عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 03 - (بابٌ لَا يَحِلُّ لأَحَدٍ أنْ
يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وصَدَقَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يحل إِلَى آخِره، فَإِن
قلت: لَيْسَ لفظ: لَا يحل، وَلَا لفظ يدل عَلَيْهِ فِي
أَحَادِيث الْبَاب، وَكَيف يترجم بِهَذِهِ التَّرْجَمَة؟
قلت: قيل: إِنَّه ترْجم بِهَذِهِ التَّرْجَمَة لقُوَّة
الدَّلِيل عِنْده فِيهَا، وَلَكِن يُعَكر عَلَيْهِ بشيئين.
الأول: أَنه يرى للوالد الرُّجُوع فِيمَا وهبه لوَلَده،
فَكيف يَقُول هُنَا: لَا يحل لأحد أَن يرجع فِي هِبته،
والكرة فِي سِيَاق النَّفْي تَقْتَضِي الْعُمُوم، وانتهض
بَعضهم مساعدة لَهُ، فَقَالَ: يُمكن أَن يرى صِحَة
الرُّجُوع لَهُ، وَإِن كَانَ حَرَامًا بِغَيْر عذر. قلت:
سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا عَن مَنْهَج الصَّوَاب،
لِأَنَّهُ: كَيفَ يرى صِحَة شيى مَعَ كَونه فِي نفس
الْأَمر حَرَامًا؟ وَبَين كَون الشَّيْء صَحِيحا، وَبَين
كَونه حَرَامًا، مُنَافَاة؟ فَالصَّحِيح لَا يُقَال لَهُ
حرَام، وَلَا الْحَرَام يُقَال لَهُ صَحِيح. وَالثَّانِي:
أَنه قيل فِي تَرْجَمته بِهَذِهِ التَّرْجَمَة لقُوَّة
الدَّلِيل عِنْده، فَإِن كَانَت هَذِه الْقُوَّة لدليله
بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، فَذا لَا يدل على عدم الْحل لأَنا
قد ذكرنَا فِي أَوَائِل: بَاب هبة الرجل لأمرأته أَن جعله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَائِد فِي هِبته كالعائد فِي
قيئه، من بَاب التَّشْبِيه من حَيْثُ إِنَّه ظَاهر الْقبْح
مُرُوءَة لَا شرعا، فَلَا يثبت بذلك عدم الْحل فِي
الرُّجُوع حَتَّى يُقَال: لَا يحل لأحد أَن يرجع فِي
هِبته، وَأَيْضًا كَيفَ تثبت الْقُوَّة لدليله مَعَ وُرُود
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الرجل أَحَق بهبته مَا لم
يثب مِنْهَا، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَابْن
أبي شيبَة فِي مُصَنفه، وروى (عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من وهب
هبة فَهُوَ أَحَق بهبته، مَا لم يثب مِنْهَا) . رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ، فَإِن قَالَ المساعد لَهُ: هَذَانِ
الحديثان لَا يقاومان حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ فِي هَذَا
الْبَاب. قلت: وَلَئِن سلمنَا ذَلِك، فَمَا يَقُول فِي
حَدِيث ابْن عمر، أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك)
عَنهُ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من
وهب هبة فَهُوَ أَحَق بهَا مَا لم يثب مِنْهَا، وَقَالَ:
حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ،
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا فِي سنَنه، فَإِن
قَالَ: مساهلة الْحَاكِم فِي التَّصْحِيح مَشْهُورَة،
يُقَال: لَهُ حَدِيث ابْن عمر صَحِيح مَرْفُوعا، وَرُوَاته
ثِقَات، كَذَا قَالَ عبد الْحق فِي الْأَحْكَام، وَصَححهُ
ابْن حزم أَيْضا، فَفِيهِ الْكِفَايَة لمن يَهْتَدِي إِلَى
مدارك الْأَشْيَاء ومسالك الدَّلَائِل.
(13/174)
1262 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ
قَالَ حدَّثنا هِشامٌ وشُعْبَةُ قَالَا حدَّثنا قَتادةُ
عنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيِّبِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم العائِدُ فِي هِبَتِهِ كالعائِدِ فِي
قَيْئِهِ.
لَيْسَ فِيهِ لفظ يدل على لفظ التَّرْجَمَة وَلَا يتم بِهِ
استدلاله على نفي حل الرُّجُوع عَن هِبته، وَهِشَام هُوَ
الدستوَائي، والْحَدِيث مر عَن قريب، وَقَالَ ابْن بطال:
جعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّجُوع فِي
الْهِبَة كالرجوع فِي الْقَيْء وَهُوَ حرَام، فَكَذَا
الرُّجُوع فِي الْهِبَة. قُلْنَا: الرَّاجِع فِي الْقَيْء
هُوَ الْكَلْب لَا الرجل، وَالْكَلب غير متعبد بتحليل
وَتَحْرِيم، فَلَا يثبت منع الْوَاهِب من الرُّجُوع فَهُوَ
يدل على تَنْزِيه أَمنه من أَمْثَال الْكَلْب لَا أَنه
أبطل أَن يكون لَهُم الرُّجُوع فِي هباتهم. فَإِن قلت:
رُوِيَ: لَا يحل لواهب أَن يرجع فِي هِبته؟ قلت: قَالَ
الطَّحَاوِيّ: قَوْله: لَا يحل، لَا يسْتَلْزم
التَّحْرِيم، وَهُوَ كَقَوْلِه: لَا تحل الصَّدَقَة
لَغَنِيّ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: لَا تحل لَهُ من حَيْثُ
تحل لغيره من دون الْحَاجة، وَأَرَادَ بذلك التَّغْلِيظ
فِي الْكَرَاهَة. قَالَ: وَقَوله: كالعائد فِي قيئه، وَإِن
اقْتضى التَّحْرِيم لكَون الْقَيْء حَرَامًا، لَكِن
الزِّيَادَة فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: وَهِي قَوْله:
كَالْكَلْبِ، يدل على عدم التَّحْرِيم، لِأَن الْكَلْب غير
متعبد فالقيء لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِ، وَالْمرَاد
التَّنْزِيه عَن فعل يشبه فعل الْكَلْب. وَاعْترض عَلَيْهِ
بَعضهم بقوله: مَا تَأَوَّلَه مستبعد وينافي سِيَاق
الْأَحَادِيث، وَأَن عرف الشَّرْع فِي مثل هَذِه
الْأَشْيَاء يُرِيد بِهِ الْمُبَالغَة فِي الزّجر،
كَقَوْلِه: من لعب بالنرد شير فَكَأَنَّمَا غمس يَده فِي
لحم خِنْزِير. انْتهى. قلت: لَا يستبعد إلاَّ مَا قَالَه
هَذَا الْمُعْتَرض حَيْثُ لم يبين وَجه الاستبعاد، وَلَا
بَين وَجه منافرة سِيَاق الْأَحَادِيث، وَنحن مَا ننفي
الْمُبَالغَة فِيهِ، بل نقُول: الْمُبَالغَة فِي
التَّغْلِيظ فِي الْكَرَاهَة وقبح هَذَا الْفِعْل وكل
ذَلِك لَا يَقْتَضِي منع الرُّجُوع فَافْهَم.
2262 - حدَّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ
حدَّثنا عبدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ
عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما
قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ لَنا
مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعودُ فِي هِبَتِهِ كالْكَلْبِ
يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن عبد
الله بن الْمُبَارك العيشي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف
وبالشين الْمُعْجَمَة يَعْنِي: أَبَا بكر، وَلَيْسَ هَذَا
بأخي عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي، والرواة كلهم
بصريون إلاَّ عِكْرِمَة وَابْن عَبَّاس فَإِنَّهُمَا سكنا
فِيهَا مُدَّة، وَفِي بعض النّسخ: وحَدثني عبد الرَّحْمَن
بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَاو الْعَطف. قَوْله: (لَيْسَ لنا
مثل السوء) يَعْنِي: لَا يَنْبَغِي لنا يُرِيد بِهِ نَفسه
وَالْمُؤمنِينَ أَن نتصف بِصفة ذميمة تشابهنا فِيهَا أخس
الْحَيَوَانَات فِي أخس أحوالها، وَقد يُطلق الْمثل على
الصّفة الغريبة العجيبة الشَّأْن، سَوَاء كَانَ فِي صفة
مدح أَو ذمّ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا
يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء وَللَّه الْمثل
الْأَعْلَى} (النَّحْل: 06) . قَالُوا: هَذَا الْمثل ظَاهر
فِي تَحْرِيم الرُّجُوع فِي الْهِبَة وَالصَّدَََقَة بعد
إقباضها. قُلْنَا: هَذَا الْمثل يدل على التَّنْزِيه
وَكَرَاهَة الرُّجُوع، لَا على التَّحْرِيم، ويستدل
بِحَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين أَرَادَ
شِرَاء فرس حمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله، فَسَأَلَ عَن
ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَا
تبتغه، وَإِن أعطاكه بدرهم ... الحَدِيث يَأْتِي الْآن،
فَلَمَّا لم يكن من هَذَا القَوْل مُوجبا حرمه ابتياع مَا
تصدق بِهِ، فَكَذَلِك هَذَا الحَدِيث لم يكن مُوجبا
حُرْمَة الرُّجُوع فِي الْهِبَة.
3262 - حدَّثنا يَحْيَى بٌّ خَ قَزَعَةَ قَالَ حدَّثنا
مالِكٌ عنْ زيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ
عُمَرَ ابنَ الخطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقولُ
حَمَلْتُ عَلَى فرَسٍ فِي سَبِيلِ الله فأضاعَهُ الَّذِي
كانَ عِنْدَهُ فأرَدْتُ أنْ أشْتَرِيَهُ مِنْهُ وظَنَنْتُ
أنَّهُ بائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسألْتُ عنْ ذَلِكَ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وإنْ
أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ واحِدٍ فإنَّ العَائِدَ فِي
صَدَقَتِهِ كالْكَلْبِ يَعودُ فِي قَيْئِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تتَعَيَّن أَن يُقَال فِي قَوْله:
(فَإِن الْعَائِد فِي صدقته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه) ،
وَالَّذِي يفهم من صَنِيع البُخَارِيّ أَنه
(13/175)
لَا يفرق بَين الْهِبَة وَالصَّدَََقَة،
وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْهِبَة يجوز الرُّجُوع فِيهَا
على مَا فِيهِ من الْخلاف وَالتَّفْصِيل، بِخِلَاف
الصَّدَقَة فَإِنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع فِيهَا مُطلقًا،
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب هَل
يَشْتَرِي صدقته؟ فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله
ابْن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا عَن
يحيى بن قزعة، بِفَتْح الْقَاف وَالزَّاي وَالْعين
الْمُهْملَة: الْمَكِّيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن مَالك
عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه، أسلم أبي خَالِد، مولى عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عَن زيد ن أسلم) سَيَأْتِي فِي آخر حَدِيث فِي
الْهِبَة عَن الْحميدِي: حَدثنَا سُفْيَان سَمِعت مَالِكًا
يسْأَل زيد بن أسلم، قَالَ: سَمِعت أبي ... فَذكره
مُخْتَصرا، ولمالك فِيهِ إِسْنَاد آخر سَيَأْتِي فِي
الْجِهَاد: عَن نَافِع عَن ابْن عمر ... وَله فِيهِ
إِسْنَاد قَالَت: عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ثَابت
الْأَحْنَف عَن ابْن عمر ... أخرجه أَبُو عمر. قَوْله:
(سَمِعت عمر بن الْخطاب) زَاد ابْن الْمَدِينِيّ عَن
سُفْيَان: على الْمِنْبَر، وَهِي للموطآت للدارقطني.
قَوْله: (حملت على فرس) أَي: تَصَدَّقت بِهِ ووهبته بِأَن
يقاتَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله، وَفِي رِوَايَة
القعْنبِي فِي (الْمُوَطَّأ) : على فرس عَتيق، والعتيق
الْكَرِيم الْفَائِق من كل شَيْء، وَهَذَا الْفرس هُوَ
الَّذِي أهداه تَمِيم الدَّارِيّ لرَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يُقَال لَهُ: الْورْد، فَأعْطَاهُ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَحمل عَلَيْهِ عمر فِي سَبِيل
الله فَوَجَدَهُ يُبَاع، وَهَذَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن
سهل بن سعد فِي تَسْمِيَة خيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. فَإِن قلت: كَيفَ كَيْفيَّة الْحمل عَلَيْهِ؟ قلت:
ظَاهره يَقْتَضِي حمل تمْلِيك ليجاهد بِهِ، وَلَو كَانَ
حمل تحبيس لم يجز بَيْعه. قَوْله: (فأضاعه الَّذِي كَانَ
عِنْده) أَي: لم يحسن الْقيام عَلَيْهِ، وَقصر فِي مؤونته
وخدمته. وَقيل: أَي لم يعرف مِقْدَاره فَأَرَادَ بَيْعه
بِدُونِ قِيمَته، وَقيل: اسْتَعْملهُ فِي غير مَا جعل
لَهُ. قَوْله: (لَا تشتره) ، نهي للتنزيه لَا للتَّحْرِيم،
قَالَه الْكرْمَانِي: قلت: هَكَذَا هُوَ عِنْد الْجُمْهُور
وَحمله قوم على التَّحْرِيم وَلَيْسَ بِظَاهِر، وَالله
أعلم، ثمَّ إِن هَذَا النَّهْي مَخْصُوص بالصورة
الْمَذْكُورَة وَمَا أشبههَا، لَا فِيمَا إِذا رده
إِلَيْهِ الْمِيرَاث، مثلا.
13 - (بابٌ)
إِن قدر شَيْء مَعَه يكون معرباً وإلاَّ فَلَا، لِأَن
الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بِالْعقدِ والتركيب، وَهُوَ
كالفصل، لِأَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع
الْفُصُول.
4262 - حدَّثنا حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ
أخبرنَا هِشامُ بنُ يوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ
قَالَ أَخْبرنِي عبْدُ الله بنُ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي
مُلَيْكَةَ أنَّ بَني صُهَيْبٍ مَوْلَى ابنِ جُدْعَانَ
ادَّعُوا بَيْتَيْنِ وحُجْرَةً أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أعْطَى ذَلِكَ صُهَيْباً فَقَالَ مَرْوَانُ
منْ يَشْهَدُ لَكُما علَى ذالِكَ قَالُوا ابنُ عُمَرَ
فدَعَاهُ فَشَهِدَ لأعْطَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صُهَيْبَاً بَيْتَيْنِ وحُجْرَةً فقَضَى مرْوَانُ
بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ.
قَالَ ابْن بطال: ذكر هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْهِبَة،
لِأَن فِيهِ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهب
صهيباً ذَلِك، وَقَالَ ابْن التِّين: أَتَى البُخَارِيّ
بِهَذِهِ الْقِصَّة هُنَا لِأَن العطايا نَافِذَة، وَقَالَ
بَعضهم: ومناسبته لَهَا أَن الصَّحَابَة بعد ثُبُوت
عَطِيَّة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك
لِصُهَيْب لم يستفصلوا: هَل رَجَعَ أَو لَا؟ فَدلَّ على
أَن لَا أثر للرُّجُوع فِي الْهِبَة. انْتهى. قلت: أما مَا
ذكره ابْن بطال وَابْن التِّين فَلهُ وَجه مَا، وَأما
القَوْل الثَّالِث فَلَا وَجه لَهُ أصلا، لِأَن
الْمَوْهُوب لَهُ إِذا مَاتَ لَا رُجُوع فِيهِ أصلا عِنْد
جَمِيع الْعلمَاء. وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة فَلِأَن
الرُّجُوع امْتنع بِالْمَوْتِ، وَأما عِنْد غَيرهم فَلَا
رُجُوع من الأول أصلا، لِأَن الْمَوْهُوب لَهُ إِذا مَاتَ
لَا رُجُوع فِيهِ أصلا عِنْد جَمِيع الْعلمَاء. وَأما
عِنْد الْحَنَفِيَّة فَلِأَن الرُّجُوع امْتنع
بِالْمَوْتِ، وَأما عِنْد غَيرهم فَلَا رُجُوع من الأول
أصلا إلاَّ فِي مَوضِع مَخْصُوص واستفصال الصَّحَابَة
وَعدم استفصالهم فِي الرُّجُوع وَعَدَمه بعد موت الْوَاهِب
لَا دخل لَهُ هُنَا، فَلَا فَائِدَة فِي قَوْله، فَدلَّ
على أَن لَا أثر فِي الرُّجُوع فِي الْهِبَة، لِأَن
الرُّجُوع لم يبْق أصلا، فالرجوع وَعَدَمه غير مبنيين على
الاستفصال، وَعَدَمه حَتَّى يكون عدم استفصالهم دَالا على
عدم الرُّجُوع وَعدم الرُّجُوع هُنَا مُتَحَقق بِدُونِ
ذَلِك أَقُول: لذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا وَجه حسن، وَهُوَ
أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن حكم الْهِبَة عِنْد وُقُوع
الدَّعْوَى بَين المتواهبين أَو بَين ورثتهم كَحكم سَائِر
الدَّعَاوَى فِي أَبْوَاب الْفِقْه فِيمَا يحْتَاج
إِلَيْهِ من الْحَاكِم وَإِقَامَة الشُّهُود وَالْيَمِين
وَغير ذَلِك، فَافْهَم.
(13/176)
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول:
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق
الْمروزِي، يعرف بالصغير. الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف
أَبُو عبد الرَّحْمَن الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ قاضيها.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج
الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عبد الله بن عبيد الله بن أبي
مليكَة الْمَكِّيّ قَاضِي ابْن الزبير، والْحَدِيث تفرد
بِهِ البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن بني صُهَيْب) ، بِضَم
الصَّاد: ابْن سِنَان بن خَالِد الْموصِلِي ثمَّ الرُّومِي
ثمَّ الْمَكِّيّ ثمَّ الْمدنِي، كَانَ من السَّابِقين
الْأَوَّلين والمعذبين فِي الله، أَبُو يحيى، وَقيل: أَبُو
غَسَّان، سبته الرّوم من نِينَوَى وَأمه سلمى من بني
مَازِن بن عَمْرو بن تَمِيم، كَانَ أَبوهُ أَو عَمه عَاملا
لكسرى على الأبلة، وَكَانَت مَنَازِلهمْ بِأَرْض الْموصل،
فأغارت الرّوم على تِلْكَ النَّاحِيَة فسبت صهيباً وَهُوَ
غُلَام صَغِير، فَنَشَأَ بالروم فَصَارَ ألكن، فابتاعه كلب
مِنْهُم، فقدموا بِهِ مَكَّة فَاشْتَرَاهُ عبد الله بن
جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تَمِيم بن مرّة،
فَأعْتقهُ فَأَقَامَ مَعَه بِمَكَّة إِلَى أَن هلك ابْن
جدعَان، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة فِي النّصْف من ربيع
الأول، وَأدْركَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بقباء قبل أَن يدْخل الْمَدِينَة، وَشهد بَدْرًا، وَمَات
بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ
وَهُوَ ابْن سبعين سنة، وَصلى عَلَيْهِ سعد بن أبي وَقاص،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأما بَنو صُهَيْب فهم:
حَمْزَة وَسعد وَصَالح وَصَيْفِي وَعباد وَعُثْمَان وحبِيب
وَمُحَمّد، وَكلهمْ رووا عَنهُ.
قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان) ، هُوَ ابْن الحكم بن أبي
الْعَاصِ بن أُميَّة الْأمَوِي وَكَانَ يَوْمئِذٍ أَمِير
الْمَدِينَة لمعاوية بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (بَيْتَيْنِ
وحجرة) بَيْتَيْنِ تَثْنِيَة: بَيت. قَالَ صَاحب (الْمغرب)
: الْبَيْت اسْم لمسقف وَاحِد وَأَصله من: بَيت الشّعْر
أَو الصُّوف، سمى بِهِ لِأَنَّهُ يبات فِيهِ، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: بَيت الرجل دَاره وقصره. قلت: الدَّار لَا تسمى
بَيْتا، لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَة على بيُوت، والحجرة، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم: هُوَ الْموضع
الْمُنْفَرد فِي الدَّار، وَذكر عمر بن شبة فِي (أَخْبَار
الْمَدِينَة) أَن بَيت صُهَيْب كَانَ لأم سَلمَة فَوَهَبته
لِصُهَيْب، فلعلها أَعطَتْهُ بِإِذن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَالظَّاهِر أَن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ
الدَّعْوَى غير ذَلِك. قَوْله: (من شهد لَكمَا؟) قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لفظ بني صُهَيْب جمع وَهَذَا
مثنى. قلت: أقل الْجمع اثْنَان عِنْد بَعضهم. انْتهى. قلت:
لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التعسف، بل الْجَواب أَن الَّذِي
أدعى كَانَ اثْنَيْنِ مِنْهُم فخاطبهما مَرْوَان بِصِيغَة
الْإِثْنَيْنِ لِأَن الْحَاكِم لَا يُخَاطب إِلَّا الَّذِي
بدعي وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ مَرْوَان
من يشْهد: من يشْهد لكم؟ فَهَذِهِ الرِّوَايَة لَا
إِشْكَال فِيهَا. قَوْله: (قَالُوا: ابْن عمر) أَي: يشْهد
بذلك عبد الله بن عمر. قَوْله: (فَدَعَاهُ) أَي: فَدَعَا
مَرْوَان عبد الله بن عمر فَشهد بذلك، وَقَالَ) ؛ لأعطي
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاللَّام فِيهِ
مَفْتُوحَة لِأَنَّهَا لَام الْقسم، وَالتَّقْدِير: وَالله
لأعطي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(فَقضى مَرْوَان بِشَهَادَتِهِ لَهُم) ، أَي: حكم مَرْوَان
بِشَهَادَة ابْن عمر لبني صُهَيْب بالبيتين والحجرة.
وَقَالَ ابْن بطال: كَيفَ قضى مَرْوَان بِشَهَادَة ابْن
عمر وَحده؟ ثمَّ قَالَ: فَالْجَوَاب: أَن مَرْوَان
إِنَّمَا حكم بِشَهَادَتِهِ مَعَ يَمِين الطَّالِب، على
مَا جَاءَ فِي السّنة من الْقَضَاء بِالْيَمِينِ مَعَ
الشَّاهِد، قيل: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لم يذكر فِي
الحَدِيث. قلت: لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْقَاعِدَة المستمرة
تَنْفِي الحكم بِشَاهِد وَاحِد. فَلَا بُد من شَاهِدين أَو
من شَاهد وَيَمِين عِنْد من يرَاهُ بذلك. فَإِن قلت: قد
اسْتدلَّ بَعضهم بقول بعض السّلف، كشريح القَاضِي، أَنه
قَالَ: الشَّاهِد الْوَاحِد إِذا انضمت إِلَيْهِ قرينَة
تدل على صدقه أَلا ترى أَن أَبَا دَاوُد ترْجم فِي (سنَنه)
بَاب إِذا علم الْحَاكِم صدق الشَّاهِد الْوَاحِد يجوز
لَهُ أَن يحكم! وسَاق قصَّة خُزَيْمَة بن ثَابت، وَسبب
تَسْمِيَته: ذَا الشَّهَادَتَيْنِ؟ قلت: الْجُمْهُور على
أَن ذَلِك لَا يَصح، وَأَن قصَّة خُزَيْمَة مَخْصُوصَة
بِهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: قَضَاء مَرْوَان بِشَهَادَة
ابْن عمر يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يجوز لَهُ أَن
يُعْطي من مَال الله من يسْتَحق الْعَطاء، فَينفذ مَا قيل
لَهُ: إِن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أعطَاهُ، فَإِن لم يكن كَذَلِك كَانَ قد أَمْضَاهُ، وَإِن
كَانَ غير ذَلِك كَانَ هُوَ الْمُعْطِي عَطاء صَحِيحا.
وَقد يكون هَذَا خَاصّا فِي الْفَيْء، لِأَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْطى أَبَا قَتَادَة بِدَعْوَاهُ
وَشَهَادَة من كَانَ السَّلب عِنْده. الْوَجْه الثَّانِي:
أَنه رُبمَا حكم الإِمَام بِشَهَادَة المبرز فِي
الْعَدَالَة وجده، وَقد قَالَ بعض فُقَهَاء الْكُوفَة: حكم
شُرَيْح بشهادتي وحدي فِي شَيْء. قَالَ: وَأَخْطَأ
شُرَيْح، قَالَ: وَالْوَجْه الأول الصَّحِيح.
23 - (بابُ مَا قِيلَ فِي العُمْراى والرُّقْباى)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة قبل
لفظ: بَاب. قَوْله: (بَاب مَا قيل) أَي: هَذَا بَاب فِي
بَيَان مَا قيل فِي أَحْكَام
(13/177)
الْعمريّ والرقبى، الْعُمْرَى، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم مَقْصُورا، وَحكي
بِضَم الْعين وَالْمِيم جَمِيعًا، وبفتح الْعين وَسُكُون
الْمِيم. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعُمْرَى، مصدر كالرجعى،
وأصل الْعُمْرَى مَأْخُوذ من الْعُمر، والرقبى بِوَزْن
الْعُمْرَى كِلَاهُمَا على وزن فعلى، وأصل الرقبى من
المراقبة. فَإِن قلت: ذكر فِي التَّرْجَمَة الْعُمْرَى
والرقبى، وَلم يذكر فِي الْبَاب إلاَّ حديثين فِي
الْعُمْرَى، وَلم يذكر شَيْئا فِي الرقبى؟ قلت: قيل:
إنَّهُمَا متحدان فِي الْمَعْنى، فَلذَلِك اقْتصر على
الْعُمْرَى، على أَن النَّسَائِيّ روى بِإِسْنَاد صَحِيح
عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا: الْعُمْرَى والرقبى سَوَاء؟
قلت: هَذَا الْجَواب غير مقنع، لأَنا لَا نسلم الِاتِّحَاد
بَينهمَا فِي الْمَعْنى فالعمرى من الْعُمر والرقبى من
المراقبة. وَبَينهمَا فرق فِي التَّعْرِيف، على مَا يَجِيء
بَيَانه، وَمعنى قَول ابْن عَبَّاس: هما سَوَاء يَعْنِي:
فِي الحكم، وَهُوَ الْجَوَاز، لَا أَنَّهُمَا سَوَاء فِي
الْمَعْنى.
أعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهْيَ عُمْراى جَعَلْتُها لَهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير الْعُمْرَى، وَهُوَ أَن
يَقُول الرجل لغيره: أعمرته دَاري، أَي: جَعلتهَا لَهُ
مُدَّة عمري. وَقَالَ أَبُو عبيد: الْعُمْرَى أَن يَقُول
الرجل للرجل: دَاري لَك عمرك، أَو يَقُول: دَاري هَذِه لَك
عمري، فَإِذا قَالَ ذَلِك وَسلمهَا إِلَيْهِ كَانَت للمعمر
وَلم ترجع إِلَيْهِ إِن مَاتَ، وَكَذَا إِذا قَالَ: أعمرتك
هَذِه الدَّار، أَو: جَعلتهَا لَك حياتك، أَو: مَا بقيت،
أَو: مَا عِشْت، أَو: مَا حييت، وَمَا يُفِيد هَذَا
الْمَعْنى.
وَقَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: الْعُمْرَى على ثَلَاثَة
أَقسَام:
أَحدهَا: أَن يَقُول: أعمرتك هَذِه الدَّار، فَإِذا مت
فَهِيَ لعقبك أَو وَرثتك، فَهَذِهِ صَحِيحَة عِنْد عَامَّة
الْعلمَاء. وَذكر النَّوَوِيّ أَنه لَا خلاف فِي
صِحَّتهَا، وَإِنَّمَا الْخلاف: هَل يملك الرَّقَبَة أَو
الْمَنْفَعَة فَقَط؟ وسنذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الْقسم الثَّانِي: أَن لَا يذكر ورثته وَلَا عقبه، بل
يَقُول: أعمرتك هَذِه الدَّار، أَو: جَعلتهَا لَك، أَو
نَحْو هَذَا، وَيُطلق ... فَفِيهَا أَرْبَعَة أَقْوَال.
أَصَحهَا: الصِّحَّة كالمسألة الأولى، وَيكون لَهُ ولورثته
من بعده، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَبِه
قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو
عبيد وَآخَرُونَ. القَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تصح
لِأَنَّهُ تمْلِيك مُؤَقّت، فَأشبه مَا لَو وهبه أَو بَاعه
إِلَى وَقت معِين، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم.
الثَّالِث: أَنَّهَا تصح وَيكون للمعمَر فِي حَيَاته
فَقَط، فَإِذا مَاتَ رجعت إِلَى المعمِرِ أَو إِلَى ورثته
إِن كَانَ قد مَاتَ، وَحكى هَذَا أَيْضا عَن الْقَدِيم.
الرَّابِع: أَنَّهَا عَارِية يستردها المعمِر مَتى شَاءَ،
فَإِذا مَاتَ عَادَتْ إِلَى ورثته.
الْقسم الثَّالِث: أَن لَا يذكر الْعقب وَلَا الْوَرَثَة،
وَلَا يقْتَصر على الْإِطْلَاق، بل يَقُول: فَإِذا مت رجعت
إِلَيّ، أَو: إِلَى ورثتي إِن كنت مت. فَإِن قُلْنَا:
بِالْبُطْلَانِ فِي حَالَة الْإِطْلَاق فههنا أولى،
وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاق بِالصِّحَّةِ، وعودها بعد موت
المعمَر إِلَى المعمِّر، وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا تصح فِي
حَالَة الْإِطْلَاق، ويتأبد الْملك فَفِيهِ وَجْهَان
لأَصْحَاب الشَّافِعِي أَحدهمَا: عدم الصِّحَّة. قَالَ
الرَّافِعِيّ: وَهُوَ أسبق إِلَى الْفَهم، وَرجحه القَاضِي
ابْن كج، وَصَاحب التمة، وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ.
وَالثَّانِي: يَصح، وَيَلْغُو الشَّرْط، وَعَزاهُ
الرَّافِعِيّ للأكثرين.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا ينْتَقل إِلَى المعمَر: هَل
ينْتَقل إِلَيْهِ ملك الرَّقَبَة حَتَّى يجوز لَهُ البيع
وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَغير ذَلِك من التَّصَرُّفَات،
أَو إِنَّمَا تنْتَقل إِلَيْهِ الْمَنْفَعَة فَقَط.
كالوقف؟ فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن ذَلِك تمْلِيك
للرقبة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد،
وَذهب مَالك إِلَى أَنه إِنَّمَا يملك الْمَنْفَعَة فَقَط،
فعلى هَذَا فَإِنَّهَا ترجع إِلَى المعمر إِذا مَاتَ
المعمَر عَن غير وَارِث، أَو انقرضت ورثته، وَلَا يرجع
إِلَى بَيت المَال.
ثمَّ هَهُنَا مسَائِل مُتَعَلقَة بِهَذَا الْبَاب.
الأولى: الْعُمْرَى الْمَذْكُورَة فِي أَحَادِيث هَذَا
الْبَاب وَفِي غَيره، هَل هِيَ عَامَّة فِي كل مَا يَصح
تَمْلِيكه من الْعقار وَالْحَيَوَان والأثاث وَغَيرهَا،
أَو يخْتَص ذَلِك بالعقار؟ الْجَواب: أَن أَكثر وُرُود
الْأَحَادِيث فِي الدّور والأراضي، فإمَّا أَن يكون خرج
مخرج الْغَالِب فَلَا يكون لَهُ مَفْهُوم، ويعم الحكم كل
مَا يَصح تَمْلِيكه. أَو يُقَال: هَذَا الحكم ورد على خلاف
الأَصْل، فَيقْتَصر على مورد النَّص، فَلَا يتَعَدَّى بِهِ
إِلَى غَيره، قَالَ شَيخنَا: لم أرَ من تعرض لذَلِك، إلاَّ
أَن الرَّافِعِيّ مثل فِي أَمْثِلَة الْعمريّ بِغَيْر
الْعقار، فَقَالَ: وَلَو قَالَ: دَاري لَك عمرك فَإِذا مت
فَهِيَ لزيد، أَو: عَبدِي لَك عمرك فَإِذا مت فَهُوَ حر،
تصح الْعُمْرَى على قَوْلنَا الْجَدِيد، ولغى الْمَذْكُور
بعْدهَا، فَعلم من هَذَا جَرَيَان الحكم فِي العبيد
وَغَيرهم.
الثَّانِيَة: هَل يَسْتَوِي فِي الْعُمْرَى تَقْيِيد ذَلِك
بعمر الْوَاهِب كَمَا لَو قَيده بعمر الْمَوْهُوب؟ فَعَن
أبي عبيد التَّسْوِيَة بَينهمَا، لِأَنَّهُ فسر الْعمريّ
بِأَن يَقُول للرجل: هَذِه الدَّار لَك عمرك أَو عمري،
وَلَكِن عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي عدم الصِّحَّة فِي
هَذِه الصُّورَة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَلَو قَالَ: جعلت
لَك هَذِه الدَّار عمري أَو حَياتِي
الثَّالِثَة: إِذا قيد الْوَاهِب الْعُمْرَى بعمر أجبني،
بِأَن قَالَ: جعلت هَذِه الدَّار لَك عمر زيد، فَهَل يَصح؟
قَالَ الرَّافِعِيّ: أجْرى فِيهِ الْخلاف فِيمَا إِذا
قَالَ: عمري أَو حَياتِي
(13/178)
فعلى هَذَا فَالْأَصَحّ عدم الصِّحَّة
لِخُرُوجِهِ عَن اللَّفْظ الْوَارِد فِيهِ.
الرَّابِعَة: إِذا لم يشْتَرط الْوَاهِب الرُّجُوع بعد موت
المعمر لنَفسِهِ بل شَرطه لغيره، فَقَالَ: فَإِذا مت
فَهِيَ لزيد، قَالَ الرَّافِعِيّ: يَصح وَيَلْغُو
الشَّرْط، وَكَذَا لَو قَالَ: أعمرتك عَبدِي فَإِذا مت
فَهُوَ حر يَصح، وَيَلْغُو الشَّرْط على الْجَدِيد.
الْخَامِسَة: إِذا لم يذكر الْعُمر فِي العقد بل أوردهُ
بِصِيغَة الْهِبَة، كَمَا إِذا قَالَ: وَهبتك هَذِه
الدَّار، فَإِذا مت رجعت إليَّ فَهَذَا لَا يَصح، قَالَ
الرَّافِعِيّ: ظَاهر الْمَذْهَب فَسَاد الْهِبَة
وَالْوَقْف بِالشُّرُوطِ الَّتِي يفْسد بهَا البيع،
بِخِلَاف الْعُمْرَى لما فِيهَا من الْإِخْبَار.
السَّادِسَة: إِذا أَتَى بِمَا يَقْتَضِي الْعُمْرَى،
وَلَكِن بِصِيغَة البيع، فَقَالَ: مَلكتك هَذِه الدَّار
بِعشْرَة عمرك، فَنقل الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج أَنه
قَالَ: لَا ينْعَقد عِنْدِي جَوَازه تَفْرِيعا على
الْجَدِيد. وَقَالَ أَبُو عَليّ الطَّبَرِيّ: لَا يجوز،
قَالَ شَيخنَا: مَا قَالَه أَبُو عَليّ هُوَ الصَّحِيح
نقلا وتوجيهاً، فقد جزم بِهِ ابْن شُرَيْح وَأَبُو
إِسْحَاق الْمروزِي وَالْمَاوَرْدِيّ، وَمَا نَقله عَن
ابْن كج احْتِمَال، وَقَالَ بِهِ ابْن خيران فِيمَا
حَكَاهُ صَاحب التَّحْرِير.
السَّابِعَة: هَل تجوز الْوَصِيَّة بالعمرى بِأَن يَقُول:
إِذا مت فَهَذِهِ الدَّار لزيد عمره، كَمَا يجوز تنجيزها؟
فَقَالَ بِهِ الرَّافِعِيّ، وَلكنهَا تعْتَبر من الثُّلُث.
الثَّامِنَة: لَا يجوز تَعْلِيق الْعُمْرَى بِغَيْر موت
المعمِر، كَقَوْلِه إِذا مَاتَ فلَان فقد أعمرتك هَذِه
الدَّار.
وَأما الرقبى فَهُوَ أَن يَقُول الرجل للرجل: أرقبتك دَاري
إِن متُ قبلك فَهِيَ لَك وَإِن مت قبلي فَهِيَ لي، وَهُوَ
مُشْتَقّ من الرقوب، فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا يترقب
موت صَاحبه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: ذهب بعض أهل الْعلم من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم أَن
الرقبي جَائِزَة مثل الْعمريّ. وَهُوَ قَول أَحْمد وأسحاق
وَفرق بعض أهل الْعلم من أهل الْكُوفَة من أهل الْكُوفَة
وَغَيرهم بَين الْعُمْرَى والرقبى، فأجازوا الْعُمْرَى
وَلم يجيزوا الرقبى، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) :
الْعُمْرَى جَائِزَة للمعمِر لَهُ فِي حَال حَيَاته
ولورثته من بعده. قلت: وَهَذَا قَول جَابر بن عبد الله،
وَعبد الله ابْن عَبَّاس، وَعبد الله بن عمر وَعلي بن أبي
طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَرُوِيَ عَن شُرَيْح
وَمُجاهد وطاووس وَالثَّوْري، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة)
أَيْضا: والرقبى بَاطِلَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَمَالك، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: جَائِزَة، بِهِ قَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد.
اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا جعَلَكُمْ عُمَّاراً
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن من الْعُمْرَى أَن يكون استعمر
بِمَعْنى أعمر، كاستهلك بِمَعْنى أهلك، أَي: أعمركم فِيهَا
دِيَاركُمْ ثمَّ هُوَ يَرِثهَا مِنْكُم بعد انْقِضَاء
أعماركم، وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: أَي: أذن لكم فِي
عمارتها واستخراج قوتكم مِنْهَا. وَقيل: استعمركم من
الْعُمر نَحْو: استبقاكم من الْبَقَاء، وَقيل: استعمركم
أَي: عمركم بالعمارة. قَوْله: (عمَّاراً) بِضَم الْعين
وَتَشْديد الْمِيم.
5262 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ
يَحْيى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ جابرٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ قضاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالعُمْرى أنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله مَا قيل فِي الْعُمْرَى،
وَهَذَا الَّذِي رَوَاهُ جَابر هُوَ الَّذِي قيل فِيهَا،
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان
بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن أبي
كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه بَقِيَّة السِّتَّة: مُسلم فِي
الْفَرَائِض عَن القواريري عَن جمَاعَة غَيره، وَأَبُو
دَاوُد فِي الْبيُوع عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَغَيره.
وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق بن مُوسَى
الْأنْصَارِيّ، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعُمْرَى عَن عبد
الْأَعْلَى وَغَيره، وَابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن
مُحَمَّد بن رمح بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد.
قَوْله: (قضى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي:
حكم (بالعمرى) أَي بِصِحَّتِهَا. قَوْله: (أَنَّهَا) ،
أَي: بِأَنَّهَا، أَي: بِأَن الْهِبَة (لمن وهبت لَهُ) ،
ووهبت على صِيغَة الْمَجْهُول.
وروى مُسلم حَدِيث جَابر بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وأسانيد
متباينة، أخرج عَن أبي سَلمَة وَلَفظه: الْعُمْرَى لمن
وهبت لَهُ. وَعَن
(13/179)
أبي سَلمَة أَيْضا عَنهُ أَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أَيّمَا رجل أعمر عمرى
لَهُ ولعقبه فَأَنَّهَا للَّذي أعطيها لَا ترجع إِلَى
الَّذِي أَعْطَاهَا) ، لِأَنَّهُ أعْطى عَطاء وَقعت فِيهِ
الْمَوَارِيث. وَعَن أبي سَلمَة عَنهُ أَيْضا. وَلَفظه،
قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا رجل أعمر رجلا
عمرى لَهُ ولعقبه، فَقَالَ: قد أعطيتكها وَعَقِبك مَا
بَقِي مِنْكُم أحد فَإِنَّهَا لمن أعطيها، وَإِنَّهَا لَا
ترجع إِلَى صَاحبهَا من أجل أَنه أَعْطَاهَا عَطاء وَقعت
فِيهِ الْمَوَارِيث) . وَعَن أبي سَلمَة أَيْضا عَن جَابر
قَالَ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أجَاز رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تَقول: هِيَ لَك ولعقبك،
فَأَما إِذا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت فَإِنَّهَا ترجع
إِلَى صَاحبهَا. قَالَ معمر: وَكَانَ الزُّهْرِيّ يُفْتِي
بِهِ. وَعَن أبي سَلمَة أَيْضا عَنهُ: أَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قضى فِيمَن أعمر عمرى لَهُ
ولعقبه فَهِيَ لَهُ بتلة لَا يجوز للمعطي فِيهَا شَرط
وَلَا ثنيا، قَالَ أَبُو سَلمَة لِأَنَّهُ أعْطى عَطاء
وَقعت فِيهِ الْمَوَارِيث. فَقطعت الْمَوَارِيث شَرطه.
وَأخرج مُسلم أَيْضا من رِوَايَة أبي الزبير عَن جَابر
يرفعهُ إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
(أَمْسكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالكُم وَلَا تفسدوها،
فَإِنَّهُ من أعمر عمرى فَهِيَ للَّذي أعمرها حَيا أَو
مَيتا ولعقبه) . وَعَن أبي الزبير أَيْضا عَنهُ، قَالَ:
أعمرت امْرَأَة بِالْمَدِينَةِ حَائِطا لَهَا ابْنا لَهَا،
ثمَّ توفّي وَتوفيت بعده، وَترك ولدا بعده، وَله إخْوَة
بنُون للمعمرة، فَقَالَ ولد المعمرة: رَجَعَ الْحَائِط
إِلَيْنَا، فَقَالَ بَنو المعمّر: بل كَانَ لأبينا حَيَاته
وَمَوته، فاختصموا إِلَى طَارق مولى عُثْمَان فَدَعَا
جَابِرا فَشهد على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالعمرى لصَاحِبهَا فَقضى بذلك طَارق، ثمَّ كتب إِلَى عبد
الْملك فَأخْبرهُ بذلك، وَأخْبرهُ بِشَهَادَة جَابر،
فَقَالَ عبد الْملك: صدق جَابر، فَأمْضى ذَلِك طَارق بِأَن
ذَلِك الْحَائِط لبني المعمَر حَتَّى الْيَوْم. وَأخرج
مُسلم أَيْضا من حَدِيث عَطاء عَن جَابر عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْعُمْرَى جَائِزَة) .
وَأخرج أَيْضا عَن عَطاء عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (المرى مِيرَاث لأَهْلهَا)
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مفصلا فِي أول الْبَاب، وبهذه
الْأَحَادِيث احْتج أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري
وَالشَّافِعِيّ وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو عبيد، على: أَن
الْعُمْرَى لَهُ يملكهَا ملكا تَاما يتَصَرَّف فِيهَا تصرف
الْملاك، واشترطوا فِيهَا الْقَبْض على أصولهم فِي الهبات.
وَذهب الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَيزِيد بن قسيط وَيحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك إِلَى أَن
الْعمريّ جَائِزَة وَلكنهَا ترجع إِلَى الَّذِي أعمرها،
واحتجواغ فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(الْمُسلمُونَ عِنْد شروطهم) . أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأَبُو
دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأجَاب عَنهُ
الطَّحَاوِيّ بِأَن هَذَا على الشُّرُوط الَّتِي قد
أَبَاحَ الْكتاب اشْتِرَاطهَا، وَجَاءَت بهَا السّنة،
وَأجْمع عَلَيْهَا الْمُسلمُونَ، وَمَا نهى عَنهُ الْكتاب
ونهت عَنهُ السّنة فَهُوَ غير دَاخل فِي ذَلِك. ألاَ تَرى
أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي
حَدِيث بَرِيرَة: (كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى
فَهُوَ بَاطِل، وَإِن كَانَ مائَة شَرط) ؟ .
6262 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ
قَالَ حدَّثنا قَتادَةُ قَالَ حدَّثني النَّضْرُ بنُ أنس
عنْ بَشيرِ بنِ نَهيكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
العُمْراى جائِزَةٌ.
هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة مثل حَدِيث جَابر، لَكِن
حَدِيث جَابر روى عَن فعله، وَهَذَا عَن قَوْله، وَهَمَّام
هُوَ ابْن يحيى الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ، وَالنضْر،
بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن أنس
بن مَالك البُخَارِيّ الْأنْصَارِيّ، وَبشير، بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن نهيك،
بِفَتْح النُّون وَكسر الْهَاء: السلوسي، وَيُقَال:
السدُوسِي، يعد فِي الْبَصرِيين. وَفِيه: ثَلَاثَة من
التَّابِعين على نسق وَاحِد وهم قَتَادَة وَالنضْر وَبشير.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار وَعَن يحيى ابْن حبيب. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن أبي الْوَلِيد، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْعُمْرَى عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
قَوْله: (الْعُمْرَى جَائِزَة) ، قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَي
جَائِزَة للمعمَر لَا حق فِيهَا للمعمِر بعد ذَلِك أبدا.
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْحسن عَن
سَمُرَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
(الْعُمْرَى جَائِزَة لأَهْلهَا، أَو مِيرَاث لأَهْلهَا) ،
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث هِشَام بن
عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عبد الله بن الزبير، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْعُمْرَى
جَائِزَة لمن أعمرها، والرقبى لمن راقبها، سَبِيلهَا
سَبِيل الْمِيرَاث) .
فَإِن قلت: روى النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (لَا عمرى، فَمن أعمر شَيْئا فَهُوَ لَهُ) .
وَهَذَا يُعَارض هَذَا الحَدِيث؟ قلت: لَا مُعَارضَة،
لِأَن معنى الحَدِيث قَوْله: لَا عمرى بِالشُّرُوطِ
الْفَاسِدَة على مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي
الْجَاهِلِيَّة من الرُّجُوع، أَي: فَلَيْسَ لَهُم
الْعُمْرَى الْمَعْرُوفَة عِنْدهم الْمُقْتَضِيَة
للرُّجُوع. فَإِن قلت: فِي حَدِيث ابْن عمر عِنْد
النَّسَائِيّ: (لَا عمرى وَلَا رقبى) ، وَعند أبي دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ فِي حَدِيث جَابر: (لَا ترقبوا وَلَا
تعمروا) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَمْسكُوا عَلَيْكُم
أَمْوَالكُم لَا تفسدوها ... الحَدِيث، وَقد مضى عَن قريب؟
قلت: أَحَادِيث النَّهْي مَحْمُولَة على الْإِرْشَاد،
يَعْنِي: إِن كَانَ لكم غَرَض فِي عود أَمْوَالكُم
إِلَيْكُم فَلَا تعمروها فَإِنَّكُم إِذا أعمرتموها لم
ترجع إِلَيْكُم، فَلذَلِك قَالَ: لَا تفسدوها، أَي: لَا
تفسدوا ماليتكم فَإِنَّهَا لن تعود إِلَيْكُم، وَفِي بعض
طرق حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم: جعلت الْأَنْصَار يعمرون
الْمُهَاجِرين، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (أَمْسكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالكُم) . انْتهى.
وَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(13/180)
علم حَاجَة الْمَالِك إِلَى ملكه، وَأَنه
لَا يصبر، فنهاهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التَّبَرُّع
بِأَمْوَالِهِمْ وَأمرهمْ بإمساكهم. فَافْهَم.
وَقَالَ عَطاءٌ حدَّثني جابرٌ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (نَحوه) ، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: مثله، وَهَذَا صورته صُورَة تَعْلِيق
وَلكنه لَيْسَ بمعلق، لِأَنَّهُ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور عَن قَتَادَة، وَقَائِل قَوْله. وَقَالَ
عَطاء: هُوَ قَتَادَة يَعْنِي، قَالَ: قَتَادَة قَالَ
عَطاء: حَدثنِي جَابر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نَحوه، أَي: نَحْو حَدِيث أبي هُرَيْرَة، يَعْنِي:
الْعُمْرَى جَائِزَة، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح)
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم عَن أبي إِسْحَاق بن حَمْزَة حَدثنَا
أَبُو خَليفَة حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا همام عَن
قَتَادَة عَن عَطاء عَن جَابر مثله، لَا نَحوه بِلَفْظ:
الْعُمْرَى جَائِزَة، وَرَوَاهُ مُسلم عَن خَالِد بن
الْحَارِث عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عَطاء بِلَفْظ:
الْعُمْرَى مِيرَاث لأَهْلهَا، وَكَأَنَّهُ الَّذِي
أَرَادَ البُخَارِيّ بقوله: نَحوه، لِأَن: نَحوه، لَيْسَ:
مثله. وَكَأَنَّهُ لم ير الْمثل، فَلهَذَا لم يذكرهُ. قلت:
قد ذكرنه أَنه فِي رِوَايَة أبي ذَر: مثله، وَفِي رِوَايَة
غَيره: نَحوه، فَهَذَا يشْعر بِعَدَمِ الْفرق بَينهمَا.
33 - (بابُ منِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الفَرَسَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من اسْتعَار الْفرس، وَهَذَا
شُرُوع فِي بَيَان أَحْكَام الْعَارِية، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر: الْفرس وَالدَّابَّة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
وَغَيرهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه، مثله لَكِن قَالَ:
وَغَيرهمَا، بالتثنية. وَفِي كتاب صَاحب (التَّوْضِيح)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، كتاب الْعَارِية، وغالب
النّسخ هَذَا لَيْسَ بموجود فِيهِ، وَهَذِه النُّسْخَة
أولى لِأَن الْعَادة أَن تنوج الْأَبْوَاب بِالْكتاب،
وَالْعَارِية، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها، وَتجمع على
عواري، وفيهَا لُغَة ثَالِثَة: عارة، حَكَاهَا
الْجَوْهَرِي وَابْن سَيّده، وحكاها الْمُنْذِرِيّ
فَقَالَ: عاراة، بِالْألف. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: عارة،
بتَخْفِيف الرَّاء بِغَيْر يَاء، مَأْخُوذَة من عَار إِذا
ذهب وَجَاء، وَمِنْه سمى: العيَّار، لِكَثْرَة مَجِيئه
وذهابه. وَقَالَ البطليموسي: هِيَ مُشْتَقَّة من التعاور،
وَهُوَ: التناوب، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: كَأَنَّهَا منسوبة
إِلَى الْعَار، لِأَن طلبَهَا عَار وعيب، ورد عَلَيْهِ
بوقوعها من الشَّارِع وَلَا عَار فِي فعله، وَفِي
الشَّرْع: الْعَارِية تمْلِيك الْمَنْفَعَة بِلَا عوض،
وَهُوَ اخْتِيَار أبي بكر الرَّازِيّ. وَقَالَ الْكَرْخِي
وَالشَّافِعِيّ: وَهِي إِبَاحَة الْمَنَافِع حَتَّى يملك
الْمُسْتَعِير إِجَارَة مَا استعاره، وَلَو ملك
الْمَنَافِع لملك إِجَارَتهَا، وَالْأول أصح، لِأَن
الْمُسْتَعِير لَهُ أَن يعير، وَلَو كَانَت إِبَاحَة لما
ملك ذَلِك، وَإِنَّمَا لم يجز الْإِجَارَة لِأَنَّهَا أقوى
وألزم من الْإِعَارَة، وَالشَّيْء لَا يستتبع مثله،
فبالأحرى أَن لَا يستتبع الْأَقْوَى.
7262 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَن
قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أنسا يقولُ كانَ بالمَدِينَةِ
فَزَعٌ فاسْتَعَارَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فرَساً منْ أبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لهُ المَنْدُوبُ
فَرَكِبَ فلَمَّا رجَعَ قَالَ مَا رأيْنا مِنْ شَيْءٍ وإنْ
وجدْنَاهُ لَبَحْراً..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وآدَم هُوَ ابْن أبي
إِيَاس، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْجِهَاد عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن أَحْمد بن مُحَمَّد،
وَفِي الْجِهَاد وَفِي الْأَدَب عَن مُسَدّد عَن يحيى.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن يحيى بن حبيب عَن
أبي بكر عَن وَكِيع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب
عَن عَمْرو بن مَرْزُوق. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْجِهَاد عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن بنْدَار وَابْن
أبي عدي وَأبي دَاوُد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير
عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (فزع) ، أَي: خوف من عَدو. قَوْله: (من أبي
طَلْحَة) ، هُوَ زيد بن سهل زوج أم أنس. قَوْله:
(الْمَنْدُوب) ، مرادف: الْمسنون، وَهُوَ اسْم فرس أبي
طَلْحَة. قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ من النّدب، وَهُوَ
الرهب الَّذِي يَجْعَل فِي السباق، وَقيل: سمي بِهِ لندب
كَانَ فِي جِسْمه. وَهُوَ أثر الْجرْح. قَوْله: (من شَيْء)
، أَي: من الْعَدو وَسَائِر مُوجبَات الْفَزع. قَوْله:
(وَإِن وَجَدْنَاهُ لبحراً) ، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: إِن وجدنَا، بِحَذْف الضَّمِير، قَالَ
الْخطابِيّ: إِن، هِيَ النافية، وَاللَّام فِي: لبحراً،
بِمَعْنى: إلاَّ، أَي: مَا وَجَدْنَاهُ إلاَّ بحراً.
وَالْعرب تَقول: إِن زيدا لعاقل، أَي: مَا زيد إلاَّ
عَاقل، وعَلى هَذَا قِرَاءَة من قَرَأَ: {إِن هَذَانِ
لساحران} (طه: 36) . بتَخْفِيف، وَالْمعْنَى: إِن مَا
هَذَانِ إلاَّ ساحران. وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا
مَذْهَب الْكُوفِيّين، وَمذهب الْبَصرِيين، أَن: إِن، هِيَ
مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَاللَّام زَائِدَة، وَالْبَحْر
هُوَ
(13/181)
الْفرس الْوَاسِع الجرى وَزعم نفطويه: أَن
الْبَحْر من أَسمَاء الْخَيل وَهُوَ الْكثير الجري الَّذِي
لَا يفنى جريه، كَمَا لَا يفنى مَاء الْبَحْر،
وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة، فَكَانَ
بعد ذَلِك لَا يجاري. وَقَالَ عِيَاض: إِن فِي خيل سيدنَا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فرسا يُسمى: البخر،
اشْتَرَاهُ من تجار قدمُوا من الْيمن فَسبق عَلَيْهِ
مَرَّات، ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: يحْتَمل أَنه تصير
إِلَيْهِ بعد أبي طَلْحَة. قيل: هَذَا نقض للْأولِ، لَكِن
لَو قَالَ: إنَّهُمَا فرسَان اتفقَا فِي الِاسْم لَكَانَ
أقرب. قلت: كَانَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فرسا مِنْهَا سَبْعَة مُتَّفق
عَلَيْهَا وَهِي: السكب: اشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني
فَزَارَة، وَهُوَ أول فرس ملكه وَأول فرس غزا عَلَيْهِ
وَكَانَ كميتا. والمرتجز: اشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني
مرّة وَكَانَ أَبيض. ولزاز: أهداه لَهُ الْمُقَوْقس،
واللحيف: أهداه لَهُ ربيعَة بن أبي الْبَراء. والظرب:
أهداه لَهُ فَرْوَة بن عَمْرو عَامل البلقاء لقيصر الرّوم.
والورد: أهداه لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ، فَأعْطَاهُ عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَحمل عَلَيْهِ فِي
سَبِيل الله، ثمَّ وجده يُبَاع برخص، فَقَالَ لَهُ، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تشتره) ، وسبحه: والبقية
مُخْتَلف فِيهَا، وَذكر فِيهَا: البخر وَالْمَنْدُوب. أما
الْبَحْر: فقد ذكر عِيَاض أَنه اشْتَرَاهُ من تجار قدمُوا
من الْيمن. وَأما الْمَنْدُوب: فَهُوَ الَّذِي رَكبه أَبُو
طَلْحَة، من: نَدبه فَانْتدبَ أَي: دَعَاهُ فَأجَاب:
فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن وَجَدْنَاهُ
لبحراً) مَعْنَاهُ: وجدنَا الْفرس الَّذِي يُسمى
مَنْدُوبًا بحراً. فَقَوله: (بحراً) ، صفته وَلَيْسَ
المُرَاد مِنْهُ ذَاك الْفرس الَّذِي اشْتَرَاهُ من
التُّجَّار الْمُسَمّى بالبحر. وَأما ذكر الْمَنْدُوب فِي
خيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالظَّاهِر أَن
أَبَا طَلْحَة وهبه لَهُ، فَمن حسن جريه شبهه النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ببحر، فَدلَّ ذَلِك على أَن الْبَحْر
اسْم للْفرس الَّذِي اشْتَرَاهُ من التُّجَّار، وَالْبَحْر
الآخر صفة للمندوب، وَهَذَا تَحْرِير الْكَلَام، وَقد جمع
بَعضهم أَفْرَاس النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
بَيت وَهِي الأفراس الْمُتَّفق عَلَيْهَا، فَقَالَ:
(وَالْخَيْل: سكب لحيف سبْحَة ظرب ... لزاز مرتجز ورد
لَهَا أسرار)
وَآخر جمع أسيافه:
(إِن شِئْت أَسمَاء سياف النَّبِي فقد ... جَاءَت بأسمائها
السَّبع أَخْبَار)
(قل: محذم ثمَّ حتف ذُو الفقار وَقل ... غضب رسوب وقلعي
وبتار)
قلت: سيوفه عشرَة، هَذِه سَبْعَة وَالثَّلَاثَة
الْأُخْرَى: رسوب ومأثور وَرثهُ من أَبِيه، قدم بِهِ
الْمَدِينَة وَهُوَ أول سيف ملكه. وصمصامة، سيف عَمْرو
معدي كرب، وهبه لخَالِد بن سعيد، وَيُقَال: وَله سيف آخر
يدعى الْقَضِيب، وَهُوَ أول سيف تقلد بِهِ، قَالَه
النَّيْسَابُورِي فِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) [/ ح.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي عَارِية
الْحَيَوَان وَالْعَقار مِمَّا لَا يُغَاب عَنهُ، فروى
ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَن من اسْتعَار حَيَوَانا
وَغَيره مِمَّا لَا يُغَاب عَنهُ فَتلف عِنْده فَهُوَ
مُصدق فِي تلفه، وَلَا يضمنهُ إلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ
قَول الْكُوفِيّين، وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ عَطاء:
الْعَارِية مَضْمُونَة على كل حَال، كَانَت مِمَّا لَا
يُغَاب عَنهُ، أم لَا تعدى فِيهَا أَولا، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: إلاَّ إِذا
تلف من الْوَجْه الْمَأْذُون فِيهِ فَلَا ضَمَان عندنَا.
وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: الْعَارِية أَمَانَة
إِن هَلَكت من غير تعد لم تضمن، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن
مَسْعُود وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري
وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَشُرَيْح وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن
شبْرمَة وَإِبْرَاهِيم، وَقضى شُرَيْح بذلك ثَمَانِينَ سنة
بِالْكُوفَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِي: تضمن، وَبِه قَالَ
أَحْمد، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة
وَعَطَاء وَإِسْحَاق. وَقَالَ قَتَادَة وَعبد الله بن
الْحُسَيْن الْعَنْبَري: إِن شَرط ضَمَانهَا ضمن وَإِلَّا
فَلَا، وَقَالَ ربيعَة: كل العواري مَضْمُونَة. وَفِي
(الرَّوْضَة) : إِذا تلفت الْعين فِي يَد الْمُسْتَعِير
ضمنهَا، سَوَاء تلفت بِآفَة سَمَاوِيَّة أم بفعلة بتقصير
أم بِلَا تَقْصِير، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحكى قَول
آخر أَنَّهَا لَا تضمن إلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ قَول
ضَعِيف، وَلَو أعَار بِشَرْط أَن يكون أَمَانَة لغى
الشَّرْط وَكَانَت مَضْمُونَة، وَفِي حاوي الْحَنَابِلَة:
إِن شَرط نفي ضَمَانهَا سقط الضَّمَان، وَإِن تلف جزؤها
بِاسْتِعْمَالِهِ كحمل منشفة لم يضمن فِي أصح
الْوَجْهَيْنِ. انْتهى. قلت: وَلَو شَرط الضَّمَان فِي
الْعَارِية هَل يَصح؟ فالمشايخ فِيهِ مُخْتَلفُونَ، كَذَا
فِي التُّحْفَة، وَقَالَ فِي خُلَاصَة الفتاوي: رجل قَالَ
لآخر: أعرني ثَوْبك، فَإِن ضَاعَ فَأَنا لَهُ ضَامِن،
قَالَ: لَا يضمن. وَنَقله عَن الْمُنْتَقى.
وَاحْتج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بِأَحَادِيث. مِنْهَا:
حَدِيث أبي أُمَامَة، أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ أَنه سمع
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع
يَقُول: (الْعَارِية مُؤَدَّاة والزعيم غَارِم) . وَحسنه
التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ ابْن حبَان. وَمِنْهَا: حَدِيث
أُميَّة بن صَفْوَان بن أُميَّة عَن أَبِيه أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(13/182)
اسْتعَار مِنْهُ أدرعاً يَوْم حنين،
فَقَالَ: أغصباً يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: (لَا بل عَارِية
مَضْمُونَة) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ.
وَمِنْهَا: حَدِيث يعلى بن أُميَّة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ عَنهُ. قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أتتك رُسُلِي فادفع إِلَيْهِم
ثَلَاثِينَ درعاً، فَقلت: يَا رَسُول الله إِعَارَة
مَضْمُونَة أم عَارِية مُؤَدَّاة؟ . وَمِنْهَا: حَدِيث
سَمُرَة، رَوَاهُ الْأَرْبَعَة عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (على الْيَد مَا أخذت
حَتَّى تُؤَدِّيه) ، وَحسنه التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ
الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ. وَحجَّة الَّذين
ينفون الضَّمَان إلاَّ بِالتَّعَدِّي مَا رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا)
عَن عَمْرو بن عبد الْجَبَّار عَن عُبَيْدَة بن حسان عَن
عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ على الْمُسْتَوْدع غير
الْمغل ضَمَان، وَلَا على الْمُسْتَعِير غير الْمغل
ضَمَان) . وروى ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) : عَن الْمثنى بن
صباح عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أودع
وَدِيعَة فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ) .
فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عَمْرو بن عبد
الْجَبَّار وَعبيدَة ضعيفان، وَإِنَّمَا يرْوى هَذَا من
قَول شُرَيْح، غير مَرْفُوع. قلت: قيل: الْجرْح الْمُبْهم
لَا يقبل مَا لم يتَبَيَّن سَببه، وَرِوَايَة من وَقفه لَا
تقدح فِي رِوَايَة من رَفعه، وَقيل: عُبَيْدَة هَذَا لم
يُضعفهُ أحد من أهل هَذَا الشَّأْن، وَذكره البُخَارِيّ
فِي (تَارِيخه) وَلم يذكر فِيهِ جرحا، وَكَذَا عَمْرو بن
عبد الْجَبَّار لم يُضعفهُ أحد غير أَن ابْن عدي لما ذكره
لم يزدْ على قَوْله: لَهُ مَنَاكِير، وَقد اعْترض بَعضهم
على الْقَائِل الْمَذْكُور: بِأَن عُبَيْدَة قَالَ فِيهِ
أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: إِنَّه مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ
ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الثِّقَات، ورد
عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُمَا لم يبينا سَبَب الْجرْح،
وَالْجرْح الْمُجَرّد لَا يقبل، على أَن البُخَارِيّ لما
ذكره فِي (تَارِيخه) لم يتَعَرَّض إِلَيْهِ بِشَيْء.
وَالْجَوَاب عَن حَدِيث أبي أُمَامَة أَنه لَيْسَ فِيهِ
دلَالَة على التَّضْمِين، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن
الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى
أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . فَإِذا تلفت الْأَمَانَة لم
يلْزمه ردهَا. .
وَأما حَدِيث صَفْوَان بن أُميَّة فَهُوَ مُضْطَرب سنداً
ومتناً، وَجَمِيع وجوهه لَا يَخْلُو عَن نظر، وَلِهَذَا
قَالَ صَاحب (التَّمْهِيد) : الِاضْطِرَاب فِيهِ كثير
وَلَا حجَّة فِيهِ عِنْدِي فِي تضمين الْعَارِية. انْتهى.
ثمَّ على تَقْدِير صِحَّته، قَوْله: (مَضْمُونَة) أَي:
مَضْمُونَة الرَّد عَلَيْك، بِدَلِيل قَوْله: حَتَّى
يُؤَدِّيهَا إِلَيْك، وَيحْتَمل أَن يُرِيد اشْتِرَاط
الضَّمَان، وَالْعَارِية بِشَرْط الضَّمَان مَضْمُونَة فِي
رِوَايَة للحنفية، وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مصنفِه) عَن
عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
الْعَارِية بِمَنْزِلَة الْوَدِيعَة وَلَا ضَمَان فِيهَا
إلاَّ أَن يتَعَدَّى، وَأخرج عَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، لَيْسَ على صَاحب الْعَارِية ضَمَان.
وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، الْعَارِية لَيست بيعا وَلَا مَضْمُونَة، إِنَّمَا
هُوَ مَعْرُوف إلاَّ أَن يُخَالف فَيضمن.
وَأما حَدِيث سَمُرَة فَإِن الْأَدَاء فِيهِ فرض، وَلَا
يلْزم مِنْهُ الضَّمَان، وَلَو لزم من اللَّفْظ الضَّمَان
للَزِمَ الْخصم أَن يضمن الْمَرْهُون والودائع لِأَنَّهَا
مِمَّا قَبضته الْيَد.
43 - (بابُ الإسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ البِناءِ)
هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِعَارَة لأجل الْعَرُوس،
والعروس نعت يَسْتَوِي فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة مَا داما
فِي إعراسهما، وَيُقَال: إسم لَهما عِنْد دُخُول أَحدهمَا
بِالْآخرِ، وَفِي غير هَذِه الْحَالة الرجل يُسمى عريساً
وَالْمَرْأَة عروساً. قَوْله: (عِنْد الْبناء) أَي:
الزفاف، يُقَال: بنى على أَهله إِذا زفها، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الابتناء وَالْبناء: الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ،
وَالْأَصْل فِيهِ أَن الرجل كَانَ إِذا تزوج امْرَأَة بنى
عَلَيْهَا قبَّة ليدْخل بهَا فِيهَا، فَيُقَال: بنى الرجل
على أَهله. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَلَا يُقَال بنى
بأَهْله، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد جَاءَ فِي غير مَوضِع،
وَهُوَ أَيْضا اسْتَعْملهُ فِي كِتَابه.
8262 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ
الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قَالَ حدَّثني أبِي قَالَ دَخَلْتُ
على عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وعَلَيْهَا
دِرْعُ قِطْرٍ ثَمنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فقَالَتْ ارْفَعْ
بَصَرَكَ إِلَى جارِيَتِي انْظُرْ إلَيْهَا فإنَّها
تُزْهاى أَن تَلْبَسَهُ فِي البَيْتِ وقدْ كانِ لِي
مِنْهُنَّ دِرْعٌ على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَما كانَتِ امْرَأةٌ تُقيَّنُ بالْمَدِينَةِ إلاَّ
أرْسَلَتْ إليَّ تَسْتَعِيرُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمَا كَانَت امْرَأَة)
إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن،
وَعبد الْوَاحِد بن أَيمن
(13/183)
المَخْزُومِي مولى أبي عَمْرو الْمَكِّيّ،
يكنى أَبَا الْقَاسِم، وَأَبوهُ أَيمن ضد الْأَيْسَر
الحبشي المَخْزُومِي الْمَكِّيّ، وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ، وَعَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، والْحَدِيث تفرد بِهِ البُخَارِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَعَلَيْهَا درع قطر) ، جملَة
حَالية، وَدرع، مُضَاف إِلَى: قطر، والدرع قَمِيص
الْمَرْأَة، وَهُوَ مُذَكّر، وَدرع الْحَدِيد مُؤَنّثَة.
وَحكى أَبُو عبيد أَنه يذكر وَيُؤَنث، والقطر، بِكَسْر
الْقَاف وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء،
قَالَ ابْن فَارس: هُوَ جنس من البرود. وَقَالَ
الْخطابِيّ: ضرب من المروط غليظ، وَقيل: ثِيَاب من غليظ
الْقطن وَغَيره، وَقيل: من الْقطن خَاصَّة، وَفِي رِوَايَة
أبي الْحسن الْقَابِسِيّ وَابْن السكن بِالْفَاءِ، كَذَا
قَالَه ابْن قرقول، ثمَّ قَالَ: وَهِي ضرب من ثِيَاب
الْيمن يعرف بالقطرية فِيهَا حمرَة. وَقَالَ البنالسي:
الصَّوَاب بِالْقَافِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الثِّيَاب
القطرية منسوبة إِلَى قطر، قَرْيَة فِي الْبَحْرين، فكسروا
الْقَاف للنسبة وخففوا. وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
والسرخسي: درع قطن، بِضَم الْقَاف وَفِي آخِره نون، وَقيل:
الْأَشْهر وَالصَّوَاب بِالْقَافِ وَالنُّون. قَوْله: (ثمن
خَمْسَة دَرَاهِم) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَتَشْديد الْمِيم الْمَكْسُورَة على صِيغَة الْمَجْهُول
من الْمَاضِي من التثمين، وَهُوَ التَّقْوِيم. وَخَمْسَة
بِالنّصب بِنَزْع الْخَافِض أَي: قوم بِخَمْسَة دَرَاهِم،
ويروى: ثمن، بِلَفْظ الإسم مَنْصُوبًا بِنَزْع الْخَافِض
أَي: بِثمن خَمْسَة دَرَاهِم فَيكون مُضَافا إِلَى خَمْسَة
دَرَاهِم، فَيكون لفظ خَمْسَة مجروراً بِالْإِضَافَة.
ويروى: ثمن، بِالرَّفْع على الِابْتِدَاء وَخَمْسَة
بِالرَّفْع أَيْضا خَبره، وَلَكِن بِحَذْف الضَّمِير
تَقْدِيره: ثمنه خَمْسَة دَرَاهِم، وَوَقع فِي رِوَايَة
ابْن شبويه وَحده: خمسه الدَّرَاهِم. قَوْله: (أنظر) ،
بِلَفْظ الْأَمر. قَوْله: (إِلَيْهَا) أَي: إِلَى
الْجَارِيَة. قَوْله: (فَإِنَّهَا تزهى) بِضَم أَوله أَي:
تتكبر أَو تأنف. وَقَالَ ثَعْلَب فِي بَاب فعل، بِضَم
الْفَاء، وَقد زهيت علينا يَا رجل وَأَنت مزهو، وَعند
التدميري مَأْخُوذ من التيه وَالْعجب، وَأَصله من الْبُسْر
إِذا حسن منظره، وراقت ألوانه، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه:
الْعَامَّة تَقول: زهى علينا، فَيحصل الْفِعْل لَهُ،
وَإِنَّمَا هُوَ مفعول لم يسم فَاعله، وَقَالَ ابْن
دُرَيْد: يُقَال: زهى زهواً إِذا تكبر، وَمِنْه قَوْلهم:
مَا أزهاه، وَلَيْسَ هُوَ من زهى، لِأَن مَا لم يسم فَاعله
لَا يتعجب مِنْهُ، ورد عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَن ابْن
عُصْفُور وَغَيره: يَجِيء التَّعَجُّب مِمَّا لم يسم
فَاعله فِي أَلْفَاظ مَعْدُودَة، مِنْهَا: مَا أجنه.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَالَ الشَّاعِر:
(لنا صاحبٌ مولعٌ بالخلافِ ... كثيرُ الْخَطَأ قَلِيل
الصَّوَاب)
(ألج لجاجاً من الخنفساء ... وأزهى إِذا مَا مَشى من غراب)
قَوْله: (مِنْهُنَّ) أَي: من الدروع أَو من بَين
النِّسَاء. قَوْله: (على عهد رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي زَمَنه وأيامه. قَوْله: (تقين)
بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْقَاف
وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون، على
صِيغَة الْمَجْهُول، من التقيين وَهُوَ التزيين،
وَالْمعْنَى: مَا كَانَت امْرَأَة بِالْمَدِينَةِ تتزين
لزفافها، إلاَّ أرْسلت تستعير ذَلِك الدرْع، وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: أَرَادَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، أَنهم كَانُوا أَولا فِي حَال ضيق، فَكَانَ
الشَّيْء المحتقر عِنْدهم إِذْ ذَاك عَظِيم الْقدر،
وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) فَإِن الشَّيْء يقينه قينا
إِذا أصلحه. يُقَال: قن إناءك، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قنت
الشَّيْء أقينه قينا، لممته، واقتانت الرَّوْضَة: أخذت
زخرفها، وَمِنْه قيل للماشطة: مقينة، لِأَنَّهَا تزين
النِّسَاء، وشبهت بالأمة لِأَنَّهَا تصلح الْبَيْت وتزينه،
والقنية المغينة، والقينة الْأمة مُطلقًا، والقين وكل صانع
عِنْد الْعَرَب قين. وَقَالَ الْمُهلب: عَارِية الثِّيَاب
للعرس من فعل الْمَعْرُوف وَالْعَمَل الْجَارِي عِنْدهم
لِأَنَّهُ مرغب فِي أجره، لِأَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، لم تمنع مِنْهُ أحدا.
وَفِيه: أَن الْمَرْأَة قد تلبس فِي بَيتهَا مَا حسن من
الثِّيَاب وَمَا يلْبسهُ بعض الخدم. وَفِيه: تواضع
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأَخذهَا بالبلغة
فِي حَال الْيَسَار، وَقد أعانت الْمُنْكَدر فِي كِتَابَته
بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وَذكرت مَا كَانُوا عَلَيْهِ
ليتذكر ذَلِك.
53 - (بابُ فَضْلِ الْمَنِيحَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل المنيحة وَلَيْسَ فِي
رِوَايَة أبي ذَر لفظ: بَاب، والمنيحة، بِفَتْح الْمِيم
وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
الْحَاء الْمُهْملَة، على وزن عَظِيمَة، وَهِي النَّاقة،
وَالشَّاة ذَات الدّرّ يعار لَبنهَا ثمَّ ترد إِلَى
أَهلهَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: ومنيحة اللَّبن أَن
يُعْطِيهِ نَاقَة أَو شَاة ينْتَفع بلبنها وَيُعِيدهَا،
وَكَذَلِكَ إِذا أعطَاهُ لينْتَفع بوبرها وصوفها زَمَانا
ثمَّ يردهَا، قَالَ الْقَزاز: قيل: لَا تكون المنيحة إلاَّ
نَاقَة أَو شَاة وَقَالَ أَبُو عبيد: المنيحة عِنْد
الْعَرَب على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يُعْطي الرجل
صَاحبه صلَة
(13/184)
فَيكون لَهُ. وَالْآخر: أَن يُعْطِيهِ
نَاقَة أَو شَاة ينْتَفع بحلبها ووبرها زَمنا ثمَّ يردهَا.
قلت: المنيحة فِي الأَصْل الْعَطِيَّة من منح إِذا أعْطى
وَكَذَلِكَ المنحة، بِالْكَسْرِ.
9262 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا مالكٌ
عنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نِعْمَ المَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ
الصَّفيُّ مِنْحَةً والشَّاةُ الصَّفيُّ تَغْدُو بإناءٍ
وتَرُوحُ بإنَاءٍ.
(الحَدِيث 9262 طرفه فِي: 8065) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذكر المنيحة بالمدح، وَلَا يمدح النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، شَيْئا إلاَّ فِي الْعَمَل بِهِ فضل.
وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: وَعبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (نعم المنيحة) ، بِفَتْح الْمِيم وَكسر النُّون.
وَقد ذَكرنَاهَا الْآن. قَوْله: (اللقحة) ، بِكَسْر
اللَّام: بِمَعْنى الملقوحة، أَي: الحلوب من النَّاقة.
وَفِي (التَّلْوِيح) : اللقحة، بِكَسْر اللَّام: الشَّاة
الَّتِي لَهَا لبن، وَبِفَتْحِهَا الْمرة الْوَاحِدَة من
الْحَلب، وَقيل فِيهَا الْفَتْح وَالْكَسْر، واللقحة
مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة المنيحة. وَقَوله: (الصفي) ، صفة
بعد صفة، وَمَعْنَاهَا: الْكَثِيرَة اللَّبن. قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الصفي صفة للقحة، فَلم مادخل
عَلَيْهَا التَّاء؟ قلت: لِأَنَّهُ إِمَّا فعيل أَو فعول،
يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث. فَإِن قلت: فَلِمَ دَخل
على المنيحة؟ قلت: لنقل اللَّفْظ من الوصفية إِلَى
الإسمية، أَو لِأَن اسْتِوَاء التَّذْكِير والتأنيث
إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ موصوفه مَذْكُورا. انْتهى.
قلت: رُوِيَ أَيْضا: الصفية، بتاء التَّأْنِيث، فَلَا
حَاجَة إِلَى قَوْله: لِأَنَّهُ إِمَّا فعيل أَو فعول، على
أَن قَوْله: إِمَّا فعيل، غير صَحِيح، لِأَنَّهُ من معتل
اللَّام الواوي دون اليائي. قَوْله: (منحة) ، نصب على
التَّمْيِيز. وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ وُقُوع
التَّمْيِيز بعد فَاعل: نعم، ظَاهرا وَقد مَنعه
سِيبَوَيْهٍ إلاَّ مَعَ الْإِضْمَار، مثل: (بئس للظالمين
بَدَلا) ، وَجوزهُ الْمبرد وَهُوَ الصَّحِيح. قَوْله:
(وَالشَّاة الصفي) ، صفة وموصوف عطف على مَا قبله، وَقد
مضى معنى: الصفي، قَوْله: (تَغْدُو بِإِنَاء وَتَروح
بِإِنَاء) أَي: من اللَّبن، أَي: تحلب إِنَاء بِالْغُدُوِّ
وإناء بالْعَشي، وَقيل: تَغْدُو بِأَجْر حلبها فِي الغدو
والرواح. وَوَقع هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة مُسلم من
طَرِيق سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: (إلاَّ رجل
يمنح أهل بَيت نَاقَة تَغْدُو بِإِنَاء وَتَروح بِإِنَاء،
إِن أجرهَا لعَظيم) .
حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ واسْمَاعِيلُ عنْ مالِكٍ
قَالَ نِعْمَ الصَّدَقَةِ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي
وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس رويا
عَن مَالك، قَالَ: (نعم الصَّدَقَة اللقحة الصفي منحة) ،
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن مَالك، وَكَذَا رَوَاهُ
شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد كَمَا سَيَأْتِي فِي
الْأَشْرِبَة، وَقَالَ ابْن التِّين: من روى: (نعم
الصَّدَقَة) ، روى بِالْمَعْنَى، لِأَن المنحة
الْعَطِيَّة، وَالصَّدَََقَة أَيْضا عَطِيَّة. وَقَالَ
بَعضهم: لَا تلازم بَينهمَا، فَكل صَدَقَة عَطِيَّة،
وَلَيْسَ كل عَطِيَّة صَدَقَة. وَإِطْلَاق الصَّدَقَة على
المنيحة مجَاز، وَلَو كَانَت المنيحة صَدَقَة لما حلت
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هِيَ من جنس
الْهَدِيَّة وَالْهِبَة. انْتهى. قلت: أَرَادَ ابْن
التِّين بقوله: روى بِالْمَعْنَى، الْمَعْنى اللّغَوِيّ،
وَلَا فرق فِي اللُّغَة بَين الْعَطِيَّة والمنحة
وَالصَّدَََقَة وَالْهِبَة والهدية، لِأَن معنى
الْعَطِيَّة مَوْجُود فِي الْكل بِحَسب اللُّغَة،
وَإِنَّمَا الْفرق بَينهمَا فِي الِاسْتِعْمَال، ألاَ ترى
أَنه لَو تصدق على غَنِي تكون هبة، وَلَو وهب لفقير تكون
صَدَقَة، وَقَالَ ابْن بطال: المنحة تمْلِيك الْمَنَافِع
لَا تمْلِيك الرّقاب وَالسّنة أَن ترد المنيحة إِلَى
أَهلهَا إِذا اسْتغنى عَنْهَا، كَمَا رد رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أم أنس، وَلما فتح الله على
رَسُوله غَنَائِم خَيْبَر رد الْمُهَاجِرُونَ إِلَى
الْأَنْصَار منائحهم، وثمارهم كَمَا سَيَجِيءُ الْآن.
0362 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
ابنُ وَهْبٍ قَالَ حدَّثنا يونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا
قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وليْسَ
بِأيْدِيهِمْ يَعْني شَيئاً وكانَتِ الأنْصِارُ أهْلَ
الأرْضِ والعَقَارِ فَقَاسَمَهُمُ الأنْصَارُ على أنْ
يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أمْوَالِهِمْ كُلَّ عامٍ ويَكْفُوهُمْ
العَمَلَ والمَؤنَةَ وكانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أنَسٍ أُمُّ
سُلَيْمٍ كانَتْ أُمُّ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ
فَكانَتْ أعْطَتْ أُمُّ أنَسٍ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عذاقاً فَأَعْطَاهُنَّ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أُمَّ أيْمَنَ
(13/185)
مَوْلاتَهُ أُمُّ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ
قَالَ ابنُ شِهَابٍ فأخبرنِي أنَسُ بنُ مالِكٍ أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا فَرِغَ منْ قَتْلِ
أهْلِ خَيْبَرَ فانْصَرَفَ إِلَى المَدِينَةِ رَدَّ
المُهَاجِرُونَ إِلَى الأنْصَارِ مَنائِحَهُمُ الَّتي
كانُوا مَنحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ فَرَدَّ النَّبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أمِّهِ عِذَاقَها وأعْطى رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَّ أيْمَنَ مَكَانَهُنَّ
مِنْ حائِطِهِ. وَقَالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ أخْبَرَنا أبي
عنْ يونُسَ بِهاذَا وَقَالَ مَكانَهُنَّ مِنْ خالِصِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تعرف من قَوْله: (فقاسمهم
الْأَنْصَار) إِلَى قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) . وَابْن
وهب هُوَ: عبد الله بن وهب الْبَصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ
ابْن يزِيد الْأَيْلِي وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي الطَّاهِر
بن السَّرْح وحرملة بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
المناقب عَن عَمْرو بن سَواد ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن وهب
بِهِ.
قَوْله: (وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِم) يَعْنِي شَيْئا هَذَا
هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة
البَاقِينَ: (وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِم) بدوة، يَعْنِي
شَيْئا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي وَلَيْسَ
بِأَيْدِيهِم مَال، وَالتَّفْسِير الأول أَعم مِنْهُ.
قَوْله: (فقاسمهم الْأَنْصَار) جَوَاب: لما. فَإِن قلت:
ظَاهر هَذَا يغاير حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي مضى فِي
الْمُزَارعَة، قَالَت الْأَنْصَار للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إقسم بَيْننَا وَبَين إِخْوَاننَا
النخيل، قَالَ: لَا، فَقَالَ: تكفونا المؤونة ونشرككم فِي
الثَّمَرَة؟ قَالُوا: سمعنَا وأطعنا) . قلت: لَا مُغَايرَة
بَينهمَا لِأَن الْمَنْفِيّ هُنَاكَ مقاسمة الْأُصُول
وَالْمرَاد هُنَا مقاسمة الثِّمَار، وَزعم الدَّاودِيّ،
رَحمهَا الله أَن المُرَاد من قَوْله: فقاسمهم، هُنَا أَي
خالفهم، وَجعله من: القَسَم، بِفتْحَتَيْنِ لَا من:
الْقسم، بِسُكُون السِّين، وَفِيه نظر لَا يخفى. قَوْله:
(وَكَانَت أمه) أَي: أم أنس بن مَالك. وَقَوله: أم أنس،
بدل مِنْهُ، وَقَوله: أم سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة
بدل عَن أم أنس، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَكَانَت أم أنس بن
مَالك وَهِي تدعى أم سليم، وَكَانَت أم عبد الله ابْن أبي
طَلْحَة كَانَ أَخا أنس لأمه. قَوْله: (كَانَت) تَأْكِيد:
لكَانَتْ، الأولى فَهِيَ أم أنس وَأم عبد الله وَاسْمهَا:
سهلة أَو مليكَة بنت ملْحَان الْأَنْصَارِيَّة. وَقَوله:
(وَكَانَت أمه. . إِلَى قَوْله: أبي طَلْحَة، من كَلَام
الزُّهْرِيّ الرَّاوِي عَن أنس، كَذَا قَالَ بَعضهم،
وَلَكِن ظَاهر السِّيَاق أَنه يَقْتَضِي أَنه من رِوَايَة
الزُّهْرِيّ عَن أنس، فَيكون من بَاب التَّجْرِيد، وَهُوَ
أَن ينتزع من أَمر ذِي صفة أَمر آخر مثل الْأَمر الأول فِي
تِلْكَ الصّفة وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك مُبَالغَة فِي كَمَال
الصّفة فِي الْأَمر الأول والتجريد على أَقسَام مِنْهَا
مُخَاطبَة الأنسان نَفسه، كَأَنَّهُ ينتزع من نَفسه شخصا
فيخاطبه، والتجريد هُنَا من هَذَا الْقسم. قَوْله:
(فَكَانَت أَعْطَتْ) أَي: كَانَت أم أنس، أَعْطَتْ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عذاقاً، بِكَسْر الْعين
الْمُهْملَة وبذال مُعْجمَة خَفِيفَة، جمع: عذق، بِفَتْح
الْعين وَسُكُون الذَّال، كحبل وحبال، والعذق: النَّخْلَة،
وَقيل: إِنَّمَا يُقَال لَهَا ذَلِك: إِذا كَانَ حملهَا
مَوْجُودا. وَالْمعْنَى: أَنَّهَا وهبت للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تمرها. قَوْله: (أم أَيمن) ، بِالنّصب
لِأَنَّهُ مفعول ثَان لأعطى، وَاسْمهَا بركَة، بِالْبَاء
الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَالْكَاف المفتوحات، وكنيت بِهِ
لِأَنَّهَا كَانَت أَولا تَحت عبيد مصغر عبد الحبشي فَولدت
لَهُ أَيمن. وَفِي (صَحِيح مُسلم) أَنَّهَا كَانَت وصيفة
لعبد الله بن عبد الْمطلب وَكَانَت من الْحَبَشَة،
فَلَمَّا ولدت آمِنَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَت أم أَيمن تحضنه حَتَّى كبر صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأعْتقهَا وَزوجهَا مَوْلَاهُ زيد بن حَارِثَة.
قَوْله: (أم أُسَامَة بن زيد) بن شرَاحِيل بن كَعْب مولى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من أَبَوَيْهِ،
وَكَانَ أسود أفطس، توفّي فِي آخر أَيَّام مُعَاوِيَة سنة
ثَمَان وتسع وَخمسين، وَمَات النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَهُوَ ابْن عشْرين سنة، فأسامة وأيمن أَخَوان لأم،
وَاسْتشْهدَ أَيمن يَوْم حنين، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (بركَة أُمِّي بعد أُمِّي) ، وَمَاتَتْ بعد
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَمْسَة أشهر.
قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب، هُوَ الزُّهْرِيّ الرَّاوِي:
وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَكَذَا هُوَ
عِنْد مُسلم. قَوْله: (منائحهم) ، جمع منيحة. قَوْله:
(وَقَالَ أَحْمد بن شبيب) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: ابْن سعيد أَبُو عبد
الله الحبطي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي
(مَنَاقِب عُثْمَان) وَفِي الاستقراض مُفردا، وَفِي غير
مَوضِع مَقْرُونا إِسْنَاده بِإِسْنَاد آخر، وَهُوَ من
أَفْرَاده، روى عَن أَبِيه شبيب عَن يُونُس بن يزِيد.
قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بِهَذَا الْمَتْن والإسناد،
وَطَرِيق أَحْمد بن
(13/186)
شبيب وَصله البرقاني عَنهُ مثله. قَوْله:
(وَقَالَ مكانهن من خالصه) ، أَي: من خَالص مَاله، وَقَالَ
ابْن التِّين: الْمَعْنى وَاحِد، لِأَن حَائِطه صَار لَهُ
خَالِصا.
1362 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عيساى بنُ يُونُسَ
قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ عنْ حَسَّانِ بنِ عَطِيَّةَ
عنْ أبِي كبْشَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عبْدَ الله
بنَ عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يقُولُ قَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أربَعُونَ خَصْلَةً
أعْلاهُنَّ مَنيحَةُ العَنْزِ مَا منْ عامِلٍ يَعْمَلُ
بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رجاءَ ثَوابِها وتَصْدِيقَ مَوْعُودِها
إلاَّ أدْخَلَهُ الله بهَا الجَنَّةَ قَالَ حَسَّانُ
فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ العَنْزِ مِنْ رَدِّ
السَّلاَمِ وتَشْمِيتِ العاطِسِ وإمَاطَةِ الأذاى عنِ
الطَّرِيقِ ونَحُوِهِ فَما اسْتَطَعْنَا أنْ نَبْلُغَ
خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أعلاهن منيحة العنز) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد
تكَرر ذكره. الثَّانِي: عِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق
الْهَمدَانِي. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: حسان بن عَطِيَّة الشَّامي أبي
بكر. الْخَامِس: أَبُو كَبْشَة، بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون
الْبَاء الْمُوَحدَة وبالشين الْمُعْجَمَة: اسْمه كنيته،
والسلولي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم اللَّام
الأولى: نِسْبَة إِلَى سلول قَبيلَة من هوَازن. السَّادِس:
عبد الله ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
السماع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَعِيسَى كُوفِي
وَالْأَوْزَاعِيّ وَحسان شاميان، وَحسان إِمَّا من الْحسن
فالنون أَصْلِيَّة، وَإِمَّا من الْحس فالنون زَائِدَة،
وَلَيْسَ لحسان هَذَا وَلَا لأبي كَبْشَة فِي البُخَارِيّ
سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد ذكرنَا أَن أَبَا
كَبْشَة اسْمه وكنيته سَوَاء، وَزعم الْحَاكِم أَن اسْمه
الْبَراء بن قيس، ورد عَلَيْهِ عبد الْغَنِيّ بن سعيد
وبيّن أَنه غَيره.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى ومسدد، كِلَاهُمَا عَن عِيسَى بن
يُونُس إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن حسان بن عَطِيَّة) وَفِي
رِوَايَة أَحْمد: عَن الْوَلِيد حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ
حَدثنِي حسان بن عَطِيَّة. قَوْله: (عَن أبي كَبْشَة) ،
وَفِي رِوَايَة أَحْمد: حَدثنِي أَبُو كَبْشَة. قَوْله:
(قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي
رِوَايَة أَحْمد: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (أَرْبَعُونَ خصْلَة) ، مُبْتَدأ. وَقَوله:
(أعلاهن) ، مُبْتَدأ ثَان. وَقَوله: (منيحة العنز) ،
خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، والعنز: هِيَ
الْأُنْثَى من الْمعز، وَكَذَلِكَ العنز من الظباء
والأوعال. قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي: من الْأَرْبَعين.
قَوْله: (رَجَاء) ، نصب على التَّعْلِيل، وَكَذَلِكَ
قَوْله: (تَصْدِيق موعودها) فَإِن قلت: من الْمَعْلُوم
قطعا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عَالما بهَا
أجمع، لِأَنَّهُ لَا ينْطق عَن الْهوى فلمَ لم يذكرهَا؟
قلت: لِمَعْنى، وَهُوَ أَنْفَع لنا من ذكرهَا، وَذَلِكَ،
وَالله أعلم خشيَة أَن يكون التَّعْيِين لَهَا زهداً عَن
غَيرهَا من أَبْوَاب الْبر. قَوْله: (قَالَ حسان) إِلَى
آخِره، قَالَ ابْن بطال: وَلَيْسَ قَول حسان مَانِعا أَن
يستطيعها غَيره، قَالَ: وَقد بَلغنِي عَن بعض أهل عصرنا
أَنه طلبَهَا فَوجدَ مَا يبلغ أَزِيد من أَرْبَعِينَ
خصْلَة. فَمِنْهَا: أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن عمل يدْخل الْجنَّة فَذكر لَهُ
أَشْيَاء، ثمَّ قَالَ: والمنيحة والفيء على ذِي الرَّحِم
الْقَاطِع، فَإِن لم تطق فأطعم الجائع واسق الظمآن، هَذِه
ثَلَاث خِصَال أعلاهن المنيحة وَلَيْسَ الْفَيْء مِنْهَا
لِأَنَّهُ أفضل من المنيحة وَالسَّلَام. وَفِي الحَدِيث:
من قَالَ السَّلَام عَلَيْك، كتب لَهُ عشر حَسَنَات، وَمن
زَاد: وَرَحْمَة الله، كتب لَهُ عشرُون، وَمن زَاد:
وَبَرَكَاته، كتب لَهُ ثَلَاثُونَ، وتشميت الْعَاطِس ...
الحَدِيث، وَهُوَ ثَلَاث تثبت لَك الود فِي صدر أَخِيك:
إِحْدَاهَا تشميت الْعَاطِس وإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق
وإعانة الضائع والصنعة للأخرق وَإِعْطَاء صلَة الرَّحِم
الْحَبل، وَإِعْطَاء شسع النَّعْل وَأَن يؤنس الوحشان أَي
تَلقاهُ بِمَا يؤنسه من القَوْل الْجَمِيل أَو يبلغ من
أَرض الفلاة إِلَى مَكَان الْأنس وكشف الْكُرْبَة، قَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من كشف كربَة عَن أَخِيه كشف
الله عَنهُ كربَة يَوْم الْقِيَامَة) . وَكَون الْمَرْء
فِي حَاجَة أَخِيه وَستر الْمُسلم للْحَدِيث، وَالله فِي
عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه، وَمن ستر
مُسلما ستره الله يَوْم
(13/187)
الْقِيَامَة والتفسح فِي الْمجَالِس
وَإِدْخَال السرُور على الْمُسلم وَنصر الْمَظْلُوم
وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم. (قَالَ: أنْصر أَخَاك
ظَالِما أَو مَظْلُوما) ، وَالدّلَالَة على الْخَيْر،
قَالَ: الدَّال على الْخَيْر كفاعله، والآمر
بِالْمَعْرُوفِ والإصلاح بَين النَّاس، وَالْقَوْل الطّيب
يرد بِهِ الْمِسْكِين، قَالَ تَعَالَى: {قَول مَعْرُوف
ومغفرة خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} (الْبَقَرَة: 362) .
وَفِي الحَدِيث: (اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة،
فَإِن لم تَجِد فبكلمة طيبَة، وَإِن تفرغ من دلوك فِي
إِنَاء المستقي وغرس الْمُسلم وزرعه) قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُسلم يغْرس غرساً أَو يزرع زرعا
فيأكل مِنْهُ طير أَو إِنْسَان أَو بَهيمة إلاَّ كَانَ
لَهُ صَدَقَة) . والهدية إِلَى الْجَار، قَالَ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحقرن إحداكن لجارتها وَلَو فرسن
شَاة) ، والشفاعة للْمُسلمِ وَرَحْمَة عَزِيز ل وغني
افْتقر وعالم بَين جهال: إرحموا ثَلَاثَة: غَنِي قوم
افْتقر، وعزيز قوم ذل، وعالماً يلْعَب بِهِ الْجُهَّال) ،
وعيادة الْمَرِيض للْحَدِيث: (عَائِد الْمَرِيض على مخارف
الْجنَّة) وَالرَّدّ على من يغتاب. قَالَ: من حمى مُؤمنا
من مُنَافِق يغتابه بعث الله إِلَيْهِ ملكا يَوْم
الْقِيَامَة يحمي لَحْمه من النَّار، ومصافحة الْمُسلم.
قَالَ: (لَا يُصَافح مُسلم مُسلما فتزول يَده عَن يَده
حَتَّى يغْفر لَهما) ، والتحاب فِي الله والتجالس إِلَى
الله والتزاور فِي الله والتباذل فِي الله، قَالَ الله
تَعَالَى: (وَجَبت محبتي لأَصْحَاب هَذِه الْأَعْمَال
الصَّالِحَة) وَعون الرجل فِي دَابَّته يحمل عَلَيْهَا
مَتَاعه صَدَقَة، رُوِيَ ذَلِك عَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَقُول:
هَذَا الْكَلَام رجم بِالْغَيْبِ، لاحْتِمَال أَن يكون
المُرَاد غير الْمَذْكُورَات من سَائِر أَعمال الْخَيْر
ثمَّ إِنَّه من أَيْن علم أَن هَذِه أدنى من المنيحة
لجَوَاز أَن يكون مثلهَا أَو أَعلَى مِنْهَا؟ ثمَّ فِيهِ
تحكم حَيْثُ جعل السَّلَام مِنْهُ وَلم يَجْعَل رد
السَّلَام مِنْهُ، مَعَ أَنه صرح فِي هَذَا الحَدِيث
الَّذِي نَحن فِيهِ بِهِ، وَكَذَا جعل الْأَمر
بِالْمَعْرُوفِ مِنْهُ بِخِلَاف النَّهْي عَن الْمُنكر،
وَفِيه: أَيْضا: تكْرَار لدُخُول الْأَخير وَهُوَ
الْأَرْبَعُونَ تَحت بعض مَا تقدم، فَتَأمل.
2362 - حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثنا
الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني عَطاءٌ عنْ جَابر رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَتْ لرِجالٍ مِنَّا فُضُولُ
أرَضينَ فَقَالُوا نُؤَاجِرُها بالثُّلُثِ والرُّبْعِ
والنِّصْفِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ
كانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَزْرَعْها أوْ لِيَمْنَحْهَا
أخَاهُ فإنْ أباى فلْيُمْسِكْ أرْضَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 0432) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو ليمنحها أَخَاهُ)
وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْمُزَارعَة، فِي: بَاب مَا
كَانَ من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يواسي بَعضهم بَعْضًا فِي الزِّرَاعَة، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَى
آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
3362 - وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا
الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني الزُّهْرِيُّ قَالَ حدَّثني
عطاءُ بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثني أبُو سَعِيدٍ قَالَ جاءَ
أعْرَابِيٌّ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فسَأَلَهُ عنِ الهِجْرَةِ فَقَالَ ويْحَكَ إنَّ
الْهِجْرَةِ شَأْنُهَا شَدِيدٌ فَهلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ
قَالَ نعَمْ قَالَ فَتُعْطِي صدَقَتَهَا قَالَ نعَمْ قَالَ
فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئاً قَالَ نعَمْ قَالَ
فتَحْلُبُهَا يوْم وِرْدِهَا قَالَ نعَمْ قَالَ فاعْمَلْ
مِنْ ورَاءِ البِحَارِ فإنَّ الله لَنْ يَتْرِكَ مِنْ
عَمَلِكَ شَيئَاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَهَل تمنح مِنْهَا
شَيْئا) ءلى قَوْله. قَالَ: (فاعمل من وَرَاء الْبحار) ،
وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب زَكَاة
الْإِبِل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله
عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَى آخِره،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد
بن يُوسُف) ، ظَاهره التَّعْلِيق، وَيحْتَمل أَن يكون
مَعْطُوفًا على الَّذِي قبله، فَيكون مَوْصُولا وَوَصله
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم من طَرِيق مُحَمَّد بن
يُوسُف الْمَذْكُور. قَوْله: (يَوْم وردهَا) ، أَي: يَوْم
نوبَة شربهَا، وَذَلِكَ لِأَن الْحَلب يَوْمئِذٍ أوفق
للناقة وأرفق للمحتاجين. قَوْله: (لن يتْرك) ، أَي: لن
ينْقصك من الْوتر، ويروى: لن يتْرك من التّرْك، من بَاب
الافتعال.
4362 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشِّارٍ قَالَ حدَّثنا
عبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عَمْرٍ وعنْ
طَاوُوس
(13/188)
ٍ قَالَ حدَّثني أعْلَمُهُم بِذَاكَ
يَعْنِي ابنَ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرَجَ إِلَى أرْضٍ
تَهْتَزُّ زَرْعاً فَقَالَ لِمَنْ هذِهِ فقالُوا أكتراها
فُلانٌ فَقَالَ أمَّا إنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إيَّاهُ كانَ
خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يأخُذَ عَلَيْهَا أجْراً
مَعْلُوماً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أما أَنه لَو منحها
إِيَّاه) إِلَى آخِره، لِأَنَّهُ يدل على فضل المنيحة،
وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الْبَصْرِيّ،
وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار
الْمَكِّيّ، وَقد مر الحَدِيث فِي الْمُزَارعَة. قَوْله:
(يَهْتَز) ، من الهز وَهُوَ الْحَرَكَة، وَالْمعْنَى إِلَى
أَرض تتحرك وترتاج لأجل الزَّرْع الَّذِي عَلَيْهَا، وكل
من خف لأمر وارتاح لَهُ، فقد اهتز لَهُ. قَوْله: (لَو
منحها) ، أَي: لَو أَعْطَاهَا الْمَالِك، فلَانا المكترى
على طَرِيق المنحة، لَكَانَ خيرا لَهُ، لِأَنَّهَا أَكثر
ثَوابًا، وَلِأَنَّهُم كَانُوا يتنازعون فِي كِرَاء
الأَرْض أَو لِأَنَّهُ كره لَهُم الافتتان بالزراعة.
لِئَلَّا يقعدوا بهَا عَن الْجِهَاد.
63 - (بابٌ إذَا قَالَ أخْدَمْتُكَ هَذِهِ الجَارِيَةَ على
مَا يتَعَارَفُ النَّاسُ فَهْوَ جائزٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ رجل لآخر: أخدمتك
هَذِه الْجَارِيَة. قَوْله: (على مَا يتعارف النَّاس) أَي:
على عرفهم فِي صُدُور هَذَا القَوْل مِنْهُم، أَو على
عرفهم فِي كَون الأخدام أم هبة أَو عَارِية. قَوْله:
(فَهُوَ جَائِز) جَوَاب: إِذا، وَحَاصِله أَن عرفهم فِي
قَوْله: أخدمتك هَذِه الْجَارِيَة إِن كَانَ هبة تكون هبة،
وَإِن كَانَ عرفهم أَن هَذَا عَارِية تكون عَارِية.
وَقَالَ ابْن بطال: لَا أعلم خلافًا بَين الْعلمَاء أَنه
إِذا قَالَ: أخدمتك هَذِه الْجَارِيَة أَو هَذَا العَبْد،
أَنه قد وهب لَهُ خدمته لَا رقبته، وَأَن الإخدام لَا
يَقْتَضِي تمْلِيك الرَّقَبَة عِنْد الْعَرَب، كَمَا أَن
الإسكان لَا يَقْتَضِي تمْلِيك رَقَبَة الدَّار. انْتهى.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا قَالَ: أخدمتك هَذَا العَبْد،
يكون عَارِية لِأَنَّهُ أذن فِي استخدامه، وَإِذا كَانَ
عَارِية، فَلهُ أَن يرجع فِيهَا مَتى شَاءَ.
وَقَالَ بعْضُ النَّاسِ هذِهِ عارِيَّةٌ
قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: أَرَادَ بِهِ الْحَنَفِيَّة
وغرضه أَنهم يَقُولُونَ: لَا إِنَّه إِذا قَالَ: أخدمتك
هَذَا العَبْد، فَهُوَ عَارِية، وقصة هَاجر تدل على أَنه
هبة. انْتهى. قلت: لَيْسَ فِي قصَّة هَاجر مَا يدل على
الْهِبَة إلاَّ قَوْله: (فأعطوها هَاجر) ، وَقَوله:
(وأخدمها هَاجر) ، لَا يدل على الْهِبَة.
وإنْ قَالَ كسَوْتُكَ هذَا الثَّوْبَ فَهْوَ هِبَةٌ
قَالَ ابْن بطال: لم يخْتَلف الْعلمَاء أَنه إِذا قَالَ:
كسوتك هَذَا الثَّوْب، مُدَّة يسميها، فَلهُ شَرطه، وَإِن
لم يذكر أَََجَلًا فَهُوَ هبة، لِأَن لفظ الْكسْوَة
يَقْتَضِي الْهِبَة، لقَوْله تَعَالَى: {فكفارته إطْعَام
عشرَة مَسَاكِين أَو كسوتهم} (الْمَائِدَة: 98) . وَلم
تخْتَلف الْأمة أَن ذَلِك تمْلِيك الطَّعَام وَالثيَاب.
5362 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
قَالَ حدَّثنا أَبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هاجَرَ إبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ
فأعْطُوها آجَرَ فَرَجِعَتْ فقالتْ أشَعَرْتَ أنَّ الله
كبَتَ الكافِرَ وأخْدَمَ وليدَةً وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فأخْدَمَها هاجَرَ..
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث فِي قصَّة إِبْرَاهِيم وَهَاجَر،
سلخها من الحَدِيث الَّذِي ذكره بِتَمَامِهِ فِي كتاب
الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ،
وَذكر أَيْضا قِطْعَة مِنْهُ، معلقَة فِي: بَاب قبُول
الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَذكر هَذِه الْقطعَة هُنَا
مَوْصُولَة عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب
بن أبي حَمْزَة عَن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد
الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن ابْن هُرْمُز
الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة وَأَرَادَ بهَا
الِاسْتِدْلَال على الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم: إِن قَول
الرجل: أخدمتك هَذَا العَبْد عَارِية،
(13/189)
وَلَكِن لَا يَصح استدلاله بِهَذَا لما
ذكرنَا الْآن، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن بطال: واستدلال
البُخَارِيّ بقوله: فَأَخْدَمَهَا هَاجر على الْهِبَة، لَا
يَصح، وَإِنَّمَا صحت الْهِبَة فِي هَذِه الْقِصَّة من
قَوْله: (فأعطوها هَاجر) أَي: أعْطوا سارة الوليدة الَّتِي
تسمى: هَاجر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب
شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ.
73 - (بابٌ إذَا حَمَلَ رَجُلٌ على فَرَسٍ فَهْوَ
كالعُمْراى والصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا حمل رجل على فرس أَي:
تصدق بِهِ، ووهبه بِأَن يُقَاتل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله،
وَنَذْكُر الْآن: هَل المُرَاد من الْحمل التَّمْلِيك أَو
التحبيس. قَوْله: (فَهُوَ كالعمرى) ، أَي: فَحكمه كَحكم
الْعُمْرَى، وَحكم الصَّدَقَة يَعْنِي: لَا رُجُوع فِيهِ
كَمَا لَا رُجُوع فِي الْعُمْرَى وَالصَّدَََقَة، أما
الْعُمْرَى فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أعمر
عمرى فَهِيَ للمعمَر لَهُ ولورثته من بعده) ، وَأما
الصَّدَقَة فَإِنَّهُ يُرَاد بهَا وَجه الله تَعَالَى
فَتَقَع جَمِيع الْعين لله تَعَالَى، وَإِنَّمَا تصير
للْفَقِير نِيَابَة عَن الله تَعَالَى، بِحكم الرزق
الْمَوْعُود فَلَا يبْقى مَحل للرُّجُوع، وَلَكِن إِطْلَاق
التَّرْجَمَة لَا يساعد مَا ذهب إِلَيْهِ البُخَارِيّ،
لِأَن المُرَاد بِالْحملِ على الْفرس إِن كَانَ بقوله:
هُوَ لَك، يكون تَمْلِيكًا. قَالَ ابْن بطال: فَهُوَ
كالصدقة، فَإِذا قبضهَا لم يجز الرُّجُوع فِيهَا، وَإِن
كَانَ مُرَاده التحبيس فِي سَبِيل الله قَالَ ابْن بطال:
هُوَ كالوقف لَا يجوز الرُّجُوع فِيهِ عِنْد الْجُمْهُور،
وَعَن أبي حنيفَة: إِن الْحَبْس بَاطِل فِي كل شَيْء،
قَالَ الدَّاودِيّ قَول البُخَارِيّ: هُوَ كالعمرى
وَالصَّدَََقَة تحكم بِغَيْر تَأمل، وَقَول من ذكر من
النَّاس أصح لأَنهم يَقُولُونَ: الْمُسلمُونَ على شروطهم.
قلت: عِنْد الْحَنَفِيَّة قَول الرجل: حَملتك على هَذَا
الْفرس لَا يكون هبة إلاَّ بِالنِّيَّةِ، لِأَن الْحمل
هُوَ الإركاب حَقِيقَة فَيكون عَارِية، وَلكنه يحْتَمل
الْهِبَة، يُقَال: حمل الْأَمِير فلَانا على الْفرس
مَعْنَاهُ ملكه إِيَّاه، فَيحمل على التَّمْلِيك عِنْد
نِيَّته لِأَنَّهُ نوى مَا يحْتَملهُ لَفظه، وَفِيه
تَشْدِيد عَلَيْهِ، فَتعْتَبر نِيَّته. وَأما قَول أبي
حنيفَة: أَن الْحَبْس بَاطِل لَيْسَ فِي شَيْء معِين،
وَإِنَّمَا هُوَ عَام، كَمَا قَالَ ابْن بطال نَاقِلا
عَنهُ: إِن الْحَبْس بَاطِل فِي كل شَيْء، وَلَيْسَ هُوَ
مُنْفَردا بِهَذَا القَوْل، وَقد قَالَ شُرَيْح القَاضِي
بذلك قبله.
وَقَالَ بعْضُ النَّاسِ لَهُ أنْ يَرْجِعَ فِيها
أَرَادَ بِهَذَا الْبَعْض أَبَا حنيفَة، وَإِنَّمَا قَالَ
لَهُ أَن يرجع فِيهَا لأَنا قد ذكرنَا أَنه إِن أَرَادَ
بِالْحملِ التحبيس يكون وَقفا، وَالْوَقْف غير لَازم
عِنْده، وَإِطْلَاق البُخَارِيّ كَلَامه، وَنسبَة جَوَاز
الرُّجُوع إِلَى أبي حنيفَة فِي هَذِه الصُّورَة خَاصَّة
لَيْسَ وَاقعا فِي مَحَله لِأَنَّهُ يرى بِبُطْلَان
الْوَقْف الْغَيْر الْمَحْكُوم بِهِ، وَيرى جَوَاز رُجُوع
الْوَاهِب عَن هِبته إلاَّ فِي مَوَاضِع مُعينَة، كَمَا
عرف فِي كتب الْفِقْه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: خَالف فِيهِ
أَي: فِي حكم حمل الرجل على فرس وَجعل الْحَبْس بَاطِلا،
وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ بعض النَّاس لَهُ
أَن يرجع فِيهَا، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ. قلت: لَا نسلم
أَن الحَدِيث يرد عَلَيْهِ، لِأَن معنى الْحمل عِنْده مَا
ذَكرْنَاهُ عَن قريب أَنه عَارِية، والخصم أَيْضا يَقُول:
إِن للْمُعِير أَن يرجع فِي عاريته.
6362 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ أخبرنَا سُفْيَانُ
قَالَ سَمِعْتُ مالِكاً يَسْألُ زَيْدَ بنَ أسْلَمَ قَالَ
سَمِعْتُ أبي يقُولُ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ حَمَلْتُ على فَرَسٍ فِي سَبيلِ الله فرَأيْتُهُ
يباعُ فَسألْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ لاَ تَشْتَرِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ..
قيل مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حملت على فرس فِي
سَبِيل الله) ورد عَلَيْهِ بِأَن هَذَا بعيد، وَالْمرَاد
من الحَدِيث عدم عود الرجل إِلَى صدقته، والْحَدِيث مضى
عَن قريب فِي: بَاب لَا يحل لأحد أَن يرجع فِي هِبته
وصدقته، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَقَالَ
الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون فِيهِ أَنه قد أخرجه من ملكه
لوجه الله تَعَالَى، وَكَانَ فِي نَفسه مِنْهُ شَيْء
فأشفق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يفْسد نِيَّته ويحبط
أجره، فَنَهَاهُ عَنهُ وَشبهه بِالْعودِ فِي صدقته، وَإِن
كَانَ بِالثّمن، وَهَذَا كتحريمه على الْمُهَاجِرين معاودة
دَارهم بِمَكَّة، قَالَ: وَإِمَّا إِذا تصدق بالشَّيْء لَا
على سَبِيل الإحباس على أَصله، بل على سَبِيل الْبر
وَالصَّدَََقَة فَإِنَّهُ يجرى مجْرى الْهِبَة، وَلَا
بَأْس عَلَيْهِ فِي ابتياعه من صَاحبه، وَالله أعلم.
(13/190)
|