عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بِسم الله الرحْمانِ الرَّحِيم
83 - (كتابُ الحَوالاتِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الحوالات، وَهِي جمع:
حِوَالَة، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، مُشْتَقَّة من
التَّحَوُّل والانتقال، قَالَ ثَعْلَب: تَقول: أحلّت
فلَانا على فلَان بِالدّينِ إِحَالَة، قَالَ ابْن طريف:
مَعْنَاهُ أتبعته على غَرِيم ليأخذه. وَقَالَ ابْن
درسْتوَيْه: يَعْنِي: أَزَال عَن نَفسه الدّين إِلَى
غَيره، وَحَوله تحويلاً، وَفِي (نَوَادِر) اللحياني: أحيله
إِحَالَة وإحالاً، وَهِي عِنْد الْفُقَهَاء: نقل دين من
ذمَّة إِلَى ذمَّة. قَوْله:
(12/108)
(كتاب الْحِوَالَة) بعد الْبَسْمَلَة وَقع
كَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين لم يَقع إلاَّ لفظ: بَاب
الْحِوَالَة، لَا غير.
1 - (بابٌ فِي الحَوالَةِ وهَلْ يَرْجِعُ فِي
الحَوَالَةِ؟)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحِوَالَة، وَهل يرجع
الْمُحِيل فِي الْحِوَالَة أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يجْزم
بالحكم لِأَن فِيهِ خلافًا، وَهُوَ أَن الْحِوَالَة عقد
لَازم عِنْد الْبَعْض، وَجَائِز عِنْد آخَرين، فَمن قَالَ:
عقد لَازم فَلَا يرجع فِيهَا، وَمن قَالَ عقد جَائِز فَلهُ
الرُّجُوع.
وَقَالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ إذَا كانَ يَوْمَ أحَالَ
عَلَيْهِ مَليّا جازَ
أَي: إِذا كَانَ الْمحَال عَلَيْهِ يَوْم أحَال الْمُحِيل
عَلَيْهِ. أَي: على الْمحَال عَلَيْهِ، مَلِيًّا، يَعْنِي:
غَنِيا، من ملىء الرجل إِذا صَار مَلِيًّا. وَهُوَ
مَهْمُوز اللَّام، وَلَيْسَ هُوَ من معتل اللَّام، وأصل:
مَلِيًّا: مليئا على وزن: فعيلاً، فكأنهم قلبوا الْهمزَة
يَاء وأدغموا الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (جَازَ) ،
جَوَاب: إِذا، يَعْنِي: جَازَ هَذَا الْفِعْل وَهُوَ
الْحِوَالَة، وَمَفْهُومه أَنه إِذا كَانَ مُفلسًا فَلهُ
أَن يرجع، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة
والأثرم، وَاللَّفْظ لَهُ، من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة
عَن قَتَادَة وَالْحسن أَنَّهُمَا سئلا عَن رجل احتال على
رجل فأفلس، قَالَ: إِذا كَانَ مَلِيًّا يَوْم احتال
عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع، وَجُمْهُور الْعلمَاء
على عدم الرُّجُوع. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع صَاحب
الدّين على الْمُحِيل إِذا مَاتَ الْمحَال عَلَيْهِ
مُفلسًا أَو حكم بإفلاسه أَو جحد الْحِوَالَة، وَلم يكن
لَهُ بَيِّنَة، وَبِه قَالَ شُرَيْح وَعُثْمَان البتي
وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد
وَآخَرُونَ، وَقَالَ الحكم: لَا يرجع مَا دَامَ حَيا
حَتَّى يَمُوت وَلَا يتْرك شَيْئا، فَإِن الرجل يوسر مرّة
ويعسر أُخْرَى. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَعبيد
وَاللَّيْث وَأَبُو ثَوْر: لَا يرجع عَلَيْهِ وَإِن توى
وَسَوَاء غره بالفلس أَو طول عَلَيْهِ أَو أنكرهُ. وَقَالَ
مَالك: لَا يرجع على الَّذِي أَحَالهُ إلاَّ أَن يغره
بفلس.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وأهْلُ
المِيرَاثِ فيَأخُذُ هَذا عَيْنا وَهَذَا دَيْنا فإنْ
تَوِيَ لأِحَدِهِما لَمْ يَرْجِعْ عَلى صاحِبِه.
يتخارج الشريكان أَي: يخرج هَذَا الشَّرِيك مِمَّا وَقع
فِي نصيب صَاحبه، وَذَلِكَ الآخر كَذَلِك أَرَادَ أَن
ذَلِك فِي الْقِسْمَة بِالتَّرَاضِي بِغَيْر قرعَة مَعَ
اسْتِوَاء الدّين وَإِقْرَار من عَلَيْهِ وحضوره فَأخذ
أَحدهمَا عينا وَالْآخر الدّين، ثمَّ إِذا توى الدّين أَي:
إِذا هلك لم تنقضِ الْقِسْمَة لِأَنَّهُ رَضِي بِالدّينِ
عوضا فَتْوَى فِي ضَمَانه، فَالْبُخَارِي أَدخل قسْمَة
الدُّيُون وَالْعين فِي التَّرْجَمَة، وقاس الْحِوَالَة
عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الحكم بَين الْوَرَثَة أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله: (وَأهل الْمِيرَاث) قَوْله: (فَإِن توى) ،
بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْوَاو على
وزن: قوى، من: توى المَال يتوى من بَاب علم: إِذا هلك،
وَيُقَال: توى حق فلَان على غَرِيمه إِذا ذهب توى وتواء،
وَالْقصر أَجود فَهُوَ: تو وتاو، وَمِنْه: لَا توى على
مَال امرىء مُسلم، وَتَفْسِيره فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فِي الْمُحْتَال عَلَيْهِ يَمُوت مُفلسًا،
قَالَ: يعود الدّين إِلَى ذمَّة الْمُحِيل.
7822 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ أبِي الزِّناد عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ فإذَا
اتْبِعَ أحَدُكُمْ على مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا أتبع) إِلَى
آخِره، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف
النُّون: هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز، وَقد تكَرر ذكرهمَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة،
والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن
الْقَاسِم أربعتهم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْحِوَالَة عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن
سُفْيَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن بنْدَار
عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا
وَابْن
(12/109)
مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة،
وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر رَوَاهُ ابْن مَاجَه من
رِوَايَة يُونُس بن عبيد عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مطل الْغَنِيّ
ظلم وَإِذا أُحِيل أحدكُم على ملي فَليَحْتَلْ) . وَعَن
الشريد بن سُوَيْد أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مُحَمَّد بن مَيْمُون بن
مُسَيْكَة عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لي: الْوَاجِد يحل
عرضه وعقوبته، وَعَن جَابر أخرجه الْبَزَّار من رِوَايَة
مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مطل الْغَنِيّ ظلم وَإِذا أتبع
أحدكُم على ملي فَليتبعْ) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مطل الْغَنِيّ ظلم) ، المطل فِي
الأَصْل من قَوْلهم: مطلت الحديدة أمطلها إِذا مددتها
لتطول. وَفِي (الْمُحكم) : المطل التسويف بالعدة وَالدّين،
مطله حَقه وَبِه يمطله مطلاً فأمطل. قَالَ الْقَزاز:
وَالْفَاعِل ماطل ومماطل، وَالْمَفْعُول: ممطول ومماطل.
تَقول: ماطلني ومطلني حَقي. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: المطل
عدم قَضَاء مَا اسْتحق أَدَاؤُهُ مَعَ التَّمَكُّن مِنْهُ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: المطل المدافعة، وَإِضَافَة المطل
إِلَى الْغَنِيّ إِضَافَة الْمصدر للْفَاعِل هُنَا وَإِن
كَانَ الْمصدر قد يُضَاف إِلَى الْمَفْعُول، لِأَن
الْمَعْنى أَنه يحرم على الْغَنِيّ الْقَادِر أَن يمطل
بِالدّينِ بعد اسْتِحْقَاقه، بِخِلَاف الْعَاجِز،
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه مُضَاف للْمَفْعُول،
وَالْمعْنَى: أَنه يجب وَفَاء الدّين وَلَو كَانَ
مُسْتَحقّه غَنِيا، وَلَا يكون غناهُ سَببا لتأخيره حَقه
عَنهُ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فِي حق الْغَنِيّ فَهُوَ فِي
حق الْفَقِير أولى، وَفِيه تكلّف وتعسف، وَفِي رِوَايَة
ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد عِنْد النَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه: المطل ظلم الْغَنِيّ، وَالْمعْنَى: أَنه من
الظُّلم، أطلق ذَلِك للْمُبَالَغَة فِي التنفير عَن المطل،
وَقد رَوَاهُ الجوزقي من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة
بِلَفْظ: إِن من الظُّلم مطل الْغَنِيّ. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه
لُغَة، وَفِي الشَّرْع: هُوَ محرم مَذْمُوم، وَعَن
سَحْنُون: ترد شَهَادَة الملي إِذا مطل لكَونه سمي
ظَالِما. وَعند الشَّافِعِي: بِشَرْط التّكْرَار. قَوْله:
(فَإِذا أتبع) ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ بِضَم الْهمزَة
وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْبَاء
الْمُوَحدَة مَبْنِيا لما لم يسم فَاعله عِنْد الْجَمِيع.
وَقَوله: (فَليتبعْ) ، بِالتَّخْفِيفِ من تبِعت الرجل بحقي
أتبعه تباعة، بِالْفَتْح: إِذا طلبته، وَقيل: فَليتبعْ،
بِالتَّشْدِيدِ وَالْأول أَجود عِنْد الْأَكْثَر. وَقَالَ
الْخطابِيّ: إِن أَكثر الْمُحدثين يَقُولُونَهُ
بِالتَّشْدِيدِ، وَالصَّوَاب التَّخْفِيف، وَمَعْنَاهُ:
إِذا أُحِيل فَليَحْتَلْ، وَقد رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ:
أَحْمد عَن وَكِيع عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي
الزِّنَاد، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عمر
بِلَفْظ: فإا أحلّت على ملي فَأتبعهُ وَهَذَا بتَشْديد
التَّاء بِلَا خلاف. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْأَشْهر فِي
الرِّوَايَات، وَإِذا اتبع، يَعْنِي بِالْوَاو،
وَلِأَنَّهُمَا جملتان لَا تعلق لأحداهما بِالْأُخْرَى.
وغفل عَمَّا فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) هُنَا فَإِنَّهُ
بِالْفَاءِ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَهُوَ كالتوطئة
وَالْعلَّة لقبُول الْحِوَالَة. فَإِن قلت: رَوَاهُ مُسلم
بِالْوَاو، وَكَذَا البُخَارِيّ فِي الْبَاب الَّذِي بعده.
قلت: نعم لَكِن قَالَ: وَمن اتبع، وَقَوله: لي الْوَاجِد،
قَالَ ابْن التِّين: لي الْوَاجِد بِفَتْح اللَّام
وَتَشْديد الْيَاء أَي: مطله، يُقَال: لواه بِدِينِهِ ليا
وليانا وأصل: لي لوى، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت
إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت
الْيَاء فِي الْيَاء، والواجد، بِالْجِيم: الْغَنِيّ
الَّذِي يجد مَا يقْضِي بِهِ دينه. قَوْله: يحل عرضه، أَي:
لومه وعقوبته، أَي: حَبسه، هَذَا تَفْسِير سُفْيَان،
وَالْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان سَوَاء
كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه أَو من يلْزمه أمره، وَقيل:
هُوَ جَانِبه الَّذِي يصونه من نَفسه وحسبه ويحامي عَنهُ
أَن ينتقص ويثلب، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض الرجل نَفسه
وبدنه لَا غير، وَفِي (الفصيح) : الْعرض ريح الرجل
الطّيبَة أَو الخبيثة. وَيُقَال: هُوَ نقي الْعرض، أَي:
بَرِيء من أَن يشْتم أَو يعاب. وَقَالَ ابْن خالويه:
الْعرض الْجلد، يُقَال: هُوَ نقي الْعرض، أَي: لَا يعاب
بِشَيْء. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: يحل عرضه: يغلظ
عَلَيْهِ وعقوبته يحبس بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الزّجر عَن المطل.
وَاخْتلف: هَل يعد فعله عمدا كَبِيرَة أم لَا؟ فالجمهور
على أَن فَاعله يفسق، لَكِن هَل يثبت فسقه بمطله مرّة
وَاحِدَة أم لَا؟ قَالَ النَّوَوِيّ: مُقْتَضى مَذْهَبنَا
اشْتِرَاط التّكْرَار، ورد عَلَيْهِ السُّبْكِيّ فِي (شرح
الْمِنْهَاج) : بِأَن مُقْتَضى مَذْهَبنَا عَدمه،
وَاسْتدلَّ بِأَن منع الْحق بعد طلبه وَانْتِفَاء الْعذر
عَن أَدَائِهِ كالغصب، وَالْغَصْب كَبِيرَة، وتسميته ظلما
يشْعر بِكَوْنِهِ كَبِيرَة، والكبيرة لَا يشْتَرط فِيهَا
التّكْرَار. نعم، لَا يحكم عَلَيْهِ بذلك إلاَّ بعد أَن
يظْهر عدم عذره انْتهى. وَفِيه: أَن الْعَاجِز عَن
الْأَدَاء لَا يدْخل فِي المطل. وَفِيه: أَن الْمُعسر لَا
يحبس وَلَا يُطَالب حَتَّى يوسر، وَقيل: لصَاحب
(12/110)
الْحق أَن يحْبسهُ، وَقيل: يلازمه. وَفِيه:
أَمر بِقبُول الْحِوَالَة، فمذهب الشَّافِعِي: يسْتَحبّ
لَهُ الْقبُول. وَقيل: الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب، وَهُوَ
مَذْهَب دَاوُد، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ الْوُجُوب
وَالنَّدْب، وَالْجُمْهُور على أَنه ندب لِأَنَّهُ من بَاب
التَّيْسِير على الْمُعسر، وَقيل: مُبَاح، وَلما سَأَلَ
ابْن وهب مَالِكًا عَنهُ! قَالَ: هَذَا أَمر ترغيب
وَلَيْسَ بإلزام، وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يُطِيع سيدنَا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَرْط أَن يكون
بدين وإلاَّ فَلَا حِوَالَة لِاسْتِحَالَة حَقِيقَتهَا
إِذْ ذَاك، وَإِنَّمَا يكون حمالَة. وَفِي (التَّوْضِيح) ؛
وَمن شَرطهَا تَسَاوِي الدينَيْنِ قدرا ووصفا وجنسا
كالحلول وَالتَّأْخِير، وَقَالَ ابْن رشد: وَمِنْهُم من
أجازها فِي الذَّهَب وَالدَّرَاهِم فَقَط، ومنعها فِي
الطَّعَام، وَأَجَازَ مَالك إِذا كَانَ الطعامان
كِلَاهُمَا من قرض إِذا كَانَ دين الْمحَال حَالا، وَأما
إِن كَانَ أَحدهمَا من سلم فَإِنَّهُ لَا يجوز إِلَّا أَن
يكون الدينان حَالين، وَعند ابْن الْقَاسِم وَغَيره من
أَصْحَاب مَالك: يجوز ذَلِك إِذا كَانَ الدّين الْمحَال
بِهِ حَالا، وَلم يفرق بَين ذَلِك الشَّافِعِي لِأَنَّهُ
كَالْبيع فِي ضَمَان الْمُسْتَقْرض. وَأما أَبُو حنيفَة،
فَأجَاز الْحِوَالَة بِالطَّعَامِ وَشبهه بِالدَّرَاهِمِ،
وَفِي (التَّلْوِيح) : وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن
الْحِوَالَة ضد الْحمالَة فِي أَنه إِذا أفلس الْمحَال
عَلَيْهِ لم يرجع صَاحب الدّين على الْمُحِيل بِشَيْء،
وَعند أبي حنيفَة: يرجع صَاحب الدّين على الْمُحِيل إِذا
مَاتَ الْمحَال عَلَيْهِ مُفلسًا أَو حكم بإفلاسه أَو جحد
الْحِوَالَة وَلَا بَيِّنَة لَهُ، وَبِه قَالَ ابْن
شُرَيْح وَعُثْمَان البتي وَجَمَاعَة، وَقد مر فِي أول
الْبَاب وَفِي الرَّوْضَة للنووي: أما الْمحَال عَلَيْهِ
فَإِن كَانَ عَلَيْهِ دين للْمُحِيل لم يعْتَبر رِضَاهُ
على الْأَصَح، وَإِن لم يكن لم يَصح بِغَيْر رِضَاهُ قطعا
وبإذنه وَجْهَان، وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية أما الْمحَال
عَلَيْهِ فَلَا يشْتَرط رِضَاهُ، وَفِي بعض كتب
الْمَالِكِيَّة: يشْتَرط رِضَاهُ إِذا كَانَ عدوا وإلاَّ
فَلَا، وَأما الْمُحِيل فرضاه شَرط عندنَا وَعِنْدهم
لِأَنَّهُ الأَصْل فِي الْحِوَالَة وَفِي الْعُيُون
والزيادات لَيْسَ بِشَرْط، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) :
ورئي بِخَط بعض الْفُضَلَاء فِي قَوْله: مطل الْغَنِيّ
ظلم، دلَالَة على أَن الْحِوَالَة إِنَّمَا تكون بعد
حُلُول الْأَجَل فِي الدّين، لِأَن المطل لَا يكون إِلَّا
بعد الْحُلُول. وَفِيه: مُلَازمَة المماطل وإلزامه بِدفع
الدّين والتوصل إِلَيْهِ بِكُل طَرِيق وَأَخذه مِنْهُ
قهرا.
2 - (بابٌ إِذا أحالَ على مُلِيٍّ فَليْسَ لَهُ رَدٌّ)
هَذَا الْبَاب وَقع فِي نُسْخَة الْفربرِي لَا غير أَي:
هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحَال صَاحب الْحق على رجل ملي
فَلَيْسَ لَهُ رد.
8822 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ قَالَ حَدثنَا
سُفْيَانُ عنُ ابنِ ذَكْوَانَ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ ومَنْ
أُتْبِعَ علَى مَلِيٍّ فلْيَتَّبِعْ. (انْظُر الحَدِيث
7822 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد بن يُوسُف أَبُو
أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، وَهُوَ من أَفْرَاده،
وَلَيْسَ هَذَا مُحَمَّد بن يُوسُف ابْن وَاقد أَبُو عبد
الله الْفرْيَابِيّ، وَهُوَ أَيْضا شيخ البُخَارِيّ، روى
عَنهُ فِي الْكتاب، وَذكر ابْن مَسْعُود أَن البُخَارِيّ
رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف فِي كتاب الْحِوَالَة،
وَكَذَا ذكره خلف وَأَبُو الْعَبَّاس الطرقي وَمن طَرِيقه
أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن الثَّوْريّ وَأخرجه النَّسَائِيّ
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. قَوْله: (عَن ابْن ذكْوَان) ،
هُوَ عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن
هُرْمُز، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر عَن قريب.
3 - (بابٌ إِذا أحالَ دَيْنَ المَيِّتِ على رَجُلٍ جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِن أحَال دين الْمَيِّت على
رجل جَازَ، أَي: هَذَا الْفِعْل، وَقَالَ ابْن بطال:
إِنَّمَا ترْجم بالحوالة، فَقَالَ: إِن أحَال دين
الْمَيِّت، ثمَّ أَدخل حَدِيث سَلمَة، وَهُوَ فِي
الضَّمَان لِأَن الْحِوَالَة وَالضَّمان متقاربان،
وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو ثَوْر لِأَنَّهُمَا ينتظمان فِي كَون
كل مِنْهُمَا نقل ذمَّة إِلَى ذمَّة آخر، فِي هَذَا
الحَدِيث نقل مَا فِي ذمَّة الْمَيِّت إِلَى ذمَّة
الضَّامِن، فَصَارَ كالحوالة.
9822 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ حَدثنَا
يَزيدُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عنْدَ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ أُتَى بجَنَازَةٍ
فَقَالُوا صَلِّ عليْها فَقالَ هلْ
(12/111)
عَلَيْهِ دَيْنٌ قالُوا لَا قَالَ فَهَلْ
ترَكَ شَيْئا قَالُوا لاَ فَصَلَّى عليهِ ثُمَّ أُتِيَ
بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالُوا يَا رسولَ الله صلِّ
عَلَيْهَا قَالَ هلْ عَلَيْها دَيْنٌ قَالَ نعَمْ قالْ
فهَلْ تَرَكَ شَيْئا قَالُوا ثَلاثَةَ دَنانِيرَ فصَلَّى
عَلَيْها ثُمَّ أُتِيَ بالثَّالِثَةِ فَقَالُوا صَلِّ
عَلَيْها قَالَ هَلْ تَرَكَ شَيئا قَالُوا لاَ قَالَ
فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا ثَلاثَةُ دَنانِير قَالَ
صلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتادَةَ صلِّ
علَيْهِ يَا رسولَ الله وعلَيَّ دَيْنَهُ فَصَلَّى
عَلَيْهِ. (الحَدِيث 9822 طرفه فِي: 5922) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم مِمَّا نَقَلْنَاهُ عَن ابْن
بطال الْآن.
وَرِجَاله ثَلَاثَة، وَهَذَا سَابِع ثلاثيات البُخَارِيّ.
الأول: مكي بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد الْبَلْخِي
أَبُو السكن، وروى مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة. الثَّانِي:
يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد، بِضَم الْعين: مولى
سَلمَة بن الْأَكْوَع، مَاتَ سنة سِتّ أَو سبع وَأَرْبَعين
وَمِائَة. الثَّالِث: سَلمَة بن الْأَكْوَع، هُوَ سَلمَة
بن عَمْرو بن الْأَكْوَع، وَيَقُول: سَلمَة بن وهب بن
الْأَكْوَع، واسْمه: سِنَان بن عبد الله الْمدنِي، شهد
بيعَة الرضْوَان تَحت الشَّجَرَة وَبَايع رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات، وَكَانَ يسكن
الربذَة، وَكَانَ شجاعا راميا، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة
أَربع وَسبعين وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْكفَالَة عَن
أبي عَاصِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن عمر
وَعلي وَمُحَمّد بن الْمثنى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جُلُوسًا) ، جمع: جَالس وانتصابه
على أَنه خبر: كَانَ. قَوْله: (إِذْ) ، كلمة مفاجأة.
قَوْله: (أُتِي) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول
وَكَذَلِكَ آتِي، فِي الْمَوْضِعَيْنِ الآخرين. وَذكر
ثَلَاثَة أَحْوَال: الأول: لم يتْرك مَالا وَلَا دينا.
الثَّانِي: عَلَيْهِ دين وَترك مَالا. الثَّالِث: عَلَيْهِ
دين وَلم يتْرك مَالا، وَلم يذكر الرَّابِع وَهُوَ:
الَّذِي لَا دين عَلَيْهِ وَترك مَالا، وَهَذَا حكمه أَن
يُصَلِّي عَلَيْهِ أَيْضا، وَلم يذكرهُ إِمَّا لِأَنَّهُ
لم يَقع، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ كثيرا. قَوْله:
(ثَلَاثَة دَنَانِير) فِي الْأَخير، وروى الْحَاكِم من
حَدِيث جَابر: وَفِيه دِينَارَانِ، وَكَذَلِكَ فِي
رِوَايَة أبي دَاوُد عَن جَابر، وَفِي رِوَايَة
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد. فَإِن قلت:
كَيفَ التَّوْفِيق بَين رِوَايَة الثَّلَاث وَرِوَايَة
الْإِثْنَيْنِ؟ قلت: يحمل بِأَنَّهُ كَانَ دينارين وَنصفا،
فَمن قَالَ: ثَلَاثَة، جبر الكُسر، وَمن قَالَ: دينارين،
ألغى النّصْف، أَو كَانَ أصل ذَلِك ثَلَاثَة فوفى
الْمَيِّت قبل مَوته دِينَارا وَبَقِي عَلَيْهِ
دِينَارَانِ فَمن قَالَ ثَلَاثَة فباعتبار الأَصْل وَمن
قَالَ دينارين فباعتبار مَا بَقِي من الدّين قَوْله "
قَالَ أَبُو قَتَادَة " الْحَارِث بن ربعي الخزرجي
الْأنْصَارِيّ فَارس رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر فِي الْوضُوء وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ عَن نفس أبي قَتَادَة فَقَالَ حَدثنَا
مَحْمُود بن غيلَان قَالَ حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ
أخبرنَا شُعْبَة عَن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب قَالَ
سَمِعت عبد الله بن أبي قَتَادَة يحدث عَن أَبِيه أَن
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى
بِرَجُل ليُصَلِّي عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صلوا على صَاحبكُم فَإِن
عَلَيْهِ دينا قَالَ أَبُو قَتَادَة هُوَ عَليّ فَقَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِالْوَفَاءِ فصلى عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة ابْن ماجة
فَقَالَ ابْن قَتَادَة أَنا أتكفل بِهِ وَفِي رِوَايَة
أَبُو دَاوُد هما عَليّ يَا رَسُول الله قَالَ
بِالْوَفَاءِ وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فَجعل
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَقُول هما عَلَيْك وَفِي مَالك وَحقّ الرجل عَلَيْك
وَالْمَيِّت مِنْهُمَا بَرِيء فَقَالَ نعم فصلى عَلَيْهِ
وَجعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا لَقِي أَبَا قَتَادَة يَقُول مَا صنعت فِي الدينارين
حَتَّى إِذا كَانَ آخر ذَلِك قَالَ قد قضيتهما يَا رَسُول
الله قَالَ الْآن حِين بردت عَلَيْهِ جلدته وَفِي رِوَايَة
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد فَقَالَ على
صَاحبكُم دين قَالُوا دِينَارَانِ قَالَ أَبُو قَتَادَة
أَنا بِدِينِهِ يَا رَسُول الله وروى الدراقطني من حَدِيث
ابْن عَبَّاس عَن عَطاء بن عجلَان عَن أبي اسحق عَن عَاصِم
بن ضَمرَة عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا
أَتَى بِجنَازَة لم يسْأَل عَن شَيْء من عمل الرجل وَيسْأل
عَن دينه فَإِن قيل عَلَيْهِ دين كف وَإِن قيل لَيْسَ
عَلَيْهِ دين صلى فَأتى بِجنَازَة فَلَمَّا قَامَ ليكبر
سَأَلَ هَل عَلَيْهِ قَالُوا دِينَارَانِ فَعدل عَنهُ
وَقَالَ صلوا على صَاحبكُم فَقَالَ عَليّ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ هما عَليّ وَهُوَ بَرِيء مِنْهُمَا فصلى
عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لعَلي " جَزَاك الله خيرا وَفك الله
رهانك كَمَا فَككت رهان أَخِيك إِنَّه لَيْسَ من ميت
يَمُوت وَعَلِيهِ دين إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهن بِدِينِهِ
وَمن فك رهان ميت فك الله رهانه يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ
بَعضهم هَذَا لعَلي خَاصَّة أم للْمُسلمين عَامَّة قَالَ
بل للمسمين عَامَّة " وروى عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ نَحوه
وَفِيه أَن عليا قَالَ أَنا ضَامِن لدينِهِ وَفِي
(12/112)
رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من حَدِيث شريك عَن
عبد الله بن عقيل قَالَ إِن رجلا مَاتَ وَعَلِيهِ دين فَلم
يصل عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - حَتَّى قَالَ أَبُو الْيُسْر أَو غَيره هُوَ عَليّ
فصلى عَلَيْهِ فَجَاءَهُ من الْغَد يتقاضاه فَقَالَ أما
كَانَ ذَلِك أمس ثمَّ أَتَاهُ من بعد الْغَد فَأعْطَاهُ
فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْآن بردت عَلَيْهِ جلدته (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ)
فِيهِ الْكفَالَة من الْمَيِّت وَقَالَ ابْن بطال اخْتلف
الْعلمَاء فِيمَن تكفل عَن ميت بدين فَقَالَ ابْن أبي ليلى
وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ الْكفَالَة
جَائِزَة عَنهُ وَإِن لم يتْرك الْمَيِّت شَيْئا وَلَا
رُجُوع لَهُ فِي مَال الْمَيِّت إِن ثاب للْمَيت مَال
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ للْمَيت مَال وَضمن عَنهُ لم يرجع
فِي قَوْلهم لِأَنَّهُ مُتَطَوّع وَقَالَ مَالك لَهُ أَن
يرجع فِي مَاله كَذَلِك إِن قَالَ إِنَّمَا أدّيت لأرجع
فِي مَال الْمَيِّت وَإِن لم يكن للْمَيت مَال وَعلم
الضَّامِن بذلك فَلَا رُجُوع لَهُ إِن ثاب للْمَيت قَالَ
ابْن الْقَاسِم لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْهَدِيَّة وَقَالَ
أَبُو حنيفَة إِن لم يتْرك الْمَيِّت شَيْئا فَلَا تجوز
الْكفَالَة وَإِن ترك جَازَت بِقدر مَا ترك وَقَالَ
الْخطابِيّ فِيهِ إِن ضَمَان الدّين عَن الْمَيِّت يبريه
إِذا كَانَ مَعْلُوما سَوَاء خلف الْمَيِّت وَفَاء أَو لم
يخلف وَذَلِكَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- إِنَّمَا امْتنع من الصَّلَاة لارتهان ذمَّته بِالدّينِ
فَلَو لم يبرأ بِضَمَان أبي قَتَادَة لما صلى عَلَيْهِ
وَالْعلَّة الْمَانِعَة قَائِمَة. وَفِيه فَسَاد قَول
مَالك أَن الْمُؤَدى عَنهُ الدّين يملكهُ أَولا عَن
الضَّامِن لِأَن الْمَيِّت لَا يملك وَإِنَّمَا كَانَ
هَذَا قبل أَن يكون للْمُسلمين بَيت مَال إِذْ بعده كَانَ
الْقَضَاء عَلَيْهِ وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ
لَعَلَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امْتنع
عَن الصَّلَاة عَن الْمَدْيُون الَّذِي لم يتْرك وَفَاء
تحذيرا عَن الدّين وزجرا عَن المماطلة أَو كَرَاهَة أَن
يُوقف دعاؤه عَن الْإِجَابَة بِسَبَب مَا عَلَيْهِ من
مظْلمَة الْخلق وَقَالَ الْكرْمَانِي الحَدِيث حجَّة على
أبي حنيفَة حَيْثُ قَالَ لَا يصلح الضَّمَان عَن الْمَيِّت
إِذا لم يتْرك وَفَاء وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَخَالف
أَبُو حنيفَة الحَدِيث قلت هَذَا إساءة الْأَدَب وحاشا من
أبي حنيفَة أَن يُخَالف الحَدِيث الثَّابِت عَن رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد
وُقُوفه عَلَيْهِ وَكَانَ الْأَدَب أَن يَقُول ترك
الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث ثمَّ تَركه فِي الْموضع الَّذِي
ترك الْعَمَل بِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده أَو لم
يقف عَلَيْهِ أَو ظهر عِنْده نسخه. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة
الَّذِي يَأْتِي بعد أَرْبَعَة أَبْوَاب يدل على النّسخ
وَهُوَ قَوْله أَنا أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم فَمن
توفّي من الْمُؤمنِينَ فَترك دينا فعلي قَضَاؤُهُ وَمن ترك
مَالا فلورثته وَفِي رِوَايَة أبي حَازِم عَن أبي
هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ من ترك كلأ فإليه وَمن ترك مَالا
فللوارث قَالَ أَبُو بشر يُونُس ابْن حبيب سَمِعت أَبَا
الْوَلِيد يَقُول هَذَا نسخ تِلْكَ الْأَحَادِيث الَّتِي
جَاءَت فِي ترك الصَّلَاة على من عَلَيْهِ الدّين وَقَالَ
أَبُو بكر عبد الله بن أَحْمد الصفار حَدثنَا مُحَمَّد بن
الْفضل الطَّبَرِيّ أَنبأَنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن
المَخْزُومِي أَنبأَنَا مُحَمَّد بن بكير الْحَضْرَمِيّ
حَدثنَا خَالِد بن عبد الله عَن حُسَيْن بن قيس عَن
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَا يُصَلِّي على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين فَمَاتَ رجل من
الْأَنْصَار فَقَالَ عَلَيْهِ دين قَالُوا نعم فَقَالَ
صلوا على صَاحبكُم فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام فَقَالَ إِن الله عز وَجل يَقُول إِنَّمَا
الظَّالِم عِنْدِي فِي الدُّيُون الَّتِي حملت فِي الْبَغي
والإسراف وَالْمَعْصِيَة فَأَما الْمُتَعَفِّف ذُو
الْعِيَال فَأَنا ضَامِن أَن أؤدي عَنهُ فصلى عَلَيْهِ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ
بعد ذَلِك من ترك ضيَاعًا أَو دينا فَإِلَيَّ أَو عَليّ
وَمن ترك مِيرَاثا فلأهله فصلى عَلَيْهِم. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ الْتِزَامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بدين الْمَوْتَى يحْتَمل أَن يكون تَبَرعا
على مُقْتَضى كرم أخلاقه لَا أَنه أَمر وَاجِب عَلَيْهِ
قَالَ وَقَالَ بعض أهل الْعلم يجب على الإِمَام أَن يقْضِي
من بَيت المَال دين الْفُقَرَاء اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ قد صرح
بِوُجُوب ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فعلي قَضَاؤُهُ
وَلِأَن الْمَيِّت الْمَدْيُون خَافَ أَن يعذب فِي قَبره
عَليّ ذَلِك الدّين لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الْآن حِين بردت جلدته وكما أَن على الإِمَام
أَن يسد رمقه ويراعي مصْلحَته الدُّنْيَوِيَّة فالأخروية
أولى وَقَالَ ابْن بطال فَإِن لم يُعْط الإِمَام عَنهُ
شَيْئا وَقع الْقصاص مِنْهُ فِي الْآخِرَة وَلم يحبس
الْمَيِّت عَن الْجنَّة بدين لَهُ مثله فِي بَيت المَال
إِلَّا أَن يكون دينه أَكثر مِمَّا لَهُ فِي بَيت المَال
وَفِي شرح الْمُهَذّب قيل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْضِيه من مصَالح الْمُسلمين وَقيل
من مَاله وَقيل كَانَ هَذَا الْقَضَاء وَاجِبا عَلَيْهِ
وَقيل لم يصل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يكن للْمُسلمين
يَوْمئِذٍ بَيت مَال فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِم وَصَارَ
لَهُم بَيت مَال صلى على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين ويوفيه
مِنْهُ
(12/113)
(بَاب الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون
بالأبدان وَغَيرهَا)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكفَالَة فِي الْقَرْض
والديون أَي دُيُون الْمُعَامَلَات وَهُوَ من بَاب عطف
الْعَام على الْخَاص قَوْله " بالأبدان " يتَعَلَّق
بِالْكَفَالَةِ قَوْله " وَغَيرهمَا " أَي وَغير
الْأَبدَان وَهِي الْكفَالَة بالأموال وَفِي بعض النّسخ
بَاب الْكفَالَة فِي القروض والديون وَوجه إِدْخَال هَذَا
الْبَاب فِي كتاب الْحِوَالَة من حَيْثُ أَن الْحِوَالَة
وَالْكَفَالَة الَّتِي هِيَ الضَّمَان متقاربان لِأَن كلا
مِنْهُمَا نقل دين من ذمَّة إِلَى ذمَّة وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ عَن قريب وَقَالَ الْمُهلب الْكفَالَة بالقرض
الَّذِي هُوَ السّلف بالأموال كلهَا جَائِزَة وَحَدِيث
الْخَشَبَة الملقاة فِي الْبَحْر أصل فِي الْكفَالَة
بالديون من قرض كَانَت أَو بيع (وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد
عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن
أَبِيه أَن عمر رَضِي الله عَنهُ بَعثه مُصدقا فَوَقع رجلا
على جَارِيَة امْرَأَته فَأخذ حَمْزَة من الرجل كَفِيلا
حَتَّى قدم على عمر وَكَانَ عمر قد جلده مائَة جلدَة
فَصَدَّقَهُمْ وعذره بالجهالة)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأَخذه حَمْزَة من
الرجل كَفِيلا) ، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي
وَتَخْفِيف النُّون: عبد الله بن ذكْوَان وَقد تكَرر ذكره،
وَمُحَمّد بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ حجازي ذكره
ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) ، وروى لَهُ النَّسَائِيّ فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَأَبُو دَاوُد والطحاويي وَأَبُو
حَمْزَة بن عَمْرو بن عُوَيْمِر بن الْحَارِث الْأَعْرَج
الْأَسْلَمِيّ، يكنى أَبَا صَالح، وَقيل: أَبَا مُحَمَّد
مَاتَ سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَله صُحْبَة وَرِوَايَة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا
ابْن أبي مَرْيَم، قَالَ: أخبرنَا ابْن أبي الزِّنَاد،
قَالَ: حَدثنِي أبي عَن مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو
الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، بَعثه مُصدقا على سعد ابْن هذيم، فَأتى حَمْزَة
بِمَال ليصدقه، فَإِذا رجل يَقُول لامْرَأَته: أُدي
صَدَقَة مَال مَوْلَاك، وَإِذا الْمَرْأَة تَقول لَهُ: بل
أَنْت فأدِّ صَدَقَة مَال أَبِيك، فَسَأَلَهُ حَمْزَة عَن
أمرهَا وقولهما: فَأخْبر أَن ذَلِك الرجل زوج تِلْكَ
الْمَرْأَة، وَأَنه وَقع على جَارِيَة لَهَا، فَولدت ولدا
فأعتقته امْرَأَته، قَالُوا: فَهَذَا المَال لِابْنِهِ من
جاريتها، فَقَالَ لَهُ حَمْزَة لأرجمنك بِالْحِجَارَةِ،
فَقيل لَهُ: أصلحك الله، إِن أمره قد رفع إِلَى عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فجلده عمر مائَة وَلم
ير عَلَيْهِ الرَّجْم، فَأخذ حَمْزَة بِالرجلِ كَفِيلا
حَتَّى يقدم على عمر فيسأله عَمَّا ذكر من جلد عمر إِيَّاه
وَلم ير عَلَيْهِ رجما، فَصَدَّقَهُمْ عمر بذلك، من
قَوْلهم، وَقَالَ: إِنَّمَا دَرأ عَنهُ الرَّجْم عذره
بالجهالة. انْتهى.
قَوْله: (مُصدقا) بتَشْديد الدَّال الْمَكْسُورَة على
صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التَّصْدِيق، أَي: أَخذ
الصَّدَقَة عَاملا عَلَيْهَا، فَصَدَّقَهُمْ،
بِالتَّخْفِيفِ أَي: صدق الرجل للْقَوْم واعترف بِمَا وَقع
مِنْهُ، لكنه اعتذر بِأَنَّهُ لم يكن عَالما بِحرْمَة وطىء
جَارِيَة امْرَأَته أَو بِأَنَّهَا جاريتها، لِأَنَّهَا
التبست واشتبهت بِجَارِيَة نَفسه أَو بِزَوْجَتِهِ، أَو
صدق عمر الكفلاء فِيمَا كَانُوا يَدعُونَهُ أَنه قد جلده
مرّة لذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون الصدْق بِمَعْنى
الْإِكْرَام كَقَوْلِه تَعَالَى: {فِي مقْعد صدق}
(الْقَمَر: 55) . أَي: كريم، فَمَعْنَاه: فَأكْرم عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الكفلاء وَعذر الرجل
بِجَهَالَة الْحُرْمَة أَو الِاشْتِبَاه. قَوْله: (فَأخذ
حَمْزَة من الرجل كَفِيلا) ، لَيْسَ المُرَاد من
الْكفَالَة هَهُنَا الْكفَالَة الْفِقْهِيَّة، بل المُرَاد
التعهد والضبط عَن حَال الرجل. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ
ذَلِك على سَبِيل التَّرْهِيب على الْمَكْفُول بِبدنِهِ
والاستيثاق، لَا أَن ذَلِك لَازم للْكَفِيل إِذا زَالَ
الْمَكْفُول بِهِ، واستفيد من هَذِه الْقِصَّة
مَشْرُوعِيَّة الْكفَالَة بالأبدان، فَإِن حَمْزَة بن
عَمْرو صَحَابِيّ، وَقد فعله وَلم يُنكر عَلَيْهِ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعَ كَثْرَة الصَّحَابَة
حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا جلد عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، للرجل مائَة تعزيرا وَكَانَ ذَلِك بِحَضْرَة
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ
ابْن التِّين: فِيهِ شَاهد لمَذْهَب مَالك فِي مُجَاوزَة
الإِمَام فِي التَّعْزِير قدر الْحَد، ورد عَلَيْهِ
بِأَنَّهُ فعل صَحَابِيّ عَارضه مَرْفُوع صَحِيح فَلَا
حجَّة فِيهِ.
قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء، فمذهب
مَالك وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف فِي قَول الطَّحَاوِيّ:
إِن التَّعْزِير لَيْسَ لَهُ مِقْدَار مَحْدُود، وَيجوز
للْإِمَام أَن يبلغ بِهِ مَا رَآهُ وَأَن يتَجَاوَز بِهِ
الْحُدُود. وَقَالَت طَائِفَة: التَّعْزِير مائَة جلدَة
فَأَقل. وَقَالَت طَائِفَة: أَكثر التَّعْزِير مائَة جلدَة
إلاَّ جلدَة. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره تِسْعَة
وَتسْعُونَ سَوْطًا فَأَقل، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى،
وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره
ثَلَاثُونَ سَوْطًا. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره
(12/114)
عشرُون سَوْطًا. وَقَالَت طَائِفَة: لَا
يتَجَاوَز بالتعزير تِسْعَة، وَهُوَ بعض قَول الشَّافِعِي.
وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره عشرَة أسواذ فَأَقل لَا
يتَجَاوَز بِهِ أَكثر من ذَلِك، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن
سعد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الظَّاهِر، وَأَجَابُوا عَن
الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَا يجلد فَوق عشر جلدات إلاَّ فِي حد من حُدُود
الله) ، بِأَنَّهُ فِي حق من يرتدع بالردع، ويؤثر فِيهِ
أدنى الزّجر كأشراف النَّاس وأشراف أَشْرَافهم، وَأما
السفلة وأسقاط النَّاس فَلَا يُؤثر فيهم عشر جلدات وَلَا
عشرُون، فيعزرهم الإِمَام بِحَسب مَا يرَاهُ، وَقد ذكر
الطَّحَاوِيّ حَدِيث حَمْزَة بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي:
بَاب الرجل يَزْنِي بِجَارِيَة امْرَأَته، فروى فِي أول
الْبَاب حَدِيث سَلمَة بن المحبق: أَن رجلا زنى بِجَارِيَة
امْرَأَته، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِن كَانَ استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا، وَإِن
كَانَت طاوعة فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا) . ثمَّ قَالَ:
فَذهب قوم إِلَى هَذَا الحَدِيث، وَقَالُوا: هَذَا هُوَ
الحكم فِيمَن زنى بِجَارِيَة امْرَأَته. قلت: أَرَادَ
بالقوم: الشّعبِيّ وعامر بن مطر وَقبيصَة وَالْحسن، ثمَّ
قَالَ الطحاويي: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ،
فَقَالُوا: بل نرى عَلَيْهِ الرَّجْم إِن كَانَ مُحصنا،
وَالْجَلد: إِن كَانَ غير مُحصن. قلت: أَرَادَ بالآخرين
هَؤُلَاءِ جَمَاهِير الْفُقَهَاء من التَّابِعين، وَمن
بعدهمْ مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وأصحابهم، ثمَّ أجابوا عَن حَدِيث سَلمَة بن المحبق
أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن
مَاجَه وَلَفظ أبي دَاوُد: أَن رجلا يُقَال لَهُ عبد
الرَّحْمَن بن حنين وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَرفع
إِلَى النُّعْمَان بن بشير، وَهُوَ أَمِير على الْكُوفَة،
فَقَالَ: لأقضين فِيك بقضية رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِن كَانَت أحلَّتها لَك جلدتك مائَة،
وَإِن لم تكن أحلَّتها لَك رَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ،
فوجدوها أحلَّتها لَهُ، فجلده مائَة. قَالَ الطَّحَاوِيّ:
فَثَبت بِهَذَا مَا رَوَاهُ سَلمَة بن المحبق، قَالُوا: قد
عمل عبد الله بن مَسْعُود بعد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا فِي حَدِيث سَلمَة فَأجَاب
الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا بقوله: وَخَالفهُ فِي ذَلِك
حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، وسَاق حَدِيثه على مَا
ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَقَالَ أَيْضا: وَقد أنكر عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، على عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا
قَضَاءَهُ بِمَا قد نسخ، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن
الْحسن، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد
الْحذاء عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، قَالَ: ذكر لعَلي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، شَأْن الرجل الَّذِي أَتَى ابْن
مَسْعُود وَامْرَأَته، وَقد وَقع على جَارِيَة امْرَأَته،
فَلم ير عَلَيْهِ حدا، فَقَالَ عَليّ: لَو أَتَانِي صَاحب
ابْن أم عبد لرضخت رَأسه بِالْحِجَارَةِ، لم يدرِ ابْن أم
عبد مَا حدث بعده، فَأخْبر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَن ابْن مَسْعُود تعلق فِي ذَلِك بِأَمْر قد كَانَ
ثمَّ نسخ بعده، فَلم يعلم ابْن مَسْعُود بذلك، وَقد خَالف
عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله ابْن مَسْعُود
فِي الحكم الْمَذْكُور، وَذهب إِلَى قَول من خَالف عبد
الله، وَالْحَال أَن عَلْقَمَة أعلم أَصْحَاب عبد الله
بِعَبْد الله وأجلهم، فَلَو لم يثبت نسخ مَا كَانَ ذهب
إِلَيْهِ عبد الله لما خَالف قَوْله، مَعَ جلالة قدر عبد
الله عِنْده.
وَقَالَ جرِيرٌ والأشْعَثُ لِعَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ فِي
المُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وكَفِّلْهُمْ فتابُوا
وكَفَلَهُمْ عَشائِرُهُمْ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وكفلهم) وَلَا خلاف فِي
جَوَاز الْكفَالَة بِالنَّفسِ، جرير هُوَ ابْن عبد الله
البَجلِيّ، والأشعث بن قيس الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ،
وَهَذَا التَّعْلِيق مُخْتَصر من قصَّة أخرجَا
الْبَيْهَقِيّ بِطُولِهَا من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن
حَارِثَة بن مضرب، قَالَ: صليت الْغَدَاة مَعَ عبد الله بن
مَسْعُود، فَلَمَّا سلم قَامَ رجل فَأخْبرهُ أَنه انْتهى
إِلَى مَسْجِد بني حنيفَة، فَسمع مُؤذن عبد الله بن نواحة
يشْهد أَن مُسَيْلمَة رَسُول الله، فَقَالَ عبد الله:
عَليّ بِابْن النواحة وَأَصْحَابه، فجيء بهم، فَأمر
قُرَيْظَة بن كَعْب فَضرب عنق ابْن النواحة، ثمَّ
اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفر، فَأَشَارَ
إِلَيْهِ عدي بن حَاتِم بِقَتْلِهِم، فَقَامَ جرير والأشعث
فَقَالَا: بل استتبهم وكفلهم عَشَائِرهمْ، وروى ابْن أبي
شيبَة من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم أَن عدَّة
الْمَذْكُورين كَانُوا مائَة وَسبعين رجلا، وَمعنى التكفيل
هُنَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي حديطث حَمْزَة بن عَمْرو:
الضَّبْط والتعهد حَتَّى لَا يرجِعوا إِلَى الارتداد، لَا
أَنه كَفَالَة لَازِمَة.
وَقَالَ حَمَّادٌ إذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمات فَلا
شَيْءَ علَيْهِ وَقَالَ الحَكَمُ يَضْمَن
حَمَّاد هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان، واسْمه مُسلم
الْأَشْعَرِيّ أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي الْفَقِيه،
وَهُوَ أحد مَشَايِخ الإِمَام أبي حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَأكْثر الرِّوَايَة عَنهُ، وَثَّقَهُ
يحيى بن معِين وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهمَا، مَاتَ سنة
عشْرين وَمِائَة. وَالْحكم، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن
عتيبة، ومذهبه أَن الْكَفِيل بِالنَّفسِ يضمن الْحق
الَّذِي على الْمَطْلُوب، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي.
وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ إِذا تكفل
(12/115)
بِنَفسِهِ، وَعَلِيهِ مَال فَإِنَّهُ لم
يأتِ بِهِ غرم المَال، وَيرجع بِهِ على الْمَطْلُوب، فَإِن
اشْترط ضَمَان نَفسه أَو وَجهه وَقَالَ: لَا أضمن المَال
فَلَا شَيْء عَلَيْهِ من المَال.
(قَالَ أَبُو عبد الله وَقَالَ اللَّيْث حَدثنِي جَعْفَر
بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن أبي
هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ذكر رجلا من بني
إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف
دِينَار فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أشهدهم فَقَالَ
كفى بِاللَّه شَهِيدا قَالَ فأتني بالكفيل قَالَ كفى
بِاللَّه كَفِيلا قَالَ صدقت فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل
مسلمى فَخرج فِي الْبَحْر فَقضى حَاجته ثمَّ التمس مركبا
يركبهَا يقدم عَلَيْهِ للأجل الَّذِي أَجله فَلم يجد مركبا
فَأخذ خَشَبَة فنقرها فَأدْخل فِيهَا ألف دِينَار وصحيفة
مِنْهُ إِلَى صَاحبه ثمَّ زجج موضعهَا ثمَّ أَتَى بهَا
إِلَى الْبَحْر فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي كنت
تسلفت فلَانا ألف دِينَار فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقلت كفى
بِاللَّه كَفِيلا فَرضِي بك وسألني شَهِيدا فَقلت كفى
بِاللَّه شَهِيدا فَرضِي بك وَأَنِّي جهدت أَن أجد مركبا
أبْعث إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلم أقدر وَإِنِّي أستودعكها
فَرمى بهَا فِي الْبَحْر حَتَّى ولجت فِيهِ ثمَّ انْصَرف
وَهُوَ فِي ذَلِك يلْتَمس مركبا يخرج إِلَى بَلَده فَخرج
الرجل الَّذِي كَانَ أسلفه ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ
بِمَالِه فَإِذا بالخشبة الَّتِي فِيهَا المَال فَأَخذهَا
لأَهله حطبا فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة ثمَّ قدم
الَّذِي كَانَ أسلفه فَأتى بِالْألف دِينَار فَقَالَ
وَالله مَا زلت جاهدا فِي طلب مركب لآتيك بِمَالك فَمَا
وجدت مركبا قبل الَّذِي أتيت فِيهِ قَالَ هَل كنت بعثت
إِلَيّ بِشَيْء قَالَ أخْبرك أَنِّي لم أجد مركبا قبل
الَّذِي جِئْت فِيهِ قَالَ فَإِن الله قد أدّى عَنْك
الَّذِي بعثت فِي الْخَشَبَة فَانْصَرف بِالْألف
الدِّينَار راشدا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله
فَسَأَلَنِي كَفِيلا وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ
نَفسه وعلقه عَن اللَّيْث بن سعد عَن جَعْفَر بن ربيعَة
ابْن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة الْقرشِي الْمصْرِيّ عَن عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة وَمضى
هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي بَاب مَا يسْتَخْرج
من الْبَحْر وعلقه فِيهِ أَيْضا عَن اللَّيْث عَن جَعْفَر
بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج وَلكنه مُخْتَصر وَكَذَلِكَ ذكره
مُعَلّقا عَن اللَّيْث نَحوه مُخْتَصرا فِي كتاب الْبيُوع
فِي بَاب التِّجَارَة فِي الْبَحْر وَقد ذكرنَا هُنَاكَ
أَنه أخرجه أَيْضا فِي الاستقراض واللقطة والشروط
والاستئذان وَمر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصى وَنَذْكُر
هُنَا أَيْضا أَشْيَاء لزِيَادَة التَّوْضِيح وَالْبَيَان
وَقَالَ بَعضهم أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل لم أَقف
على اسْمه لَكِن رَأَيْت فِي مُسْند الصَّحَابَة الَّذين
نزلُوا مصر لمُحَمد بن الرّبيع الجيزي لَهُ بِإِسْنَاد
لَهُ فِيهِ مَجْهُول عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
يرفعهُ أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّجَاشِيّ فَقَالَ لَهُ
أَسْلفنِي ألف دِينَار إِلَى أجل فَقَالَ من الْحميل بك
قَالَ الله فَأعْطَاهُ الْألف وَضرب بهَا الْأَجَل أَي
سَافر بهَا فِي تِجَارَة فَلَمَّا بلغ الْأَجَل أَرَادَ
الْخُرُوج إِلَيْهِ فحبسته الرّيح فَعمل تابوتا فَذكر
الحَدِيث نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ هَذَا
الْقَائِل واستفدنا مِنْهُ أَن الَّذِي أقْرض هُوَ
النَّجَاشِيّ فَيجوز أَن يكون نسبته إِلَى بني إِسْرَائِيل
بطرِيق الِاتِّبَاع لَهُم لَا أَنه من نسلهم انْتهى قلت
انْتهى هَذَا الْكَلَام فِي الْبعد إِلَى حد السُّقُوط
لِأَن السَّائِل والمسؤل مِنْهُ كِلَاهُمَا من بني
إِسْرَائِيل على مَا يُصَرح بِهِ ظَاهر الْكَلَام وَبَين
الْحَبَشَة وَبني إِسْرَائِيل بعد عَظِيم فِي النِّسْبَة
وَفِي الأَرْض وَيبعد أَن يكون ذَلِك الانتساب إِلَى بني
إِسْرَائِيل بطرِيق الِاتِّبَاع وَهَذَا يأباه من لَهُ نظر
تَامّ فِي تصرفه فِي وُجُوه مَعَاني الْكَلَام على أَن
الحَدِيث الْمَذْكُور ضَعِيف لَا يعْمل بِهِ فَافْهَم
قَوْله " مركبا " أَي سفينة قَوْله " يقدم " بِفَتْح
الدَّال وَهُوَ جملَة حَالية قَوْله " وصحيفة " أَي
مَكْتُوبًا قَوْله " زحج " بالزاي وَالْجِيم قَالَ
الْخطابِيّ أَي
(12/116)
سوى مَوضِع النقر وَأَصْلحهُ وَهُوَ من
تزجيج الحواجب وَهُوَ حذف زَوَائِد الشّعْر وَقَالَ عِيَاض
وَمَعْنَاهُ سمرها بمسامير كالزج أَو حشي شقوق لصاقها
بِشَيْء ورقعه بالزج قَوْله " تسلفت فلَانا " قَالَ بَعضهم
كَذَا وَقع هُنَا وَالْمَعْرُوف تعديته بِحرف الْجَرّ
كَمَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ استلفت من
فلَان (قلت) تنظيره باستلفت غير موجه لِأَن تسلفت من بَاب
التفعل واستسلفت من بَاب الاستفعال وَتفعل يَأْتِي للمتعدي
بِلَا حرف الْجَرّ كتوسد التُّرَاب واستسلفت مَعْنَاهُ
طلبت مِنْهُ السّلف وَلَا بُد من حرف الْجَرّ قَوْله "
فَرضِي بذلك " هَذِه رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة
غَيره " فَرضِي بِهِ " وَرِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ "
فَرضِي بك " قَوْله " جهدت " بِفَتْح الْجِيم وَالْهَاء
قَوْله " حَتَّى ولجت " فِيهِ بتَخْفِيف اللَّام أَي
حَتَّى دخلت فِي الْبَحْر من الولوج وَهُوَ الدُّخُول
قَوْله " وَهُوَ فِي ذَلِك " الْوَاو فِيهِ للْحَال قَوْله
" يلْتَمس " أَي يطْلب قَوْله " ينظر " جملَة حَالية
قَوْله " فَإِذا بالخشبة " كلمة إِذا للمفاجأة قَوْله "
حطبا " نصب على أَنه مفعول لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره
فَأَخذهَا لأجل أَهله يَجْعَلهَا حطبا للإيقاد قَوْله "
فَلَمَّا نشرها " أَي قطعهَا بِالْمِنْشَارِ وَفِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ " فَلَمَّا كسرهَا " وَفِي رِوَايَة
أبي سَلمَة " وَغدا رب المَال يسْأَل عَن صَاحبه كَمَا
كَانَ يسْأَل فيجد الْخَشَبَة فيحملها إِلَى أَهله فَقَالَ
أوقدوا هَذِه فكسروها فانتثرت الدَّنَانِير مِنْهَا
والصحيفة فقرأها وَعرف قَوْله " فَانْصَرف بِالْألف
الدِّينَار " وَهَذَا على مَذْهَب الْكُوفِيّين وَرَاشِد
أنصب على الْحَال من فَاعل انْصَرف (ذكر مَا يُسْتَفَاد
مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز التحدث عَمَّا كَانَ فِي زمن بني
إِسْرَائِيل وَقد جَاءَ " تحدثُوا عَن بني إِسْرَائِيل
وَلَا حرج عَلَيْكُم " وَفِيه جَوَاز التِّجَارَة فِي
الْبَحْر وَجَوَاز ركُوبه وَفِيه جَوَاز أجل الْقَرْض
احْتج بِهِ من يرى بذلك وَمن مَنعه يَقُول الْقَرْض
إِعَارَة والتأجيل فِيهَا غير لَازم لِأَنَّهَا تبرع وَأما
الَّذِي فِي الحَدِيث فَكَانَ على سَبِيل الْمُسَامحَة لَا
على طَرِيق الْإِلْزَام وَفِيه طلب الشُّهُود فِي الدّين
وَطلب الْكَفِيل بِهِ وَفِيه فضل التَّوَكُّل على الله
وَأَن من صَحَّ توكله تكفل الله بنصره وعونه قَالَ عز وَجل
{وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} وَفِيه أَن جَمِيع مَا
يُوجد فِي الْبَحْر فَهُوَ لواجده مَا لم يُعلمهُ ملكا
لأحد -
2 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {والَّذِينَ عاقَدَتْ
أيْمَانُكم فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (النِّسَاء: 33) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان معنى قَول الله تَعَالَى:
{وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) .
وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن
الْكفَالَة الْتِزَام بِغَيْر عوض تَطَوّعا فتلزم كَمَا
لزم اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث بِالْحلف الَّذِي وجد على وَجه
التَّطَوُّع، وَأول الْآيَة: {وَلكُل جعلنَا موَالِي
مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذين عقدت
أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم إِن الله كَانَ على كل شَيْء
شَهِيدا} (النِّسَاء: 33) . قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد
وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو صَالح وَقَتَادَة وَزيد بن
أسلم وَالسُّديّ وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حَيَّان:
{وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . أَي: وَرَثَة.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَي عصبَة، وَقَالَ ابْن
جرير: الْعَرَب تسمي ابْن الْعم مولى، وَقَالَ الزّجاج:
الْمولى كل من يليك وكل من والاك فِي محبَّة فَهُوَ مولى
لَك. قلت: لفظ الْمولى مُشْتَرك يُطلق على معانٍ كَثِيرَة،
يُطلق على الْمُنعم والمعتِق والمعتَق وَالْجَار والناصر
والصهر والرب وَالتَّابِع، وَزَاد ابْن الباقلاني فِي
(مَنَاقِب الْأَئِمَّة) : الْمَكَان والقرار، وَأما
بِمَعْنى الْوَلِيّ فكثير، وَلَا يعرف فِي اللُّغَة
بِمَعْنى الإِمَام. قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم}
(النِّسَاء: 33) . قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير:
عاقدت، هُوَ مولى الْيَمين وَهُوَ الْحلف، وَذكر ابْن أبي
حَاتِم عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَجَمَاعَة آخَرين أَنهم الحلفاء، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق:
أَنبأَنَا الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد فِي
قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) .
قَالَ: كَانَ هَذَا حلفا فِي الْجَاهِلِيَّة. قَوْله:
{عاقدت} (النِّسَاء: 33) . من المعاقدة، مفاعلة من عقد
الْحلف، وقرىء: عقدت، هُوَ حلف الْجَاهِلِيَّة كَانُوا
يتوارثون بِهِ وَنسخ بِآيَة الْمَوَارِيث. وَفِي
(تَفْسِير) عبد بن حميد من حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن
عبد الله بن عُبَيْدَة: العقد خَمْسَة: عقدَة النِّكَاح،
وعقدة الشَّرِيك لَا يخونه وَلَا يَظْلمه، وعقدة البيع،
وعقدة الْعَهْد. قَالَ الله عز وَجل: {أَوْفوا
بِالْعُقُودِ} (الْمَائِدَة: 1) . وعقدة الْحلف، قَالَ
الله عز وَجل: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء:
33) . وَفِي (تَفْسِير) مقَاتل: كَانَ الرجل يرغب فِي
الرجل فيحالفه ويعاقده على أَن يكون مَعَه وَله من
مِيرَاثه كبعض وَلَده، فَلَمَّا نزلت آيَة الْمَوَارِيث
جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر
لَهُ ذَلِك، فَنزلت: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم}
(النِّسَاء: 33) . الْآيَة، يَعْنِي: أعطوهم الَّذِي سميتم
لَهُ من الْمَوَارِيث، وَعَن عِكْرِمَة: {وَالَّذين عاقدت
أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . الْآيَة ... كَانَ الرجل
يحالف الرجل لَيْسَ بَينهمَا نسب، فيرث أَحدهمَا
(12/117)
الآخر، فنسخ ذَلِك فِي الْأَنْفَال:
{وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} (الْأَنْفَال:
57) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر
وَابْنه عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
حِين أَبى الْإِسْلَام، فَحلف أَبُو بكر أَن لَا يورثه.
فَلَمَّا أسلم أمره الله عز وَجل: أَن يورثه نصِيبه.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: الَّذِي يجب أَن يحمل
عَلَيْهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور فِي الْبَاب أَن
يكون {وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . نَاسِخا
لما كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَأَن يكون {وَالَّذين عاقدت
أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . غير نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ.
وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: إِنَّهَا مَنْسُوخَة، وَمثله
يرْوى عَن ابْن عَبَّاس. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا
محكمَة: مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير، وَبِه قَالَ أَبُو
حنيفَة: وَقَالَ: هَذَا الحكم باقٍ غير مَنْسُوخ، وَجمع
بَين الْآيَتَيْنِ بِأَن جعل أولى الْأَرْحَام أولى من
أَوْلِيَاء المعاقدة، فَإِذا فقد ذَوُو الْأَرْحَام ورث
المعاقدون وَكَانُوا أَحَق بِهِ من بَيت المَال. قَوْله:
{إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا} (النِّسَاء: 33) .
يَعْنِي: إِن الله شَاهد بَيْنكُم فِي تِلْكَ العهود
والمعاقدات وَلَا تنشؤا بعد نزُول هَذِه الْآيَة معاقدة.
2922 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدثنَا
أَبُو أُسامَةَ عنْ إدْرِيسَ عنْ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّفٍ
عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا {ولِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}
(النِّسَاء: 33) . قَالَ ورَثَةً {والَّذِينَ عاقَدَتْ
أيْمانُكُمْ} (النِّسَاء: 33) . قَالَ كانَ المُهَاجِرُونَ
لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهَاجِرُ
الأنْصَاريَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي
آخَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُمْ فلَمَّا
نَزَلَتْ {ولِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَاليَ} (النِّسَاء: 33) .
نَسَخَتْ ثُمَّ قَالَ {والَّذِينَ عاقَدَتْ أيْمَانُكُمْ}
(النِّسَاء: 33) . إلاَّ النَّصْرَ والرِّفَادَةَ
والنَّصِيحَةَ وقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ ويُوصَى لَهُ.؟
وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي الْكفَالَة وَالْحوالَة
مَا قيل: إِن الْكَفِيل والغريم الَّذِي وَقعت الْحِوَالَة
عَلَيْهِ ينْتَقل الْحق عَلَيْهِ كَمَا ينْتَقل هَهُنَا حق
الْوَارِث عَنهُ إِلَى الْحلف، فَشبه انْتِقَال الْحق على
الْمُكَلف بانتقاله عَنهُ، أَو بِاعْتِبَار أَن أحد
الْمُتَعَاقدين كَفِيل عَن الآخر، لِأَنَّهُ كَانَ من
جملَة المعاقدة، لأَنهم كَانُوا يذكرُونَ فِيهَا: تطلب بِي
وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عَنْك، وَأما وَجه الْمُطَابقَة
بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث فَظَاهر.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الصَّلْت، بِفَتْح الصَّاد
الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من
فَوق: ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو همام الخاركي، مر فِي:
بَاب إِذا لم يتم السُّجُود. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة
حَمَّاد بن أُسَامَة، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث:
إِدْرِيس بن يزِيد من الزِّيَادَة الأودي، بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة.
الرَّابِع: طَلْحَة بن مصرف، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من
التصريف، بِمَعْنى: التَّغْيِير: ابْن عَمْرو اليامي من
بني يام، مر فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا يتنزه من
الشُّبُهَات. الْخَامِس: سعيد بن جُبَير. السَّادِس: عبد
الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن شَيْخه بَصرِي والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ،
وَطَلْحَة بن مصرف روى عَن عبد الله بن أبي أوفى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد أَيْضا،
وَفِي الْفَرَائِض عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي الْفَرَائِض عَن
هَارُون بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ: وَرَثَة) أَي: فسر ابْن
عَبَّاس الموَالِي بالورثة، وَكَذَا فَسرهَا جمَاعَة من
التَّابِعين، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (قَالَ)
، أَي: ابْن عَبَّاس: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ. . إِلَى
آخِره. قَوْله: (دون ذَوي رَحمَه) ، أَي: ذَوي أقربائه.
قَوْله: (للأخوة) أَي: لأجل الْأُخوة الَّتِي آخى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمد الْهمزَة، يُقَال: آخاه
يؤاخيه مؤاخاة وإخاء بِالْكَسْرِ: إِذا جعل بَينهمَا أخوة،
والأخوة مصدر يُقَال: أحوت تاخوا إخْوَة. قَوْله: (بَينهم)
أَي: بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله: (فَلَمَّا
نزلت) ، أَي: الْآيَة الَّتِي هِيَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . نسخت آيَة
الموَالِي آيَة المعاقدة. قَوْله: (إِلَّا النَّصْر) ،
مُسْتَثْنى من الْأَحْكَام الْمقدرَة فِي الْآيَة
المنسوخة، أَي: تِلْكَ الْآيَة حكم نصيب الْإِرْث لَا
النَّصْر والرفادة، بِكَسْر الرَّاء أَي: المعاونة،
والرفادة أَيْضا شَيْء كَانَ تتوافد بِهِ قُرَيْش فِي
الْجَاهِلِيَّة، يخرج مَالا يشترى بِهِ للْحَاج طَعَام
(12/118)
وزبيب للنبيذ، وَيجوز أَن يكون هَذَا
اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا أَي: لَكِن النَّصْر وَنَحْوه
باقٍ ثَابت. قَوْله: (وَقد ذهب الْمِيرَاث) أَي: من
الْمُتَعَاقدين. قَوْله: (ويوصى لَهُ) ، على صِيغَة
الْمَعْلُوم والمجهول، وَالضَّمِير فِي: لَهُ، يرجع إِلَى
الَّذِي كَانَ يَرث الْمَيِّت بالأخوة، وَعَن ابْن
الْمسيب: نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلكُل جعلنَا موَالِي}
(النِّسَاء: 33) . فِي الَّذين كَانُوا يتبنون رجَالًا غير
أبنائهم ويورثونهم، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم أَن
يَجْعَل لَهُم نصيب فِي الْوَصِيَّة، ورد الْمِيرَاث إِلَى
الموَالِي من ذَوي الرَّحِم والعصبة، وأبى أَن يَجْعَل
للمدعين مِيرَاث من أدعاهم وتبناهم، وَلَكِن جعل لَهُم
نَصِيبا فِي الْوَصِيَّة.
3922 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ
جَعْفَرٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ
عَوْفٍ فآخَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُ
وبَيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيع. .
هَذَا الحَدِيث قد مضى فِي أَوَائِل كتاب الْبيُوع،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس عَن
زُهَيْر عَن حميد عَن أنس، وَهنا أخرجه: عَن قُتَيْبَة بن
سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن أبي كثير أبي
إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمُؤَدب الْمَدِينِيّ عَن
حميد الطَّوِيل ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
4922 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّاءَ قالَ حدَّثنا عاصِمٌ قَالَ
قُلْتُ ل أِنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أبَلَغَكَ أنَّ
النبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ حِلْفَ فِي
الإسلامِ فَقَالَ قَدْ حالَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ والأنصَارِ فِي دارِي.
لذكر هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب وَجه ظَاهر،
وَمُحَمّد بن الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة:
أَبُو جَعْفَر الدولابي، أَصله هروي نزل بَغْدَاد
وَإِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا أَبُو زِيَاد الْأَسدي
الخلقاني الْكُوفِي، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان
الْأَحول.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام عَن
مُسَدّد عَن عباد بن عباد. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل
عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن حَفْص ابْن غياث، وَعَن أبي
بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير، وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان
ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (أبلغك؟) الْهمزَة فِيهِ
للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (لَا حلف) ،
بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، وَفِي
آخِره فَاء، وَهُوَ الْعَهْد يكون بَين الْقَوْم،
وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يتعاهدون فِي الْإِسْلَام على
الْأَشْيَاء الَّتِي كَانُوا يتعاهدون عَلَيْهَا فِي
الْجَاهِلِيَّة، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من
حَدِيث سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن
إبيه عَن جُبَير ابْن مطعم مَرْفُوعا: لَا حلف فِي
الأسلام، وَإِنَّمَا حلف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده
الْإِسْلَام إلاَّ شدَّة، وَقَالَ ابْن سَيّده: معنى لَا
حلف فِي الْإِسْلَام أَي: لَا تعاهد على فعل شَيْء كَانُوا
فِي الْجَاهِلِيَّة يتعاهدون، والمحالفة فِي حَدِيث أنس
هِيَ الإخاء، قَالَه ابْن التِّين. قَالَ: وَذَلِكَ أَن
الْحلف فِي الْجَاهِلِيَّة هُوَ بِمَعْنى النُّصْرَة فِي
الْإِسْلَام. وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي (التَّهْذِيب) :
فَإِن قيل: قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حلف
فِي الْإِسْلَام) ، وَهُوَ يُعَارض قَول أنس: حَالف رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار
فِي دَاري بِالْمَدِينَةِ، قيل لَهُ: هَذَا كَانَ فِي أول
الْإِسْلَام، آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار.
قَالَ: وَالَّذِي قَالَ فِيهِ مَا كَانَ من حلف فَلَنْ
يزِيدهُ الْإِسْلَام إلاَّ شدَّة، يَعْنِي: مَا لم ينسخه
الْإِسْلَام وَلم يُبطلهُ حكم الْقُرْآن، وَهُوَ التعاون
على الْحق والنصرة وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم.
3 - (بابُ مَنْ تَكَفَّلَ عنْ مَيِّتٍ دَيْنالله فلَيْسَ
لَهُ أنْ يَرْجِعَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من تكفل عَن ميت دينا كَانَ
عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع عَن الْكفَالَة
لِأَنَّهَا لَزِمته وَاسْتقر الْحق فِي ذمَّته. قيل
يحْتَمل أَن يُرِيد فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع فِي التَّرِكَة
بِالْقدرِ الَّذِي تكفل بِهِ. قلت: قد ذكرنَا أَن فِيهِ
اخْتِلَاف الْعلمَاء، فَقَالَ ابْن أبي ليلى: الضَّمَان
لَازم سَوَاء ترك الْمَيِّت شَيْئا أم لَا. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، فَإِن ترك الْمَيِّت شَيْئا
ضمن بِقدر مَا ترك، وَإِن ترك وَفَاء ضمن جَمِيع مَا تكفل
بِهِ. وَلَا رُجُوع لَهُ فِي التَّرِكَة لِأَنَّهُ
مُتَطَوّع. وَقَالَ مَالك: لَهُ الرُّجُوع إِذا ادَّعَاهُ.
(12/119)
وَبِه قالَ الحَسَنُ
أَي: بِعَدَمِ الرُّجُوع قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ
قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء.
5922 - حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي
عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَع رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي
بِجَنازَةٍ لِيُصَلِّي عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ
مِنْ دَيْنٍ قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ
بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ
قَالُوا نَعَمْ قَالَ صَلُّوا عَلى صاحِبِكُمْ. قَالَ أبُو
قَتَادَةَ علَيَ دَيْنُهُ يَا رَسُول الله فَصَلَّى
عليْهِ. (انْظُر الحَدِيث 9822) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ أَبُو قَتَادَة
عَليّ دينه) ، والْحَدِيث قد مضى بأتم مِنْهُ فِي: بَاب
إِذا أحَال دين الْمَيِّت على رجل جَازَ، قبل هَذَا
الْبَاب ببابين، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْمَكِّيّ
بن إِبْرَاهِيم عَن يزِيد بن أبي عُبَيْدَة عَن سَلمَة
إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن أبي عَاصِم وَهُوَ
الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا
الحَدِيث ثامن ثلاثيات البُخَارِيّ. قلت: هَذَا الحَدِيث
قد مر مرّة كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن فَلَا يكون هَذَا
ثامنا، بل سابعا، وَذكر هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ فِي
الْحِوَالَة وَذكره هَهُنَا فِي الْكفَالَة لِأَنَّهُمَا
متحدان عِنْد الْبَعْض أَو متقاربان، ثمَّ إِنَّه اقْتصر
فِي هَذَا الطَّرِيق على ذكر جنازتين من الْأَمْوَات،
وَهنا ذكر ثَلَاثَة، وَقد سَاقه الْإِسْمَاعِيلِيّ هُنَا
أَيْضا تَاما وَزَاد فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: ثَلَاث كيات، وَكَأَنَّهُ ذكر ذَلِك لكَونه كَانَ
من أهل الصّفة فَلم يُعجبهُ أَن يدّخر شَيْئا.
6922 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ ووقال سَمِعَ محَمَّدَ بنَ
عَلِيٍّ عنْ جابرِ ابنِ عَبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ
قدْ جاءَ مالُ البَحْرَيْنِ قَدْ أعْطَيْتُكَ هَكَذَا
وهَكذَا فَلَمْ يَجِيءْ مالُ البَحْرَيْنِ حتَّى قبِضَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا جاءَ مالُ
البَحْرَيْنِ أمَرَ أبُو بَكْرٍ فنَادَى منْ كانَ لَهُ
عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِدَةٌ أوْ دَيْنٌ
فَلْيَأْتِنَا فأتَيْتُهُ فَقُلْتُ إنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي كَذَا وكذَا فَحَثَى لِي حَثْيَهُ
فَعَدَدْتُها فإذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَقَالَ خُذْ
مِثْلَيْهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أَبَا بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، كَمَا قَامَ مقَام النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، تكفل بِمَا كَانَ عَلَيْهِ من وَاجِب أَو
تطوع، فَلَمَّا الْتزم ذَلِك لزمَه أَن يُوفي جَمِيع مَا
عَلَيْهِ من دين وعدة، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يحب الْوَفَاء بالوعد، وَنفذ أَبُو بكر ذَلِك.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن
عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مدنيان
وسُفْيَان وَعَمْرو مكيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ
عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَعَمْرو بن دِينَار
روى كثيرا عَن جَابر، وَهَهُنَا كَانَ بَينهمَا وَاسِطَة
هُوَ: مُحَمَّد بن عَليّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الْخمس عَن عَليّ بن عبد الله أَيْضا، وَفِي
الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَفِي الشَّهَادَات عَن
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن
حَاتِم وَعَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَو قد جَاءَ) ، وَمعنى: قد،
هَهُنَا لتحَقّق الْمَجِيء. قَوْله: (مَال الْبَحْرين) ،
وَالْمرَاد بِالْمَالِ مَال الْجِزْيَة، والبحرين على لفظ
تَثْنِيَة الْبَحْر، مَوضِع بَين الْبَصْرَة وعمان،
وَكَانَ الْعَامِل عَلَيْهَا من جِهَة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ. قَوْله: (قد
(12/120)
أَعطيتك هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا)
وَفِي الشَّهَادَات: فَبسط يَده ثَلَاث مَرَّات. قَوْله:
(عدَّة) أَي: وأصل عدَّة وعد، فَلَمَّا حذفت الْوَاو عوضت
عَنْهَا الْيَاء فِي آخِره فوزنه على هَذَا عِلّة. قَوْله:
(فَحثى لي حثية) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، والحثية
ملْء الْكَفّ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ الحفنة.
وَقَالَ ابْن فَارس: هِيَ ملْء الْكَفَّيْنِ وَالْفَاء
فِي: فَحثى، عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره: خُذ هَكَذَا،
وَأَشَارَ بيدَيْهِ، وَفِي الْوَاقِع هُوَ تَفْسِير
لقَوْله: خُذ هَكَذَا. قَوْله: (وَقَالَ خُذ مثليها) ،
أَي: قَالَ أَبُو بكر: خُذ أَيْضا مثلي خَمْسمِائَة،
فالجملة ألف وَخَمْسمِائة، وَذَلِكَ لِأَن جَابِرا لما
قَالَ: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي:
كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ لَهُ: لَو قد جَاءَ مَال الْبَحْرين أَعطيتك هَكَذَا
وَهَكَذَا وَهَكَذَا، ثَلَاث مَرَّات، حثى لَهُ أَبُو بكر
حثية، فَجَاءَت خَمْسمِائَة، ثمَّ قَالَ: خُذ مثليها،
ليصير ثَلَاث مَرَّات تنفيذا لما وعده النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: هَكَذَا، ثَلَاث مَرَّات، وَكَانَ
ذَلِك وَعدا من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَكَانَ من خلقه الْوَفَاء بالعهد، ونفذه أَبُو بكر بعد
وَفَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد الْعدْل من
الصَّحَابَة وَلَو جر ذَلِك نفعا لنَفسِهِ، لِأَن أَبَا
بكر لم يلْتَمس من جَابر شَاهدا على صِحَة دَعْوَاهُ.
انْتهى. قلت: إِنَّمَا لم يلْتَمس شَاهدا مِنْهُ لِأَنَّهُ
عدل بِالْكتاب وَالسّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى:
{كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} (آل عمرَان: 01) .
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} (الْبَقَرَة: 341) .
فَمثل جَابر إِن لم يكن من خير أمة فَمن يكون. وَأما
السّنة: فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كذب عَليّ
مُتَعَمدا. .) الحَدِيث، وَلَا يظنّ ذَلِك لمُسلم. فضلا
عَن صَحَابِيّ، فَلَو وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة الْيَوْم
فَلَا تقبل إلاَّ بِبَيِّنَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل
أَيْضا: وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، علم بذلك فَقضى لَهُ بِعِلْمِهِ فيستدل
بِهِ على جَوَاز مثل ذَلِك للْحَاكِم. انْتهى.
قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ تَفْصِيل وَلَيْسَ على
الْإِطْلَاق، لِأَن علم القَاضِي على أَنْوَاع.
مِنْهَا: مَا يعلم بِهِ قبل الْبلُوغ وَقبل الْولَايَة من
الْأَقْوَال الَّتِي يسْمعهَا وَالْأَفْعَال الَّتِي
يشاهدها. وَمِنْهَا: مَا يعلمهَا بعد الْبلُوغ قبل
الْولَايَة. وَمِنْهَا: مَا يُعلمهُ بعد الْولَايَة
وَلَكِن فِي غير عمله الَّذِي وليه. وَمِنْهَا: مَا
يُعلمهُ بعد الْولَايَة فِي عمله الَّذِي وليه. فَفِي
الْفَصْل الأول: لَا يقْضِي بِعِلْمِهِ مُطلقًا. وَفِي
الْفَصْل الثَّانِي: خلاف بَين أبي حنيفَة وصاحبيه،
فَعِنْدَ أبي حنيفَة: لَا يقْضِي، وَعِنْدَهُمَا: يقْضِي
إلاَّ فِي الْحُدُود وَالْقصاص، وَعَن الشَّافِعِي
قَولَانِ، وَفِي الثَّانِي: لَا يقْضِي أَيْضا، وَفِي
الرَّابِع: يقْضِي بِلَا خلاف. وَقَالَ ابْن التِّين: فِي
الحَدِيث جَوَاز هبة الْمَجْهُول والآبق وَالْكَلب، وَفِي
(حاوي) الْحَنَابِلَة: وَتَصِح هبة الْمشَاع، وَإِن
تَعَذَّرَتْ قسمته، وَفِي (الرَّوْضَة) للشَّافِعِيَّة:
تجوز هبة الْمشَاع سَوَاء المنقسم أَو غَيره، وساء وهبه
للشَّرِيك أَو غَيره، وَيجوز هبة الأَرْض المزروعة مَعَ
زَرعهَا وَدون زَرعهَا وَعَكسه. انْتهى، وَعِنْدنَا: لَا
تجوز الْهِبَة فِيمَا لَا يقسم إلاَّ محوزة أَي: مفرغة عَن
أَمْلَاك الْوَاهِب حَتَّى لَا تصح هبة الثَّمر على الشّجر
وَالزَّرْع على الأَرْض بِدُونِ الشّجر وَالْأَرْض،
وَكَذَا الْعَكْس، وَهبة الْمشَاع فِيمَا لَا يقسم
جَائِزَة.
وَفِيه: الْعدة، فجمهور الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على أَن إنجاز الْعدة مُسْتَحبّ،
وأوجه الْحسن وَبَعض الْمَالِكِيَّة، وَقد اسْتدلَّ بعض
الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على وجوب الْوَفَاء
بالوعد فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنهم
زَعَمُوا أَنه من خَصَائِصه، وَلَا دلَالَة فِيهِ أصلا لَا
على الْوُجُوب وَلَا على الخصوصية.
(بابُ جُوَارِ أبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وعَقْدِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جوَار أبي بكر الصّديق، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، بِضَم الْجِيم وَكسرهَا وَالْمرَاد
بِهِ: الزِّمَام والأمان. قَوْله: (فِي عهد النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي زَمَنه. قَوْله: (وعقده)
أَي: عقد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
7922 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابنُ شِهابٍ فأخبَرَنِي
عُرْوَةُ ابنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قالَتْ لَمْ أعْقل أبَوَيَّ إلاَّ وهُمَا يَدِينانِ
الدِّين. وَقَالَ أَبُو صالحٍ حدَّثني عبدُ الله عنْ
يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ
(12/121)
الزُّبِيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمْ أعْقَلْ أبَوَيَّ قَطُّ
إلاَّ وهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ ولَمْ يَمُرَّ عَلَيْنا
يَوْمٌ إلاَّ يأتِينَا فيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم طَرَفَيِّ النَّهَارِ بُكْرَةً وعَشيَّةً فَلَمَّا
ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ خرَجَ أبُو بَكْرٍ مُهَاجِرا
قِبَلَ الحَبَشَةِ حتَّى إِذا بلَغَ بَرُكَ الْغِمَادِ
لَقِيَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ وهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ
فَقَالَ أيْنَ تريدُ يَا أبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
أخْرَجَنِي قَوْمِي فَأَنا أُرِيدُ أنْ أسِيحَ فِي الأرْضِ
فأعْبُدَ رَبِّييي قَالَ ابنُ الدَّغِنَةِ إنَّ مِثْلَكَ
لاَ يَخْرُجُ ولاَ يَخْرُجُ فإنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ
وتصِلْ الرَّحِمَ وتَحْمِلُ الْكَلَّ وتَقْرِي الضَّيْفَ
وتُعينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ وَأَنا لَكَ جارٌ فارْجِعْ
فاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلادِكَ فارْتَحَلَ ابنُ الدَّغِنَةِ
فرَجَعَ معَ أبِي بَكْرٍ فَطافَ فِي أشْرَافِ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إنَّ أبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ
مِثْلَهُ ولاَ يخْرَجُ أتُخْرِجُونَ رجُلاً يَكْسِبُ
المَعْدُومَ ويَصِلُ الرَّحِمَ ويَحْمِلُ الْكَلَّ ويقْرِي
الضَّيْفَ ويُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ فأنْفَذَتْ
قُرَيْشٌ جوَارَ ابنِ الدَّغِنَةِ وآمَنُوا أبَا بَكْرٍ
وقالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ
رَبَّهُ فِي دَارِهِ فلْيُصلِّ ولْيَقْرأ مَا شاءَ ولاَ
يْؤْذِينا بِذَلِكَ ولاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ فإنَّا قَدْ
خَشِينَايي أنْ يَفْتَنَ أبْناءَنا ونساءَنا قَالَ ذَلِكَ
ابنُ الدَّغِنَةِ لأِبِي بَكْرٍ فطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ
يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ
بِالصَّلاةِ ولاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دارِهِ ثُمَّ
بدَا لأبِي بكْرٍ فابْتَنى مَسْجِدا بِفِناءِ دَارِهِ
وبَرَزَ فَكانَ يُصَلِّي فِيهِ ويَقْرَأُ القُرْآنَ
فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِساءُ المُشْرِكِينَ وأبْناؤُهُمْ
يَعْجَبُونَ ويَنْظُرُونَ إلَيْهِ وكانَ أبُو بَكْرٍ
رَجلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يقرَأُ
القُرآنَ فأفْزعَ ذَلِكَ أشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ
المُشْرِكِينَ فأرْسَلُوا إِلَى ابنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِم
عَلَيْهِمْ فقالُوا لَهُ إنَّا كُنَّا أجرْنا أبَا بَكْرٍ
عَلَى أنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وإنَّهْ جاوَزَ
ذَلِكَ فابْتَنَى مَسْجِدا بِفناءِ دَارِهِ وأعْلَنَ
الصَّلاَةَ والْقِراءَةَ وقدْ خَشِينا أنْ يَفْتِنَ
أبْنَاءَنا ونِسَاءَنا فأْتِهِ فإنَّ أحَبَّ أنْ
يَقْتَصِرَ علَى أنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فَي دَارِه فَعلَ
وإنْ أبَى إلاَّ أَن يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أنْ يَرُدِّ
إلَيْكَ ذِمَّتِكَ فإنَّا كَرِهْنَا أنْ نُخْفِرَكَ
ولَسْنا مُقِرِّينَ لأِبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ قالتْ
عائِشَةُ فأتَى ابنُ الدَّغِنَةِ أبَا بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ
عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فإمَّا أنْ
تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وإمَّا أنْ تَرُدَّ إلَيَّ
ذِمَّتِي فإنِّي لَا أُحِبُّ أنْ تَسْمَعَ العَرَبُ أنِّي
أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ قَالَ أبُو بَكْرٍ
إنِّي أرُدُّ إلَيْكَ جِوَارَكَ وأرْضِي بِجَوَارِ الله
ورَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ
بِمَكَّةَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَدْ أُريتُ دارَ هِجْرَتِكُمْ رَأيْتُ سَبْخَةً ذاتَ
نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ وهُما الحَرَّتَانِ فَهاجَرَ
منْ هاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ
بَعْضُ منْ كانَ هاجَرَ إلَى أرْضِ الحَبَشَةِ وتَجَهَّزَ
أبُو بَكْرٍ مُهاجِرا فَقَالَ لَهُ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَى رِسْلِكَ فإنِّي أرْجُو أَن يُؤْذَنَ
لِي قَالَ أبُو بَكْرٍ هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بأبِي أنْتَ
قَالَ نَعَمْ فحَبَسَ أبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ علَى رسولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيَصْحَبَهُ وعَلَفَ
رَاحِلَتَيْنِ كانَتَا
(12/122)
عِنْدَهُ ورقَ السَّمُرِ أرْبَعَةَ
أشْهُرٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن المجير مُلْتَزم
للمجار أَن لَا يُؤْذِي من جِهَة من أَجَارَ مِنْهُ
وَكَانَ ضمن لَهُ أَن لَا يُؤْذِي وَأَن تكون الْعهْدَة
فِي ذَلِك عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَمَّا قيل،
كَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر هَذَا فِي كَفَالَة الْأَبدَان
كَمَا ناسب {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33)
. كَفَالَة الْأَمْوَال.
ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة: الأول: يحيى بن بكير، هُوَ يحيى
بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي.
الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم
الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام. السَّادِس: أَبُو صَالح، وَاخْتلف فِي اسْمه،
فَقَالَ أَبُو نعيم والأصيلي والجياني وَآخَرُونَ: إِنَّه
سُلَيْمَان ابْن صَالح ولقبه سلمويه وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ هُوَ أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح
كَاتب اللَّيْث وَقَالَ الدمياطي: هُوَ أَبُو صَالح
مَحْبُوب بن مُوسَى الْفراء. قيل: الْمُعْتَمد على الأول
لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن عَن الْفربرِي عَن
البُخَارِيّ، قَالَ: قَالَ أَبُو صَالح سلمويه: حَدثنَا
عبد الله بن الْمُبَارك. السَّابِع: عبد الله بن
الْمُبَارك. الثَّامِن: يُونُس بن يزِيد. التَّاسِع: أم
الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي
سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بنسبته
إِلَى جده، وَأَنه وَاللَّيْث وَأَبا صَالح على قَول من
يَقُول: إِنَّه كَاتب اللَّيْث مصريون، وَعقيل إيلي
وَالزهْرِيّ وَعُرْوَة مدنيان وَعبد الله بن الْمُبَارك
وَأَبُو صَالح، على قَول من يَقُول: إِنَّه سلمويه،
مروزيان، وَعبد الله على قَول من يَقُول: أَبُو صَالح
كَاتب اللَّيْث، هُوَ عبد الله بن وهب، مصري.
وَقد مضى صدر هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْمَسَاجِد
فِي: بَاب الْمَسْجِد يكون فِي الطَّرِيق، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن
شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة زوج النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: لم أَعقل أَبَوي إِلَّا وهما
يدينان ... الحَدِيث مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي
عُرْوَة) ، فِيهِ مَحْذُوف. وَقَوله: (فَأَخْبرنِي) ، عطف
عَلَيْهِ تَقْدِيره: قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي كَذَا
وَكَذَا، وعقيب ذَلِك أَخْبرنِي بِهَذَا. قَوْله: (قَالَ
أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله:
(وَقَالَ أَبُو صَالح: حَدثنِي عبد الله) ، هَذَا تَعْلِيق
سقط من رِوَايَة أبي ذَر، وسَاق الحَدِيث عَن عقيل وَحده.
قَوْله: (لم أَعقل أَبَوي) ، أَي: لم أعرف، يَعْنِي مَا
وجدتهما مُنْذُ عقلت إلاَّ متدينين بدين الْإِسْلَام.
قَوْله: (قطّ) ، بتَشْديد الطَّاء الْمَضْمُونَة للنَّفْي
فِي الْمَاضِي، تَقول مَا رَأَيْته قطّ. وَقَالَ أَبُو
عَليّ: وَقد تجزم إِذا كَانَت بِمَعْنى التَّعْلِيل، وتضم
وتثقل إِذا كَانَت فِي معنى الزَّمن والحين من الدَّهْر،
تَقول: لم أر هَذَا قطّ، وَلَيْسَ عِنْدِي إلاَّ هَذَا
فَقَط. قَوْله: (وهما يدينان الدّين) ، أَي: يطيعان الله،
وَذَلِكَ أَن مولدها بعد الْبَعْث بِسنتَيْنِ، وَقيل:
بِخمْس، وَقيل: بِسبع، وَلَا وَجه لَهُ لإجماعهم أَنَّهَا
كَانَت حِين هَاجر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنت
ثَمَان، وَأكْثر مَا قيل أَن مقَامه بِمَكَّة بعد الْبَعْث
ثَلَاث عشرَة سنة، وَإِنَّمَا يَصح خمس على قَول من
يَقُول: أَقَامَ ثَلَاث عشرَة سنة، وسنتين على قَول من
يَقُول: أَقَامَ عشرا بهَا، وَتَزَوجهَا وَهِي بنت سِتّ،
وَقيل: سبع، وَبنى بهَا وَهِي بنت تسع، وَمَات عَنْهَا
وَهِي بنت ثَمَانِي عشر سنة، وَعَاشَتْ بعده ثَمَان
وَأَرْبَعين سنة. قَوْله: (فَلَمَّا ابتلى الْمُسلمُونَ)
أَي: بإيذاء الْمُشْركين. قَوْله: (خرج أَبُو بكر
مُهَاجرا) أَي: حَال كَونه مُهَاجرا. وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: أصل المهاجرة عِنْد الْعَرَب خُرُوج البدوي
من الْبَادِيَة إِلَى المدن، يُقَال: هَاجر البدوي إِذا
حضر وَأقَام كَأَنَّهُ ترك الأولى للثَّانِيَة. قَوْله:
(حَتَّى إِذا بلغ برك الغماد) ، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة على الْأَكْثَر، ويروى بِكَسْرِهَا وبسكون
الرَّاء وبالكاف، وَفِي (الْمطَالع) : وبكسر الْبَاء، وَقع
للأصيلي وَالْمُسْتَمْلِي وَأبي مُحَمَّد الْحَمَوِيّ،
قَالَ: وَهُوَ مَوضِع بأقاصي هجر، والغماد، بِكَسْر
الْغَيْن وَضمّهَا. كَذَا ذكره ابْن دُرَيْد. وف (مُعْجم)
الْبكْرِيّ، قَالَ أَحْمد بن يَعْقُوب الْهَمدَانِي: برك
الغماد فِي أقْصَى الْيمن. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: برك
ونعام موضعان فِي أَطْرَاف الْيمن. وَقَالَ الهجري: برك من
الْيَمَامَة. وَقيل: إِن البرك والبريك مُصَغرًا لبني
هِلَال بن عَامر. قَوْله: (ابْن الدغنة) ، بِفَتْح الدَّال
الْمُهْملَة
(12/123)
وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون
المخففة، على مِثَال الْكَلِمَة، وَيُقَال: بِضَم الدَّال
والغين وَتَشْديد النُّون، وَيُقَال: بِفَتْح الدَّال
وَسُكُون الْغَيْن، وَفِي الْمطَالع عِنْد الْمروزِي:
الدغنة، بِفَتْح الدَّال وبفتح الْغَيْن. قَالَ
الْأصيلِيّ: كَذَا قرأناه، وَعند الْقَابِسِيّ: الدغنة،
بِفَتْح الدَّال وَكسر الْغَيْن وَتَخْفِيف النُّون، وَحكى
الجياني فِيهِ الْوَجْهَيْنِ، وَيُقَال: ابْن الدثنة
أَيْضا، وتسكن الثَّاء أَيْضا، والدغنة: اسْم أمه،
وَمَعْنَاهُ لُغَة: الْغَيْم الممطر، والدثنة الْكَثِيرَة
اللَّحْم المسترخية. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: واسْمه ربيعَة
بن رفيع. قَوْله: (وَهُوَ سيد القارة) ، بِالْقَافِ
وَتَخْفِيف الرَّاء: قَبيلَة مَوْصُوفَة بجودة الرَّمْي.
وَفِي (الْمطَالع) : القارة بَنو الْهون بن خُزَيْمَة.
قلت: خُزَيْمَة بن مدركة بن الياس بن مُضر، سموا بذلك
لأَنهم فِي بعض حربهم لبني بكر صفوا فِي قارة، وَقَالَ
ابْن دُرَيْد: القارة أكمة سَوْدَاء فِيهَا حِجَارَة.
قَوْله: (أَن أسيح) ، أَي: أَن أَسِير، يُقَال: ساح فِي
الأَرْض يسيح سياحة إِذا ذهب فِيهَا، وَأَصله من السيح،
وَهُوَ المَاء الْجَارِي المنبسط على الأَرْض. قَوْله:
(لَا يَخرُج) ، على بِنَاء الْفَاعِل (وَلَا يُخرج) ، على
بِنَاء الْمَفْعُول. قَوْله: (تكسب الْمَعْدُوم) أَي: تكسب
معاونة الْفَقِير، وتحقيقه مر فِي كتاب الْإِيمَان.
قَوْله: (وَتحمل الْكل) ، بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد
اللَّام، وَهُوَ الثّقل، أَي: ثقل العجزة، كَذَا فسره
الْكرْمَانِي. وَفِي (الْمغرب) : الْكل الْيَتِيم، وَمن
هُوَ عِيَال وَثقل على صَاحبه. قَوْله: (وتقرى الضَّيْف) ،
بِفَتْح التَّاء من: قرى يقري، من بَاب: ضرب يضْرب، تَقول:
قريت قرى، مثل: قليته قلى، وقراءً: أَحْسَنت إِلَيْهِ،
إِذا كسرت الْقَاف قصرت، وَإِذا فتحت مددت. وَفِي
(الْمطَالع) : الْقرى، بِالْكَسْرِ مَقْصُورا مَا يهيأ
للضيف من طَعَام، وَنزل. وَقَالَ القالي: إِذا فتحت أَوله
مددته. قَوْله: (على نَوَائِب الْحق) ، النوائب: جمع
نائبة. وَهِي مَا يَنُوب الْإِنْسَان، أَي: ينزل بِهِ من
الْمُهِمَّات والحوادث، من نابه ينوبه شَيْء إِذا نزل بِهِ
واعتراه. قَوْله: (وَأَنا لَك جَار) ، أَي مجير، وَفِي
(الصِّحَاح) : الْجَار الَّذِي أجرته من أَن يَظْلمه
ظَالِم. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي جَار لكم}
(الْأَنْفَال: 84) . وَالْمعْنَى هُنَا: أَنا مؤمنك مِمَّن
أخافك مِنْهُم، وَفِي (الْمغرب) : أجاره يجيره إِجَارَة:
إغاثة، والهمزة للسلب، وَالْجَار المجير والمجار. قَوْله:
(فَرجع مَعَ أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ،
وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: رَجَعَ أَبُو بكر مَعَه، عكس
الْمَذْكُور، وَلَكِن هَذَا من إِطْلَاق الرُّجُوع
وَإِرَادَة لَازمه الَّذِي هُوَ الْمَجِيء، أَو: هُوَ من
قبيل المشاكلة، لِأَن أَبَا بكر كَانَ رَاجعا، وَأطلق
الرُّجُوع بِاعْتِبَار مَا كَانَ قبله بِمَكَّة. قَوْله:
(فَطَافَ) ، أَي: ابْن الدغنة (فِي أَشْرَاف كفار قُرَيْش)
أَي: ساداتهم، وهم جمع شرِيف، وشريف الْقَوْم سيدهم
وَكَبِيرهمْ. قَوْله: (أتخرجون؟) ، بِضَم التَّاء: من
الْإِخْرَاج، والهمزة للاستفهام على سَبِيل الأنكار.
قَوْله: (يكْسب الْمَعْدُوم) جملَة فِي مَحل النصب
لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: رجلا، وَمَا بعده عطف عَلَيْهَا.
قَوْله: (فانفذت) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي: امضوا
جواره وَرَضوا بِهِ (وآمنوا أَبَا بكر) أَي: جَعَلُوهُ فِي
أَمن ضد الْخَوْف قَوْله: (مُر) ، أَمر من: يَأْمر.
قَوْله: (فليعبد) ، قيل: الْفَاء، لَا معنى لَهَا هُنَا،
وَقيل: تَقْدِيره: مر أَبَا بكر ليعبد ربه، فليعبد ربه،
قَالَه الْكرْمَانِي قلت: هَذَا الَّذِي ذكره أَيْضا لَا
معنى لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيد زِيَادَة شَيْء، بل تصلح
الْفَاء أَن تكون جَزَاء شَرط، تَقْدِيره: مر أَبَا بكر
إِذا قبل مَا تشْتَرط عَلَيْهِ فليعبد ربه فِي دَاره.
قَوْله: (بذلك) ، إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من الصَّلَاة
وَالْقِرَاءَة. قَوْله: (وَلَا يستعلن بِهِ) ، أَي:
بالمذكور من الصَّلَاة وَالْقِرَاءَة، والاستعلان:
الْجَهْر، وَلَكِن مُرَادهم الْجَهْر بِدِينِهِ وَصلَاته
وقراءته. قَوْله: (أَن يفتن) ، بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف من الْفِتْنَة، يُقَال: فتنته أفتنه فتنا
وفتونا. وَيُقَال: أفتنه، وَهُوَ قَلِيل، والفتنة
تسْتَعْمل على معانٍ كَثِيرة، وَأَصلهَا الامتحان،
وَالْمرَاد هُنَا أَن يخرج أَبْنَاءَهُم ونساءهم مِمَّا هم
فِيهِ من الضلال إِلَى الدّين. وَقَوله: (أبناءنا)
مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: أَن يفتن (قَالَ ذَلِك)
أَي: قَالَ ابْن الدغنة: وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى مَا شرطت
أَشْرَاف قُرَيْش عَلَيْهِ. قَوْله: (فَطَفِقَ أَبُو بكر)
، بِكَسْر الْفَاء، يُقَال: طفق يفعل كَذَا، مثل جعل يفعل
كَذَا، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، وَلكنه من النَّوْع
الَّذِي يدل على الشُّرُوع فِيهِ، وَيعْمل عمل كَانَ،
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : يُقَال: طفق يفعل كَذَا،
مثل: ظلّ. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن ظلّ من الْأَفْعَال
النَّاقِصَة، وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : طفق مَا نسي
طفوقا إِذا دَامَ فعله لَيْلًا وَنَهَارًا، وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى: {فَطَفِقَ مسحا} (ص: 33) . الْآيَة، وَفِيه نظر
(ثمَّ بدا لأبي بكر) ، أَي: ظهر لَهُ رَأْي فِي أمره
بِخِلَاف مَا كَانَ يَفْعَله. قَوْله: (فابتنى مَسْجِدا
بِفنَاء دَاره) ، بِكَسْر الْفَاء، وَهُوَ مَا امْتَدَّ من
جَوَانِب الدَّار وَهُوَ أول مَسْجِد بني فِي الْإِسْلَام،
قَالَه أَبُو الْحسن. قَالَ الدَّاودِيّ: بِهَذَا يَقُول
مَالك وفريق من الْعلمَاء إِن من كَانَت لداره طَرِيقا
متسعا لَهُ أَن يرتفق مِنْهَا بِمَا لَا يضر بِالطَّرِيقِ.
قَوْله: (وبرز) ، أَي: ظهر من البروز. قَوْله:
(12/124)
(فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ) ، أَي: فِي
الْمَسْجِد الَّذِي بناه بِفنَاء دَاره. قَوْله: (فيتقصف)
، أَي: يزدحم حيضا حَتَّى يكسر بَعضهم بَعْضًا بالوقوع
عَلَيْهِ، وأصل القصف الْكسر وَمِنْه ريح قاصفة، أَي:
شَدِيدَة تكسر الشّجر. قَوْله: (بكَّاء) ، مُبَالغَة باكي
من الْبكاء. قَوْله: (فأفزع ذَلِك) ، من الْفَزع وَهُوَ
الْخَوْف، وَذَلِكَ فِي مَحل الرّفْع، فَاعله: وَهُوَ
إِشَارَة إِلَى مَا فعله أَبُو بكر من قِرَاءَة الْقُرْآن
جَهرا وبكائه. وَقَوله: (أَشْرَاف قُرَيْش) ، كَلَام إضافي
مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول أفزع. قَوْله: (وَإِن جَاوز
ذَلِك) ، أَي: مَا شرطنا عَلَيْهِ. قَوْله: (وَإِن أَبى
إلاَّ أَن يعلن ذَلِك) ، أَي: وَإِن امْتنع إلاَّ أَن
يجْهر بِمَا ذكر من الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن.
قَوْله: (ذمنك) ، أَي: عَهْدك، قَوْله: (أَن نخفرك) ،
بِضَم النُّون وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالفاء: من
الإخفار، بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ نقض الْعَهْد، يُقَال:
خفرته إِذا أجرته وحميته، وأخفرته إِذا نقضت عَهده وَلم تف
بِهِ، والهمزة فِيهِ للسلب. قَوْله: (إِنِّي أخفرت) على
بِنَاء الْمَجْهُول. قَوْله: (أرْضى بجوار الله) ، أَي:
حماه. قَوْله: (قد أريت) ، على بِنَاء الْمَجْهُول.
قَوْله: (سبخَة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهِي
الأَرْض تعلوها الملوحة وَلَا تكَاد تنْبت شَيْئا إلاَّ
بعض الشّجر. قَوْله: (بَين لابتين) ، اللابتان تَثْنِيَة
لابة بِالتَّخْفِيفِ وَهِي أَرض فِيهَا حِجَارَة سود
كَأَنَّهَا احترقت بالنَّار، وَكَذَلِكَ الْحرَّة، بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء. قَوْله:
(مُهَاجرا) حَال، أَي: طَالب الْهِجْرَة من مَكَّة.
قَوْله: (على رسلك) ، بِكَسْر الرَّاء: على هينتك من غير
عجلة، يُقَال: إفعل كَذَا على رسلك، أَي اتئد، وَفِي
(التَّوْضِيح) : الرُّسُل، بِفَتْح الرَّاء: السّير السهل،
وَضَبطه فِي الأَصْل بِكَسْر الرَّاء، وَبَعض الرِّوَايَات
بِفَتْحِهَا. قَوْله: (أَن يُؤذن) على بِنَاء الْمَجْهُول
من الْإِذْن. قَوْله: (بِأبي) ، أَي: مفدى بِأبي. قَوْله:
(أَنْت) مُبْتَدأ وَخَبره: بِأبي، أَو: أَنْت، تَأْكِيد
لفاعل ترجو، و: بِأبي، قسم. قَوْله: (ورق السمر) ، بِفَتْح
السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم، قَالَ الْكرْمَانِي:
شجر الطلح، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ ضرب من شجر
الطلح، الْوَاحِد سَمُرَة. وَفِي (الْمغرب) : السمر من شجر
العضاه، وَهُوَ كل شجر يعظم وَله شوك وَهُوَ على
ضَرْبَيْنِ: خَالص وَغير خَالص، فالخالص: الغرف والطلح
وَالسّلم والسدر والسيال والسمر والينبوت والقتاد
الْأَعْظَم والكهنبل والغرب والعوسج، وَمَا لَيْسَ بخالص:
فالشوحط والنبع والشريان والسراء والنشم والعجرم والتالب،
وَوَاحِد العضاه عضاهة وعضهة وعضة، بِحَذْف الْهَاء
الْأَصْلِيَّة، كَمَا فِي الشّفة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْجَوَاز، وَكَانَ
مَعْرُوفا بَين الْعَرَب، وَكَانَ وُجُوه الْعَرَب يجيرون
من لَجأ إِلَيْهِم واستجار بهم، وَقد أَجَارَ أَبُو طَالب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يكون الْجوَار
إلاَّ لمن ظلم. وَفِيه: أَنه إِذا خشِي الْمُؤمن على نَفسه
من ظَالِم أَنه مُبَاح لَهُ وَجَائِز أَن يستجير بِمن
يمنعهُ ويحميه من الظُّلم، وَإِن كَانَ يجيره كَافِرًا،
إِن أَرَادَ الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ، وَإِن أَرَادَ
الْأَخْذ بالشدة فَلهُ ذَلِك، كَمَا رد الصّديق الْجوَار
وَرَضي بجوار الله وَرَسُوله، وَالصديق يَوْمئِذٍ كَانَ من
الْمُسْتَضْعَفِينَ، فآثر الصَّبْر على مَا ناله من
الْأَذَى محتسبا على الله تَعَالَى وإيفاء بِهِ فوفاه الله
لَهُ مَا وثق بِهِ فِيهِ وَلم ينله مَكْرُوه حَتَّى أذن
لَهُ فِي الْهِجْرَة فَخرج مَعَ حَبِيبه ونجاهما الله من
كيد أعدائهما حَتَّى بلغ مُرَاده من الله من إِظْهَار
النُّبُوَّة وإعلاء الدّين. وَفِيه: مَا كَانَ للصديق من
الْفضل والصدق فِي نصْرَة رَسُوله وبذله نَفسه وَمَاله فِي
ذَلِك مِمَّا لم يخف مَكَانَهُ وَلَا جهل مَوْضِعه.
وَفِيه: أَن كل من ينْتَفع بإقامته لَا يخرج من بَلَده
وَيمْنَع مِنْهُ إِن أَرَادَهُ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّد بن
سَلمَة: إِن الْفَقِيه لَيْسَ لَهُ أَن يَغْزُو لِأَن
ثمَّة من يَنُوب عَنهُ فِيهِ وَلَيْسَ يُوجد من يقوم
مقَامه فِي التَّعْلِيم، وَيمْنَع من الْخُرُوج أَن
أَرَادَهُ وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} الْآيَة.
5 - (بابُ الدَّيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الدّين، هَذَا هَكَذَا
وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَلَيْسَ فِي
رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت لَا بَاب وَلَا
تَرْجَمَة، وَسقط الحَدِيث أَيْضا من رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَابْن
شبويه: بَاب، بِغَيْر تَرْجَمَة وَبِه جزم
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَذكر ابْن بطال هَذَا الحَدِيث
الْمَذْكُور هُنَا فِي آخر: بَاب من تكفل عَن ميت بدين،
وَهَذَا هُوَ اللَّائِق، لِأَن الحَدِيث لَا تعلق لَهُ
بترجمة جوَار أبي بكر حَتَّى يكون مِنْهَا أَو يثبت: بَاب،
بِلَا تَرْجَمَة لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون كالفصل مِنْهَا
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَأما التَّرْجَمَة: بِبَاب الدّين
فمحلها أَن يكون فِي كتاب الْفَرْض. فَافْهَم.
(12/125)
8922 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي سلَمَةَ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُؤْتَى بالرَّجل
المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْألَ هَلْ تَرَكَ
لِدَيْنِهِ فَضْلا فإنْ حُدِّثَ أنَّهُ تَرَكَ لِدِينِهِ
وَفَاء صلَّى وإلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صلُّوا على
صاحِبِكُمْ فلَمَّا فَتَحَ الله عَليْهِ الفُتُوحَ قَالَ
أَنا أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِم فَمَنْ
تُوُفِّيَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ فَتُرِكَ دَيْنا فعَلَيَّ
قَضاؤُهُ ومنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي أَنه فِي بَيَان حكم
الدّين. وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم وَلَا سِيمَا بِهَذَا
السَّنَد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن
يحيى بن بكير. وَأخرجه: مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن عبد
الْملك بن شُعَيْب، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز
عَن أبي الْفضل مَكْتُوم بن الْعَبَّاس.
قَوْله: (عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة) ، هَكَذَا
رَوَاهُ عقيل، وَتَابعه يُونُس وَابْن أخي ابْن شهَاب
وَابْن أبي ذِئْب، كَمَا أخرجه مُسلم، وَخَالفهُم معمر
فَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر،
أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ. قَوْله:
(الْمُتَوفَّى) ، أَي: الْمَيِّت. قَوْله: (عَلَيْهِ
الدّين) ، جملَة حَالية. قَوْله: (فَيسْأَل) أَي: رَسُول
الله. قَوْله: (هَل ترك لدينِهِ فضلا) أَي: قدرا زَائِدا
على مؤونة تَجْهِيزه، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: قَضَاء،
بدل: فضلا، وَكَذَا هُوَ عِنْد مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن.
قَوْله: (وَفَاء) أَي: مَا يُوفي بِهِ دينه. قَوْله:
(وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يتْرك وَفَاء، قَالَ إِلَى آخِره،
قَوْله: (الْفتُوح) ، يَعْنِي: من الْغَنَائِم وَغير
ذَلِك. قَوْله: (أَنا أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم) ،
لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تكفل بدين من مَاتَ
من أمته معدما. وَهُوَ قَوْله: (فعلي قَضَاؤُهُ) ، قَوْله:
(فَترك دينا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة:
(فَترك دينا أَو ضَيْعَة) ، أَي: عيالاً، وَفِي رِوَايَة
أُخْرَى: (ضيَاعًا) ، وَأَصله مصدر: ضَاعَ يضيع ضيَاعًا،
بِفَتْح الضَّاد فَسمى الْعِيَال بِالْمَصْدَرِ، كَمَا
يُقَال: من مَاتَ وَترك فقرا أَي فُقَرَاء. قَوْله: (فعلي
قَضَاؤُهُ) ، أَي: مِمَّا أَفَاء الله تَعَالَى عَلَيْهِ
من الْغَنَائِم وَالصَّدقَات. قَوْله: (فلورثته) ، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (فَهُوَ لوَرثَته) ، وَفِي رِوَايَة عبد
الرَّحْمَن بن عمْرَة: (فليرثه عصبته) .
وَفِيه من الْفَوَائِد: تحريض النَّاس على قَضَاء
الدُّيُون فِي حياتهم والتوصل إِلَى الْبَرَاءَة مِنْهَا،
وَلَو لم يكن أَمر الدّين شَدِيدا لما ترك النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّلَاة على الْمَدْيُون، وَاخْتلف
فِي أَن صلَاته على الْمَدْيُون كَانَت حَرَامًا عَلَيْهِ
أَو جَائِزَة؟ حكى فِيهِ وَجْهَان، وَقَالَ الثَّوْريّ:
الصَّوَاب الْجَزْم بِجَوَازِهِ مَعَ وجود الضَّامِن،
وَقَالَ ابْن بطال: قَوْله: (من ترك دينا فعلي) ، نَاسخ
لتَركه الصَّلَاة على من مَاتَ وَعَلِيهِ دين. وَفِيه: إِن
الإِمَام يلْزمه أَن يفعل هَكَذَا فِيمَن مَاتَ وَعَلِيهِ
دين، فَإِن لم يَفْعَله وَقع الْقصاص مِنْهُ يَوْم
الْقِيَامَة وَالْإِثْم عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا إِن كَانَ
حق الْمَيِّت فِي بَيت الْمَيِّت بَقِي بِقدر مَا عَلَيْهِ
من الدّين وإلاَّ فبقسطه. |