عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بِسم الله الرحمان

(كتاب المُزَارَعَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمُزَارعَة، وَهِي مفاعلة من الزَّرْع، والزراعة هِيَ الْحَرْث والفلاحة، وَتسَمى: مخابرة ومحاقلة، ويسميها أهل الْعرَاق: القراح، وَفِي الْمغرب: القراح من الأَرْض كل قِطْعَة على حيالها لَيْسَ فِيهَا شجر وَلَا شائب سبخ، وَتجمع على: أقرحة، كمكان وأمكنة. وَفِي الشَّرْع: الْمُزَارعَة عقد على زرع بِبَعْض الْخَارِج، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: كتاب الْحَرْث، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْحَرْث والزراعة.

1 - (بابُ فَضْلِ الزَّرْعِ والْغِرْسِ إذَا اكِلَ مِنه)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الزِّرَاعَة وغرس الْأَشْجَار إِذا أكل مِنْهُ، أَي: من كل وَاحِد من الزَّرْع وَالْغَرْس، وَهَذَا الْقَيْد لَا بُد مِنْهُ

(12/153)


لحُصُول الْأجر، وَهَذِه التَّرْجَمَة كَذَا هِيَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ والكشميهني بعد قَوْله: كتاب الْمُزَارعَة، إلاَّ أَنَّهُمَا أخرا الْبَسْمَلَة عَن كتاب الْمُزَارعَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَرْث والمزارعة، وَفضل الزَّرْع، وَلم يذكر فِيهِ كتاب الْمُزَارعَة، قيل: هُوَ للأصيلي وكريمة.
وقَوْلِهِ تعالَى: {أفَرَأيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما} (الْوَاقِعَة: 36، 56) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فضل الزَّرْع، وَذكر هَذِه الْآيَة لاشتمالها على الْحَرْث وَالزَّرْع، وَأَيْضًا تدل على إِبَاحَة الزَّرْع من جِهَة الامتنان بِهِ، وفيهَا وَفِي الْآيَات الَّتِي قبلهَا رد وتبكيت على الْمُشْركين الَّذين قَالُوا: نَحن موجودون من نُطْفَة حدثت بحرارة كائنة، وأنكروا الْبَعْث والنشور بِأُمُور ذكرت فِيهَا، من جُمْلَتهَا قَوْله: أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ؟ أَي تثيرون فِي الأَرْض وتعملون فِيهَا وتطرحون البذار، أأنتم تزرعونه أَي تنبتونه وتردونه نباتاً ينمي إِلَى أَن يبلغ الْغَايَة. قَوْله تَعَالَى: {لَو نشَاء لجعلناه حطاماً} (الْوَاقِعَة: 36، 56) . أَي: هشيماً لَا ينْتَفع بِهِ وَلَا تقدرون على مَنعه، وَقيل: نبتاً لَا قَمح فِيهِ، فظللتم تفكهون أَي: تفجعون، وَقيل: تَحْزَنُونَ، وَهُوَ من الأضداد، تَقول الْعَرَب: تفكهت أَي تنعمت وتفكهت، أَي: حزنت، وَقيل: التفكه التَّكَلُّم فِيمَا لَا يَعْنِيك، وَمِنْه قيل للمزاح: فكاهة، وَأخذُوا من قَوْله: أم نَحن الزارعون؟ أَن لَا يَقُول أحد: زرعت، وَلَكِن يَقُول: حرثت، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَقُولَن أحدكُم: زرعت، وَليقل: حرثت) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (ألم تسمعوا قَول الله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} (الْوَاقِعَة: 36، 56) . قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَفِي تَفْسِير عبد ابْن حميد عَن أبي عبد الرَّحْمَن، يَعْنِي السّلمِيّ، أَنه كره أَن يُقَال: زرعت، وَيَقُول حرثت.

0232 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدثنَا أَبُو عَوَانَةَ ح وحدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ المُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا أَبُو عَوانَةَ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنْ مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أوْ يَزْرَعُ زَرْعاً فَيأكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أوْ إنْسانٌ أوْ بَهِيمَةٌ إلاَّ كانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. (الحَدِيث 0232 طرفه فِي: 2106) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرجه بطريقين عَن شيخين: أَحدهمَا: عَن قُتَيْبَة عَن أبي عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح ابْن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن قَتَادَة. وَالْآخر: عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك بن عبد الله الْعَبْسِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، ويروي عَن قَتَادَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي الْوَلِيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن قُتَيْبَة.
وَقَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي أَيُّوب، وَأم مُبشر، وَجَابِر، وَزيد بن خَالِد. قلت: أما حَدِيث: أبي أَيُّوب فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (مَا من رجل يغْرس غرساً إلاَّ كتب الله لَهُ من الْأجر قدر مَا يخرج من ثَمَر ذَلِك الْغَرْس) . وَأما حَدِيث أم مُبشر فَأخْرجهُ مُسلم فِي أَفْرَاده من رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر عَن أم مُبشر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَحْوِ حَدِيث عَطاء، وَأبي الزبير وَعَمْرو بن دِينَار عَن جَابر، وَلم يسق لَفظه. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ مُسلم أَيْضا فِي أَفْرَاده من رِوَايَة عبد الْملك بن سُلَيْمَان الْعَزْرَمِي عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول للهلله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُسلم يغْرس غرسا إلاَّ كَانَ مَا أكل مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا سرق مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أكل السَّبع فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أكلت الطير فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَلَا يزراه أحدا إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة) . وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة اللَّيْث عَن أبي الزبير عَن جَابر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على أم معبد

(12/154)


أَو أم مُبشر الْأَنْصَارِيَّة فِي نخل لَهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من غرس هَذَا النّخل أمسلم أم كَافِر؟ فَقَالَت: بل مُسلم، فَقَالَ: (لَا يغْرس مُسلم غرساً، وَلَا يزرع زرعا فيأكل مِنْهُ إنس ان وَلَا دَابَّة وَلَا شَيْء إلاَّ كَانَت لَهُ صَدَقَة) . وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق أَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار أَنه سمع جَابر بن عبد الله، يَقُول: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أم معبد وَلم يشك، فَذكر نَحوه، قلت: أم مُبشر هَذِه هِيَ امْرَأَة زيد بن حَارِثَة، كَمَا ورد فِي (الصَّحِيح) فِي بعض طرق الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: يُقَال: إِنَّهَا أم بشر بنت البرار بن معْرور، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيُقَال: إِن فِيهَا أَيْضا أم بشير، قَالَ: فَحصل أَنه يُقَال لَهَا أم مُبشر وَأم معبد وَأم بشير، قيل: اسْمهَا خليدة، بِضَم الْخَاء وَلم يَصح. وَأما حَدِيث زيد بن خَالِد ... . .

... وَقَالَ شَيخنَا فِي شرح هَذَا الحَدِيث: وَفِي الْبَاب مِمَّا لم يذكرهُ التِّرْمِذِيّ عَن أبي الدَّرْدَاء والسائب بن خَلاد ومعاذ بن أنس وصحابي لم يسم. وَأما حَدِيث أبي الدَّرْدَاء فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ: أَن رجلا مر بِهِ وَهُوَ يغْرس غرسا بِدِمَشْق، فَقَالَ: أتفعل هَذَا وَأَنت صَاحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا تعجل عَليّ، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من غرس غرساً لم يَأْكُل مِنْهُ آدَمِيّ وَلَا خلق من خلق الله إلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة) . وَأما حَدِيث السَّائِب بن خَلاد فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة خَلاد بن السَّائِب عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من زرع زرعا فَأكل مِنْهُ الطير أَو الْعَافِيَة كَانَ لَهُ صَدَقَة) . وَأما حَدِيث معَاذ بن أنس، فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من بنى بَيْتا فِي غير ظلم وَلَا اعتداء، أَو غرس غرساً فِي غير ظلم وَلَا اعتداء، كَانَ لَهُ أجرا جَارِيا مَا انْتفع من خلق الرَّحْمَن تبَارك وَتَعَالَى أحد) ، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوَكُّل. وَأما حَدِيث الصَّحَابِيّ الَّذِي لم يسم، فَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة: فنج، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد النُّون وبالجيم، قَالَ: كنت أعمل فِي الدينباد وأعالج فِيهِ، فَقدم يعلى بن أُميَّة أَمِيرا على الْيمن، وَجَاء مَعَه رجال من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجَاءَنِي رجل مِمَّن قدم مَعَه، وَأَنا فِي الزَّرْع، وَفِي كمه جوز، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه فَقَالَ رجل: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأذني هَاتين يَقُول: (من نصب شَجَرَة فَصَبر على حفظهَا وَالْقِيَام عَلَيْهَا حَتَّى تثمر كَانَ لَهُ فِي كل شَيْء يصاب من ثَمَرهَا صَدَقَة، عِنْد الله، عز وَجل) . قلت: وَعند يحيى بن آدم: حَدثنَا عبد السَّلَام بن حَرْب حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي فَرْوَة عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن أبي أسيد، يرفعهُ: (من زرع زرعا أَو غرس غرساً فَلهُ أجر مَا أَصَابَت مِنْهُ العوافي) وَذكر عَليّ بن عبد الْعَزِيز فِي (الْمُنْتَخب) بِإِسْنَاد حسن عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن قَامَت السَّاعَة وبيد أحدكُم فسيلة، فاستطاع أَن لَا تقوم حَتَّى يغرسها فليغرسها) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فضل الْغَرْس وَالزَّرْع، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن الزِّرَاعَة أفضل المكاسب، وَاخْتلف فِي أفضل المكاسب، فَقَالَ النَّوَوِيّ: أفضلهَا الزِّرَاعَة، وَقيل: أفضلهَا الْكسْب بِالْيَدِ، وَهِي الصَّنْعَة، وَقيل: أفضلهَا التِّجَارَة، وَأكْثر الْأَحَادِيث تدل على أَفضَلِيَّة الْكسْب بِالْيَدِ. وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث أبي بردة، قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الْكسْب أطيب؟ قَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ وكل بيع مبرور) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقد يُقَال: هَذَا أطيب من حَيْثُ الْحل، وَذَاكَ أفضل من حَيْثُ الِانْتِفَاع الْعَام، فَهُوَ نفع مُتَعَدٍّ إِلَى غَيره، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيَنْبَغِي أَن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك باخْتلَاف حَاجَة النَّاس، فَحَيْثُ كَانَ النَّاس مُحْتَاجين إِلَى الأقوات أَكثر، كَانَت الزِّرَاعَة أفضل، للتوسعة على النَّاس، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى المتجر لانْقِطَاع الطّرق كَانَت التِّجَارَة أفضل، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى الصَّنَائِع أَشد، كَانَت الصَّنْعَة أفضل، وَهَذَا حسن. وَفِيه: أَن الثَّوَاب الْمُتَرَتب على أَفعَال الْبر فِي الْآخِرَة يخْتَص بِالْمُسلمِ دون الْكَافِر، لِأَن الْقرب إِنَّمَا تصح من الْمُسلم، فَإِن تصدق الْكَافِر أَو بنى قنطرة للمارة أَو شَيْئا من وُجُوه الْبر لم يكن لَهُ أجر فِي الْآخِرَة، وَورد فِي حَدِيث آخر: أَنه يطعم فِي الدنيابذلك، ويجازى بِهِ من دفع مَكْرُوه عَنهُ، وَلَا يدّخر لَهُ شَيْء مِنْهُ فِي الْآخِرَة. فَإِن قلت: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: مَا من عبد وَهُوَ يتَنَاوَل الْمُسلم وَالْكَافِر. قلت: يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة تدخل فِي قَوْله: مَا من مُسلم، لِأَن هَذَا اللَّفْظ من الْجِنْس الَّذِي إِذا كَانَ الْخطاب بِهِ يدْخل فِيهِ الْمَرْأَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد بِهَذَا اللَّفْظ أَن الْمسلمَة إِذا فعلت هَذَا الْفِعْل لم يكن لَهَا هَذَا الثَّوَاب، بل الْمسلمَة فِي هَذَا الْفِعْل فِي اسْتِحْقَاق الثَّوَاب مثل الْمُسلم سَوَاء. وَفِيه: حُصُول الْأجر للغارس والزارع، وَإِن لم يقصدا ذَلِك، حَتَّى لَو غرس وَبَاعه أَو زرع وَبَاعه كَانَ لَهُ بذلك صَدَقَة لتوسعته على النَّاس فِي أقواتهم، كَمَا ورد الْأجر للجالب، وَإِن كَانَ يَفْعَله للتِّجَارَة والاكتساب. فَإِن قلت: فِي بعض طرق حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم: إلاَّ كَانَت لَهُ صَدَقَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَقَوله: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، هَل يُرِيد بِهِ أَن أجره لَا يَنْقَطِع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن فني الزَّرْع وَالْغِرَاس؟ أَو يُرِيد مَا بَقِي من ذَلِك الزَّرْع وَالْغِرَاس مُنْتَفعا بِهِ، وَإِن بَقِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ قلت: الظَّاهِر أَن المُرَاد الثَّانِي. وَزَاد النَّوَوِيّ:

(12/155)


أَن مَا يُولد من الْغِرَاس وَالزَّرْع كَذَلِك، فَقَالَ فِيهِ: إِن أجر فَاعل ذَلِك مُسْتَمر مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع وَمَا يُولد مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: أَن الْغَرْس وَالزَّرْع واتخاذ الصَّنَائِع مُبَاح وَغير قَادِح فِي الزّهْد، وَقد فعله كثير من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ذهلب قوم من المتزهدة إِلَى أَن ذَلِك مَكْرُوه وقادح فِي الزّهْد، ولعلهم تمسكوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فتركنوا إِلَى الدُّنْيَا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) . وَأجِيب بِأَن هَذَا النَّهْي مَحْمُول على الاستكثار من الضّيَاع والانصراف إِلَيْهَا بِالْقَلْبِ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الركون إِلَى الدُّنْيَا. وَأما إِذا اتخذها غير مستكثر وقلل مِنْهَا، وَكَانَت لَهُ كفافاً وعفافاً، فَهِيَ مُبَاحَة غير قادحة فِي الزّهْد، وسبيلها كسبيل المَال الَّذِي اسْتَثْنَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (إلاَّ من أَخذه بِحقِّهِ وَوَضعه فِي حَقه) . وَفِيه: الحض على عمَارَة الأَرْض لنَفسِهِ وَلمن يَأْتِي بعده. . وَفِيه: جَوَاز نِسْبَة الزَّرْع إِلَى الْآدَمِيّ، والْحَدِيث الَّذِي ورد فِيهِ الْمَنْع غير قوي، وَفِيه: قَالَ الطَّيِّبِيّ: نكر مُسلما فاوقعه فِي سِيَاق النَّفْي، وَزَاد: من، الاستغراقية، وَعم الْحَيَوَان ليدل على سَبِيل الْكِنَايَة، على أَن أَي مُسلم كَانَ حرا أَو عبدا مُطيعًا أَو عَاصِيا يعْمل أَي عمل من الْمُبَاح ينْتَفع بِمَا عمله أَي حَيَوَان كَانَ، يرجع نَفعه إِلَيْهِ ويثاب عَلَيْهِ.
وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا أبانُ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَذَا وَقع: قَالَ لنا مُسلم، فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي وكريمة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَآخَرين: وَقَالَ وَلمُسلم، بِدُونِ لفظ: لنا، وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي مَوْلَاهُم القصاب الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبَان بن يزِيد الْعَطَّار، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا ذكره عَن شَيْخه مُسلم بِغَيْر لفظ التحديث حَتَّى قَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّه مُعَلّق، وأبى ذَلِك الْحَافِظ أَبُو نعيم، فَزعم أَن البُخَارِيّ روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث. وأتى بِهِ لتصريح قَتَادَة فِيهِ بِسَمَاعِهِ من أنس ليسلم من تَدْلِيس قَتَادَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن عبد بن حميد: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا أبان بن يزِيد الْعَطَّار حَدثنَا قَتَادَة (حَدثنَا أنس بن مَالك: أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل نخلا لأم مُبشر امْرَأَة من الْأَنْصَار فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من غرس هَذَا النّخل؟ مُسلم أَو كَافِر؟ قَالُوا: مُسلم) . بنحوهم، يَعْنِي: بِنَحْوِ حَدِيث جَابر وَأنس وَأم معبد، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقيل: إِن البُخَارِيّ لَا يخرج لأَبَان إلاَّ اسْتِشْهَادًا. وَأجِيب: بِأَنَّهُ ذكر هُنَا إِسْنَاده وَلم يسق مَتنه، لِأَن غَرَضه بَيَان أَنه صرح بِالتَّحْدِيثِ عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

2 - (بابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ عَوَاقِبِ الاشْتِغَالِ بآلَةِ الزَّرْعِ أوْ مُجَاوزَةِ الحَدِّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحذر ... إِلَى آخِره، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة. قَوْله: (أَو مُجَاوزَة الْحَد) ، أَي: فِي بَيَان مُجَاوزَة الْحَد الَّذِي أَمر بِهِ، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: أَو يُجَاوز الْحَد، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَأبي ذَر: أَو جَاوز الْحَد، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الَّذِي شرع سَوَاء كَانَ وَاجِبا أَو سنة أَو ندبا.

1232 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثنا عبدُ الله بنُ سالِمٍ الحِمْصِيِّ قَالَ حدَّثنا محَمَّدُابنُ زِيادٍ الألْهانِيُّ عنْ أبِي امَامَةَ الباهِليِّ قَالَ ورَأى سِكةً وشَيْئا مِنْ آلَةِ الحَرْثِ فَقَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ لاَ يَدْخُلُ هَذا بَيْتَ قَوْمٍ إلاَّ أُدْخِلَهُ الذُّلُّ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يدْخل هَذَا بَيت قوم إلاَّ أدخلهُ الذل) ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يَنْبَغِي الحذر من عواقب الِاشْتِغَال بِهِ، لِأَن كل مَا كَانَ عاقبته ذلاً يحذر عَنهُ، وَلما ذكر فضل الزَّرْع وَالْغَرْس فِي الْبَاب السَّابِق أَرَادَ الْجمع بَينه وَبَين حَدِيث هَذَا الْبَاب، لِأَن بَينهمَا مُنَافَاة بِحَسب الظَّاهِر. وَأَشَارَ إِلَى كَيْفيَّة الْجمع بشيئين أَحدهمَا: هُوَ قَوْله: مَا يحذر من عواقب الِاشْتِغَال بِآلَة الزَّرْع، وَذَلِكَ إِذا اشْتغل بِهِ فضيع بِسَبَبِهِ مَا أَمر بِهِ. وَالْآخر: هُوَ قَوْله: أَو مُجَاوزَة الْحَد، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا لم يضيع، وَلكنه جَاوز الْحَد فِيهِ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا لمن يقرب من الْعَدو فَإِنَّهُ إِذا اشْتغل بالحرث لَا يشْتَغل بالفروسية ويتأسد عَلَيْهِ الْعَدو، وَأما غَيرهم فالحرث

(12/156)


مَحْمُود لَهُم. وَقَالَ عز وَجل: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم. .} (الْأَنْفَال: 06) . الْآيَة، وَلَا يقوم إلاَّ بالزراعة. وَمن هُوَ بالثغور المتقاربة لِلْعَدو لَا يشْتَغل بالحرث، فعلى الْمُسلمين أَن يمدوهم بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي أَبُو مُحَمَّد من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبد الله بن سَالم أَبُو يُوسُف الْأَشْعَرِيّ، مَاتَ سنة تسع وَسبعين وَمِائَة، وَمُحَمّد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون اللَّام: نِسْبَة إِلَى ألهان أَخُو هَمدَان بن مَالك بن زيد، هَذَا فِي كهلان، وألهان أَيْضا فِي حمير وَهُوَ: ألهان بن جشم بن عبد شمس، وَنسبَة مُحَمَّد بن زِيَاد إِلَى ألهان هَذَا. قَالَ ابْن دُرَيْد: ألهان، من قَوْلهم: لهنوا ضيوفهم أَي: أطعموهم مَا يتعلل بِهِ قبل الْغذَاء، وَكَانَ ألهان جمع: لَهُنَّ، وَاسم مَا يَأْكُلهُ الضَّيْف: لهنة، وَلَيْسَ لعبد الله بن سَالم ولمحمد بن زِيَاد فِي الصَّحِيح غير هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ بَعضهم: وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم شَامِيُّونَ وَكلهمْ حمصيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ. قلت: شيخ البُخَارِيّ أَيْضا أَصله من دمشق.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (عَن أبي أُمَامَة) ، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : سَمِعت أَبَا أُمَامَة. قَوْله: (وَرَأى سكَّة) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، و: السِّكَّة، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْكَاف: هِيَ الحديدة الَّتِي يحرث بهَا. قَوْله: (إلاَّ أدخلهُ الذَّال) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ دخله الذل، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم الْمَذْكُورَة إلاَّ أدخلُوا على أنفسهم ذلاً لَا يخرج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَوجه الذل مَا يلْزم الزَّارِع من حُقُوق الأَرْض فيطالبهم السُّلْطَان بذلك. وَقيل: إِن الْمُسلمين إِذا أَقبلُوا على الزِّرَاعَة شغلوا عَن الْعَدو، وَفِي ترك الْجِهَاد نوع ذل.
وَفِي الحَدِيث عَلامَة النُّبُوَّة، قَالَ ابْن بطال: وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَن من يَأْتِي آخر الزَّمَان يَجُورُونَ فِي أَخذ الصَّدقَات والعشور، وَيَأْخُذُونَ فِي ذَلِك أَكثر مِمَّا يجب لَهُم، لِأَنَّهُ ذل لمن أَخذ مِنْهُ بِغَيْر الْحق. انْتهى. قلت: قُوَّة الذل وكثرته فِي الزراعين فِي أَرَاضِي مصر، فَإِن أَصْحَاب الإقطاعات يتسلطون عَلَيْهِم وَيَأْخُذُونَ مِنْهُم فَوق مَا عَلَيْهِم بِضَرْب وَحبس وتهديد بَالغ، ويجعلونهم كالعبيد المشترين فَلَا يتخلصون مِنْهُم، فَإِذا مَاتَ وَاحِد مِنْهُم يُقِيمُونَ وَلَده عوضه بِالْغَصْبِ وَالظُّلم، وَيَأْخُذُونَ غَالب مَا تَركه ويحرمون ورثته.
قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) ، هُوَ: مُحَمَّد بن الزياد الرَّاوِي، وَاسم أبي أُمَامَة الَّذِي روى عَنهُ: صدي، بِضَم الصَّاد وَفتح الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَتَشْديد الْيَاء: ابْن عجلَان بن وهب الْبَاهِلِيّ نزل بحمص وَمَات فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا: دقوة، على عشرَة أَمْيَال من حمص سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وعمره إِحْدَى وَتسْعُونَ سنة، وَقد قيل: إِنَّه آخر من مَاتَ بِالشَّام من الصَّحَابَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر فِي الْأَطْعِمَة، وَآخر فِي الْجِهَاد من قَوْله: يدْخل فِي حكم الْمَرْفُوع، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَهَذَا وَقع للمستملي وَحده.

3 - (بابُ اقْتِناءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اقتناء الْكَلْب، والاقتناء بِالْقَافِ من بَاب الافتعال من اقتنى، يُقَال: قناه يقنوه واقتناه إِذا اتَّخذهُ لنَفسِهِ دون البيع، وَمِنْه الْقنية وَهِي مَا اقتنى من شَاة أَو نَاقَة أَو غَيرهمَا، يُقَال: غنم قنوة وقنية، وَيُقَال: قنوت الْغنم وَغَيرهَا قنوة وقنوة، وقنيت أَيْضا قنية وقنية إِذا اقتنيتها لنَفسك لَا للتِّجَارَة، قيل: أَرَادَ البُخَارِيّ إِبَاحَة الْحَرْث بِدَلِيل إِبَاحَة اقتناء الْكلاب الْمنْهِي عَن اتخاذها لأجل الْحَرْث، فَإِذا رخص من أجل الْحَرْث فِي الْمَمْنُوع من اتِّخَاذه كَانَ أقل درجاته أَن يكون مُبَاحا. قلت: هَذَا استنباط عَجِيب، لِأَن إِبَاحَة الْحَرْث بِالنَّصِّ وَلَو فرض مَوضِع لَيْسَ فِيهِ كلب لَا يُبَاح فِيهِ الْحَرْث.

2232 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثيرٍ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أمسَكَ كلْباً فإنَّهُ ينْقُصُ كلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إلاَّ كَلْبَ حَرْث أوْ ماشِيَةٍ. (الحَدِيث 2232 طرفه فِي: 4233) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ كلب حرث) . ومعاذ، بِضَم الْمِيم وبذال مُعْجمَة: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء: أَبُو زيد الْبَصْرِيّ، وَهِشَام الدستوَائي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن زُهَيْر بن حَرْب: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا هِشَام الدستوَائي حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من مسك كَلْبا فَإِنَّهُ ينقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط إلاَّ كلب حرث أَو كلب مَاشِيَة) . وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هيرة، قَالَ: قَالَ

(12/157)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اتخذ كَلْبا إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو صيد أَو زرع انْتقصَ من أجره كل يَوْم قِيرَاط) . قَالَ الزُّهْرِيّ: فَذكر لِابْنِ عمر قَول أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: يرحم الله أَبَا هُرَيْرَة، كَانَ صَاحب زرع. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ ابْن عمر بقوله: يرحم الله أَبَا هُرَيْرَة كَانَ صَاحب زرع؟ قلت: قيل: أنكر زِيَادَة الزَّرْع عَلَيْهِ، والأحوط أَن يُقَال: إِنَّه أَرَادَ بذلك الْإِشَارَة إِلَى تثبيت رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَأَن سَبَب حفظه لهَذِهِ الزِّيَادَة دون غَيره أَنه كَانَ صَاحب زرع، مشتغلاً بِشَيْء يحْتَاج إِلَى معرفَة أَحْكَامه، وَمَعَ هَذَا جَاءَ لفظ: زرع، فِي حَدِيث ابْن عمر، فِي رِوَايَة مُسلم على مَا نذكرها الْآن، وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اقتنى كَلْبا، إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو ضارية، نقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط) . وروى أَيْضا من حَدِيث سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب صيد وماشية، نقص من أجره كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن دِينَار: أَنه سمع ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب ضارية أَو مَاشِيَة. نقص من عمله كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا أهل دَار اتَّخذُوا كَلْبا، إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو كلب صائد، نقص من عمله كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث أبي الحكم، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اتخذ كَلْبا، إلاَّ كلب زرع أَو غنم أَو صيد، نقص من أجره كل يَوْم قِيرَاط) . وروى أَيْضا من حَدِيث سعيد عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اقتنى كَلْبا، لَيْسَ بكلب صيد وَلَا مَاشِيَة وَلَا أَرض، فَإِنَّهُ ينقص من أجره كل يَوْم قيراطان) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُغفل: (مَا من أهل بَيت يربطون كَلْبا إلاَّ نقص من عَمَلهم كل يَوْم قِيرَاط، إلاَّ كلب صيد أَو كلب حرث أَو كلب غنم) . وَقَالَ: حَدِيث حسن.
قَوْله: (قِيرَاط) ، القيراط هُنَا مِقْدَار مَعْلُوم عِنْد الله، وَالْمرَاد نقص جُزْء من أَجزَاء عمله. فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين قَوْله: قِيرَاط، وَقَوله: قيرطان؟ قلت: يجوز أَن يَكُونَا فِي نَوْعَيْنِ من الْكلاب أَحدهمَا أَشد إِيذَاء. وَقيل: القيراطان فِي المدن والقرى، والقيراط فِي الْبَوَادِي. وَقيل: هما فِي زمانين، فَذكر القيراط أَولا ثمَّ زَاد التَّغْلِيظ فَذكر القيراطين، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب النَّقْص، فَقيل: امْتنَاع الْمَلَائِكَة من دُخُول بَيته، أَو مَا يلْحق المارين من الْأَذَى، أَو ذَلِك عُقُوبَة لَهُم لاتخاذهم مَا نهى عَن اتِّخَاذه، أَو لِكَثْرَة أكله للنجاسات، أَو لكَرَاهَة رائحتها، أَو لِأَن بَعْضهَا شَيْطَان، أَو لولوغه فِي الْأَوَانِي عِنْد غَفلَة صَاحبهَا. قَوْله: (أَو مَاشِيَة) ، كلمة: أَو، للتنويع أَي: أَو كلب مَاشِيَة، والماشية اسْم يَقع على الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي الْغنم، وَيجمع على مواشي.
وَاخْتلف فِي الْأجر الَّذِي ينقص: هَل هُوَ من الْعَمَل الْمَاضِي أَو الْمُسْتَقْبل؟ حكى الرَّوْيَانِيّ هَذَا، وَقَالَ ابْن التِّين: المُرَاد بِهِ أَنه لَو لم يَتَّخِذهُ لَكَانَ عمله كَامِلا، فَإِذا اقتناه نقص من ذَلِك الْعَمَل، وَلَا يجوز أَن ينقص من عمل مضى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه: لَيْسَ عمله فِي الْكَمَال عمل من لم يتَّخذ انْتهى. فَإِن قلت: هَل يجوز اتِّخَاذه لغير الْوُجُوه الْمَذْكُورَة؟ قلت: قَالَ ابْن عبد الْبر مَا حَاصله: إِن هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة تثبت بِالسنةِ، وَمَا عَداهَا فداخل فِي بَاب الْحَظْر، وَقيل: الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة إِبَاحَة اتِّخَاذه لحراسة الدَّرْب إِلْحَاقًا للمنصوص بِمَا فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ وَأَبُو صالِحٍ عَن أبِي هُرَيرَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ كَلْب غَنَم أوْ حَرْثٍ أوْ صَيْدٍ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَأَبُو صَالح) ، أَي: وَقَالَ أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان، وَوصل تَعْلِيقه أَبُو الشَّيْخ عبد الله بن مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب (التَّرْغِيب) لَهُ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي صَالح، وَمن طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، بِلَفْظ: (من اقتنى كَلْبا، إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو صيد أَو حرث، فَإِنَّهُ ينقص من عمله كل يَوْم قيراطان) ، وَلم يقل سُهَيْل: أَو حرث.
وَقَالَ أَبُو حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلْبَ صَيْدٍ أوْ ماشِيَةٍ
أَبُو حَازِم هَذَا هُوَ سلمَان الْأَشْجَعِيّ مولى عزة الأشجعية، ذكره الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) ؛ وَقَالَ أَبُو حَازِم: عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم

(12/158)


يذكر شَيْئا غَيره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو الشَّيْخ من طَرِيق زيد بن أبي أنيسَة عَن عدي بن ثَابت عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: (أَيّمَا أهل دَار ربطوا كَلْبا، لَيْسَ بكلب صيد وَلَا مَاشِيَة، نقص من أجرهم كل يَوْم قِيرَاط) .

3232 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن يَزِيدَ بنِ خُصَيْفَةَ أنَّ السَّائِبَ بنَ يَزيدَ حدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بنَ أبِي زُهَيْرٍ رَجُلاً مِنْ أزْدِشَنُوءَةَ وكانَ مِن أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ مَنِ اقْتَنَى كلْباً لاَ يُغْنِي عنهُ زَرْعاً ولاَ ضرعاً نقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ قلْتُ أنْتَ سَمِعْتَ هَذَا منْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِي ورَبِّ هَذا المَسْجِدِ. (الحَدِيث 3232 طرفه فِي: 5233) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يُغني عَنهُ زرعا) ، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن خصيفَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء: تَصْغِير خصفة، مر فِي: بَاب رفع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد، والسائب بن يزِيد من الزِّيَادَة صَحَابِيّ صَغِير مَشْهُور، وسُفْيَان بن أبي زُهَيْر مصغر زهر واسْمه القرد، بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء: الْأَزْدِيّ الشنائي، وَهُوَ من السراة يعد فِي أهل الْمَدِينَة.
وَقَالَ بَعضهم: وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. قلت: عبد الله بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ تنيسي أَصله من دمشق، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن عَليّ بن حجر بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن خَالِد بن مخلد عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رجلا) ، بِالنّصب، ويروى بِالرَّفْع، وَجه النصب على تَقْدِير: أَعنِي أَو أخص، وَوجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ رجل من أَزْد شنُوءَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة، وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْهمزَة، قَالَ بَعضهم: وَهِي قَبيلَة مَشْهُورَة نسبوا إِلَى شنُوءَة، واسْمه الْحَارِث بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد. قلت: قَالَ ابْن هِشَام: وشنوءة هُوَ عبد الله بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد، فَدلَّ على أَن اسْم شنُوءَة: عبد الله، لَا: الْحَارِث، والمرجع فِيهِ إِلَى ابْن هِشَام وَأَمْثَاله، لَا إِلَى غَيرهم. قَالَ الرشاطي: وَإِنَّمَا قيل: أَزْد شنُوءَة، لشنآن كَانَ بَينهم، والشنآن: البغض. قَالَ يَعْقُوب: والنسبه إِلَيْهِ شنئي. قَالَ: وَيُقَال: شنوة، بتَشْديد الْوَاو غير مَهْمُوز، وينسب إِلَيْهِ: الشنوي. وَيُقَال أَيْضا فِي النِّسْبَة إِلَى شنُوءَة: شنائي، وَيُقَال: الشنيء، بِفَتْح الشين وَضم النُّون وَكسر الْهمزَة، وَيُقَال أَيْضا الشنوئي، بِفَتْح الشين وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو وَكسر الْهمزَة، فَهَذِهِ النِّسْبَة على أَرْبَعَة أوجه، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) . قَوْله: (لَا يُغني) ، من الإغناء. قَوْله: (عَنهُ) ، أَي: عَن الْكَلْب، ويروى: لَا يغنى بِهِ، أَي: لَا ينفع بِسَبَبِهِ أَو لَا يُقيم بِهِ. قَوْله: (وَلَا ضرعا) ، الضَّرع اسْم لكل ذَات ظلف. وخف، وَهَذَا كِنَايَة عَن الْمَاشِيَة. قَوْله: (أَنْت سَمِعت) هَذَا للتثبيت فِي الحَدِيث. قَوْله: (وَرب هَذَا الْمَسْجِد) ، قسم للتَّأْكِيد.
وَاسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ بعض الْمَالِكِيَّة على طَهَارَة الْكَلْب الْجَائِز اتِّخَاذه، لِأَن فِي ملابسته مَعَ الِاحْتِرَاز عَنهُ مشقة شَدِيدَة. قَالُوا: الْإِذْن فِي اتِّخَاذه أذن فِي مكملات مَقْصُوده، قُلْنَا: وَهَذَا يُعَارضهُ حَدِيث الْأَمر من غسل مَا ولغَ فِيهِ الْكَلْب سبع مَرَّات. فَإِن قَالُوا: هَذَا أَمر تعبدي فَلَا يسْتَلْزم النَّجَاسَة {} قُلْنَا: الْخَبَر عَام، فبعمومه يدل على أَن الْغسْل لنجاسته. وَمن فَوَائده: الْحَث على تَكْثِير الْأَعْمَال الصَّالِحَة، والتحذير من الْأَعْمَال الَّتِي فِي ارتكابها نقص الْأجر.

4 - (بابُ اسْتِعْمالِ البَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِعْمَال الْبَقر للحراثة، الْبَقر اسْم جنس، وَالْبَقَرَة تقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَإِنَّمَا دَخلته الْهَاء على أَنه وَاحِد من جنس، وَالْجمع: بقرات، والباقر: جمَاعَة الْبَقر مَعَ رعاتها. وَفِي (الْمغرب) : الباقور والبيقور والأبقور: الْبَقر. وَعَن قطرب: الباقورة: الْبَقر، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الباقورة الْبَقر بلغَة أهل الْيمن، وَفِي الصَّدَقَة لأهل الْيمن فِي ثَلَاثِينَ باقورة: بقرة: وَقَالَ الْجَوْهَرِي: البقير، جمَاعَة الْبَقر.

(12/159)


4232 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما رجُلٌ راكِبٌ علَى بَقَرةٍ الْتَفَتَتْ إلَيْهِ فَقالَتْ لَمْ أُخْلَقْ لِهَذا خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ قَالَ آمَنْتُ بِهِ أَنا وأبُو بَكْرٍ وعُمَرَ وأخذَ الذِّئْبُ شَاة فتَبِعَها الرَّاعِي فَقَالَ الذِّئْبُ منْ لَها يَوْمَ السَّبُع يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَها غَيْرِي قَالَ آمَنْتُ بِهِ أَنا وَأَبُو بَكْرً وعُمَرُ قَالَ أبُو سلَمَةَ وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي القَوْمِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: خلقت للحراثة، وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، وَقد تكَرر ذكره، وَسعد هُوَ إِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَفِي بعض النّسخ: إِبْرَاهِيم مَذْكُور.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي المناقب عَن عَليّ عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن عباد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب مقطعا عَن مُحَمَّد ابْن بشار بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَصله: بَين، زيدت فِيهِ. مَا، ويضاف إِلَى جملَة، وَجَوَابه. قَوْله: (التفتت إِلَيْهِ) . قَوْله: (لهَذَا) ، أَي: للرُّكُوب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: رَاكب. قَوْله: (آمَنت بِهِ) ، أَي: بتكلم الْبَقَرَة. قَوْله: (أَنا) ، إِنَّمَا أضمره لصِحَّة الْعَطف على الضَّمِير الْمُتَّصِل على رَأْي الْبَصرِيين. قَوْله: (فَقَالَ الذِّئْب: من لَهَا؟) أَي: للشاة. قَوْله: (يَوْم السَّبع) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَكثر الْمُحدثين يرونه بِضَم الْبَاء، قَالَ: وَالْمعْنَى على هَذَا، أَي: إِذا أَخذهَا السَّبع لم يقدر على خلاصها فَلَا يرعاها حِينَئِذٍ غَيْرِي، أَي: إِنَّك تهرب وأكون أَنا قَرِيبا مِنْهَا أنظر مَا يفضل لي مِنْهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: يتركون الْمَدِينَة على خير مَا كَانَت لَا يَغْشَاهَا إلاَّ العوافي، يُرِيد السبَاع وَالطير. قَالَ: وَهَذَا لم نسْمع بِهِ، وَلَا بُد من وُقُوعه. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قِرَاءَة النَّاس، بِضَم الْبَاء، وَإِنَّمَا هُوَ بإسكانها وَالضَّم تَصْحِيف، وَيُرِيد بالساكن الْبَاء: الإهمال، وَالْمعْنَى من لَهَا يَوْم يهملها أَرْبَابهَا لعَظيم مَا هم فِيهِ من الكرب، أما بِمَعْنى: يحدث من فتْنَة، أَو يُرِيد بِهِ يَوْم الصَّيْحَة. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري عَن ابْن الْأَعرَابِي: السَّبع، بِسُكُون الْبَاء، هُوَ الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ الْمَحْشَر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لَهَا يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ ابْن قرقول: السَّاكِن الْبَاء؛ عيد لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانُوا يشتغلون بِهِ بلعبهم فيأكل الذِّئْب غَنمهمْ وَلَيْسَ بالسبع الَّذِي يَأْكُل النَّاس. وَقيل: يَوْم السَّبع بِسُكُون الْبَاء، أَي: يَوْم الْجُوع. وَقَالَ ابْن قرقول: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هُوَ يَوْم السَّبع، بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ من تحتهَا، أَي: يَوْم الضّيَاع، يُقَال: أسعت، وأضعت، بِمَعْنى. وَقَالَ القَاضِي: الروايه بِالضَّمِّ وَإِمَّا بِالسُّكُونِ فَمن جعلهَا اسْما للموضع الَّذِي عِنْده الْمَحْشَر أَي من لَهَا يَوْم الْقِيَامَة وَقد أنكر عَلَيْهِ إِذْ يَوْم الْقِيَامَة لَا يكون الذِّئْب راعيها وَلَا لَهُ تعلق بهَا وَقَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ من لَهَا عِنْد الْفِتَن حِين يَتْرُكهَا النَّاس هملا لَا راعي لَهَا نهيبة للسباع فَيبقى لَهَا السَّبع رَاعيا أَي مُنْفَردا بهَا قَوْله " مَا هما " أَي لم يكونها يَوْمئِذٍ حاضرين وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثِقَة بهما لعلمه بِصدق إيمانهما وَقُوَّة يقينهما وَكَمَال معرفتهما بقدرة الله تَعَالَى (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة وَفِيه فضل الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لِأَنَّهُ نزلهما بِمَنْزِلَة نَفسه وَهِي من أعظم الخصائص وَقَالَ ابْن الْمُهلب فِيهِ بَيَان أَن كَلَام الْبَهَائِم من الخصائص الَّتِي خصت بهَا بَنو إِسْرَائِيل وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت فيهم وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ إِذْ خرجه فِي بَاب ذكر بني إِسْرَائِيل قلت لَا يلْزم من ذكر البُخَارِيّ هَذَا فِي بني إِسْرَائِيل اختصاصهم بذلك وَقد روى ابْن وهب أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب وَصَفوَان بن أُميَّة وجدا ذئبا أَخذ ظَبْيًا فاستنقذاه مِنْهُ فَقَالَ لَهما طعمة أطعمنيها الله تَعَالَى وَرُوِيَ مثل هَذَا أَيْضا أَنه جرى لأبي جهل وَأَصْحَاب لَهُ وَعند أبي الْقَاسِم عَن أنس قَالَ كنت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة تَبُوك فشردت على غنمي فجَاء الذِّئْب فَأخذ مِنْهَا شَاة فاشتدت الرُّعَاة خَلفه فَقَالَ الذِّئْب طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني فبهت الْقَوْم فَقَالَ مَا تعْجبُونَ (ح) وَذكر ابْن الْأَثِير أَن قصَّة الذِّئْب كَانَت أَيْضا فِي المبعث وَالَّذِي كَلمه الذِّئْب اسْمه أهبان بن أَوْس الْأَسْلَمِيّ أَبُو عقبَة سكن الْكُوفَة وَقيل أهبان بن عقبَة وَهُوَ عَم سَلمَة بن الْأَكْوَع وَكَانَ

(12/160)


من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَعَن الْكَلْبِيّ هُوَ أهبان بن الْأَكْوَع واسْمه سِنَان بن عياذ بن ربيعَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ أهبان بن أَوْس الْأَسْلَمِيّ يكلم الذِّئْب أَبُو عقبَة كُوفِي وَقيل أَن مُكَلم الذِّئْب أهبان بن عياذ الْخُزَاعِيّ وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على من جعل عِلّة الْمَنْع من أكل الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير أَنَّهَا خلقت للزِّينَة وَالرُّكُوب لقَوْله عز وَجل {لتركبوها وزينة} وَقد خلقت الْبَقر للحراثة كَمَا أنطقها الله عز وَجل وَلم يمْنَع ذَلِك من أكل لحومها لَا فِي بني إِسْرَائِيل وَلَا فِي الْإِسْلَام قلت الْبَقر خلقت للْأَكْل بِالنَّصِّ كَمَا خلقت هَذِه الثَّلَاثَة للرُّكُوب بِالنَّصِّ وَالْبَقر لم تخلق للرُّكُوب فَلذَلِك قَالَت لراكبها لم أخلق لهَذَا وَقَوْلها خلقت للحراثة لَيْسَ بحصر فِيهَا وَلما كَانَت فِيهَا منفعتان الْأكل والحراثة ذكرت مَنْفَعَة الحراثة لكَونهَا أبعد فِي الذِّهْن من مَنْفَعَة الْأكل وَلِأَن الْأكل كَانَ مقررا عِنْد الرَّاكِب بِخِلَاف الحراثة بل رُبمَا كَانَ يظنّ أَنَّهَا غير متصورة عِنْده فنبهته عَلَيْهَا دون الْأكل

(بَاب إِذا قَالَ اكْفِنِي مُؤنَة النّخل أَو غَيره وتشركني فِي الثَّمر)
أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ صَاحب النخيل لغيره اكْفِنِي مُؤنَة النّخل والمؤنة هِيَ الْعَمَل فِيهِ من السَّقْي وَالْقِيَام عَلَيْهِ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ وتشركني فِي الثَّمر أَي الثَّمر الَّذِي يحصل من النّخل وَهَذِه صُورَة الْمُسَاقَاة وَهِي جَائِزَة قَوْله " أَو غَيره " أَي أَو غير النّخل مثل الْكَرم يكون لَهُ وَيَقُول لغيره اكْفِنِي مُؤنَة هَذَا الْكَرم وتشركني فِي الْعِنَب الَّذِي يحصل مِنْهُ وَهَذَا أَيْضا جَائِز وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره مَاذَا قَالَ اكْفِنِي إِلَى آخِره جَازَ هَذَا القَوْل قَوْله " النّخل " رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره النخيل وَهُوَ جمع نخل كالعبيد جمع عبد وَهُوَ جمع نَادِر قَوْله " وتشركني " قَالَ الْكرْمَانِي بِالرَّفْع وَالنّصب وَلم يبين وجههما وَجه الرّفْع على تَقْدِيره حذف الْمُبْتَدَأ أَي وَأَنت تشركني وَالْوَاو فِيهِ للْحَال وَوجه النصب على تَقْدِير كلمة أَن بعد الْوَاو أَي اكْفِنِي مُؤنَة النّخل وَأَن تشركني فِي الثَّمر أَي وعَلى أَن تشركني وَقد ذكر الْكُوفِيُّونَ أَن أَن بِالْفَتْح وَسُكُون النُّون يَأْتِي بِمَعْنى الشَّرْط كَانَ بِكَسْر الْهمزَة
6 - (حَدثنَا الحكم بن نَافِع قَالَ أخبرنَا شُعَيْب قَالَ حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَت الْأَنْصَار للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْسمْ بَيْننَا وَبَين إِخْوَاننَا النخيل قَالَ لَا فَقَالُوا تكفوننا الْمُؤْنَة ونشرككم فِي الثَّمَرَة قَالُوا سمعنَا وأطعنا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " تكفوننا الْمُؤْنَة ونشرككم فِي الثَّمَرَة ". وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ أَبُو الْيَمَان الْحِمصِي وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط وَأخرجه النَّسَائِيّ مثله فِيهِ قَوْله " قَالَت الْأَنْصَار " يَعْنِي حِين قدم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَة قَالُوا يَا رَسُول الله اقْسمْ بَيْننَا وَبَين إِخْوَاننَا يَعْنِي الْمُهَاجِرين النخيل وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن الْأَنْصَار لما بَايعُوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة الْعقبَة شَرط عَلَيْهِم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مواساة من هَاجر إِلَيْهِم فَلَمَّا قدم الْمُهَاجِرُونَ قَالَت الْأَنْصَار أقسم يَا رَسُول الله بَيْننَا وَبينهمْ وَيعْمل كل وَاحِد سَهْمه فَلم يفعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِك وَهُوَ معنى قَوْله " قَالَ لَا " أَي قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أفعل ذَلِك يَعْنِي الْقِسْمَة لِأَنَّهُ كره أَن يخرج شَيْء من عقار الْأَنْصَار عَنْهُم وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيْضا أَن الْمُهَاجِرين لَا علم لَهُم بِعَمَل النّخل فَقَالَت الْأَنْصَار حِينَئِذٍ تكفوننا الْمُؤْنَة وَقد فسرناها ونشرككم فِي الثَّمَرَة وَهُوَ معنى قَوْله فَقَالُوا أَي الْأَنْصَار للمهاجرين تكفوننا الْمُؤْنَة ونشرككم فِي الثَّمَرَة قَالُوا أَي الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار كلهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا يَعْنِي امتثلنا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَهَذِه صُورَة الْمُسَاقَاة ثمَّ ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي عَمَلهم على النّصْف مِمَّا يخرج الثَّمَرَة لِأَن الشّركَة إِذا أبهمت وَلم يكن فِيهَا حد مَعْلُوم كَانَت نِصْفَيْنِ وَقَالَ الْمُهلب فِيهِ حجَّة على جَوَاز الْمُسَاقَاة ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين بِأَن الْمُهَاجِرين كَانُوا ملكوا من الْأَنْصَار نَصِيبا من الأَرْض وَالْمَال بِاشْتِرَاط النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(12/161)


على الْأَنْصَار مواساة الْمُهَاجِرين لَيْلَة الْعقبَة قَالَ فَلَيْسَ ذَلِك من الْمُسَاقَاة فِي شَيْء ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يلْزم من اشْتِرَاط الْمُوَاسَاة ثُبُوت الِاشْتِرَاك فِي الأَرْض إِذْ لَو ثَبت ذَلِك بِمُجَرَّد ذكر الْمُوَاسَاة لم يبْق لسؤالهم لذَلِك ورده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معنى -

6 - (بابُ قَطْعِ الشَّجَرِ والنخْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قطع الشّجر والنخيل، وَلم يذكر حكمه اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَحكمه أَنه يجوز إِذا كَانَ الْقطع لمصْلحَة مثل إنكاء الْعَدو وَنَحْوه، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سعيد بن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَول الله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا} (الْحَشْر: 5) . قَالَ: اللينة النَّخْلَة {وليخزي الْفَاسِقين} (الْحَشْر: 5) . قَالَ: استنزلوهم من حصونهم، قَالَ: وَأمرُوا بِقطع النّخل، فحك فِي صُدُورهمْ، قَالَ الْمُسلمُونَ: قد قَطعنَا بَعْضًا وَتَركنَا بَعْضًا فلنسألن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لنا فِيمَا قَطعنَا من أجر؟ وَهل علينا فِيمَا تركنَا من وزر؟ فَأنْزل الله عز وَجل: {مَا قطعْتُمْ من لينَة} (الْحَشْر: 5) . الْآيَة، وَيَأْتِي عَن البُخَارِيّ الْآن من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرق نخل بني النَّضِير وَقطع، وَهِي البويرة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَذهب قوم من أهل الْعلم إِلَى هَذَا الحَدِيث وَلم يرَوا بَأْسا بِقطع الْأَشْجَار وتخريب الْحُصُون، وَكره بَعضهم ذَلِك، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: نهى أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يقطع شَجرا مثمراً أَو يخرب عَامِرًا، وَعمل بذلك الْمُسلمُونَ بعده. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا بَأْس بالتحريق فِي أَرض الْعَدو، وَقطع الْأَشْجَار وَالثِّمَار. وَقَالَ أَحْمد: وَقد يكون فِي مَوَاضِع لَا يَجدونَ مِنْهُ بدا، فَأَما بالعبث فَلَا يحرق. وَقَالَ إِسْحَاق: التحريق سنة إِذا كَانَ إنكاء فيهم، انْتهى كَلَام التِّرْمِذِيّ، وَذكر بعض أهل الْعلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قطع نَخْلهمْ ليغيظهم بذلك، وَنزل فِي ذَلِك: {وليخزي الْفَاسِقين} (الْحَشْر: 5) . فَكَانَ قطع النّخل وعقر الشّجر خزياً لَهُم. وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي: أَنه مَذْهَب الْجُمْهُور وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَقَالَ ابْن بطال: ذهب طَائِفَة إِلَى أَنه إِذا رجى أَن يصير الْبَلَد للْمُسلمين فَلَا بَأْس أَن يتْرك ثمارهم، فَإِن قلت: روى النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن حبشِي، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قطع سِدْرَة صوب الله رَأسه فِي النَّار) . وَعَن عُرْوَة مَرْفُوعا، نَحوه مُرْسلا. قلت: كَانَ عُرْوَة يقطعهُ من أرضه، وَيحمل الحَدِيث على تَقْدِير صِحَّته أَنه أَرَادَ سدر مَكَّة، وَقيل: سدر الْمَدِينَة، لِأَنَّهُ أنس وظل لمن جاءهما، وَلِهَذَا كَانَ عُرْوَة يقطعهُ من أرضه لَا أَنه كَانَ يقطعهُ من الْأَمَاكِن الَّتِي يسْتَأْنس بهَا، وَلَا يستظل الْغَرِيب بهَا هُوَ وبهيمته.
وَقَالَ أنَسُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّخْلِ فقُطِعَ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ويوضح الحكم الَّذِي لم يذكر فِيهَا، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل قد ذكره فِي: بَاب نبش قُبُور الْجَاهِلِيَّة بَين أَبْوَاب الْمَسَاجِد فِي كتاب الصَّلَاة.

6232 - حدَّثنا موسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ عنْ عبدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ حرَّقَ نَخْلَ بَني النَّضِيرِ وقَطَعَ وهْيَ البوَيْرَةُ ولَهَا يَقولُ حَسَّانُ.

(وهَانَ علَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَجُوَيْرِية بن أَسمَاء، وَعبد الله: هُوَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِسْحَاق بن حَيَّان.
قَوْله: (بني النَّضِير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة، وهم قوم من الْيَهُود، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: قُرَيْظَة وَالنضير والنحام وَعمر وَبَنُو الْخَزْرَج بن الصَّرِيح بن التومان بن السمط بن اليسع بن سعد بن لاوي ابْن خير بن النحام بن تخوم بن عازر بن عذر بن هَارُون بن عمرَان بن يصهر بن لاوي بن يَعْقُوب، وَهُوَ إِسْرَائِيل بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يسلم من بني النَّضِير إلاَّ رجلَانِ: يَامِين بن عُمَيْر بن عَمْرو بن جحاش،

(12/162)


وَأَبُو سعيد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها، وَالنِّسْبَة إِلَى بني النَّضِير: النضيري، وَيُقَال فِيهِ: النضري أَيْضا. قَوْله: (وَهِي البويرة) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء مَوضِع مَعْرُوف من بلد بني النَّضِير. قَوْله: (وَلها) أَي: وللبويرة يَقُول حسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن حرَام الخزرجي الْأنْصَارِيّ: مَاتَ قبل الْأَرْبَعين فِي خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْبَيْت الْمَذْكُور من الْمُتَوَاتر، وَلما أنْشدهُ حسان أَجَابَهُ سُفْيَان بن الْحَارِث بقوله:

(أدام الله ذَلِك من صنيعوحرق فِي نَوَاحِيهَا السعير)

قَوْله: (وَهَان) ، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: هان، بِلَا وَاو، فَيكون الْبَيْت مخروماً. قَوْله: (على سراة) ، بِفَتْح السِّين: السادات وَهُوَ جمع السّري على غير قِيَاس. قَوْله: (بني لؤَي) ، بِضَم اللَّام وَفتح الْهمزَة مصغر: لأي، اسْم رجل، وَالْمرَاد مِنْهُم: أكَابِر قُرَيْش. قَوْله: (مستطير) أَي: منتشر.

7 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر حَدِيث، وَكَذَا وَقع بِغَيْر تَرْجَمَة عِنْد الْجَمِيع، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله.

7232 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ حَنْظَلَة بنِ قَيْسٍ الأنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعَ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ قَالَ كُنَّا أكْثَرَ أهْلِ المَدِينَةِ مُزْدَرَعاً كُنَّا نُكْرِي الأرْضَ بالنَّاحِيَةِ مِنْها مُسَمَّى لِسَيِّدِ الأرْضِ قَالَ فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وتَسْلَمُ الأرْضُ ومِمَّا يُصابُ الأرْضُ ويَسْلمُ ذَلِكَ فَنُهِينا وأمَّا الذَّهَبُ والوَرِقُ فلَم يَكُنْ يَوْمَئِذٍ. .

قيل: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، وَلَعَلَّ النَّاسِخ غلط فَكَتبهُ فِي غير مَوْضِعه. وَأجِيب: بِأَن لَهُ وَجها، لَعَلَّ وَجههَا من حَيْثُ إِن من اكترى أَرضًا لمُدَّة فَلهُ أَن يزرع ويغرس فِيهَا مَا شَاءَ، فَإِذا تمت الْمدَّة فَلصَاحِب الأَرْض طلبه بقلعهما، فَهَذَا من بَاب إِبَاحَة قطع الشّجر. قلت: هَذَا الْمِقْدَار كَاف فِي طلب الْمُطَابقَة فِي ذكر متن الحَدِيث هُنَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: حَنْظَلَة بن قيس الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف: الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: رَافع بن خديج، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وبالجيم: ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه رازيان وَيحيى وحَنْظَلَة مدنيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه ذكر مُجَردا عَن النِّسْبَة وَكَذَلِكَ عبد الله ذكر مُجَردا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَفِي الشُّرُوط عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو النَّاقِد عَن سُفْيَان وَعَن أبي الرّبيع وَعَن أبي مُوسَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الرَّازِيّ وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَعَن قُتَيْبَة عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مزدرعاً) ، نصب على التَّمْيِيز، والمزدرع مَكَان الزَّرْع وَيجوز أَن يكون مصدرا، أَي: كُنَّا أَكثر أهل الْمَدِينَة زرعا، والمزدرع أَصله المزترع لِأَنَّهُ من بَاب الافتعال، وَلَكِن قلب التَّاء دَالا لِأَن مخرج التَّاء لَا يُوَافق الزَّاي لشدتها. قَوْله: (نكرِي الأَرْض) ، بِضَم النُّون من الإكراء. قَوْله: (مُسَمّى) ، الْقيَاس فِيهِ مُسَمَّاة لِأَنَّهُ حَال من النَّاحِيَة، وَلَكِن ذكر بِاعْتِبَار أَن نَاحيَة الشَّيْء بعضه، وَيجوز أَن يكون التَّذْكِير بِاعْتِبَار الزَّرْع، ويروى: تسمي، بِلَفْظ الْفِعْل، وَهُوَ أَيْضا حَال. قَوْله:

(12/163)


(لسَيِّد الأَرْض) ، أَي: مَالِكهَا، جعل الأَرْض كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوك وَأطلق السَّيِّد عَلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: رَافع بن خديج. قَوْله: (فمما يصاب ذَلِك) ، أَي: فكثيراً مَا يصاب ذَلِك الْبَعْض، أَي: يَقع لَهُ مُصِيبَة وَيصير مؤوفاً فيتلف ذَلِك وَيسلم بَاقِي الأَرْض، وَبِالْعَكْسِ تَارَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَمِمَّا يصاب الأَرْض وَيسلم ذَلِك أَي: الْبَعْض، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فمهما، فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرِوَايَة الْأَكْثَرين أولى لِأَن: مهما، يسْتَعْمل لأحد معَان ثَلَاثَة: أَحدهَا: يتَضَمَّن معنى الشَّرْط فِيمَا لَا يعقل غير الزَّمَان. وَالثَّانِي: الزَّمَان وَالشّرط، والزمخشري يُنكر ذَلِك. وَالثَّالِث: الِاسْتِفْهَام، وَلَا يُنَاسب مهما هُنَا إلاَّ بالتعسف، يعلم ذَلِك من يتَأَمَّل فِيهِ، وَأما من لَا عَرَبِيَّة لَهُ فَلَا يفهم من ذَلِك شَيْئا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون: مهما، بِمَعْنى: رُبمَا، لِأَن حُرُوف الْجَرّ يُقَام بَعْضهَا مقَام الْبَعْض، سِيمَا، وَمن، التبعضية تناسب: رب، التقليلية، وعَلى هَذَا الِاحْتِمَال لَا يحْتَاج أَن يُقَال: إِن لفظ ذَلِك من بَاب وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر. قَوْله: (فنهينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: نهينَا عَن هَذَا الإكراء على هَذَا الْوَجْه لِأَنَّهُ مُوجب لحرمان أحد الطَّرفَيْنِ، فَيُؤَدِّي إِلَى الْأكل بِالْبَاطِلِ. قَوْله: (وَالْوَرق) ، بِكَسْر الرَّاء هُوَ الْفضة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الْفضة عوض الورث. قَوْله: (فَلم يكن يَوْمئِذٍ) ، يَعْنِي: فَلم يكن الذَّهَب وَالْفِضَّة يكرى بهما، لَا أَن مَعْنَاهُ فَلَيْسَ الذَّهَب وَالْفِضَّة موجودين.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن إكراء الأَرْض بِجُزْء مِنْهَا، أَي: بِجُزْء مِمَّا يخرج مِنْهَا مَنْهِيّ عَنهُ، وَهُوَ مَذْهَب عَطاء وَمُجاهد ومسروق وَالشعْبِيّ وطاووس وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَزفر، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث رَافع ابْن خديج الْمَذْكُور. وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا أخرجه الطَّحَاوِيّ. حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي جرير بن حَازِم عَن يعلى بن حَكِيم عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن رَافع بن خديج، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليزرعها أَخَاهُ وَلَا يكريها بِالثُّلثِ وَلَا بِالربعِ وَلَا بِطَعَام مُسَمّى) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي بعد عشرَة أَبْوَاب، وَبِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب، قَالَ: سَأَلت عبد الله ابْن مُغفل عَن الْمُزَارعَة، فَقَالَ: أَخْبرنِي ثَابت بن الضَّحَّاك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر بن عبد الله، وَسَيَأْتِي أَيْضا هَذَا بعد أَبْوَاب، وَبِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث سَالم: أَن عبد الله ابْن عمر، قَالَ: كنت أعلم فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الأَرْض تكرى ... الحَدِيث، وَسَيَأْتِي هَذَا أَيْضا بعد أَبْوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَلما كَانَت أَحَادِيث هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة مُخْتَلفَة الْأَلْفَاظ ومتباينة الْمعَانِي كثرت فِيهِ مَذَاهِب النَّاس وأقوال الْعلمَاء. قَالَ أَبُو عمر: لَا يجوز كِرَاء الأَرْض بِشَيْء من الطَّعَام مَأْكُولا كَانَ أَو مشروباً على حَال، لِأَن ذَلِك فِي معنى بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ نَسِيئَة، وَكَذَلِكَ: لَا يجوز كِرَاء الأَرْض بِشَيْء مِمَّا يخرج مِنْهَا وَإِن لم يكن طَعَاما وَلَا مشروباً سوى الْخشب والقصب والحطب، لِأَنَّهُ فِي معنى المراقبة، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ عَن مَالك وَأَصْحَابه. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف النَّاس فِي منع كِرَاء الأَرْض على الْإِطْلَاق، فَقَالَ بِهِ طَاوُوس وَالْحسن أخذا بِظَاهِر النَّهْي عَن المحاقلة، وفسرها الرَّاوِي بكرَاء الأَرْض، فَأطلق. وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: إِنَّمَا يمْنَع على التَّقْيِيد دون الْإِطْلَاق، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك، فعندهما أَن كراءها بالجزء لَا يجوز من غير خلاف، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ بعض الصَّحَابَة وَبَعض الْفُقَهَاء بِجَوَازِهِ تَشْبِيها بالقراض، وَأما إكراءها بِالطَّعَامِ مَضْمُونا فِي الذِّمَّة فَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ ابْن حزم: وَمِمَّنْ أجَاز إِعْطَاء الأَرْض بِجُزْء مُسَمّى مِمَّا يخرج مِنْهَا: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن عمر وَسعد وَابْن مَسْعُود وخباب وَحُذَيْفَة ومعاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن مُوسَى وَابْن أبي ليلى وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَابْن الْمُنْذر، وَاخْتلف فِيهَا عَن اللَّيْث، وأجازها أَحْمد وَإِسْحَاق، إلاَّ أَنَّهُمَا قَالَا إِن الْبذر يكون من عِنْد صَاحب الأَرْض، وَإِنَّمَا على الْعَامِل الْبَقر والآلة وَالْعَمَل، وَأَجَازَهُ بعض أَصْحَاب الحَدِيث، وَلم يبال مِمَّن جعل الْبذر مِنْهُمَا.

8 - (بابُ المُزَارَعَةِ بالشَّطْرِ ونَحْوِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُزَارعَة بالشطر، أَي: بِالنِّصْفِ، قَالَ بَعضهم: رَاعى المُصَنّف لفظ: الشّطْر، لوروده فِي الحَدِيث،

(12/164)


وَألْحق غَيره لتساويهما فِي الْمَعْنى، وَلَوْلَا مُرَاعَاة لفظ الحَدِيث لَكَانَ قَوْله: الْمُزَارعَة بالجزء أخصر. قلت: قد يُطلق الشّطْر وَيُرَاد بِهِ الْبَعْض، فَاخْتَارَ لفظ الشّطْر لمراعاة لفظ الحَدِيث، ولكونه يُطلق على الْبَعْض وَالْبَعْض هُوَ الْجُزْء. فَإِن قلت: فعلى هَذَا لَا حَاجَة إِلَى قَوْله: وَنَحْوه؟ قلت: إِذا أُرِيد بِلَفْظ الشّطْر الْبَعْض يكون المُرَاد بِنَحْوِهِ الْجُزْء، فَلَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى التعسف بالإلحاق. فَافْهَم.
وَقل قيْسُ بنُ مُسْلِمً عَن أبِي جَعْفَرٍ قَالَ مَا بالمَدِينَةِ أهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إلاَّ يَزْرَعُونَ علَى الثُّلْثِ والرُّبْعِ
قيس بن مُسلم الجدلي أَبُو عَمْرو الْكُوفِي، مر فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان، وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن الباقر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ، قَالَ: أَخْبرنِي قيس بن مُسلم عَن أبي جَعْفَر بِهِ. قَوْله: (أهل بَيت هِجْرَة) ، أَرَادَ بِهِ الْمُهَاجِرين. قَوْله: (وَالرّبع) ، الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى أَو، وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو عاطفة على الْفِعْل لَا على الْمَجْرُور، أَي: يزرعون على الثُّلُث ويزرعون على الرّبع. قلت: لَا يُقَال الْحَرْف يعْطف على الْفِعْل، وَإِنَّمَا الْوَاو هُنَا بِمَعْنى: أَو، كَمَا قُلْنَا، فَإِذا خليناها على أَصْلهَا يكون فِيهِ حذف تَقْدِيره: وإلاَّ يزرعون على الرّبع، وَنقل ابْن التِّين عَن الْقَابِسِيّ شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه أنكر رِوَايَة قيس بن مُسلم عَن أبي جَعْفَر، وَعلل بِأَن قيسا كُوفِي وَأَبا جَعْفَر مدنِي، وَلم يروه عَن قيس أحد من الْمَدَنِيين، ورد هَذَا بِأَن انْفِرَاد الثِّقَة الْحَافِظ لَا يضر. وَالْآخر: ذكر أَن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآثَار فِي هَذَا الْبَاب ليعلم أَنه لم يَصح فِي الْمُزَارعَة على الْجُزْء حَدِيث مُسْند، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ذهل عَن حَدِيث ابْن عمر الَّذِي فِي آخر الْبَاب، وَهُوَ الَّذِي احْتج بِهِ من قَالَ بِالْجَوَازِ.
وَزَارَعَ عَلِيٌّ وسَعْد بنُ مَالِكٍ وعَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ وعُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ والْقَاسِمُ وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ وآلُ أبِي بَكْرٍ وآلِ عُمَرَ وآلُ عَلِيٍّ وابنُ سِيرينَ
وصل تَعْلِيق عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَمْرو بن صليعٍ عَنهُ أَنه: لم ير بَأْسا بالمزارعة على النّصْف. وَوصل تَعْلِيق سعد بن مَالك، وَهُوَ سعد بن أبي وَقاص، وَتَعْلِيق عبد الله بن مَسْعُود، الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا فَهد حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد أخبرنَا شريك عَن إِبْرَاهِيم بن المُهَاجر، قَالَ: سَأَلت مُوسَى بن طَلْحَة عَن الْمُزَارعَة، فَقَالَ: أقطع عُثْمَان عبد الله أَرضًا، وأقطع سَعْدا أَرضًا، وأقطع خباباً أَرضًا وأقطع صهيباً أَرضًا فَكل جاري، فَكَانَا يزرعان بِالثُّلثِ وَالرّبع. انْتهى وَفِيه: خباب وصهيب أَيْضا. وَوصل تَعْلِيق عمر بن عبد الْعَزِيز ابْن أبي شيبَة من طَرِيق خَالِد الْحذاء: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كتب إِلَى عدي بن أَرْطَأَة أَن يزارع بِالثُّلثِ أَو الرّبع. وَوصل تَعْلِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد عبد الرَّزَّاق، قَالَ: سَمِعت هشاماً يحدث أَن ابْن سِيرِين أرْسلهُ إِلَى الْقَاسِم بن مُحَمَّد يسْأَله عَن رجل قَالَ لآخر: إعمل فِي حائطي هَذَا وَلَك الثُّلُث أَو الرّبع، قَالَ: لَا بَأْس. قَالَ: فَرَجَعت إِلَى ابْن سِيرِين فَأَخْبَرته، فَقَالَ: هَذَا أحسن مَا يصنع فِي الأَرْض، وَوصل تَعْلِيق عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام ابْن أبي شيبَة، قَالَه بَعضهم وَلم أَجِدهُ. وَوصل تَعْلِيق آل أبي بكر وَآل عمر فوصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَدِهِ إِلَى أبي شيبَة، بِسَنَدِهِ إِلَى أبي جَعْفَر الباقر: أَنه سُئِلَ عَن الْمُزَارعَة بِالثُّلثِ وَالرّبع؟ فَقَالَ: إِن نظرت فِي آل أبي بكر وَآل عمر وَجَدتهمْ يَفْعَلُونَ ذَلِك، قلت آل الرجل أهل بَيته، لِأَن الْآل الْقَبِيلَة ينْسب إِلَيْهَا فَيدْخل كل من ينْسب إِلَيْهِ من قبل آبَائِهِ إِلَى أقْصَى أَب لَهُ فِي الْإِسْلَام الْأَقْرَب والأبعد. وَوصل تَعْلِيق مُحَمَّد بن سِيرِين بن سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَادِهِ عَنهُ: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يَجْعَل الرجل للرجل طَائِفَة من زرعه أَو حرثه، على أَن يَكْفِيهِ مؤونتها وَالْقِيَام عَلَيْهَا.
وَقَالَ عبدُ الرَّحْمانُ بنُ الأسْوَدِ كُنْتُ أُشَارِكُ عبدَ الرَّحْمانِ بنَ يَزِيدَ فِي الزَّرْعِ
عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ أَبُو بكر الْكُوفِي، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ الْكُوفِي هُوَ أَخُو الْأسود بن يزِيد، وَابْن أخي عَلْقَمَة بن قيس، وَهُوَ أَيْضا أدْرك جمَاعَة من الصَّحَابَة. وَوصل تَعْلِيقه ابْن أبي شيبَة، وَزَاد فِيهِ، واحمله إِلَى عَلْقَمَة وَالْأسود، فَلَو رَأيا بِهِ بَأْسا لنهياني عَنهُ.

(12/165)


وعامَلَ عُمَرُ الناسَ علَى إنْ جاءَ عُمَرُ بالبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فلَهُ الشَّطْرُ وإنْ جاؤُا بالبَذْرِ فلَهُمْ كذَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد: أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أجلى أهل نَجْرَان وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَاشْترى بَيَاض أَرضهم وكرومهم، فعامل عمر النَّاس: إِن هم جاؤا بالبقر وَالْحَدِيد من عِنْدهم فَلهم الثُّلُثَانِ ولعمر الثُّلُث، وَإِن جَاءَ عمر بالبذر من عِنْده فَلهُ الشّطْر، وعاملهم فِي النّخل على أَن لَهُم الْخمس، وَله الْبَاقِي وعاملهم فِي الْكَرم على أَن لَهُم الثُّلُث وَله الثُّلثَيْنِ.
وَقَالَ الحسَنُ لاَ بَأْسَ أنْ تَكُونَ الأرضُ لِأَحَدِهِمَا فيُنْفِقَانِ جَمِيعاً فَما خَرَجَ فَهْوَ بَيْنَهُمَا
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، قَالَ بَعضهم: أما قَول الْحسن فوصله سعيد بن مَنْصُور نَحوه. قلت: لم أَقف على ذَلِك بعد الْكَشْف.
ورَأى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ
أَي: رأى مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ مَا قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ، يَعْنِي: يذهب إِلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: أما قَول الزُّهْرِيّ فوصله عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة نَحوه. قلت: لم أَجِدهُ عِنْدهمَا.
وقالَ الحَسَنُ لاَ بَأْسَ أنْ يُجْتَنَى الْقُطْنُ علَى النِّصْفِ
أَن يجتنى من: جنيت الثَّمَرَة إِذا أَخَذتهَا من الشَّجَرَة. وَقَالَ ابْن بطال: أما اجتناء الْقطن والعصفر ولقاط الزَّيْتُون والحصاد، كل ذَلِك غير مَعْلُوم، فَأَجَازَهُ جمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل قاسوه على الْقَرَاض، لِأَنَّهُ يعْمل بِالْمَالِ على جُزْء مِنْهُ مَعْلُوم لَا يدْرِي مبلغه، وَمنع من ذَلِك مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، لِأَنَّهَا عِنْدهم إِجَارَة بِثمن مَجْهُول لَا يعرف.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وابنُ سِيرينَ وعطَاءٌ والحَكَمُ والزُّهْرِيُّ وقَتادَةُ لَا بأسَ أنْ يُعْطِيَ الثَّوْبَ بالثُّلْثِ أوِ الرُّبْعِ ونَحْوَهُ
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح وَالْحكم هُوَ ابْن عتيبة وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم وَقَتَادَة هُوَ ابْن دعامة، قَالُوا: لَا بَأْس أَن يعْطى للنساج الْغَزل لينسجه وَيكون ثلث المنسوج لَهُ وَالْبَاقِي لمَالِك الْغَزل، وَأطلق الثَّوْب على الْغَزل مجَازًا. أما قَول إِبْرَاهِيم فوصله أَبُو بكر الْأَثْرَم من طَرِيق الحكم أَنه: سَأَلَ إِبْرَاهِيم عَن الحواك يُعْطي الثَّوْب على الثُّلُث وَالرّبع، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، وَأما قَول ابْن سِيرِين فوصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق ابْن عون: سَأَلت مُحَمَّدًا هُوَ ابْن سِيرِين عَن الرجل يدْفع إِلَى النساج الثَّوْب بِالثُّلثِ أَو بِالربعِ أَو بِمَا تَرَاضيا عَلَيْهِ فَقَالَ لَا أعلم بِهِ بَأْسا وَقَالَ بَعضهم وَأما قَول عَطاء وَالْحكم فوصلهما ابْن أبي شيبَة. قلت: لم أجد ذَلِك عِنْده. وَأما قَول الزُّهْرِيّ فَلم أَقف عَلَيْهِ. وَأما قَول قَتَادَة فوصله ابْن أبي شيبَة بِلَفْظ: أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يدْفع الثَّوْب إِلَى النساج بِالثُّلثِ. وَقَالَ أَصْحَابنَا: من دفع إِلَى حائك غزلاً لينسجه بِالنِّصْفِ فَهَذَا فَاسد، فللحائك أجر مثله. وَفِي (الْمَبْسُوط) : حكى الْحلْوانِي عَن أستاذه أبي عَليّ أَنه كَانَ يُفْتِي بِجَوَاز ذَلِك فِي دياره بنسف، لِأَن فِيهِ عرفا ظَاهرا، وَكَذَا مَشَايِخ بَلخ يفتون بِجَوَاز ذَلِك فِي الثِّيَاب للتعامل، وَكَذَا قَالُوا: لَا يجوز إِذا اسْتَأْجر حمارا يحمل طَعَاما بقفيز مِنْهُ، لِأَنَّهُ جعل الْأجر بعض مَا يخرج من عمله، فَيصير فِي معنى قفيز الطَّحَّان وَقد نهى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: نهى عَن عسب الْفَحْل وَعَن قفيز الطَّحَّان، وَتَفْسِير: قفيز الطَّحَّان: أَن يسْتَأْجر ثوراً ليطحن لَهُ حِنْطَة بقفيز من دقيقه، وَكَذَا إِذا اسْتَأْجر أَن يعصر لَهُ سمسماً بِمن من دهنه أَو اسْتَأْجر امْرَأَة لغزل هَذَا الْقطن أَو هَذَا الصُّوف برطل من الْغَزل، وَكَذَا اجتناء الْقطن بِالنِّصْفِ، ودياس الدخن بِالنِّصْفِ، وحصاد الْحِنْطَة بِالنِّصْفِ، وَنَحْو ذَلِك، وكل ذَلِك لَا يجوز.

(12/166)


وَقَالَ مَعْمَرٌ لَا بأسَ أَن تكُونَ المَاشِيَةُ علَى الثُّلْثِ أوِ الرُّبْعِ إلَى أجَلٍ مُسَمًّى
معمر، بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد. قَوْله: (أَن تكون الْمَاشِيَة) ، ويروى: أَن يكْرِي الْمَاشِيَة، وَذَلِكَ: أَن يكْرِي دَابَّة تحمل لَهُ طَعَاما مثلا إِلَى مُدَّة مُعينَة، على أَن يكون ذَلِك بَينهمَا أَثلَاثًا أَو أَربَاعًا، فَإِنَّهُ لَا بَأْس. وَعِنْدنَا: لَا يجوز ذَلِك، وَعَلِيهِ أُجْرَة الْمثل لصَاحب الدَّابَّة.

8232 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِيَاضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ أنَّ عبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أخْبَرَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَر أوْ زَرْعٍ فَكانَ يُعْطِي أزْوَاجَهُ مِائَةَ وسْقٍ ثَمانُونَ وسْقَ تَمْرٍ وعِشْرُونَ وسْقَ شَعِيرٍ فقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ فَخَيَّرَ أزْوَاجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنَ المَاءِ والأرْضِ أوْ يُمْضِي لَهُنَّ فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأرْضَ ومِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الوَسْقَ وكانَتْ عائِشَةُ اخْتَارَتِ الأرْضَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَامل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من تمر أَو زرع) ، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ، والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أخبرهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ويروى: أخبرهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَامل خَيْبَر) أَي: أهل خَيْبَر، نَحْو: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . أَي: أهل الْقرْيَة. قَوْله: (بِشَطْر) ، أَي: بِنصْف مَا يخرج مِنْهَا. قَوْله: (من ثَمَر) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة إِشَارَة إِلَى الْمُسَاقَاة. قَوْله: (أَو زرع) ، إِشَارَة إِلَى الْمُزَارعَة. قَوْله: (فَكَانَ يُعْطي أَزوَاجه مائَة وسق) ، الوسق سِتُّونَ صَاعا بِصَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي كتاب الْخراج ضَبطه ابْن التِّين: الوسق، بِضَم الْوَاو، وَقَالَ غَيره: هُوَ بِالْفَتْح. قَوْله: (ثَمَانُون وسق تمر وَعِشْرُونَ وسق شعير) ، كذاا هُوَ: ثَمَانُون وَعِشْرُونَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ثَمَانِينَ وَعشْرين، وَجه الرّفْع على تَقْدِير: مِنْهَا ثَمَانُون وسق تمر، فَيكون ارْتِفَاع: ثَمَانُون، على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما لفظ: مِنْهَا. وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: وَعِشْرُونَ، أَي: وَمِنْهَا عشرُون، وَوجه النصب على تَقْدِير: أَعنِي ثَمَانِينَ وسق تمر وَعشْرين وسق شعير، وَقَالَ بَعضهم: الرّفْع على الْقطع، وَثَمَانِينَ على الْبَدَل، وَلَا يَصح شَيْء من ذَلِك يعرف بِالتَّأَمُّلِ، وَلَفظ: وسق، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَنْصُوب على التَّمْيِيز، وَكِلَاهُمَا بِالْإِضَافَة. قَوْله: (فقسم عمر) ، ويروى: وَقسم بِالْوَاو. وَقَالَ بَعضهم: وَقسم عمر أَي: خَيْبَر وَصرح بذلك أَحْمد فِي رِوَايَته عَن ابْن نمير عَن عبيد الله بن عمر. قلت: فِي كثير من النّسخ قلت: خَيْبَر، مَوْجُود فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير إلاَّ فِي نُسْخَة سقط مِنْهَا هَذَا اللَّفْظ. قَوْله: (أَن يقطع) ، بِضَم الْيَاء من الإقطاع بِكَسْر الْهمزَة، يُقَال: أقطع السُّلْطَان فلَانا أَرض كَذَا، إِذا أعطَاهُ وَجعله قطيعة لَهُ. قَوْله: (ويمضي لَهُنَّ) أَي: أَو يجْرِي لَهُنَّ قِسْمَتهنَّ على مَا كَانَ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا كَانَ من التَّمْر وَالشعِير.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: هَذَا الحَدِيث عُمْدَة من أجَاز الْمُزَارعَة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي كِرَاء الأَرْض بِالشّرطِ وَالثلث وَالرّبع، فَأجَاز ذَلِك عَليّ وَابْن مَسْعُود وَسعد وَالزُّبَيْر وَأُسَامَة وَابْن عمر ومعاذ وخباب، وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وطاووس وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد، وَهَؤُلَاء أَجَازُوا الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة. وكرهت ذَلِك طَائِفَة، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعِكْرِمَة وَالنَّخَعِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، قَالُوا: لَا تجوز الْمُزَارعَة، وَهُوَ كِرَاء الأَرْض بِجُزْء مِنْهَا، وَيجوز عِنْدهم الْمُسَاقَاة، ومنعها أَبُو حنيفَة وَزفر فَقَالَا: لَا تجوز الْمُزَارعَة وَلَا الْمُسَاقَاة بِوَجْه من الْوُجُوه، وَقَالُوا: الْمُزَارعَة مَنْسُوخَة بِالنَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِمَا يخرج، وَهِي إِجَارَة مَجْهُولَة، لِأَنَّهُ قد لَا تخرج الأَرْض شَيْئا. وأدعوا أَن الْمُسَاقَاة مَنْسُوخَة بِالنَّهْي عَن الْمُزَابَنَة، وَذكر الطَّحَاوِيّ حَدِيث رَافع: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمُزَارعَة، وَحَدِيث ابْن عمر: كُنَّا لَا نرى بَأْسا حَتَّى زعم رَافع أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن المخابرة، وَمثله: نهى عَن كِرَاء الأَرْض، وَحَدِيث ثَابت بن الضَّحَّاك: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة. وَحَدِيث جَابر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليزرعها أَخَاهُ وَلَا يؤاجرها) . وَفِي لفظ: (من لم يدع المخابرة فليؤذن

(12/167)


بِحَرب من الله عز وَجل) .
وَأجَاب أَبُو حنيفَة عَن حَدِيث الْبَاب بِأَن مُعَاملَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل خَيْبَر لم كن بطرِيق الْمُزَارعَة وَالْمُسَاقَاة، بل كَانَت بطرِيق الْخراج على وَجه الْمَنّ عَلَيْهِم وَالصُّلْح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملكهَا غنيمَة، فَلَو كَانَ أَخذ كلهَا جَازَ وَتركهَا فِي أَيْديهم بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا فضلا، وَكَانَ ذَلِك خراج مقاسمة وَهُوَ جَائِز كخراج التوظيف، وَلَا نزاع فِيهِ، وَإِنَّمَا النزاع فِي جَوَاز الْمُزَارعَة والمعاملة، وخراج الْمُقَاسَمَة أَن يوظف الإِمَام فِي الْخَارِج شَيْئا مُقَدرا عشرا أَو ثلثا أَو ربعا وَيتْرك الْأَرَاضِي على ملكهم منا عَلَيْهِم، فَإِن لم تخرج الأَرْض شَيْئا فَلَا شَيْء عَلَيْهِم، وَهَذَا تَأْوِيل صَحِيح، فَإِنَّهُ لم ينْقل عَن أحد من الروَاة أَنه تصرف فِي رقابهم أَو رِقَاب أَوْلَادهم. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي (شَرحه لمختصر الطَّحَاوِيّ) : وَمِمَّا يدل على أَن مَا شَرط من نصف الثَّمر وَالزَّرْع كَانَ على وَجه الْجِزْيَة، أَنه لم يرو فِي شَيْء من الْأَخْبَار أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ مِنْهُم الْجِزْيَة إِلَى أَن مَاتَ، وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى أَن أجلاهم، وَلَو لم يكن ذَلِك لأخذ مِنْهُم الْجِزْيَة حِين نزلت آيَة الْجِزْيَة، وَالْخَرَاج الموظف أَن يَجْعَل الإِمَام فِي ذمتهم بِمُقَابلَة الأَرْض شَيْئا من كل جريب يصلح للزِّرَاعَة صَاعا ودرهماً. فَإِن قلت: رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم أَرَاضِي خَيْبَر على سِتَّة وَثَلَاثِينَ سَهْما، وَهَذَا على أَنَّهَا مَا كَانَت خراج مقاسمة؟ قلت: يجوز أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم خراج الْأَرَاضِي بِأَن جعل خراج هَذِه الأَرْض لفُلَان وخراج هَذِه لفُلَان. فَإِن قلت: رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أجلى أهل خَيْبَر وَلم يعطهم قيمَة الْأَرَاضِي، فَدلَّ ذَلِك على عدم الْملك. قلت: يجوز أَنه مَا أَعْطَاهُم زمَان الإجلاء، وَأَعْطَاهُمْ بعد ذَلِك.
وَفِيه: تَخْيِير عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَن يقطع لَهُنَّ من الأَرْض وَبَين إجرائهن على مَا كن عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير أَن يملكهن، لِأَن الأَرْض لم تكن موروثة عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا توفين عَادَتْ الأَرْض وَالنَّخْل على أَصْلهَا وَقفا مسبلاً، وَكَانَ عمر يعطيهن ذَلِك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا تركت بعد نَفَقَة نسَائِي فَهُوَ صَدَقَة) ، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقيل: إِن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يقطعهن سوى هَذِه الأوسق اثْنَي عشر ألفا لكل وَاحِدَة مِنْهُنَّ، وَمَا يجْرِي عَلَيْهِم فِي سَائِر السّنة.

9 - (بابٌ إِذا لَمْ يَشْتَرِطِ السِّنينَ فِي المُزَارَعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يشْتَرط رب الأَرْض سنيناً مَعْلُومَة فِي عقد الْمُزَارعَة، وَلم يذكر جَوَاب: إِذا، الَّذِي هُوَ: يجوز أَو لَا يجوز لَكَانَ الِاخْتِلَاف فِيهِ، قَالَ ابْن بطال: قد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُزَارعَة من غير أجل، فكرهها مَالك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا لم يسم سِنِين مَعْلُومَة فَهُوَ على سنة وَاحِدَة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَحكى عَن بَعضهم أَنه قَالَ: أُجِيز ذَلِك اسْتِحْسَانًا، وَادّعى الْقيَاس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نقركم مَا شِئْنَا) . قَالَ: فَيكون لصَاحب النّخل وَالْأَرْض أَن يخرج المساقي والمزارع من الأَرْض مَتى شَاءَ، وَفِي ذَلِك دلَالَة أَن الْمُزَارعَة تخَالف الْكِرَاء، لَا يجوز فِي الْكِرَاء أَن يَقُول: أخرجك عَن أرضي مَتى شِئْت، وَلَا خلاف بَين أهل الْعلم أَن الْكِرَاء فِي الدّور وَالْأَرضين لَا يجوز إلاَّ وقتا مَعْلُوما. قلت: لصِحَّة الْمُزَارعَة على قَول من يجيزها شُرُوط، مِنْهَا بَيَان الْمدَّة بِأَن يُقَال: إِلَى سنة أَو سنتَيْن، وَمَا أشبهه، وَلَو بَين وقتا لَا يدْرك الزَّرْع فِيهَا تفْسد الْمُزَارعَة، وَكَذَا لَو بَين مُدَّة لَا يعِيش أَحدهمَا إِلَيْهَا غَالِبا تفْسد أَيْضا، وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة: أَن الْمُزَارعَة تصح بِلَا بَيَان الْمدَّة، وَتَقَع على زرع وَاحِد، وَاخْتَارَهُ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَعَن أَحْمد: يجوز بِلَا بَيَان الْمدَّة لِأَنَّهَا عقد جَائِز غير لَازم، وَعند أَكثر الْفُقَهَاء: لَازم.

9232 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ عامَلَ النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَر أوْ زَرْعٍ. .

هَذَا الحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله عَن نَافِع، وَهنا أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع، وَأَعَادَهُ مُخْتَصرا لأجل التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، والمطابقة بَينهمَا ظَاهِرَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض إِلَى بَيَان الْمدَّة.

(12/168)


01 - (بابٌ)

يجوز فِيهِ التَّنْوِين على تَقْدِير: هَذَا بَاب، وَيجوز تَركه على السّكُون فَلَا يكون معرباً، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ فِي الْمركب، وَوَقع: بَاب، كَذَا بِغَيْر تَرْجَمَة عِنْد الْكل، وَقد ذكرنَا أَن: بَابا، كلما وَقع كَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله.

0332 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفيانُ قَالَ عَمْرٌ وقُلْتُ لِ طَاوُوسٍ لَوْ تَرَكتَ المُخَابَرَةَ فإنَّهُمْ يَزْعَمونَ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْهُ قَالَ أيْ عمْرٌ وإنِّي أُعْطِيهمْ وأعِينُهُمْ وإنْ أعْلَمَهُمْ أخْبَرَنِي يَعْنِي ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَنْهَ عنْهُ ولَكنْ قَالَ أنْ يَمْنَحَ أحَدُكُمْ أخاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأخُذَ عَلَيْهِ خَرْجاً مَعْلُوماً.
وَجه دُخُوله فِي الْبَاب السَّابِق من حَيْثُ إِن لِلْعَامِلِ فِيهِ جُزْءا مَعْلُوما، وَهنا: لَو ترك رب الأَرْض هَذَا الْجُزْء لِلْعَامِلِ كَانَ خيرا لَهُ من أَن يَأْخُذهُ مِنْهُ، وَفِيه: جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة لِأَن الْأَوْلَوِيَّة فِي التّرْك لَا تنَافِي الْجَوَاز فَافْهَم.
وَرِجَاله أَرْبَعَة، قد ذكرُوا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن قبيصَة بن عقبَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد عَن يحيى بن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن ابْن أبي عمر عَن الثَّقَفِيّ بِهِ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد ابْن كثير عَن الثَّوْريّ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن أبي بكر بن خَلاد الْبَاهِلِيّ وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ عَمْرو) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره: عَن سُفْيَان، حَدثنَا عَمْرو. قَوْله: (لَو تركت المخابرة) ، جَوَاب: لَو، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَو تركت المخابرة لَكَانَ خيرا، أَو يكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَفسّر الْكرْمَانِي المخابرة من جِهَة مَأْخَذ هَذَا اللَّفْظ، فَقَالَ: المخابرة من: الْخَبِير، وَهُوَ الأكار، أَو من: الْخِبْرَة، بِضَم الْخَاء، وَهِي النَّصِيب أَو، من: خَيْبَر، لِأَن أول هَذِه الْمُعَامَلَة وَقعت فِيهَا. انْتهى. وَالْمُخَابَرَة: هِيَ الْعَمَل فِي الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا، وَهِي الْمُزَارعَة لَكِن الْفرق بَينهمَا من وَجه، وَهُوَ أَن الْبذر من الْعَامِل فِي المخابرة، وَفِي الْمُزَارعَة من الْمَالِك، وَالدَّلِيل على أَن المخابرة هِيَ الْمُزَارعَة رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار بِلَفْظ: لَو تركت الْمُزَارعَة، يُخَاطب ابْن عَبَّاس بذلك. قَوْله: (فَإِنَّهُم) ، الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، لِأَن عمرا يُعلل كَلَامه فِي خطابه لطاووس بترك المخابرة، بقوله: فَإِنَّهُم، أَي: فَإِن النَّاس، وَمرَاده مِنْهُم: رَافع بن خديج وعمومته وَالثَّابِت بن الضَّحَّاك وَجَابِر بن عبد الله وَمن روى مِنْهُم. قَوْله: (يَزْعمُونَ) ، أَي: يَقُولُونَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ، أَي: عَن الزَّرْع على طَرِيق المخابرة. قَوْله: (قَالَ: أَي عَمْرو!) أَي: قَالَ طَاوُوس: يَا عَمْرو. قَوْله: (إِنِّي أعطيهم) ، من الْإِعْطَاء. قَوْله: (وأعينهم) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة: من الْإِعَانَة، وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وأغنيهم، بالغين الْمُعْجَمَة الساكنة من الإغناء، وَالْأول أوجه، وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره. قَوْله: (وَإِن أعلمهم) أَي: وَإِن أعلم هَؤُلَاءِ الَّذين يَزْعمُونَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ. قَوْله: (أَخْبرنِي) ، خبر: إِن، وَبَين المُرَاد من هَذَا الأعلم بقوله: يَعْنِي: ابْن عَبَّاس. قَوْله: (لم ينْه عَنهُ) أَي: عَن الزَّرْع على طَرِيق المخابرة، وَلَا مُعَارضَة بَين هَذَا وَبَين قَوْله: نهى عَنهُ، لِأَن النَّهْي كَانَ فِيمَا يشترطون شرطا فَاسِدا، وَعَدَمه فِيمَا لم يكن كَذَلِك، وَقيل: المُرَاد بالإثبات نهي التَّنْزِيه، وبالنفي نهي التَّحْرِيم. قَوْله: (أَن يمنح) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون، قَالَ بَعضهم: أَن يمنح، بِفَتْح الْهمزَة والحاء على أَنَّهَا تعليلية، وبكسر الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، وَالْأول أشهر. انْتهى. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل أَن بِفَتْح الْهمزَة مَصْدَرِيَّة، وَلَام

(12/169)


الِابْتِدَاء مقدرَة قبلهَا تَقْدِيره: لِأَن يمنح، أَي: لمنح أحدكُم أَخَاهُ خير لكم، والمصدر مُضَاف إِلَى أحدكُم مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: خير لكم، وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ أَنه وَقع فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ بلام الِابْتِدَاء ظَاهِرَة، فَإِنَّهُ روى هَذَا الحَدِيث، وَفِيه: لِأَن يمنح أحدكُم أَخَاهُ أرضه خير لَهُ من أَن يَأْخُذ عَلَيْهَا خراجاً مَعْلُوما. وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: يمنح أحدكُم، بِدُونِ: أَن، وَاللَّام، وَقد جَاءَ: أَن، بِالْفَتْح بِمَعْنى: إِن، بِالْكَسْرِ الشّرطِيَّة، فيحنئذ يكون: يمنح، مَجْزُومًا بِهِ، وَجَوَاب الشَّرْط، خير، وَلَكِن فِيهِ حذف تَقْدِيره: هُوَ خير لكم. قَوْله: (من أَن يَأْخُذ) ، أَن هُنَا أَيْضا مَصْدَرِيَّة أَي: من أَخذه عَلَيْهِ، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: أَخَاهُ. قَوْله: (خرجا) أَي: أُجْرَة، وَالْغَرَض أَنه يَجْعَلهَا لَهُ منحة أَي عَطِيَّة عَارِية، لأَنهم كَانُوا يتنازعون فِي كِرَاء الأَرْض حَتَّى أفْضى بهم إِلَى التقاتل وَقد بَين الطَّحَاوِيّ عِلّة النَّهْي فِي حَدِيث رَافع، فَقَالَ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: حَدثنَا بشر بن الْمفضل عَن عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن أبي عُبَيْدَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر عَن الْوَلِيد بن أبي الْوَلِيد عَن عُرْوَة بن الزبير عَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: يغْفر الله لرافع بن خديج، أَنا وَالله كنت أعلم مِنْهُ بِالْحَدِيثِ، إِنَّمَا جَاءَ رجلَانِ من الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اقتتلا، فَقَالَ: (إِن كَانَ هَذَا شَأْنكُمْ فَلَا تكروا الْمزَارِع) . فَسمع قَوْله: لَا تكروا الْمزَارِع. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا زيد بن ثَابت يخبر أَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تكروا الْمزَارِع النَّهْي الَّذِي قد سَمعه رَافع لم يكن من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا كَانَ لكراهيته وُقُوع الشَّرّ بَينهم، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس من الْمَعْنى الَّذِي ذكره زيد بن ثَابت من حَدِيث رَافع بن خديج شَيْء ثمَّ روى حَدِيث الْبَاب نَحوه.

11 - (بابُ المُزَارَعَةِ مَعَ اليَهُودِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُزَارعَة مَعَ الْيَهُود، وَأَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَنه لَا فرق فِي جَوَاز الْمُزَارعَة بَين الْمُسلمين وَأهل الذِّمَّة، وَإِنَّمَا خصص الْيَهُود بِالذكر، وَإِن كَانَ الحكم يَشْمَل أهل الذِّمَّة كلهم، لِأَن الْمَشْهُور فِي حَدِيث الْبَاب الْيَهُود، فَإِذا جَازَت الْمُزَارعَة مَعَ الْيَهُود جَازَت مَعَ غَيرهم من أهل الذِّمَّة كَذَلِك.

1332 - حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرَنا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَى خَيْبرَ الْيَهُودَ على أنْ يَعْمَلُوهَا ويَزْرَعُوها ولَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْها. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ. والْحَدِيث مضى فِيمَا قبل هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد عَن عبيد الله عَن نَافِع إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.