عمدة القاري شرح صحيح البخاري

91 - (بابُ مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ العَبْدِ أنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من كلم موَالِي العَبْد أَن يخففوا، أَي: بِأَن يخففوا عَنهُ من خراجه، أَي: من ضريبته الَّتِي وَضعهَا مَوْلَاهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا التكليم بطرِيق التَّفْضِيل لَا على وَجه الْإِلْزَام، إلاَّ إِذا كَانَ العَبْد لَا يُطيق ذَلِك، وَإِنَّمَا جمع: الْمولى، إِمَّا بِاعْتِبَار كَون العَبْد مُشْتَركا بَين جمَاعَة، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَنه مجَاز، كَمَا ذكرنَا عَن قريب فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب السَّابِق.

(12/102)


1822 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ دَعَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غلاَما حَجَّاما فحَجَمَهُ وأمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أوْ صَاعَيْنِ أوْ مُدٍّ أوْ مُدَّيْنِ وكَلَّمع فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وكلم فِيهِ فَخفف من ضريبته) ، والْحَدِيث عَن حميد عَن أنس مر عَن قريب، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه عَن حميد: سَمِعت أنسا.
قَوْله: (دَعَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غُلَاما) قَالَ بَعضهم: هُوَ أَبُو طيبَة كَمَا تقدم قبل بَاب. قلت: من أَيْن علم أَنه هُوَ؟ فَلم لَا يجوز أَن يكون غَيره؟ وَمن ادّعى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكن لَهُ إلاَّ حجام وَاحِد مُتَعَيّن فَعَلَيهِ الْبَيَان. وَقد روى ابْن مَنْدَه فِي (معرفَة الصَّحَابَة) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ قَالَ: كَانَ جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم على كَاهِله من أجل الشَّاة الَّتِي أكلهَا، حجمه أَبُو هِنْد مولى بني بياضة بالقرن والشفرة، وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: أَن أَبَا هِنْد حجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اليافوخ ... الحَدِيث. وَقَالَ ابْن مَنْدَه: قيل: إسم أبي هِنْد سِنَان، وَقيل: سَالم. قَوْله: (وكلم فِيهِ) ، مَفْعُوله مَحْذُوف، أَي: كلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغُلَام الْمَذْكُور مَوْلَاهُ بِأَن يُخَفف عَنهُ من ضريبته، وَكلمَة: فِي، للتَّعْلِيل، أَي: كلم لأَجله كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها) أَي: لأجل هرة.
وَفِيه: اسْتِعْمَال العَبْد بِغَيْر إِذن سَيّده إِذا كَانَ معدا لعمل ومعروفا بِهِ. وَفِيه: الحكم بِالدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ اسْتدلَّ على أَنه مَأْذُون لَهُ فِي الْعَمَل لانتصابه لَهُ وَعرض نَفسه عَلَيْهِ، وَيجوز للحجام أَن يَأْكُل من كَسبه، وَكَذَلِكَ السَّيِّد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

02 - (بابُ كَسْبِ الْبَغِيِّ والإماءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم كسب الْبَغي وَالْإِمَاء الْبَغي الْفَاجِرَة، يُقَال: بَغت الْمَرْأَة تبغي، بِالْكَسْرِ: بغيا إِذا زنت، فَهِيَ بغي، وَيجمع على: بَغَايَا. وَالْإِمَاء جمع: أمة. وَالْبَغي أَعم من أَن تكون أمة أَو حرَّة، وَالْأمة أَعم من أَن تكون بغية أَو عفيفة، وَلم يُصَرح بالحكم تَنْبِيها على أَن الْمَمْنُوع من كسب الْبَغي مُطلق، والممنوع من كسب الْأمة مُقَيّد بِالْفُجُورِ، لِأَن كسبها بالصنائع الْجَائِزَة غير مَمْنُوع.
وكَرِهَ إبْرَاهِيمُ أجْرَ النَّائِحَةِ والمُغَنِّيَةِ
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي هَاشم عَنهُ: أَنه كره أجر النائحة والمغنية والكاهن، وَكَرِهَهُ أَيْضا الشّعبِيّ وَالْحسن، وَقَالَ عبد الله بن هُبَيْرَة: وأكلهم السُّحت، قَالَ: مهر الْبَغي، فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة فِي ذكر أثر إِبْرَاهِيم هَذَا فِي هَذَا الْبَاب؟ قلت: قَالَ بَعضهم: كَانَ البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن النَّهْي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَحْمُول على مَا كَانَت الحرفة فِيهِ مَمْنُوعَة، أَو تجر إِلَى أَمر مَمْنُوع. انْتهى. قلت: هَذَا لَا يصلح أَن يكون جَوَابا عَن السُّؤَال عَن الْمُنَاسبَة فِي ذكر الْأَثر الْمَذْكُور، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِن بَين كسب الْبَغي وَأجر النائحة والمغنية مُنَاسبَة من حَيْثُ إِن كلاَّ مِنْهُمَا مَعْصِيّة كَبِيرَة. وَأَن إِجَارَة كل مِنْهُمَا بَاطِلَة، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ.
وقَوْلُ الله تعالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغَاءِ إِن يُرِدْنَ تحَصُّنا لِتَبْتَغُوا عَرَض الحَياةِ الدُّنْيَا ومَنْ يُكْرِهْهُنَّ فإنَّ الله منْ بَعْدِ إكْرَاهِهنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النُّور: 33) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ تَقْدِيره: وَبَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا} الْآيَة، ذكر هَذِه الْآيَة فِي معرض الدَّلِيل لحُرْمَة كسب الْبَغي لِأَنَّهُ نهي عَن إِكْرَاه الفتيات أَي: الْإِمَاء على الْبغاء، أَي: الزِّنَا، وَالنَّهْي يَقْتَضِي تَحْرِيم ذَلِك، وَتَحْرِيم هَذَا يَسْتَدْعِي حُرْمَة زناهن وَحُرْمَة زناهن تَسْتَلْزِم حُرْمَة وضع الضرائب عَلَيْهِنَّ، وَهِي تَقْتَضِي حُرْمَة الْأجر الْحَاصِل من ذَلِك.
ثمَّ سَبَب نزُول

(12/103)


هَذِه الْآيَة، فِيمَا ذكره مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي تَفْسِيره نزلت هَذِه الْآيَة فِي سِتّ جوَار لعبد الله بن أبي بن سلول كَانَ يكرههن على الزِّنَا، وَيَأْخُذ أُجُورهنَّ، وَهِي: معَاذَة ومسيكة وَأُمَيْمَة وَعمرَة وأروى وَقتيلَة، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُنَّ يَوْمًا بِدِينَار، وَجَاءَت أُخْرَى بِبرد، فَقَالَ لَهما: إرجعا فازنيا، فَقَالَتَا: وَالله لَا نَفْعل، قد جَاءَ الله تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَحرم الزِّنَا، فَأَتَتَا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشكتا إِلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ذكره الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: فِي قَوْله: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} (النُّور: 33) . قَالَ: إماءكم على الزِّنَا، وَأَن عبد الله بن أبي أَمر أمة لَهُ بِالزِّنَا فزنت فَجَاءَت بِبرد، فَقَالَ: إرجعي فازني على آخر. قَالَت: وَالله مَا أَنا براجعة، فَنزلت. وَهَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق أبي سُفْيَان عَن جَابر مَرْفُوعا، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق أبي الزبير: سمع جَابِرا قَالَ: جَاءَت مُسَيْكَة أمة لبَعض الْأَنْصَار فَقَالَت: إِن سَيِّدي يكرهني على الْبغاء. . فَنزلت. قَوْله: (فَتَيَاتكُم) ، جمع: فتاة، وَهِي الشَّابَّة، والفتى الشَّاب، وَقد فتي، بِالْكَسْرِ، يُفْتِي فَهُوَ فتي السن بَين الفتا والفتي السخي الْكَرِيم، وَقد تفتَّى وتفاتى، وَالْجمع: فتيَان وفتية، وفتو، على فعول، وفتي مثل عَصا، والفتيان: اللَّيْل وَالنَّهَار، واستفتيت الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة فأفتاني، وَالِاسْم الْفتيا وَالْفَتْوَى. قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} (النُّور: 33) . أَي: تعففا. وَقَالَ بَعضهم، قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} (النُّور: 33) . لَا مَفْهُوم لَهُ، بل خرج مخرج الْغَالِب. قلت: الْمَفْهُوم لَا يَصح نَفْيه لِأَن كلمة: إِن، تَقْتَضِي ذَلِك، وَلَكِن الَّذِي يُقَال هُنَا: أَن: إِن، لَيست للشّرط، بل بِمَعْنى: إِذْ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} (الْبَقَرَة: 872) . وَقَوله تَعَالَى: {وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين} (آل عمرَان: 931) . وَقَوله تَعَالَى: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله} (الْفَتْح: 72) . وَمعنى: إِن، فِي هَذِه كلهَا بِمَعْنى: إِذْ، وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْط لِأَنَّهُ لَا يجوز إكراههن على الزِّنَا إِن لم يردن تَحَصُّنًا، ثمَّ قَالَ: وَكلمَة: إِن، وإيثارها على: إِذا، إيذان بِأَن الباغيات كن يفعلن ذَلِك برغبة وطواعية، وَقيل: إِن أردن تَحَصُّنًا. مُتَّصِل بقوله: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} (النُّور: 23) . أَي: من أَرَادَ أَن يلْزم الحصانة فليتزوج. وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: {فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} (النُّور: 33) . لمن أَرَادَ تَحَصُّنًا. قَوْله: (لتبتغوا) أَي: لتطلبوا بإكراههن على الزِّنَا أُجُورهنَّ على الزِّنَا. قَوْله: (غَفُور رَحِيم) أَي: لَهُنَّ، وَقيل: لَهُم، لمن تَابَ عَن ذَلِك بعد نزُول الْآيَة، وَقيل: لَهُنَّ وَلَهُم إِن تَابُوا وَأَصْلحُوا.

2822 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ ثَمَنِ الكَلْبِ ومَهْرِ البَغِيِّ وحُلْوانِ الْكَاهِنِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمهر الْبَغي) . والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَاخِر الْبيُوع فِي: بَاب ثمن الْكَلْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

3822 - حدَّثنا مُسْلِمُ بن إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ جُحَادَةَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ نَهى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كَسْبِ الإماءِ. (الحَدِيث 3822 طرفه فِي: 8435) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن جحادة، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة: الْأَيَامَى، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة: واسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ. والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن الْجَعْد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من كسب الْإِمَاء الْمنْهِي: هُوَ الْكسْب الَّذِي تحصله الْأمة بِالْفُجُورِ، وَأما الَّذِي تحصله بالصناعة الْمُبَاحَة فَغير مَنْهِيّ عَنهُ.

12 - (بابُ عَسْبِ الفَحْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن عسب الْفَحْل، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَة عسب الْفَحْل، وَهُوَ بِفَتْح الْعين وَسُكُون

(12/104)


السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَقد اخْتلف أهل اللُّغَة فِيهِ: هَل هُوَ الضراب أَو الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ عَلَيْهِ أَو مَاء الْفَحْل؟ فَحكى أَبُو عبيد عَن الْأمَوِي: أَنه الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ على ضراب الْفَحْل، وَبِه صدر الْجَوْهَرِي كَلَامه فِي (الصِّحَاح) ، ثمَّ قَالَ: وعسب الْفَحْل أَيْضا ضرابه. وَيُقَال: مَاؤُهُ، وَصدر صَاحب (الْمُحكم) كَلَامه بِأَن العسب: ضراب الْفَحْل، ثمَّ قَالَ: عسب الرجل يعسبه عسبا أعطَاهُ، وَقَالَ أَبُو عبيد: العسب فِي الحَدِيث الْكِرَاء، وَالْأَصْل فِيهِ الضراب. قَالَ: وَالْعرب تسمي الشَّيْء باسم غَيره إِذا كَانَ مَعَه، أَو من سَببه، كَمَا قَالُوا للمزادة: راوية، والراوية: الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ، قَالَ شَيخنَا: وَيدل على مَا قَالَه أَبُو عبيد رِوَايَة الشَّافِعِي: (نهى عَن ثمن بيع عسب الْفَحْل) ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْمَشْهُور فِي الفقهيات أَن العسب الضراب، وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ النُّطْفَة. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) عسب الرجل عسبا أكرى مِنْهُ فحلاً ينزيه. وَقَالَ أَبُو عَليّ: وَلَا يتَصَرَّف مِنْهُ فعل، يُقَال: قطع الله عسبه أَي: مَاءَهُ ونسله، وَنقل ابْن التِّين عَن أَصْحَاب مَالك: أَن معنى عسب الْفَحْل أَن يتَعَدَّى عَلَيْهِ بِغَيْر أجر. وَقَالُوا: لَيْسَ بمعقول أَن يُسمى الْكِرَاء عسبا.

4822 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ وإسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلِيِّ بن الحَكَمِ عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ عَسْبِ الفَحْلِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عَليّ بن الحكم، بالفتحتين: الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد النُّون الأولى. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن مُسَددًا روى عَن شيخين. وَفِيه: أَن إِسْمَاعِيل بن علية ذكر هُنَا بنسبته إِلَى أَبِيه وشهرته باسم أمه عَلَيْهِ أَكثر. وَفِيه: أَن الروَاة كلهم بصريون مَا خلا نَافِعًا. وَفِيه: أَن عَليّ بن الحكم ثِقَة عِنْد الْجَمِيع إلاَّ أَن أَبَا الْفَتْح الْأَزْدِيّ لينه. قَالَ بَعضهم: لينه بِلَا مُسْتَند. قلت: لَو لم يظْهر عِنْده شَيْء لما لينه، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل وَحده بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع وَأبي عمار عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن علية بِهِ، وَعَن حميد بن مسْعدَة عَن عبد الْوَارِث بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن حميد بن مسْعدَة عَن عبد الْوَارِث، وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة. أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الْأَعْمَش عَن أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ثمن الْكَلْب وعسب الْفَحْل، وَفِي رِوَايَة للنسائي: عسب التيس وَعَن أنس أخرجه ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب، عَن ابْن شهَاب، عَن أنس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن أجر عسب الْفَحْل. قَالَ أَبُو حَاتِم: إِنَّمَا يروي من كَلَام أنس، وَيزِيد لم يسمع من الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا كتب إِلَيْهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا. وَعَن أبي سعيد أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة هِشَام عَن ابْن أبي نعيم عَنهُ، قَالَ: نهى عَن عسب الْفَحْل، وَعَن جَابر أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يَقُول: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع ضراب الْجمل. وَعَن عَليّ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه عبد الله بن أَحْمد فِي (زوائده) على الْمسند من حَدِيث عَاصِم بن ضَمرَة عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطُّيُور، وَعَن ثمن الْميتَة، وَعَن لحم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَعَن مهر الْبَغي، وَعَن عسب الْفَحْل، وَعَن المياثر الأرجوان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ من حرم بيع عسب الْفَحْل وإجارته، وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة: مِنْهُم: عَليّ وَأَبُو هُرَيْرَة، وَهُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء، كَمَا حكى عَنْهُم الْخطابِيّ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَجزم أَصْحَاب الشَّافِعِي بِتَحْرِيم البيع لِأَن مَاء الْفَحْل غير مُتَقَوّم وَلَا مَعْلُوم وَلَا مَقْدُور على تَسْلِيمه. وحكوا فِي إِجَارَته وَجْهَيْن: أصَحهمَا:

(12/105)


الْمَنْع، وَذهب ابْن أبي هُرَيْرَة إِلَى جَوَاز الْإِجَارَة عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول مَالك، وَإِنَّمَا يجوز عِنْدهم إِذا اسْتَأْجرهُ على نزوات مَعْلُومَة وعَلى مُدَّة مَعْلُومَة، فَإِن آجره على الطّرق حَتَّى يحمل لم يَصح، وَرخّص فِيهِ الْحسن وَابْن سِيرِين، وَقَالَ عَطاء: لَا بَأْس بِهِ إِذا لم يجد مَا يطرقه.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَكرِهت طَائِفَة أَن يسْتَأْجر الْفَحْل لينزيه مُدَّة مَعْلُومَة بِأَجْر مَعْلُوم، وَذَلِكَ عَن أبي سعيد والبراء، وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى: إِنَّه لَا يجوز، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس أَن رجلا من كلاب سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن عسب الْفَحْل فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّا نطرق الْفَحْل فنركم، فَرخص فِي الْكَرَامَة، ثمَّ قَالَ: حسن غَرِيب.
وَفِيه: جَوَاز قبُول الْكَرَامَة على عسب الْفَحْل وَإِن حرم بَيْعه وإجارته، وَبِه صرح أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: وَيجوز أَن يُعْطي صَاحب الْأُنْثَى صَاحب الْفَحْل شَيْئا على سَبِيل الْهَدِيَّة، خلافًا لِأَحْمَد، انْتهى. وَمَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد قد حُكيَ عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، فروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَسْرُوق، قَالَ: سَأَلت عبد الله عَن السُّحت؟ قَالَ: الرجل يطْلب الْحَاجة فيهدى إِلَيْهِ فيقبلها، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَهُ أَنه تقبل رجلا أَي: صمنه، فَأعْطَاهُ دَرَاهِم وَحمله وكساه، فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو لم تقبله أَكَانَ يعطيك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَا يصلح لَك، وروى أَيْضا عَن أبي مَسْعُود، عقبَة بن عَمْرو، وَأَنه أَتَى إِلَى أَهله، فَإِذا هَدِيَّة، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: الَّذِي شفعت لَهُ، فَقَالَ: أخرجوها أتعجل أجر شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه كلم عليا فِي حَاجَة دهقان، فَبعث إِلَى عبد الله بن جَعْفَر بِأَرْبَعِينَ ألفا، فَقَالَ: ردوهَا عَلَيْهِ، فَإنَّا أهل بَيت لَا نبيع الْمَعْرُوف. وَقد رُوِيَ نَحْو هَذَا فِي حَدِيث مَرْفُوع، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من رِوَايَة خَالِد بن أبي عمرَان عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من شفع لِأَخِيهِ شَفَاعَة فأهدى لَهُ هَدِيَّة عَلَيْهَا، فقد أَتَى بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الرِّبَا، وَهَذَا معنى مَا ورد: كل قرض جر مَنْفَعَة فَهُوَ رَبًّا، وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : من حَدِيث أبي عَامر الْهَوْزَنِي عَن أبي كَبْشَة الْأَنمَارِي: أَنه أَتَاهُ فَقَالَ: أطرقني فرسك، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: من أطرق فرسا فعقب لَهُ كَانَ لَهُ كَأَجر سبعين فرسا حمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، وَإِن لم يعقب كَانَ لَهُ كَأَجر فرس حمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله. قَوْله: (أطرقني) ، أَي: أعرني فرسك للإنزاء. ثمَّ الْحِكْمَة فِي كَرَاهَة إِجَارَته عِنْد من يمْنَعهَا أَنَّهَا لَيست من مَكَارِم الْأَخْلَاق. وَمن جوزها من الشَّافِعِيَّة والحنابلة بِمدَّة مَعْلُومَة قاسها على جَوَاز الِاسْتِئْجَار لتلقيح النّخل، وَهُوَ قِيَاس بالفارق، لِأَن الْمَقْصُود هُنَا مَاء الْفَحْل وَصَاحبه عَاجز عَن تَسْلِيمه، بِخِلَاف تلقيح النّخل.

22 - (بابٌ إذَا اسْتَأجَرَ أحَدٌ أرْضا فماتَ أحَدُهُمَا)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اسْتَأْجر أَرضًا فَمَاتَ أَحدهمَا، أَي: أحد المتواجرين، وَلَيْسَ هُوَ بإضمار قبل الذّكر لِأَن لفظ: اسْتَأْجر، يدل على الْمُؤَجّر، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يَنْفَسِخ أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يجْزم بِالْجَوَابِ للِاخْتِلَاف فِيهِ.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ لَيْسَ لأِهْلِهِ أنْ يُخْرِجُوهُ إلَى تَمامِ الأجَلِ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: لَيْسَ لأَهله، أَي: لأهل الْمَيِّت، أَن يخرجوه أَي الْمُسْتَأْجر إِلَى تَمام الْأَجَل، أَي: الْمدَّة الَّتِي وَقع العقد عَلَيْهَا، قَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ لأَهله: إِي: لوَرثَته أَن يخرجوه أَي: عقد الِاسْتِئْجَار أَي: يتصرفوا فِي مَنَافِع الْمُسْتَأْجر. قلت: قَول الْكرْمَانِي: أَي عقد الِاسْتِئْجَار، بَيَان لعود الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: أَن يخرجوه، إِلَى عقد الِاسْتِئْجَار، وَهَذَا لَا معنى لَهُ، بل الضَّمِير يعود إِلَى الْمُسْتَأْجر كَمَا ذكرنَا، وَلَكِن لم يمض ذكر الْمُسْتَأْجر، فَكيف يعود إِلَيْهِ؟ وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي: أَهله: لَيْسَ مرجعه مَذْكُورا ففيهما إِضْمَار قبل الذّكر، وَلَا يجوز أَن يُقَال: مرجع الضميرين يفهم من لفظ التَّرْجَمَة، لِأَن التَّرْجَمَة وضعت بعد قَول ابْن سِيرِين هَذَا بِمدَّة طَوِيلَة، وَلَيْسَ كُله كلَاما مَوْضُوعا على نسق وَاحِد حَتَّى يَصح هَذَا، وَلَكِن الْوَجْه فِي هَذَا أَن يُقَال: إِن مرجع الضميرين مَحْذُوف، والقرينة تدل عَلَيْهِ، فَهُوَ فِي حكم الملفوظ.
وأصل الْكَلَام فِي أصل الْوَضع هَكَذَا: سُئِلَ مُحَمَّد بن سِيرِين فِي رجل اسْتَأْجر من رجل أَرضًا، فَمَاتَ أَحدهمَا، هَل لوَرَثَة الْمَيِّت أَن يخرجُوا يَد الْمُسْتَأْجر من تِلْكَ الأَرْض أم لَا؟

(12/106)


فَأجَاب: بقوله: لَيْسَ لأَهله، أَي: لأهل الْمَيِّت أَن يخرجُوا الْمُسْتَأْجر إِلَى تَمام الْأَجَل، أَي: أجل الْإِجَارَة، أَي: الْمدَّة الَّتِي وَقع عَلَيْهَا العقد، وَقَالَ بَعضهم: الْجُمْهُور على عدم الْفَسْخ، وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَاللَّيْث إِلَى الْفَسْخ، وَاحْتَجُّوا بِأَن الْوَارِث ملك الرَّقَبَة وَالْمَنْفَعَة تبع لَهَا فارتفعت يَد الْمُسْتَأْجر عَنْهَا بِمَوْت الَّذِي آجره، وَتعقب بِأَن الْمَنْفَعَة قد تنفك عَن الرَّقَبَة، كَمَا يجوز بيع مسلوب الْمَنْفَعَة، فَحِينَئِذٍ ملك الْمَنْفَعَة باقٍ للْمُسْتَأْجر بِمُقْتَضى العقد، وَقد اتَّفقُوا على أَن الْإِجَارَة لَا تَنْفَسِخ بِمَوْت نَاظر الْوَقْف، فَكَذَلِك هُنَا انْتهى. قلت: الَّذِي يتْركهُ الْمَيِّت ينْتَقل بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِث، ثمَّ يَتَرَتَّب الحكم على هَذَا عِنْد موت الْمُؤَجّر أَو موت الْمُسْتَأْجر، أما إِذا مَاتَ الْمُؤَجّر فقد انْتَقَلت رَقَبَة الدَّار إِلَى الْوَارِث والمستحق من الْمَنَافِع الَّتِي حدثت على ملكه. قد فَاتَ بِمَوْتِهِ فبطلت الْإِجَارَة لفَوَات الْمَعْقُود عَلَيْهِ، لِأَن بعد مَوته تحدث الْمَنْفَعَة على ملك الْوَارِث، فَإِذا كَانَت الْمَنْفَعَة على ملك الْوَارِث كَيفَ يَقُول هَذَا الْقَائِل: فَملك الْمَنْفَعَة بَاقٍ للْمُسْتَأْجر بِمُقْتَضى العقد؟ وَمُقْتَضى العقد هُوَ قيام الْإِجَارَة، وَقيام الْإِجَارَة بالمتؤاجرين؟ فَإِذا مَاتَ أَحدهمَا زَالَ ذَلِك الِاقْتِضَاء، وَأما إِذا مَاتَ الْمُسْتَأْجر فَلَو بَقِي العقد لبقي على أَن يخلفه الْوَارِث، وَذَا لَا يتَصَوَّر، لِأَن الْمَنْفَعَة الْمَوْجُودَة فِي حَيَاته تلاشت، فَكيف يُورث الْمَعْدُوم؟ وَالَّتِي تحدث لَيست بمملوكة لَهُ ليخلفه الْوَارِث فِيهَا، إِذْ الْملك لَا يسْبق الْوُجُود، فَإِذا ثَبت انْتِفَاء الْإِرْث تعين بطلَان العقد. وَقَوله: الْمَنْفَعَة قد تنفك عَن الرَّقَبَة، كَمَا يجوز بيع مسلوب الْمَنْفَعَة كَلَام واهٍ جدا لِأَن الْمَنْفَعَة عرض، وَالْعرض كَيفَ يقوم بِذَاتِهِ، وتنظيره بِبيع مسلوب الْمَنْفَعَة غير صَحِيح، لِأَن مسلوب الْمَنْفَعَة لم يكن فِيهَا مَنْفَعَة أصلا وَقت البيع حَتَّى يُقَال: كَانَت فِيهِ مَنْفَعَة، ثمَّ انفكت عَنهُ، وَفَاتَ بذاتها، وَفِي الْإِجَارَة الْمَنْفَعَة مَوْجُودَة وَقت العقد لِأَنَّهَا تحدث سَاعَة فساعة، وَلَكِن قِيَامهَا بِالْعينِ وَحين انْتَقَلت الْعين إِلَى ملك الْوَارِث انْتَقَلت الْمَنْفَعَة مَعهَا لقيامها مَعهَا، وتنظيرها بِالْمَسْأَلَة الاتفاقية أَيْضا غير صَحِيح. لِأَن النَّاظر لَا يرجع إِلَيْهِ العقد والعاقد من وَقع الْمُسْتَحق عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْمُوكل إِذا مَاتَ يَنْفَسِخ العقد، مَعَ أَنه غير عَاقد؟ قلت: نَحن نقُول: كلما مَاتَ الْعَاقِد لنَفسِهِ يَنْفَسِخ، وَلم نلتزم بِأَن كل مَا انْفَسَخ يكون بِمَوْت الْعَاقِد، لِأَن الْعَكْس غير لَازم فِي مثله.
وَقَالَ الحَكَمُ والحَسَنُ وإيَاسُ بنُ مُعَاوِيَةَ تُمْضِي الإجَارَةُ إلَى أجَلِهَا
الحكم، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن عتيبة أحد الْفُقَهَاء الْكِبَار بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ مِمَّن روى عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَإيَاس بن مُعَاوِيَة بن قُرَّة الْمُزنِيّ. قَوْله: (تُمضي الْإِجَارَة) على صِيغَة بِنَاء الْفَاعِل أَو على صِيغَة بِنَاء الْمَفْعُول. قَوْله: (إِلَى أجلهَا) أَي: إِلَى مُدَّة الْإِجَارَة، وَالْحَاصِل أَن الْإِجَارَة لَا تَنْفَسِخ عِنْدهم بِمَوْت أحد المتؤاجرين، وَوصل ابْن أبي شيبَة هَذَا الْمُعَلق من طَرِيق حميد عَن الْحسن وَإيَاس بن مُعَاوِيَة نَحوه، وَأَيْضًا من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين نَحوه.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ أعْطَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ بالشَّطْرِ فكانَ ذَلِك على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبِي بَكْرٍ وصَدْرا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ ولَمْ يُذْكَرْ أنَّ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ جَدَّدا الإجارةَ بَعْدَ مَا قُبِضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أعْطى خَيْبَر بالشطر اسْتمرّ الْأَمر عَلَيْهِ فِي حَيَاته وَبعده أَيْضا، فَدلَّ على أَن عقد الْإِجَارَة لَا يَنْفَسِخ بِمَوْت أحد المتؤاجرين، وَهَذَا تَعْلِيق أدرج فِيهِ البُخَارِيّ كَلَامه، وَالتَّعْلِيق أخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذَا حجَّة من يَدعِي عدم الْفَسْخ بِالْمَوْتِ، وَلَكِن هَذَا لَا يفيدهم فِي الِاسْتِدْلَال، وَلِهَذَا قَالَ ابْن التِّين: قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ الرَّاوِي لَيْسَ مِمَّا بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ، لِأَن خَيْبَر مُسَاقَاة وَالْمُسَاقَاة سنة على حيالها. انْتهى. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا من جِهَة أبي حنيفَة: إِن قَضِيَّة خَيْبَر لم تكن بطرِيق الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة بل كَانَت بطرِيق الْخراج على وَجه الْمَنّ عَلَيْهِم وَالصُّلْح، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملكهَا غنيمَة، فَلَو كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ كلهَا جَازَ وَتركهَا فِي أَيْديهم بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا فضلا، وَكَانَ ذَلِك خراج مقاسمة وَهُوَ جَائِز كخراج التوظيف، وَلَا

(12/107)


نزاع فِيهِ، وَإِنَّمَا النزاع أَن يوظف فِي جَوَاز الْمُزَارعَة والمعاملة، وخراج الْمُقَاسَمَة أَن يوظف الإِمَام فِي الْخَارِج شَيْئا مُقَدرا عشرا أَو ثلثا أَو ربعا، وَيتْرك الْأَرَاضِي على ملكهم منّا عَلَيْهِم، فَإِن لم تخرج الأَرْض شَيْئا فَلَا شَيْء عَلَيْهِم، وَلم ينْقل عَن أحد من الروَاة أَنه تصرف فِي رقابهم أَو رِقَاب أَوْلَادهم، وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي (شَرحه لمختصر الطَّحَاوِيّ) : وَمِمَّا يدل على أَن مَا شَرط من نصف الثَّمر أَو الزَّرْع كَانَ على وَجه الْخراج أَنه لم يروَ فِي شَيْء من الْأَخْبَار أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ مِنْهُم الْجِزْيَة إِلَى أَن مَاتَ، وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى أَن أجلاهم، وَلَو لم يكن ذَلِك لأخذ مِنْهُم الْجِزْيَة حِين نزلت آيَة الْجِزْيَة، وَسَنذكر بَقِيَّة الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِي بَاب الْمُزَارعَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

5822 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أعْطَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ أنْ يَعْمَلوها ويَزْرَعُوهَا ولَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وأنَّ ابنَ عُمَرَ حدَّثَهُ أنَّ المَزَارِعَ كانَتْ تُكْرَى على شَيْءٍ سَمَّاهُ نَافِعٌ لَا أحْفَظُهُ. .

6822 - وأنَّ رافِعَ بنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ وَقَالَ عُبَيْدُ الله عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ حَتَّى أجْلاَهُمْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. .

هَذَا أَيْضا لَيْسَ بداخل فِيمَا ترْجم بِهِ على مَا ذكرنَا الْآن أَن قَضِيَّة خَيْبَر لم تكن بطرِيق الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة إِلَى آخِره. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هِيَ إِجَارَة وَسكت على ذَلِك، وسكوته كَانَ خيرا لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ يُعلل كَلَامه بِشَيْء لَا يقبله أحد. وَقَالَ ابْن التِّين: وَمَا ذكر من حَدِيث رَافع لَيْسَ مِمَّا بوب عَلَيْهِ أَيْضا، لِأَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نكرِي الأَرْض بِالثُّلثِ وَالرّبع وعَلى الماديانات. وإقبال الجداول فنهينا عَن ذَلِك. وَجُوَيْرِية مصغر جَارِيَة ضد الواقفة: ابْن أَسمَاء بِوَزْن حَمْرَاء، وَهُوَ من الْأَعْلَام الْمُشْتَركَة، وَقد مر غير مرّة. قَوْله: (وَأَن ابْن عمر) عطف على: عَن عبد الله، أَي: عَن نَافِع أَن ابْن عمر حَدثهُ أَيْضا أَنه كَانَت الْمزَارِع تكرى على شَيْء من حاصلها. قَوْله: (سَمَّاهُ نَافِع) أَي: قَالَ جوَيْرِية: سمى نَافِع مِقْدَار ذَلِك الشَّيْء، لَكِن أَنا لَا أحفظ مِقْدَاره. قَوْله: (وَأَن رَافع بن خديج حدث) إِنَّمَا قَالَ: وَأَن ابْن عمر حَدثهُ، بالضمير، وَقَالَ هَذَا: حدث، بِلَا ضمير، لِأَن ابْن عمر حدث نَافِعًا بِخِلَاف نَافِع، فَإِنَّهُ لم يحدث لَهُ خُصُوصا وَيحْتَمل أَن يكون الضَّمِير محذوفا، وَسَيَجِيءُ بَيَان حكم هَذَا الْبَاب فِي الْمُزَارعَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَقَالَ عبيد الله) إِلَى آخِره، تَعْلِيق وَصله مُسلم فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل وَزُهَيْر بن حَرْب، وَاللَّفْظ لزهير، قَالَ: حَدثنَا يحيى وَهُوَ الْقطَّان عَن عبيد الله، قَالَ: أَخْبرنِي نَافِع عَن ابْن عمر: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَامل أهل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع) وَرَوَاهُ أَيْضا من وُجُوه أُخْرَى، وَفِي آخِره: قَالَ لَهُم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نقركم بهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا) . فَقَروا بهَا حَتَّى أجلاهم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى تيماء وأريحاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ عبيد الله، هُوَ كَلَام مُوسَى وَمن تَتِمَّة حَدِيثه، وَمِنْه تحصل التَّرْجَمَة. قلت: لَيْسَ هُوَ من كَلَام مُوسَى بل هُوَ كَلَام مُسْتَأْنف مُعَلّق، وَلَا هُوَ من تَتِمَّة حَدِيثه وَلَا مِنْهُ تحصل التَّرْجَمَة، لِأَنَّهَا فِي الْإِجَارَة وَهَذَا لَيْسَ بإجاره، وَإِنَّمَا هُوَ خَارج، على مَا ذكرنَا عَن قريب. وَعبيد الله، بتصغير العَبْد: ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.