عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
04 - (كَتابُ الوكالَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَنْوَاع الْوكَالَة وأحكامها
وَفِي بعض النّسخ: كتاب فِي الْوكَالَة، وَوَقعت
التَّسْمِيَة عِنْد أبي ذَر بعد كتاب الْوكَالَة، بِفَتْح
الْوَاو، وَجَاء بِكَسْرِهَا وَهِي التَّفْوِيض، يُقَال:
وكلت الْأَمر إِلَيْهِ وكلا ووكولاً إِذا فوضته إِلَيْهِ،
وَجَعَلته نَائِبا فِيهِ، وَالْوكَالَة هِيَ الْحِفْظ فِي
اللُّغَة، وَمِنْه الْوَكِيل فِي أَسمَاء الله تَعَالَى،
وَالتَّوْكِيل تَفْوِيض الْأَمر وَالتَّصَرُّف إِلَى
الْغَيْر، وَالْوَكِيل الْقَائِم بِمَا فوض إِلَيْهِ،
وَالله أعلم.
1 - (بابٌ فِي وَكالَةِ الشَّرِيكِ الشَّرِيكِ فِي
القِسْمَةِ وغَيْرِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وكَالَة الشَّرِيك فِي
الْقِسْمَة. قَوْله: (الشَّرِيك فِي الْقِسْمَة) بدل من:
الشَّرِيك، الأول. قَوْله: (أَو غَيرهَا) ، أَي: الشَّرِيك
فِي غير الْقِسْمَة، وَلم يَقع عِنْد النَّسَفِيّ لفظ:
بَاب، وَإِنَّمَا الَّذِي عِنْده: كتاب الْوكَالَة ووكالة
الشَّرِيك، بواو الْعَطف.
(12/126)
وقدْ أشْرَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم علِيّا فِي هَدْيهِ ثُمَّ أمَرَهُ بِقِسْمَتِهَا
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أشرك عليا فِي قسْمَة الْهَدْي. فَإِن قلت: لَيْسَ
من الْبَاب مَا يدل على الشّركَة فِي غير الْقِسْمَة. قلت:
يُؤْخَذ هَذَا بطرِيق الْإِلْحَاق، ثمَّ فِي الحَدِيث
شَيْئَانِ: أَحدهمَا: التَّشْرِيك فِي الْهَدْي، وَالْآخر:
التَّشْرِيك فِي الْقِسْمَة. أما الأول: فَرَوَاهُ جَابر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر عليا أَن يُقيم على إِحْرَامه وأشرك
فِي الْهَدْي، وَسَيَأْتِي مَوْصُولا فِي الشّركَة.
وَالْآخر: حَدِيث عَليّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أمره أَن يقوم على بدنه وَأَن يقسم بدنه كلهَا، وَقد
مضى فِي كتاب الْحَج مَوْصُولا فِي: بَاب لَا يُعْطي
الجزار من الْهَدْي شَيْئا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن
مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن
مُجَاهِد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: يَعْنِي: النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: فَقُمْت على الْبدن فَأمرنِي فقسمت
لحومها، ثمَّ أَمرنِي فقسمت جلالها وجلودها.
9922 - حدَّثنا قَبيصَةُ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ ابنِ
أبِي نجيح عنْ مُجاهِدٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي
لَيْلى عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
أمَرَني رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ
أتَصَدَّقَ بِجِلالِ الْبُدْنِ الَّتي نُحِرَتْ
وبِجُلُودِها. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه علم أَنه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أشركه فِي هَدْيه. والْحَدِيث مر فِي
الْبَاب الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن الَّذِي أخرجه عَن
مُحَمَّد بن كثير، وَهنا أخرجه عَن قبيصَة، بِفَتْح
الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عقبَة العامري
الْكُوفِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عبد الله بن أبي
نجيح إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
مُسْتَوفى، والجلال، بِكَسْر الْجِيم: جمع جلّ، وَالْبدن،
بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الدَّال وَضمّهَا: جمع
بَدَنَة، وَقَالَ ابْن بطال: وكَالَة الشَّرِيك جَائِزَة
كَمَا تجوز شركَة الْوَكِيل، وَهُوَ بِمَنْزِلَة
الْأَجْنَبِيّ فِي إِن ذَلِك مُبَاح مِنْهُ.
0032 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ قَالَ حَدثنَا
اللَّيْثُ عنْ يَزيدَ عنْ أبي الخَيْرِ عنْ عُقْبَة بنِ
عامِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أعطاهُ غنَما يَقْسِمُها علَى صَحابَتِه
فبَقِي عَتُودٌ فذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ ضَحِّ أنْتَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا وَكله على قسْمَة الضَّحَايَا وَهُوَ شريك
للْمَوْهُوب إِلَيْهِم، فتوكيله على ذَلِك كتوكيل شركائه
الَّذين قسم بَينهم الْأَضَاحِي. قيل: يحْتَمل أَن يكون
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهب لكل وَاحِد من الْمَقْسُوم
فيهم مَا صَار إِلَيْهِ فَلَا تتجه الشّركَة. وَأجِيب:
بِأَنَّهُ سَيَأْتِي حَدِيث فِي الْأَضَاحِي من طَرِيق آخر
بِلَفْظ: أَنه قسم بَينهم ضحايا، فَدلَّ على أَنه عين
تِلْكَ الْغنم للضحايا فوهب لَهُم جُمْلَتهَا، ثمَّ أَمر
عقبَة بقسمتها، فَيصح الِاسْتِدْلَال بِهِ لما ترْجم لَهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين:
ابْن خَالِد بن فروخ، مَاتَ بِمصْر فِي سنة تسع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث:
يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب أَبُو الرَّجَاء.
الرَّابِع: أَبُو الْخَيْر ضد الشَّرّ مرْثَد، بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة:
ابْن عبد الله. الْخَامِس: عقبَة بن عَمْرو.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه:
أَن شَيْخه من أَفْرَاده وكل الروَاة مصريون غير أَن
شَيْخه حراني حزرى لكنه سكن مصر وَمَات فِيهَا كَمَا
ذكرنَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الضحاياأيضا عَن عَمْرو بن خَالِد، فِي الشّركَة عَن
قُتَيْبَة، وَأخرجه مُسلم فِي الضَّحَايَا عَن قُتَيْبَة
وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ
جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ
عَن مُحَمَّد بن رمح.
قَوْله: (عتود) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَهُوَ
من أَوْلَاد الْمعز
(12/127)
صَغِير إِذا قوي، وَفِي (الصِّحَاح) :
العتود مَا رعى وَقَوي وأتى عَلَيْهِ حول، وَقيل: إِذا قدر
على السفاد، وَجمعه: أعتدة وعتان وعدان قَوْله: (ضحِّ
أَنْت) ، ويروى: ضح بِهِ أَي: بالعتود، وَهُوَ أَمر من:
ضحى يُضحي تضحية.
وَفِيه: الْأُضْحِية بِمَا يعْطى. وَفِيه: الِاخْتِصَار
بالأضحية بالجذع من الْمعز، لِأَن العتود من أَوْلَاد
الْمعز. وَفِيه: التَّوْكِيل بِالْقِسْمَةِ.
2 - (بابٌ إِذا وكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبيا فِي دارِ
الحَرْبِ أوْ فِي دارِ الإسْلامِ جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وكَّل ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَفِي دَار الْإِسْلَام) أَي: أَو وكَّل
حَرْبِيّا كَائِنا فِي دَار الْإِسْلَام، يَعْنِي: كَانَ
الْحَرْبِيّ فِي دَار الْإِسْلَام بِأَمَان ووكَّله مُسلم.
قَوْله: (جَازَ) ، أَي: التَّوْكِيل، يدل عَلَيْهِ قَوْله:
(وكل) كَمَا فِي قَوْله: {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى}
(الْمَائِدَة: 8) . أَي: الْعدْل أقرب ...
1032 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ
حدَّثني يوسُفُ بنُ المَاجِشُونِ عنْ صالِحِ بنِ
إبْرَاهِيمَ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ عنْ
أبِيهِ عنْ جَدِّهِ عبدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوفٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ كاتَبْتُ أُمَيَّةَ ابنَ خَلَفٍ
كِتَابا بِأَن يَحْفَظَني فِي صاغِيَتِي بِمَكَّةَ
وأحْفَظَهُ فِي صاغِيَتِهِ بالمَدِينَةِ فلَمَّا ذَكَرْتُ
الرَّحْمانَ قَالَ لاَ أعْرِفُ الرَّحْمانَ كاتِبْنِي
باسْمِكَ الذِي كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ فكَاتَبْتُهُ عبدُ
عَمْرٍ وفلَمَّا كانَ فِي يَوْم بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى
جَبَلٍ لأحْرِزَهُ حينَ نامَ النَّاسُ فأبْصَرَهُ بلالٌ
فخَرَجَ حتَّى وقَفَ علَى مَجْلِس مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ
أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجا أُمَيَّةُ
فَخَرجَ معَهُ فَرِيقٌ منَ الأنصَارِ فِي آثَارِنا فلَمَّا
خَشِيتُ أنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ
لأشْغلَهُمْ فقَتَلُوهُ ثمَّ أبَوْا حتَّى يَتْبَعُونا
وكانَ رجُلاً ثَقيلاً فلمَّا أدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ
ابْرُكْ فألْقَيْتُ علَيْهِ نَفْسِي لأِمْنَعَهُ
فتَخَلَّلُوهُ بالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ
وأصَابَ أحَدُهُم رِجلي بِسَيْفِهِ: وكانَ عَبْدُ
الرَّحْمانِ يُرِينَا ذَلِكَ الأثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ.
(الحَدِيث 1032 طرفه فِي: 1793) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف، وَهُوَ مُسلم فِي دَار الْإِسْلَام كَاتب إِلَى
أُميَّة بن خلف، وَهُوَ كَافِر فِي دَار الْحَرْب بتفويضه
إِلَيْهِ لينْظر فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ، وَهُوَ معنى
التَّوْكِيل، لِأَن الْوَكِيل إنماهو مرصد لمصَالح مُوكله
وَقَضَاء حَوَائِجه، ورد بِهَذَا مَا قَالَه ابْن التِّين:
لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث، وكَالَة إِنَّمَا تعاقد أَن
يجير كل وَاحِد مِنْهُمَا صاغية صَاحبه. فَإِن قلت:
بِمُجَرَّد هَذَا يَصح تَوْكِيل مُسلم حَرْبِيّا فِي دَار
الْحَرْب. قلت: الظَّاهِر أَن عبد الرَّحْمَن لم يفعل
هَذَا إلاَّ باطلاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَلم يُنكر عَلَيْهِ فَدلَّ على صِحَّته. فَإِن قلت:
التَّرْجَمَة فِي شَيْئَيْنِ والْحَدِيث لَا يدل إلاَّ على
أَحدهمَا، وَهُوَ: تَوْكِيل الْمُسلم حَرْبِيّا وَهُوَ فِي
دَار الْحَرْب، قلت: إِذا صَحَّ هَذَا فتوكيله إِيَّاه فِي
دَار الْإِسْلَام يكون بطرِيق الأولى أَن يَصح، وَقَالَ
ابْن الْمُنْذر: تَوْكِيل الْمُسلم حَرْبِيّا مستأمنا
وتوكيل الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن مُسلما لَا خلاف فِي
جَوَاز ذَلِك.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد
الله بن يحيى بن عَمْرو أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري
الأويسي. الثَّانِي: يُوسُف ابْن يَعْقُوب بن عبد الله بن
أبي سَلمَة الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا.
الثَّالِث: صَالح بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف الْقرشِي، يكنى أَبَا عَمْرو. الرَّابِع: أَبوهُ
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، يكنى أَبَا
إِسْحَاق، وَقيل: أَبَا مُحَمَّد، توفّي سنة سِتّ
وَتِسْعين. الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن عبد
عَوْف الْقرشِي أَبُو مُحَمَّد، أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود
لَهُم بِالْجنَّةِ، توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَدفن بِالبَقِيعِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَلَفظ الْمَاجشون هُوَ
لقب يَعْقُوب وَهُوَ لفظ فَارسي وَمَعْنَاهُ: المورد.
وَفِيه: أَن الروَاة
(12/128)
كلهم مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي
مُخْتَصرا عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كاتبت أُميَّة بن خلف) يَعْنِي:
كتبت إِلَيْهِ كتابا، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ:
عَاهَدت أُميَّة بن خلف وكاتبته، وَأُميَّة، بِضَم
الْهمزَة وَفتح الْمِيم المخففة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف: ابْن خلف، بِالْخَاءِ وَاللَّام المفتوحتين:
ابْن وهب ابْن حذافة بن جمح بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن
لؤَي بن غَالب بن فهر. وَقَالَ عُلَمَاء السّير: كَانَ
أُميَّة بن خلف الجُمَحِي أَشد النَّاس على رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء فِي يَوْم بِعظم نخر
فَفتهُ فِي يَده، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد تزْعم أَن رَبك
هَذَا، ثمَّ نفخه فطار، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قَالَ: من
يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم} (يس: 87) . قَوْله: (صاغيتي)
، بصاد مُهْملَة وغين مُعْجمَة: هِيَ المَال، وَقيل:
الْحَاشِيَة، يُقَال: صاغية الرجل: حَاشِيَته، وكل من يصغي
إِلَيْهِ، أَي: يمِيل، وَعَن الْقَزاز: صاغية الرجل أَهله،
يُقَال أكْرمُوا فلَانا فِي صاغيته، أَي: فِي أَهله،
وَقَالَ الْهَرَوِيّ: خالصته، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الصاغية هم الْقَوْم الَّذين يميلون إِلَيْهِ ويأتونه،
أَي: أَتْبَاعه وحواشيه. قلت: فعلى هَذَا تكون الصاغية
مُشْتَقَّة من: صغيت إِلَى فلَان، أَي: ملت بسمعي
إِلَيْهِ، وَمِنْه: {ولتصغي إِلَيْهِ أَفْئِدَة الَّذين
لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} (الْأَنْعَام: 311) . وكل مائل
إِلَى شَيْء أَو مَعَه فقد صغى إِلَيْهِ، وأصغى. وَفِي
حَدِيث الْهِرَّة: أَنه كَانَ يصغي لَهَا الْإِنَاء أَي:
يميله إِلَيْهَا ليسهل عَلَيْهَا الشّرْب مِنْهُ. وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: الصاغية خاصية الْإِنْسَان، والمائلون
إِلَيْهِ ذكره فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث، وَقيل:
الْأَشْبَه أَن يكون هَذَا هُوَ الْأَلْيَق بتفسير هَذَا
الحَدِيث، وَالله تَعَالَى أعلم، وَقَالَ ابْن التِّين:
وَرَوَاهُ الدَّاودِيّ: ظاعنتي، بالظاء المشالة
الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة بعْدهَا نون، ثمَّ
فسره: بِأَنَّهُ الشَّيْء الَّذِي يسفر إِلَيْهِ، قَالَ:
وَلم أر هَذَا لغيره. قَوْله: (لَا أعرف الرَّحْمَن) ،
قَالَ بَعضهم: أَي: لَا أعترف بتوحيده. قلت: هَذَا الَّذِي
فسره لَا يَقْتَضِيهِ قَوْله: (لَا أعرف الرَّحْمَن) ،
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه لما كتب إِلَيْهِ ذكر اسْمه
بِعَبْد الرَّحْمَن، فَقَالَ: مَا أعرف الرَّحْمَن الَّذِي
جعلت نَفسك عبدا لَهُ، أَلا ترى أَنه قَالَ: كاتبني
بِاسْمِك الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ اسْمه
فِي الْجَاهِلِيَّة: عبد عَمْرو، فَلذَلِك كَاتبه: عبد
عَمْرو، وَقيل: كَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: عبد
الْكَعْبَة فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
عبد الرَّحْمَن، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح مَعْنَاهُ لَا
أعبد من تعبده، وَهَذِه حمية الْجَاهِلِيَّة الَّتِي ذكرت
حِين لم يقرؤا كِتَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم
الْحُدَيْبِيَة، لما كتب: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم،
قَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن أكتب بِاسْمِك أللهم.
قَوْله: (وَلما كَانَ يَوْم بدر) ، يَعْنِي: غَزْوَة يَوْم
بدر، وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة السَّابِع عشر من رَمَضَان
فِي السّنة الثَّانِيَة، قَالَه عُرْوَة بن الزبير
وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَأَبُو جَعْفَر الباقر، وَقيل: غير
ذَلِك، وَلَكِن لَا خلاف أَنَّهَا فِي السّنة الثَّانِيَة
من الْهِجْرَة، وَبدر: بِئْر لرجل كَانَ يدعى بَدْرًا،
قَالَه الشّعبِيّ. وَقَالَ البلاذري: بدر اسْم مَاء
لخَالِد بن النَّضر، بَينه وَبَين الْمَدِينَة ثَمَانِيَة
برد. قَوْله: (لأحرزه) ، بِضَم الْهمزَة من الْإِحْرَاز
أَي: لأحفظه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لأحوزه من الْحِيَازَة
أَي: الْجمع، وَفِي بَعْضهَا من: الْحَوْز، أَي: الضَّبْط
وَالْحِفْظ، وَفِي بَعْضهَا: من التحويز أَي: التبعيد.
قَوْله: (حِين نَام النَّاس) ، أَي: حِين رقدوا، وَأَرَادَ
بذلك اغتنام غفلتهم ليصون دَمه. قَوْله: (فَأَبْصَرَهُ
بِلَال) ، أَي: أبْصر أُميَّة بِلَال بن حمامة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: بِلَال. قَوْله:
(أُميَّة بن خلف) ، بِالنّصب على الإغراء أَي: إلزموا
أُميَّة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالرَّفْع على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ أُميَّة. وَقَالَ بَعضهم: خبر
مُبْتَدأ مُضْمر. قلت: لَا يُقَال لمثل هَذَا الْمَحْذُوف
مُضْمر، وَلَيْسَ بمصطلح هَذَا، وَالْفرق بَين الْمُضمر
والمحذوف قَائِم. قَوْله: (لَا نجوت إِن نجى أُميَّة) ،
إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِلَال، لِأَن أُميَّة كَانَ يعذب
بِلَالًا بِمَكَّة عذَابا شَدِيدا لأجل إِسْلَامه، وَكَانَ
يُخرجهُ إِلَى الرمضاء إِذا حميت فيضجعه على ظَهره، ثمَّ
يَأْخُذ الصَّخْرَة الْعَظِيمَة فَيَضَعهَا على صَدره،
وَيَقُول: لَا تزَال هَكَذَا حَتَّى تفارق دين مُحَمَّد،
فَيَقُول بِلَال: أحد أحد. قَوْله: (فَخرج مَعَه) ، أَي:
فَخرج مَعَ بِلَال فريق من الْأَنْصَار، وَكَانَ قد استصرخ
بالأنصار وأغراهم على قَتله. قَوْله: (خلفت لَهُم ابْنه)
أَي: ابْن أُمِّيّه واسْمه عَليّ. قَوْله: (لأشغلهم) ،
بِضَم الْهمزَة، من الأشغال يَعْنِي: يشتغلون بِابْنِهِ
عَن أَبِيه أُميَّة. قَوْله: (فَقَتَلُوهُ) ، أَي: قتلوا
ابْنه، وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: فَكنت بَين
أُميَّة وَابْنه آخذ بأيديهما، فَلَمَّا رَآهُ بِلَال صرخَ
بِأَعْلَى صَوته: يَا أنصار الله! رَأس الْكفْر أُميَّة بن
خلف، فأحاطوا بِنَا، وَأَنا أذب عَنهُ، فَضرب رجل ابْنه
بِالسَّيْفِ فَوَقع، وَصَاح أُميَّة صَيْحَة مَا سَمِعت
مثلهَا قطّ، فَقلت: أَنْج نَفسك، فوَاللَّه لَا أُغني
عَنْك شَيْئا. قَوْله: (ثمَّ أَبَوا) ، من الإباء
بِمَعْنى: الِامْتِنَاع، ويروى: ثمَّ أَتَوا من
الْإِتْيَان. قَوْله: (وَكَانَ رجلا ثقيلاً) ، أَي: كَانَ
أُميَّة رجلا ضخما. قَوْله: (فَلَمَّا أدركونا) ، أَي:
قَالَ
(12/129)
عبد الرَّحْمَن: لما أدركنا الْأَنْصَار
وبلال مَعَهم (قلت لَهُ) : أَي: لأمية (أبرك) أَمر من
البروك (فبرك فألقيت عَلَيْهِ نَفسِي لأمنعه) مِنْهُم.
قَوْله: (فتجللوه بِالسُّيُوفِ) ، بِالْجِيم أَي: غشوه
بهَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر، وَفِي
رِوَايَة غَيرهمَا، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، أَي: أدخلُوا
أسيافهم خلاله حَتَّى وصلوا إِلَيْهِ وطعنوا بهَا من تحتي،
من قَوْلهم: خللته بِالرُّمْحِ، وأختللته، إِذا طعنته
بِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فتحلوه، بلام
وَاحِدَة مُشَدّدَة، وَالَّذِي قتل أُميَّة رجل من
الْأَنْصَار من بني مَازِن، وَقَالَ ابْن هِشَام: وَيُقَال
قَتله معَاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف،
اشْتَركُوا فِي قَتله، وَالَّذِي قتل عَليّ بن أُميَّة
عمار بن يَاسر. قَوْله: (وَأصَاب أحدهم) أَي: أحد الَّذين
باشروا قتل أُميَّة (رجْلي بِسَيْفِهِ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن قُريْشًا لم يكن
لَهُم أَمَان يَوْم بدر، وَلِهَذَا لم يجز بِلَال وَمن
مَعَه من الْأَنْصَار أَمَان عبد الرَّحْمَن، وَقد نسخ
هَذَا بِحَدِيث: يجير على الْمُسلمين أَدْنَاهُم. وَفِيه:
الْوَفَاء بالعهد، لِأَن عبد الرَّحْمَن كَانَ صديقا لأمية
بِمَكَّة فوفي بالعهد الَّذِي كَانَ بَينهمَا. وَقَالَ عبد
الرَّحْمَن: وَكَانَ اسْمِي عبد عَمْرو، فسميت عبد
الرَّحْمَن حِين أسلمت كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَكَانَ يلقاني
بِمَكَّة فَيَقُول: يَا عبد عَمْرو أرغبت عَن اسْم
سمَّاكَهُ أَبوك؟ فَأَقُول: نعم. فَيَقُول: إِنِّي لَا
أعرف الرَّحْمَن، فَاجْعَلْ بيني وَبَيْنك شَيْئا أَدْعُوك
بِهِ، فَسَماهُ عبد الإلَه، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر
مَرَرْت بِهِ وَهُوَ وَاقِف مَعَ ابْنه عَليّ بن أُميَّة
وَمَعِي أَدْرَاع وَأَنا أحملها، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:
يَا عبد عَمْرو، فَلم أجبه، ال: يَا عبد الإل هـ! قلت:
نعم. قَالَ: هَل لَك فِي؟ فَأَنا خير لَك من هَذِه الأدراع
الَّتِي مَعَك. قلت: نعم، فطرحت الأدراع من يَدي وَأخذت
بِيَدِهِ وَيَد ابْنه، وَهُوَ يَقُول: مَا رَأَيْت
كَالْيَوْمِ قطّ؟ فرآهما بِلَال، فَصَارَ أمره مَا ذكرنَا،
وَكَانَ عبد الرَّحْمَن يَقُول: رحم الله بِلَالًا، ذهبت
أدراعي وفجعني بأسيري. وَفِيه: مجازاة الْمُسلم الْكَافِر
على الْبر، يكون مِنْهُ للْمُسلمِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ
على جميل فعله، وَالسَّعْي لَهُ فِي تخليصه من الْقَتْل
وَشبهه. وَفِيه: أَيْضا: المجازاة على سوء الْفِعْل
بِمثلِهِ، والانتقام من الظَّالِم. وَفِيه: أَن من أُصِيب
حِين يَتَّقِي عَن مُشْرك أَنه لَا شَيْء فِيهِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله سَمِعَ يوسُفُ صالِحا
وإبْرَاهِيمُ أباهُ
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، سمع يُوسُف ...
إِلَى آخِره، ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن
الْمُسْتَمْلِي: يُوسُف هُوَ ابْن الْمَاجشون الْمَذْكُور
فِي سَنَد الحَدِيث الْمَذْكُور، وَصَالح هُوَ ابْن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَفَائِدَة ذكر
هَذَا، وَإِن كَانَ سماعهما علم من الْإِسْنَاد. تَحْقِيق
لِمَعْنى السماع حَتَّى لَا يظنّ أَنه عنعن بِمُجَرَّد
إِمْكَان السماع، كَمَا هُوَ مَذْهَب بعض الْمُحدثين،
كمسلم وَغَيره.
3 - (بابُ الوَكالَة فِي الصَّرْفِ والمِيزَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي الصّرْف،
يَعْنِي ف بيع النَّقْد بِالنَّقْدِ. قَوْله:
(وَالْمِيزَان) أَي: الْوكَالَة فِي الْمِيزَان، أَي: فِي
الْمَوْزُون.
وَقد وكَّل عُمَر وابنُ عُمَرَ فِي الصَّرْفِ
هَذَانِ تعليقان. أما تَعْلِيق عمر فوصله سعيد بن مَنْصُور
من طَرِيق مُوسَى بن أنس عَن أَبِيه أَن عمر أعطَاهُ آنِية
مموهة بِالذَّهَب، فَقَالَ لَهُ: إذهب فبعها، فَبَاعَهَا
من يَهُودِيّ بِضعْف وَزنه، فَقَالَ لَهُ عمر: أردده.
فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ: أزيدك. فَقَالَ لَهُ عمر: لَا
إلاَّ بوزنه. وَأما تَعْلِيق ابْن عمر فوصله سعيد بن
مَنْصُور أَيْضا من طَرِيق الْحسن بن سعد قَالَ: كَانَت لي
عِنْد ابْن عمر دَرَاهِم، فَأَصَبْت عِنْده دَنَانِير،
فَأرْسل معي رَسُولا إِلَى السُّوق، فَقَالَ: إِذا قَامَت
على سعرها فأعرضها عَلَيْهِ فَإِن أَخذهَا وإلاَّ فاشترِ
لَهُ حَقه، ثمَّ: إقضه إِيَّاه.
(12/130)
3032 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ
قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ المَجِيدِ بنِ سُهَيْلِ
بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابْن عَوْفٍ عنْ سَعِيدِ بنِ
المُسَيَّبِ عنْ أبي سعيدٍ الخُدْرِي وَأبي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعْمعلَ رجُلاً عَلَى خَيْبَرَ
فجاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنيبٍ فَقَالَ أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ
هَكَذَا فَقَالَ إنَّا لَنَأخُذُ الصَّاعَ مِنْ هذَا
بالصَّاعَيْنِ والصَّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ فَقَالَ لاَ
تفْعَلْ بِعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ
بالدَّرَاهِمِ جَنِينا وَقَالَ فِي المِيزَانِ مِثْلَ
ذَلِكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ لعامل خَيْبَر: (بِعْ الْجمع بِالدَّرَاهِمِ
ثمَّ ابتع) أَي: اشْتَرِ (بِالدَّرَاهِمِ جنيبا) وَهَذَا
تَوْكِيل فِي البيع وَالشِّرَاء، وَبيع الطَّعَام
بِالطَّعَامِ يدا بيد مثل الصّرْف سَوَاء، وَهُوَ شبهه فِي
الْمَعْنى، وَيكون بيع الدِّرْهَم بالدرهم وَالدِّينَار
بالدينار كَذَلِك، إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب إِذا أَرَادَ
بيع تمر بِتَمْر خير مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن
قُتَيْبَة عَن مَالك عَن عبد الْمجِيد ... إِلَى آخِره
نَحوه، غير أَنه لم يذكر هُنَاكَ: وَقَالَ فِي الْمِيزَان
مثل ذَلِك، مَعْنَاهُ أَن الموزونات حكمهَا فِي الرِّبَا
حكم المكيلات، فَلَا يُبَاع رَطْل برطلين. قَالَ
الدَّاودِيّ: أَي لَا يجوز التَّمْر بِالتَّمْرِ إلاَّ
كَيْلا بكيل، أَو وزنا بِوَزْن، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن
التِّين بِأَن التَّمْر لَا يُوزن. قلت: هَذَا غير وَارِد
عَلَيْهِ، لِأَن من التَّمْر تَمرا لَا يُبَاع إلاَّ
بِالْوَزْنِ، وَهَذَا التَّمْر الْعِرَاقِيّ لَا يُبَاع
فِي الْبِلَاد الشامية والمصرية إِلَّا بِالْوَزْنِ.
قَوْله: (عبد الْمجِيد) حكى ابْن عبد الْبر أَنه وَقع فِي
رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف: عبد الحميد، بِالْحَاء
الْمُهْملَة قبل الْمِيم، قَالَ: وَكَذَا وَقع ليحيى بن
يحيى اللَّيْثِيّ عَن مَالك، وَهُوَ خطأ، وَقد مر
الْكَلَام فِي شرح الحَدِيث هُنَاكَ فَنَذْكُر بعض شَيْء
وَهُوَ أَن اسْم ذَلِك الْعَامِل: سَواد بن غزيَّة،
والجنيب، بِفَتْح الْجِيم وَكسر النُّون: الْخِيَار من
التَّمْر، وَالْجمع، بِالْفَتْح: التَّمْر الْمُخْتَلط من
الْجيد والرديء.
4 - (بابٌ إذَا أبْصَرَ الرَّاعِي أوِ الوَكِيلُ شَاة
تَمُوتُ أوْ شَيْئا يَفْسُدُ ذَبَحَ وأصْلَحَ مَا يَخَافُ
علَيْهِ الْفَسادَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (إِذا أبْصر الرَّاعِي) أَي:
راعي الْغنم. قَوْله: (أَو الْوَكِيل) أَي: أَو أبْصر
الْوَكِيل. قَوْله: (شَاة) أَي: أبْصر الرَّاعِي مِنْهَا
شَاة تَمُوت، أَي: أشرفت على الْمَوْت. قَوْله: (أَو
شَيْئا يفْسد) ، يرجع إِلَى الْوَكِيل أَي: أَو أبْصر
الْوَكِيل شَيْئا يفْسد أَي أشرف على الْفساد. قَوْله:
(ذبح) أَي: الرَّاعِي ذبح تِلْكَ الشَّاة لِئَلَّا تذْهب
مجَّانا. قَوْله: (وَأصْلح) ، يرجع إِلَى الْوَكِيل، أَي:
أصلح مَا يخَاف عَلَيْهِ الْفساد بإبقائه، مثلا إِذا
كَانَت تَحت يَده فَاكِهَة أَو نَحْوهَا مِمَّا يخَاف
عَلَيْهِ الْفساد فَإِنَّهُ يصلح ذَلِك بِوَجْه من
الْوُجُوه الَّتِي لَا يحصل مِنْهُ ضَرَر للْمُوكل،
وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَين مَا ذكرت فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ، وَفِي بعض النّسخ: أَو أصلح مَا يخَاف
الْفساد، وَهُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي وَفِي
رِوَايَة ابْن شبويه: فَأصْلح بدل: وَأصْلح، وعَلى هَذِه
الرِّوَايَة جَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: جَازَ،
وَنَحْو ذَلِك، وعَلى رِوَايَة الْأصيلِيّ قَوْله: ذبح
وَأصْلح، جَوَاب الشَّرْط.
4023 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعَ
المُعْتَمِرَ قَالَ أنْبأنا عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ
أنَّهُ سَمِعَ ابنَ كعْبِ بنِ مالِكٍ يُحَدِّثُ عنْ أبِيهِ
أنَّهُ كانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسلْعٍ فأبْصَرَتْ
جارِيةٌ لَنا بِشاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتا فكَسَرَتْ
حَجَرا فذَبَحَتْها بِهِ فَقال لَهُمْ لاَ تأكُلُوا حتَّى
أسألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ أُرْسِلَ إلَى
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ يَسْألُهُ وأنَّهُ
سألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَاكَ أوْ
أرْسَلَ إلَيْهِ فأمَرَهُ بأكْلِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي مَسْأَلَة الرَّاعِي ظَاهِرَة،
لِأَن الْجَارِيَة كَانَت راعية للغنم، فَلَمَّا رَأَتْ
شَاة مِنْهَا تَمُوت ذبحتها، وَلما رفع
(12/131)
أمرهَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمر بأكلها وَلم يُنكر على من ذَبحهَا، وَأما
مَسْأَلَة الْوَكِيل فملحقة بهَا، لِأَن يَد كل من
الرَّاعِي وَالْوَكِيل يَد أَمَانَة فَلَا يعملان إلاَّ
بِمَا فِيهِ مصلحَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: الْجَارِيَة فِي
الحَدِيث كَانَت ملكا لصَاحب الْغنم. قلت: لَا يضرنا ذَلِك
لِأَن الْكَلَام فِي جَوَاز الذّبْح الَّذِي تتضمنه
التَّرْجَمَة، وَلَيْسَ الْكَلَام فِي الضَّمَان،
وَلِهَذَا رد على ابْن التِّين فِي قَوْله: لَيْسَ غَرَض
البُخَارِيّ بِحَدِيث الْبَاب الْكَلَام فِي تَحْلِيل
الذَّبِيحَة أَو تَحْرِيمهَا، وَإِنَّمَا غَرَضه إِسْقَاط
الضَّمَان عَن الرَّاعِي وَالْوَكِيل. انْتهى. وَالْغَرَض
الَّذِي نسبه إِلَى البُخَارِيّ لَا يدل عَلَيْهِ
الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه. الثَّانِي: مُعْتَمر بن
سُلَيْمَان. الثَّالِث: عبيد الله بن عمر الْعمريّ.
الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: ابْن كَعْب.
اخْتلف فِيهِ، ذكر الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) أَنه عبد الله
بن كَعْب حَيْثُ قَالَ: وَمن مُسْند كَعْب بن مَالك
الْأنْصَارِيّ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ثمَّ قَالَ عبد الله بن كَعْب ابْن مَالك عَن أَبِيه كَعْب
بن مَالك، ثمَّ ذكر هَذَا الحَدِيث، وروى ابْن وهب عَن
أُسَامَة بن زيد عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن ابْن
كَعْب عَن مَالك عَن أَبِيه طرفا من هَذَا الحَدِيث.
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنه عبد الرَّحْمَن، وَذكره
البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر فَسَماهُ: عبد الرَّحْمَن.
السَّادِس: كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ، هُوَ أحد
الثَّلَاثَة الَّذين نزل فيهم: {وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين
خلفوا} (التَّوْبَة: 811) [/ ح.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: لفظ
الإنباء بِصِيغَة الْجمع، وَلَا فرق بَين: أَنبأَنَا
وَأخْبرنَا عِنْد الْبَعْض، وَقَالَ آخَرُونَ: يجوز فِي
الإجازات أَن يَقُول: أَنبأَنَا، وَلَا يُقَال أخبرنَا.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول كتاب الْعلم. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ مروزي الأَصْل
النَّيْسَابُورِي الدَّارِيّ والمعتمر بَصرِي والبقية
مدنيون، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة ابْن عبد
الْأَعْلَى: حَدثنَا الْمُعْتَمِر سَمِعت عبيد الله عَن
نَافِع أَنه سمع ابْن كَعْب يخبر عبد الله بن عمر عَن
أَبِيه بِهَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْن
الْمُبَارك، عَن نَافِع: سمع رجال من الْأَنْصَار عَن ابْن
عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يقل عَن
أَبِيه، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى بن عقبَة عَن
نَافِع وَعبيدَة بن حميد عَن عبيد الله عَن نَافِع سمع أبي
بن كَعْب يخبر عبد الله: كَانَت لنا جَارِيَة ... لم يذكر
أَبَاهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن
نَافِع عَن ابْن عمر، وَلَيْسَ بِشَيْء وَهُوَ خطأ،
وَالصَّوَاب رِوَايَة مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن
نَافِع عَن رجل من الْأَنْصَار عَن معَاذ بن سعد أَو سعد
بن معَاذ: أَن جَارِيَة لكعب بِهَذَا ... وَالله أعلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي
عَن مُعْتَمر وَعَن صَدَقَة بن فضل وَعَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل وَعَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الذَّبَائِح عَن هناد بن السّري.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّه) ، أَي: إِن الشان.
قَوْله: (غنم) ، الْغنم يتَنَاوَل الشياه والمعز. قَوْله:
(بسلع) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام
وَفِي آخِره عين مُهْملَة: وَهُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ،
وَقيل: فَوق الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن سهل: بِسُكُون
اللَّام وَفتحهَا، وَذكر أَنه روى بالغين الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (أَو أرسل) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (عَن ذَلِك)
، أَي: عَن ذبح الْجَارِيَة الشَّاة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَصْدِيق الرَّاعِي
وَالْوَكِيل على مَا اؤتمن عَلَيْهِ حَتَّى يظْهر عَلَيْهِ
دَلِيل الْخِيَانَة وَالْكذب، وَهُوَ قَول مَالك
وَجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِذا خَافَ الْمَوْت
على شَاة فذبحها لم يضمن، وَيصدق أَن جَاءَ بهَا مذبوحة،
وَقَالَ غَيره: يضمن حَتَّى يبين، مَا قَالَ. وَاخْتلف
ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب إِذا أنزى على إناث الْمَاشِيَة
بِغَيْر أَمر أَرْبَابهَا فَهَلَكت؟ فَقَالَ ابْن
الْقَاسِم: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ من صَلَاح
المَال ونمائه. وَقَالَ أَشهب: عَلَيْهِ الضَّمَان،
وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ خمس فَوَائِد: جَوَاز ذَكَاة
النِّسَاء وَالْإِمَاء، والذكاة بِالْحجرِ، وذكاة مَا أشرف
على الْمَوْت، وذكاة غير الْمَالِك بِغَيْر وكَالَة.
وَفِيه: الْإِرْسَال بالسؤال وَالْجَوَاب. وَفِي
(التَّوْضِيح) : وَهُوَ فِي البُخَارِيّ على الشَّك، أرسل
أَو سَأَلَ وَلَا حجَّة فِيمَا شكّ فِيهِ. قلت: وَرِوَايَة
(الْمُوَطَّأ) صَرِيحَة
(12/132)
بالسؤال، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَن ابْن وهب.
وَفِيه: دَلِيل على إجَازَة ذَبِيحَة الْمَرْأَة بِغَيْر
ضَرُورَة إِذا أَحْسَنت الذّبْح، وَكَذَا الصَّبِي إِذا
طاقه، قَالَه ابْن عبد الْبر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَالْحسن ابْن حَيّ، وَرُوِيَ عَن
ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد
وَالنَّخَعِيّ. وَفِيه: أَن الذّبْح بِالْحجرِ يجوز، لَكِن
إِذا كَانَ حدا وأفرى الْأَوْدَاج وأنهر الدَّم. وَفِيه:
مَا اسْتدلَّ بِهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار: أَبُو حنيفَة
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري: على
جَوَاز مَا ذبح بِغَيْر إِذن مَالِكه، وردوا بِهِ على من
أَبى من أكل ذَبِيحَة السَّارِق وَالْغَاصِب، وهم دَاوُد
وَأَصْحَابه ومقدمهم عِكْرِمَة، وَهُوَ قَول شَاذ. وَفِيه:
جَوَاز أكل الْمَذْبُوح الَّذِي أشرف على الْمَوْت إِذا
كَانَ فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة، وإلاَّ فَلَا يجوز.
وَفِيه: جَوَاز الذّبْح بِكُل جارح إلاَّ السن وَالظفر
فَإِنَّهُمَا مستثنيان.
قَالَ عُبَيْدُ الله فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أمَةٌ وأنَّها
ذَبَحَتْ
عبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ
مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَيْهِ، وَفِي بعض
النّسخ: فَأَعْجَبَنِي.
تابَعَهُ عَبْدَةُ عنْ عُبَيْدِ الله
أَي: تَابع الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَبدة، بِفَتْح
الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان
الْكُوفِي فِي رِوَايَة: عَن عبيد الله الْمَذْكُور، وَذكر
البُخَارِيّ فِي الذَّبَائِح هَذِه الْمُتَابَعَة
مَوْصُولَة عَن صَدَقَة بن الْفضل، وَسَيَأْتِي، إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
5 - (بابٌ وكالَةُ الشَّاهِدِ والغَائِبِ جائِزَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ وكَالَة الشَّاهِد، أَي:
الْحَاضِر، ووكالة الْغَائِب جَائِزَة. قَوْله: (وكَالَة)
، بِالرَّفْع مُبْتَدأ. قَوْله: (الْغَائِب) ، عطف على
الشَّاهِد، وَقَوله: (جَائِزَة) ، خبر الْمُبْتَدَأ.
وكَتَبَ عَبْدُ الله بنُ عَمْرٍ وَإِلَى قَهْرَمانِهِ
وهْوَ غائِبٌ عنْهُ أنْ يَزَكِّي عنْ أهْلِهِ الصَّغِيرِ
والْكَبِيرِ
عبد الله، قَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: عبد الله هُوَ ابْن عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَأَيْت النّسخ فِيهِ
مُخْتَلفَة، فَفِي بَعْضهَا: عبد الله بن عَمْرو،
بِالْوَاو، وَفِي بَعْضهَا: عبد الله بن عمر، بِلَا وَاو.
قَوْله: (إِلَى قهرمانه) ، القهرمان، بِفَتْح الْقَاف
وَسُكُون الْهَاء وَفتح الرَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَفِي
آخِره نون: وَهُوَ خَادِم الشَّخْص الْقَائِم بِقَضَاء
حَوَائِجه، وَهُوَ لُغَة فارسية. قَوْله: (وَهُوَ غَائِب
عَنهُ) أَي: وَالْحَال أَن قهرمانه غَائِب عَن عبد الله.
قَوْله: (أَن يُزكي) ، أَرَادَ بِهِ أَن يُزكي زَكَاة
الْفطر (عَن أَهله الصَّغِير وَالْكَبِير) وَهَذَا يدل على
شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: جَوَاز تَوْكِيل الْحَاضِر
الْغَائِب، وَيَجِيء الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَالْآخر:
وجوب صَدَقَة الْفطر على الرجل عَن أَهله الصَّغِير
وَالْكَبِير، وَهَذَا ظَاهر الْأَثر.
وَفِيه: تَفْصِيل وَخلاف قد مر فِي: بَاب صَدَقَة الْفطر.
5032 - حدَّثنا أبُو نُعَيْم قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ
سلَمَةَ عنْ أبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ لِرَجُلٍ علَى النَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم جَمَلٌ سِنٌّ مِن الإبِلِ فَجاءَهُ
يَتقَاضَاهُ فَقَالَ أعْطُوهُ فطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ
يَجِدُوا لَهُ إلاَّ سِنَّا فَوْقَهَا فَقَالَ أعْطُوهُ
فَقَالَ أوْفَيْتَنِي أوفَى الله بِكَ قَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ خَيَارَكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً.
.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي وكَالَة الْحَاضِر، فِي
قَوْله: (أَعْطوهُ) وَأما وكَالَة الْغَائِب فَقَالَ
بَعضهم: وَأما الْغَائِب فيستفاد مِنْهُ بطرِيق الأولى.
قلت: لَيْسَ فِيهِ شَيْء يدل على حكم الْغَائِب، فضلا عَن
الْأَوْلَوِيَّة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: التَّرْجَمَة
تستفاد من لفظ: (أَعْطوهُ) وَهُوَ، وَإِن كَانَ خطابا
للحاضرين لكَونه بِحَسب الْعرف وقرائن الْحَال، شَامِل لكل
وَاحِد من وكلاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
غيبا وحضورا.
(12/133)
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم،
بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، الثَّانِي: سُفْيَان
الثَّوْريّ. الثَّالِث: سَلمَة بن كهيل، بِضَم الْكَاف
وَفتح الْهَاء. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن شَيْخه وسُفْيَان وَسَلَمَة كوفيون وَأَبُو سَلمَة
مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ
عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الاستقراض عَن أبي نعيم أَيْضا، وَعَن مُسَدّد
وَعَن أبي الْوَلِيد ومسدد أَيْضا، وَفِي الْوكَالَة
أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الْهِبَة عَن
عَبْدَانِ وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي
الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله
بن نمير وَعَن أبي كريب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن بشار بِهِ وَعَن أبي كريب بِهِ مُخْتَصرا،
وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن عَمْرو بن مَنْصُور، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
مُخْتَصرا. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي
بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سنّ) ، بِكَسْر السِّين
الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون أَي: ذَات سنّ، وَهُوَ أحد
أَسْنَان الْإِبِل، وَأَسْنَانهَا مَعْرُوفَة فِي كتب
اللُّغَة إِلَى عشر سِنِين، فَفِي الْفَصْل الأول: حوار،
ثمَّ الفصيل إِذا فصل، فَإِذا دخل فِي السّنة الثَّانِيَة
فَهُوَ ابْن مَخَاض أَو ابْنة مَخَاض، فَإِذا دخل فِي
الثَّالِثَة فَهُوَ ابْن لبون أَو بنت لبون، فَإِذا دخل
فِي الرَّابِعَة فَهُوَ حق أَو حقة، فَإِذا دخل فِي
الْخَامِسَة فَهُوَ جذع أَو جَذَعَة، فَإِذا دخل فِي
السَّادِسَة فَهُوَ ثني أَو ثنية، فَإِذا دخل فِي
السَّابِعَة فَهُوَ رباعي أَو ربَاعِية، فَإِذا دخل فِي
الثَّامِنَة فَهُوَ سديس أَو سدس، فَإِذا دخل فِي
التَّاسِعَة فَهُوَ بازل، فَإِذا دخل فِي الْعَاشِرَة
فَهُوَ مخلف، ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم بعد ذَلِك، وَلَكِن
يُقَال: بازل عَام، وبازل عَاميْنِ، ومخلف عَام، ومخالف
عَاميْنِ، ومخلف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَى خمس سِنِين،
حَكَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن النَّضر بن شُمَيْل
وَأبي عبيد والرياشي. قَوْله: (يتقاضاه) يَعْنِي: يطْلب
أَن يَقْضِيه. قَوْله: (أوفيتني) ، يُقَال: أوفاه حَقه
إِذا أعطَاهُ وافيا، وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: أوفاك
الله، فِي مُقَابلَته، وَلكنه زَاد الْبَاء فِي
الْمَفْعُول توكيدا. قَوْله: (خياركم) ، يحْتَمل أَن يكون
مُفردا بِمَعْنى الْمُخْتَار، وَأَن يكون جمعا. قَوْله:
(أحسنكم) ، خبر لقَوْله: خياركم، وَالْأَصْل التطابق بَين
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فِي الْإِفْرَاد وَغَيره، وَلكنه
إِذا كَانَ الْخِيَار بِمَعْنى الْمُخْتَار، فالمطابقة
حَاصِلَة وإلاَّ فأفعل التَّفْضِيل الْمُضَاف الْمَقْصُود
مِنْهُ الزِّيَادَة يجوز فِيهِ الْإِفْرَاد والمطابقة لمن
هُوَ لَهُ، وروى أَيْضا: أحاسنكم، وَهُوَ جمع: أحسن،
وَورد: محاسنكم، بِالْمِيم. قَالَ عِيَاض: جمع محسن،
بِفَتْح الْمِيم كمطلع ومطالع، وَالْأول أَكثر، وَفِي
(الْمطَالع) : وَيحْتَمل أَن يكون سماهم بِالصّفةِ أَي:
ذُو المحاسن. قَوْله: (قَضَاء) ، بِالنّصب على
التَّمْيِيز.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: تَوْكِيل الْحَاضِر
الصَّحِيح على قَول عَامَّة الْفُقَهَاء، وَهُوَ قَول ابْن
أبي ليلى وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد
إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يجوز ذَلِك وَإِن لم يرض خَصمه
إِذا لم يكن الْوَكِيل عدوا للخصم، وَفِي (التَّوْضِيح) :
وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة فِي قَوْله: إِنَّه
لَا يجوز تَوْكِيل الْحَاضِر بِالْبَلَدِ الصَّحِيح الْبدن
إلاَّ برضى خَصمه أَو عذر مرض أَو سفر ثَلَاثَة أَيَّام،
وَهَذَا الحَدِيث خلاف قَوْله، لِأَنَّهُ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَصْحَابه أَن يقضوا عَنهُ السن
الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ، وَذَلِكَ تَوْكِيل مِنْهُ لَهُم
على ذَلِك، وَلم يكن، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِبا
وَلَا مَرِيضا وَلَا مُسَافِرًا؟ قلت: لَيْسَ الحَدِيث
بِحجَّة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْجَوَاز،
وَلَكِن يَقُول: لَا يلْزم، يَعْنِي: لَا يسْقط حق الْخصم
فِي طلب الْحُضُور وَالدَّعْوَى وَالْجَوَاب بِنَفسِهِ،
وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى فِي الْأَصَح، وَالْمَرْأَة
كَالرّجلِ بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا، وَاسْتحْسن بعض
أَصْحَابنَا أَنَّهَا توكل إِذا كَانَت غير بَرزَة.
وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بِالدّينِ، وَلَا يخْتَلف
الْعلمَاء فِي جَوَازه عِنْد الْحَاجة وَلَا يتَعَيَّن
طَالبه. وَفِيه: حجَّة من قَالَ بِجَوَاز قرض الْحَيَوَان،
وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَقَالَ القَاضِي: أجَاز
جُمْهُور الْعلمَاء استسلاف سَائِر الْأَشْيَاء من
الْحَيَوَان وَالْعرُوض، واستثنيت من ذَلِك الْحَيَوَان
لِأَنَّهُ قد يردهَا بِنَفسِهِ، فَحِينَئِذٍ يكون عَارِية
الْفروج، وَأَجَازَ ذَلِك بعض أَصْحَابنَا بِشَرْط أَن
يردهَا غَيرهَا، وَأَجَازَ استقراض الْجَوَارِي
الطَّبَرِيّ والمزني، وَرُوِيَ عَن دَاوُد
الْأَصْبَهَانِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ ابْن حبيب
وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ:
يجوز استقراض الْحَيَوَان كُله إلاَّ الْإِمَاء، وَعند
مَالك: إِن اسْتقْرض أمة وَلم يَطَأهَا ردهَا بِعَينهَا
(12/134)
وَإِن حملت ردهَا بعد الْولادَة وَقِيمَة
وَلَدهَا إِن ولد حَيا، وَمَا نقصتها الْولادَة، وَإِن
مَاتَت لزمَه مثلهَا، فَإِن لم يُوجد مثلهَا فقيمتها.
وَقَالَ ابْن قدامَة: أما بَنو آدم، فَقَالَ أَحْمد: أكره
قرضهم، فَيحْتَمل كَرَاهَة تَنْزِيه، وَيصِح قرضهم، وَهُوَ
قَول ابْن جريج والمزني، وَيحْتَمل أَنه كَرَاهَة
تَحْرِيم، فَلَا يَصح قرضهم، وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي
(شرح الْمُهَذّب) : استقراض الْحَيَوَان فِيهِ ثَلَاثَة
مَذَاهِب: مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وجماهير الْعلمَاء:
جَوَازه إِلَّا الْجَارِيَة لمن ملك وَطأهَا، فَإِنَّهُ
لَا يجوز، وَيجوز إقراضها لمن لَا يجوز لَهُ وطؤهما
كمحرمها، وللمرأة وَالْخُنْثَى. الثَّانِي: مَذْهَب ابْن
جرير وَدَاوُد، وَيجوز قرض الْجَارِيَة وَسَائِر
الْحَيَوَان لكل أحد. الثَّالِث: مَذْهَب أبي حنيفَة
والكوفيين وَالثَّوْري وَالْحسن بن صَالح، وَرُوِيَ عَن
ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة
مَنعه، وَقد مر الْجَواب عَمَّا قَالُوا من جَوَاز قرض
الْحَيَوَان فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع العبيد
وَالْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَفِيه مَا يدل
أَن الْمقْرض إِذا أعطَاهُ الْمُسْتَقْرض أفضل مِمَّا
اقْترض جِنْسا أَو كَيْلا أَو وزنا، أَن ذَلِك مَعْرُوف،
وَأَنه يطيب لَهُ أَخذه مِنْهُ لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اثنى فِيهِ على من أحسن الْقَضَاء، وَأطلق
ذَلِك وَلم يُقَيِّدهُ. قلت: هَذَا عِنْد جمَاعَة
الْعلمَاء إِذا لم يكن بِغَيْر شَرط مِنْهُمَا فِي حِين
السّلف، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ نقلا عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن اشْتِرَاط الزِّيَادَة فِي
السّلف رَبًّا. وَفِيه: دَلِيل على أَن للْإِمَام أَن
يستسلف للْمَسَاكِين على الصَّدقَات ولسائر الْمُسلمين على
بَيت المَال، لِأَنَّهُ كالوصي لجميعهم وَالْوَكِيل،
مَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يستسلف ذَلِك
لنَفسِهِ لِأَنَّهُ قَضَاهُ من إبل الصَّدَقَة، وَمَعْلُوم
أَن الصَّدَقَة مُحرمَة عَلَيْهِ، لَا يحل لَهُ أكلهَا
وَلَا الِانْتِفَاع بهَا. فَإِن قلت: فلِمَ أعْطى من
أَمْوَالهم أَكثر مِمَّا اسْتقْرض لَهُم؟ قلت: هَذَا
الحَدِيث دَلِيل على أَنه جَائِز للْإِمَام إِذا اسْتقْرض
للْمَسَاكِين أَن يرد من مَالهم أَكثر مِمَّا أَخذ على
وَجه النّظر وَالصَّلَاح إِذا كَانَ على غير شَرط. فَإِن
قلت: إِن الْمُسْتَقْرض مِنْهُ غنى، وَالصَّدَََقَة لَا
تحل لَغَنِيّ؟ قلت: قد يحْتَمل أَن يكون الْمُسْتَقْرض
مِنْهُ قد ذهبت إبِله بِنَوْع من حوائج الدُّنْيَا،
فَكَانَ فِي وَقت صرف مَا أَخذ مِنْهُ إِلَيْهِ فَقِيرا
تحل لَهُ الزَّكَاة، فَأعْطَاهُ النبيصلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خيرا من بعيره بِمِقْدَار حَاجته، وَجمع فِي ذَلِك
وضع الصَّدَقَة فِي موضعهَا وَحسن الْقَضَاء، وَيحْتَمل
أَن يكون غارما أَو عَارِيا مِمَّن يحل لَهُ الصَّدَقَة من
الْأَغْنِيَاء. وَقيل: وَيحْتَمل أَنه كَانَ اقْترض
لنَفسِهِ، فَلَمَّا جَاءَت إبل للصدقة اشْترى مِنْهَا
بَعِيرًا مِمَّن اسْتَحَقَّه، فملكه بِثمنِهِ وأوفاه
مُتَبَرعا بِالزِّيَادَةِ من مَاله، يدل عَلَيْهِ رِوَايَة
مُسلم: (اشْتَروا لَهُ بَعِيرًا) . وَقيل: إِن الْمُقْتَرض
كَانَ بعض المحتاجين، اقْترض لنَفسِهِ، فَأعْطَاهُ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، من الصَّدَقَة، وَهَذَا يرد قَول من
قَالَ: إِنَّه كَانَ يَهُودِيّا. وَقيل يحْتَمل أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ اقترضه لبَعض نَوَائِب
الْمُسلمين، لِأَنَّهُ اقترضه لخاصة نَفسه، وَعبر
الرَّاوِي عَن ذَلِك مجَازًا، إِذْ كَانَ هُوَ الْآمِر صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما قَول من قَالَ: كَانَ استسلافه
ذَلِك قبل أَن تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة ففاسد، لِأَنَّهُ
لم ويزل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحرمَة عَلَيْهِ
الصَّدَقَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَذَلِكَ من خَصَائِصه،
وَمن عَلَامَات نبوته فِي الْكتب الْقَدِيمَة، بِدَلِيل
قصَّة سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
6 - (بابُ الوَكَالَةِ فِي قَضاءِ الدُّيُونِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوكَالَة فِي قَضَاء
الدُّيُون.
6032 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا
سَلَمَة بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَتَقَاضاهُ فأغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ
أصْحَابُهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مقَالاً ثُمَّ قَالَ
أعْطُوهُ سِنّا مِثْلَ سِنِّهِ قالُوا يَا رسولَ الله لاَ
نَجِدُ إلاَّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ أعْطُوهُ فإنَّ
مِنْ خَيْرِكُمْ أحْسَنَكُمْ قَضاءً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَعْطوهُ سنا) ، لِأَن
أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِعْطَاء السن وكَالَة فِي
قَضَاء دينه، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور
فِي الْبَاب الَّذِي قبله، لكنه من وَجه آخر، وَبَينهمَا
بعض تفَاوت فِي الْمَتْن بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان،
وَأخرجه هُنَاكَ: عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان عَن سَلمَة،
وَهَهُنَا أخرجه: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَأبي أَيُّوب
الواشحي الْبَصْرِيّ، قَاضِي مَكَّة عَن شُعْبَة
(12/135)
ابْن الْحجَّاج إِلَى آخِره.
قَوْله: (يتقاضاه) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله:
(فَأَغْلَظ) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الإغلاظ
التَّشْدِيد فِي الْمُطَالبَة من غير كَلَام يَقْتَضِي
الْكفْر، أَو كَانَ المتقاضي كَافِرًا. قَوْله: (فهمَّ
بِهِ أَصْحَابه) أَي: قصدوه ليؤذوه بِاللِّسَانِ أَو
بِالْيَدِ أَو غير ذَلِك. قَوْله: (دَعوه) أَي: أتركوه
وَلَا تتعرضوا لَهُ، وَهَذَا من غَايَة حلمه وَحسن خلقه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَإِن لصَاحب الْحق
مقَالا) ، يَعْنِي: صولة الطّلب وَقُوَّة الْحجَّة، لَكِن
على من يمطل أَو يسيء الْمُعَامَلَة، وَأما من أنصف من
نَفسه فبذل مَا عِنْده وَاعْتذر عَمَّا لَيْسَ عِنْده
فَلَا تجوز الاستطالة عَلَيْهِ بِحَال. قَوْله: (إلاَّ
مثل) ، تَقْدِيره: لَا نجد سنا إلاَّ سنا أمثل، أَي: أفضل
من سنه، وَقَالَ الْمُهلب: من آذَى السُّلْطَان بجفاء
وَشبهه فَإِن لأَصْحَابه أَن يعاقبوه وينكروا عَلَيْهِ
وَإِن لم يَأْمُرهُم السُّلْطَان بذلك.
7 - (بابٌ إِذا وهَبَ شَيْئا لوكِيلٍ أوْ شَفِيعِ قَوْمٍ
جازَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وهب أحد شَيْئا لوكيل،
بِالتَّنْوِينِ أَي: لوكيل قوم، وَيجوز بِالْإِضَافَة
إِلَى قوم الْمَذْكُور من قبيل قَوْله: بَين ذراعي وجبهة
الْأسد، وَالتَّقْدِير: بَين ذراعي الْأسد وجبهته. قَوْله:
(أَو شَفِيع قوم) ، عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير: أَو
وهب شَيْئا لشفيع قوم. قَوْله: (جَازَ) ، جَوَاب الشَّرْط.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِوَفْدِ
هَوَازِنَ حِينَ سألُوهُ المَغَانِمَ فَقَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نَصِيبيي لَكُمْ
هَذَا تَعْلِيل للتَّرْجَمَة بَيَانه أَن وَفد هوَازن
كَانُوا رسلًا أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَانُوا وكلاء وشفعاء فِي رد سَبْيهمْ الَّذِي سباه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الْمَغَانِم،
فَقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاعتهم، فَرد
إِلَيْهِم نصِيبه من السَّبي، وتوضيح ذَلِك فِيمَا ذكره
مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) من حَدِيث عبد
الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحنين، فَلَمَّا أصَاب من
هوَازن مَا أصَاب من أَمْوَالهم وسباياهم أدركهم وَفد
هوَازن بالجعرانة، وَقد أَسْلمُوا، فَقَالُوا يَا رَسُول
الله أمنن علينا منَّ الله عَلَيْك. فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِسَاؤُكُمْ وأبناؤكم أحب
إِلَيْكُم أم أَمْوَالكُم؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله
خيرتنا بَين أحسابنا وَأَمْوَالنَا، بل أَبْنَاؤُنَا
وَنِسَاؤُنَا أحب إِلَيْنَا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أما مَا كَانَ لي ولبني عبد الْمطلب
فَهُوَ لكم، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَمَا كَانَ لنا
فَهُوَ لرَسُول الله، وَقَالَت الْأَنْصَار: وَمَا كَانَ
لنا فَهُوَ لرَسُول الله، فَردُّوا إِلَى النَّاس
نِسَاءَهُمْ وأبناءهم، وَكَانَت قسْمَة غَنَائِم هوَازن
قبل دُخُوله، عَلَيْهِ السَّلَام، مَكَّة مُعْتَمِرًا من
الْجِعِرَّانَة. قَالَ إِبْنِ اسحاق: لما انْصَرف النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الطَّائِف وَنزل
الْجِعِرَّانَة فِيمَن مَعَه من النَّاس، وَمَعَهُ من
هوَازن سبي كثير، وَقد قَالَ لَهُ رجل من أَصْحَابه يَوْم
ظعن من ثَقِيف: يَا رَسُول الله! أدع عَلَيْهِم. فَقَالَ:
أللهم إهدِ ثقيفا وإيت بهم. قَالَ: ثمَّ أَتَاهُ وَفد
هوَازن بالجعرانة. وَكَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من سبي هوَازن سِتَّة آلَاف من الذَّرَارِي
وَالنِّسَاء، وَمن الْإِبِل وَالشَّاة مَا لَا يدْرِي
عدته. وَقَالَ غَيره: وَكَانَت عدَّة الْإِبِل أَرْبَعَة
وَعشْرين ألف بعير، وَالْغنم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألف
شَاة، وَمن الْفضة أَرْبَعَة آلَاف أُوقِيَّة.
وَالْمَقْصُود أَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد
إِلَيْهِم سَبْيهمْ، فَعِنْدَ ابْن إِسْحَاق: قبل
الْقِسْمَة، وَعند غَيره بعْدهَا. وَكَانَت غَزْوَة هوَازن
يَوْم حنين بعد الْفَتْح فِي خَامِس من شَوَّال سنة
ثَمَان، وحنين وَاد بَينه وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة
أَمْيَال، وهوازن فِي قيس غيلَان وَفِي خُزَاعَة، فَفِي
قيس غيلَان: هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة بن
قيس غيلَان، وَفِي خُزَاعَة: هوَازن بن أسلم بن أقْصَى،
وهوازن هَذَا بطن، وَفِي هوَازن قيس غيلَان بطُون
كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: هوَازن ضرب من الطُّيُور،
وَقَالَ غَيره: هُوَ جمع هوزن، وَقيل: الهوزون السراب
ووزنه: فوعل. قلت: هَذَا يدل على أَن الْوَاو زَائِدَة،
مثل وَاو جَهورِي الصَّوْت، أَي: شَدِيد عَال.
8032 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ قالَ
وزَعَمَ عُرْوَةُ أنَّ مرْوَانَ بنَ الحَكَمِ والمِسْوَرَ
بنَ مَخْرَمَةَ قَالَ أخْبَرَاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قامَ حِينَ جاءَهُ وَفد هَوَازِنَ
مُسْلِمِينَ فسَألُوهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِم أمْوَالَهُمْ
وسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
(12/136)
أحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أصْدَقهُ
فاخْتَارُوا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا السَّبْيَ
وإمَّا المَالَ وقَدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ بِكُمْ وقَدْ
كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتَظَرَهُمْ
بِضْعَ عَشَرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ
فلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غَيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ قالُوا قالُوا فَإنَّا نَخْتَارُ
سَبْيَنَا فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
المُسْلِمِينِ فأثْنَى عَلى الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ
قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ هؤُلاءِ قَدْ
جاؤُنا تَائِبِينَ وإنِّي قَدْ رَأيْتُ أنْ أرُدَّ
إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ
يُطَيِّبَ بِذَلكَ فَلْيَفْعَلْ ومنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ
يَكونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ
أوَّلِ مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ
النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُمْ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنَّا لاَ نَدْرِي منْ أذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ
مِمَّنْ لَمْ يَأذَنْ فارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا
إلَيْنَا عُرَفَاءَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ
عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرُوهُ أنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا
وأذِنُوا ...
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
فِيهِ (إِنِّي أردْت أَن أرد إِلَيْهِم سَبْيهمْ) الحَدِيث
... وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن وَفد هوَازن كَانُوا وكلاء
وشفعاء فِي رد سَبْيهمْ، فَهَذَا يُطَابق التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف، وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير
أَبُو عُثْمَان. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث:
عقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن
مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير
بن الْعَوام. السَّادِس: مَرْوَان بن الحكم بن أبي
الْعَاصِ الْأمَوِي، قَالَ الْوَاقِدِيّ: إِنَّه رأى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يحفظ عَنهُ شَيْئا،
وَتُوفِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن
ثَمَان سِنِين. السَّابِع: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وَفِي آخِره
رَاء: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَالرَّاء وَسُكُون
الْخَاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: ابْن نَوْفَل الزُّهْرِيّ،
سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع الرَّابِع هُوَ قَوْله: زعم، لِأَن زعم هَهُنَا
بِمَعْنى: قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي: والزعم يسْتَعْمل
فِي القَوْل الْمُحَقق. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور
بنسبته إِلَى جده وَأَنه وَاللَّيْث مصريان وَأَن عقيلاً
أيلي والبقية مدنيون وَأَن مَرْوَان من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْخمس وَفِي الْمَغَازِي عَن سعيد بن عفير
وَفِي الْعتْق وَالْهِبَة عَن سعيد بن أبي مَرْيَم وَفِي
الْهِبَة والمغازي أَيْضا عَن يحيى بن بكير. وَفِي
الْمَغَازِي أَيْضا عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْمَاعِيل بن أبي
أويس وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن
سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن هَارُون بن
مُوسَى بِقصَّة العرفاء مختصرة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَفد هوَازن) ، الْوَفْد هم
الْقَوْم يَجْتَمعُونَ ويريدون الْبِلَاد، واحدهم وَافد،
وَكَذَلِكَ الَّذين يقصدون الْأُمَرَاء لزيارة واسترفاد
وانتجاع وَغير ذَلِك، تَقول: وَفد يفد فَهُوَ وَافد،
وأوفدته فوفد، وأوفد على الشَّيْء فَهُوَ موفد إِذا أشرف،
وهوازن مر تَفْسِيره عَن قريب. قَوْله: (مُسلمين) حَال.
قَوْله: (أحب الحَدِيث) ، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره
هُوَ قَوْله: أصدقة. قَوْله: (اسْتَأْنَيْت بهم) أَي:
انتظرت بهم وتربصت، يُقَال: أنيت وتأنيت واستأنيت،
وَيُقَال للمتمكث فِي الْأَمر: مستأنِ، ويروى: فقد كنت
اسْتَأْنَيْت بكم. قَوْله: (فَلَمَّا تبين لَهُم) ، أَي:
فحين ظهر لَهُم. وَقَوله: (أَن رَسُول الله) ، فِي مَحل
الرّفْع فَاعل، تبين، قَوْله: (حِين قفل من الطَّائِف) ،
أَي: حِين رَجَعَ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما فتح مَكَّة فِي رَمَضَان لعشر بَقينَ
مِنْهُ سنة ثَمَان، ثمَّ خرج إِلَى هوَازن فِي خَامِس
شَوَّال لغزوهم، وَجرى مَا جرى، وَهزمَ الله تَعَالَى
أعداءه، ثمَّ سَار إِلَى الطَّائِف حِين فرغ من حنين،
وَهِي غَزْوَة هوَازن يَوْم حنين، وَنزل قَرِيبا من
الطَّائِف، فَضرب بِهِ عسكره. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: حاصر
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل الطَّائِف
ثَلَاثِينَ لَيْلَة ثمَّ انْصَرف عَنْهُم لتأخر الْفَتْح
إِلَى الْعَام الْقَابِل، وَلما انْصَرف عَن الطَّائِف
(12/137)
نزل على الْجِعِرَّانَة فِيمَن مَعَه من النَّاس وَلما نزل
على الْجِعِرَّانَة انْتظر وَفد هوَازن بضع عشرَة لَيْلَة،
وَهُوَ معنى قَوْله فِي الحَدِيث: (انتظرهم بضع عشرَة
لَيْلَة حِين قفل من الطَّائِف) ، ثمَّ جرى مَا ذكر فِي
الحَدِيث. قَوْله: (أَن يطيب) من الثلاثي من طَابَ يطيب
وَمن بَاب أطاب يطيب، وَمن بَاب التفعيل من طيب يطيب.
قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي يرد السَّبي مجَّانا بِرِضا
نَفسه وَطيب قلبه. وَفِي (التَّوْضِيح) : أَرَادَ أَن يطيب
أنفسهم، لأهل هوَازن، بِمَا أَخذ مِنْهُم من الْعِيَال
لرفع الشحناء والعداوة وَلَا تبقى إحْنَة الْغَلَبَة لَهُم
فِي انتزاع السَّبي مِنْهُم فِي قُلُوبهم، فيولد ذَلِك
اخْتِلَاف الْكَلِمَة. قلت: الْمَعْنى على كَونه من
الثلاثي: أَن يطيب نَفسه بذلك أَي: يدْفع السَّبي إلهم
فَلْيفْعَل، وَهُوَ جَوَاب: من المتضمنة معنى الشَّرْط،
فَلذَلِك حصلت فِيهِ الْفَاء، وَالْفِعْل هُنَا لَازم
وعَلى كَونه من بَاب الإفعال أَو التفعيل يكون الْفِعْل
مُتَعَدِّيا وَالْمَفْعُول محذوفا تَقْدِيره: أَن يطيب
نَفسه بذلك، بِضَم الْيَاء وَكسر الطَّاء وَسُكُون
الْيَاء، وَأَن يطيب، بِضَم الْيَاء وَفتح الطَّاء
وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (على حَظه) أَي: على نصِيبه من
السَّبي. قَوْله: (مَا يفِيء الله) من: أَفَاء يفِيء من
بَاب: أفعل يفعل من الْفَيْء، وَهُوَ مَا يحصل للْمُسلمين
من أَمْوَال الْكفَّار من غير حَرْب وَلَا جِهَاد، وأصل
الْفَيْء: الرُّجُوع. يُقَال: فَاء يفِيء فيئة وفيوا
كَأَنَّهُ كَانَ فِي الأَصْل لَهُم فَرجع إِلَيْهِم،
وَمِنْه قيل للظل الَّذِي بعد الزَّوَال: فَيْء، لِأَنَّهُ
يرجع من جَانب الغرب إِلَى جَانب الشرق. قَوْله: (قد
طيبنَا ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
أَي: لأَجله، ويروى: يَا رَسُول الله. قَوْله: (حَتَّى
يرفع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ) العرفاء جمع عريف، وَهُوَ
الَّذِي يعرف أَمر الْقَوْم وأحوالهم، وَهُوَ النَّقِيب
وَهُوَ دون الرئيس. وَفِي (التَّلْوِيح) : العريف: الْقيم
بِأَمْر الْقَبِيلَة والمحلة يَلِي أَمرهم وَيعرف
الْأَمِير حَالهم، وَهُوَ مُبَالغَة فِي اسْم من يعرف
الْجند وَنَحْوهم، فعيل بِمَعْنى فَاعل، والعرافة عمله
وَهُوَ النَّقِيب، وَقيل: النَّقِيب فَوق العريف
وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَتَّى يرجع
إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ) للتقصي عَن أصل الشَّيْء فِي
استطابة النُّفُوس، ويروى: حَتَّى يرفعوا إِلَيْنَا، على
لُغَة أكلوني البراغيث. قَوْله: (أَخْبرُوهُ) أَي: وَأخْبر
عُرَفَاؤُهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم قد
طيبُوا ذَلِك وأذنوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن يرد السَّبي إِلَيْهِم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الْغَنِيمَة
إِنَّمَا يملكهَا الغانمون بِالْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي، واستفيد ذَلِك من انْتِظَاره، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: دَلِيل أَيْضا على استرقاق
الْعَرَب وتملكهم كالعجم، إلاَّ أَن الْأَفْضَل عتقهم
للترحم ومراعاتها، كَمَا فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فِي خِلَافَته، حِين ملك الْمُرْتَدين، وَهُوَ على
وَجه النّدب لَا على الْوُجُوب. وَفِيه: أَن الْعِوَض
إِلَى أجل مَجْهُول جَائِز، قَالَه ابْن التِّين: قَالَ:
إِذْ لَا يدْرِي مَتى يفِيء الله عَلَيْهِم. قَالَ:
وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يُقَاس عَلَيْهِ من أكره على
بيع مَاله فِي حق عَلَيْهِ، قَالَ ابْن بطال: فِيهِ بيع
الْمُكْره فِي الْحق جَائِز، لِأَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، حكم دبر السَّبي، قَالَ: من أحب أَن يكون
على حَظه وَلم يَجْعَل لَهُم الْخِيَار فِي إمْسَاك
السَّبي أصلا وَإِنَّمَا خَيرهمْ فِي أَن يعوضهم من
غَنَائِم أخر، وَلم يخيرهم فِي أَعْيَان السَّبي،
لِأَنَّهُ قَالَ لَهُم بعد أَن رد أهلهم: وَإِنَّمَا
خَيرهمْ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لِئَلَّا تجحف
بِالْمُسْلِمين فِي مغانمهم. وَفِيه: أَنه يجوز للامام
إِذا جَاءَهُ أهل الْحَرْب مُسلمين بعد أَن غنم أَمْوَالهم
وأهليهم أَن يرد عَلَيْهِم إِذا رأى فِي ذَلِك مصلحَة.
وَفِيه: اتِّخَاذ العرفاء. وَفِيه: قبُول خبر الْوَاحِد.
وَفِيه: من رأى قبُول إِقْرَار الْوَكِيل على مُوكله،
لِأَن العرفاء كَانُوا كالوكلاء فِيمَا أقِيمُوا لَهُ من
أَمرهم، فَلَمَّا سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
مقَالَة العرفاء أنفذ ذَلِك وَلم يسألهم عَمَّا قَالُوهُ،
وَكَانَ فِي ذَلِك تَحْرِيم فروج السبايا على من كَانَت
حلت لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو يُوسُف، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة: إِقْرَار الْوَكِيل جَائِز عِنْد الْحَاكِم، وَلَا
يجوز عِنْد غَيره، وَقَالَ مَالك: لَا يقبل إِقْرَاره
وَلَا إِنْكَاره إلاَّ أَن يَجْعَل ذَلِك إِلَيْهِ مُوكله.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يقبل إِقْرَاره عَلَيْهِ، وَالله
أعلم. |