عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 701 - (بابُ أمرِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُودَ بِبَيْعِ أرْضِيهِمْ
ودِمَنِهِمْ حينَ أجْلاهُمْ فِيهِ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُود فِي بيع أرضيهم، كَذَا وَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر بِفَتْح الرَّاء وَكسر الضَّاد
الْمُعْجَمَة، وَفِيه شذوذان: أَحدهمَا: أَنه جمع سَلامَة
وَلَيْسَ من الْعُقَلَاء. وَالْآخر: أَنه لم يبْق مفرده
سالما لتحريك الرَّاء. قَوْله: (حِين أجلاهم) ، أَي: من
الْمَدِينَة. قَوْله: (فِيهِ المَقْبُري) ، أَي: فِي أمره
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُود حَدِيث سعيد
المَقْبُري، بِفَتْح الْبَاء وَضمّهَا، وَجَاء الْكسر
أَيْضا وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى مَا أخرجه فِي
الْجِهَاد فِي: بَاب إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة
الْعَرَب، عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:
بَينا نَحن فِي الْمَسْجِد إِذْ خرج علينا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (انْطَلقُوا إِلَى
الْيَهُود) وَفِيه، فَقَالَ: (إِنِّي أُرِيد أَن أجليكم،
فَمن وجد مِنْكُم بِمَا لَهُ شَيْئا فليبعه، وإلاَّ
فاعلموا أَن الأَرْض لله وَرَسُوله) . قَالَ ابْن
إِسْحَاق: فسألوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
يجليهم ويكف عَن دِمَائِهِمْ على أَن لَهُم مَا حملت
الْإِبِل من أَمْوَالهم لَا الْحلقَة، فاحتملوا ذَلِك
وَخَرجُوا إِلَى خَيْبَر، وخلوا الْأَمْوَال لرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَت لَهُ خَاصَّة يَضَعهَا
حَيْثُ يَشَاء، فَقَسمهَا سيدنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على الْمُهَاجِرين، وَهَؤُلَاء الْيَهُود
الَّذين أجلاهم هم بَنو النَّضِير، وَذَلِكَ أَنهم
أَرَادوا الْغدر برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَن يلْقوا عَلَيْهِ حجرا، فَأوحى الله تَعَالَى
إِلَيْهِ بذلك، فَأمره بإجلائهم وَأمرهمْ أَن يَسِيرُوا
حَيْثُ شاؤوا، فَلَمَّا سمع المُنَافِقُونَ بذلك بعثوا
إِلَى بني النَّضِير: أثبتوا وتمتعوا فَإنَّا لم نسلمكم،
إِن قوتلتم قاتلنا مَعكُمْ، وَإِن خَرجْتُمْ خرجنَا
مَعكُمْ، فَلم يَفْعَلُوا: {وَقذف الله فِي قُلُوبهم
الرعب} (الْأَحْزَاب: 62، الْحَشْر: 2) . فسألوا رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يجليهم ويكف عَن
دِمَائِهِمْ فأجابهم بِمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض حَدِيث سعيد المَقْبُري عَن أبي
هُرَيْرَة، لِأَن فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمرهم بِبيع أرضيهم، قلت: أمره بذلك كَانَ قبل أَن
يَكُونُوا حَربًا، ثمَّ أطلعه الله على الْغدر مِنْهُم،
وَكَانَ قبل ذَلِك أَمرهم بِبيع أرضيهم وإجلائهم فَلم
يَفْعَلُوا لأجل قَول الْمُنَافِقين لَهُم إثبتوا، فعزموا
على مقاتلته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فصاروا حَربًا فَحلت
بذلك دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ، فَخرج إِلَيْهِم رَسُول
اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي السِّلَاح
وحاصرهم، فَلَمَّا يئسوا من عون الْمُنَافِقين ألْقى الله
فِي قُلُوبهم الرعب، وسألوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الَّذِي كَانَ عرض عَلَيْهِم قبل ذَلِك، فَلم يبح
لَهُم بيع الأَرْض وَقَاضَاهُمْ أَن يجليهم ويحملوا مَا
اسْتَقَلت بِهِ الْإِبِل، على أَن يكف عَن دِمَائِهِمْ
وَأَمْوَالهمْ، فَجَلَوْا عَن دِيَارهمْ {وَكفى الله
الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} (الْأَحْزَاب: 52) . وَكَانَت
أَرضهم وَأَمْوَالهمْ مِمَّا لم يوجف عَلَيْهَا بِقِتَال،
فَصَارَت خَالِصَة لرَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَضَعهَا حَيْثُ يَشَاء، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَلم يسلم
من بني النَّضِير إلاَّ رجلَانِ أسلما على أموالهما،
فأحرزاها، قَالَ: وَنزلت فِي بني النَّضِير سُورَة
الْحَشْر إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كتب الله
عَلَيْهِم الْجلاء. .} (الْحَشْر: 3) . الْآيَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم عبر عَمَّا رَوَاهُ بِهَذِهِ
الْعبارَة وَلم يذكر
(12/43)
الحَدِيث بِعَيْنِه؟ قلت: لِأَن الحَدِيث
لم يثبت على شَرطه، انْتهى، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَنَّهُ
غَفلَة مِنْهُ، لِأَنَّهُ غفل عَن الْإِشَارَة إِلَى هَذَا
الحَدِيث. غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه اكْتفى هُنَا
بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ لِاتِّحَاد مخرجه عِنْده، ففر من
تكراره على صوورته بِغَيْر فَائِدَة زَائِدَة كَمَا هُوَ
الْغَالِب من عَادَته. انْتهى. قلت: التّكْرَار حَاصِل على
مَا لَا يخفى، مَعَ أَن ذكر هَذَا لَا دخل لَهُ فِي كتاب
الْبيُوع، وَلِهَذَا سقط هَذَا فِي بعض النّسخ.
801 - (بابُ بَيْعِ العَبِيدِ والحَيوَانِ بالحَيَوانِ
نَسيئَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع العَبْد نَسِيئَة
وَبيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، هَذَا
تَقْدِير الْكَلَام، وَقَوله: (وَالْحَيَوَان
بِالْحَيَوَانِ) من عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله:
(نَسِيئَة) ، بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين الْمُهْملَة
وَفتح الْهمزَة، أَي: مُؤَجّلا، وانتصابه على التَّمْيِيز.
وَقَالَ بَعضهم: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَبدِ جنس مَا
يستعبد فَيدْخل الذّكر وَالْأُنْثَى. قلت: لَا نسلم أَن
يكون المُرَاد بِالْعَبدِ جنس مَا يستعبد، وَلَيْسَ هَذَا
مَوْضُوعه فِي اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ خلاف الْأمة
كَمَا نَص عَلَيْهِ أهل اللُّغَة، وَلَا حَاجَة لإدخال
الْأُنْثَى فِيهِ إِلَى هَذَا التَّكَلُّف والتعسف، وَقد
علم أَنه إِذا أورد حكم فِي الذُّكُور يدْخل فِيهِ
الْإِنَاث إلاَّ بِدَلِيل، يخص الذُّكُور.
وَاعْلَم أَن هَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على حكمين.
الأول: فِي بيع العَبْد بِالْعَبدِ نَسِيئَة وَبيع العَبْد
بعبدين أَو أَكثر نَسِيئَة، فَإِنَّهُ يجوز عِنْد
الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ مَالك: إِنَّمَا
يجوز إِذا اخْتلف الْجِنْس، وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَأَصْحَابه والكوفيون: لَا يجوز ذَلِك، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي شِرَاء العَبْد
بالعبدين: حَدثنَا قُتَيْبَة أخبرنَا اللَّيْث عَن أبي
الزبير عَن جَابر، قَالَ: (جَاءَ عبد يُبَايع النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على الْهِجْرَة، وَلَا يشْعر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه عبد، فجَاء سَيّده يُريدهُ،
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعنيه،
فَاشْتَرَاهُ بعبدين أسودين، ثمَّ لم يُبَايع أحدا بعد
حَتَّى يسْأَله: أعبد هُوَ؟ ثمَّ قَالَ: وَالْعَمَل على
هَذَا عِنْد أهل الْعلم أَنه لَا بَأْس عبد بعبدين يدا
بيد) . وَاخْتلفُوا فِيهِ إِذا كَانَ نسأ وَأخرجه مُسلم،
وَبَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن.
الحكم الثَّانِي: فِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ
فَالْعُلَمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَت طَائِفَة: لَا
رَبًّا فِي الْحَيَوَان، وَجَائِز بعضه بِبَعْض نَقْدا
ونسيئة، اخْتلف أَو لم يخْتَلف، هَذَا مَذْهَب عَليّ
وَابْن عمر وَابْن الْمسيب، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَأحمد وَأبي ثَوْر. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس بالبعير
النجيب بالبعيرين من حَاشِيَة الْإِبِل نَسِيئَة، وَإِن
كَانَت من نعم وَاحِدَة إِذا اخْتلفت وَبَان اختلافها،
وَإِن اشْتبهَ بَعْضهَا بَعْضًا واتفقت أجناسها فَلَا
يُؤْخَذ مِنْهَا اثْنَان بِوَاحِد إِلَى أجل، وَيُؤْخَذ
يدا بيد، وَهُوَ قَول سُلَيْمَان بن يسَار، وَرَبِيعَة
وَيحيى بن سعيد. وَقَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَأحمد: لَا
يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، اخْتلفت
أجناسها أَو لم تخْتَلف، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا
رَوَاهُ الْحسن عَن سَمُرَة أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي
كَرَاهَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، ثمَّ
روى حَدِيث سَمُرَة هَذَا وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن
صَحِيح، وَسَمَاع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح، هَكَذَا قَالَ
عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَغَيره، وَالْعَمَل على هَذَا
عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم فِي بيع الْحَيَوَان
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ
وَأهل الْكُوفَة، وَبِه يَقُول أَحْمد.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب: عَن ابْن عَبَّاس
وَجَابِر وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت:
حَدِيث ابْن عمر أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْعِلَل:
حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الْمقدمِي عَن زِيَاد بن
جُبَير عَن ابْن عمر، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَة) ، وَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي
سعيد الْأَشَج عَن حَفْص بن غياث وَأبي خَالِد عَن حجاج
عَن أبي الزبير عَن جَابر: أَن رَسُول اللهصلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا بَأْس بِالْحَيَوَانِ وَاحِد
بِاثْنَيْنِ يدا بيد وَكَرِهَهُ نَسِيئَة) . وَحَدِيث ابْن
عَبَّاس أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل: حَدثنَا
سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد هُوَ الأحمري
عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نهى عَن
بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) .
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد تَخْرِيجه حَدِيث
سَمُرَة: أَكثر الْحفاظ لَا يثبتون سَماع الْحسن من
سَمُرَة فِي غير حَدِيث الْعَقِيقَة؟ قلت: قَول الحافظين
الكبيرين الحجتين: التِّرْمِذِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ،
كافٍ فِي هَذَا، مَعَ أَنَّهُمَا مثبتان، وَالْبَيْهَقِيّ
ينْقل النَّفْي فَلَا يُفِيد شَيْئا. فَإِن قلت: حَدِيث
ابْن عمر قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا
عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِنَّمَا يرْوى عَن زِيَاد بن
جُبَير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(12/44)
مُرْسلا؟ قلت: رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ
مَوْصُولا بِإِسْنَاد جيد. قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل بن سَالم الصَّائِغ وَعبيد الله بن مُحَمَّد
بن حشيش وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الصَّيْرَفِي، قَالُوا:
حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
دِينَار عَن مُوسَى بن عبد عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (نهى عَن بيع الْحَيَوَان
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) . فَإِن قلت: قَالَ
الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف بِمُحَمد بن دِينَار
الطَّاحِي الْبَصْرِيّ بِمَا رُوِيَ عَن ابْن معِين: أَنه
ضَعِيف؟ قلت: الْبَيْهَقِيّ لتحامله على أَصْحَابنَا يثبت
بِمَا لَا يثبت، وَقد روى أَحْمد بن أبي خَيْثَمَة عَن
ابْن معِين أَنه قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَكَذَا قَالَه
النَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: صَدُوق، وَقَالَ ابْن
عدي: حسن الحَدِيث.
فَإِن قلت: حَدِيث جَابر فِيهِ الْحجَّاج بن أَرْطَأَة
وَهُوَ ضَعِيف. قلت: قَالَ ابْن حبَان: صَدُوق يكْتب
حَدِيثه، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (الْمِيزَان) : أحد
الْأَعْلَام على لين فِي حَدِيثه، روى لَهُ مُسلم
مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وروى لَهُ الْأَرْبَعَة.
فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ فِيهِ
الْبَيْهَقِيّ: إِنَّه عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسل؟ قلت: أخرجه الطَّحَاوِيّ من
طَرِيقين متصلين، وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا مُتَّصِلا،
ثمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أجلّ
إِسْنَادًا مِنْهُ، وَهَذِه الْأَحَادِيث مَعَ اخْتِلَاف
طرقها يُؤَيّد بَعْضهَا بَعْضًا، وَيرد قَول الشَّافِعِي
أَنه لَا يثبت الحَدِيث فِي بيع الْحَيَوَان
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، ثمَّ إِن الشَّافِعِي وَمن مَعَه
احْتَجُّوا لما ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيث عبد الله بن
عَمْرو أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا حَفْص بن عمر، قَالَ:
حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعَن
يزِيد ابْن أبي حبيب عَن مُسلم بن جُبَير عَن أبي سُفْيَان
عَن عَمْرو بن حريش عَن عبد الله بن عَمْرو: أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمره أَن يُجهز جَيْشًا،
فنفدت الْإِبِل فَأمره أَن يَأْخُذ على قَلَائِص
الصَّدَقَة، فَكَانَ يَأْخُذ الْبَعِير بالبعيرين إِلَى
إبل الصَّدَقَة) . وَرَاه الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَفِي
رِوَايَته فِي قلاص الصَّدَقَة، والقلاص، بِكَسْر الْقَاف
جمع قلص بِضَم الْقَاف وَاللَّام، وَهُوَ جمع قلُوص،
فَيكون القلاص جمع الْجمع، وَقَالَ: القلوص يجمع على قلص
وقلائص، وَجمع القلص قلاص، والقلوص من النوق الشَّابَّة،
وَهِي بِمَنْزِلَة الْجَارِيَة من النِّسَاء، وَأَجَابُوا
عَنهُ بِأَن فِي إِسْنَاده اخْتِلَافا كثيرا. وَذكر عبد
الْغَنِيّ فِي (الْكَمَال) فِي: بَاب الكنى: أَبُو
سُفْيَان روى عَن عمر بن حريش روى عَنهُ مُسلم بن جُبَير،
وَلم يذكر شَيْئا غير ذَلِك. وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي
تَرْجَمَة عَمْرو بن حريش: مَا رُوِيَ عَنهُ سوى أبي
سُفْيَان، وَلَا يُدْرَى من أَبُو سُفْيَان، وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ بعد أَن رَوَاهُ: ثمَّ نسخ ذَلِك بِآيَة
الرِّبَا، بَيَان ذَلِك أَن آيَة الرِّبَا تحرم كل فضل
خَال عَن الْعِوَض فَفِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَة، يُوجد الْمَعْنى الَّذِي حرم بِهِ الرِّبَا،
فنسخ كَمَا نسخ بِآيَة الرِّبَا استقراض الْحَيَوَان،
لِأَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن
الْمُوجب للْإِبَاحَة، وَمثل هَذَا النّسخ يكون بِدلَالَة
التَّارِيخ، فيندفع بِهَذَا قَول النَّوَوِيّ وَأَمْثَاله:
أَن النّسخ لَا يكون إلاَّ بِمَعْرِِفَة التَّارِيخ، وَإِن
حَدِيث أبي رَافع الَّذِي رَوَاهُ مُسلم وَغَيره أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (استسلف من رجل بكرا،
فَقدمت عَلَيْهِ إبل من إبل الصَّدَقَة، فَأمر أَبَا رَافع
أَن يقْضِي الرجل بكره، فَرجع إِلَيْهِ أَبُو رَافع
فَقَالَ: لم أجد فِيهَا إلاَّ جملا خيارا رباعيا، فَقَالَ:
أعْطه إِيَّاه، إِن خِيَار النَّاس أحْسنهم قَضَاء) .
احْتج بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق فِيمَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ من جَوَاز استقراض الْحَيَوَان، قَالُوا: وَهُوَ
حجَّة على منع ذَلِك. وَأجَاب المانعون عَن ذَلِك
بِأَنَّهُ مَنْسُوخ بِآيَة الرِّبَا بِالْوَجْهِ الَّذِي
ذَكرْنَاهُ الْآن، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ فِيهِ إلاَّ
الثَّنَاء على من أحسن الْقَضَاء، فَأطلق ذَلِك وَلم
يُقَيِّدهُ بِصفة، وَلم يكن ذَلِك بِشَرْط الزِّيَادَة،
وَقد أجمع الْمُسلمُونَ بِالنَّقْلِ عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن اشْتِرَاط الزِّيَادَة فِي
السّلف رَبًّا حرَام، وَكَذَلِكَ أجابوا عَن كل حَدِيث
يشبه حَدِيث أبي رَافع بِأَنَّهُ كَانَ قبل آيَة الرِّبَا.
وَعَن هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وفقهاء
الْكُوفَة وَالثَّوْري وَالْحسن بن صَالح: إِن استقراض
الْحَيَوَان لَا يجوز، وَلَا يجوز الاستقراض إلاَّ مِمَّا
لَهُ مثل: كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة،
فَلَا يجوز قرض مَا لَا مثل لَهُ من المزروعات والعدديات
المتفاوتة، لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى إِيجَاب رد الْعين،
وَلَا إِلَى إِيجَاب الْقيمَة لاخْتِلَاف تَقْوِيم
المقومين، فَتعين أَن يكون الْوَاجِب فِيهِ رد الْمثل،
فَيخْتَص جَوَازه بِمَا لَهُ مثل، وَعَن هَذَا قَالَ أَبُو
حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: لَا يجوز الْقَرْض فِي الْخبز لَا
وزنا وَلَا عددا، وَقَالَ مُحَمَّد: يجوز عددا.
(12/45)
واشْتَرَى ابنُ عُمَرَ رَاحِلَةً
بِأرْبَعَةِ أبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوفِيهَا
صاحِبَهَا بالرَّبَذَةِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن فِيهِ بيع
الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ
مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا
عَن مَالك، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي بشر عَن
نَافِع أَن ابْن عمر اشْترى نَاقَة بأَرْبعَة أَبْعِرَة
بالربذة، فَقَالَ لصَاحب النَّاقة: إذهب فَانْظُر، فَإِن
رضيت فقد وَجب البيع، وَأجِيب عَن هَذَا بِأَن ابْن أبي
شيبَة روى عَن ابْن عمر خلاف ذَلِك، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن
أبي زَائِدَة عَن ابْن عون عَن ابْن سِيرِين، قلت لِابْنِ
عمر: الْبَعِير بالبعيرين إِلَى أجل، فكرهه.
قَوْله: (رَاحِلَة) ، هِيَ مَا أمكن ركُوبهَا من الْإِبِل،
سَوَاء كَانَت ذكرا أَو انثى، وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
الرَّاحِلَة من الْإِبِل الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار
والأحمال. وَالتَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، يَسْتَوِي
فِيهَا الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهِي الَّتِي يختارها الرجل
لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر،
فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت، والأبعرة جمع:
بعير، وَيجمع أَيْضا على: بعران، وَهُوَ أَيْضا يَقع على
الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (مَضْمُونَة عَلَيْهِ) أَي:
تكون تِلْكَ الرَّاحِلَة فِي ضَمَان البَائِع. قَوْله:
(يوفيها صَاحبهَا) أَي: يُسَلِّمهَا صَاحب الرَّاحِلَة
إِلَى المُشْتَرِي. قَوْله: (بالربذة) ، أَي: فِي الربذَة،
بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال
الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره تَاء، قَالَ بَعضهم: هُوَ مَكَان
مَعْرُوف بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، قلت: هِيَ قَرْيَة
مَعْرُوفَة قرب الْمَدِينَة، بهَا قبر أبي ذَر
الْغِفَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن
قرقول: وَهِي على ثَلَاث مراحل من الْمَدِينَة، قريب من
ذَات عرق، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ذَات عرق ثنية أَو هضبة
بَينهَا وَبَين مَكَّة يَوْمَانِ، وَبَعض يَوْم، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: ذَات عرق أول بِلَاد تهَامَة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قدْ يَكُونُ الْبَعِيرُ خَيْرا مِنَ
البَعِيرَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله
الشَّافِعِي قَالَ: أخبرنَا ابْن علية عَن ابْن طَاوُوس
عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن بعير
ببعيرين؟ فَقَالَ: قد يكون الْبَعِير خيرا من البعيرين.
قلت: فَإِن اسْتدلَّ بِهِ من يجوز بيع الْحَيَوَان
بِالْحَيَوَانِ فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ، لِأَنَّهُ
يحْتَمل أَنه كرهه لأجل الْفضل الَّذِي لَيْسَ فِي
مُقَابلَته شَيْء.
واشْتَرَى رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ بَعِيرا بِبَعِيرَيْنِ
فأعْطاهُ أحدَهُما وَقَالَ آتِيكَ بالآخَرَ غَدا رَهْوا
إنْ شاءَ الله
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا لِأَنَّهُ اشْترى
بَعِيرًا ببعيرين نَسِيئَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد
الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: أخبرنَا معمر عَن بديل
الْعقيلِيّ عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير: أَن رَافع بن
خديج اشْترى. . فَذكره، وَرَافِع، بِكَسْر الْفَاء: ابْن
خديج، بفتخ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال
الْمُهْملَة وَفِي آخِره جِيم: الْأنْصَارِيّ
الْحَارِثِيّ.
قَوْله: (رهوا) بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ
فِي الأَصْل: السّير السهل، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: أَنا
آتِيك بِهِ سهلاً بِلَا شدَّة وَلَا مماطلة، وَأَن المأتي
بِهِ يكون سهل السّير رَفِيقًا غير خشن فَإِن قلت: بِمَ
انتصاب رهوا؟ قلت: على التَّفْسِير الأول يكون مَنْصُوبًا
على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: أَنا آتِيك بِهِ إتيانا
رهوا، وعَلى الثَّانِي يكون حَال عَن قَوْله بِالْآخرِ
بالتأويل. فَافْهَم.
وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبِ لاَ رِبا فِي الحَيَوانِ
الْبَعِيرُ بالبَعِيرَيْنِ والشَّاةُ بالشَّاتَيْنِ إلَى
أجَلٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن الْمسيب هُوَ سعيد
بن الْمسيب من كبار التَّابِعين، وَقد تكَرر ذكره. قَوْله:
(لَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان) ، وَصله مَالك عَن ابْن
شهَاب عَنهُ: لَا رَبًّا فِي الْحَيَوَان، وَالْبَاقِي
وَصله ابْن بِي شيبَة من طَرِيق آخر عَن الزُّهْرِيّ
عَنهُ: لَا بَأْس بالبعير بالبعيرين نَسِيئَة، وَرَوَاهُ
عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) أَنبأَنَا معمر عَن
الزُّهْرِيّ سُئِلَ سعيد ... فَذكره.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ لاَ بأسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ
نَسِيئةً ودِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: بعير ببعيرين، وَابْن
سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين من كبار التَّابِعين،
وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
قَتَادَة عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين، قَالَ: لَا بَأْس
بعير ببعيرين وَدِرْهَم بدرهم نَسِيئَة، وَإِن كَانَ أحد
البعيرين نَسِيئَة فَهُوَ مَكْرُوه. قَوْله: (وَدِرْهَم
بدرهم) ، كَذَا هُوَ فِي مُعظم الروايت، وَوَقع فِي
بَعْضهَا: وَدِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ نَسِيئَة. قَالَ ابْن
بطال: هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب مَا ذكره عبد الرَّزَّاق.
(12/46)
8222 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبً
قَالَ حَدثنَا حَمادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسِ بنِ
مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ فِي
السَّبْيِ صَفِيَّةُ فَصارَتْ إلَى دِحْيَةَ الْكُلْبِيِّ
ثُمَّ صارَتْ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي بعض طرق هَذَا
الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْترى
صَفِيَّة من دحْيَة بسبعة أرؤس، وَذَلِكَ أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما جمع فِي خَيْبَر السَّبي جَاءَ دحْيَة
فَقَالَ: أَعْطِنِي جَارِيَة مِنْهُ، قَالَ: إذهب فَخذ
جَارِيَة، فَأخذ صَفِيَّة، فَقيل: يَا رَسُول الله
إِنَّهَا سيدة قُرَيْظَة وَالنضير مَا تصلح إلاَّ لَك،
فَأَخذهَا مِنْهُ كَمَا ذكرنَا وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ فَقَالَ لدحية: خُذ جَارِيَة من السَّبي
غَيرهَا، وَقَالَ ابْن بطال: ينزل تبديلها بِجَارِيَة غير
مُعينَة منزلَة بيع جَارِيَة بِجَارِيَة نَسِيئَة،
وَالَّذِي ذكره البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصر من حَدِيث
خَيْبَر. أخرجه فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد
بن زيد عَن ثَابت وَشُعَيْب بن الحبحاب، كِلَاهُمَا عَن
أنس بِهِ، وَعَن مُسَدّد عَن حَمَّاد عَن ثَابت عَن عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ، وَأخرجه
عَن مُسَدّد فِي النِّكَاح أَيْضا عَن قُتَيْبَة بِهِ
وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد عَن ثَابت
وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، كِلَاهُمَا عَن أنس بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أَحْمد ابْن عَبدة عَن
حَمَّاد عَن ثَابت وَعبد الْعَزِيز بِهِ، وَمن حَدِيث
شُعَيْب بن الحبحاب أخرجه مُسلم أَيْضا. وَأخرجه
النَّسَائِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عَمْرو بن مَنْصُور
وَمُحَمّد بن رَافع، وَفِي الْوَلِيمَة أَيْضا عَن عمرَان
بن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث بِهِ، وَمن حَدِيث عبد
الْعَزِيز أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن مُسَدّد عَن
حَمَّاد بن زيد عَن عبد الْعَزِيز عَن أنس مُخْتَصرا.
وَصفِيَّة بنت حييّ ابْن أَخطب بن سفنة بن ثَعْلَبَة
النضيرية أم الْمُؤمنِينَ من بَنَات هَارُون بن عمرَان أخي
مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأمّهَا برة
بنت سموأل سباها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَام خَيْبَر فِي شهر رَمَضَان سنة سبع من الْهِجْرَة،
ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وروى
لَهَا عشرَة أَحَادِيث، اتفقَا على حَدِيث وَاحِد، مَاتَت
فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين، قَالَه الْوَاقِدِيّ.
ودحية، بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا: ابْن خَليفَة بن فَرْوَة
الْكَلْبِيّ رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
إِلَى قَيْصر، وَقد مر ذكره فِي أول الْكتاب.
901 - (بابُ بَيْعِ الرَّقِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الرَّقِيق.
9222 - حدَّثنا أَبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا ابنُ مُحَيْرِيزِ أنَّ أَبَا
سَعِيدٍ الخدْرِيَّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخبرهُ
أنَّهُ بَيْنَما هُوَ جالِسٌ عِنْدَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا رسولَ الله إِنَّا نصِيبُ سَبْيا
فنُحِبُّ الأثْمَانَ فَكَيْفَ تَرَى فِي العَزْلِ فَقَالَ
أوَ إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ لاَ عَلَيْكُمْ أنْ لاَ
تَفْعَلُوا ذالِكُمْ فإنَّهَا لَيْسَتْ نَسمَةٌ كتَبَ الله
أنْ تَخْرُجَ إلاَّ هِيَ خارِجَةٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يمْنَع عَن بيع السَّبي لما قَالُوا: إِنَّا نصيب
السَّبي فَنحب الْأَثْمَان، والأثمان لَا تَجِيء إلاَّ
بِالْبيعِ، والسبي فِيهِ الرَّقِيق وَغَيره.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن
حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَقد
تكَرر ذكرهم، وَابْن محيريز بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الرَّاء
وَفِي آخِره زَاي، وَهُوَ: عبد الله بن محيريز الجُمَحِي
الْقرشِي اليمامي، يكنى أَبَا محيريز، مَاتَ فِي خلَافَة
عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل عَن جوَيْرِية عَن مَالك، وَفِي الْقدر عَن
حبَان بن مُوسَى عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس،
كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ، وَفِي الْمَغَازِي
عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، وَفِي الْعتْق
عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، كِلَاهُمَا عَن ربيعَة
بن عبد الرَّحْمَن وَفِي التَّوْحِيد عَن إِسْحَاق بن
عَفَّان. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عبد الله بن
مُحَمَّد بِهِ وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر
وَعَن مُحَمَّد بن الْفرج، وَفِيه قصَّة لأبي صرمة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعتْق
(12/47)
عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن عَمْرو بن
مَنْصُور وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي وَعَن عبد
الْملك بن شُعَيْب وَعَن يحيى بن أَيُّوب وَفِي عشرَة
النِّسَاء عَن عَبَّاس بن عبد الْعَظِيم وَعَن كثير بن
عبيد وَفِيه وَفِي النعوت عَن هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّا نصيب سيبا) أَي: نجامع
الْإِمَاء المسبية، وَنحن نُرِيد أَن نبيعهن فنعزل الذّكر
عَن الْفرج وَقت الْإِنْزَال حَتَّى لَا ينزل فِيهِ دفعا
لحُصُول الْوَلَد الْمَانِع من البيع، إِذْ أُمَّهَات
الْأَوْلَاد حرَام بيعهَا، وَكَيف تحكم فِي الْعَزْل أهوَ
جَائِز أم لَا؟ وَاخْتلف فِيهِ أهَلْ كَانُوا أهل كتاب أم
لَا؟ على قَوْلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْأصيلِيّ:
كَانُوا عَبدة أوثان، وَإِنَّمَا جَازَ وطؤهن قبل نزُول:
{وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة:
122) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانُوا أهل كتاب فَلم يحْتَج
فِيهِنَّ إِلَى ذكر الْإِسْلَام، وَقَالَ ابْن التِّين:
وَالظَّاهِر الأول لقَوْله فِي بعض طرقه: فأصبنا سبيا من
سبي الْعَرَب، ثمَّ نقل عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد أَنه
كَانَ أسر فِي بني المصطلق أَكثر من سَبْعمِائة، وَمِنْهُم
جوَيْرِية بنت الْحَارِث أعْتقهَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَتَزَوجهَا، وَلما دخل بهَا سَأَلته فِي
الأسرى فوهبهم لَهَا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (أَو أَنكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِك {؟) على
التَّعَجُّب مِنْهُ، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى الْعَزْل.
قَوْله: (لَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا) ، أَي: لَيْسَ
عدم الْفِعْل وَاجِبا عَلَيْكُم، وَقَالَ الْمبرد: كلمة:
لَا، زَائِدَة أَي: لَا بَأْس عَلَيْكُم فِي فعله، وَأما
من لم يجوّز الْعَزْل فَقَالَ: لَا، نفي لما سَأَلُوهُ، و:
عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا، كَلَام مُسْتَأْنف مؤكذ لَهُ،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: مَا عَلَيْكُم ضَرَر فِي
ترك الْعَزْل، لِأَن كل نفس قدر الله تَعَالَى خلقهَا لَا
بُد أَن يخلقها، سَوَاء عزلتم أم لَا؟ قَوْله: (نسمَة) ،
بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة وَهُوَ كل ذَات
روح، وَيُقَال: النَّسمَة النَّفس وَالْإِنْسَان، وَيُرَاد
بهَا الذّكر وَالْأُنْثَى، وَالنَّسَمُ: الْأَرْوَاح،
والنسيم: الرّيح الطّيبَة. قَوْله: (إلاَّ هِيَ خَارِجَة)
ويروى: إلاَّ وَهِي خَارِجَة، بِالْوَاو أَي: جف الْقَلَم
بِمَا يكون.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: السُّؤَال عَن الْعَزْل
من الْإِمَاء. وَأجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن مَا
قدر من النَّسمَة يكون، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ:
(سَأَلَ رجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْعَزْل؟ فَقَالَ: إِن امْرَأَتي مرضع وَأَنا أكره أَن
تحمل. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا قدر فِي
الرَّحِم سَيكون) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث جَابر:
(أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن
لي جَارِيَة أَطُوف عَلَيْهَا وأكره أَن تحمل. فَقَالَ:
إعزل عَنْهَا إِن شِئْت فَإِنَّهُ سيأتيها مَا قدر لَهَا)
. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن بن ثَوْبَان عَنهُ: قُلْنَا: يَا رَسُول الله}
إِنَّا كُنَّا نعزل، فَزَعَمت الْيَهُود أَنَّهَا الموؤودة
الصُّغْرَى. فَقَالَ: كذبت الْيَهُود، إِن الله إِذا
أَرَادَ أَن يخلقه لم تَمنعهُ) . ثمَّ إِن هَذَا السَّبي
الْمَذْكُور فِي الحَدِيث كَانَ من سبي هوَازن، وَذَلِكَ
يَوْم حنين سنة ثَمَان، لِأَن مُوسَى بن عقبَة روى هَذَا
الحَدِيث عَن ابْن محيريز عَن أبي سعيد، فَقَالَ: أصبْنَا
سبيا من سبي هوَازن، وَذَلِكَ يَوْم حنين، سنة ثَمَان.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَمَ مُوسَى بن عقبَة فِي ذَلِك،
وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي الوداك عَن أبي
سعيد، قَالَ: لما أصبْنَا سبي حنين سَأَلنَا رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. عَن الْعَزْل؟ فَقَالَ: (لَيْسَ
من كل المَاء يكون الْوَلَد) . وروى من حَدِيث ابْن
محيريز: قَالَ: دخلت أَنا وَأَبُو الصرمة على أبي سعيد
الْخُدْرِيّ، فَسَأَلَهُ أَبُو الصرمة، فَقَالَ: يَا أَبَا
سعيد! هَل سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يذكر الْعَزْل؟ فَقَالَ: نعم، غزونا مَعَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، غَزْوَة المصطلق، فسبينا كرائم
الْعَرَب، فطالت علينا الْعزبَة ورغبنا فِي الْفِدَاء،
فأردنا أَن نستمتع ونعزل، فَقُلْنَا: نَفْعل وَرَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين أظهرنَا لَا
نَسْأَلهُ؟ فسألنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَقَالَ: (لَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا مَا كتب الله
خلق نسمَة هِيَ كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا
سَتَكُون) . قَوْله: (غَزْوَة المصطلق) ، أَي: بني
المصطلق، وَهِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، قَالَ القَاضِي:
قَالَ أهل الحَدِيث: هَذَا أولى من رِوَايَة مُوسَى بن
عقبَة أَنه فِي غَزْوَة أَوْطَاس، وَكَانَت غَزْوَة بني
المصطلق فِي سنة سِتّ أَو خمس أَو أَربع. وَفِيه: فِي
قَوْله: (فَنحب الْأَثْمَان) ، دلَالَة على عدم جَوَاز بيع
أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَهُوَ حجَّة على دَاوُد وَغَيره
مِمَّن يجوز بيعهنَّ. وَفِيه: إِبَاحَة الْعَزْل عَن
الْأمة، قَالَ الرَّافِعِيّ: يجوز الْعَزْل فِي الْأمة
قطعا. وَحكى فِي الْبَحْر فِيهِ وَجْهَان، وَأما
الزَّوْجَة فَالْأَصَحّ جَوَازه عِنْد الشَّافِعِيَّة،
وَلكنه يكره، وَمِنْهُم من جوزه عِنْد إِذْنهَا وَمنعه
عِنْد عَدمه، وَهُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة أَيْضا. وَذكر
بعض الْعلمَاء أَرْبَعَة أَقْوَال: الْجَوَاز، وَعَدَمه،
وَمذهب مَالك: جَوَازه فِي التَّسَرِّي وَفِي الْحرَّة
مَوْقُوف على إِذْنهَا وَإِذن سَيِّدهَا إِن كَانَت
للْغَيْر. وَرَابِعهَا: يجوز برضى الْمَوْطُوءَة كَيفَ مَا
كَانَت، وَحجَّة من أجَاز حَدِيث جَابر: (كُنَّا نعزل
وَالْقُرْآن ينزل، فَبلغ ذَلِك النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلم ينهنا) . وَحجَّة من منع أَنه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، لما سُئِلَ عَنهُ قَالَ: (ذَلِك
الوأد الْخَفي) .
(12/48)
وَفِيه: دلَالَة على أَن الْوَلَد يكون
مَعَ الْعَزْل. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَلِهَذَا صحّح
أَصْحَابنَا أَنه لَو قَالَ: وطِئت وعزلت لحقه الْوَلَد
على الْأَصَح.
011 - (بابُ بَيْعِ المدَبَّرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُدبر، وَهُوَ
الْمُعَلق عتقه بِمَوْت سَيّده، كَذَا قَالُوا. قلت:
التَّدْبِير لُغَة) : النّظر فِيمَا يؤول إِلَيْهِ عاقبته،
وَشرعا: التَّدْبِير تَعْلِيق الْعتْق بِمُطلق مَوته،
كَقَوْلِه: إِذا مت فَأَنت حر، أَو: أَنْت حر يَوْم
أَمُوت. أَو: أَنْت حر عَن دبر مني، أَو: أَنْت مُدبر أَو:
دبرتك. أَو قَالَ: أَعتَقتك بعد موتِي. أَو: أَنْت عَتيق
أَو مُعتق أَو مُحَرر بعد موتِي. أَو: إِن مت فَأَنت حر،
أَو: إِن حدث لي حدث فَأَنت حر، لِأَن الْحَدث يُرَاد بِهِ
الْمَوْت عَادَة، وَكَذَا إِذا قَالَ: أَنْت حر مَعَ موتِي
أَو فِي موتِي فَهَذِهِ كلهَا أَلْفَاظ التَّدْبِير
الْمُطلق، فَالْحكم فِيهَا: أَنه لَا يجوز بَيْعه وَلَا
هِبته، وَلكنه يستخدم ويؤجر، وَالْأمة تُوطأ وَتنْكح وتعتق
بِمَوْت الْمولى من ثلثه، وَإِن مَاتَ فَقِيرا يسْعَى فِي
ثلي قِيمَته، وَيسْعَى فِي جَمِيع قِيمَته إِن مَاتَ
الْمولى مديونا مُسْتَغْرقا.
وَأما أَلْفَاظ التَّدْبِير الْمُقَيد فَهِيَ كَقَوْلِه:
إِن مت من مرضِي هَذَا أَو من سَفَرِي هَذَا فَأَنت حر،
فَحكمه أَنه يجوز بَيْعه بِالْإِجْمَاع، فَإِن وجد
الشَّرْط عتق. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: يجوز بيع
الْمُدبر بِكُل حَال. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره:
اتَّفقُوا على مَشْرُوعِيَّة التَّدْبِير، وَاتَّفَقُوا
على أَنه من الثُّلُث، غير اللَّيْث بن سعد وَزفر
فَإِنَّهُمَا قَالَا: من رَأس المَال، وَاخْتلفُوا: هَل
هُوَ عقد جَائِز أَو لَازم؟ فَمن قَالَ: لَازم: منع
التَّصَرُّف فِيهِ إلاَّ بِالْعِتْقِ. وَمن قَالَ: جَائِز،
أجَاز، وبالأول قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيون،
وَبِالثَّانِي قَالَ الشَّافِعِي وَأهل الحَدِيث.
0322 - حدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ قَالَ حدَّثنا وكِيعٌ قَالَ
حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عنْ عطاءٍ
عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ باعَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المدَبَّرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عبد الله بن
نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم: وَهُوَ مصغر نمر
الْحَيَوَان الْمَشْهُور. الثَّانِي: وَكِيع بن الْجراح
الرواسِي. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، وَاسم
أبي خَالِد سعد، وَيُقَال: هُرْمُز، وَيُقَال: كثير.
الرَّابِع: سَلمَة بن كهيل مصغر كهل الْحَضْرَمِيّ، كَانَ
ركنا من الْأَركان، مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة.
الْخَامِس: عَطاء بن أبي رَبَاح. السَّادِس: جَابر بن عبد
الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: إِن
شَيْخه ووكيعا وَإِسْمَاعِيل وَسَلَمَة كلهم كوفيون وَأَن
عَطاء مكي. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق
وَاحِد وهم: إِسْمَاعِيل وَسَلَمَة ووعطاء، فإسماعيل
وَسَلَمَة قريبان من صغَار التَّابِعين، وَعَطَاء من
أوساطهم. وَفِيه: ثَلَاثَة ذكرُوا مجردين بِلَا نِسْبَة.
وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن
أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي
دَاوُد الْحَرَّانِي، وَفِيه وَفِي الْبيُوع عَن مَحْمُود
بن غيلَان، وَفِيه وَفِي الْقَضَاء عَن عبد الْأَعْلَى بن
وَاصل، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد
ابْن عبد الله بن نمير وَعلي بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن
وَكِيع عَن إِسْمَاعِيل بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد
لما ذَهَبا إِلَيْهِ من جَوَاز بيع الْمُدبر بِكُل حَال،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى بِمَا فِيهِ
الْكِفَايَة فِي: بَاب بيع المزايدة. قَوْله: (الْمُدبر)
أَي: الْمُدبر الَّذِي كَانَ للرجل الْمُحْتَاج، قد ذكرنَا
هُنَاكَ أَن الَّذِي اشْتَرَاهُ: نعيم، وَاسم الْمُدبر:
يَعْقُوب، وَاسم سَيّده: أَبُو مَذْكُور، وَالثمن:
ثَمَانمِائَة دِرْهَم.
1322 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ
عَمْرِو سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا يقولُ باعَهُ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. .
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَفِي
رِوَايَة الْحميدِي: حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، هَكَذَا
أوردهُ مُخْتَصرا وَلم يذكر من يعود عَلَيْهِ الضَّمِير.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن
(12/49)
سُفْيَان فَزَاد فِي آخِره: يَعْنِي
الْمُدبر، وَأخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَأبي بكر بن أبي شيبَة جَمِيعًا عَن سُفْيَان بِلَفْظ:
دبر رجل من الْأَنْصَار غُلَاما لَهُ لم يكن لَهُ مَال
غَيره، فَبَاعَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَاشْتَرَاهُ ابْن النحام عبدا قبطيا مَاتَ عَام أول فِي
إِمَارَة ابْن الزبير، وَهَكَذَا أخرجه أَحْمد عَن
سُفْيَان بِتَمَامِهِ نَحوه، وَقد أخرجه البُخَارِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي كَفَّارَات الْإِيمَان من
طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو نَحوه وَلم يقل فِيهِ
فِي إمارات ابْن الزبير وَلَا عين الثّمن.
3322 - حدَّثني زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حَدثنَا
يَعْقُوبُ قَالَ حَدثنَا أبِي عنْ صالِحٍ قَالَ حدَّثَ
ابنُ شِهَابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله أخْبَرَهُ أنَّ زَيْدَ
بنَ خالِدٍ وَأَبا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا أخْبَرَاهُ أنَّهُما سَمِعَا رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُسْئَلُ عنِ الأمَةِ تَزْنِي ولَمْ
تُحْصَنْ قَالَ اجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوها
ثُمَّ بِيعُوها بعْدَ الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ. .
قيل: لَا معنى لإدخال هَذَا فِي بيع الْمُدبر، وَلِهَذَا
أسقط هَذَا الْبَاب ابْن التِّين وَأدْخلهُ ابْن بطال فِي
الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ: بَاب بيع الرَّقِيق،
وَقَالَ بَعضهم: وَجه دُخُول هَذَا فِي هَذَا الْبَاب
عُمُوم الْأَمر بِبيع الْأمة إِذا زنت، فَيشْمَل مَا إِذا
كَانَت مُدبرَة أَو غير مُدبرَة، فَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز
بيع الْمُدبرَة فِي الْجُمْلَة. انْتهى. قلت: أَخذ هَذَا
الْقَائِل بعض كَلَامه هَذَا من الْكرْمَانِي، وَزَاد
عَلَيْهِ من عِنْده فَإِن الْكرْمَانِي قَالَ: فَإِن قلت:
مَا وَجه تعلقه بالمدبر؟ قلت: لفظ الْأمة الْمُطلقَة
شَامِل للمدبرة وَغَيرهَا. انْتهى. قلت: هَذَا الْكَلَام
كُله لَيْسَ بموجه، لِأَن الْأمة الْمَذْكُورَة فِي
الحَدِيث إِنَّمَا أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِبَيْعِهَا لأجل تكَرر زنَاهَا، وَالْأمة الْمُدبرَة يجوز
بيعهَا عِنْدهم مُطلقًا، سَوَاء تكَرر الزِّنَا مِنْهَا
أَو لم يتَكَرَّر، أَو لم تزنِ أصلا. وَقَول هَذَا
الْقَائِل: فَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز بيع الْمُدبرَة فِي
الْجُمْلَة كَلَام واهٍ، لِأَن الْأَخْذ الَّذِي ذكره لَا
يكون إلاَّ بِدلَالَة من اللَّفْظ من أَقسَام الدّلَالَة
الثَّلَاثَة، وَلَا يَصح أَيْضا على رَأْي أهل الْأُصُول،
فَإِن الَّذِي يدل لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِعِبَارَة
النَّص أَو بإشارته أَو بدلالته، فَأَي ذَلِك أَرَادَ
هَذَا الْقَائِل فَلَا يدْرِي مَا قَالَه، وَالصَّوَاب
مَعَ ابْن بطال وَابْن التِّين.
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: زُهَيْر مصغر زهر بن
حَرْب، ضد الصُّلْح، الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
الثَّالِث أَبوهُ ابراهيم بن سعيد بن إِبْرَاهِيم بن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ. الرَّابِع:
صَالح بن كيسَان. الْخَامِس: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. السَّادِس: عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة
بن مَسْعُود، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّابِع: زيد
بن خَالِد الْجُهَنِيّ. الثَّامِن: أَبُو هُرَيْرَة.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب بيع العَبْد
الزَّانِي، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من وَجه آخر: عَن عبد
الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن سعيد المَقْبُري عَن
أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه: عَن إِسْمَاعِيل عَن
مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله عَن أبي
هُرَيْرَة، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَوْله: (لم تحصن) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسرهَا.
4322 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله قَالَ
أخبرنِي اللَّيْثُ عنْ سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ إذَا زَنَتْ أمَةُ
أحَدِكُمْ فتَبَيَّنَ زِناهَا فلْيَجْلِدْها الحَدَّ ولاَ
يُثَرِّبْ عَلَيْها ثُمَّ إنْ زَنَتْ فلْيَجْلِدْهَا
الحَدَّ ولاَ يُثَرِّبْ ثُمْ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ
فتَبَيَّنَ زِناهَا فَلْيَبِعْها ولَوْ بِحَبلٍ مِنْ
شَعرٍ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن أبي
هُرَيْرَة وَحده أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن
يحيى أبي الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي،
وَهُوَ من أَفْرَاده عَن اللَّيْث بن سعد عَن سعيد
المَقْبُري عَن أَبِيه أبي سعيد كيسَان مولى بني لَيْث،
وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن
عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود،
وَالنَّسَائِيّ فِي الرَّحِم، جَمِيعًا عَن عِيسَى بن
حَمَّاد كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث بِهِ.
قَوْله: (فَتبين) أَي: ظهر زنَاهَا وَثَبت. قَوْله: (وَلَا
يثرب) أَي: وَلَا
(12/50)
يوبخها بِالزِّنَا بعد الضَّرْب، والتثريب
اللوم، وَقيل أَرَادَ: لَا يَقع فِي عقوبتها التثريب بل
يضْربهَا الْحَد، فَإِن زنا الْإِمَاء لم يكن عِنْد
الْعَرَب مَكْرُوها وَلَا مُنْكرا، فَأَمرهمْ بِحَدّ
الْإِمَاء كَمَا أَمرهم بِحَدّ الْحَرَائِر، ومادته: ثاء
مُثَلّثَة وَرَاء وباء مُوَحدَة. قَوْله: (وَلَو بِحَبل)
أَي: وَلَو كَانَ بِحَبل من شعر.
111 - (بابٌ هَلْ يُسَافِرُ بالجَارِيَةِ أنْ
يَسْتَبْرِئَها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُسَافر شخص بالجارية
الَّتِي اشْتَرَاهَا قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا؟ وَإِنَّمَا
قيد بِالسَّفرِ، وَإِن كَانَ فِي الْحَضَر أَيْضا لَا بُد
من الِاسْتِبْرَاء، لِأَن السّفر مَظَنَّة المخالطة
وَالْمُلَامَسَة غَالِبا، واستبراء الْجَارِيَة طلب
بَرَاءَة رَحمهَا من الْحمل، وَأَصله من: استبرأت الشَّيْء
إِذا طلبت أمره لتعرفه وتقطع الشُّبْهَة. وَقيل:
الِاسْتِبْرَاء عبارَة عَن التعرف والتبصر احْتِيَاطًا،
والاستبراء الَّذِي يذكر مَعَ الِاسْتِنْجَاء فِي
الطَّهَارَة هُوَ أَن يستفرغ بَقِيَّة الْبَوْل وينقي
مَوْضِعه وَمَجْرَاهُ، وَكلمَة: هَل: هُنَا للاستفهام على
سَبِيل الاستخبار، وَلم يذكر جَوَابه لمَكَان الِاخْتِلَاف
فِيهِ.
ولَمْ يَرَ الحَسَنُ بَأْسا أَن يُقَبِّلَها أوْ
يُبَاشِرَهَا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن
أبي شيبَة عَن ابْن علية، قَالَ: سُئِلَ يُونُس عَن الرجل
يَشْتَرِي الْأمة فيستبرئها يُصِيب مِنْهَا الْقبْلَة
والمباشرة؟ فَقَالَ ابْن سِيرِين: يكره ذَلِك، وَيذكر عَن
الْحسن أَنه كَانَ لَا يرى بالقبلة بَأْسا. قَوْله: (أَو
يُبَاشِرهَا) يَعْنِي فِيمَا دون الْفرج، ويروى: ويباشرها
بِالْوَاو، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق
بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن، قَالَ: يُصِيب مَا دون الْفرج،
وَلَفظ الْمُبَاشرَة أَعم من التَّقْبِيل وَغَيره، وَلَكِن
الْفرج مُسْتَثْنى لأجل الْمعرفَة بِبَرَاءَة الرَّحِم.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا
وُهِبَتِ الوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطأ أوْ بِيعَتْ أوْ
عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرأ رَحِمُها بِحَيْضَةٍ ولاَ
تَسْتَبُرَأُ العَذْرَاءُ
ابْن عمر هُوَ عبد الله بن عمر. قَوْله: (إِذا وهبت) إِلَى
قَوْله: (بِحَيْضَة) ، تَعْلِيق وَصله أَبُو بكر بن أبي
شيبَة من طَرِيق عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر
والوليدة الْجَارِيَة. قَوْله: (الَّتِي تُوطأ) على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو بِيعَتْ) ، بِكَسْر الْبَاء على
صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (أَو عتقت) ، بِفَتْح
الْعين وَقيل بضَمهَا، وَلَيْسَ بِشَيْء. قَوْله:
(فليستبرأ) على صِيغَة الْمَجْهُول أَو الْمَعْلُوم أَي:
ليستبرىء الْمُتَّهب وَالْمُشْتَرِي والمتزوج بهَا
الْغَيْر الْمُعْتق. قَوْله: (وَلَا تستبرأ الْعَذْرَاء)
وَهِي الْبكر إِذْ لَا شكّ فِي بَرَاءَة رَحمهَا من
الْوَلَد، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن
عبد الْوَهَّاب عَن سعيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن
عمر، قَالَ: إِن اشْترى أمة عذراء فَلَا يَسْتَبْرِئهَا.
وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا خلاف مَا يَقُوله مَالك. قيل:
وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. وَقيل: يستبرىء اسْتِحْبَابا،
وَعَن ابْن سِيرِين فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة
الْعَذْرَاء، قَالَ لَا يقربن رَحمهَا حَتَّى
يَسْتَبْرِئهَا. وَعَن الْحسن: يَسْتَبْرِئهَا وَإِن
كَانَت بكرا، وَكَذَا قَالَه عِكْرِمَة، وَقَالَ عَطاء فِي
رجل اشْترى جَارِيَة من أَبَوَيْهَا عذراء، وَقَالَ:
يَسْتَبْرِئهَا بحيضتين. وَمذهب جمَاعَة مِنْهُم: ابْن
الْقَاسِم وَسَالم وَاللَّيْث وَأَبُو يُوسُف: لَا
اسْتِبْرَاء إلاَّ على الْبَالِغَة، وَكَانَ أَبُو يُوسُف
لَا يرى اسْتِبْرَاء الْعَذْرَاء وَإِن كَانَت بَالِغَة،
ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَقَالَ إِيَاس بن
مُعَاوِيَة فِي رجل اشْترى جَارِيَة صَغِيرَة، لَا يُجَامع
مثلهَا، قَالَ: لَا بَأْس أَن يَطَأهَا وَلَا
يَسْتَبْرِئهَا، وَكره قَتَادَة تقبيلها حَتَّى
يَسْتَبْرِئهَا. وَقَالَ أَيُّوب اللَّخْمِيّ، وَقعت فِي
سهم ابْن عمر جَارِيَة يَوْم جَلُولَاء، فَمَا ملك نَفسه
حَتَّى قبلهَا. قَالَ ابْن بطال: ثَبت هَذَا عَن ابْن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ عَطاءٌ لاَ بأسَ أنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ
الحامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ وَقَالَ الله تَعَالَى:
{إلاَّ عَلى أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ، وَالْمرَاد بقوله:
(الْحَامِل) من غير سَيِّدهَا، لِأَنَّهَا: إِذا كَانَت
حَامِلا من سَيِّدهَا فَلَا يرتاب فِي حلّه، ثمَّ وَجه
الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ هُوَ أَن الله تَعَالَى مدح
الحافظين فروجهم إلاَّ عَلى أَزوَاجهم أَو مَا ملكت
أَيْمَانهم، فَإِنَّهَا دلّت على جَوَاز الِاسْتِمْتَاع
بِجَمِيعِ وجوهه لَكِن خرج الْوَطْء بِدَلِيل، فَبَقيَ
الْبَاقِي على أَصله.
(12/51)
3522 - حدَّثنا عَبْدُ الغَفَّارِ بنُ
داوُدَ قَالَ حدَّثنا يَعْقوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ
عَمْرِو بنِ أبِي عَمْرٍ وعنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خَيْبَرَ فَلَمَّا فتَحَ الله عَلَيْهِ الحصْنَ
ذكِرَ لَهُ جَمالُ صفيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بن أخْطَبَ
وقَدْ قتلَ زَوْجُها وكانَتْ عَرُوسا فاصْطَفاها رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِنَفْسهِ فخَرَجَ بِها
حتَّى بلغْنَا سَدَّ الرَّوْحاءِ حلَّتْ فبَنَى بهَا ثُمَّ
صنَعَ حَيْسا فِي نطَعٍ صغيرٍ ثمَّ قَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ فكانَتْ تِلُكَ
وَلِيمَةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى
صفِيَّةَ ثُمَّ خَرَجْنا إِلَى المَدِينَةِ قَالَ فرأيْتُ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحَوِّي لَها ورَاءَهُ
بِعَباءَةٍ ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فيَضَعُ
رُكْبَتَهُ فتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا عَلَى
رُكْبَتَيْهِ حَتَّى تَرْكَبَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لما اصْطفى صَفِيَّة استبرأها بِحَيْضَة ثمَّ بنى
بهَا، وَهَذَا يفهم من قَوْله: حَتَّى بلغنَا سد الروحاء
حلت، فَإِن المُرَاد بقوله: حلت أَي: طهرت من حَيْضهَا.
وَقد روى الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اسْتَبْرَأَ صَفِيَّة بِحَيْضَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الْغفار بن دَاوُد
بن مهْرَان، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد
الله بن عبد الْقَارِي، من القارة، حَلِيف بني زهرَة، وَقد
مر فِي: بَاب الْخطْبَة على الْمِنْبَر. الثَّالِث: عَمْرو
بن أبي عَمْرو، واسْمه: ميسرَة يكنى أَبَا عُثْمَان.
الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَعبد
الْغفار حراني سكن مصر وَأَن يَعْقُوب مدنِي سكن إسكندرية
وَأَن عَمْرو بن أبي عَمْرو مدنِي مَاتَ فِي أول خلَافَة
أبي جَعْفَر الْمَنْصُور سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عبد الْغفار، وَفِي الْجِهَاد
عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن أَحْمد عَن
ابْن وهب، وَفِي الْأَطْعِمَة وَفِي الدَّعْوَات عَن
قُتَيْبَة أَيْضا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن
سعيد بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خَيْبَر) ، كَانَت غَزْوَة
خَيْبَر سنة سِتّ، وَقيل: سبع. قَوْله: (الْحصن) ، اسْمه
القموص وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سبى صَفِيَّة
وَابْنَة عَم لَهَا من هَذَا الْحصن. قَوْله: (صَفِيَّة) ،
بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف. الصَّحِيح: أَن هَذَا كَانَ
اسْمهَا قبل السَّبي، وَقيل: كَانَ اسْمهَا: زَيْنَب،
فسميت صَفِيَّة بعد السَّبي. قَوْله: (بنت حييّ) ، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى
وَتَشْديد الثَّانِيَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: المحدثون
يَقُولُونَهُ بِكَسْر الْحَاء، وَأهل اللُّغَة بضَمهَا.
قَوْله: (ابْن أَخطب) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله:
(وَقد قتل زَوجهَا) ، وَهُوَ كنَانَة بن أبي الْحقيق
وَكَانَ زَوجهَا أَو لأسلام بن مشْكم، وَكَانَ خمارا فِي
الْجَاهِلِيَّة ثمَّ خلف عَلَيْهَا كنَانَة، وَكَانَت
صَفِيَّة رَأَتْ فِي الْمَنَام قمرا أقبل من يثرب وَوَقع
فِي حجرها، فقصت على زَوجهَا، فلطم وَجههَا وَقَالَ: أَنْت
تزعمين أَن ملك يثرب يتزوجك، وَفِي لفظ: تحبين أَن يكون
هَذَا الْملك الَّذِي يَأْتِي من الْمَدِينَة زَوجك، وَفِي
لفظ: رَأَيْت كَأَنِّي وَهَذَا الَّذِي يزْعم أَن الله
أرْسلهُ وَملك يسترنا بجناحه، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، رأى بوجهها أثر خضرَة قَرِيبا من عينهَا، فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ قَالَت: يَا رَسُول الله رَأَيْت فِي الْمَنَام
... فَذكرت مَا مضى إِلَى آخِره، و: هَذِه الخضرة من لطمة
على وَجْهي، وَفِي (الإكليل) للْحَاكِم، وَجُوَيْرِية
رَأَتْ فِي الْمَنَام كرؤية صَفِيَّة قبل تزَوجهَا برَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر ابْن سعد أَن أم
حَبِيبَة، قَالَت: رَأَيْت فِي النّوم كَأَن آتِيَا يَقُول
لي: يَا أم الْمُؤمنِينَ، فَفَزِعت وأولت أَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَتَزَوَّجنِي، وَعَن ابْن
عَبَّاس: رَأَتْ سَوْدَة فِي الْمَنَام كَأَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبل يمشي حَتَّى وطىء على
عُنُقهَا، فَقَالَ زَوجهَا: إِن صدقت رُؤْيَاك لتتزوجي
بِهِ، ثمَّ رَأَيْت لَيْلَة
(12/52)
أُخْرَى أَن قمرا أَبيض انقض عَلَيْهَا من
السَّمَاء وَهِي مُضْطَجِعَة، فَأخْبرت زَوجهَا
السَّكْرَان، فَقَالَ: إِن صدقت رُؤْيَاك لم ألبث إلاَّ
يَسِيرا حَتَّى أَمُوت وتتزوجيه من بعدِي، فاشتكى من
يَوْمه ذَلِك وَلم يلبث إلاَّ قَلِيلا حَتَّى مَاتَ.
قَوْله: (وَكَانَت عروسا) الْعَرُوس: نعت يَسْتَوِي فِيهِ
الْمُذكر والمؤنث، وَعَن الْخَلِيل: رجل عروس وَامْرَأَة
عروس وَنسَاء عرائس. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال للرجل
عروس كَمَا يُقَال للْمَرْأَة، وَهُوَ اسْم لَهَا عِنْد
دُخُول أَحدهمَا بِالْآخرِ، وَيُقَال: أعرس الرجل فَهُوَ
معرس إِذا دخل بامرأته عِنْد بنائها. قَوْله: (فاصطفاها)
أَي: أَخذهَا صفيا، والصفي سهم رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، من الْمغنم، كَانَ يَأْخُذهُ من الأَصْل
قبل الْقِسْمَة جَارِيَة أَو سِلَاحا، وَقيل: إِنَّمَا
سميت صَفِيَّة بذلك لِأَنَّهَا كَانَت صَفِيَّة من غنيمَة
خَيْبَر. قَوْله: (سد الروحاء) السد، بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة وَتَشْديد الدَّال، والروحاء، بِفَتْح الرَّاء
وَسُكُون الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وبالمد. مَوضِع
قريب من الْمَدِينَة وَفِي (الْمطَالع) : الروحاء من عمل
الْفَرْع على نَحْو من أَرْبَعِينَ ميلًا من الْمَدِينَة،
وَفِي مُسلم: على سِتَّة وَثَلَاثِينَ، وَفِي كتاب ابْن
أبي شيبَة: على ثَلَاثِينَ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل:
الصَّوَاب الصَّهْبَاء بدل سد الروحاء. وَفِي (الْمطَالع)
: الصَّهْبَاء من خَيْبَر على رَوْحَة. قَوْله: (حلت) قد
فسرناه عَن قريب فِي أول الْبَاب. قَوْله: (فَبنى بهَا)
أَي: دخل بهَا، قَالَ ابْن الْأَثِير: الابتناء وَالْبناء:
الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الرجل
كَانَ إِذا تزوج بِامْرَأَة بنى عَلَيْهَا قبَّة ليدْخل
بهَا فِيهَا. فَيُقَال: بنى الرجل على أَهله. قَالَ
الْجَوْهَرِي: لَا يُقَال بنى بأَهْله. قَوْله: (حَيْسًا)
، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي
آخِره سين مُهْملَة. وَهُوَ: أخلاط من التَّمْر والأقط
وَالسمن، وَيُقَال: من الثَّمر والسويق، وَيُقَال: من
التَّمْر وَالسمن، وَعَن أبي الْوَلِيد، وَلِيمَة رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، السّمن والأقط وَالثَّمَر.
وَفِي لفظ: التَّمْر والسويق. قَوْله: (فِي نطع) ، بِكَسْر
النُّون وَفتح الطَّاء على الْأَفْصَح، وَقَالَ ابْن
التِّين، يُقَال: قطع، بِسُكُون الطَّاء وَفتحهَا: جُلُود
تدبغ وَيجمع بَعْضهَا على بعض وتفرش. قَوْله: (آذن من
حولك) أَي: أعلمهُ لإشهاد النِّكَاح، وَهُوَ أَمر من: آذن
يُؤذن إِيذَانًا، وَالْخطاب لأنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. قَوْله: (وَلِيمَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) ، الْوَلِيمَة: هِيَ الطَّعَام الَّذِي يصنع عِنْد
الْعرس. قَوْله: (يحوِّي) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو
الْمَكْسُورَة، وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر، وَقَول أهل
اللُّغَة: وَفِي رِوَايَة أبي الْحُسَيْن: يحوى،
بِالتَّخْفِيفِ ثلاثي وَهُوَ أَن يُدِير كسَاء فَوق سَنَام
الْبَعِير ثمَّ يركبه، والعباءة، مَمْدُود: ضرب من
الأكيسة، وَكَذَلِكَ العباء. قَوْله: (فَيَضَع ركبته)
إِلَى آخِره، قَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت تعظم أَن تجْعَل
رجلهَا على ركبته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَت تضع
ركبتها على ركبته، وَلما أركبها على الْبَعِير وحجبها علم
النَّاس أَنَّهَا زَوجته، وَكَانُوا قبل ذَلِك لَا
يَدْرُونَ أَنه تزَوجهَا أم اتخذها أم ولد. وَقَالَ الجاحظ
فِي (كتاب الموَالِي) ولد صَفِيَّة مائَة نَبِي وَمِائَة
ملك ثمَّ صيرها الله تَعَالَى أمة لسيدنا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت من سبط هَارُون، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ القَاضِي أَبُو عمر
مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان النوقائي
فِي (كتاب المحنة) : إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لما أَرَادَ الْبناء بصفية استأذنته عَائِشَة أَن تكون فِي
المتنقبات، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا
عَائِشَة إِنَّك لَو رَأَيْتهَا اقشعر جِلْدك من حسنها)
فَلَمَّا رأتها حصل لَهَا ذَلِك، وَقيل: حَدِيث اصطفائه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصفية يُعَارضهُ حَدِيث أنس
أَنَّهَا صَارَت لدحية، فَأَخذهَا مِنْهُ وَأَعْطَاهُ
سَبْعَة أرؤس، ويروى أَنه أعطَاهُ بِنْتي عَمها عوضا
مِنْهَا، ويروى أَنه قَالَ لَهُ: خُذ رَأْسا آخر
مَكَانهَا. وَأجِيب: لَا مُعَارضَة، لِأَن أَخذهَا من
دحْيَة قبل الْقسم وَمَا عوضه فِيهَا لَيْسَ على جِهَة
البيع، وَلَكِن على جِهَة النَّفْل أَو الْهِبَة، غير أَن
بعض رُوَاة الحَدِيث فِي الصَّحِيح يَقُولُونَ فِيهِ:
إِنَّه ترى صَفِيَّة من دحْيَة، وَبَعْضهمْ يزِيد فِيهِ
بعد الْقسم. وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ، وَفِي (حَوَاشِي
السّنَن) : الإِمَام إِذا نفل مَا لم يعلم بمقداره لَهُ
استرجاعه والتعويض عَنهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذهُ
بِغَيْر عوض، وَإِعْطَاء دحْيَة كَانَ بِرِضَاهُ فَيكون
مُعَاوضَة جَارِيَة بِجَارِيَة. فَإِن قلت: الْوَاهِب
مَنْهِيّ عَن شِرَاء هِبته. قلت: لم يَهبهُ من مَال نَفسه،
وَإِنَّمَا أعطَاهُ من مَال الله، عز وَجل، على جِهَة
النّظر كَمَا يُعْطي الإِمَام النَّفْل لأحد من أهل
الْجَيْش نظرا.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث: أَنه يدل على أَن
الِاسْتِبْرَاء أَمَانَة يؤتمن الْمُبْتَاع عَلَيْهَا
بِأَن لَا يَطَأهَا حَتَّى تحيض حَيْضَة إِن لم تكن
حَامِلا، لِأَن الْحَامِل لَا تُوطأ حَتَّى تضع لِئَلَّا
يسْقِي مَاؤُهُ زرع غَيره. وَأجْمع الْفُقَهَاء على أَن
حَيْضَة وَاحِدَة بَرَاءَة فِي الرَّحِم إلاَّ أَن
مَالِكًا وَاللَّيْث قَالَا: إِن اشْتَرَاهَا فِي أول
حَيْضهَا اعْتد بهَا، وَإِن كَانَت فِي آخرهَا لم يعْتد
بهَا، وَقَالَ ابْن الْمسيب:
(12/53)
حيضتان، وَقَالَ ابْن سِيرِين: ثَلَاث حيض،
وَاخْتلف إِذا أَمن فِيهَا الْحمل؟ فَقَالَ مَالك:
يستبرىء، وَقَالَ مطرف وَابْن الْمَاجشون: لَا.
وَاخْتلفُوا فِي قبْلَة الْجَارِيَة ومباشرتها قبل
الِاسْتِبْرَاء، فَأجَاز ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ
وَعِكْرِمَة، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَكَرِهَهُ ابْن
سِيرِين، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَأبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ، وَوَجهه قطعا للذريعة وحفظا للأنساب.
وَحجَّة المجيزين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا
تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِض حَتَّى تطهر) .
فَيدل هَذَا على أَن مَا دون الْوَطْء من الْمُبَاشرَة
والقبلة فِي حيّز الْمُبَاح، وسفره صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بصفية قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا حجَّة فِي ذَلِك،
لكَونه لَو لم يحل لَهُ من مباشرتها مَا دون الْجِمَاع، لم
يُسَافر بهَا مَعَه، لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يرفعها أَو
يَتْرُكهَا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يمس
بِيَدِهِ امْرَأَة لَا تحل لَهُ. وَمن هَذَا اخْتلَافهمْ
فِي مُبَاشرَة المظاهرة وقبلتها، فَذهب الزُّهْرِيّ
وَالنَّخَعِيّ وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ:
إِلَى أَنه لَا يقبلهَا وَلَا يتلذذ مِنْهَا بِشَيْء.
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لَا بَأْس أَن ينَال مِنْهَا
مَا دون الْجِمَاع، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَلذَلِك
فسر عَطاء وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ قَوْله تَعَالَى: {من
قبل أَن يتماسا} (المجادلة: 3 و 4) . أَنه عَنى بالمسيس:
الْجِمَاع، فِي هَذِه الْآيَة.
211 - (بابُ بَيْعِ المَيْتَةِ والأصْنَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْرِيم بيع الْميتَة
وَتَحْرِيم بيع الْأَصْنَام، وَهُوَ جمع صنم. قَالَ
الْجَوْهَرِي: (هوالوثن. وَقَالَ غَيره: الوثن مَا لَهُ
جثة والصنم مَا كَانَ مصورا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
الصَّنَم مَا اتخذ إِلَهًا من دون الله، وَقيل: الصَّنَم
مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة، فَإِن لم يكن لَهُ جسم أَو
صُورَة فَهُوَ وثن. وَقَالَ فِي: بَاب الْوَاو بعْدهَا
الثَّاء الْمُثَلَّثَة: الْفرق بَين الصَّنَم والوثن أَن
الوثن: كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من
الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ يعْمل وَينصب
فيعبد، والصنم: الصُّورَة بِلَا جثة. وَمِنْهُم من لم يفرق
بَينهمَا، وَأطلقهُمَا على الْمَعْنيين، وَقد يُطلق الوثن
على غير الصُّورَة، وَقد يُطلق الوثن على الصَّلِيب.
وَالْميتَة، بِفَتْح الْمِيم: هِيَ الَّتِي تَمُوت حتف
أنفها من غير ذَكَاة، شَرْعِيَّة، وَالْإِجْمَاع على
تَحْرِيم الْميتَة، وَاسْتثنى مِنْهَا السّمك وَالْجَرَاد.
6322 - حدَّثنا قُتَيبَةُ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ
يَزيدَ بنِ أبِي حَبِيبٍ عنْ عطَاءِ بنِ أبِي رَباحٍ عنْ
جابِر بنِ عَبْد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ
عامَ الْفَتْح وهْوَ بِمَكَّةَ إنَّ الله ورسولَهُ حَرَّمَ
بَيْعَ الخَمْرِ والْمَيْتَةِ والخِنْزيرِ والأصْنامِ
فَقِيلَ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ
فإنَّها يُطْلَى بِهَا السُّفُنْ ويُدْهَنُ بِها الجُلودُ
ويَسْتَصْبِحُ بِها النَّاسُ فقالَ لاَ هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ
قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ ذَلِكَ
قاتَلَ الله اليَهُودَ إنَّ الله لَمَّا حرَّمَ شُحُومَها
جَمَلُوهُ ثُمَّ باعُوهُ فأكَلُوا ثَمَنَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة، وَفِي
التَّفْسِير عَن عَمْرو بن خَالِد عَن اللَّيْث بِبَعْضِه.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْبيُوع عَن قُتَيْبَة بِهِ.
وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن بشار عَن أبي
عَاصِم بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جمعيا
فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
التِّجَارَات عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عَطاء) ، هَذَا رِوَايَة
مُتَّصِلَة، وَلَكِن نبه البُخَارِيّ فِي الرِّوَايَة
الْمُعَلقَة الَّتِي عقيب هَذِه: بِأَن يزِيد بن أبي حبيب
لم يسمعهُ من عَطاء، وَإِنَّمَا كتب بِهِ إِلَيْهِ على مَا
يَأْتِي، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج
بِالْكِتَابَةِ، فَذهب إِلَى صِحَّتهَا أَيُّوب
السّخْتِيَانِيّ وَمَنْصُور وَاللَّيْث بن سعد وَآخَرُونَ،
وَاحْتج بهَا الشَّيْخَانِ، وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه
الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقَالَ أَبُو بكر بن
السَّمْعَانِيّ، إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة، وَتكلم
فِيهَا بَعضهم وَلم يرهَا حجَّة، لِأَن الخطوط تشتبه،
وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) . قَوْله: (عَن
جَابر) وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن حجاج بن مُحَمَّد عَن
اللَّيْث بِسَنَدِهِ: سَمِعت جَابر بن عبد الله بِمَكَّة.
قَوْله: (عَام الْفَتْح) ، أَي: فتح مَكَّة. قَوْله:
(وَهُوَ بِمَكَّة) ، جملَة حَالية فِيهِ بَيَان تَارِيخ
ذَلِك، وَكَانَ ذَلِك فِي رَمَضَان سنة ثَمَان من
الْهِجْرَة. قيل: يحْتَمل أَن يكون التَّحْرِيم وَقع قبل
ذَلِك ثمَّ أَعَادَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يسمعهُ من
لم يكن سَمعه. قَوْله: (إِن الله وَرَسُوله حرم) ، هَكَذَا
هُوَ فِي الْأُصُول الصَّحِيحَة، حرم، بإفراد الْفِعْل
وَلم يقل: حرّما، وَهَكَذَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) و (سنَن)
النَّسَائِيّ
(12/54)
وَابْن مَاجَه، وَأما أَبُو دَاوُد
فَقَالَ: إِن الله حرم، لَيْسَ فِيهِ: وَرَسُوله، وَقد
وَقع فِي بعض الْكتب: أَن الله وَرَسُوله حرما، بالتثنية
وَهُوَ الْقيَاس، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي
تَفْسِيره من طَرِيق اللَّيْث أَيْضا، وَالْمَشْهُور فِي
الرِّوَايَة الأولى، وَوَجهه: أَنه لما كَانَ أَمر الله
هُوَ أَمر رَسُوله، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لَا يَأْمر إلاَّ بِمَا أَمر الله بِهِ، كَانَ
كَأَن الْأَمر وَاحِد. وَقَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : كَانَ
أَصله: حرما، لَكِن تأدب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلم يجمع بَينه وَبَين اسْم الله تَعَالَى فِي ضمير
الْإِثْنَيْنِ، لِأَن هَذَا من نوع مَا رده على الْخَطِيب
الَّذِي قَالَ: وَمن يعصهما فقد غوى، فَقَالَ: بئس
الْخَطِيب أَنْت. قل: وَمن يعْص الله وَرَسُوله، قَالَ:
وَصَارَ هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله برىء من
الْمُشْركين وَرَسُوله} (التَّوْبَة: 3) . فِيمَن قَرَأَ
بِنصب: رَسُوله، غير أَن الحَدِيث فِيهِ تَقْدِيم
وَتَأْخِير لِأَنَّهُ كَانَ حَقه أَن يقدم: حرم، على:
رَسُوله، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَة. وَقَالَ شَيخنَا: قد
ثَبت فِي (الصَّحِيح) تَثْنِيَة الضَّمِير فِي غير حَدِيث،
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن الله وَرَسُوله ينهيانكم عَن لُحُوم الْحمر،
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَأمر رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا طَلْحَة فَنَادَى إِن الله
وَرَسُوله ينهيانكم عَن لُحُوم الْحمر، وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ: إِن الله، عز وَجل، وَرَسُوله يَنْهَاكُم،
بِالْإِفْرَادِ، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن
مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إِذا تشهد قَالَ: الْحَمد
نستعينه، وَفِيه: من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن
يعصهما فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا نَفسه. قَوْله: (فَقيل:
يَا رَسُول الله!) ، وَفِي رِوَايَة عبد الحميد الْآتِيَة:
فَقَالَ رجل. قَوْله: (أَرَأَيْت؟) أَي: أَخْبرنِي عَن
شحوم الْميتَة إِلَى قَوْله: (النَّاس) ، أَي: أَخْبرنِي:
هَل يحل بيعهَا؟ لِأَن فِيهَا مَنَافِع مقتضية لصِحَّة
البيع. قَوْله: (فَقَالَ: لَا) ، أَي: فَقَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَبِيعُوهَا (هُوَ حرَام)
أَي: بيعهَا حرَام، هَكَذَا فسر بعض الْعلمَاء مِنْهُم
الشَّافِعِي، وَمِنْهُم من قَالَ: يحرم الِانْتِفَاع بهَا،
فَلَا يجوز الِانْتِفَاع من الْميتَة أصلا عِنْدهم إلاَّ
مَا خص بِالدَّلِيلِ: كالجلد إِذا دبغ، وَسُئِلَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذَا الحَدِيث عَن
ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: عَن طلي السفن، وَالثَّانِي:
عَن دهن الْجُلُود، وَالثَّالِث: عَن الاستصباح، كل ذَلِك
بشحوم الْميتَة، وَكَانَ سُؤَالهمْ عَن بيع ذَلِك ظنا
مِنْهُم أَن ذَلِك جَائِز لما فِيهِ من الْمَنَافِع، كَمَا
جَازَ بيع الْحمر الْأَهْلِيَّة لما فِيهِ من الْمَنَافِع،
وَإِن حرم أكلهَا، فظنوا أَن شحوم الْميتَة مثل ذَلِك يحل
بيعهَا وشراؤها وَإِن حرم أكلهَا، فَأخْبر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ذَلِك لَيْسَ كَالَّذي ظنُّوا،
وَأَن بيعهَا حرَام وَثمنهَا حرَام إِذْ كَانَت نَجِسَة،
نَظِيره الدَّم وَالْخمر مِمَّا يحرم بيعهَا، وَأكل
ثمنهَا، وَأما الاستصباح ودهن السفن والجلود بهَا فَهُوَ
بِخِلَاف بيعهَا وَأكل ثمنهَا إِذا كَانَ مَا يدهن بهَا من
ذَلِك يغسل بِالْمَاءِ غسل الشَّيْء الَّذِي أَصَابَته
النَّجَاسَة فيطهره المَاء، هَذَا قَول عَطاء بن أبي
رَبَاح وَجَمَاعَة من الْعلمَاء.
وَمِمَّنْ أجَاز الاستصباح مِمَّا يَقع فِيهِ الْفَأْرَة:
عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَالْإِجْمَاع قَائِم على أَنه: لَا يجوز بيع
الْميتَة والأصنام لِأَنَّهُ لَا يحل الِانْتِفَاع بهَا
وَوضع الثّمن فِيهَا إِضَاعَة مَال، وَقد نهى الشَّارِع
عَن إضاعته. قلت: على هَذَا التَّعْلِيل إِذا كسرت
الْأَصْنَام وَأمكن الِانْتِفَاع برضاضها جَازَ بيعهَا
عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَفِيَّة،
وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي الصلبان على هَذَا التَّفْصِيل.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فَإِذا أَجمعُوا على تَحْرِيم بيع
الْميتَة فَبيع جيفة الْكَافِر من أهل الْحَرْب كَذَلِك.
وَقَالَ شَيخنَا: اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ على أَنه لَا يجوز
بيع ميتَة الْآدَمِيّ مُطلقًا، سَوَاء فِيهِ الْمُسلم
وَالْكَافِر، أما الْمُسلم فلشرفه وفضله، حَتَّى إِنَّه
لَا يجوز الِانْتِفَاع بِشَيْء من شعره وَجلده وَجَمِيع
أَجْزَائِهِ، وَأما الْكَافِر فَلِأَن نَوْفَل بن عبد الله
بن الْمُغيرَة لما اقتحم الخَنْدَق وَقتل، غلب
الْمُسلمُونَ على جسده، فَأَرَادَ الْمُشْركُونَ أَن
يشتروه مِنْهُم، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا
حَاجَة لنا بجسده وَلَا بِثمنِهِ فخلى بَينهم وَبَينه،
ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره من أهل السّير، قَالَ ابْن
هِشَام: أعْطوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بجسده
عشرَة آلَاف دِرْهَم، فِيمَا بَلغنِي عَن الزُّهْرِيّ،
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن
الْمُشْركين أَرَادوا أَن يشتروا جَسَد رجل من الْمُشْركين
فَأبى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبيعهم.
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على نَجَاسَة
ميتَة الْآدَمِيّ إِذْ هُوَ محرم الْأكل وَلَا ينْتَفع
بِهِ. قلت: عُمُوم الحَدِيث مَخْصُوص بقوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تنجسوا مَوْتَاكُم، فَإِن الْمُسلم
لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) . رَوَاهُ الْحَاكِم فِي
(الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: صَحِيح
على شَرطهمَا وَلم يخرجَاهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف فِي جَوَاز بيع كل محرم نجس
فِيهِ مَنْفَعَة: كالزبل والعذرة فَمنع من ذَلِك
الشَّافِعِي وَمَالك، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ والطبري.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى إجَازَة ذَلِك من المُشْتَرِي دون
البَائِع، وَرَأَوا أَن المُشْتَرِي أعذر من البَائِع
لِأَنَّهُ مُضْطَر
(12/55)
إِلَى ذَلِك، رُوِيَ ذَلِك عَن بعض
الشَّافِعِيَّة. وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ أَيْضا من ذهب
إِلَى نَجَاسَة سَائِر أَجزَاء الْميتَة من اللَّحْم
وَالشعر وَالظفر وَالْجَلد وَالسّن، وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي وَأحمد، وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى أَن
مَا لَا تحله الْحَيَاة لَا ينجس بِالْمَوْتِ: كالشعر
وَالظفر والقرن والحافر والعظم، لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهُ مشط من عاج، وَهُوَ عظم
الْفِيل، وَهُوَ غير مَأْكُول فَدلَّ على طَهَارَة عظمه
وَمَا أشبهه. وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بالعاج عظم السّمك
وَهُوَ الذيل. قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: العاج من عظم
الْفِيل، وَكَذَا قَالَه فِي (الْعباب) وَفِي (الْمُحكم) :
العاج أَنْيَاب الْفِيل، وَلَا يُسمى غير الناب عاجا،
وَقَالَ الْخطابِيّ: العاج الذبل، وَهُوَ خطأ، وَفِي
(الْعباب) : الذيل ظهر السلحفاة البحرية تتَّخذ مِنْهَا
السوار والخاتم وَغَيرهمَا. وَقَالَ جرير:
(ترى العبس الحولي جونا بُلُوغهَا ... لَهَا مسكا من غير
عاج وَلَا ذبل)
فَهَذَا يدل على أَن العاج غير الذبل، وروى
الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِنَّمَا
حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْميتَة
لَحمهَا، فَأَما الْجلد وَالشعر وَالصُّوف فَلَا بَأْس
بِهِ. وروى أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تَقول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: لَا بَأْس بمَسك الْميتَة إِذا دبغ، وَلَا بَأْس
بصوفها وشعرها وقرونها إِذا غسل بِالْمَاءِ. فَإِن قلت:
الحديثان كِلَاهُمَا ضعيفان لِأَن فِي إِسْنَاد الأول: عبد
الْجَبَّار بن مُسلم، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ
ضَعِيف، وَفِي إِسْنَاد الثَّانِي: يُوسُف بن أبي السّفر،
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. قلت:
ابْن حبَان ذكر عبد الْجَبَّار فِي الثِّقَات، وَأما
يُوسُف فَإِنَّهُ لَا يُؤثر فِيهِ الضعْف إلاَّ بعد بَيَان
جِهَته، وَالْجرْح الْمُبْهم غير مَقْبُول عِنْد الحذاق من
الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ كَانَ كَاتب الْأَوْزَاعِيّ.
قَوْله: (ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عِنْد ذَلِك) ، أَي: عِنْد قَوْله: هُوَ حرَام. قَوْله:
(قَاتل الله الْيَهُود) أَي: لعنهم. قَوْله: (جملوه) ،
بِالْجِيم أَي: أذابوه من جملَة الشَّحْم أجمله جملا
وإجمالاً: إِذا أذبته واستخرجت دهنه، و: جملت، أفْصح من:
أجملت، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد بقوله: هُوَ حرَام،
أَي: البيع لَا الِانْتِفَاع. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الضَّمِير فِي: باعوه رَاجع إِلَى الشحوم بِاعْتِبَار
الْمَذْكُور، أَو إِلَى الشَّحْم الَّذِي فِي ضمن الشحوم.
قلت: الأول لَهُ وَجه، وَالثَّانِي لَا وَجه لَهُ، على مَا
لَا يخفى.
قَالَ أبُو عاصِمٍ حَدثنَا عَبْدُ الحَمِيدِ قَالَ حَدثنَا
يَزيدُ قَالَ كتَبَ إلَيَّ عطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جابِرا
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
أَبُو عَاصِم هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد الشَّيْبَانِيّ، أحد
شُيُوخ البُخَارِيّ، وَعبد الحميد بن جَعْفَر بن عبد الله
بن أبي الحكم بن سِنَان حَلِيف الْأَنْصَار، مَاتَ سنة
ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، حدث هُوَ وَابْنه
سعد وَأَبوهُ جَعْفَر وجده أَبُو الحكم رَافع، وَله
صُحْبَة، وَابْن عَمه عمر بن الحكم بن رَافع بن سِنَان،
وَهُوَ من ولد القطيون من ولد محرق بن عَمْرو ومزيقيا،
وَقيل: القطيون من الْيَهُود وَلَيْسَ من ولد محرق،
وَرَافِع بن سِنَان لَهُ حَدِيث فِي (سنَن أبي دَاوُد) من
رِوَايَة ابْنه فِي تَخْيِير الصَّبِي بَين أَبَوَيْهِ،
وَيزِيد هُوَ ابْن أبي حبيب الْمَذْكُور فِي الحَدِيث
السَّابِق.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو
عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن عبد الحميد بن جَعْفَر
أَخْبرنِي يزِيد بن أبي حبيب ... الحَدِيث.
311 - (بابُ ثَمَنِ الكَلْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم ثمن الْكَلْب.
7322 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا
مَالك عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نَهىَ عنْ ثَمَنِ الكَلْبِ ومَهْرِ الْبَغِيِّ وحُلْوانِ
الْكَاهِنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نهى عَن ثمن الْكَلْب)
.
وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن
الْحَارِث بن هِشَام رَاهِب قُرَيْش، مر فِي الصَّلَاة،
وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة بن عمر الْأنْصَارِيّ، مر فِي
آخر كتاب الْإِيمَان، وَعقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْقَاف.
(12/56)
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِجَارَة عَن قُتَيْبَة عَن
مَالك، وَفِي الطَّلَاق عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي
الطِّبّ عَن عبد الله بن مُحَمَّد، كِلَاهُمَا عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا
عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك، وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح،
كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث وَعَن أبي بكر عَن سُفْيَان،
ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ وَفِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة عَن
اللَّيْث بِهِ وَعَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّيْد عَن قُتَيْبَة عَن
لَيْث بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن
هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن
سُفْيَان بِهِ.
وَلما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عمر
وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن
عَبَّاس وَابْن عمر وَعبد الله بن جَعْفَر، وَأخرج هُوَ
أَيْضا حَدِيث رَافع بن خديج من حَدِيث السَّائِب بن يزِيد
عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
(كسب الْحجام خَبِيث وَمهر النغي خَبِيث وَثمن الْكَلْب
خَبِيث) . وَأخرجه أَيْضا مُسلم وَالْأَرْبَعَة.
أما حَدِيث عمر فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير)
من حَدِيث السَّائِب بن يزِيد عَن عمر بن الْخطاب: أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثمن
الْقَيْنَة سحت وَغِنَاهَا حرَام وَالنَّظَر إِلَيْهَا
حرَام وَثمنهَا مثل ثمن الْكَلْب وَثمن الْكَلْب سحت وَمن
نبت لَحْمه على السُّحت فَالنَّار أولى بِهِ. وَأما حَدِيث
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي
(الْكَامِل) من حَدِيث الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَأجر
الْبَغي وَكسب الْحجام والضب والضبع، وَأما حَدِيث ابْن
مَسْعُود ...
وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ مُسلم من رِوَايَة أبي
الزبير، قَالَ: سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور؟
فَقَالَ: زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك،
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة
الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر. وَأما حَدِيث أبي
هُرَيْرَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من
رِوَايَة أبي حَازِم عَنهُ، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب وعسب الْفَحْل،
وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: وعسب التيس، وَأخرجه
الْحَاكِم، وَلَفظه: لَا يحل مهر الزَّانِيَة وَلَا ثمن
الْكَلْب، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد من رِوَايَة عَليّ بن رَبَاح أَنه سمع أَبَا
هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: لَا يحل ثمن الْكَلْب وَلَا حلوان الكاهن وَلَا مهر
الْبَغي. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ أَبُو
دَاوُد من رِوَايَة قيس بن جُبَير عَن عبد الله بن
عَبَّاس، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَإِن جَاءَ يطْلب ثمن الْكَلْب
فاملأ كَفه تُرَابا، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من
رِوَايَة عَطاء بن أبي رَبَاح عَنهُ. وَأما حَدِيث ابْن
عمر فَأخْرجهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) فَقَالَ:
سَأَلت أبي عَن حَدِيث رَوَاهُ الْمعَافى عَن ابْن عمرَان
الْحِمصِي عَن ابْن لَهِيعَة عَن عبيد الله بن أبي جَعْفَر
عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَإِن كَانَ ضاريا؟
قَالَ أبي: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَأما حَدِيث عبد الله بن
جَعْفَر فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة
يحيى بن الْعَلَاء عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن
عبد الله بن جَعْفَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب
وَكسب الْحجام، أوردهُ فِي تَرْجَمَة يحيى بن الْعَلَاء
وَضَعفه.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي جُحَيْفَة وَعبد الله بن
عَمْرو وَأنس بن مَالك والسائب بن يزِيد ومَيْمُونَة بنت
سعد. وَأما حَدِيث أبي جُحَيْفَة فَأخْرجهُ البُخَارِيّ
وَقد مر. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ
الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة حُصَيْن عَن
مُجَاهِد عَن عبد الله ابْن عَمْرو، قَالَ: نهى رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وَمهر
الْبَغي وَأجر الكاهن وَكسب الْحجام. وَأما حَدِيث أنس
فَأخْرجهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ: ثمن الْكَلْب
كلهَا سحت. وَأما حَدِيث السَّائِب بن يزِيد فَأخْرجهُ
النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الله،
قَالَ: سَمِعت السَّائِب بن يزِيد يَقُول: قَالَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السُّحت ثَلَاثَة: مهر
الْبَغي وَكسب الْحجام وَثمن الْكَلْب) . وَأما حَدِيث
مَيْمُونَة بنت سعد فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة
عبد الحميد بن يزِيد عَن أُميَّة بنت عمر بن عبد الْعَزِيز
عَن مَيْمُونَة بنت سعد أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله
أَفْتِنَا عَن الْكَلْب؟ فَقَالَ: (الْكَلْب طعمة
جَاهِلِيَّة، وَقد أغْنى الله عَنْهَا) . قَالَ شَيخنَا:
وَلَيْسَ المُرَاد من هَذَا الحَدِيث أكل الْكَلْب
(12/57)
وَإِنَّمَا المُرَاد أكل ثمنه، كَمَا
رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث جَابر عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه نهى عَن ثمن
الْكَلْب وَقَالَ: طعمة جَاهِلِيَّة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (نهى عَن ثمن الْكَلْب) وَهُوَ
بِإِطْلَاقِهِ يتَنَاوَل جَمِيع أَنْوَاع الْكلاب،
وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَمهر
الْبَغي) وَفِي حَدِيث عَليّ: وَأجر الْبَغي، وَجَاء:
وَكسب الْأمة هُوَ مهر الْبَغي لَا الْكسْب الَّذِي تكتسبه
بالصنعة وَالْعَمَل، وَإِطْلَاق الْمهْر فِيهِ مجَاز،
وَالْمرَاد مَا تَأْخُذهُ على زنَاهَا، وَالْبَغي، بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَتَشْديد الْيَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: نقل عَن أبي
الْحسن أَنه قَالَ بِإِسْكَان الْغَيْن وَتَخْفِيف
الْيَاء، وَهُوَ الزِّنَا، وَكَذَلِكَ الْبغاء بِكَسْر
الْبَاء ممدودا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا
فَتَيَاتكُم على الْبغاء} (النُّور: 33) . يُقَال: بَغت
الْمَرْأَة تبغي بغاء، وَالْبَغي يَجِيء بِمَعْنى الطّلب،
يُقَال: أبغني، أَي: اطلب لي، قَالَ الله تَعَالَى:
{يبغونكم الْفِتْنَة} (التَّوْبَة: 74) . قَالَ
الْخطابِيّ: وَأكْثر مَا يَأْتِي ذَلِك فِي الشَّرّ،
وَمِنْه الفئة الباغية من الْبَغي وَهُوَ الظُّلم وَأَصله
الْحَسَد، وَالْبَغي الْفساد أَيْضا والاستطالة وَالْكبر،
وَالْبَغي فِي الحَدِيث: الْفَاجِرَة، وَأَصله بغوي على
وزن: فعول، بِمَعْنى فاعلة، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء
وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت
الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: بغي، بِضَم الْغَيْن، فأبدلت
الضمة كسرة لأجل الْيَاء، وَهُوَ صفة لمؤنث، فَلذَلِك
جَاءَ بِغَيْر هَاء كَمَا يَجِيء إِذا كَانَت بِمَعْنى
مفعول نَحْو: ركُوب وحلوب وَلَا يجوز أَن يكون بغي هُنَا
على وزن: فعيل، إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك للزمته الْهَاء
كامرأة حليمة وكريمة، وَيجمع الْبَغي على: بَغَايَا.
قَوْله: (وحلوان الكاهن) ، الحلوان، بِضَم الْحَاء:
الرِّشْوَة، وَهُوَ مَا يعْطى الكاهن وَيجْعَل لَهُ على
كهانته، تَقول مِنْهُ: حلوت الرجل حلوانا إِذا حبوته
بِشَيْء، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: قَالَ بَعضهم: أَصله من
الْحَلَاوَة، شبه بالشَّيْء الحلو، يُقَال: حلوته إِذا
أطعمته الحلو كَمَا يُقَال عسلته اذا اطعمته الْعَسَل.
وَقَالَ أَبُو عبيد: والحلوان أَيْضا فِي غير هَذَا أَن
يَأْخُذ الرجل من مهر ابْنَته لنَفسِهِ، وَهُوَ عيب عِنْد
النِّسَاء، وَقَالَت امْرَأَة تمدح زَوجهَا:
لَا تَأْخُذ الحلوان من بناتها
وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لِابْنِ زرقون: وأصل الحلوان فِي
اللُّغَة الْعَطِيَّة، قَالَ الشَّاعِر:
(فَمن رجل أحلوه رحلي وناقتييبلِّغ عني الشّعْر إِذْ مَاتَ
قَائِله)
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: حلوت فلَانا على كَذَا مَالا وَأَنا
أحلوه حلوا وحلوانا: إِذا وهبت لَهُ شَيْئا على شَيْء
يَفْعَله لَك غير الْأُجْرَة، والحلوان أَيْضا أَن يَأْخُذ
الرجل من مهر ابْنَته لنَفسِهِ شَيْئا كَمَا ذكرنَا.
والكاهن الَّذِي يخبر بِالْغَيْبِ الْمُسْتَقْبل، والعراف
الَّذِي يخبر بِمَا أُخْفِي، وَقد حصل فِي الْوُجُود،
وَيجمع الكاهن على: كهنة وكهان، يُقَال: كهن يكهن كهَانَة،
مثل: كتب يكْتب كِتَابَة، إِذا تكهن فَإِذا أردْت أَنه
صَار كَاهِنًا قلت: كهن بِالضَّمِّ كهَانَة، بِالْفَتْح.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الكاهن الَّذِي يتعاطى الْخَبَر
عَن الكائنات فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان، ويدَّعي معرفَة
الْأَسْرَار، وَقد كَانَ فِي الْعَرَب كهنة: كشق وسطيح
وَغَيرهمَا، فَمنهمْ من كَانَ يزْعم أَن لَهُ تَابعا من
الْجِنّ ورئيا يلقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَار، وَمِنْهُم من
كَانَ يزْعم أَنه يعرف الْأُمُور بمقدمات أَسبَاب يسْتَدلّ
بهَا على مواقعها من كَلَام من يسْأَله أَو فعله أَو
حَاله، وَهَذَا يخصونه باسم العراف، كَالَّذي يدعى معرفَة
الشَّيْء الْمَسْرُوق وَمَكَان الضَّالة وَنَحْوهمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ ثَلَاثَة أَحْكَام:
الأول: ثمن الْكَلْب، احْتج بِهِ جمَاعَة على أَنه لَا
يجوز بيع الْكَلْب مُطلقًا، الْمعلم وَغَيره، وَمِمَّا
يجوز اقتناؤه أَو لَا يجوز، وَأَنه لَا ثمن لَهُ،
وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن وَمُحَمّد بن سيريين وَعبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالْحكم وَحَمَّاد بن أبي
سُلَيْمَان وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَأهل
الظَّاهِر، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك،
وَقَالَ ابْن قدامَة: لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي أَن بيع
الْكَلْب بَاطِل على كل حَال. وَكره أَبُو هُرَيْرَة ثمن
الْكَلْب، وَرخّص فِي ثمن كلب الصَّيْد خَاصَّة جَابر،
وَبِه قَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ.
وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك، فَمنهمْ من قَالَ: لَا يجوز،
وَمِنْهُم من قَالَ: الْكَلْب الْمَأْذُون فِي إِمْسَاكه
يكره بَيْعه وَيصِح، وَلَا تجوز إِجَارَته، نَص عَلَيْهِ
أَحْمد، وَهَذَا قَول بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَقَالَ
بَعضهم: يجوز، وَقَالَ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : أكره ثمن
الْكَلْب الضاري وَغير الضاري لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن ثمن الْكَلْب، وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لِابْنِ
زرقون: وَاخْتلف قَول مَالك فِي ثمن الْكَلْب الْمُبَاح
اتِّخَاذه، فَأَجَازَهُ مرّة وَمنعه أُخْرَى، وبإجازته
قَالَ
(12/58)
ابْن كنَانَة وَأَبُو حنيفَة، وَقَالَ
سَحْنُون: ويحج بِثمنِهِ، وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم أَنه
كره بَيْعه، وَفِي (المزينة) كَانَ مَالك يَأْمر بِبيع
الْكَلْب الضاري فِي الْمِيرَاث وَالدّين والمغارم،
وَيكرهُ بَيْعه ابْتِدَاء، قَالَ يحيى بن إِبْرَاهِيم:
قَوْله: فِي الْمِيرَاث، يَعْنِي: للْيَتِيم، وَأما لأهل
الْمِيرَاث الْبَالِغين فَلَا يُبَاع إلاَّ فِي الدّين
والمغارم، وَقَالَ أَشهب فِي (ديوانه) عَن مَالك: يفْسخ
بيع الْكَلْب إلاَّ أَن يطول. وَحكى ابْن عبد الحكم: أَنه
يفْسخ وَإِن طَال. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا
يحل بيع كلب أصلا لَا كلب صيد وَلَا كلب مَاشِيَة وَلَا
غَيرهمَا، فَإِن اضْطر إِلَيْهِ وَلم يجد من يُعْطِيهِ
إِيَّاه فَلهُ ابتياعه، وَهُوَ حَلَال للْمُشْتَرِي حرَام
على البَائِع، ينتزع مِنْهُ الثّمن مَتى قدر عَلَيْهِ
كالرشوة فِي دفع الظُّلم وَفِدَاء الْأَسير ومصانعة
الظَّالِم وَلَا فرق.
ثمَّ إِن الشَّافِعِيَّة قَالُوا: من قتل كلب صيد أَو زرع
وماشية لَا يلْزمه قِيمَته. قَالَ الشَّافِعِي: مَا لَا
ثمن لَهُ لَا قيمَة لَهُ إِذا قتل، وَبِه قَالَ أَحْمد
وَمن نحى إِلَى مَذْهَبهمَا، وَعَن مَالك رِوَايَتَانِ،
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب بالأحاديث
الَّتِي فِيهَا منع بيع الْكَلْب وَحُرْمَة ثمنه.
وَخَالفهُم فِي ذَلِك جمَاعَة، وهم: عَطاء ابْن أبي
رَبَاح، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن كنَانَة وَسَحْنُون من
الْمَالِكِيَّة، وَمَالك فِي رِوَايَة، فَقَالُوا: الْكلاب
الَّتِي ينْتَفع بهَا يجوز بيعهَا وَيُبَاح أثمانها، وَعَن
أبي حنيفَة: أَن الْكَلْب الْعَقُور لَا يجوز بَيْعه وَلَا
يُبَاح ثمنه. وَفِي (الْبَدَائِع) : وَأما بيع ذِي نَاب من
السبَاع سوى الْخِنْزِير كَالْكَلْبِ والفهد والأسد والنمر
وَالذِّئْب والهر وَنَحْوهَا فَجَائِز عِنْد أَصْحَابنَا،
ثمَّ عندنَا لَا فرق بَين الْمعلم وَغير الْمعلم فِي
رِوَايَة الأَصْل: فَيجوز بَيْعه كَيفَ مَا كَانَ، وروى
عَن أبي يُوسُف أَنه: لَا يجوز بيع الْكَلْب الْعَقُور،
كَمَا روى عَن أبي حنيفَة فِيهِ، ثمَّ على أصلهم يجب
قِيمَته على قَاتله، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن
عُثْمَان ابْن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه
أغرم رجلا ثمن كلب قَتله عشْرين بَعِيرًا، وَبِمَا رُوِيَ
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قضى فِي كلب صيد
قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة
بكبش.
وَقَالَ المخالفون لَهُم: أثر عُثْمَان مُنْقَطع وَضَعِيف.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان
بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ خطب فَأمر بقتل الْكلاب. قَالَ
الشَّافِعِي: فَكيف يَأْمر بقتل مَا يغرم من قَتله
قِيمَته؟ وَأثر عبد الله بن عَمْرو لَهُ طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا مُنْقَطع، وَالْآخر فِيهِ من لَيْسَ بِمَعْرُوف
وَلَا يُتَابع عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ،
وَقد روى عبد الله بن عَمْرو النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب،
فَلَو ثَبت عَنهُ الْقَضَاء بِقِيمَتِه لكَانَتْ الْعبْرَة
بروايته لَا بِقَضَائِهِ على الصَّحِيح عِنْد
الْأُصُولِيِّينَ. انْتهى. قلت: الْجَواب عَن هَذَا كُله:
أما قَول الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان
بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ حكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ:
أَخْبرنِي الثِّقَة عَن يُونُس عَن الْحسن: سَمِعت
عُثْمَان يخْطب وَهُوَ يَأْمر بقتل الْكلاب، فَلَا يُكتفى
بقوله: أَخْبرنِي الثِّقَة، فقد يكون مجروحا عِنْد غَيره،
لَا سِيمَا وَالشَّافِعِيّ كثيرا مَا يَعْنِي بذلك ابْن
أبي يحيى أَو الزنْجِي، وهما ضعيفان. وَكَيف يَأْمر
عُثْمَان بقتل الْكلاب وَآخر الْأَمريْنِ من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن قَتلهَا إلاَّ الْأسود
مِنْهَا؟ فَإِن صَحَّ أمره بقتلها فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك
فِي وَقت لمفسدة طرأت فِي زَمَانه. قَالَ صَاحب
(التَّمْهِيد) : ظهر بِالْمَدِينَةِ اللّعب بالحمام
والمهارشة بَين الْكلاب، فَأمر عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، بقتل الْكلاب وَذبح الْحمام. قَالَ
الْحسن: سَمِعت عُثْمَان غير مرّة يَقُول فِي خطبَته:
اقْتُلُوا الْكلاب واذبحوا الْحمام، فَظهر من هَذَا أَنه
لَا يلْزم من الْأَمر بقتلها فِي وَقت لمصْلحَة أَن لَا
يضمن قاتلها فِي وَقت آخر، كَمَا أَمر بِذبح الْحمام،
وَأما قَول الْبَيْهَقِيّ: أثر عُثْمَان مُنْقَطع، وَقد
رُوِيَ من وَجه آخر مُنْقَطع عَن يحيى الْأنْصَارِيّ عَن
عُثْمَان، فَنَقُول: مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُرْسل
إِذا رُوِيَ مُرْسلا من وَجه آخر صَار حجَّة وتأيد أَيْضا
بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بعدُ عَن عبد الله بن عَمْرو،
وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا أَيْضا. وَأما قَوْله: وَالْآخر
فِيهِ من لَيْسَ بِمَعْرُوف فَلَا يُتَابع عَلَيْهِ كَمَا
قَالَه البُخَارِيّ فَهُوَ إِسْمَاعِيل بن خشَاش الرَّاوِي
عَن عبد الله بن عمر، وَقد ذكر ابْن حبَان فِي (الثِّقَات)
: وَكَيف يَقُول: البُخَارِيّ لم يُتَابع عَلَيْهِ؟ وَقد
أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِيمَا بعد من حَدِيث عَمْرو بن
شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن عبد الله بن عَمْرو، وَذكر
ابْن عدي فِي (الْكَامِل) كَلَام البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ:
لم أجد لما قَالَه البُخَارِيّ فِيهِ أثرا فأذكره، وَأما
قَوْله: فَالْعِبْرَة لروايته لَا بِقَضَائِهِ، غير مُسلم،
لِأَن هَذَا الَّذِي قَالَه يُؤَدِّي إِلَى مُخَالفَة
الصَّحَابِيّ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا
روى عَنهُ، وَلَا نظن ذَلِك فِي حق الصَّحَابِيّ، بل
الْعبْرَة لقضائه، لِأَنَّهُ لم يقْض بِخِلَاف مَا رَوَاهُ
إلاَّ بعد أَن ثَبت عِنْده انتساخ مَا رَوَاهُ.
وَهَكَذَا أجَاب الطَّحَاوِيّ عَن الْأَحَادِيث الَّتِي
فِيهَا النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب وَأَنه سحت، فَقَالَ:
إِن هَذَا إِنَّمَا كَانَ حِين كَانَ حكم الْكلاب أَن تقتل
وَلَا يحل إمْسَاك شَيْء مِنْهَا وَلَا الِانْتِفَاع بهَا،
وَلَا شكّ أَن
(12/59)
مَا حرم الِانْتِفَاع بِهِ كَانَ ثمنه
حَرَامًا، فَلَمَّا أَبَاحَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، الِانْتِفَاع بهَا للاصطياد وَنَحْوه مَا
نهى عَن قَتلهَا نسخ مَا كَانَ من النَّهْي عَن بيعهَا
وَتَنَاول ثمنهَا. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا النّسخ؟ قلت:
وَجهه ظَاهر، وَهُوَ أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء
الْإِبَاحَة، فَلَمَّا ورد النَّهْي عَن اتِّخَاذ الْكلاب
وَورد الْأَمر بقتلها علمنَا أَن اتخاذها حرَام، وَأَن
بيعهَا حرَام أَيْضا، لِأَن مَا كَانَ انتفاعه حَرَامًا
قِيمَته حرَام كالخنزير وَنَحْوه، ثمَّ لما وَردت
الْإِبَاحَة بِالِانْتِفَاعِ بهَا للاصطياد وَنَحْوه،
وَورد النَّهْي عَن قَتلهَا، علمنَا أَن مَا كَانَ قبل
ذَلِك من الْحكمَيْنِ الْمَذْكُورين قدانتسخ بِمَا ورد
بعده، وَلَا شكّ أَن الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم نسخ
لذَلِك التَّحْرِيم وَرفع لحكمه، وَسَيَأْتِي زِيَادَة
بَيَان فِي الْمُزَارعَة وَغَيرهَا.
فَإِن قلت: مَا حكم السنور؟ قلت: روى الطَّحَاوِيّ
وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سُفْيَان عَن جَابر: قَالَ:
نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب
والسنور، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث فِي إِسْنَاده
اضْطِرَاب، ثمَّ روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي الزبير
عَن جَابر، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَن أكل الهر وثمنه، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث
غَرِيب. وروى مُسلم من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر،
قَالَ: سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور؟ فَقَالَ:
زجر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ذَلِك.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَفظه: نهى عَن الْكَلْب
والسنور، إلاَّ كلب صيد. وَقَالَ النَّسَائِيّ بعد
تَخْرِيجه: هَذَا حَدِيث مُنكر.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز بيع الهر، فَذهب قوم إِلَى
جَوَاز بَيْعه وَحل ثمنه، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَهُوَ
قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْحكم
وَحَمَّاد وَمَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة
وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ
ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن ابْن عَبَّاس أَنه رخص فِي
بَيْعه. قَالَ وكرهت طَائِفَة بَيْعه، روينَا ذَلِك عَن
أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُجاهد، وَبِه قَالَ جَابر بن زيد،
وَأجَاب الْقَائِلُونَ بِجَوَاز بَيْعه عَن الحَدِيث
بأجوبه: أَحدهَا: أَن الحَدِيث ضَعِيف وَهُوَ مَرْدُود.
وَالثَّانِي: حمل الحَدِيث على الهر إِذا توحش فَلم يقدر
على تَسْلِيمه، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) عَن
بعض أهل الْعلم. وَالثَّالِث: مَا حَكَاهُ البييهقي عَن
بَعضهم أَنه: كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين
كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ، ثمَّ لما حكم بِطَهَارَة
سؤره حل ثمنه. وَالرَّابِع: أَن النَّهْي مَحْمُول على
التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم، وَلَفظ مُسلم: زجر،
يشْعر بتَخْفِيف النَّهْي، فَلَيْسَ على التَّحْرِيم بل
على التَّنْزِيه، وَعكس ابْن حزم هَذَا، فَقَالَ: الزّجر
أَشد النَّهْي وَفِي كل مِنْهُمَا نظر لَا يخفى.
وَالْخَامِس: مَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه
يُعَارضهُ مَا روى أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس عَن
النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه أَبَاحَ ثمن الهر،
ثمَّ رده بِكَلَام طَوِيل. وَالسَّادِس: مَا حَكَاهُ
أَيْضا ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه: لما صَحَّ الْإِجْمَاع
على وجوب الهر وَالْكَلب الْمُبَاح اتِّخَاذه فِي
الْمِيرَاث وَالْوَصِيَّة وَالْملك جَازَ بيعيهما، ثمَّ
رده أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْجَوَاب الْمُعْتَمد
أَنه مَحْمُول على مَا لَا نفع فِيهِ، أَو: على أَنه نهي
تَنْزِيه حَتَّى يعْتَاد النَّاس هِبته وإعارته.
وَالْحكم الثَّانِي: مهر الْبَغي: وَهُوَ مَا يعْطى على
النِّكَاح الْمحرم فَإِذا كَانَ محرما وَلم يستبح بِعقد
صَارَت الْمُعَاوضَة عَلَيْهِ لَا تحل، لِأَنَّهُ ثمن عَن
محرم، وَقد حرم الله الزِّنَا، وَهَذَا مجمع على تَحْرِيمه
لَا خلاف فِيهِ بن الْمُسلمين.
وَالْحكم الثَّالِث: حلوان الكاهن: وَهُوَ حرَام لِأَنَّهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن إتْيَان الْكُهَّان، مَعَ
أَن مَا يأْتونَ بِهِ بَاطِل وحله كذب، قَالَ تَعَالَى:
{تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السّمع وَأَكْثَرهم كاذبون}
(الشُّعَرَاء: 222) . وَأخذ الْعِوَض على مثل هَذَا، وَلَو
لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ من أكل المَال بِالْبَاطِلِ،
وَلِأَن الكاهن يَقُول مَا لَا ينْتَفع بِهِ، ويعان بِمَا
يعطاه على مَا لَا يحل.
8322 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدثنَا
شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَوْنُ بنُ أبِي جُحَيْفَةَ
قَالَ رأيتُ أبي اشْتَرَى حَجَّاما فأمَرَ بِمَحَاجِمِهِ
فَكُسِّرَتْ فسَألْتُهُ عنْ ذَلِكَ فقالَ إنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ ثَمَنِ الدَّمِ وثَمَنِ
الْكَلْبِ وكسْبِ الأمَةِ ولَعَنَ الوَاشِمَةَ
والْمُسْتَوْشِمةَ وآكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ ولَعَنَ
المُصَوِّرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثمن الْكَلْب،
والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب مُوكل الرِّبَا، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة، وَهنا: عَن
حجاج بن منهال السّلمِيّ مَوْلَاهُم الْأنمَاطِي
الْبَصْرِيّ عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، نَحوه، غير أَن
فِيهِ: عَن ثمن الْكَلْب وَثمن الدَّم، وَفِيه أَيْضا:
اشْترى عبدا حجاما، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
بِسم الله الرَّحِيم
(12/60)
|