحْو ذَلِك.
5222 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ
حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ أخبرنَا عَوْفٌ عنْ
سَعِيدِ بنِ أبِي الحَسَنِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما إذَا أتَاهُ رَجُلٌ
فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إنِّي إنْسَانٌ إنَّما
مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي وإنِّي أصْنَعُ هَذِهِ
التَّصَاوِيرَ فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لاَ أُحَدِّثُكَ
إلاَّ مَا سَمِعْتُ منْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم سَمِعْتُهُ يَقولُ منْ صَوَّرَ صورَةً فإنَّ الله
مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيها الرُّوحَ ولَيْسَ
بِنافِخٍ فِيها أبَدا فَرَبا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً
واصْفَرَّ وجْهُهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إنْ أبَيْتَ إلاَّ أنْ
تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ
لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَعَلَيْك بِهَذَا
الشّجر) ، وَكَانَ البُخَارِيّ فهم من قَوْله فِي
الحَدِيث: إِنَّمَا معيشتي من صَنْعَة يَدي، وَإجَابَة
ابْن عَبَّاس بِإِبَاحَة صور الشّجر، وَشبهه إِبَاحَة
البيع وجوازه فترجم عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد
الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي. الثَّانِي: يزِيد من
الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع وَقد تكَرر ذكره.
الثَّالِث: عَوْف، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْوَاو فِي آخِره فَاء: ابْن أبي حميد الْأَعرَابِي، يعرف
بِهِ وَلَيْسَ بأعرابي الأَصْل يكنى أَبَا سهل، وَيُقَال:
أَبُو عبد الله. الرَّابِع: سعيد بن أبي الْحسن، أَخُو
الْحسن الْبَصْرِيّ، وَاسم أبي الْحسن: يسَار، بِالْيَاءِ
آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة. الْخَامِس: عبد الله
بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل
فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن هَؤُلَاءِ كلهم بصريون.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سعيد بن أبي
الْحسن لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ مَوْصُولا سوى هَذَا
الحَدِيث.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن نصر بن
عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد
بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْبَاب عَن ابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. أخرجه الطَّحَاوِيّ:
حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا القعْنبِي، قَالَ: حَدثنَا
(12/38)
عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (المصورون يُعَذبُونَ يَوْم
الْقِيَامَة، يُقَال لَهُم: أحيوا مَا خلقْتُمْ) ،
وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا وَغَيره، وَعَن أبي هُرَيْرَة
أخرجه النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن عَليّ
حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا همام عَن قَتَادَة عَن عِكْرِمَة
عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من صور صُورَة كلف يَوْم الْقِيَامَة أَن
ينْفخ فِيهَا الرّوح، وَلَيْسَ بنافخ) . وَأخرجه
الطَّحَاوِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذْ أَتَاهُ رجل) ، كلمة: إِذْ،
للمفاجأة، وَقد ذكرنَا غير مرّة أَن: إِذْ وَإِذا، يضافان
إِلَى جملَة، فَقَوله: (أَتَاهُ رجل) جملَة فعلية،
وَقَوله: (فَقَالَ ابْن عَبَّاس) ، جَوَاب: إِذْ. قَوْله:
(إِنَّمَا معيشتي من صَنْعَة يَدي) يَعْنِي: مَا معيشتي
إلاَّ من عمل يَدي. قَوْله: (حَتَّى ينْفخ فِيهَا) ، أَي:
إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّورَة. قَوْله: (وَلَيْسَ بنافخ)
أَي: لَا يُمكن لَهُ النفخ قطّ، فيعذب أبدا. قَوْله:
(فربا) أَي: فربا الرجل أَي أَصَابَهُ الربو، وَهُوَ مرض
يحصل للرجل يَعْلُو نَفسه ويضيق صَدره، وَقَالَ ابْن
قرقول: أَي ذكر وامتلأ خوفًا. وَعَن صَاحب (الْعين) :
رَبًّا الرجل أَصَابَهُ نفس فِي جَوْفه، وَهُوَ الربو
والربوة والربوة، وَهُوَ نهج وَنَفس متواتر، وَقَالَ ابْن
التِّين: مَعْنَاهُ انتفخ كَأَنَّهُ خجل من ذَلِك. قَوْله:
(وَيحك) ، كلمة ترحم، كَمَا أَن: وَيلك، كلمة عَذَاب.
قَوْله: (كل شَيْء) ، بِالْجَرِّ بدل الْكل عَن الْبَعْض،
وَهَذَا جَائِز عِنْد بعض النُّحَاة، وَهُوَ قسم خَامِس من
الْإِبْدَال كَقَوْل الشَّاعِر:
(رحم الله أعظما دفنوهابسجستان طَلْحَة الطلحات)
ويروى: نضر الله أعظما، وَيجوز أَن يكون فِيهِ مُضَاف
مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: عَلَيْك، بِمثل الشّجر، أَو يكون
وَاو الْعَطف فِيهِ مقدرَة، تَقْدِيره: وكل شَيْء، كَمَا
فِي: التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات،
فَإِن مَعْنَاهُ: والصلوات، وبواو الْعَطف جَاءَ فِي
رِوَايَة أبي نعيم من طَرِيق خودة عَن عَوْف: فَعَلَيْك
بِهَذَا الشّجر وكل شَيْء لَيْسَ فِيهِ روح، وَفِي
رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي بِلَفْظ: فَاصْنَعْ الشّجر
ومالا نفس لَهُ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هُوَ بَيَان للشجر،
لِأَنَّهُ لما مَنعه عَن التَّصْوِير وأرشده إِلَى جنس
الشّجر، رأى أَنه غير وافٍ بِالْمَقْصُودِ، فأوضحه بِهِ،
وَيجوز النصب على التَّفْسِير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن تَصْوِير ذِي روح
حرَام، وَأَن مصوره توعد بِعَذَاب شَدِيد، وَهُوَ قَوْله:
فَإِن الله معذبه حَتَّى ينْفخ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة
لمُسلم: كل مُصَور فِي النَّار يَجْعَل لَهُ بِكُل صُورَة
صورها نفسا، فيعذبه فِي جَهَنَّم. وروى الطَّحَاوِيّ من
حَدِيث أبي جُحَيْفَة: لعن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، المصورين. وَعَن عُمَيْر عَن أُسَامَة بن زيد
يرفعهُ: قَاتل الله قوما يصورون مَا لَا يخلقون. وَقَالَ
الْمُهلب: إِنَّمَا كره هَذَا من أجل أَن الصُّورَة
الَّتِي فِيهَا الرّوح كَانَت تعبد فِي الْجَاهِلِيَّة،
فَكرِهت كل صُورَة، وَإِن كَانَت لَا فَيْء لَهَا وَلَا
جسم قطعا للذريعة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي حَدِيث
مُسلم: أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة المصورون،
وَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون فِي النَّار أحد يزِيد
عَذَابه على عَذَاب المصورين، وَهَذَا يُعَارضهُ قَوْله
تَعَالَى: {ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب}
(غَافِر: 64) . وَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَشد
النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة إِمَام ضَلَالَة) .
وَقَوله: (أَشد النَّاس عذَابا عَالم لم يَنْفَعهُ الله
بِعِلْمِهِ) ، وَأَشْبَاه ذَلِك، وَوجه التَّوْفِيق: أَن
النَّاس الَّذين أضيف إِلَيْهِم: أَشد، لَا يُرَاد بهم كل
نوع النَّاس، بل بَعضهم المشاركون فِي ذَلِك الْمَعْنى
المتوعد عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ، ففرعون أَشد المدعين
للإلهية عذَابا، وَمن يَقْتَدِي بِهِ فِي ضَلَالَة كفر
أَشد مِمَّن يَقْتَدِي بِهِ فِي ضَلَالَة بِدعَة، وَمن صور
صورا ذَات أَرْوَاح أَشد عذَابا مِمَّن يصور مَا لَيْسَ
بِذِي روح، فَيجوز أَن يَعْنِي بالمصورين الَّذين يصورون
الْأَصْنَام لِلْعِبَادَةِ، كَمَا كَانَت الْجَاهِلِيَّة
تفعل، وكما يفعل النَّصَارَى، فَإِن عَذَابهمْ يكون أَشد
مِمَّن يصورها لَا لِلْعِبَادَةِ. انْتهى. وَلقَائِل أَن
يَقُول: أَشد النَّاس عذَابا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه
الْأمة لَا إِلَى غَيرهَا من الْكفَّار، فَإِن صورها لتعبد
أَو لمضاهاة خلق الله تَعَالَى فَهُوَ كَافِر قَبِيح
الْكفْر، فَلذَلِك زيد فِي عَذَابه. قلت: قَول
الْقُرْطُبِيّ: وَمن صور صورا ذَات أَرْوَاح أَشد عذَابا
مِمَّن يصور مَا لَيْسَ بِذِي روح، فِيهِ نظر لَا يخفى،
وَفِيه إِبَاحَة تَصْوِير مَا لَا روح لَهُ كالشجر
وَنَحْوه، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء وَأهل
الحَدِيث، فَإِنَّهُم استدلوا على ذَلِك بقول ابْن
عَبَّاس: فَعَلَيْك بِهَذَا الشّجر ... إِلَى آخِره، فَإِن
ابْن عَبَّاس استنبط قَوْله من قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (فَإِن الله معذبه حَتَّى ينْفخ فِيهَا) . أَي:
الرّوح، فَدلَّ هَذَا على أَن المصور إِنَّمَا يسْتَحق
هَذَا الْعَذَاب لكَونه قد بَاشر تَصْوِير حَيَوَان
مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى، وتصوير جماد لَيْسَ لَهُ فِي
معنى ذَلِك، فَلَا بَأْس بِهِ.
وَذهب جمَاعَة
(12/39)
مِنْهُم اللَّيْث بن سعيد وَالْحسن بن حَيّ
وَبَعض الشَّافِعِيَّة إِلَى كَرَاهَة التَّصْوِير
مُطلقًا، سَوَاء كَانَت على الثِّيَاب أَو على الْفرش
والبسط وَنَحْوهَا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُوم قَوْله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا
فِيهِ صُورَة وَلَا كلب وَلَا جنب) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَوله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا
فِيهِ كلب وَلَا صُورَة) ، أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن
عَبَّاس عَن أبي طَلْحَة، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ
وَالطَّبَرَانِيّ نَحوه من حَدِيث أبي أَيُّوب عَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج الطَّحَاوِيّ
أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: (أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، قَالَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِنَّا لَا ندخل بَيْتا فِيهِ صُورَة) . وَأخرجه
مُسلم مطولا. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث
عَائِشَة، قَالَت: دخل عليَّ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مستترة بقرام ستر فِيهِ صُورَة
فهتكه، ثمَّ قَالَ: (إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم
الْقِيَامَة الَّذين يشبهون بِخلق الله تَعَالَى) .
وَأخرجه مُسلم بأتم مِنْهُ. وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من
حَدِيث أُسَامَة بن زيد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ
صُورَة. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ مطولا. وَأخرج
الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي الزبير: قَالَ: سَأَلت
جَابِرا عَن الصُّور فِي الْبَيْت وَعَن الرجل يفعل ذَلِك؟
فَقَالَ: زجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
ذَلِك.
وَخَالف الْآخرُونَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، وهم
النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَقَالُوا: إِذا
كَانَت الصُّور على الْبسط والفرش الَّتِي تُوطأ بالأقدام
فَلَا بَأْس بهَا، وَأما إِذا كَانَت على الثِّيَاب
والستائر وَنَحْوهمَا، فَإِنَّهَا تحرم، وَقَالَ أَبُو
عمر: ذكر ابْن الْقَاسِم: قَالَ: كَانَ مَالك يكره
التماثيل فِي الأسرة والقباب، وَأما الْبسط والوسائد
وَالثيَاب فَلَا بَأْس بِهِ. وَكره أَن يُصَلِّي إِلَى
قبَّة فِيهَا تماثيل. وَقَالَ الثَّوْريّ: لَا بَأْس
بالصور فِي الوسائد لِأَنَّهَا تُوطأ وَيجْلس عَلَيْهَا،
وَكَانَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يكْرهُونَ التصاوير فِي
الْبيُوت بتمثال، وَلَا يكْرهُونَ ذَلِك فِيمَا يبسط، وَلم
يَخْتَلِفُوا أَن التصاوير فِي الستور الْمُعَلقَة
مَكْرُوهَة، وَكَذَلِكَ عِنْدهم مَا كَانَ خرطا أَو نقشا
فِي الْبناء.
وَقَالَ الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي: وَإِن دعِي رجل إِلَى
عرس فَرَأى صُورَة ذَات روح، أَو صورا ذَات أَرْوَاح، لم
يدْخل إِن كَانَت مَنْصُوبَة، وَإِن كَانَت تُوطأ فَلَا
بَأْس، وَإِن كَانَت صُورَة الشّجر. وَقَالَ قوم: إِنَّمَا
كره من ذَلِك مَا لَهُ ظلّ وَمَا لَا ظلّ لَهُ فَلَيْسَ
بِهِ بَأْس. وَقَالَ عِيَاض: وَأَجْمعُوا على منع مَا
كَانَ لَهُ ظلّ، وَوُجُوب تَغْيِيره إلاَّ مَا ورد فِي
اللّعب بالبنات لصغار الْبَنَات، والرخصة فِي ذَلِك، وَكره
مَالك شِرَاء ذَلِك لابنته، وَادّعى بَعضهم أَن إِبَاحَة
اللّعب للبنات مَنْسُوخ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَاسْتثنى
بعض أَصْحَابنَا من ذَلِك مَا لَا يبْقى كصور الفخار
والشمع وَمَا شاكل ذَلِك، وَهُوَ مطَالب بِدَلِيل
التَّخْصِيص، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تعْمل أصناما من
الْعَجْوَة، حَتَّى إِن بَعضهم جَاع فَأكل صنمه. قلت: بَنو
باهلة كَانُوا يصنعون الْأَصْنَام من الْعَجْوَة، فَوَقع
فيهم الغلاء فأكلوها وَقَالُوا: بَنو باهلة أكلُوا
آلِهَتهم.
وَحجَّة الْمُخَالفين لأهل الْمقَالة الأولى حَدِيث
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قدم
رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْدِي نمط لي
فِيهِ صُورَة، فَوَضَعته على سهوتي، فاجتذبه، فَقَالَ: لَا
تستروا الْجِدَار. قَالَت: فصنعته وسادتين. أخرجه
الطَّحَاوِيّ وَأخرجه مُسلم بأتم مِنْهُ، والنمط بِفَتْح
النُّون وَالْمِيم، هُوَ ضرب من الْبسط لَهُ خمل رَقِيق
وَيجمع على أنماط. والسهوة، بِالسِّين الْمُهْملَة بَيت
صَغِير منحدر فِي الأَرْض قَلِيلا، شَبيه بالمخدع
والخزانة. وَقيل: هُوَ كالصفة تكون بَين يَدي الْبَيْت،
وَقيل: شَبيه بالرف والطاق يوضع فِيهِ الشَّيْء، والوسادة
المخدة.
وَأَجَابُوا عَن الْأَحَادِيث الَّتِي مَضَت بِأَنا
عَملنَا بهَا على عمومها، وعملنا بِحَدِيث عَائِشَة أَيْضا
وبأمثاله الَّتِي رويت فِي هَذَا الْبَاب فِيمَا إِذا
كَانَت الصُّور مِمَّا كَانَ يُوطأ ويهان، فَإِذن نَحن
عَملنَا بِأَحَادِيث الْبَاب كلهَا بِخِلَاف هَؤُلَاءِ
فَإِنَّهُم عمِلُوا بِبَعْضِهَا وأهملوا بَعْضهَا.
وَفِيه: مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ: يُسْتَفَاد من قَوْله:
(وَلَيْسَ بنافخ) جَوَاز التَّكْلِيف بِمَا لَا يقدر
عَلَيْهِ، قَالَ: وَلَكِن لَيْسَ مَقْصُود الحَدِيث
التَّكْلِيف، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهُ تَعْذِيب
الْمُكَلف وَإِظْهَار عَجزه عَمَّا تعاطاه مُبَالغَة فِي
توبيخه وَإِظْهَار قبح فعله.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله سَمِعَ سَعيدُ بنُ أبِي عَرُوبَةَ
مِنَ النِّضْرِ بنِ أنَسٍ هَذا الوَاحِدِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، رَحمَه الله، وَالنضْر،
بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: هُوَ
النَّضر بن أنس بن مَالك البُخَارِيّ
(12/40)
الْأنْصَارِيّ، يكنى أَبَا مَالك، عداده
فِي أهل الْبَصْرَة، وَلم يسمع سعيد هَذَا من النَّضر
إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد الَّذِي رَوَاهُ عَوْف
الْأَعرَابِي، وَهُوَ معنى قَوْله: هَذَا الْوَاحِد، أَي:
هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
أخرج البُخَارِيّ هَذَا فِي كتاب اللبَاس: عَن عَيَّاش بن
الْوَلِيد عَن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن أبي عرُوبَة سَمِعت
النَّضر بِحَدِيث قَتَادَة، قَالَ: كنت عِنْد ابْن عَبَّاس
... فَذكره، وروى مُسلم: فَأدْخل بَين سعيد وَالنضْر
قَتَادَة، قَالَ الجياني: وَلَيْسَ بِشَيْء لتصريح
البُخَارِيّ وَغَيره بِسَمَاع سعيد من النَّضر هَذَا
الحَدِيث وَحده، وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن أبي غَسَّان،
وَعَن أبي مُوسَى عَن معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه عَن
قَتَادَة عَن النَّضر مثله.
501 - (بابُ تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ فِي الخَمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْرِيم التِّجَارَة فِي
الْخمر، وَذكر البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
هَذِه التَّرْجَمَة فِي أَبْوَاب الْمَسْجِد لَكِن بِقَيْد
الْمَسْجِد حَيْثُ قَالَ: بَاب تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر
فِي الْمَسْجِد، وَهَذِه التَّرْجَمَة أَعم من تِلْكَ
التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا غير مُقَيّدَة بِشَيْء.
وَقَالَ جابِرٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حرَّمَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْعَ الخَمْرِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَوَصله البُخَارِيّ فِي:
بَاب بيع الْميتَة والإصنام، وَسَيَأْتِي عَن قريب إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
6222 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ
الأعْمَشِ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا نَزَلَتْ آياتُ سورَةِ
الْبَقَرَةِ عنْ آخِرِهَا خرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ حُرِّمَتِ التِّجارَةُ فِي الخَمْرِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حرمت التِّجَارَة فِي
الْخمر) . وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَمُسلم هُوَ
ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ،
وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن
صبيح الْكُوفِي، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب تَحْرِيم
تِجَارَة الْخمر فِي الْمَسْجِد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ:
عَن عَبْدَانِ عَن أبي جَمْرَة عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم
عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (لما نزلت آيَات سُورَة الْبَقَرَة) أَي: من أول
آيَة الرِّبَا إِلَى آخر السُّورَة، وَلَفظه هُنَاكَ: لما
نزلت الْآيَات من سُورَة الْبَقَرَة فِي الرِّبَا. قَوْله:
(خرج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: من
الْبَيْت إِلَى الْمَسْجِد، وَكَذَا هُوَ هُنَاكَ،
وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
601 - (بابُ إثْمِ مَنْ باعَ حُرّا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من بَاعَ حرا، يَعْنِي
عَالما بذلك مُتَعَمدا، وَالْحر يسْتَعْمل فِي بني آدم على
الْحَقِيقَة، وَقد يسْتَعْمل فِي غَيرهم مجَازًا، كَمَا
يُقَال فِي الْوَقْف، وَقَالَ بَعضهم: وَالْحر الظَّاهِر
أَن المُرَاد بِهِ من بني آدم، وَيحْتَمل مَا هُوَ أَعم من
ذَلِك، فَيدْخل فِيهِ مثل الْمَوْقُوف. انْتهى. قلت: لَا
معنى لقَوْله: وَالْحر الظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ من بني
آدم، لِأَن لفظ الْحر مَوْضُوع فِي اللُّغَة لمن لم يمسهُ
رق، وَعَن هَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحر خلاف العَبْد،
والحرة خلاف الْأمة. وَقَوله: أَعم من ذَلِك، إِن أَرَادَ
بِهِ عُمُوم لفظ حر، فَإِنَّهُ فِي أَفْرَاده، وَلَا يدْخل
فِيهِ شَيْء خَارج عَنْهَا، وَإِن أَرَادَ بِهِ أَن لفظ:
حر، يسْتَعْمل لمعان كَثِيرَة مثل مَا يُقَال: حر الرمل
وحر الدَّار يَعْنِي وَسطهَا، وحر الْوَجْه مَا بدا من
الوجنة، وَالْحر فرخ الْحَمَامَة وَولد الظبية والحية،
وطين حر لَا رمل فِيهِ، وَغير ذَلِك، فَلَا هموم فِي كل
وَاحِد مِنْهَا بِلَا شكّ، وَعند إِطْلَاقه يُرَاد بِهِ
الْحر خلاف العَبْد، فَكيف يَقُول: وَيحْتَمل مَا هُوَ
أَعم من ذَلِك؟ وَهَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ.
7222 - حدَّثني بِشْرُ بنُ مَرْحُومٍ قَالَ حَدثنَا
يَحْيَى بنُ سُلَيْمٍ عنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أُمَيَّةَ عنْ
سعِيدِ بنِ أبِي سَعيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
قَالَ الله ثلاثَةٌ
(12/41)
أَنا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ رَجُلُ
أعطَى بِي ثُمَّ غدَرَ ورَجُلٌ باعَ حُرّا فأكَلَ ثَمَنَهُ
ورَجُلٌ استَأجَرَ أجِيرا فاسْتَوْفَى مِنْهُ ولَمْ
يُعْطِهِ أجْرَهُ. (الحَدِيث 7222 طرفه فِي: 0722) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَرجل بَاعَ حرا فَأكل
ثمنه) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مَرْحُوم
ضد المعذب وَهُوَ بشر بن عُبَيْس بن مَرْحُوم بن عبد
الْعَزِيز بن مهْرَان مولى آل مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان
الْقرشِي الْعَطَّار، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وعبيس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي
آخِره سين مُهْملَة. الثَّانِي: يحيى بن سليم، بِضَم
السِّين الْمُهْملَة: الْقرشِي الخراز الْحذاء، يكنى أَبَا
زَكَرِيَّا، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد مَاتَ سنة خمس
وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن عَمْرو بن
سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي، مَاتَ سنة تسع وَثَلَاثِينَ
وَمِائَة. الرَّابِع: سعيد المَقْبُري، وَقد تكَرر ذكره.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه طائفي نزل مَكَّة
مُخْتَلف فِي توثيقه وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ
مَوْصُولا سوى هَذَا الحَدِيث، وَذكره فِي الْإِجَارَة من
وَجه آخر عَنهُ. وَفِيه: أَن يحيى وَإِسْمَاعِيل مكيان
وَسَعِيد مدنِي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي
هُرَيْرَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ، رَوَاهُ أَبُو جَعْفَر
النُّفَيْلِي عَن يحيى بن سليم، فَقَالَ: عَن سعيد بن أبي
سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْمَحْفُوظ قَول
الْجَمَاعَة، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثَلَاثَة) ، أَي: ثَلَاثَة أنفس،
وَذكر الثَّلَاثَة لَيْسَ للتخصيص، لِأَن الله تَعَالَى
خصم لجَمِيع الظَّالِمين. وَلَكِن لما أَرَادَ التَّشْدِيد
على هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة صرح بهَا. قَوْله: (خصمهم) ،
الْخصم يَقع على الْوَاحِد والإثنين وَالْجَمَاعَة والمذكر
والمؤنث، بِلَفْظ وَاحِد، وَزعم الْهَرَوِيّ أَن الْخصم
بِالْفَتْح: الْجَمَاعَة من الْخُصُوم، والخصم بِكَسْر
الْخَاء: الْوَاحِد، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْخصم هُوَ
المولع بِالْخُصُومَةِ الماهر فِيهَا. وَعَن يَعْقُوب:
يُقَال للخصم خصيم، وَفِي (الواعي) : خصيم للمخاصِم
والمخاصَم، وَعَن الْفراء: كَلَام الْعَرَب الفصحاء أَن
الإسم إِذا كَانَ مصدرا فِي الأَصْل لَا يثنونه وَلَا
يجمعونه، وَمِنْهُم من يثنيه ويجمعه، فالفصحاء يَقُولُونَ:
هَذَا خصم فِي جَمِيع الْأَحْوَال، وَالْآخرُونَ
يَقُولُونَ: هَذَانِ خصمان، وهم خصوم وخصماء، وَكَذَا مَا
أشبهه. قَوْله: (أعطي بِي) حذف فِيهِ الْمَفْعُول
تَقْدِيره: أعْطى الْعَهْد باسمي وَالْيَمِين بِهِ، ثمَّ
نقض الْعَهْد وَلم يَفِ بِهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ:
مَعْنَاهُ حلف فِي قَوْله ثمَّ غدر، يَعْنِي: نقض الْعَهْد
الَّذِي عهد عَلَيْهِ واجترأ على الله تَعَالَى. قَوْله:
(بَاعَ حرا) أَي: عَالما مُتَعَمدا، فَإِن كَانَ جَاهِلا،
فَلَا يدْخل فِي هَذَا القَوْل قَوْله: (فَأكل ثمنه) ، خص
الْأكل بِالذكر لِأَنَّهُ أعظم مَقْصُود. قَوْله: (فاستوفى
مِنْهُ) أَي: استوفى الْعَمَل مِنْهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْعَذَاب الشَّديد
على الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين: إِمَّا الأول: فَلِأَنَّهُ
هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى. وَأما الثَّانِي: فَلِأَن
الْمُسلمين أكفاء فِي الْحُرِّيَّة والذمة، وللمسلم على
الْمُسلم أَن ينصره وَلَا يَظْلمه، وَأَن ينصحه وَلَا
يغشه، وَلَيْسَ فِي الظُّلم أعظم مِمَّن يستعبده أَو يعرضه
على ذَلِك، وَمن بَاعَ حرا فقد مَنعه التَّصَرُّف فِيمَا
أَبَاحَ الله لَهُ وألزمه حَال الذلة وَالصغَار، فَهُوَ
ذَنْب عَظِيم يُنَازع الله بِهِ فِي عباده. وَأما
الثَّالِث: فَهُوَ دَاخل فِي بيع حر، لِأَنَّهُ استخدمه
بِغَيْر عوض، وَهَذَا عين الظُّلم. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: وكل من لقِيت من أهل الْعلم على أَن من بَاعَ
حرا لَا قطع عَلَيْهِ ويعاقب، ويروى عَن ابْن عَبَّاس: يرد
البيع ويعاقبان، وروى حلاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه قَالَ: تقطع يَده، وَالصَّوَاب قَول
الْجَمَاعَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بسارق، وَلَا يجوز قطع غير
السَّارِق، وَذكر ابْن حزم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة: أَن
رجلا بَاعَ نَفسه فَقضى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، بِأَنَّهُ عبد كَمَا أقرّ، وَجعل ثمنه فِي
سَبِيل الله تَعَالَى، وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن
الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
(إِذا أقرّ على نَفسه بالعبودية فَهُوَ عبد) ، وروى سعيد
بن مَنْصُور، فَقَالَ: حَدثنَا هشيم أَنبأَنَا مُغيرَة بن
مقسم عَن النَّخعِيّ
(12/42)
فِيمَن سَاق إِلَى امْرَأَة رجلا، فَقَالَ إِبْرَاهِيم:
هُوَ رهن بِمَا جعل فِيهِ حَتَّى يفتك نَفسه، وَعَن
زُرَارَة بن أوفى، قَاضِي الْبَصْرَة التَّابِعِيّ: أَنه
بَاعَ حرا فِي دين عَلَيْهِ، قَالَ ابْن حزم: وروينا هَذَا
القَوْل عَن الشَّافِعِي، وَهِي قولة غَرِيبَة لَا يعرفهَا
من أَصْحَابه إلاَّ من تبحر فِي الْآثَار. قَالَ: وَهَذَا
قَضَاء عمر وَعلي بِحَضْرَة الصَّحَابَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يعترضهما معترض. قَالَ: وَقد جَاءَ
أثر بِأَن الْحر يُبَاع فِي دينه فِي صدر الْإِسْلَام
إِلَى أَن أنزل الله: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى
ميسرَة} (الْبَقَرَة: 082) . وَرُوِيَ عَن أبي سعيد
الْخُدْرِيّ (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَاعَ حرا أفلس) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث
حجاج عَن ابْن جريج، فَقَالَ: عَن أبي سعيد أَو سعد على
الشَّك، وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث مُسلم بن خَالِد
الزنْجِي عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن
الْبَيْلَمَانِي عَن سرق: أَنه اشْترى من أَعْرَابِي
بَعِيرَيْنِ فباعهما، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
يَا أَعْرَابِي! إذهب فبعه حَتَّى تستوفي حَقك، فاعتقه
الْأَعرَابِي. وَرَوَاهُ ابْن سعد عَن أبي الْوَلِيد
الْأَزْرَقِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ سَنَد صَحِيح، وَضَعفه
عبد الْحق بِأَن قَالَ: مُسلم وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن
أسلم ضعيفان، وَلَيْسَ بجيد، لِأَن مُسلما وَثَّقَهُ غير
وَاحِد، وَصحح حَدِيثه، وَعبد الرَّحْمَن لَا مدْخل لَهُ
فِي هَذَا لَا جرم. وَأخرجه الْحَاكِم من حَدِيث بنْدَار:
حَدثنَا عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث حَدثنَا عبد
الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن دِينَار حَدثنَا زيد بن أسلم،
ثمَّ قَالَ: على شَرط البُخَارِيّ، وَفِي (التَّوْضِيح) :
ويعارضه فِي (مَرَاسِيل) أبي دَاوُد عَن الزُّهْرِيّ،
كَأَن يكون على عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
دُيُون على رجال مَا علمنَا حرا بيع فِي دين. |