عمدة القاري شرح صحيح البخاري

12 - (بابٌ إِذا وَهَبَ دينا علَى رجُلٍ قَالَ شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ هُوَ جائزٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وهب رجل دينا لَهُ على رجل. قَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن الحكم بن عتيبة: هُوَ جَائِز، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي زَائِدَة عَن شُعْبَة عَنهُ: فِي رجل وهب لرجل دينا لَهُ عَلَيْهِ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَن يرجع فِيهِ. وَقَالَ ابْن بطال: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن من كَانَ عَلَيْهِ دين لرجل فوهبه لَهُ ربه وأبرأه مِنْهُ، وَقبل الْبَرَاءَة أَنه لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى قبض، لِأَنَّهُ مَقْبُوض فِي ذمَّته، وَإِنَّمَا يحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى قبُول الَّذِي عَلَيْهِ الدّين.
وَاخْتلفُوا: إِذا وهب دينا لَهُ على رجل لرجل

(13/159)


آخر، فَقَالَ مَالك: يجوز إِذا سلم إِلَيْهِ الْوَثِيقَة بِالدّينِ وأحله مَحل نَفسه، فَإِن لم يكن وَثِيقَة وأشهدا على ذَلِك وأعلنا فَهُوَ جَائِز. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: الْهِبَة جَائِزَة أشهد أَو لم يشْهد إِذا تقاررا على ذَلِك، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنفة: الْهِبَة غير جَائِزَة لِأَنَّهَا لَا تجوز عِنْدهم إلاَّ مَقْبُوضَة. انْتهى. وَعند الشَّافِعِيَّة فِي ذَلِك وَجْهَان: جزم الْمَاوَرْدِيّ بِالْبُطْلَانِ وَصَححهُ الْغَزالِيّ وَمن تبعه، وَصحح العمراني وَغَيره الصِّحَّة، قيل: وَالْخلاف مُرَتّب على البيع إِن صححنا بيع الدّين من غير من عَلَيْهِ، فالهبة أولى، وَإِن منعناه فَفِي الْهِبَة وَجْهَان. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: تمْلِيك الدّين من غير من هُوَ عَلَيْهِ لَا يجوز، لِأَنَّهُ لَا يقدر على تَسْلِيمه، وَلَو ملكه مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ يجوز، لِأَنَّهُ إِسْقَاط وإبراء.
ووهَبَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ لرَجُلٍ دَيْنَهُ

الْحسن هُوَ ابْن عَليّ بن أبي طَالب. قَوْله: (لرجل دينه) أَي: دينه الَّذِي عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، لِأَنَّهُ فِي نفس الْأَمر إِبْرَاء.
وَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ كانَ لَهُ عَلَيْهِ حقٌّ فلْيُعْطِهِ أوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ

هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسَدّد فِي (مُسْنده) من طَرِيق سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: من كَانَ لأحد عَلَيْهِ حق فليعطه إِيَّاه أَو ليتحلله مِنْهُ. قَوْله: (أَو ليتحلله مِنْهُ) أَي: من صَاحبه، والتحلل الإستحلال من صَاحبه، وتحلله أَي: جعله فِي حل بإبرائه ذمَّته.
فَقَالَ جابرٌ قُتلَ أبي وعَلَيْهِ دَينٌ فسَأل النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُرَمَاءَهُ أنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حائِطي ويُحَلِّلُوا أبي

جَابر هُوَ ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَأَبوهُ عبد الله بن عَمْرو بن حرَام بن ثَعْلَبَة الخزرجي السّلمِيّ نقيب بَدْرِي قتل بِأحد والْحَدِيث مضى مَوْصُولا فِي الْقَرْض، وَفِي هَذَا الْبَاب أَيْضا بأتم مِنْهُ على مَا يَأْتِي. قَوْله: (ثَمَر حائطي) . بالثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، والحائط هُنَا: الْبُسْتَان من النّخل إِذا كَانَ عَلَيْهِ حَائِط أَي جِدَار.

1062 - حدَّثنا عبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ وَقَالَ الليثُ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني ابنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ جابِرَ بنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أخبرَهُ أنَّ أباهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً فاشْتَدَّ الغُرَماءُ فِي حُقُوقِهمْ فأتيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَلَّمْتُهُ فسَألَهُمْ أنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حائِطي ويُحَلِّلُوا أبي فأبَوْا فلَمْ يُعْطِهِمْ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حائِطي ولَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ ولاكِنْ قَالَ سأغْدُو عليْكَ فغَدَا علَيْنَا حينَ أصْبَحَ فَطافَ فِي النَّخْلِ ودَعا فِي ثَمَرِهِ بالبَرَكَةِ فجدَدْتُها فقَضَيْتُهُمْ حُقُوقَهُمْ وبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا بَقِيَّةٌ ثُمَّ جِئْتُ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ جالِسٌ فأخبرْتُهُ بذالِكَ فَقَالَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعُمَرَ اسْمَعْ وهْوَ جالِسٌ يَا عُمَرَ فَقَالَ عُمرُ ألاَ يكُونُ قدْ عَلِمْنا أنَّكَ رسولُ الله وَالله إنَّكَ لَرَسولُ الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَلكنه بالتكلف، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ غُرَمَاء أبي جَابر أَن يقبضوا ثَمَر حَائِطه. ويحللوه من بَقِيَّة دينه، وَلَو قبلوا ذَلِك كَانَ إِبْرَاء ذمَّة أبي جَابر من بَقِيَّة الدّين، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لَو وَقع كَانَ هبة الدّين مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى التَّرْجَمَة، وَهَذَا يدل على أَن هَذَا الصَّنِيع يجوز فِي الدّين، إِذْ لَو لم يكن جَائِزا لما سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُرَمَاء أبي جَابر بِهِ. فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق، غفل عَنهُ الشُّرَّاح.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الاستقراض فِي: بَاب إِذا قضى دون حَقه أَو حلله فَهُوَ جَائِز، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَبْدَانِ أَيْضا عَن عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: نَحْو الطَّرِيق الَّذِي أخرجه فِي الْبَاب الْمَذْكُور. وَالْآخر: مُعَلّق عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ

(13/160)


عَن ابْن كَعْب بن مَالك، قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون ابْن كَعْب هَذَا عبد الرَّحْمَن أَو عبد الله، لِأَن الزُّهْرِيّ يروي عَنْهُمَا جَمِيعًا، لَكِن الظَّاهِر أَنه عبد الله لِأَنَّهُ يروي عَن جَابر، وَهَذَا الْمُعَلق وَصله الذهلي فِي الزهريات عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث ... إِلَى آخِره. قَوْله: (ثَمَر حائطي) ، قد مر تَفْسِيره آنِفا. قَوْله: (ويحللوا أبي) ، أَي: يَجْعَلُوهُ فِي حل بإبرائهم ذمَّته. قَوْله: (فَأَبَوا) ، أَي: امْتَنعُوا. قَوْله: (وَلم يكسرهُ) ، أَي: لم يكسر الثَّمر من النّخل لَهُم، أَي: لم يعين وَلم يقسم عَلَيْهِم. قَوْله: (حِين أصبح) ، ويروى: حَتَّى أصبح، وَالْأول أوجه. قَوْله: (فجدَدْتُها) ، أَي: قطعتها. قَوْله: (بذلك) ، أَي: بِقَضَاء الْحُقُوق وَبَقَاء الزِّيَادَة وَظُهُور بركَة دُعَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى كَأَنَّهُ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة معْجزَة من معجزاته. قَوْله: (إلاَّ وَيكون) بتَخْفِيف اللَّام ويروى بتشديدها، ومقصود رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأْكِيد علم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وتقويته وَضم حجَّة أُخْرَى إِلَى الْحجَج السالفة.

22 - (بابُ هِبَةِ الواحِدِ لِلْجَمَاعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم هبة الْوَاحِد للْجَمَاعَة، وَحكمه أَنَّهَا تجوز على اخْتِيَاره، وَقَالَ ابْن بطال: غَرَض المُصَنّف إِثْبَات هبة الْمشَاع، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، خلافًا لأبي حنيفَة. قلت: إِطْلَاق نِسْبَة عدم جَوَاز هبة الْمشَاع إِلَى أبي حنيفَة غير صَحِيح، فَإِنَّهُم ينقلون شَيْئا من مذْهبه من غير تَحْرِير وَلَا وقُوف على مدركه، ثمَّ ينسبونه إِلَيْهِ فَهَذِهِ جرْأَة وَعدم إنصاف، والمشاع الَّذِي لَا يجوز هِبته فِيمَا إِذا كَانَ مِمَّا يقسم، وَأما فِيمَا لَا يقسم فَهِيَ جَائِزَة، وَأَيْضًا الْعبْرَة فِي الشُّيُوع وَقت الْقَبْض لَا وَقت العقد. حَتَّى لَو وهب مشَاعا وَسلم مقسوماً يجوز.
وَقَالَت أسْماءُ للْقاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ وابنِ عَتِيقٍ وَرِثْتُ عنْ أُخْتِي عائِشَةَ مَالا بِالْغَابَةِ وقدْ أعْطَانِي بِهِ مُعاوِيَةُ مائَةَ ألْفٍ فَهُوَ لَكُما
أورد البُخَارِيّ هَذَا الْأَثر الْمُعَلق فِي معرض الِاحْتِجَاج على رد مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة فِي عدم تجويزه لهبة الْمشَاع، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن بطال، وَلَكِن لَا يساعده هَذَا، فَإِن المَال الَّذِي كَانَ بَالغا بِهِ يحْتَمل أَن يكون مِمَّا يقسم، وَيحْتَمل أَن يكون مِمَّا لَا يقسم، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يرد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِن كَانَ مِمَّا يقسم فَلَا نزاع أَنه يجوزه، وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يقسم فَالْعِبْرَة للشيوع الْمَانِع وَقت الْقَبْض لَا وَقت العقد، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (قَالَت أَسمَاء) ، هِيَ بنت أبي بكر الصّديق أُخْت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالقَاسِم: هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، وَقَالَ ابْن التِّين فِي كِتَابه: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي عَتيق، قَالَ: وأظن الْوَاو سَقَطت من كتابي، لِأَن أَبَا عَتيق هُوَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، وَابْنه اسْمه عبد الله. قَالَ: وَعند أبي ذَر، وَابْن أبي عَتيق، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْقَاسِم بن مُحَمَّد هُوَ ابْن أخي عَائِشَة وَابْن أبي عَتيق ابْن أخيهما. قلت: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر هُوَ ابْن أخي أَسمَاء، وَابْن أبي عَتيق هُوَ أَبُو بكر عبد الله بن أبي عَتيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، وَهُوَ ابْن أخي أَسمَاء. قَوْله: (ورثت عَن أُخْتِي عَائِشَة) ، مَاتَت عَائِشَة وورثتها أختاها: أَسمَاء وَأم كُلْثُوم، وَأَوْلَاد أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن، وَلم يَرِثهَا أَوْلَاد مُحَمَّد أَخِيهَا لِأَنَّهُ لم يكن شقيقها، فَكَأَن أَسمَاء أَرَادَت جبر خاطر الْقَاسِم بذلك، وأشركت مَعَه عبد الله لِأَنَّهُ لم يكن وَارِثا لوُجُود أَبِيه. قَوْله: (بِالْغَابَةِ) ، بالغين الْمُعْجَمَة، وَهِي فِي الأَصْل: الأجمة ذَات الشّجر المتكاثف لِأَنَّهَا تغيّب مَا فِيهَا، وَلَكِن المُرَاد بهَا هُنَا مَوضِع قريب من الْمَدِينَة من عواليها، وَبهَا أَمْوَال أَهلهَا. قَوْله: (مُعَاوِيَة) ، هُوَ ابْن أبي سُفْيَان قَوْله: (لَكمَا) ، خطاب للقاسم وَعبد الله بن أبي عَتيق، وَهَذِه صُورَة هبة الْوَاحِد من إثنين، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة هبة الْوَاحِد للْجَمَاعَة فَلَا مُطَابقَة. قلت: يغْتَفر هَذَا الْمِقْدَار لِأَن الْجمع يُطلق على الْإِثْنَيْنِ كَمَا عرف.

2062 - حدَّثنا يَحْيى بنُ قَزَعَةَ قَالَ حدَّثنا مالكٌ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فشرِبَ وعنْ يَمِينِهِ غُلامٌ وعنْ يَسارِهِ الأشْياخُ فَقَالَ لِلْغُلامِ إنْ أذِنْتَ لِي أعْطَيْتُ هؤُلاءِ فَقَالَ مَا كُنتُ لأُوثِر بنَصِيبي مِنْكَ يَا رَسُول الله أحَدَاً فتلَّهُ فِي يَدِهِ.
.

(13/161)


مطابقته للتَّرْجَمَة مَا قَالَه ابْن بطال: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ الْغُلَام أَن يهب نصِيبه للأشياخ، وَكَانَ نصِيبه مِنْهُ مشَاعا متميز، فَدلَّ على صِحَة هبة الْمشَاع. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَأَبُو حَازِم هُوَ سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، والْحَدِيث مر فِي كتاب الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا أذن لَهُ أَو حلله، وَلم يبين كم هُوَ. (وتله) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، وَتَشْديد اللَّام أَي: طَرحه، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

32 - (بابُ الهِبَةِ المقْبُوضَةِ وغيْرِ الْمَقْبُوضَةِ والمُقْسُومَة وغيرِ المقْسُومَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْهِبَة المقبوضة ... إِلَى آخِره، وَمرَاده من التَّرْجَمَة هُوَ قَوْله: وَغير المقسومة، لِأَن حكم المقبوضة قد مضى، وَغير المقبوضة قد علم مِنْهُ، وَحكم المقسومة ظَاهر، فَلم يبْق إلاَّ بَيَان حكم غير المقسومة.
وقدْ وهبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصحابُهُ لِهَوازِنَ مَا غَنِمُوا منْهُمْ وهْوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ

ذكر هَذَا لبَيَان قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَغير المقسومة، وغرضه من هَذَا إِقَامَة الدَّلِيل على صِحَة هبة الْمشَاع، وَلَكِن لَا يتم بِهِ الِاسْتِدْلَال، لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ لَا يُطلق عَلَيْهِ الْهِبَة الشَّرْعِيَّة لِأَن الْقَبْض شَرط فِيهَا، وَذكر عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : وَقَالَ: أخبرنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: لَا تجوز الْهِبَة حَتَّى يقبض. انْتهى. وَقَوله: (غير مقسوم) ، يلْزم مِنْهُ أَن يكون غير مَقْبُوض أَيْضا، فَإِذا لم يكن مَقْبُوضا كَيفَ يُطلق عَلَيْهِ الْهِبَة الشَّرْعِيَّة؟ وَهَذَا الْمُعَلق يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ بأتم مِنْهُ مَوْصُولا. قَوْله: (لهوازن) ويروى: إِلَى هوَازن، وَهِي قَبيلَة مَعْرُوفَة. وَقَالَ الرشاطي: الهوازني فِي قيس غيلَان وَفِي خُزَاعَة. فَفِي، قيس غيلَان: هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة ببن حَفْصَة بن قيس غيلَان، وَفِي خُزَاعَة: هوَازن بن أسلم بن أقْصَى، وهوازن هَذَا بطن، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: هوَازن ضرب من الطير، وَقَالَ ابْن عبد الْوَارِث: هوزن وَاحِد ذَلِك، وَهُوَ: فوعل، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: فِي هوَازن بطُون كَثِيرَة وأفخاذ وقلَّ من ينْسب هَذِه النِّسْبَة.

3062 - حدَّثنا وَقَالَ ثابتٌ قَالَ حدَّثنا مِسْعرٌ عنْ مُحاربٍ عَن جابرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أتَيْتُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِدِ فقَضَانِي وزَادَنِي..
ذكر هَذَا أَيْضا فِي معرض الِاسْتِدْلَال على صِحَة هبة الْمشَاع، وَلَكِن لَا يتم بِهِ الِاسْتِدْلَال لِأَن هَذِه الزِّيَادَة لم تكن هبة، وَإِنَّمَا هِيَ ليتيقن بهَا الْإِيفَاء زِيَادَة فِي الثّمن، وَالزِّيَادَة لَا يُؤثر فِيهَا الشُّيُوع. فَإِن قلت: يُوجب جَهَالَة الثّمن. قلت: الْجَهَالَة لَا تُؤثر فِي الثّمن الْمعِين، وَحَدِيث جَابر هَذَا قد مضى مطولا فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الدَّوَابّ وَالْحمير، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وثابت بالثاء الْمُثَلَّثَة ضد زائل: ابْن مُحَمَّد أَبُو إِسْمَاعِيل العابد الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَثَبت كَذَلِك عِنْد أبي عَليّ ابْن السكن، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَبِه جزم أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَفِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي: وَقَالَ ثَابت، ذكره بِصُورَة التَّعْلِيق، وَهُوَ مَوْصُول عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره، وَفِي رِوَايَة أبي أَحْمد الْجِرْجَانِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا ثَابت، فَزَاد فِي الْإِسْنَاد مُحَمَّدًا، وَقَالَ الغساني: وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا ثَابت قَالَ، وَحدث البُخَارِيّ عَن ثَابت بِدُونِ الْوَاسِطَة كثيرا. قلت: وَلم يُتَابع الْجِرْجَانِيّ على هَذِه الزِّيَادَة، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِمُحَمد هُوَ البُخَارِيّ المُصَنّف، وَيَقَع مثل ذَلِك كثيرا، فَلَعَلَّ الْجِرْجَانِيّ ظَنّه غير البُخَارِيّ. قَوْله: (مسعر) ، بِكَسْر الْمِيم: ابْن كدام، وَقد مر فِي الْوضُوء وَغَيره، (ومحارب) ، بِكَسْر الرَّاء ضد الْمصَالح ابْن دثار ضد الشعار.

4062 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَارِبٍ سَمِعْتُ جابرَ بنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقولُ بعتُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعيراً فِي سَفَر فلَمَّا أتيْنَا المَدِينَةَ قَالَ ائْتِ المَسْجِدَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فوزَنَ. قَالَ شُعْبَةُ أرَاهُ فوَزَنَ لِي فأرْجَحَ فَما زالَ مِنْها شَيْءٌ حتَّى أصَابَهَا أهْلُ الشَّأمِ يَوْمَ الحَرَّةِ.
.

(13/162)


هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن محَارب إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ، وَسَيَأْتِي أَيْضا فِي الشُّرُوط، وَإِنَّمَا أدخلهُ فِي هَذِه التَّرْجَمَة لما ذكرنَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَالْجَوَاب عَنهُ مثل الْجَواب هُنَاكَ. قَوْله: (يَوْم الْحرَّة) ، أَي: يَوْم الْوَقْعَة الَّتِي كَانَت حوالي الْمَدِينَة عِنْد حرتها بَين عَسْكَر الشَّام من جِهَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَبَين أهل الْمَدِينَة، سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ.

5062 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالكٍ عنْ أبِي حازمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِشَرابٍ وعنْ يَمِينِهِ غُلامٌ وعنْ يَسارِهِ أشْياخٌ فَقَالَ لِلْغُلامِ أتَأْذَنِ لي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلاءِ فَقَالَ الغُلامُ لَا وَالله لَا أُوثِرُ بنَصِيبِي منْكَ أحدَاً فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ..
هَذَا الحَدِيث ذكره فِي الْبَاب السَّابِق فِي تَرْجَمَة هبة الْوَاحِد للْجَمَاعَة، وَهنا ذكره فِي تَرْجَمَة الْهِبَة الْغَيْر المقسومة، وَوجه الْمُطَابقَة من حَيْثُ إِن فِيهِ هبة غير مقسومة، وَهَذَا أَيْضا لَا يقوم بِهِ الدَّلِيل فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، لِأَن غير الْمَقْسُوم غير متميز وَلَا يتَصَوَّر فِيهِ الْقَبْض أصلا، وَمن شَرط صِحَة الْهِبَة الشَّرْعِيَّة الْقَبْض.

6062 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عُثْمَانَ بنِ جَبَلَةَ قَالَ أخبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ لِرَجُلٍ علَى رسولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَيْنٌ فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فإنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مَقالاً وَقَالَ اشتَرُوا لهُ سِنّاً فأعْطُوهَا إيَّاهُ فقالوُوا إنَّا لاَ نَجِدُ سنّاً إلاَّ سِنّاً هِيَ أفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ قَالَ فاشْتَرُوهَا فأعْطُوهَا إيَّاهُ فإنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضاءً..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، لِأَن فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِإِعْطَاء سنّ لصَاحب الدّين أفضل من سنه، وَالزِّيَادَة فِيهِ غير مقسومة، وَالْجَوَاب عَنهُ مثل الْجَواب فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَعبد الله بن عُثْمَان هُوَ الملقب بعبدان، وَسَلَمَة هُوَ ابْن كهيل، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الاستقراض فِي: بَاب حسن الْقَضَاء، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

42 - (بابٌ إذَا وهَبَ جَماعَة القَوْمِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وهب جمَاعَة لقوم، وَزَاد الْكشميهني فِي رِوَايَته وهب رجل جمَاعَة جَازَ، وَهَذِه الزِّيَادَة لَا طائل تحتهَا، لِأَنَّهَا تقدّمت مُفْردَة قبل بَاب.

8062 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ أنَّ مَرْوَانَ ابنَ الحَكم والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَة أخْبرَاهُ أنَّ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حِينَ جاءَهُ وفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمينَ فَسألُوهُ أنْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ مَعي تَروْنَ وأحَبُّ الحَدِيثَ إلَيَّ أصْدَقُهُ فاخْتَارُوا إحْداى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا السَّبْيَ وإمَّا المَالَ وقدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ وكانَ النبيُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ فلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّ النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غيْرُ رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْداى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا فإنَّا نَخْتَارُ سَبْينَا فقامَ فِي الْمُسْلِمِينَ فأثْناى على الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ هَؤُلاءِ جاؤُنا تائِبِينَ وإنِّي رَأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ ذالِكَ فلْيَفْعَلْ ومنْ أحَبَّ أنْ يَكُونَ على حَظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أوَّلِ

(13/163)


مَا يُفِيءُ الله عَلَيْنَا فلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا يَا رسوُلَ الله لَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إأا لَا نَدْرِي منْ أذِنَ مَنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأذَنْ فارْجِعُوا حتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أمْرَكُمْ فرَجَعَ النَّاسُ فكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرُوهُ أنَّهُمْ طَيَّبُوا وأذِنُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ أَن الْغَانِمين، وهم جمَاعَة، وهبوا بعض الْغَنِيمَة لمن غنموها مِنْهُم، وهم قوم هوَازن. وَأما وَجه الْمُطَابقَة فِي زِيَادَة الْكشميهني فَمن جِهَة أَنه كَانَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سهم، وَهُوَ الصفي، فوهبه لَهُم. وَالْجَوَاب عَنهُ مَا مر عَن قريب، وَهَذَا الحَدِيث هُوَ الْمَذْكُور فِي الْمرة الرَّابِعَة مِنْهَا فِي كتاب الْوكَالَة فِي: بَاب إِذا وهب شَيْئا لوكيل أَو شَفِيع قوم جَازَ.
قَوْله: (هوَازن) ، مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (مُسلمين) ، حَال من الْوَفْد. قَوْله: (من ترَوْنَ) ، أَي: من الْعَسْكَر. قَوْله: (حَتَّى يرفع) ، قَالَه الْكرْمَانِي: قَالُوا: هُوَ بِالرَّفْع أَجود. قلت: لم يبين وَجه أجودية الرف، وَالنّصب هُوَ الأَصْل، لِأَن: أَن، بعد: حَتَّى، مقدرَة فَافْهَم، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : مَا ملخصه: إِنَّهُم طيبُوا أنفسهم ووهبوا لَهُم. وَفِيه: رد على قَول أبي حنيفَة: إِن هبة الْمشَاع الَّتِي تتأتى فِيهَا الْقِسْمَة لَا تجوز. قلت: لَا وَجه للرَّدّ على قَول أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ يَقُول: هَذَا لَيست فِيهِ هبة شَرْعِيَّة، وَإِنَّمَا هُوَ رد سَبْيهمْ إِلَيْهِم، ورد الشَّيْء لصَاحبه لَا يُسمى هبة.
وهذَا الَّذِي بَلَغنا مِنْ سَبْيِ هَوازِنَ هاذَا آخِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ يَعْنِي فَهذَا الَّذِي بَلَغَنَا
قَوْله: (هَذَا الَّذِي بلغنَا) من كَلَام الزُّهْرِيّ بَينه البُخَارِيّ بقوله: هَذَا آخر قَول الزُّهْرِيّ، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ أَبُو عبد الله، هَذَا آخر قَول الزُّهْرِيّ، ثمَّ فسره بقوله: (يَعْنِي فَهَذَا الَّذِي بلغنَا) يَعْنِي: هُوَ هَذَا آخر قَوْله. وَالله أعلم.

52 - (بابُ مَنْ أهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وعِنْدَهُ جُلَساؤُهُ فَهُوَ أحَقُّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أهدي لَهُ، بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول، و: هَدِيَّة: مَرْفُوعَة بِإِسْنَاد أهدي إِلَيْهِ. قَوْله: (وَعِنْده) أَي: وَالْحَال أَن عِنْد هَذَا الَّذِي أهْدى لَهُ جمَاعَة، وهم جُلَسَاؤُهُ وَهُوَ جمع جليس. قَوْله: (فَهُوَ أَحَق) ، جَوَاب من: أَي: الَّذِي أهْدى لَهُ أَحَق بالهدية من جُلَسَائِهِ، يَعْنِي: لَا يشاركون مَعَه.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءَهُ ولَمْ يَصِحَّ

لما كَانَ وضع تَرْجَمَة الْبَاب يُخَالف مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَن جلساءه وشركاؤه، أَشَارَ إِلَيْهِ بِصِيغَة التمريض، بقوله: وَيذكر عَن ابْن عَبَّاس أَن جلساءه، أَي: جلساء الْمهْدي إِلَيْهِ شركاؤه فِي الْهَدِيَّة، وَلم يكتف بِذكرِهِ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس بِصِيغَة التمريض حَتَّى أكده بقوله: وَلم يَصح، أَي: وَلم يَصح، هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: وَلم يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء، وَلِهَذَا قَالَ الْعقيلِيّ: لَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْء، وروى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وموقوفاً، وَالْمَوْقُوف أصح إِسْنَادًا من الْمَرْفُوع. أما الْمَرْفُوع، فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الصَّلْت: حَدثنَا منْدَل بن عَليّ عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أهديت لَهُ هَدِيَّة وَعِنْده نَاس فهم شركاؤه فِيهَا) ومندل بن عَليّ ضَعِيف، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مُسلم عَن عَمْرو عَن ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ أَيْضا عبد بن حميد من طَرِيق ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا نَحوه، وَلَفظه وَعِنْده قوم، وَاخْتلف على عبد الرَّزَّاق عَنهُ فِي وَقفه وَرَفعه، وَالْمَشْهُور عَنهُ الْوَقْف، وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَله شَاهد مَرْفُوع من حَدِيث الْحسن بن عَليّ فِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَآخر عَن عَائِشَة عِنْد الْعقيلِيّ، وإسنادهما ضَعِيف أَيْضا، وَقَالَ ابْن بطال: معنى الحَدِيث النّدب عِنْد الْعلمَاء فِيمَا خف من الْهَدَايَا، وَجَرت الْعَادة فِيهِ، وَأما مثل الدّور وَالْمَال الْكثير فصاحبها أَحَق بهَا، ثمَّ ذكر حِكَايَة أبي يُوسُف القَاضِي: أَن الرشيد أهْدى إِلَيْهِ مَالا كثيرا وَهُوَ جَالس مَعَ أَصْحَابه، فَقيل لَهُ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جلساؤكم شركاؤكُم، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: إِنَّه لم يرد فِي مثله، وَإِنَّمَا ورد فِيمَا خف من الْهَدَايَا من المأكل وَالْمشْرَب، ويروى من غير هَذَا الْوَجْه أَنه: كَانَ جَالِسا وَعِنْده أَحْمد بن جنبل

(13/164)


وَيحيى بن معِين، فَحَضَرَ من عِنْد الرشيد طبق وَعَلِيهِ أَنْوَاع من التحف المثمنة، فروى أَحْمد وَيحيى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: ذَاك فِي التَّمْر والعجوة، يَا خَازِن! إرفعه.

9062 - حدَّثنا ابنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ سَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ أخذَ سِنَّا فَجاءَهُ صاحِبُهُ يَتقَاضَاهُ فَقال إنَّ لِصاحِبِ الحَقِّ مقَالاً ثُمَّ قَضاهُ أفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ وَقَالَ أفْضَلُكُمْ أحْسَنُكُمْ قَضَاءً..
مطابقته للتَّرْجَمَة على مَا قَالَه الْكرْمَانِي: إِن الزِّيَادَة على حَقه كَانَت هَدِيَّة، وَقيل: هِبته لصَاحب السن الْقدر الزَّائِد على حَقه، وَلم يُشَارِكهُ غَيره، وَفِيه نظر لَا يَخْلُو عَن تعسف، والْحَدِيث مر عَن قريب فِي: بَاب الْهِبَة المقبوضة، وَابْن مقَاتل هُوَ مُحَمَّد بن مقَاتل الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي.

0162 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عمْرٍ وَعَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ كانَ مَعَ النبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفَرٍ فكانَ علَى بَكْرٍ لِعُمَرَ صَعْبٍ فَكانَ يَتَقَدَّمُ النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُ أبُوهُ يَا عَبْدَ الله لاَ يَتَقَدَّمُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَدٌ فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعْنِيهِ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ لَكَ فاشْتَرَاهُ ثُمَّ قالَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ الله فاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ.
(انْظُر الحَدِيث 5112 وطرفه) .
قَالَ: هَذَا الحَدِيث لَا دخل لَهُ فِي هَذَا الْبَاب، فَلَا مُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة. قلت: لِأَن هَذَا هبة لشخص معِين فَلَا مُشَاركَة لغيره فِيهَا، وَقَالَ ابْن بطال: هِبته لِابْنِ عمر مَعَ النَّاس، فَلم يسْتَحق أحد مِنْهُم فِيهِ شركَة. قلت: هَذَا عَجِيب: لِأَن الشَّخْص إِذا وهب لأحد شَيْئا وَهُوَ بَين النَّاس فَهَل يتَوَهَّم فِيهِ أَنهم يشاركونه فِيهِ؟ حَتَّى يُقَال: هَذِه هبة وهبت لشخص وَعِنْده جُلَسَاؤُهُ، فهم شركاؤه فِيهِ، بل كل مِنْهُم يتَحَقَّق أَن هَذَا هُوَ الأحق لتعينه من جِهَة الْوَاهِب. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا مصير من المُصَنّف إِلَى اتِّحَاد حكم الْهَدِيَّة وَالْهِبَة. قلت: هَذَا أعجب من ذَلِك، وَكَيف بَينهمَا اتِّحَاد فِي الحكم؟ بل بَينهمَا تغاير فِي الحكم وتباين، لِأَن الْهِبَة عقد من الْعُقُود يحْتَاج إِلَى إِيجَاب وَقبُول وَقبض، والهدية لَيست كَذَلِك، وَأَيْضًا قد يشْتَرط الْعِوَض فِي الْهِبَة وَلَا يشْتَرط فِي الْهَدِيَّة، والْحَدِيث قد مر فِي الْبيُوع فِي: بَاب إِذا اشْترى شَيْئا فوهب من سَاعَته و (الْبكر) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْفَتى من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الْغُلَام من النَّاس، وَالْأُنْثَى بكرَة، و (صَعب) صفته أَي: شَدِيد، وَقد مر هُنَاكَ بَقِيَّة الْكَلَام.

62 - (بابٌ إذَا وهَبَ بعِيراً لرَجُلٍ وهْوَ راكِبُهُ فَهْوَ جائِزٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا وهب رجل بعير لرجل، وَهُوَ رَاكِبه، أَي: وَالْحَال أَن الْمَوْهُوب لَهُ رَاكب الْجمل الْمَوْهُوب، فَهُوَ جَائِز، والتخلية بَينه وَبَين الْبَعِير تتنزل منزلَة الْقَبْض.

1162 - وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ وعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ وكُنْتُ علَى بَكْرٍ صَعْبٍ فَقَالَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِعُمَرَ بِعْنِيهِ فابْتَاعَهُ فَقَالَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث مر فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَفِي غَيره كَمَا ذَكرْنَاهُ، والْحميدِي هُوَ عبد الله بن عِيسَى الْقرشِي الْأَسدي أَبُو بكر الْمَكِّيّ، ونسبته إِلَى أحد أجداده حميد، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وهما أَيْضا مكيان، وَهَذَا وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ فَرَوَاهُ عَن أبي صَالح عَنهُ بِهِ وَأَبُو نعيم عَن أبي عَليّ مُحَمَّد بن أَحْمد عَن بشر بن عِيسَى عَنهُ بِهِ.

72 - (بابُ هَدِيَّةَ مَا يُكْرَهُ لُبْسُها)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم هَدِيَّة مَا يكره لبسهَا، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: مَا يكره لبسه، بتذكير الضَّمِير، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لِأَن كلمة:

(13/165)


مَا يصلح للمذكر والمؤنث، وَالْمرَاد بِالْكَرَاهَةِ مَا هُوَ أَعم من التَّحْرِيم والتنزيه، وهدية مَا لَا يجوز لبسه جَائِزَة، فَإِن لصَاحِبهَا التَّصَرُّف فِيهَا بِالْبيعِ وَالْهِبَة لمن يجوز لِبَاسه كالنساء.

2162 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ رأى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ حُلَّةً سِيرَاءَ عِنْدَ بابِ المَسْجِدِ فَقَالَ يَا رسولَ الله لوِ اشْتَرَيْتَهَا فلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ ولِلْوَفْدِ قَالَ إنَّما يَلْبَسُها منْ لاَ خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ ثُمَّ جاءَتْ حُلَلٌ فأعْطى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُمَرَ مِنْها حُلَّةً وَقَالَ أكَسَوْتَنِيها وقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ فَقَالَ إنِّي لَمْ أكْسُكَهَا فَكَسَا عُمَرُ أَخا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْدى تِلْكَ الْحلَّة إِلَى عمر، مَعَ أَنه يكره لبسهَا. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب يلبس أحسن مَا يجد، والحلة من برود الْيمن، وَأَنَّهَا لَا تكون إلاَّ من ثَوْبَيْنِ: إِزَار ورداء، والوفد: هم الْقَوْم يَجْتَمعُونَ ويرِدُون الْبِلَاد، وَكَذَلِكَ الَّذين يقصدون الْأُمَرَاء لزيارة واسترفاد وانتجاع وَغير ذَلِك، وَهُوَ جمع: وَافد، تَقول: وَفد يفد فَهُوَ وَافد، وَأَنا أوفدته فوفد. قَوْله: (عُطَارِد) ، منصرف وَهُوَ علم رجل تميمي يَبِيع الْحلَل. قَوْله: (أَخا لَهُ) أَي: لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ أَخُوهُ من أمه، وَقيل: من الرضَاعَة.

3162 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ فُضَيْلٍ عنْ أبِيهِ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ أتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْتَ فاطِمَةَ بِنْتِه فلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا وجاءَ عَلِيّ فَذكَرَتْ لَهُ ذالِكَ فذَكَرَهُ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي رَأيْتُ علَى بابِها سِتْراً مَوْشِياً فَقَالَ مَا لِي وللدُّنْيَا فَأَتَاهَا علِيٌّ فذَكَرَ ذالِكَ لَهَا فقالَتْ لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شاءَ قَالَ تُرْسِلُ بِهِ إلَى فُلانٍ أهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حاجةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاطِمَة بإرسال ذَلِك السّتْر الْمُوشى أَي: المخطط إِلَى آل فلَان.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي الْحُسَيْن أَبُو جَعْفَر الْحَافِظ الْكُوفِي، نزل فيد، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ بلد بَين بَغْدَاد وَمَكَّة فِي نصف الطَّرِيق سَوَاء، وَنسب إِلَيْهَا، وَقيل لَهُ: الفيدي، ذكره اللالكائي وَابْن عدي وَابْن عَسَاكِر فِي شُيُوخ البُخَارِيّ. الثَّانِي: مُحَمَّد بن فُضَيْل بن غَزوَان. الثَّالِث: أَبوهُ فُضَيْل بن غَزوَان بن جرير أَبُو الْفضل الضَّبِّيّ الْكُوفِي. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن فُضَيْل بن غَزوَان لَيْسَ لَهُ عَن نَافِع عَن ابْن عمر فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي اللبَاس عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن فُضَيْل بِهِ، وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير عَنهُ نَحوه.
قَوْله: (أَتَى بَيت فَاطِمَة) ، ويروى: أَتَى بنته فَاطِمَة فَلم يدْخل عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: وقلَّ مَا كَانَ يدْخل إلاَّ بِإِذْنِهَا. قَوْله: (موشياً) أَصله موشوي فاجتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء وَكسرت الشين لأجل الْيَاء، فَصَارَ نَحْو مرضِي وَنَحْوه. قَوْله: (فَذكرت لَهُ ذَلِك) ، هَذَا قَول فَاطِمَة أَي: ذكرت مَجِيء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى بَيتهَا وَعدم دُخُوله فِيهِ، وَفِي رِوَايَة ابْن نمير، عَن ابْن فُضَيْل: فجَاء عَليّ فرآها مهتمة. قَوْله: (فَذكره للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فَذكر ذَلِك عَليّ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة ابْن نمير عَن فُضَيْل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّك جِئْت فَلم تدخل عَلَيْهَا. قَوْله: (فَقَالَ مَالِي وللدنيا) وَفِي رِوَايَة ابْن نمير عَن فُضَيْل: مَا لي وللرقم، أَي: المرقوم، والرقم النقش. قَوْله: (فَقَالَت) أَي: فَاطِمَة. قَوْله: (فِيهِ) ، أَي: فِي السّتْر الْمُوشى. قَوْله: (قَالَ) ،

(13/166)


أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ترسل بِهِ أَي ترسل فَاطِمَة بذلك السّتْر إِلَى آل فلَان، ويروى: إِلَى فلَان، بِدُونِ ذكر آل وَترسل، بِضَم اللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، ترسل بِهِ، بِالْبَاء وبحذف النُّون من غير عِلّة، وَهِي لُغَة. قَوْله: (أهل بَيت) ، بِالْجَرِّ على الْبَدَل.
وَفِيه كره النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْحَرِير لفاطمة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِأَنَّهَا مِمَّن يرغب لَهَا فِي الْآخِرَة وَلَا يرضى لَهَا بتعجيل طيباتها فِي حَيَاتهَا الدُّنْيَا وَأَن النَّهْي عَنهُ إِنَّمَا هُوَ من جِهَة الْإِسْرَاف قَالَ الْكرْمَانِي وَأَقُول لِأَن فِيهَا صوراً ونقوشاً وَالله أعلم. وَفِيه كَرَاهِيَة دُخُول الْبَيْت الَّذِي فِيهِ مَا يكره وروى ابْن حببان من حَدِيث سفينة قَالَ لم يكن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل بَيْتا مزوقاً.

4162 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبرنِي عَبْدُ المَلِكِ بنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بنَ وهْبٍ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أهْدَى إلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ فلَبِسْتُهَا فَرَأيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَرَأَيْت الْغَضَب فِي وَجهه) فَإِنَّهُ كره لبسهَا لعَلي مَعَ أَنه أهداها إِلَيْهِ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن حجاج بن منهال وَفِي اللبَاس عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن غنْدر بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن بنْدَار بِهِ.
قَوْله: (فِي حلَّة سيراء) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف مَمْدُود: وَهُوَ نوع من البرود يخالطه حَرِير كالسيور، وَهُوَ فعلاء من السّير، وَهُوَ الْقد، هَكَذَا يرْوى على الصّفة، وَقيل: على الْإِضَافَة، وَاحْتج بِأَن سِيبَوَيْهٍ قَالَ: لم تأت فعلاء صفة لَكِن إسماً، وَشرح السيراء بالحرير الصافي مَعْنَاهُ حلَّة حَرِير. قَوْله: (فَرَأَيْت الْغَضَب فِي وَجهه) ، ظَاهره التَّحْرِيم، وَأما أَبُو عبد الله أَخُو الْمُهلب فَقَالَ: هُوَ دَال على أَن النَّهْي للكراهة فَقَط، وَلَو كَانَ تَحْرِيمًا لما عرف الْكَرَاهَة من وَجهه بل نَهَاهُ. فَإِن قلت: من الْمهْدي هَذِه الْحلَّة؟ قلت: قَالُوا: أكيدر دومة، قَالَ ابْن الْأَثِير: دومة الجندل مَوضِع، بِضَم الدَّال وتفتح. قَوْله: (فشققتها بَين نسَائِي) ، وَالْمرَاد بِهِ نسَاء قومه، وَلَا يُرِيد بِهِ زَوْجَاته إِذْ لم يكن لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، زَوْجَة فِي حَيَاة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوى فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكر ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب (الْهَدَايَا) تأليفه، عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: فشققت مِنْهَا أَرْبَعَة أخمرة لفاطمة بنت أَسد أُمِّي، ولفاطمة زَوْجَتي، ولفاطمة بنت حَمْزَة بن عبد الْمطلب. قَالَ: وَنسي الرَّاوِي الرَّابِعَة. قَالَ عِيَاض: يشبه أَن تكون فَاطِمَة بنت شيبَة بن ربيعَة امْرَأَة عقيل أخي عَليّ، وَعند أبي الْعَلَاء بن سُلَيْمَان: فَاطِمَة بنت أبي طَالب المكناة أم هانىء، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيل: فَاطِمَة بنت الْوَلِيد بن عقبَة، وَقيل: فَاطِمَة بنت عتبَة بن ربيعَة.

82 - (بابُ قَبولِ الْهَدِيَّةِ مِنَ المُشْرِكِينَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى ضعف الحَدِيث الْوَارِد فِي رد هَدِيَّة الْمُشرك، وَهُوَ مَا أخرجه مُوسَى بن عقبَة فِي الْمَغَازِي عَن ابْن شهَاب عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك وَرِجَال من أهل الْعلم أَن عَامر بن مَالك الَّذِي يدعى: ملاعب الأسنة. قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مُشْرك فأهدى لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أقبل هَدِيَّة مُشْرك ... الحَدِيث، رِجَاله ثِقَات إلاَّ أَنه مُرْسل، وَقد وَصله بَعضهم عَن الزُّهْرِيّ وَلَا يَصح. وَفِي الْبَاب عَن عِيَاض بن حمَار أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا من طَرِيق قَتَادَة عَن يزِيد بن عبد الله عَن عِيَاض. قَالَ: أهديث للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَاقَة فَقَالَ: أسلمت؟ قلت: لَا، قَالَ: إِنِّي نهيت عَن زبد الْمُشْركين. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَمعنى قَوْله: إِنِّي نهيت عَن زبد الْمُشْركين، يَعْنِي: هداياهم. قلت الزّبد، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ الرفد وَالعطَاء، يُقَال مِنْهُ: زبده يزبده، بِالْكَسْرِ، فَأَما يزبده بِالضَّمِّ فَهُوَ: إطْعَام الزّبد. وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخا لِأَنَّهُ قبل هَدِيَّة غير وَاحِد من الْمُشْركين، أهْدى لَهُ الْمُقَوْقس مَارِيَة وَالْبَغْلَة، وَأهْدى لَهُ أكيدر دومة فَقبل مِنْهُمَا. وَقيل: إِنَّمَا رد هديته ليغيظه بردهَا فيحمله ذَلِك على الْإِسْلَام. وَقيل: ردهَا لِأَن للهدية موضعا من الْقلب، وَلَا يجوز أَن يمِيل بِقَلْبِه

(13/167)


إِلَى مُشْرك، فَردهَا قطعا لسَبَب الْميل، وَلَيْسَ ذَلِك مناقضاً لقبُول هَدِيَّة النَّجَاشِيّ والمقوقس وأكيدر لأَنهم أهل كتاب. انْتهى.
قلت: روى فِي هَذَا الْبَاب عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ. قَالَ: أهْدى النَّجَاشِيّ إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَارُورَة من غَالِيَة، وَكَانَ أول من عمل لَهُ الغالية. وَلم أجد فِي هَدَايَا الْمُلُوك لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من حَدِيث جَابر إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَالنَّجَاشِي كَانَ قد أسلم، وَلَا مدْخل للْحَدِيث فِي الْبَاب إلاَّ أَن يكون أهداه لَهُ قبل إِسْلَامه، وَفِيه نظر، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بالنجاشي نجاشي آخر من مُلُوك الْحَبَشَة لم يسلم، كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عِنْد مُسلم من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كتب قبل مَوته إِلَى كسْرَى وَقَيْصَر وَإِلَى النَّجَاشِيّ وَإِلَى كل جَبَّار يَدعُوهُم ... الحَدِيث، وَعَن أبي حميد السَّاعِدِيّ، قَالَ: غزونا مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث، وَفِيه: وَأهْدى ملك أَيْلَة إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بغلة بَيْضَاء، فَكَسَاهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بردة وَكتب لَهُ ببحرهم، أخرجه الشَّيْخَانِ على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَعَن أنس، أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة قَتَادَة عَنهُ: أَن أكيدر دومة الجندل أهْدى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جُبَّة من سندس. ولأنس حَدِيث آخر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَأحمد وَالْبَزَّار فِي (مسنديهما) قَالَ: أهْدى الأكيدر لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جرة من منٍّ فَجعل يقسمها بَيْننَا، وَقَالَ الْبَزَّار: فقبلها، ولأنس حَدِيث آخر رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة عَليّ بن يزِيد عَن أنس: أَن ملك الرّوم أهْدى إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ممشقة من سندس، فلبسها أوردهُ. فِي تَرْجَمَة عَليّ وَضَعفه. قلت: الممشقة، بِضَم الْمِيم الأولى وَفتح الثَّانِي وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة وبالقاف: هُوَ الثَّوْب الْمَصْبُوغ بالمشق، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ الْمغرَة، ولأنس حَدِيث آخر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عمَارَة بن زادان عَن ثَابت عَن أنس: أَن ملك ذِي يزن أهْدى لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حلَّة أَخذهَا بِثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ نَاقَة فقبلها.
وَعَن بِلَال بن رَبَاح، أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ حَدِيثا مطولا وَفِيه: ألم تَرَ إِلَى الركائب المناخات الْأَرْبَع؟ فَقلت: بلَى. فَقَالَ: إِن لَك رقابهن وَمَا عَلَيْهِنَّ، فَإِن عَلَيْهِنَّ كسْوَة وَطَعَامًا أهداهن إِلَى عَظِيم فدك فاقبضهن واقض دينك.
وَعَن حَكِيم بن حزَام أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عرَاك بن مَالك أَن حَكِيم بن حزَام، قَالَ: كَانَ مُحَمَّد أحب رجل فِي النَّاس إِلَى فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا تنبأ وَخرج إِلَى الْمَدِينَة شهد حَكِيم بن حزَام الْمَوْسِم، وَهُوَ كَافِر، فَوجدَ جلة لذِي يزن تبَاع، فاشتراها بِخَمْسِينَ دِينَارا ليهديها لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقدم بهَا عَلَيْهِ الْمَدِينَة فأراده على قبضهَا هَدِيَّة فَأبى، قَالَ عبد الله: حسبته قَالَ: إِنَّا لَا نقبل شَيْئا من الْمُشْركين، وَلَكِن إِن شِئْت أخذناها بِالثّمن، فأعطيته حِين أبي عليَّ الْهَدِيَّة.
وَعَن عبد الله بن الزبير: أخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة عَامر بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه. قَالَ: قدمت قتيلة ابْنة عبد الْعُزَّى على ابْنَتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بِهَدَايَا ضباباً وقرظاً وَسمنًا، زَاد الطَّبَرَانِيّ: وَهِي مُشركَة فَأَبت أَسمَاء أَن تقبل هديتها وَتدْخلهَا بَيتهَا، فَسَأَلت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين} (الممتحنة: 8) . الْآيَة، فَأمرهَا أَن تقبل هديتها وَتدْخلهَا بَيتهَا.
وَعَن عبد الله بن عَبَّاس أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْحجَّاج بن علاط أهْدى لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَيْفه ذُو الفقار، ودحية الْكَلْبِيّ أهْدى لَهُ بغلته الشَّهْبَاء، وَفِي تَرْجَمَة أبي شيبَة، رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) ، وَضَعفه. وَلابْن عَبَّاس حَدِيث آخر رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من رِوَايَة منْدَل عَن إِبْنِ إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أهْدى الْمُقَوْقس إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدح قَوَارِير، فَكَانَ يشرب فِيهِ.
وَعَن حَنْظَلَة الْكَاتِب أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) عَنهُ: أَنه قَالَ: أهْدى الْمُقَوْقس ملك القبط إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَدِيَّة وَبغلة شهباء فقبلها، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن دحْيَة الْكَلْبِيّ، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) عَنهُ أَنه قَالَ: أهديت لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جُبَّة صوف وخفين، فلبسهما حَتَّى تخرقا وَلم يسْأَل عَنْهُمَا، أذكيا أم لَا؟ انْتهى. قلت: كَانَ ذَلِك قبل إِسْلَامه. وَعَن بُرَيْدَة ابْن الْحصيب أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: أهْدى لغير أَمِير القبط لرَسُول الله، صلى الله

(13/168)


عَلَيْهِ وَسلم، جاريتين أُخْتَيْنِ وَبغلة، فَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يركبهَا، وَأما إِحْدَى الجاريتين فتسراها فَولدت لَهُ إِبْرَاهِيم، وَأما الْأُخْرَى فَأَعْطَاهَا حسان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) عَنهُ، قَالَ: أهْدى ملك الرّوم إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جرة زنجبيل فَقَسمهَا بَين أَصْحَابه. وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، أخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ، قَالَ: أهْدى دحْيَة الْكَلْبِيّ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خُفَّيْنِ فلبسها. وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة عَطاء عَنْهَا، قَالَت: أهْدى الْمُقَوْقس. صَاحب الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكحلة عيدَان شامية ومرآة ومشط. وَعَن دَاوُد بن أبي دَاوُد عَن جده أخرجه ابْن قَانِع عَنهُ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أهْدى لَهُ قَيْصر جُبَّة من سندس، فَأتى أَبَا بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يشاورهما، فَقَالَا: يَا رَسُول الله! نرى أَن تلبسها يبكت الله تَعَالَى عَدوك وَيسر الْمُسلمُونَ، فلبسا وَصعد الْمِنْبَر ... الحَدِيث، وَفِي إِسْنَاده جَهَالَة.
ثمَّ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْأَحَادِيث مَا قَالَه الطَّبَرِيّ: بِأَن الِامْتِنَاع فِيمَا أهْدى لَهُ خَاصَّة، وَالْقَبُول فِيمَا أهدي للْمُسلمين، وَقيل: الِامْتِنَاع فِي حق من يُرِيد بهديته التودد، وَالْقَبُول فِي حق من يُرْجَى بذلك تأنيسه وتأليفه على الْإِسْلَام. وَقيل: يحمل الْقبُول على من كَانَ من أهل الْكتاب، وَالرَّدّ على من كَانَ من أهل الْأَوْثَان، وَقيل: يمْتَنع ذَلِك لغيره من الْأُمَرَاء، لِأَن ذَلِك من خَصَائِصه، وَقيل: نسخ الْمَنْع بِأَحَادِيث الْقبُول. وَقيل: بِالْعَكْسِ، وَالله أعلم.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هاجَرَ إبْرَاهِيمُ علَيْهِ السَّلامُ بِسارَةَ فدَخَلَ قَرْيَةً فِيها مالِكٌ أوْ جَبَّارٌ فَقَالَ أعْطُوهَا آجَرَ

ذكر هَذَا التَّعْلِيق مُخْتَصرا.
وَأخرجه مَوْصُولا فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب شِرَاء الْمُلُوك من الْحَرْبِيّ وَقد قتدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَأخرجه أَيْضا وَأخرجه أَيْضا مَوْصُولا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. وقصته على مَا قَالَ عُلَمَاء السّير: أَن إِبْرَاهِيم أَقَامَ بِالشَّام مُدَّة فقحط الشَّام فَسَار إِلَى مصر وَمَعَهُ سارة وَلُوط، عَلَيْهِم السَّلَام، وَكَانَ بهَا فِرْعَوْن، وَهُوَ أول الفراعنة، عَاشَ دهراً طَويلا، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ قوم: هُوَ سِنَان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: سِنَان ابْن الأهبوب أَخُو الضَّحَّاك، وَهُوَ الَّذِي بَعثه إِلَى مصر، وَقَامَ بهَا. وَقيل: عَمْرو بن امرىء الْقَيْس بن نابليون بن سبأ. وَقيل: طوليس، وَكَانَت سارة من أجمل النِّسَاء، وَكَانَت لَا تَعْصِي لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَيْئا، فَلذَلِك أكرمها الله تَعَالَى فَأتى الجبارَ رجلٌ وَقَالَ: إِنَّه قدم رجل وَمَعَهُ امْرَأَة من أحسن النَّاس وَجها، وَوصف لَهُ حسنها وجمالها، فَأرْسل الْجَبَّار إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: مَا هَذِه الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: هِيَ أُخْتِي، وَخَافَ إِن قَالَ: امْرَأَتي، أَن يقْتله، فَقَالَ لَهُ: زينها وأرسلها إليَّ،. وَلَا تمْتَنع حَتَّى أنظر إِلَيْهَا، فَرجع إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى سارة وَقَالَ لَهَا: إِن هَذَا الْجَبَّار قد سَأَلَني عَنْك فَأَخْبَرته أَنَّك أُخْتِي، فَلَا تكذبِينِي عِنْده، فَإنَّك أُخْتِي فِي كتاب الله تَعَالَى، وَأَنه لَيْسَ فِي هَذِه الأَرْض مُسلم غَيْرِي وَغَيْرك، وَلُوط، ثمَّ أقبلط سارة إِلَى الْجَبَّار، وَقَامَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يُصَلِّي، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ وَرَآهَا فَتَنَاولهَا بيد، فيبست إِلَى صَدره، فَلَمَّا رأى ذَلِك فِرْعَوْن أعظم أمرهَا، وَقَالَ لَهَا: سَلِي إلهك أَن يُطلق عني، فوَاللَّه لَا أوذيك. فَقَالَت سارة: أللهم إِن كَانَ صَادِقا فَأطلق لَهُ يَده، فَأطلق الله لَهُ يَده، وَقيل: فعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، فَلَمَّا رأى ذَلِك ردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم ووهب لَهَا هَاجر، وَهِي الَّتِي ذكرت فِي حَدِيث الْبَاب: آجر، وَهِي لُغَة فِي: هَاجر، فَأَقْبَلت سارة إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا أحس بهَا انْفَتَلَ من صلَاته، فَقَالَ: مَهيم؟ فَقَالَت: كفى الله كيد الْفَاجِر، وأخدمني هَاجر.
وَاخْتلفُوا فِي هَاجر، فَقَالَ مقَاتل: كَانَت من ولد هود، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَت بنت ملك مصر وَكَانَ الْملك سَاكِنا بمنف، وَعَلِيهِ ملك آخر، وَقيل: إِنَّمَا غَلبه فِرْعَوْن فَقتله وسبى ابْنَته فاسترقها ووهبها لسارة، ووهبتها سارة لإِبْرَاهِيم فواقعها إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَولدت إِسْمَاعِيل، وَسَارة بنت هاران أَخ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ ابْن كثير: وَالْمَشْهُور أَن سارة ابْنة عَمه هاران أُخْت لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا حَكَاهُ السُّهيْلي، وَمن ادّعى أَن تَزْوِيج بنت الْأَخ كَانَ إِذْ ذَاك مَشْرُوعا فَلَيْسَ لَهُ على ذَلِك دَلِيل، وَلَو فرض أَنه كَانَ مَشْرُوعا، وَهُوَ مَنْقُول عَن الربانيين من الْيَهُود، كَانَ الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، لَا يتعاطونه، وَقَالَ السّديّ: وَكَانَت سارة بنت ملك حران، وَكَانَ

(13/169)


قد بلغَهَا خبر الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فآمنت بِهِ وعابت على قَومهَا عبَادَة الْأَوْثَان، فَلَمَّا قدم الْخَلِيل حران تزوجته على أَن لَا يغيرها، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى نبوة ثَلَاث نسْوَة: سارة وَأم مُوسَى وَمَرْيَم، عَلَيْهِنَّ السَّلَام، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَنَّهُنَّ صديقات.
وأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاةٌ فِيهَا سُمٌّ
يَأْتِي حَدِيث هَذِه الْهَدِيَّة فِي هَذَا الْبَاب مَوْصُول، وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهَا هُنَاكَ.
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ أهْدَى مَلِكُ أيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وكَساهُ بُرْداً وكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ
أَبُو حميد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، قيل: اسْمه عبد الرَّحْمَن، وَقيل: غير ذَلِك، والْحَدِيث الْمُعَلق مضى مطولا فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب خرص التَّمْر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وأيلة، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: بَلْدَة مَعْرُوفَة بساحل الْبَحْر فِي طَرِيق المصريين إِلَى مَكَّة، وَهِي الْآن خراب. قَوْله: (وَكتب لَهُ ببحرهم) ، أَي: ببلدهم وحكومة أَرضهم وديارهم لَهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر، لَا الْبَحْر الَّذِي هُوَ ضد الْبر، كَمَا توهمه بَعضهم.

5162 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا يُونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ قَتادَةَ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جبَّةَ سُنْدُسٍ وكانَ يَنْهَى عنِ الحَرِيرِ فعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والَّذِي نِفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أحْسَنُ مِنْ هَذَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشرك، لِأَن الَّذِي أهداها هُوَ أكيدر دومة، على مَا يَجِيء عَن قريب. وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَيُونُس بن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب البغذذ أَي شَيبَان بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن عبد الرحمان النَّحْوِيّ والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة الْجنَّة عَن عبد الله بن مُحَمَّد أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن يُونُس بن مُحَمَّد عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (أهدي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمهْدِي هُوَ أكيدر، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (سندس) ، قَالَ ابْن الْأَثِير: السندس مَا رق من الديباج وَرفع، وَقَالَ الدَّاودِيّ: السندس رَقِيق الديباج، والاستبرق غليظه، وَقَالَ ابْن التِّين: الاستبرق أفضل من السندس لِأَنَّهُ غليظ الديباج، وكل مَا غلظ من الْحَرِير كَانَ أفضل من رَقِيقه، قَوْله: (وَكَانَ ينْهَى عَن الْحَرِير) ، جملَة حَالية. قَوْله: (لمناديل سعد) ، جمع منديل، وَهُوَ الَّذِي يحمل فِي الْيَد، مُشْتَقّ من الندل، وَهُوَ: النَّقْل، لِأَنَّهُ ينْقل من يَد إِلَى يَد، وَقيل: الندل الْوَسخ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى منزلَة سعد فِي الْجنَّة، وَأَن أدنى ثِيَابه فِيهَا خير من هَذِه الْجُبَّة، لِأَن المناديل فِي الثِّيَاب أدناها، لِأَنَّهُ معد للوسخ والامتهان، فَغَيره أفضل مِنْهُ، وَقيل: فِي قَوْله: (لمناديل سعد) ضرب الْمِثَال بالمناديل الَّتِي يمسح بهَا الْأَيْدِي وينفض بهَا الْغُبَار ويتخذ لفافة لجيِّد الثِّيَاب، فَكَانَت كالخادم، وَالثيَاب كالمخدوم، فَإِذا كَانَت المناديل أفضل من هَذِه الثِّيَاب أَعنِي: جُبَّة السندس دلّ على عطايا الرب، جلّ جَلَاله، قَالَ: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} (السَّجْدَة: 71) . فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص سعد بِهِ؟ قلت: لَعَلَّ منديله كَانَ من جنس ذَلِك الثَّوْب لوناً وَنَحْوه، أَو كَانَ الْوَقْت يَقْتَضِي استمالة سعد، أَو كَانَ اللامسون المتعجبون من الْأَنْصَار، فَقَالَ: منديل سيدكم خير مِنْهَا، أَو كَانَ سعد يجب ذَلِك الْجِنْس من الثِّيَاب، وَقَالَ صَاحب (الِاسْتِيعَاب) رُوِيَ أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نزل فِي جنَازَته معتجراً، بعمامة من استبرق.

6162 - وَقَالَ سَعِيدٌ عنْ قَتادَة عنْ أنَسٍ أنَّ أُكَيْدَرَ دُومَةَ أهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
سعيد خَز تبم أبي عرُوبَة، روى عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَحْمد عَن روح عَن سعيد بن أبي عرُوبَة بِهِ، وَقَالَ فِيهِ: (جُبَّة سندس أَو ديباج) شكّ سعيد، وأكيدر بِضَم الْهمزَة تَصْغِير أكدر، وَهُوَ ابْن عبد الْملك بن عبد الْجِنّ، بِالْجِيم وَالنُّون

(13/170)


ابْن أعبا بن الْحَارِث بن مُعَاوِيَة، ينْسب إِلَى كِنْدَة، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَيْهِ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي سَرِيَّة فَأسرهُ، وَقتل أَخَاهُ حسان، وَقدم بِهِ إِلَى الْمَدِينَة فَصَالحه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْجِزْيَة وَأطْلقهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاخْتلفُوا فِي إِسْلَامه، قَالَ فِي (الْجَامِع) : ذكر البلاذري: أَنه لما قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أسلم وَعَاد إِلَى قومه، فَلَمَّا توفى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ارْتَدَّ فَلَمَّا سَار خَالِد من الْعرَاق إِلَى الشَّام قَتله، وَكَانَ أكيدر ملك ومة، بِضَم الدَّال عِنْد اللّغَوِيّ، وَفتحهَا عِنْد الحديثي، و: الْوَاو، سَاكِنة، وَهِي مَدِينَة بِقرب تَبُوك بهَا نخل وَزرع، وَلها حصن عادي على عشر مراحل من الْمَدِينَة وثمان من دمشق، وَيُسمى: دومة الجندل، والجندل: الْحِجَارَة، والدومة: مستدار الشَّيْء ومجتمعه، كَأَنَّهَا سميت بِهِ لِأَن مَكَانهَا مُجْتَمع الأججار ومستدارها. وروى أَبُو يعلى بِإِسْنَاد قوي من حَدِيث قيس بن النُّعْمَان، أَنه: لما قدم أخرج قبَاء من ديباج منسوجاً بِالذَّهَب، فَرده النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ إِنَّه وجد فِي نَفسه من رد هديته، فَرجع بِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إدفعه إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) الحَدِيث وَفِي حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن مُسلم عِنْد مُسلم: (أَن أكيدر دومة أهْدى للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثوب حَرِير، فَأعْطَاهُ عليا، فَقَالَ: شققه خمرًا بَين الفواطم) . وَقد ذكرنَا الفواطم فِي الْبَاب الَّذِي قبل هَذَا الْبَاب.

7162 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ عبْدِ الوهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحارِثِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ هِشامِ بنِ زَيْدٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ يَهُودِيَّةَ أتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْمُومَةً فأكَلَ مِنْهَا فَجيءَ بِها فَقيلَ ألاَ نَقْتُلُهَا فَمَا زِلْتُ أعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل هَدِيَّة تِلْكَ الْيَهُودِيَّة، وَأكله مِنْهَا يدل على قبُوله إِيَّاهَا، وَعبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي الْبَصْرِيّ مَاتَ فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وخَالِد بن الْحَارِث بن سليم الهُجَيْمِي الْبَصْرِيّ وَهِشَام بن زيد بن أنس بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن يحيى بن حبيب، وَعَن هَارُون الْجمال، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الدِّيات عَن يحيى بن حبيب.
قَوْله: (يَهُودِيَّة) ، اسْمهَا زَيْنَب، وَاخْتلف فِي إسْلَامهَا. قَوْله: (فِي لَهَوَات) ، جمع: لهات، بِفَتْح اللَّام، قَالَ الْجَوْهَرِي: اللهاة الهنة المطبقة فِي أقْصَى سقف الْحلق، وَالْجمع اللها، واللهوات واللهياة، وَقَالَ عِيَاض: هِيَ اللحمة الَّتِي بِأَعْلَى الحنجرة من أقْصَى الْفَم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: لهواته، مَا يَبْدُو من فِيهِ عِنْد التبسم، وَفِي (الْمغرب) اللهاة: لحْمَة مشرفة على الْحلق.
وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أكل طَعَام من يحل أكل طَعَامه، دون أَن يسْأَل عَن أَصله. وَفِيه: حمل الْأُمُور على السَّلامَة حَتَّى يقوم دَلِيل على غَيرهَا، وَكَذَلِكَ حكم مَا بيع فِي سوق الْمُسلمين، وَهُوَ مَحْمُول على السَّلامَة حَتَّى يتَبَيَّن خلَافهَا.

8162 - حدَّثنا أَبُو النُّعْمانِ قَالَ حدَّثنا الْمُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي عُثْمَان عَن عبد الرَّحْمانِ ابنِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاثِينَ ومائَةً فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلْ مَعَ أحَدٍ مِنْكُمْ طعامٌ فإذَا مَعَ رَجُلٍ صاعٌ مِنْ طَعَامٍ أوْ نَحْوُهُ فَعُجِنَ ثُمَّ جاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانُّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُها فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْعَاً أمْ عَطِيَّةٌ أوْ قالَ هِبَةً قَالَ لاَ بَلْ بَيْعٌ فاشْتَرَى مِنْهُ شَاة فَصُنِعَتْ وأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البَطْنَ أنْ يُشْوَى وايْمُ الله مَا فِي الثَّلاثِينَ والمِائَةِ إلاَّ قَدْ حَزَّ بِسَوادِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوادِ بَطْنِهَا إنْ كانَ شاهِداً أعْطَاهَا إيَّاهُ وإنْ كانَ غائِباً خَبَّأ لَهُ فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ فأكَلُوا أجْمَعُونَ وشَبِعْنَا فَفُضِلَتِ الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلْناهُ على البَعِيرِ أوْ كَما قَالَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله أم عَطِيَّة، والعطية تطلق على الْهَدِيَّة وعَلى الْهِبَة، وَلِهَذَا قَالَ: أم هبة. وَفِيه: دلَالَة على جَوَاز قبُول هَدِيَّة الْمُشرك، لِأَنَّهُ لَو لم يجز لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أم عَطِيَّة وَأَبُو النُّعْمَان، مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي الْبَصْرِيّ، والمعتمر بن سُلَيْمَان بن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، يروي عَن أَبِيه، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون الْكُوفِي، سكن

(13/171)


الْبَصْرَة، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم على عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدق بِهِ وَلم يره، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ بِالْبَصْرَةِ، وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ وَمِائَة سنة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ الْمُشْركين.
قَوْله: (فَإِذا مَعَ رجل) ، كلمة إِذا، للمفاجأة، قَوْله: (أَو نَحوه) ، بِالرَّفْع عطف على الصَّاع وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الصَّاع. قَوْله: (مشعان) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة. وبالعين الْمُهْملَة، وَفِي آخِره نون مُشَدّدَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى، بِكَسْر الْمِيم. وَقَالَ: هُوَ ثَائِر الرَّأْس أَشْعَث وَقَالَ الْقَزاز هُوَ الحافي الثائر الرَّأْس وَفِي بعض الرِّوَايَة وَقع بعد قَوْله مشعان طَوِيل جدا فَوق الطول وَهُوَ تَفْسِير البُخَارِيّ وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. قَوْله: (بيعا أعْطِيه) منصوبان بِفعل مُقَدّر تَقْدِيره: تبيع بيعا أَو تُعْطِي عَطِيَّة. قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي فِي أَنه قَالَ: عَطِيَّة أم هبة. قَوْله: (فَاشْترى مِنْهُ) ، أَي: من الرجل، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَاشْترى مِنْهَا، أَي: من الْغنم. قَوْله: (فصنعت) ، أَي: ذبحت. قَوْله: (بسواد الْبَطن) ، هُوَ الكبد، قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللَّفْظ أَعم مِنْهُ، يَعْنِي: يتَنَاوَل كل مَا فِي الْبَطن من كبد وَغَيره. قلت: الَّذِي قَالَه النَّوَوِيّ أقوى فِي المعجزة. قَوْله: (وأيم الله) ، قسم، يَعْنِي: من أَلْفَاظ الْقسم، نَحْو: لعمر الله، وعهد الله، وَفِيه لُغَات كَثِيرَة، وتفتح همزتها وتكسر، وَهِي همزَة وصل، وَقد تقطع وَأهل الْكُوفَة من النُّحَاة يَزْعمُونَ أَنه جمع يَمِين، وَغَيرهم يَقُولُونَ: هِيَ اسْم مَوْضُوع للقسم. قَوْله: (حز) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، مَعْنَاهُ: قطع. قَوْله: (حزة) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: وَهِي الْقطعَة من اللَّحْم وَغَيره، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى بِفَتْح الْجِيم قَوْله: (أَعْطَاهَا إِيَّاه) أَي: أعْطى الحزة إِيَّاه، أَي: الشَّاهِد، أَي: الْحَاضِر. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ من الْقلب، وَأَصله: أعطَاهُ إِيَّاهَا. قلت: لَا حَاجَة إِلَى دَعْوَى الْقلب فِيهِ، بل العبارتان سَوَاء فِي الِاسْتِعْمَال. قَوْله: (أَجْمَعُونَ) ، بِالرَّفْع تَأْكِيد للضمير الَّذِي فِي أكلُوا، ثمَّ إِنَّه يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنهم اجْتَمعُوا كلهم على القصعتين فَأَكَلُوا مُجْتَمعين، وَفِيه معْجزَة أُخْرَى: وَهِي اتساع القصعتين حَتَّى تمكنت مِنْهَا أيادي الْقَوْم كلهم، وَالْوَجْه الآخر: أَنهم أكلُوا كلهم من القصعتين على أَي وَجه كَانَ. قَوْله: (فحملناه) ، أَي: الطَّعَام، وَلَو أُرِيد القصعتان لقيل: حملناهما، وَفِي الْأَطْعِمَة. وَفضل فِي القصعتين، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، فَالضَّمِير حِينَئِذٍ يرجع إِلَى الْقدر الَّذِي فضل. قَوْله: (أَو كَمَا قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي.
قَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: فِيهِ معجزتان: إِحْدَاهمَا: تَكْثِير سَواد الْبَطن حَتَّى وسع هَذَا الْعدَد، وَالْأُخْرَى: تَكْثِير الصَّاع وَلحم الشَّاة حَتَّى أشبعهم أَجْمَعِينَ. ففضلت فضلَة حملوها لعدم الْحَاجة إِلَيْهَا. قلت: فِيهِ أَربع معجزات: الأولى تَكْثِير الصَّاع، وَالثَّانيَِة: تَكْثِير سَواد الْبَطن. وَالثَّالِثَة: اتساع القصعتين لتمكن أيادي هَؤُلَاءِ الْعدَد. وَالرَّابِعَة: الفضلة الَّتِي فضلت بعد شبعهم واكتفائهم. وَفِيه: الْمُوَاسَاة بِالطَّعَامِ عِنْد المسبغة وتساوي النَّاس فِي ذَلِك. وَفِيه: ظُهُور الْبركَة عِنْد الِاجْتِمَاع على الطَّعَام، وَفِيه: تَأْكِيد الْخِبْرَة بالقسم وَإِن كَانَ الْمخبر صَادِقا، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: فَسَاد قَول من حمل رد الْهَدِيَّة على الوثني دون الْكِتَابِيّ، لِأَن هَذَا الْأَعرَابِي كَانَ وثنياً. قلت: لَيْسَ فِيهِ شَيْء يدل على أَنه كَانَ وثنياً، فَإِن قَالَ: علم ذَلِك من الخارح، فَعَلَيهِ الْبَيَان.

92 - (بابُ الهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْهَدِيَّة الْوَاقِعَة للْمُشْرِكين، وَحكمهَا أَنَّهَا: تجوز للرحم مِنْهُم، كَمَا سَنذكرُهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وقَوْلِ الله تعالَى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) .

وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: الْهَدِيَّة، أَي: وَفِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله ... } (الممتحنة: 8) . إِلَى آخر الْآيَة فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ ذكر إِلَى قَوْله: {وتقسطوا إِلَيْهِم} (الممتحنة: 8) . وَالْمرَاد من ذكر الْآيَة بَيَان من تجوز لَهُ الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَمن لَا تجوز، وَلَيْسَ حكم الْهَدِيَّة إِلَيْهِم على الْإِطْلَاق. ثمَّ الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِي قتيلة امْرَأَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ قد طَلقهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقدمت على ابْنَتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر، فَأَهْدَتْ لَهَا قرظاً، وَأَشْيَاء، فَكرِهت قبُولهَا حَتَّى ذكرته لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزلت الْآيَة الْمَذْكُورَة، كَذَا قَالَه الطَّبَرِيّ، وَقيل: نزلت فِي مُشْركي مَكَّة من لم يُقَاتل الْمُؤمنِينَ وَلم يخرجوهم من دِيَارهمْ، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ خطاب للْمُؤْمِنين الَّذين بقوا بِمَكَّة وَلم يهاجروا، وَالَّذين قَاتلهم كفار أهل مَكَّة، وَقَالَ السّديّ: كَانَ هَذَا

(13/172)


قبل أَن يؤمروا بِقِتَال الْمُشْركين كَافَّة، فَاسْتَشَارَ الْمُسلمُونَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قراباتهم من الْمُشْركين أَن يبروهم ويصلوهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقَالَ قَتَادَة وَابْن زيد: ثمَّ نسخ ذَلِك، وَلَا يجوز الإهداء للْمُشْرِكين إلاَّ لِلْأَبَوَيْنِ خَاصَّة، لِأَن الْهَدِيَّة فِيهَا تأنيس للمهدى إِلَيْهِ، وألطاف لَهُ، وتثبيت لمودته، وَقد نهى الله تَعَالَى عَن التودد للْمُشْرِكين بقوله: {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوأدون من حادَّ الله وَرَسُوله} (المجادلة: 22) . الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} (الممتحنة: 1) . قَوْله: (أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم) ، أَي: أَن تحسنوا إِلَيْهِم وتعاملوهم فِيمَا بَيْنكُم بِالْعَدْلِ وتقسطوا، بِضَم التَّاء من الإقساط، وَهُوَ الْعدْل، يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط إِذا عدل، وقسط يقسط فَهُوَ قاسط إِذا جَار، فَكَأَن الْهمزَة فِي أقسط للسلب، كَمَا يُقَال: شكا إِلَيْهِ فأشكاه أَي: أَزَال شكواه.

9162 - حدَّثنا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثني عبْدُ الله بنُ دِينارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ رَأى عُمَرُ حُلَّةً علَى رَجُلٍ تُباعُ فَقَالَ لِلنَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَعْ هَذِهِ الحُلَّةَ تَلْبَسْها يَوْمَ الجُمْعَةِ وإذَا جاءَكَ الوَفْدُ فَقَالَ إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ فأتِي رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا بِحُلَلٍ فأرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ فَقَالَ عُمَرَ كَيْفَ ألْبَسُها وقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ قَالَ إنِّي لَمْ أكْسُكَها لِتَلْبَسَهَا تَبِيعُها أوْ تَكْسُوهَا فأرْسَلَ بِها عُمَرُ إِلَى إخٍ لَهُ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أرسل تِلْكَ الْحلَّة الَّتِي أرسلها إِلَيْهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَخ لَهُ بِمَكَّة، وَهُوَ مُشْرك، فَدلَّ ذَلِك على جَوَاز الإهداء للرحم من الْمُشْركين، وَهَذَا أوضح الحكم فِي إِطْلَاق التَّرْجَمَة، وَأَنَّهَا لَيست على إِطْلَاقهَا، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب يلبس أحسن مَا يجد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَمضى أَيْضا عَن قريب فِي: بَاب هَدِيَّة مَا يكره لبسهَا، عَن عبيد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَهنا أخرجه: عَن خَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام: البَجلِيّ الْكُوفِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.

0262 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حَدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ قَدِمَتْ علَيَّ أُمِّي وهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عِهْدِ رَسُولِ الله فاسْتَفْتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْتُ وهْيَ رَاغِبَةٌ أفأصِلُ أُمِّي قالَ نَعَمْ صِلي أُمَّكِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبيد، بِضَم الْعين مصغر عبد ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْأَدَب عَن الْحميدِي: وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي كريب وَعَن ابْن أبي شيبَة، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن أبي شُعَيْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن هِشَام عَن أَبِيه) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة الْآتِيَة فِي الْأَدَب: أَخْبرنِي أبي. قَوْله: (عَن أَسمَاء) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: أَخْبَرتنِي أَسمَاء، كَذَا قَالَ أَكثر أَصْحَاب ابْن هِشَام، وَقَالَ بعض أَصْحَاب ابْن عُيَيْنَة: عَنهُ عَن هِشَام عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ خطأ، وَحكى أَبُو نعيم أَن عمر بن عَليّ الْمُقدم وَيَعْقُوب الْقَارِي روياه عَن هِشَام كَذَلِك، وَإِذا كَانَ كَذَلِك يحْتَمل أَن يَكُونَا محفوظين، وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة وَعبد الحميد بن جَعْفَر عَن هِشَام، فَقَالَا: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَكَذَا أخرجه ابْن حبَان من طَرِيق الثَّوْريّ عَن هِشَام، قَالَ البرقاني: الأول أثبت وَأشهر. قَوْله: (قدمت على أُمِّي) ، وَفِي رِوَايَة اللَّيْث عَن هِشَام كَمَا يَأْتِي فِي الْأَدَب: قدمت أُمِّي مَعَ ابْنهَا، وَذكر الزبير: أَن اسْم ابْنهَا الْحَارِث بن مدرك بن عبيد بن عمر ابْن مَخْزُوم.
ثمَّ اخْتلف فِي هَذِه الْأُم؟ فَقيل: كَانَت ظِئْرًا لَهَا، وَقيل: كَانَت أمهَا من الرضَاعَة، وَقيل: كَانَت أمهَا من النّسَب، وَهُوَ

(13/173)


الْأَصَح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن سعد وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن الزبير، قَالَ: قدمت قتيلة على ابْنَتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر فِي الْمَدِينَة وَكَانَ أَبُو بكر طَلقهَا فِي الْجَاهِلِيَّة بِهَدَايَا زبيب وَسمن وقرظ، فَأَبت أَسمَاء أَن تقبل هديتها أَو تدْخلهَا بَيتهَا، فَأرْسلت إِلَى عَائِشَة: سَلِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لتدخلها ... الحَدِيث، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي: بَاب قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَاخْتلفُوا فِي اسْمهَا، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهَا قتيلة، بِضَم الْقَاف وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَقَالَ الزبير بن بكار أسمها قتلة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقَالَ الدَّاودِيّ: اسْمهَا أم بكر، وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّه كنيتها، وَالصَّحِيح: قتيلة، بِضَم الْقَاف على صِيغَة التصغير، بنت عبد الْعُزَّى بن أسعد بن جَابر بن نصر بن مَالك بن حسل، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عَامر بن لؤَي، وَذكرهَا المستغفري فِي جملَة الصَّحَابَة. وَقَالَ تَأَخّر إسْلَامهَا،. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: لَيْسَ فِي شَيْء من الحَدِيث ذكر إسْلَامهَا. قَوْله: (وَهِي مُشركَة) جملَة حَالية. قَوْله: (فِي عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي زَمَنه وأيامه، وَفِي رِوَايَة حَاتِم: فِي عهد قُرَيْش، إِذْ عاقدوا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بذلك مَا بَين الْحُدَيْبِيَة وَالْفَتْح. قَوْله: (وَهِي راغبة) ، قَالَ بَعضهم: أَي: فِي الْإِسْلَام، وَقَالَ بَعضهم: أَي: فِي الصِّلَة. وَفِيه نظر لِأَنَّهَا جَاءَت أَسمَاء وَمَعَهَا هَدَايَا من زبيب وَسمن وَغير ذَلِك. قلت: وَفِي النّظر نظر لِأَنَّهَا رُبمَا كَانَت تَأمل أَن تَأْخُذ أَكثر مِمَّا أَهْدَت. وَقَالَ بَعضهم: راغبة، أَي: عَن ديني، أَي كارهة لَهُ، وَعند أبي دَاوُد راغمة، بِالْمِيم أَي كارهة لِلْإِسْلَامِ وساخطة عَليّ، وَقَالَ بَعضهم: هاربة من الْإِسْلَام، وَعند مُسلم أَو راهبة، وَكَانَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء يُفَسر قَوْله: مراغماً بِالْخرُوجِ عَن الْعَدو على رغم أَنفه، وَقَالَ ابْن قرقول: راغبة، روينَاهُ نصبا على الْحَال، وَيجوز رَفعه على أَنه خبر مُبْتَدأ. وَقَالَ ابْن بطال: لَو أَرَادَت بِهِ الْمُضِيّ لقالت مراغمة، وَهُوَ بِالْبَاء أظهر وَوَقع فِي كتاب ابْن التِّين: دَاعِيَة، ثمَّ فَسرهَا بقوله: طالبة، ويروي مُعْتَرضَة لَهُ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز صلَة الرَّحِم الْكَافِرَة كالرحم الْمسلمَة. وَفِيه: مستدل لمن رأى وجوب، النَّفَقَة للْأَب الْكَافِر، وَالأُم الْكَافِرَة على الْوَلَد الْمُسلم. وَفِيه: موادعة أهل الْحَرْب ومعاملتهم فِي زمن الْهُدْنَة. وَفِيه: السّفر فِي زِيَارَة الْقَرِيب. وَفِيه: فَضِيلَة أَسمَاء حَيْثُ تحرت فِي أَمر دينهَا، وَكَيف لَا وَهِي بنت الصّديق وَزوج الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.