عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ
25 - (كتابُ الشَّهاَداتِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الشَّهَادَات، وَهُوَ
جمع شَهَادَة، وَهُوَ مصدر من: شهد يشْهد. قَالَ
الْجَوْهَرِي: خبر قَاطع والمشاهدة المعاينة مَأْخُوذَة من
الشُّهُود أَي الْحُضُور، لِأَن الشَّاهِد مشَاهد لما
غَابَ عَن غَيره، وَقَالَ أَصْحَابنَا: معنى الشَّهَادَة
الْحُضُور، وَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَاقِعَة) ، أَي: حضرها
وَالشَّاهِد أَيْضا يحضر مجْلِس القَاضِي ومجلس
الْوَاقِعَة، وَمَعْنَاهَا شرعا: إِخْبَار عَن مُشَاهدَة
وعيان لَا عَن تخمين وحسبان، وَفِي (التَّوْضِيح) : هَذَا
الْكتاب أَخّرهُ ابْن بطال إِلَى مَا بعد النَّفَقَات،
وَقدم عَلَيْهِ الْأَنْكِحَة، وَالَّذِي فِي الْأُصُول
والشروح (كشرح ابْن التِّين) وشيوخنا مَا فَعَلْنَاهُ،
يَعْنِي ذكرهم هَذَا الْكتاب هَهُنَا.
1 - (بابُ مَا جاءَ فِي البَيِّنَةِ على المُدَّعِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من نَص الْقُرْآن
أَن الْبَيِّنَة تتَعَيَّن على الْمُدَّعِي، وَهَذِه
التَّرْجَمَة هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَسقط لبَعْضهِم لفظ: بَاب، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ
وَابْن شبويه: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مَوْجُودَة
قبل لفظ الْكتاب، وَفِي بضع النّسخ، بَاب مَا جَاءَ فِي
الْبَيِّنَة على الْمُدعى.
لِقَوْلِ تَعَالى {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
تدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أجَلٍ مُسَمَّى فاكْتُبُوهُ
ولْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بالعَدْلِ وَلَا يَأبَ
كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ الله فلْيَكْتُبْ
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ الله
ربَّهُ ولاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيئاً فإنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أوْ ضَعِيفاً أوْ لاَ
يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ
بالعَدْلِ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ
فإنْ لَمْ يَكونا رجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتَانِ مَمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ
أنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأخراى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا وَلَا
تَسْأمُوا أنْ تكْتُبُوهُ صَغِيراً أوْ كَبِيراً إِلَى
أجَلِهِ ذالِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ الله وأقْوَمُ
لِلشَّهَادَةِ وأدْناى أنْ لاَ تَرْتَابُوا إلاَّ أنْ
تَكُونَ تِجَارَةٌ حاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أنْ لَا تَكْتُبُوها وأشْهِدُوا
إذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ
وإنْ تَفْعَلُوا فإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتَّقُوا الله
ويُعَلِّمُكُمْ الله وَالله بكُلِّ شَيْءٍ علِيمٌ}
(الْبَقَرَة: 282) . وقَوْلِهِ تعَالى: {يَا أيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ
لله ولَوْ عَلَى أنْفُسِكُمْ أوِ الوالِدَيْنِ
والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَو فقِيراً فَالله
أوْلاى بِهما فَلا تَتَّبِعُوا الهَواى أنْ تَعْدِلُوا
وأنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنَّ الله كانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النِّسَاء: 531) .
لم يذكر فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا اكْتِفَاء بِذكر
الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: أما، إِشَارَة إِلَى
الحَدِيث الْمَاضِي قَرِيبا من ذَلِك فِي آخر: بَاب
الرَّهْن. قلت: الَّذِي فِي آخر: بَاب الرَّهْن، هُوَ
حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قضى أَن الْيَمين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ،
وَحَدِيث عبد الله فِيهِ: شَاهِدَاك أَو يَمِينه، وَهَذَا
الْوَجْه فِيهِ بعد لَا يخفى. ثمَّ وَجه الِاسْتِدْلَال
بِالْآيَةِ للتَّرْجَمَة أَنه لَو كَانَ القَوْل قَول
الْمُدعى من غير بَيِّنَة لما احْتِيجَ إِلَى الْكِتَابَة
والإملاء، وَالْإِشْهَاد عَلَيْهِ، فَلَمَّا احْتِيجَ
إِلَيْهِ دلّ على أَن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي،
وَقَالَ ابْن بطال: الْأَمر بالإملاء يدل على أَن القَوْل
قَول من عَلَيْهِ الشَّيْء، وَأَيْضًا أَنه يَقْتَضِي
تَصْدِيقه فِيمَا عَلَيْهِ، فَالْبَيِّنَة على مدعي
تَكْذِيبه، وَأما الْآيَة الْأُخْرَى فَوجه الدّلَالَة:
أَن الله تَعَالَى قد أَخذ عَلَيْهِ أَن يقر بِالْحَقِّ
على نَفسه، فَالْقَوْل قَول الْمُدعى عَلَيْهِ
(13/191)
فَإِذا كذبه الْمُدَّعِي فَعَلَيهِ
الْبَيِّنَة، وَآيَة المداينة أطول آيَة فِي الْقُرْآن
الْعَظِيم، وَهِي بِتَمَامِهَا مَكْتُوبَة فِي الْكتاب فِي
رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه إِلَى قَوْله
إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ:
عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم
بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} (الْبَقَرَة: 282) .
قَالَ: نزلت فِي السّلم إِلَى أجل مَعْلُوم. قَوْله: {إِذا
تداينتم بدين} (الْبَقَرَة: 282) . أَي: إِذا تبايعتم
بدين: الدّين مَا كَانَ مُؤَجّلا، وَالْعين مَا كَانَت
حَاضِرَة، يُقَال: دَان فلَان يدين دينا: اسْتقْرض وَصَارَ
عَلَيْهِ دين، وَرجل مديون: كثر مَا عَلَيْهِ من الدّين،
ومديان، بِكَسْر الْمِيم: إِذا كَانَ عَادَته أَن يَأْخُذ
بِالدّينِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْمديَان: الْكثير
الدّين الَّذِي عَلَيْهِ الدُّيُون، وَهُوَ مفعال من
الدّين للْمُبَالَغَة، وَيُقَال للمديون، مَدين أَيْضا.
قَوْله: {إِلَى أجل} (الْبَقَرَة: 282) . الْأَجَل
الْوَقْت الْمُسَمّى الْمَعْلُوم. قَوْله: {فاكتبوه}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: أثبتوه فِي كتاب بَين فِيهِ قدر
الْحق وَالْأَجَل ليرْجع إِلَيْهِ وَقت التَّنَازُع
وَالنِّسْيَان، وَلِأَنَّهُ يحصل مِنْهُ الْحِفْظ
والتوثقة. فَإِن قلت: {فاكتبوه} (الْبَقَرَة: 282) . أَمر
من الله تَعَالَى، وَثَبت فِي (الصَّحِيحَيْنِ) عَن ابْن
عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِنَّا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب) ، فَمَا الْجمع
بَينهمَا؟ قلت: إِن الدّين من حَيْثُ هُوَ غير مفتقر إِلَى
كِتَابَة أصلا لِأَن كتاب الله قد سهل الله حفظه على
النَّاس وَالسّنَن أَيْضا مَحْفُوظَة عَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي أَمر بكتابه إِنَّمَا هُوَ
أَشْيَاء جزئية تقع بَين النَّاس، فَأمروا أَمر إرشاد لَا
أَمر إِيجَاب، كَمَا ذهب إِلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب
الْجُمْهُور، فَإِن كتب فَحسن، وَإِن ترك فَلَا بَأْس.
وَقَالَ أَبُو سعيد وَالشعْبِيّ وَالربيع بن أنس وَالْحسن
وَابْن جريج وَابْن زيد وَآخَرُونَ: كَانَ ذَلِك وَاجِبا
ثمَّ نسخ بقوله: {فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد
الَّذِي اؤتمن أَمَانَته} (الْبَقَرَة: 382) . وَذهب
بَعضهم إِلَى أَنه مُحكم. قَوْله: {وليكتب بَيْنكُم كَاتب
بِالْعَدْلِ} (الْبَقَرَة: 282) . أَي: بِالْحَقِّ
والإنصاف لَا يزِيد فِيهِ وَلَا ينقص وَلَا يقدم الْأَجَل
وَلَا يُؤَخِّرهُ، وَيَنْبَغِي أَن يكون الْكَاتِب فَقِيها
عَالما باخْتلَاف الْعلمَاء، أدبياً مُمَيّزا بَين
الْأَلْفَاظ المتشابهة قَوْله: {وَلَا يأبَ كَاتب}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: لَا يمْتَنع كَمَا أَمر الله
تَعَالَى من الْعدْل، وَيُقَال: وَلَا يمْتَنع من يعرف
الْكِتَابَة إِذا سُئِلَ أَن يكْتب للنَّاس وَلَا ضَرُورَة
عَلَيْهِ فِي ذَلِك، فَكَمَا علمه الله مَا لم يكن يعلم
فليتصدق على غَيره مِمَّن لَا يحسن الْكِتَابَة، كَمَا
جَاءَ فِي الحَدِيث: (إِن الصَّدَقَة أَن تعين صانعاً أَو
تصنع لأخرق) . وَفِي الحَدِيث الآخر: (من كتم علما يُعلمهُ
ألْجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار) . وَقَالَ
مُجَاهِد وَعَطَاء: وَاجِب على الْكَاتِب أَن يكْتب.
قَوْله: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة:
282) . الإملال والإملاء لُغَتَانِ جَاءَ بهما الْقُرْآن،
قَالَ تَعَالَى: {فَهِيَ تملي عَلَيْهِ} (الْفرْقَان: 5) .
وَقَالَ: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة:
282) . يقر على نَفسه بِمَا عَلَيْهِ وَلَا ينقص من الْحق
شَيْئا. قَالَ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: ظَاهر
قَوْله عز وَجل: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق}
(الْبَقَرَة: 282) . يدل على أَن القَوْل قَول من عَلَيْهِ
الشَّيْء، وَقَالَ غَيره: لِأَن الله تَعَالَى حِين أمره
بالإملاء اقْتضى تَصْدِيقه فِيمَا عَلَيْهِ، فَإِذا كَانَ
مُصدقا فَالْبَيِّنَة على من يَدعِي تَكْذِيبه. قَوْله:
{فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها}
(الْبَقَرَة: 282) أَي: مَحْجُورا عَلَيْهِ بتبذير
وَنَحْوه، وَقيل: سَفِيها: أَي: جَاهِلا بالإملاء أَو
طفْلا صَغِيرا. قَوْله: {أَو ضَعِيفا} أَي: عَاجِزا عَن
مَصَالِحه، وَيُقَال: أَي: صَغِيرا أَو مَجْنُونا. قَوْله:
{أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ} (الْبَقَرَة: 282) .
إِمَّا بالعي أَو الخرس أَو العجمة أَو الْجَهْل بِموضع
صَوَاب ذَلِك من خطائه. قَوْله: {فليملل وليه}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: من يقوم مقَامه، وَقيل: هُوَ
صَاحب الدّين يملي دينه، وَالْأول أصح لِأَن فِي الثَّانِي
رِيبَة. قَوْله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: من أهل ملتكم من الْأَحْرَار
الْبَالِغين، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَأَجَازَ
شُرَيْح وَابْن سِيرِين شَهَادَة العَبْد، وَهَذَا قَول
أنس بن مَالك، وَأَجَازَ بَعضهم شَهَادَته فِي الشَّيْء
التافه، وَإِنَّمَا أَمر بِالْإِشْهَادِ مَعَ الْكِتَابَة
لزِيَادَة التوثقة. قَوْله: {فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: فَإِن لم يكن الشَّاهِدَانِ
رجلَيْنِ. قَوْله: {فَرجل وَامْرَأَتَانِ} (الْبَقَرَة:
282) . أَي: فالشاهد رجل، أَو الَّذِي يشْهد رجل
وَامْرَأَتَانِ مَعَه، وأقيمت الْمَرْأَتَانِ مقَام الرجل
لنُقْصَان عقل الْمَرْأَة، كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي
(الصَّحِيح) . قَوْله: {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: مِمَّن كَانَ مرضياً فِي دينه
وأمانته وكفايته، وَفِيه كَلَام كثير مَوْضِعه غير هَذَا.
قَوْله: {أَن تضل إِحْدَاهمَا} (الْبَقَرَة: 282) . قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: وانتصابه على أَنه مفعول لَهُ أَي:
إِرَادَة أَن تضل، وَقَرَأَ حَمْزَة أَن تضل أحداهما، على
الشَّرْط، وَمعنى الضلال هُنَا عبارَة عَن النسْيَان،
وقابل النسْيَان بالتذكر لِأَنَّهُ يعادله، وقرىء: فَتذكر،
بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وهما لُغَتَانِ. قَوْله:
{وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا} (الْبَقَرَة: 282)
. أَي: لَا يمْتَنع الشُّهُود إِذا مَا طلبُوا لتحمل
الشَّهَادَة، وإثباتها فِي الْكتاب، وَقيل: لإقامتها
وأدائها عِنْد الْحَاكِم، وَقيل: للتحمل وَالْأَدَاء
جَمِيعًا، وَهَذَا أَمر ندب، وَقيل: فرض كِفَايَة، وَقيل:
فرض عين، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَالربيع،
(13/192)
وَقَالَ مُجَاهِد وَأَبُو مجلز وَغير
وَاحِد: إِذا دعيت لتشهد فَأَنت بِالْخِيَارِ، وَإِذا
شهِدت فَدُعِيت فأجب. قَوْله: {وَلَا تساموا} (الْبَقَرَة:
282) . أَي: وَلَا تضجروا {أَن تكتبوه صَغِيرا أَو
كَبِيرا} أَي: قَلِيلا كَانَ المَال أَو كثيرا. قَوْله
{إِلَى أَجله} أَي إِلَى وقته
قَوْله: {ذَلِكُم} (الْبَقَرَة: 282) . إِشَارَة إِلَى أَن
تكتبوه، لِأَنَّهُ فِي معنى الْمصدر أَي: ذَلِكُم الْكتب.
قَوْله: {أقسط} (الْبَقَرَة: 282) . أَي: أعدل {وأقوم
للشَّهَادَة} (الْبَقَرَة: 282) . أَي: أعون على إِقَامَة
الشَّهَادَة. قَوْله: {وَأدنى أَن لَا ترتابوا}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: أقرب من انْتِفَاء الريب فِي
مبلغ الْحق وَالْأَجَل. قَوْله: {إلاَّ أَن تكون تِجَارَة}
(الْبَقَرَة: 282) . اسْتثِْنَاء من الاستشهاد
وَالْكِتَابَة و {تِجَارَة حَاضِرَة} (الْبَقَرَة: 282) .
بِالرَّفْع على أَن: كَانَ، التَّامَّة. وَقيل: هِيَ
النَّاقِصَة على أَن الِاسْم: تِجَارَة حَاضِرَة،
وَالْخَبَر: (تديرونها) وقرىء بِالنّصب على أَن تكون
التِّجَارَة تِجَارَة حَاضِرَة، وَمعنى: حَاضِرَة يدا بيد
تديرونها بَيْنكُم، وَلَيْسَ فِيهَا أجل، وَلَا نَسِيئَة.
وأباح الله ترك الْكِتَابَة فِيهَا لعدم الْخَوْف فِيهِ من
التَّأْجِيل. قَوْله: {جنَاح} (الْبَقَرَة: 282) . أَي:
حرج. قَوْله: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} (الْبَقَرَة: 282)
. إِذا كَانَ فِيهِ أجل أَو لم يكن فأشهدوا على حقكم على
كل حَال، وَرُوِيَ عَن جَابر بن زيد وَمُجاهد وَعَطَاء
وَالضَّحَّاك نَحْو ذَلِك. وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْحسن:
هَذَا الْأَمر مَنْسُوخ بقوله: {فَإِن أَمن بَعْضكُم
بَعْضًا} (الْبَقَرَة: 382) . وَهَذَا الْأَمر مَحْمُول
عِنْد الْجُمْهُور على الْإِرْشَاد وَالنَّدْب لَا على
الْوُجُوب. قَوْله: {وَلَا يضار كَاتب} (الْبَقَرَة: 282)
. وَهُوَ أَن يزِيد أَو ينقص أَو يحرف أَو يشْهد بِمَا لم
يستشهد، أَو يمْتَنع عَن إِقَامَة الشَّهَادَة، وَقيل: أَن
يمْتَنع الْكَاتِب أَن يكْتب وَالشَّاهِد أَن يشْهد،
وَقيل: أَن يدعوهما وهما مشغولان، وَقيل: أَن يدعى
الْكَاتِب أَن يكْتب الْبَاطِل وَالشَّاهِد أَن يشْهد
بالزور. قَوْله: {وَإِن تَفعلُوا} (الْبَقَرَة: 282) .
يَعْنِي: مَا نهيتم عَنهُ. قَوْله: {فَإِنَّهُ فسوق بكم}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: خُرُوج عَن الْأَمر. قَوْله:
{وَاتَّقوا الله} (الْبَقَرَة: 282) . أَي: خافوه وراقبوه
وَاتبعُوا أمره واتركوا زواجره. قَوْله: {ويعلمكم الله}
(الْبَقَرَة: 282) . أَي: بشرائع دينه {وَالله بِكُل شَيْء
عليم} (الْبَقَرَة: 282) . أَي: عَالم بحقائق الْأُمُور
ومصالحها وعواقبها وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من
الْأَشْيَاء، بل علمه مُحِيط بِجَمِيعِ الكائنات. قَوْله:
(وَقَول الله عز وَجل) ، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: لقولِ
الله تَعَالَى. قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا
قوامين بِالْقِسْطِ} (النِّسَاء: 531) . الْآيَة فِي
سُورَة النِّسَاء، قَوْله: {بِالْقِسْطِ} (النِّسَاء: 531)
. أَي: بِالْعَدْلِ، فَلَا تعدلوا عَنهُ يَمِينا وَلَا
شمالاً وَأَن لَا يأخذكم فِي الْحق لومة لائم. قَوْله:
{شُهَدَاء لله} (النِّسَاء: 531) . تقيمون شهاداتكم لوجه
الله كَمَا أمرْتُم بإقامتها. قَوْله: {وَلَو على
أَنفسكُم} (النِّسَاء: 531) . أَي: وَلَو كَانَت
الشَّهَادَة على أَنفسكُم، أَي: إشهد بِالْحَقِّ وَلَو
عَاد ضررك عَلَيْك، إِذا سُئِلت عَن الْأَمر قل الْحق
فِيهِ، وَإِن كَانَت مضرَّة عَلَيْك، فَإِن الله
سُبْحَانَهُ سَيجْعَلُ لمن أطاعه فرجا ومخرجاً من كل أَمر
يضيق عَلَيْهِ، وَقيل: معنى الشَّهَادَة على نَفسه هِيَ
الْإِقْرَار على نَفسه، لِأَنَّهُ فِي معنى الشَّهَادَة
عَلَيْهَا بإلزام الْحق لَهَا. قَوْله: {أَو الْوَالِدين
والأقربين} (النِّسَاء: 531) . أَي: وَإِن كَانَت
الشَّهَادَة عَلَيْهِم فَلَا تراعوهم، بل اشْهَدُوا
بِالْحَقِّ وَإِن عَاد ضررها عَلَيْهِم، فَالْحق حَاكم
عَلَيْهِم وعَلى كل أحد. قَوْله: {وَإِن يكن غَنِيا} أَي:
إِن يكن الْمَشْهُود عَلَيْهِ غَنِيا لَا ترعوه لغناه أَو
يكن فَقِيرا لَا تشفقوا عَلَيْهِ لفقره، فَالله أولى بهما
مِنْكُم وَأعلم بِمَا فِيهِ صلاحهما. قَوْله: {فَلَا
تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا} (النِّسَاء: 531) . أَي:
كَرَاهَة أَن تعدلوا، أَو إِرَادَة أَن تعدلوا، على
اعْتِبَار الْعدْل والعدول. قَوْله: {وَإِن تلووا} من
اللي، وَهُوَ التحريف وتعمد الْكَذِب أَي: وَإِن تلووا
أَلْسِنَتكُم عَن شَهَادَة الْحق أَو تعرضوا عَن
الشَّهَادَة بِمَا عنْدكُمْ وتمنعوها فَإِن الله كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا بمجازاتكم عَلَيْهِ.
2 - (بابٌ إذَا عَدَّلَ رجُلٌ أحَداً فَقَالَ لَا نَعْلَمُ
إلاَّ خيرا أوْ قَالَ مَا عَلِمْتُ إلاَّ خيْراً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا عدل رجل أحدا، وَقَوله:
أحدا، هُوَ الْكشميهني رِوَايَة، وَفِي رِوَايَة غَيره:
إِذا عدل رجل رجلا، وَعدل، بتَشْديد الدَّال: من
التَّعْدِيل. قَوْله: فَقَالَ: أَي: الْمعدل، لَا نعلم
إلاَّ خيرا أَو: مَا علمت إلاَّ خيرا، وَلم يذكر جَوَاب
إِذا الَّذِي هُوَ حكم الْمَسْأَلَة لأجل الْخلاف، وروى
الطَّحَاوِيّ عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ ذَلِك قبلت
شَهَادَته، وَلم يذكر خلافًا عَن الْكُوفِيّين فِي ذَلِك،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْإِفْك على مَا يَأْتِي حَدِيث
الْإِفْك، وَعَن مُحَمَّد: لَا بُد أَن يَقُول الْمعدل
هُوَ عدل جَائِز الشَّهَادَة، وَالأَصَح أَنه يَكْتَفِي
بقوله هُوَ عدل، وَذكر ابْن التِّين عَن ابْن عمر أَنه
كَانَ إِذا أنعم مدح الرجل، قَالَ: مَا علمنَا إلاَّ خيرا،
وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه أنكر أَن يكون قَوْله:
لَا أعلم إلاَّ خيرا، تَزْكِيَة، وَقَالَ: لَا يكون
تَزْكِيَة حَتَّى يَقُول رضَا، وَأرَاهُ عدلا رضَا. وَذكر
الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي، قَالَ: لَا تقبل فِي
التَّعْدِيل إلاَّ أَن يَقُول: عدل عَليّ ولي، ثمَّ لَا
يقبله حَتَّى يسْأَله عَن مَعْرفَته، فَإِن كَانَ يعرف
حَاله الْبَاطِنَة يقبل، وإلاَّ لم يقبل ذَلِك، وَفِي
(التَّوْضِيح) : وَالأَصَح عندنَا يَعْنِي الشَّافِعِيَّة
أَنه يَكْفِي أَن يَقُول: هُوَ عدل، وَلَا يشْتَرط: عَليّ
ولي.
(13/193)
7362 - حدَّثنا حَجَّاجٌ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ قَالَ حدَّثنا
ثَوْبَانُ وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يونُسُ عنِ ابنِ
شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ وابنُ
المُسَيَّبِ وعَلْقَمَةُ بنُ وقَّاص وعُبَيْدُ الله بنُ
عَبْدِ الله عنْ حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا وبعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصدِّقُ بَعْضاً حينَ قَالَ
لَها أهل الْإِفْك مَا قَالُوا فدعى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عليا وَأُسَامَة حِين استليت الْوَحْي
يستأمرها فِي فِرَاق أَهله فأمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ
أهلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إلاَّ خَيْراً وقالتْ بَريرَةُ إنْ
رأيْتَ علَيْها أمْراً أغْمِصُهُ أكثَرَ مِنْ أنَّها
جارِيةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنامُ عنْ عَجِينِ أهْلِهَا
فَتأتِي الدَّاجُن فتَأْكُلُهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ يَعْذِرُنا فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي
أذاهُ فِي أهْلِ بَيْتِي فَوالله مَا عَلِمْتُ مِنْ أهْلِي
إلاَّ خيْراً ولَقدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ
عَلَيْهِ إلاَّ خَيْراً..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا نعلم إِلَّا
خيرا) وَرِجَاله: حجاج بن الْمنْهَال، وَفِي بعض النّسخ
مَذْكُور باسم أَبِيه، وَعبد الله ابْن عمر بن غَانِم
النميري، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وبالراء. قَالَ فِي (تَهْذِيب الْكَمَال) :
روى عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي وَيزِيد الرقاشِي
وَثَّقَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ ابْن مَنْدَه: نزل
أفريقية، وَذكره مُصَنف (رجال الصَّحِيحَيْنِ) : من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَبَقِيَّة الرِّجَال مَشْهُورُونَ،
وَعبيد الله بن عبد الله بن ععتبة. وَفِيه: رِوَايَة
التابعة عَن أَرْبَعَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع فِي
الشَّهَادَات أَيْضا عَن أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن
دَاوُد، وَفِي الْمَغَازِي وَفِي التَّفْسِير وَفِي
الْإِيمَان وَالنُّذُور وَفِي الِاعْتِصَام عَن عبد
الْعَزِيز بن عبد الله وَفِي الْجِهَاد وَفِي التَّوْحِيد
وَفِي الشَّهَادَات وَفِي الْمَغَازِي وَفِي التَّفْسِير
وَفِي الْإِيمَان وَالنُّذُور أَيْضا عَن الْحجَّاج، وَفِي
التَّوْحِيد أَيْضا عَن يحيى بن بكير، وَأخرجه مُسلم فِي
التَّوْبَة عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي بِهِ، وَعَن حبَان
بن مُوسَى وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد وَعَن
إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن رَافع وَعبد بن حميد،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن أبي دَاوُد
سُلَيْمَان بن سيف الْحَرَّانِي وَفِي التَّفْسِير عَن
مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه البُخَارِيّ هُنَا
مُخْتَصرا، وَلم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: لَا، إِلَى
قَوْله: (وَلَا نعلم إلاَّ خيرا) ، وَفِيه عَن اللَّيْث
مُعَلّقا وَهُوَ قَوْله: وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي
يُونُس، وَوَصله فِي كتاب التَّفْسِير: عَن يحيى بن بكير
عَن اللَّيْث عَن يُونُس ... إِلَى آخِره، على مَا
سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (وَبَعض حَدِيثهمْ) مُبْتَدأ وَقَوله: (يصدق
بَعْضًا) خَبره وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (أهل
الْإِفْك) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْفَاء، والإفك فِي
الأَصْل: الْكَذِب، وَأَرَادُوا بِهِ هَهُنَا: مَا كذب على
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مِمَّا رميت بِهِ.
قَوْله: (استلبث) استفعل من اللّّبْث وَهُوَ الإبطاء
والتأخر، يُقَال: لبث يلبث لبثاً بِسُكُون الْبَاء وَقد
يفتح، وَيُقَال: اللّّبْث، بِفَتْح اللَّام الإسم، وبالضم:
الْمصدر. قَوْله: (يستأمرهما) أَي: يشاورهما. قَوْله:
(فَقَالَ: أهلك) أَي: فَقَالَ أُسَامَة: أهلك بِالنّصب
أَي: إلزم أهلك، وَيجوز بِالرَّفْع أَي: هِيَ أهلك أَو
أهلك غير مطعون عَلَيْهِ، وَنَحْوه. قَوْله: (بَرِيرَة) ،
هِيَ مولاة عَائِشَة. قَوْله: (إِن رَأَيْت عَلَيْهَا)
أَي: مَا رَأَيْت عَلَيْهَا، كلمة: إِن، النافية بِمَعْنى:
مَا، للنَّفْي. قَوْله: (أغمصه) ، بالغين الْمُعْجَمَة
وَالصَّاد الْمُهْملَة أَي: أعيبها بِهِ ويطعن بِهِ
عَلَيْهَا، يُقَال: أغمصه فلَان: إِذا استصغره وَلم يره
شَيْئا، وغمصت عَلَيْهِ قولا أَي: أعيبه عَلَيْهِ. قَوْله:
(الدَّاجِن) بِالدَّال الْمُهْملَة وَكسر الْجِيم: هُوَ
شَاة ألفت الْبيُوت واستأنست، وَمن الْعَرَب من يَقُولهَا
بِالْهَاءِ، وَسَيَأْتِي تَمام الْكَلَام عَن قريب بعد:
أَبُو أَيُّوب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
3 - (بابُ شَهَادَةِ الْمُخْتَبِي)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شَهَادَة المختبي،
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: المختفي عِنْد التَّحَمُّل،
تَقْدِيره: هَل تجوز أم لَا؟ ثمَّ ذكره بقوله:
وأجازَهُ عَمْرُو بنُ حُرَيْثٍ
أَي: أجَاز الإختباء عِنْد تحمل الشَّهَادَة عَمْرو بن
حُرَيْث، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالمثلثة: ابْن
عَمْرو بن عُثْمَان بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم
المَخْزُومِي من صغَار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، ولأبيه صُحْبَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ
ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَهَذَا
(13/194)
التَّعْلِيق رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من
حَدِيث سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا هشيم أَنبأَنَا
الشَّيْبَانِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الله الثَّقَفِيّ أَن
عَمْرو بن حُرَيْث كَانَ يُجِيز شَهَادَته، يَعْنِي:
المختبيء، وَيَقُول: كَذَا يفعل بالخائن والفاجر.
قَالَ وكذالِكَ يُفْعَلُ بالْكَاذِبِ الفاجِرِ
أَي: قَالَ عَمْرو بن حُرَيْث: كَذَلِك، أَي: بالاختبار
عِنْد تحمل الشَّهَادَة، يفعل بِسَبَب الْكَاذِب
الْفَاجِر، وَأَرَادَ بِهِ: الْمَدْيُون الَّذِي لَا
يعْتَرف بِالدّينِ ظَاهرا ثمَّ يختلي بِهِ الدَّائِن فِي
مَوضِع، وَقد كَانَ أخْفى فِيهِ من يسمع إِقْرَاره
بِالدّينِ، فَإِذا شهد بذلك بعد ذَلِك يسمع عِنْد عمر،
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد وَابْن أبي ليلى
وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق، وَرُوِيَ عَن شُرَيْح
وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ أَنهم كَانُوا لَا يجيزون
شَهَادَة المختبيء، وَقَالُوا: إِنَّه لَيْسَ بِعدْل حِين
اختفى مِمَّن يشْهد عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم.
وَقَالَ الشُّعَبِيُّ وابنُ سِيرينَ وعَطاءٌ وقَتادَةُ
السَّمْعُ شَهادةٌ
يَعْنِي: إِذا سمع من أحد شَيْئا وَلم يشهده عَلَيْهِ يسمع
شَهَادَته عِنْد عَامر الشّعبِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين
وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة ابْن دعامة، وَتَعْلِيق
الشّعبِيّ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مطرف عَنهُ
بِهِ، وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يجوز شَهَادَة
السّمع إِذا قَالَ: سمعته يَقُول، وَإِن لم يشهده، وَكَذَا
روى عَن عُبَيْدَة وَإِبْرَاهِيم قَالَا: شَهَادَة السّمع
جَائِزَة. قَالَ الطَّحَاوِيّ فِي (مُخْتَصره) : يجوز
للرجل أَن شهد بِمَا سمع إِذا كَانَ معايناً لمن سَمعه
مِنْهُ وَإِن لم يشهده على ذَلِك. فَإِن قلت: قد مر أَن
الشّعبِيّ لَا يُجِيز شَهَادَة المختبيء، وَقَوله: السّمع
شَهَادَة يُعَارضهُ؟ قلت: لاحْتِمَال أَن فِي شَهَادَة
المختبيء مخادعة، وَلَا يلْزم من ذَلِك رد شَهَادَة السّمع
من غير قصد، وَعَن مَالك نَظِيره، وَهُوَ أَنه قَالَ:
الْحِرْص على تحمل الشَّهَادَة قَادِح فَإِن اختفى ليشهد
فَهُوَ حرص.
وَقَالَ الحَسَنُ يَقُولُ لَمْ يُشْهِدُوني على شَيْءٍ
وإنِّي سَمِعْتُ كذَا وكَذَا
تَعْلِيق الْحسن الْبَصْرِيّ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن
حَاتِم بن وردان عَن يُونُس عَن الْحسن، قَالَ: لَو أَن
رجلا سمع من قوم شَيْئا فَإِنَّهُ يَأْتِي القَاضِي
فَيَقُول: لم يشهدوني، وَلَكِنِّي سَمِعت كَذَا وَكَذَا.
8362 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سالِمٌ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ انْطَلَقَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأُبَيُّ بنُ كعْبٍ
الأنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهاابنُ
صَيَّادٍ حتَّى إذَا دَخلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم طَفِقَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَّقي
بِجُذُوعِ النَّخْلِ وهْوَ يَخْتِلُ أنْ يَسْمَعَ مِنِ
ابنِ صيَّادٍ شَيْئاً قَبْلَ أنْ يَراهُ وابْنُ صيَّادٍ
مُضْطَجِعٌ على فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا
رَمْرَمةٌ أوْ زَمْزَمَةٌ فَرأتْ أُمُّ ابنِ صَيَّادٍ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ يَتَّقِي بجُذُوعِ
النَّخْلِ فقالتْ لابْنِ صَيَّادٍ أيْ صافِ هَذَا
مُحَمَّدٌ فَتَنَاهاى ابنُ صيَّادٍ قَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَهُوَ يخْتل
أَن يسمع من ابْن صياد شَيْئا قبل أَن يرَاهُ) .
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب إِذا أسلم
الصَّبِي فَمَاتَ هَل يصلى عَلَيْهِ؟ فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ قَالَ: أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله أَن ابْن
عمر أخبرهُ ... إِلَى آخِره بأتم مِنْهُ. وَأخرجه هُنَا
عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي
حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى
آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَنَذْكُر بعض شَيْء لبعد الْعَهْد مِنْهُ.
قَوْله: (يؤمان) ، أَي: يقصدان. قَوْله: (طفقَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، بِكَسْر الْفَاء، من
أَفعَال المقاربة، مَعْنَاهُ: أَخذ فِي الْفِعْل وَجعل
يفعل. قَوْله: (يَتَّقِي) ، خبر: طفق. قَوْله: (وَهُوَ
يخْتل) ، جملَة وَقعت حَالا، وَهُوَ بِكَسْر التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق
(13/195)
أَي: يطْلب ابْن صياد مستغفلاً لَهُ ليسمع
شَيْئا من كَلَامه الَّذِي يتَكَلَّم بِهِ فِي خلوته،
حَتَّى يظْهر للصحابة أَنه كَاهِن، وأصل الختل الخدع،
يُقَال: ختله يختله: إِذا خدعه وراوغه، وختل الذِّئْب
الصَّيْد إِذا اختفى لَهُ. قَوْله: (فِي قطيفة) هِيَ:
كسَاء مخمل. قَوْله: (رمرمة) ، بالراءين، وَهُوَ الصَّوْت
الْخَفي. قَوْله: (أَو زمزمة) شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ
بالزايين المعجمتين. قَوْله: (أَي صَاف) ، يَعْنِي: يَا
صَاف! وَهُوَ بالصَّاد الْمُهْملَة وَالْفَاء المضمومة أَو
الْمَكْسُورَة أَو الساكنة: ابْن صياد. قَوْله: (فتناهى) ،
قَالَ ابْن الْأَثِير: قيل: هُوَ تفَاعل من النَّهْي:
الْعقل، أَي: رَجَعَ إِلَيْهِ عقله وتنبه من غفلته، وَقيل:
هُوَ من الِانْتِهَاء أَي: انْتهى عَن زمزمته. قَوْله:
(لَو تركته بَين) أَي: لَو تركته أمه بِحَيْثُ لَا يعرف
قدوم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يندهش
عَنهُ، بيَّن لكم باخْتلَاف كَلَامه مَا يهون عَلَيْكُم
شَأْنه.
وَقَالَ الْمُهلب: فِيهِ: جَوَاز الاحتيال على المستسرين
فِي جحود الْحق حَتَّى يسمع مِنْهُم مَا يستسرون بِهِ
وَيحكم بِهِ عَلَيْهِم، وَلَكِن بعد أَن يفهم عَنْهُم فهما
حسياً مُبينًا.
9362 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ جاءَتْ امرَأَةُ
رِفاعَةَ القُرَظيِّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فقالتْ كُنْتُ عنْدَ رِفَاعَةَ فَطلقَنِي فأبتَّ طَلاقِي
فتَزوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الزُّبَيْرِ إنَّمَا
معَهُ مِثْلُ هُدْبةِ الثَّوْبِ فَقَالَ أتُرِيدِينَ أنْ
تَرْجِعِي إِلَى رِفاَعَةَ لَا حتَّى تَذُوقِي
عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَأَبُو بَكْرٍ جالِسٌ
عِنْدَهُ وخالدُ بنُ سَعِيدِ بنِ العاصِ بالبَابِ
يَنْتظِرُ أنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَقَالَ يَا أبَا بَكْرِ ألاَ
تَسْمَعُ إلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وخَالِد بن
سعيد) إِلَى آخر الحَدِيث، بَيَان ذَلِك أَن خَالِدا أنكر
على امْرَأَة رِفَاعَة مَا تلفظت بِهِ عِنْد النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُنكر عَلَيْهِ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، على ذَلِك، وَكَانَ إِنْكَار خَالِد
عَلَيْهَا لاعتماده على سَماع صَوتهَا، وَهَذَا هُوَ
حَاصِل مَا يَقع من شَهَادَة السّمع، لِأَن خَالِدا مثل
المختفي عَنْهَا. وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف
بالمسندي، وَقد تكَرر ذكره، وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن
أبي عمر وَإِسْحَاق بن مَنْصُور وَالنَّسَائِيّ فِيهِ وَمن
الطَّلَاق عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن مَاجَه فِي
النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، ستتهم عَن سُفْيَان
بِهِ.
قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة) ، اسْم الْمَرْأَة:
تَمِيمَة بنت وهب، وَلم يَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ
وَلَا فِي رِوَايَة غَيره من مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه تَسْمِيَة امْرَأَة
رِفَاعَة، وَقد سَمَّاهَا مَالك فِي رِوَايَته: تَمِيمَة
بنت وهب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (الِاسْتِيعَاب) :
وَلَا أعلم لَهَا غير قصَّتهَا مَعَ رِفَاعَة بن سموأل
حَدِيث الْعسيلَة من حَدِيث مَالك فِي (الْمُوَطَّأ)
وَكَذَا قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) :
لَهَا ذكر فِي قصَّة رِفَاعَة، وَلَا حَدِيث لَهَا، وَأما
زَوجهَا الأول فَهُوَ رِفَاعَة بن سموأل الْقرظِيّ، من بني
قُرَيْظَة. قَالَ ابْن عبد الْبر: وَيُقَال: رِفَاعَة بن
رفاة، وَهُوَ أحد الْعشْرَة الَّذين فيهم نزلت: {وَلَقَد
وصَّلنا لَهُم القَوْل. .} (الْقَصَص: 15) . الْآيَة،
كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) وَابْن
مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من حَدِيث رِفَاعَة بِإِسْنَاد
صَحِيح، وَأما زَوجهَا الثَّانِي فَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن
الزبير، بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، بِلَا
خلاف ابْن باطا، وَقيل: باطيا، من بني قُرَيْظَة. وَأما
مَا ذكره ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم فِي كِتَابَيْهِمَا
(معرفَة الصَّحَابَة) : أَنه من الْأَنْصَار من الْأَوْس،
ونسباه إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الزبير بن زيد بن أُميَّة
بن زيد بن مَالك بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن
الْأَوْس فَغير جيد، وَقيل: اسْم الْمَرْأَة سهيمة، وَقيل:
الغميصاء، وَقيل: الرميصاء.
قلت: لما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث امْرَأَة رِفَاعَة
الْقرظِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر وَأنس والرميصاء أَو
الغميصاء، فَهَذَا يدل على أَنَّهُمَا غير الْمَرْأَة
الَّتِي تزوجت بِابْن الزبير. أما حَدِيث ابْن عمر
فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ عَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الرجل يكون لَهُ الْمَرْأَة
ثمَّ يطلقهَا، ثمَّ يَتَزَوَّجهَا رجل فيطلقها قبل أَن
يدْخل بهَا، فترجع إِلَى زَوجهَا الأول، قَالَ: (لَا
حَتَّى تذوق الْعسيلَة) . وَأما حَدِيث أنس فَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد بن دِينَار عَن يحيى
بن يزِيد الْهنائِي، قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن رجل
تزوج امْرَأَة
(13/196)
وَكَانَ قد طَلقهَا زَوجهَا أَحْسبهُ قَالَ
ثَلَاثًا فَلم يدْخل بهَا الثَّانِي، فَقَالَ: سُئِلَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: (لَا تحل
لَهُ حَتَّى يَذُوق عسيلتها وتذوق عُسَيْلَته) . وَأما
حَدِيث الرميصاء أَو الغميصاء، فَهُوَ من حَدِيث عَائِشَة
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) بِإِسْنَاد صَحِيح
من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن
أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ للغميصاء:
(لَا، حَتَّى يَذُوق من عُسَيْلَتك وتذوقي من عُسَيْلَته)
.
وروى النَّسَائِيّ بِسَنَد جيد عَن عبد الله بن عَبَّاس
أَن الغميصاء أَو الرميصاء أَتَت النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، تَشْتَكِي زَوجهَا، وَأَنه لَا يصل
إِلَيْهَا، فَلم يلبث أَن جَاءَ زَوجهَا، فَقَالَ: يَا
رَسُول الله إِنَّهَا كَاذِبَة وَهُوَ يصل إِلَيْهَا
وَلكنهَا تُرِيدُ أَن ترجع إِلَى زَوجهَا الأول، فَقَالَ:
(لَيْسَ ذَلِك لَهَا حَتَّى يَذُوق عُسَيْلَته) .
قلت: وَفِي الْبَاب. روى بكر بن مَعْرُوف عَن مقَاتل بن
حَيَّان فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل
لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} (الْبَقَرَة: 032) .
نزلت فِي عَائِشَة بنت عبد الرَّحْمَن بن عتِيك النضري،
كَانَت تَحت رِفَاعَة، يَعْنِي: ابْن وهب، وَهُوَ ابْن
عَمها فَتَزَوجهَا ابْن الزبير ثمَّ طَلقهَا، فَأَتَت
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا
رَسُول الله {إِن زَوجي طَلقنِي قبل أَن يمسني، أفأرجع
إِلَى ابْن عمي؟ فَقَالَ: (لَا، حَتَّى يكون مس) . فَلَبثت
مَا شَاءَ الله ثمَّ أَتَت، فَقَالَت: يَا رَسُول الله}
إِن زَوجي الَّذِي كَانَ تزَوجنِي بعد زَوجي كَانَ مسني،
فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كذبت
بِقَوْلِك الأول فَلَنْ أصدقك فِي الآخر) فَلَبثت،
فَلَمَّا قبض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَت
أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَت: أرجع
إِلَى زَوجي الأول فَإِن الآخر قد مسنى؟ فَقَالَ لَهَا
أَبُو بكر: قد عهِدت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، حِين قَالَ لَك: فَلَا تَرْجِعِي إِلَيْهِ،
فَلَمَّا قبض أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
جَاءَت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن
أتيتني بعد مرَّتك هَذِه لأرجمنك.
قَوْله: (فَبت طَلَاقي) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة
الْمَفْتُوحَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
أَي: قطع قطعا كلياً بتحصيل الْبَيْنُونَة الْكُبْرَى،
وَهَكَذَا رِوَايَة الْجُمْهُور: بت، من الثلاثي
الْمُجَرّد، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَأَبت طَلَاقي،
من الْمَزِيد فِيهِ، وَهِي لُغَة ضَعِيفَة. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي حِكَايَة عَن الْأَصْمَعِي: لَا يُقَال: يبت،
قَالَ: وَقَالَ الْفراء: هما لُغَتَانِ، وَيُقَال: بته
يبته، بِضَم الْبَاء فِي الْمُضَارع وَحكى: يبته،
بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهُوَ شَاذ، وَفِي
رِوَايَة أبي نعيم من حَدِيث ابْن عَبَّاس: كَانَت أُميَّة
بنت الْحَارِث عِنْد عبد الرَّحْمَن بن الزبير فَطلقهَا
ثَلَاثًا ... الحَدِيث، وَهنا صرح بِالثَّلَاثَةِ، وَفِي
رِوَايَة للْبُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: أَن رِفَاعَة
طَلقنِي آخر ثَلَاث تَطْلِيقَات، فَبَان مِنْهُ أَن
الثَّلَاث كَانَت متفرقات، وَأَن المُرَاد بقوله هُنَا:
(فَبت طَلَاقي) هِيَ الطَّلقَة الثَّالِثَة الَّتِي تحصل
بهَا الْبَيْنُونَة الْكُبْرَى. قَوْله: (مثل هدبة
الثَّوْب) ، بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال: وَهِي طرفه
الَّذِي لم ينسج، شبهوها بهدب الْعين وَهُوَ شعر الجفن،
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (فَأخذت هدبة من جلبابها،
فَتَبَسَّمَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
خَالِد: أَلا تزجر هَذِه؟) وَفِيه: (قَالَت عَائِشَة:
وَعَلَيْهَا خمار أَخْضَر فشكت ءليها وأرتها خضرَة بجلدها)
، وَفِيه: (فجَاء ابْن الزبير وَمَعَهُ إبنان لَهُ من
غَيرهَا، فَقَالَت: وَالله مَا لي إِلَيْهِ من ذَنْب،
إلاَّ أَن مَا مَعَه لَيْسَ بأغنى عني من هَذِه) ، وَأخذت
هدبة من ثوبها، فَقَالَ: كذبَت يَا رَسُول الله، إِنِّي
لأنفضها نفض الْأَدِيم وَلكنهَا ناشز تُرِيدُ رِفَاعَة،
فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن
كَانَ ذَلِك لم تحلي لَهُ، أَو لم تصلحي لَهُ حَتَّى
يَذُوق من عُسَيْلَتك) . وَفِي (تَهْذِيب) الْأَزْهَرِي،
قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لامْرَأَة سَأَلت
عَن زوج تزوجته لترجع إِلَى زَوجهَا الأول، فَلم ينتشر
ذكره للإيلاج: (لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته) . وَفِي
(المُصَنّف) عَن عَامر، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (لَا تحل لَهب حَتَّى يهزها هزيز الْبكر)
، وَقَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (لَا تحل
للْأولِ حَتَّى يُجَامِعهَا الثَّانِي وَيدخل بهَا) ،
وَقَالَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
(حَتَّى يسفسفها بِهِ) . قلت: كَأَنَّهُ من: سفسفت الرّيح
التُّرَاب، إِذا أثارته، أَو من السفسفة وَهِي: انتخال
الدَّقِيق، وَنَحْوه. قَوْله: (أَن تَرْجِعِي) ، ويروى:
(أَن ترجعين) ، بالنُّون وَهِي على لُغَة من يرفع الْفِعْل
بعد أَن. قَوْله: (عُسَيْلَته) ، بِضَم الْعين وَفتح
السِّين الْمُهْملَة تَصْغِير عسلة وَفِي الْغسْل
لُغَتَانِ التَّأْنِيث والتذكير، فأنث الْعسيلَة لذَلِك
لِأَن الْمُؤَنَّث يرد إِلَيْهَا الْهَاء إِذا صغر،
كَقَوْلِك: سميسة ويدية، وَقيل: إِنَّمَا أنثه لِأَنَّهُ
أَرَادَ النُّطْفَة، وَضَعفه النَّوَوِيّ لِأَن
الْإِنْزَال لَا يشْتَرط، وَإِنَّمَا هِيَ كِنَايَة عَن
الْجِمَاع، شبه لذته بلذة الْعَسَل وحلاوته. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: صغرت العسلة بِالْهَاءِ لِأَن الْغَالِب على
الْعَسَل التَّأْنِيث. قَالَ: وَيُقَال: إِنَّمَا أنث
لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ العسلة وَهِي الْقطعَة مِنْهُ،
كَمَا يُقَال للقطعة من
(13/197)
الذَّهَب ذهبة: وَالْمرَاد بالعسيلة هُنَا
الْجِمَاع لَا الْإِنْزَال، وَقد جَاءَ ذَلِك مَرْفُوعا من
حَدِيث عَائِشَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (الْعسيلَة: الْجِمَاع) . وَرَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ وَفِي إِسْنَاده أَبُو عبد الْملك القمي
يرويهِ عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة، وَقَالَ ابْن
التِّين: يُرِيد الْوَطْء وحلاوة مَسْلَك الْفرج فِي
الْفرج لَيْسَ المَاء. قَوْله: (وخَالِد بن سعيد بن
الْعَاصِ) بن أُميَّة بن عبد شمس بن عب منَاف بن قصي
الْقرشِي الْأمَوِي، يكنى: أَبَا سعيد: أسلم قَدِيما،
يُقَال: إِنَّه أسلم بعد أبي بكر الصّديق فَكَانَ ثَالِثا
أَو رَابِعا. وَقيل: كَانَ خَامِسًا. وَقَالَ ضَمرَة بن
ربيعَة: كَانَ إِسْلَام خَالِد مَعَ إِسْلَام أبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهَاجَر إِلَى الْحَبَشَة
وَقدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
غَزْوَة خَيْبَر وَبَعثه على صدقَات الْيمن، فَتوفي رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِالْيمن، قتل بمرج
الصفر فِي الْوَقْعَة بِهِ سنة أَربع عشرَة فِي صدر
خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: بل كَانَ
قَتله فِي وقْعَة أجنادين بِالشَّام قبل وَفَاة أبي بكر
بِأَرْبَع وَعشْرين لَيْلَة قَوْله: (أَلا تسمع إِلَى
هَذِه) إِلَى آخِره، كَأَنَّهُ استعظم لَفظهَا بذلك.
قَوْله: (تجْهر) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: تهجر من
الهجر، يَعْنِي تَأتي بالْكلَام الْقَبِيح.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن الرجل إِذا أَرَادَ أَن
يُعِيد مطلقته بِالثلَاثِ، فَلَا بُد من زوج آخر يتَزَوَّج
بهَا وَيدخل عَلَيْهَا. وأجمعت الْأمة على أَن الدُّخُول
شَرط الْحل للْأولِ، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلاَّ سعيد بن
الْمسيب والخوارج والشيعة، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَبشر
المريسي، وَذَلِكَ اخْتِلَاف لَا خلاف لعدم استنادهم إِلَى
دَلِيل، وَلِهَذَا لَو قضى بِهِ القَاضِي لَا ينفذ،
وَالشّرط الْإِيلَاج دون الْإِنْزَال، وَشد الْحسن
الْبَصْرِيّ فِي اشْتِرَاط الْإِنْزَال. وَفِيه: مَا
قَالَه الْمُهلب: جَوَاز الشَّهَادَة على غير الْحَاضِر من
وَرَاء الْبَاب والستر، لِأَن خَالِدا سمع قَول الْمَرْأَة
وَهُوَ من وَرَاء الْبَاب، ثمَّ أنكرهُ عَلَيْهَا
بِحَضْرَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ. وَفِيه:
إِنْكَار فِي الأَصْل والجهر هُوَ الْمَعْقُول فِي القَوْل
إلاَّ أَن يكون فِي حق لَا بُد لَهُ من الْبَيَان عِنْد
الْحَاكِم. وَالله أعلم.
4 - (بابٌ إذَا شَهِدَ شاهِدٌ أوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ
فَقَالَ آخَرُونَ مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يُحْكَمْ بِقَوْلِ
منْ شَهِدَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا شهد بقضية أَو شهد شُهُود
بهَا، فَقَالَ جمَاعَة آخَرُونَ: مَا علمنَا بذلك، أَرَادَ
بِهِ أَنهم نفوا مَا أثبت الشُّهُود الْأَولونَ. قَوْله:
(يحكم بقوله من شهد) ، جَوَاب: إِذا، وَأَرَادَ بِهِ أَن
الْإِثْبَات أولى من النَّفْي، لِأَن الْمُثبت أولى وأقدم
من النَّافِي قَالَ بَعضهم: وَهُوَ وفَاق من أهل الْعلم.
قلت: فِيهِ خلاف، فَقَالَ الْكَرْخِي: الْمُثبت أولى من
النَّافِي، لِأَن الْمُثبت مُعْتَمد على الْحَقِيقَة فِي
خَبره، فَيكون أقرب إِلَى الصدْق من النَّافِي الَّذِي
يبْنى الْأَمر على الظَّاهِر، وَلِهَذَا قيل: الشَّهَادَة
على الْإِثْبَات دون النَّفْي، وَلِأَن الْمُثبت يثبت أمرا
زَائِدا لم يكن فَيُفِيد التأسيس، والنافي مبقِ لِلْأَمْرِ
الأول، فَيُفِيد التَّأْكِيد، والتأسيس أولى. وَقَالَ
عِيسَى بن أبان: يتعارض الْمُثبت والنافي فَلَا يتَرَجَّح
أَحدهمَا على الآخر إلاَّ بِدَلِيل مُرَجّح، فلأجل هَذَا
الِاخْتِلَاف ذكر أَصْحَابنَا فِي ذَلِك أصلا كلياً جَامعا
يرجع إِلَيْهِ فِي تَرْجِيح أَحدهمَا، وَهُوَ أَن النَّفْي
لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون من جنس مَا يعرف بدليله،
بِأَن يكون مبناه على دَلِيل أَو من جنس مَا لَا يعرف
بدليله، بإن يكون مبناه على الِاسْتِصْحَاب دون الدَّلِيل،
أَو احْتمل الْوَجْهَانِ، فَالْأول مثل الْإِثْبَات
فَيَقَع التَّعَارُض بَينهمَا لتساويهما فِي الْقُوَّة،
فيطلب التَّرْجِيح، وَيعْمل بالراجح. وَالثَّانِي: لَيْسَ
فِيهِ تعَارض، فالأخذ بالمثبت أولى، وَالثَّانِي ينظر فِي
النَّفْي، فَإِن تبين أَنه مِمَّا يعرف بِالدَّلِيلِ يكون
كالإثبات فيتعارضان، فيطلب التَّرْجِيح وَأَن تبين أَنه
بِنَاء على الِاسْتِصْحَاب فالإثبات أولى، ولهذه
الْأَقْسَام صور موضعهَا فِي الْأُصُول تركناها خوفًا من
التَّطْوِيل.
وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ هَذَا كَما أخْبَرَ بِلالٌ أنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى فِي الكَعْبَةِ
وَقَالَ الْفَضْلُ لَمْ يُصَلِّ فأخَذَ النَّاسُ
بِشَهَادَةِ بِلالٍ
هَذَا من جملَة الصُّور الَّتِي ذكرنَا أَنَّهَا ثَلَاثَة
أَقسَام، وَهُوَ من الْقسم الَّذِي لَا يعرف النَّفْي
فِيهِ إلاَّ بِظَاهِر الْحَال، فَلَا يُعَارض الْإِثْبَات،
فَلهَذَا أخذُوا بِشَهَادَة بِلَال: أَنه صلى فِي جَوف
الْكَعْبَة عَام الْفَتْح، ورجحوا رِوَايَته على رِوَايَة
الْفضل بن عَبَّاس: أَنه لم يصلِ، وَإِطْلَاق الشَّهَادَة
على إِخْبَار بِلَال تجوز. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة فِي
قَول الآخرين مَا علمنَا ذَلِك، وَالَّذِي ذكره عَن
(13/198)
الْحميدِي صُورَة المنافيين، فَلَا
مُطَابقَة؟ قلت: معنى قَول الْفضل: لم يصلِّ مَا علم أَنه
صلى، وَلَعَلَّه كَانَ مشتغلاً بِالدُّعَاءِ وَنَحْوه فَلم
يره صلى، فنفاه عملا بظنه، وَقد مضى هَذَا الَّذِي علقه
عَن الْحميدِي وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبد
الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد بأتم مِنْهُ فِي كتاب
الزَّكَاة فِي: بَاب الْعشْر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
سعيد بن أبي مَرْيَم عَن عبد الله بن وهب، الحَدِيث، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
كَذَلِكَ إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أنَّ لِفُلانٍ علَى
فُلاَنٍ ألْفَ دِرْهَمٍ وشَهِدَ آخَرَان بألْفٍ
وخَمْسمِائَةٍ يُقْضَى بالزِّيَادَةِ
أَي: كَالْحكمِ الْمَذْكُور يحكم إِن شهد شَاهِدَانِ أَن
لفُلَان على فلَان ألف دِرْهَم بِأَن شَهدا: أَن لزيد على
عَمْرو مثلا ألف دِرْهَم، وَشهد شَاهِدَانِ آخرَانِ: أَن
لَهُ عَلَيْهِ ألفا وَخَمْسمِائة دِرْهَم، يقْضِي أَي:
يحكم بِالزِّيَادَةِ أَيْضا وَهِي خَمْسمِائَة، يَعْنِي:
يحكم بِأَلف وَخَمْسمِائة، لِأَن عدم علم الْغَيْر لَا
يُعَارض علمه، وَفِي بعض النّسخ يُعْطي بِالزِّيَادَةِ،
فالباء فِي: بِالزِّيَادَةِ، على هَذَا زَائِدَة، وَقيد
بقوله: وَشهد آخرَانِ، لِأَنَّهُ لَو شهد وَاحِد
بِالزِّيَادَةِ لَا تلْزم الزِّيَادَة إلاَّ بِشَاهِد آخر،
وَفِي تَمْثِيل هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا قبله بقوله
كَذَلِك نظر، لِأَن مَا قبله مُشْتَمل على صُورَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا صُورَة مَا علمنَا، وَالثَّانيَِة صُورَة
المنافيين، وَلَا تطابق هَذِه الْمَسْأَلَة الصُّورَتَيْنِ
المذكورتين وَلَا وَاحِدَة مِنْهُمَا. فَإِن قلت: شَهَادَة
الآخرين بِأَلف وَخمْس مائَة يُنَافِي شَهَادَة
الشَّاهِدين بِأَلف ظَاهرا. قلت: لَا نسلم ذَلِك بل كلهم
متفقون فِي الْألف، وَإِنَّمَا انْفَرد الْآخرَانِ
بالخمسمائة الزَّائِدَة، فثبتت الزِّيَادَة لوُجُود نِصَاب
الشَّهَادَة، حَتَّى لَو كَانَ الَّذِي يشْهد
بِالزِّيَادَةِ وَاحِدًا لَا يلْزم الزِّيَادَة إلاَّ
بِشَاهِد آخر، كَمَا ذكرنَا.
0462 - حدَّثنا حِبَّانُ قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ
أخبرنَا عُمَرُ بنُ سَعِيدِ بنِ أبِي حُسَيْنٍ قَالَ
أَخْبرنِي عبدُ الله بنُ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ بنِ
الحارِثِ أنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِي إهَابِ بنِ
عَزِيزٍ فأتَتْهُ امْرَأةٌ فقالَتْ قدْ أرْضَعْتُ عُقْبَةَ
والَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَها عُقْبَةُ مَا أعْلَمُ
أنَّكِ أرْضَعْتِنِي وَلَا أخْبَرْتِنِي فأرْسَلَ إِلَى
آلَ أبي إهَابٍ يَسْألُهُمْ فَقَالُوا مَا عَلِمْنَا
أرْضَعَتْ صاحِبَتَنا فرَكِبَ إِلَى الْنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالمَدِينَةِ فَسَألَهُ فَقَالَ رسولُ
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيْفَ وقَدْ قِيلَ
فَفَارَقَها ونَكَحَتْ زَوْجاً غَيْرَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ شَهَادَة وَلَا حكم، وَلَكِن قَالَ الْكرْمَانِي:
أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالمفارقة.
بقوله: (كَيفَ وَقد قيل؟) كَالْحكمِ، وإخبار الْمُرضعَة
كَالشَّهَادَةِ، وَقَالَ بَعضهم: الْمُرضعَة أَثْبَتَت
الرَّضَاع وَعقبَة نَفَاهُ، فأعمل النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَوْلهَا، فَأمره بالمفارقة، إِمَّا وجوبا
عِنْد من يَقُول بِهِ، وَإِمَّا ندبا على طَرِيق الْوَرع.
قلت: فِي كل مِنْهُم نظر، أما الأول: فَفِيهِ التجويز.
وَأما الثَّانِي: فَلَو لاحظ فِيهِ صُورَة مَا علمنَا
لَكَانَ أقرب وأوجه، لِأَن فِيهِ نفي الْعلم. وَهُوَ
يُطَابق التَّرْجَمَة.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الرحلة فِي
الْمَسْأَلَة النَّازِلَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن
مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله عَن عمر بن سعيد بن أبي
حُسَيْن ... إِلَى آخِره نَحوه، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ مُسْتَوفى. وإهاب، بِكَسْر الْهمزَة، وعزيز على
وزن) عَظِيم، بزايين معجمتين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر
عَن الْمُسْتَمْلِي والحموي عَزِيز، بِضَم الْعين وَفتح
الزَّاي وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء،
مصغر، قيل: وَالْأول أصوب.
5 - (بابُ الشُّهَدَاءِ العُدُولِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشُّهَدَاء الْعُدُول،
يَعْنِي: من هم، وَالشُّهَدَاء جمع شَهِيد بِمَعْنى:
الشَّاهِد، والعدول جمع عدل، وَالْعدْل من ظهر مِنْهُ
الْخَيْر، وَقَالَ أبراهيم: الْعدْل الَّذِي لم يظْهر
فِيهِ رِيبَة، قَالَ ابْن بطال: وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد
وَإِسْحَاق، وروى ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور
عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: الْعدْل فِي الْمُسلمين مَا لم
يطعن فِي بطن وَلَا فرج، وَقَالَ الشّعبِيّ: يجوز شَهَادَة
الْمُسلم مَا لم يصب حدا أَو يعلم عَنهُ جريمة فِي دينه،
وَكَانَ الْحسن يُجِيز شَهَادَة من صلَّى إلاَّ أَن
يَأْتِي الْخصم بِمَا يجرحه، وَعَن حبيب:
(13/199)
قَالَ: سَأَلَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، رجلا عَن رجل، فَقَالَ: لَا نعلم إلاَّ خيرا،
قَالَ: حَسبك. وَقَالَ شُرَيْح: أدع وَأكْثر وَأَطْنَبَ
وائت على ذَلِك بِشُهُود عدُول، فَإنَّا قد أمرنَا
بِالْعَدْلِ، وَأَنت فسل عَنهُ، فَإِن قَالُوا: الله يعلم،
يفرقُوا أَن يَقُولُوا: هُوَ مريب، وَلَا تجوز شَهَادَة
مريب، وَإِن قَالُوا: علمناه عدلا مُسلما، فَهُوَ إِن
شَاءَ الله كَذَلِك، وَتجوز شَهَادَته. وَقَالَ أَبُو عبيد
فِي (كتاب الْقَضَاء) : من ضيَّع شَيْئا مِمَّا أمره الله،
عز وَجل، أَو ركب شَيْئا مِمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ
فَلَيْسَ يعدل. وَعَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَالشَّافِعِيّ: من كَانَت طَاعَته أَكثر من مَعَاصيه
وَكَانَ الْأَغْلَب عَلَيْهِ الْخَيْر وَزَاد الشَّافِعِي:
والمروءة وَلم يَأْتِ كَبِيرَة يجب الْحَد بهَا أَو مَا
يشبه الْحَد قبلت شَهَادَته، لِأَن أحدا لَا يسلم من
ذَنْب، وَمن أَقَامَ على مَعْصِيّة، أَو كَانَ كثير
الْكَذِب غير مستتر بِهِ لم تجز شَهَادَته.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يَخْلُو ذكر الْمُرُوءَة أَن
يكون مِمَّا يحل أَو يحرم، فَإِن كَانَ مِمَّا يحل أَو
يحرم، فَإِن كَانَ مِمَّا يحل فَلَا معنى لذكرها، وَإِن
كَانَ مِمَّا يحرم فَهِيَ من الْمعاصِي، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: الْعدْل، أَن يكون مُسْتَقِيم الْأَمر مُؤديا
لفروضه غير مُخَالف لأمر الْعُدُول فِي سيرته وخلائقه،
وَغير كثير الْخَوْض فِي الْبَاطِل، وَلَا يتهم فِي
حَدِيثه وَلم يطلع مِنْهُ على كَبِيرَة أصر عَلَيْهَا،
ويختبر ذَلِك فِي مُعَامَلَته وصحبته فِي السّفر، قَالَ:
وَزعم أهل الْعرَاق أَن الْعَدَالَة الْمَطْلُوبَة فِي
إِظْهَار الْإِسْلَام مَعَ سَلَامَته من فسق ظَاهر أَو طعن
خصم فِيهِ فَيتَوَقَّف فِي شَهَادَته حَتَّى تثبت لَهُ
الْعَدَالَة. وَفِي (الرسَالَة) عَن الشَّافِعِي: صفة
الْعدْل هُوَ الْعَامِل بِطَاعَة الله تَعَالَى، فَمن
رُؤِيَ عَاملا بهَا فَهُوَ عدل، وَمن عمل بِخِلَافِهَا
كَانَ خلاف الْعدْل. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: من كَانَ أَكثر
أمره الْخَيْر وَلَيْسَ بِصَاحِب جريمة فِي دين وَلَا
مصرَّ على ذَنْب وَإِن صَغُرَ قبل وَكَانَ مَسْتُورا، وكل
من كَانَ مُقيما على ذَنْب وَإِن صغر لم تقبل شَهَادَته.
وقَوْلِ الله تعَالى: {وأشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(الطَّلَاق: 2) . {ومِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(الْبَقَرَة: 282) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: الشُّهَدَاء
الْعُدُول. قَوْله: {وَمِمَّنْ ترْضونَ} (الْبَقَرَة: 282)
. الْوَاو فِيهِ عاطفة لَا من الْقُرْآن، وَاحْتج بقوله:
{واشهدوا ذَوي عدل مِنْكُم} (الطَّلَاق: 2) . على أَن
الْعَدَالَة فِي الشُّهُود شَرط. وَبِقَوْلِهِ: {مِمَّن
ترْضونَ} (الْبَقَرَة: 282) . على أَن الشُّهُود إِذا لم
يرض بهم لمَانع عَن الشَّهَادَة لَا تقبل شَهَادَتهم.
1462 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نافِع قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ ابنِ عَوْفٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُتْبَةَ
قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ يَقولُ إنَّ أُنَاساً كانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْيِ
فِي عَهْدِ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإنَّ
الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ وإنَّمَا نأخُذُكُمْ الآنَ بِمَا
ظَهَرَ لَنا مِنْ أعْمَالِكُمْ فَمَنْ أظْهَرَ لَنَا
خَيْراً أمِنَّاهُ وقرَّبْنَاهُ ولَيْسَ إلَيْنَا مِنْ
سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ الله يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ ومنْ
أظْهَرَ لَنَا سُوءَاً لَمْ نَأْمَنْهُ ولَمْ نُصَدِّقْهُ
وإنْ قالَ إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُؤْخَذ مِنْهُ:
أَن الْعدْل من لم يُوجد مِنْهُ الرِّيبَة. وَهَذَا
الحَدِيث من أَفْرَاده، وَعبد الله بن عتبَة، بِضَم الْعين
وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة: ابْن مَسْعُود، وَهُوَ ابْن أخي عبد الله بن
مَسْعُود الْهُذلِيّ الْكُوفِي، مَاتَ فِي زمن عبد الْملك
بن مَرْوَان، سمع من كبار الصَّحَابَة، أدْرك زمَان
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي (التَّهْذِيب) :
أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ خماسي
ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) ، وَالْمَرْفُوع من هَذَا
الحَدِيث إِخْبَار عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَمَّا
كَانَ النَّاس يَأْخُذُونَ بِهِ على عهد رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَقِيَّة الْخَبَر بَيَان لما
يَسْتَعْمِلهُ النَّاس بعد انْقِطَاع الْوَحْي بوفاة
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبَقيَ كَمَا
قَالَ أَبُو الْحسن: لكل من سَمعه أَن يحفظه ويتأدب بِهِ.
قَوْله: (بِالْوَحْي) ، يَعْنِي: كَانَ الْوَحْي يكْشف عَن
سَائِر النَّاس فِي بعض الْأَوْقَات. قَوْله: (أمنَّا) ،
بِهَمْزَة بِغَيْر مد وَكسر الْمِيم وَتَشْديد النُّون:
يَعْنِي جَعَلْنَاهُ آمنا، من الشَّرّ، وَهُوَ مُشْتَقّ
من: الْأمان، وَيُقَال: مَعْنَاهُ، صيرناه عندنَا أَمينا.
قَوْله: (وقرَّبناه) ، أَي: أعظمناه وكرَّمناه. قَوْله:
(من سَرِيرَته) ، السرير: السِّرّ وَيجمع على: سرائر.
قَوْله: (وَالله يحاسبه) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن
الْحَمَوِيّ: يُحَاسب، بِحَذْف الضَّمِير الْمَنْصُوب،
وَفِي
(13/200)
رِوَايَة البَاقِينَ: محاسبة، بميم فِي
أَوله وهاء فِي آخِره من بَاب المفاعلة. قَوْله: (سوءا)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني شرا.
وَفِيه: أَن من ظهر مِنْهُ الْخَيْر فَهُوَ الْعدْل
الَّذِي يجب قبُول شَهَادَته، وَفِي قَول عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، هَذَا: كَانَ النَّاس فِي الزَّمن الأول
على الْعَدَالَة، وَقد ترك بعض ذَلِك فِي زمن عمر، فَقَالَ
لَهُ رجل: أَتَيْتُك بِأَمْر لَا رَأس لَهُ وَلَا ذَنْب.
فَقَالَ لَهُ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: شَهَادَة الزُّور، ظَهرت
فِي أَرْضنَا. قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فِي
زماني وسلطاني، لَا وَالله لَا يوسم رجل بِغَيْر
الْعَدَالَة.
6 - (بابُ تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَعْدِيل كم نفس يجوز، حَاصله
أَن الْعدَد الْمعِين هَل شَرط فِي التَّعْدِيل أم لَا؟
وَفِيه خلاف، فَلذَلِك لم يُصَرح بالحكم، فَقَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ: لَا يقبل فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل أقل
من رجلَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يقبل تَعْدِيل
الْوَاحِد وجرحه، وَقَالَ ابْن بطال قلت: مَذْهَب أبي
حنيفَة وَأبي يُوسُف: يقبل فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل
وَاحِد، وَمُحَمّد بن الْحسن مَعَ الشَّافِعِي.
2462 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا
حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ مُرَّ علَى النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِجَنَازَةٍ فأثْنُوا علَيْها خَيْراً
فَقَالَ وجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فأثْنُوا علَيْها
شَرَّاً أوْ قالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ وَجَبَتْ فَقِيلَ
يَا رسولَ الله قُلْتَ لِهَذَا وجَبَتْ ولِهَذَا وجبَتْ
قَالَ شَهَادَةُ الْقَوْمِ المُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ الله
فِي الأرْضِ.
(انْظُر الحَدِيث 7631) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تَأتي على مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو
حنيفَة من أَن الْوَاحِد يَكْفِي فِي التَّعْدِيل، لِأَن
قَوْله: (الْمُؤْمِنُونَ) ، جمع محلى بِالْألف وَاللَّام
وَالْألف وَاللَّام إِذا دخل الْجمع يبطل الجمعية وَيبقى
الجنسية، وَأَدْنَاهَا وَاحِد، ويتأيد هَذَا بقول عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما مر عَلَيْهِ
بِثَلَاث جنائز: وَجَبت فِي كل وَاحِد مِنْهَا، فَقَالَ
لَهُ أَبُو الْأسود: وَمَا وَجَبت يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: قلت كَمَا قَالَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا مُسلم شهد لَهُ أَرْبَعَة بِخَير
أدخلهُ الله الْجنَّة) فَقُلْنَا: وَثَلَاثَة؟ قَالَ:
(13/201)
(وَثَلَاثَة) ، فَقُلْنَا: وإثنان؟ قَالَ:
(وإثنان) ، ثمَّ لم نَسْأَلهُ عَن الْوَاحِد.
والْحَدِيث يَأْتِي الْآن فِي هَذَا الْبَاب، وَقد مضى فِي
كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب ثَنَاء النَّاس على الْمَيِّت
أَيْضا. وَإِنَّمَا لم يسْأَلُوا عَن الْوَاحِد لأَنهم
كَانُوا يعتمدون قَول الْوَاحِد فِي ذَلِك، لكِنهمْ لم
يسْأَلُوا عَن حكمه، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا أَن البُخَارِيّ
صرح بالاكتفاء فِي التَّزْكِيَة بِوَاحِد، على مَا يَجِيء
عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَحَدِيث الْبَاب مر
فِي كتاب الْجَنَائِز أَيْضا فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
قَوْله: (شَهَادَة الْقَوْم) كَلَام إضافي مُبْتَدأ
وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: مَقْبُولَة. قَوْله:
(الْمُؤْمِنُونَ) مُبْتَدأ. وَقَوله: (شُهَدَاء الله) ،
خَبره، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: شَهَادَة الْقَوْم
الْمُؤمنِينَ، فَيكون: الْمُؤمنِينَ، صفة الْقَوْم، وَيكون
شَهَادَة الْقَوْم مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره
مَحْذُوف كَمَا فِي الصُّورَة الأولى تَقْدِيره: شَهَادَة
الْقَوْم الْمُؤمنِينَ مَقْبُولَة. وَقَوله: (شُهَدَاء
الله فِي الأَرْض) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم
شُهَدَاء الله فِي الأَرْض، وَعَن السُّهيْلي: مَعَ مَا
فِيهِ من التعسف، رَوَاهُ بَعضهم بِرَفْع الْقَوْم فوجهه
أَن قَوْله: شَهَادَة، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي: هَذِه شَهَادَة، وَهِي جملَة مُسْتَقلَّة
مُنْقَطِعَة عَمَّا بعْدهَا، و: الْقَوْم، مَرْفُوع
بِالِابْتِدَاءِ، والمؤمنون، صفته. وَقَوله: (شُهَدَاء
الله فِي الأَرْض) ، خَبره: وَتَكون هَذِه الْجُمْلَة
بَيَانا للجملة الأولى.
3462 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثنا
داودُ بنُ أبِي الفُرَاتِ قَالَ حدَّثنا عبدُ الله بنُ
بُرَيْدَةَ عنْ أبِي الأسْوَدِ قَالَ أتَيْتُ المَدِينَةَ
وقدْ وقَعَ بِهَا مَرَضٌ وهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتاً
ذَرِيعاً فجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
فَمَرَّتْ جِنَازَةٌ فَأُثْنِيَ خَيْراً فَقَالَ عُمَرُ
وجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فأُثْنِيَ خَيْراً فَقَالَ
وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بالثَّالِثَةِ فأُثْنِيَ شَرَّاً
فَقَالَ وَجَبَتْ فقُلْتُ مَا وجَبَتْ يَا أمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قالَ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ
أرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ قُلْنَا
وثَلاثَةٌ قَالَ وثَلاَثَةٌ قُلْنَا واثْنَانِ قَالَ
واثْنَانِ ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عنِ الوَاحِدِ.
(انْظُر الحَدِيث 8631) .
وَجه الْمُطَابقَة هُنَا مثل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث
السَّابِق، وَبُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفتح
الرَّاء وَأَبُو الْأسود: اسْمه ظَالِم ضد الْعَادِل مر
مَعَ الحَدِيث فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الثَّنَاء
على الْمَيِّت. قَوْله: (وَقد وَقع بهَا مرض) ، جملَة
حَالية، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وهم يموتون) أَي: أهل
الْمَدِينَة. قَوْله: (ذريعاً) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة
أَي: وَاسِعًا أَو سَرِيعا. قَوْله: (خيرا) بِالنّصب صفة
لمصدر مَحْذُوف أَي: ثَنَاء خيرا أَو مَنْصُوب بِنَزْع
الْخَافِض، أَي: بِخَير، وَكَذَلِكَ فِي الْكَلَام فِي:
شرا، بِالنّصب.
7 - (بابُ الشَّهَادَةِ على الأنْسَابِ والرَّضَاعِ
الْمُسْتَفِيضِ والْمَوْتِ القَدِيمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشَّهَادَة على
الْأَنْسَاب، وَهُوَ جمع نسب (وَالرّضَاع المستفيض) ، أَي:
الشَّائِع الذائع. قَوْله: (وَالْمَوْت الْقَدِيم) ، أَي:
الْعَتِيق الَّذِي تطاول الزَّمَان عَلَيْهِ وَحده بعض
الْمَالِكِيَّة بِخَمْسِينَ سنة، وَقيل: بِأَرْبَعِينَ،
وَالْحَاصِل أَن هَذِه التَّرْجَمَة معقودة لشهادة
الاستفاضة مِنْهَا النّسَب وَالرّضَاع وَالْمَوْت، وَقيد
الرَّضَاع بالاستفاضة وَالْمَوْت بالقدم، وَمعنى الْبَاب:
أَن مَا صَحَّ من الْأَنْسَاب وَالرّضَاع وَالْمَوْت
بالاستفاضة، وَثَبت علمه بالنفوس وَارْتَفَعت فِيهِ الريب
وَالشَّكّ أَنه لَا يحْتَاج فِيهِ لمعْرِفَة عدد الَّذين
بهم ثَبت علم ذَلِك، وَلَا يحْتَاج إِلَى معرفَة
الشُّهُود. ألاَ ترى أَن الرَّضَاع الَّذِي فِي هَذِه
الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة كلهَا كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ مستفيضاً مَعْلُوما عِنْد
الْقَوْم الَّذين وَقع الرَّضَاع مِنْهُم وَثَبت بِهِ
الْحُرِّيَّة وَالنّسب فِي الْإِسْلَام، وَيجوز عِنْد
مَالك وَالشَّافِعِيّ والكوفيين الشَّهَادَة بِالسَّمَاعِ
المستفيض فِي النّسَب وَالْمَوْت الْقَدِيم وَالنِّكَاح.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: أَجمعُوا على أَن شَهَادَة السماع
تجوز فِي النِّكَاح دون الطَّلَاق، وَيجوز عِنْد مَالك
وَالشَّافِعِيّ الشَّهَادَة على ملك الدَّار بِالسَّمَاعِ،
زَاد الشَّافِعِي: وَالثَّوْب أَيْضا، وَلَا يجوز ذَلِك
عِنْد الْكُوفِيّين، وَقَالَ مَالك: لَا تجوز الشَّهَادَة
على ملك الدَّار بِالسَّمَاعِ على خمس سِنِين وَنَحْوهَا
إلاَّ مِمَّا يكثر من السنين، وَهُوَ بِمَنْزِلَة سَماع
الْوَلَاء، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَشَهَادَة السماع
إِنَّمَا هِيَ مِمَّن أَتَت عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ سنة، أَو
خَمْسُونَ، وَقَالَ مَالك: وَلَيْسَ أحد يشْهد على أَجنَاس
الصَّحَابَة إلاَّ على السماع، وَقَالَ عبد الْملك: أقل
مَا يجوز فِي الشَّهَادَة على السماع أَرْبَعَة شُهَدَاء
من أهل الْعدْل أَنهم لم يزَالُوا يسمعُونَ أَن هَذِه
الدَّار صَدَقَة على بني فلَان محبسة عَلَيْهِم مِمَّا
تصدق بِهِ فلَان، وَلم يزَالُوا يسمعُونَ أَن فلَانا مولى
فلَان قد تواطأ ذَلِك عِنْدهم وفشى من كَثْرَة مَا
سَمِعُوهُ من الْعُدُول وَمن غَيرهم وَمن الْمَرْأَة
وَالْخَادِم وَالْعَبْد.
وَاخْتلف فِيمَا يجوز من شَهَادَة النِّسَاء فِي هَذَا
الْبَاب، فَقَالَ مَالك: لَا يجوز فِي الْأَنْسَاب
وَالْوَلَاء شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، وَهُوَ
قَول الشَّافِعِي، وَإِنَّمَا يجوز مَعَ الرِّجَال فِي
الْأَمْوَال، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ شَهَادَة رجل
وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْأَنْسَاب، وَأما الرَّضَاع فَقَالَ
أَصْحَابنَا: يثبت الرَّضَاع بِمَا يثبت بِهِ المَال،
وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا
تقبل شَهَادَة النِّسَاء المنفردات، وَعند مَالك بامرأتين،
وَعند أَحْمد بمرضعة فَقَط.
وَقَالَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْضَعَتْنِي
وَأَبا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث رَوَاهُ مَوْصُولا فِي الرَّضَاع
من حَدِيث أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَإِنَّمَا ذكر
هَذِه الْقطعَة هُنَا معلقَة لأجل مَا فِي التَّرْجَمَة من
قَوْله: وَالرّضَاع. قَوْله: (أرضعتني) ، فعل ومفعول.
(وَأَبا سَلمَة) بِالنّصب عطف على الْمَفْعُول. (ثويبة) ،
بِالرَّفْع فَاعله. وَأَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: ابْن
عبد الْأسد المَخْزُومِي، أسلم وَهَاجَر إِلَى الْمَدِينَة
مَعَ زَوجته أم سَلمَة، وَمَات سنة أَربع، فَتَزَوجهَا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ
الذَّهَبِيّ: أَبُو سَلمَة بن عبد الْأسد توفّي سنة
اثْنَتَيْنِ، وثوبية مصغر الثوبة بالثاء الْمُثَلَّثَة
وبالباء الْمُوَحدَة: مولاة أبي لَهب، أرضعت أَولا
حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَثَانِيا رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وثالثاً أَبَا سَلمَة.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَاخْتلف فِي إسْلَامهَا، وَقَالَ
الذَّهَبِيّ: يُقَال: إِنَّهَا أسلمت.
والتَّثَبُّتِ فِيهِ
(13/202)
هَذَا من بَقِيَّة التَّرْجَمَة، أَي: فِي
أَمر الْإِرْضَاع، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أَمر فِيهِ بالتثبت احْتِيَاطًا، وَسَيَجِيءُ فِي آخر
حَدِيث من أَحَادِيث الْبَاب. قَالَ: (يَا عَائِشَة: أنظرن
من أخوانكن، فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة) .
وَالْمرَاد بِالنّظرِ هُنَا التفكر والتأمل، على مَا
يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
4462 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
أخبرنَا الحَكَمُ عنْ عِرَاكِ بنِ مالِكٍ عنْ عُرْوَةَ
ابنِ الزُبَيْرِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
قالَتِ اسْتَأْذَنِ عليَّ أفْلَحُ فَلَمْ آذَنْ لَهُ
فَقَالَ أتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وأنَا عَمُّكِ فَقُلْتُ
وكَيْفَ ذَلِكَ قَالَ أرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أخِي بِلَبَنِ
أخِي فَقالَتْ سألْتُ عنْ ذالِكَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صَدَقَ أفْلَحُ أئْذَنِي لَهُ..
مطابقته لجزء التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قَوْله: والتثبت
فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قد تثبتت فِي أَمر حكم الرَّضَاع الَّذِي كَانَ
بَينهَا وَبَين أَفْلح الْمَذْكُور، وَالدَّلِيل على
تثبتها أَنَّهَا مَا أَذِنت لَهُ حَتَّى سَأَلت رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن ذَلِك، وَالْحكم،
بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن عتيبة مصغر عتبَة الْبَاب وَقد
تكَرر ذكره، وعراك، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف
الرَّاء.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجة بَقِيَّة السِّتَّة. وَأخرجه مُسلم
وَالنَّسَائِيّ فِي النِّكَاح من رِوَايَة عرَاك عَن
عُرْوَة عَنْهَا. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا وَمُسلم
وَالنَّسَائِيّ فِي النِّكَاح من رِوَايَة مَالك عَن
الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي النِّكَاح من رِوَايَة
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة
عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح من رِوَايَة
يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا، وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن حسان بن مُوسَى
وَمُسلم فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَالنَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الطَّلَاق عَن عَمْرو بن
عَليّ، الْكل من رِوَايَة معمر بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ
عَن عُرْوَة عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح
عَن ابْن أبي شيبَة. وَالتِّرْمِذِيّ فِي الرَّضَاع عَن
الْحسن بن عَليّ من رِوَايَة عبد الله بن نمير عَن هِشَام
بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا
وَالنَّسَائِيّ فِي النِّكَاح من رِوَايَة عَطاء بن أبي
رَبَاح عَن عُرْوَة عَنْهَا. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
فِي التَّفْسِير من حَدِيث شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن
الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَنْهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اسْتَأْذن) ، أَي: طلب الْإِذْن،
وفاعله قَوْله: أَفْلح، وَقَوله: عَليّ، بتَشْديد الْيَاء.
وَقد اخْتلف فِي: أَفْلح، هَذَا فَقيل: ابْن أبي القعيس،
بِضَم الْقَاف وَفتح العي الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَقَالَ أَبُو
عمر: قيل: أَبُو القعيس، وَقيل: أَخُو أَبُو القعيس،
وأصحها مَا قَالَ مَالك وَمن تَابعه: عَن ابْن شهَاب عَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة: جَاءَ أَفْلح، أَخُو أبي القعيس،
وَيُقَال: إِنَّه من الْأَشْعَرِيين، وَقيل: إِن إسم أبي
القعيس الْجَعْد، وَيُقَال: أَفْلح يكنى أَبَا الجعيد.
وَقيل: إسم أبي القعيس وَائِل بن أَفْلح، وَقيل: أَفْلح بن
أبي الْجَعْد، روى ذَلِك عبد الرَّزَّاق، وَقيل أَيْضا:
عمي أَبُو الْجَعْد. وَفِي (صَحِيح الْإِسْمَاعِيلِيّ) :
أَفْلح بن قعيس، أَو ابْن أبي القعيس. وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: إِنَّمَا هُوَ
أَبُو القعيس أَفْلح، قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح،
إِنَّمَا هُوَ أَبُو الْجَعْد أَخُو أبي القعيس. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي عَم عَائِشَة
الْمَذْكُور، فَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: هما عمان
لعَائِشَة من الرضَاعَة: أَحدهمَا أَخُو أَبِيهَا أبي بكر،
من الرضَاعَة الَّذِي هُوَ أَبُو القعيس، وَأَبُو القعيس
أَبوهَا من الرضَاعَة، وَأَخُوهُ أَفْلح عَمها. وَقيل:
هُوَ عَم وَاحِد، وَهُوَ غلط، فَإِن عَمها فِي الحَدِيث
الأول ميت، وَفِي الثَّانِي حَيّ، جَاءَ يسْتَأْذن. قلت:
المُرَاد من الحَدِيث الأول هُوَ مَا قَالَت عَائِشَة: يَا
رَسُول الله، لَو كَانَ فلَان حَيا، لعمها من الرضَاعَة،
دخل عَليّ، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(نعم! إِن الرضَاعَة تحرم مَا تحرم الْولادَة) . ثمَّ
قَالَ النَّوَوِيّ: وَالصَّوَاب: مَا قَالَه القَاضِي،
فَإِنَّهُ ذكر الْقَوْلَيْنِ، ثمَّ قَالَ: قَول
الْقَابِسِيّ أشبه، لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاحِدًا لفهمت
حكمه من الْمرة الأولى، وَلم يحتجب مِنْهُ بعد ذَلِك.
فَإِن قيل: فَإِذا كَانَا عمين كَيفَ سَأَلت عَن
الْمَيِّت، وأعلمها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه عَم لَهَا يدْخل عَلَيْهَا، واحتجبت عَن عَمها الآخر.
أخي أبي القعيس حَتَّى أعلمها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِأَنَّهُ عَمها يدْخل عَلَيْهَا، فَهَلا اكتفت
بِأحد السؤالين؟ فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَن أَحدهمَا:
كَانَ عَمَّا من أحد الْأَبَوَيْنِ، وَالْآخر: مِنْهُمَا
أَو
(13/203)
عَمَّا أَعلَى وَالْآخر أدنى، أَو نَحْو
ذَلِك من الِاخْتِلَاف، فخافت أَن تكون الْإِبَاحَة
مُخْتَصَّة بِصَاحِب الْوَصْف المسؤول عَنهُ أَولا وَالله
أعلم. انْتهى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَو يحْتَمل
أَنَّهَا نسيت الْقِصَّة الأولى فأنشأت سؤالاً آخر. أَو
جوزت تَبْدِيل الحكم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: ثُبُوت الْمَحْرَمِيَّة
بَينهَا وَبَين عَمها من الرضَاعَة. وَفِيه: أَنه لَا يجوز
للْمَرْأَة أَن تَأذن للرجل الَّذِي لَيْسَ بِمحرم لَهَا
فِي الدُّخُول عَلَيْهَا، وَيجب عَلَيْهَا الاحتجاب
مِنْهُ، وَهُوَ كَذَلِك إِجْمَاعًا بعد أَن نزلت آيَة
الْحجاب، وَمَا ورد من بروز النِّسَاء فَإِنَّمَا كَانَ
قبل نزُول الْحجاب، وَكَانَت قصَّة أَفْلح مَعَ عَائِشَة
بعد نزُول الْحجاب، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ،. من
طَرِيق مَالك أَن ذَلِك كَانَ بعد أَن نزل الْحجاب.
وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الاسْتِئْذَان، وَلَو فِي حق
الْمحرم، لجَوَاز أَن تكون الْمَرْأَة على حَال لَا يحل
للْمحرمِ أَن يَرَاهَا عَلَيْهِ. وَفِيه: أَن الْأَمر
المتردد فِيهِ بَين التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة لَيْسَ لمن
لم يتَرَجَّح أحد الطَّرفَيْنِ الْإِقْدَام عَلَيْهِ.
وَفِيه: جَوَاز الْخلْوَة وَالنَّظَر إِلَى غير الْعَوْرَة
للْمحرمِ بِالرّضَاعِ، وَلَكِن إِنَّمَا يثبت فِي محرمية
الرَّضَاع تَحْرِيم النِّكَاح وَجَوَاز النّظر وَالْخلْوَة
والمسافرة بهَا، وَلَا تثبت بَقِيَّة الْأَحْكَام من كل
وَجه: من الْمِيرَاث، وَوُجُوب النَّفَقَة وَالْعِتْق
بِالْملكِ وَالْعقل عَنْهَا ورد الشَّهَادَة وَسُقُوط
الْقصاص، وَلَو كَانَ أَبَا أَو أما، فَإِنَّهُمَا
كَالْأَجْنَبِيِّ فِي سَائِر هَذِه الْأَحْكَام.
5462 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ جابِرِ بنِ زَيْدٍ
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ
قَالَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بِنْتِ
حَمْزَةَ لَا تَحِلُّ لي يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا
يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ هِي بِنْتُ أخِي مِنَ
الرِّضَاعَةِ.
(الحَدِيث 5462 طرفه فِي: 0015) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ حكم الرَّضَاع.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن
مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح
عَن هدبة بن خَالِد عَن همام بِهِ وَعَن زُهَيْر بن حَرْب
وَعَن مُحَمَّد بن يحيى الْقطيعِي وَعَن أبي بكر بن أبي
شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبد الله بن
الصَّباح وَعَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد التَّمِيمِي.
وَأخرجه فِيهِ ابْن مَاجَه عَن حميد بن مسْعدَة الشَّامي
وَأبي بكر مُحَمَّد بن خَلاد.
قَوْله: (فِي بنت حَمْزَة) وَهُوَ حَمْزَة بن عبد الْمطلب
بن هَاشم أَبُو يعلى، وَقيل: أَبُو عمَارَة، وَهُوَ عَم
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَخُوهُ من
الرضَاعَة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لَهب، وَكَانَ
حَمْزَة أسن من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِسنتَيْنِ، وَشهد أحدا وَقتل بهَا يَوْم السبت النّصْف من
شَوَّال من سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة. قَوْله: (لَا تحل
لي) ، إِنَّمَا لم تحل لَهُ لِأَنَّهَا كَانَت بنت أَخِيه
من الرَّضَاع، وَهُوَ معنى قَوْله: (هِيَ بنت أخي من
الرضَاعَة) . قَوْله: (يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من
النّسَب) ، قَالَ الْخطابِيّ: اللَّفْظ عَام وَمَعْنَاهُ
خَاص، وتفصيله: أَن الرَّضَاع يجْرِي عُمُومه فِي تَحْرِيم
نِكَاح الْمُرضعَة وَذَوي أرحامها على الرَّضِيع مجْرى
النّسَب، وَلَا يجْرِي فِي الرَّضِيع وَذَوي أرحامه
مجْرَاه، وَذَلِكَ أَنه إِذا أَرْضَعَتْه صَارَت أما لَهُ
يحرم عَلَيْهِ نِكَاحهَا وَنِكَاح محارمها، وَهِي لَا تحرم
على أَبِيه وَلَا على ذَوي أنسابه غير أَوْلَاده، فَيجْرِي
الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب عُمُوما على أحد الشقين،
وخصوصاً فِي الشق الآخر. وَفِي (التَّوْضِيح) : يحرم من
الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب لفظ عَام لَا يتسثنى مِنْهُ
شَيْء. قلت: يسْتَثْنى مِنْهُ أَشْيَاء. مِنْهَا: أَنه
يجوز أَن يتَزَوَّج بِأم أَخِيه وَأُخْت ابْنه من
الرَّضَاع، وَلَا يجوز أَن يتَزَوَّج بهما من النّسَب
لِأَن أم أَخِيه من النّسَب تكون أمه، أَو مَوْطُوءَة
أَبِيه بِخِلَاف الرَّضَاع وَأُخْت ابْنه من النّسَب ربيته
أَو بنته، بِخِلَاف الرَّضَاع، وَيجوز أَن يتَزَوَّج بأخت
أَخِيه من الرَّضَاع، كَمَا يجوز أَن يتَزَوَّج بأخت
أَخِيه من النّسَب، ذَلِك مثل الْأَخ من الْأَب إِذا كَانَ
لَهُ أُخْت من الْأُم جَازَ لِأَخِيهِ من أَبِيه أَن
يَتَزَوَّجهَا، وكل مَا لَا يحرم من النّسَب لَا يحرم من
الرَّضَاع، وَقد يحرم من النّسَب مَا لَا يحرم من
الرَّضَاع، كَمَا ذكرنَا من الصُّورَتَيْنِ. وَمِنْهَا:
أَنه يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج بِأم حفيده من الرَّضَاع دون
النّسَب. وَمِنْهَا: أَنه يجوز أَن يتَزَوَّج بجدة وَلَده
من الرَّضَاع دون النّسَب. وَمِنْهَا: أَنه يجوز لَهَا أَن
تتَزَوَّج بأب أَخِيهَا من الرَّضَاع، وَلَا يجوز ذَلِك من
النّسَب. وَمِنْهَا: أَنه يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج أم عَمه
من الرَّضَاع دون النّسَب. وَمِنْهَا: أَنه يجوز لَهُ أَن
يتَزَوَّج أم خَاله من الرَّضَاع دون النّسَب. وَمِنْهَا:
أَنه يجوز لَهَا أَن تتَزَوَّج بِأَخ ابْنَتهَا من
الرَّضَاع دون النّسَب.
وَفِيه: إِثْبَات التحريمك بِلَبن الْفَحْل، وَاخْتلف أهل
الْعلم قَدِيما فِي لبن الْفَحْل، وَكَانَ الْخلاف قَدِيما
منتشراً فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. ثمَّ
أَجمعُوا بعد ذَلِك، إلاَّ الْقَلِيل مِنْهُم، أَن لبن
الْفَحْل يحرم، فَأَما من قَالَ من
(13/204)
الصَّحَابَة بِالتَّحْرِيمِ: ابْن عَبَّاس
وَعَائِشَة على اخْتِلَاف عَنْهَا، وَمن التَّابِعين:
عُرْوَة بن الزبير وطاووس وَابْن شهَاب وَمُجاهد وَأَبُو
الشعْثَاء جَابر بن زيد وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَسَالم
وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَهِشَام بن عُرْوَة، على
اخْتِلَاف فِيهِ. وَمن الْأَئِمَّة: أَبُو حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر.
وَأما من رخص فِي لبن الْفَحْل وَلم يره محرما فقد رُوِيَ
ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عمر
وَجَابِر وَرَافِع بن خديج وَعبد الله بن الزبير، وَمن
التَّابِعين: سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار أَخُوهُ عَطاء بن يسَار
وَمَكْحُول وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو قلَابَة
وَإيَاس بن مُعَاوِيَة، وَمن الْأَئِمَّة: إِبْرَاهِيم بن
علية وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن عبد
الْبر فِي (التَّمْهِيد) . وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد
خِلَافه، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لم يقل أحد من أَئِمَّة
الْفُقَهَاء وَأهل الْفَتْوَى بِإِسْقَاط حُرْمَة لبن
الْفَحْل إلاَّ أهل الظَّاهِر، وَابْن علية، وَالْمَعْرُوف
عَن دَاوُد مُوَافقَة مواتفقة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة
فِي ذَلِك حَكَاهُ ابْن حزم عَنهُ فِي (الْمحلى) وَكَذَا
ذهب إِلَيْهِ ابْن حزم. فَلم يبْق مِمَّن خَالف فِيهِ إِذا
إلاَّ ابْن علية.
وَاعْلَم أَنهم أَجمعُوا على انتشار الْحُرْمَة بَين
الْمُرضعَة وَأَوْلَاد الرَّضِيع وَأَوْلَاد الْمُرضعَة،
وَمذهب كَافَّة الْعلمَاء ثُبُوت حُرْمَة الرَّضَاع بَينه
وَبَين زوج الْمَرْأَة، وَيصير ولدا لَهُ وَأَوْلَاد الرجل
أخوة الرَّضِيع وإخواته وَيكون أخوة الرجل وإخواته
أَعْمَامه وعماته، وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَادًا
للرجل وَلم يُخَالف فِي هَذَا إِلَّا ابْن علية، كَمَا
ذكرنَا. وَنَقله الْمَازرِيّ عَن ابْن عمر وَعَائِشَة.
وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضَاعَة} (النِّسَاء: 32) . وَلم يذكر
الْبِنْت والعمة كَمَا ذكرهمَا فِي النّسَب، وَاحْتج
الْجُمْهُور بِحَدِيث الْبَاب وَغَيره من الْأَحَادِيث
الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي عَم عَائِشَة وَعم حَفْصَة،
وَأَجَابُوا عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ من الْآيَة أَنه:
لَيْسَ فِيهَا نَص بِإِبَاحَة الْبِنْت والعمة
وَنَحْوهمَا، لِأَن ذكر الشَّيْء لَا يدل على سُقُوط الحكم
عَمَّا سواهُ، لَو لم يُعَارضهُ دَلِيل آخر، كَيفَ وَقد
جَاءَت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي ذَلِك؟
6462 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرٍ عنْ عَمْرَةَ
بِنْتِ عبدِ الرحمانِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا زَوْجَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أخْبَرَتْها أنَّ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كانَ عِنْدَها وأنَّها سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ
يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قالَتْ عائِشَةُ فقُلْتُ
يَا رسولَ الله أُرَاهُ فُلاناً لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ
الرَّضَاعَةِ فقالتْ عائِشَةُ يَا رسولَ الله هذَا رَجُلٌ
يَسْتَأذِنُ فِي بَيْتِكَ قالتْ فَقَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أُرَاهُ فُلاناً لِعَمِّ حَفْصَةَ
مِنَ الرَّضَاعَةِ فقالتْ عائِشَةُ لوْ كانَ فُلانٌ
حَيَّاً لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخلَ علَيَّ فَقال
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَعَمْ إنَّ
الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلاَدَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ حكم الرَّضَاع،
وَعبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم
الْأنْصَارِيّ. وَرِجَال إِسْنَاده كلهم مدنيون إلاَّ
شَيْخه، وَقد دَخلهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْخمس: عَن عبد
الله بن يُوسُف وَفِي النِّكَاح عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه
مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله.
قَوْله: (وَأَنَّهَا) أَي: وَأَن عَائِشَة. قَوْله:
(يسْتَأْذن) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة:
رجل. قَوْله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ
الْقَائِل بقوله: أرَاهُ فلَانا، هُوَ عَائِشَة. وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (فَقَالَت عَائِشَة: يَا رَسُول الله!
هَذَا رجل يسْتَأْذن فِي بَيْتك؟ فَقَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (أرَاهُ فلَانا، لعم حَفْصَة) .
الحَدِيث، وَالْقَائِل هُوَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (لعم حَفْصَة) اللَّام فِيهِ وَفِي
قَوْلهَا: لعمها، لَام التَّبْلِيغ لسامع بقول أَو بِمَا
فِي مَعْنَاهُ، كاللام فِي قَوْلك. قلت لَهُ: وأذنت لَهُ،
وفسرت لَهُ، وَمَعَ هَذَا لَا يَخْلُو عَن معنى
التَّعْلِيل، فَافْهَم. (وَحَفْصَة) هِيَ زوج النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي بنت عمر بن الْخطاب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (دخل عليَّ) ، بتَشْديد
الْيَاء والاستفهام فِيهِ مُقَدّر تَقْدِيره: هَل كَانَ
يجوز لَهُ أَن يدْخل عَليّ؟ فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي جوابها: (نعم) يَعْنِي: نعم يجوز دُخُوله
عَلَيْك، ثمَّ علل جَوَاز دُخُوله عَلَيْهَا بقوله: (إِن
الرضَاعَة تحرم مَا يحرم من الْولادَة) ، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: (إِن الرضَاعَة تحرم مَا تحرم الْولادَة) ،
وَالرضَاعَة، بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا، وَفِي الرَّضَاع
أَيْضا لُغَتَانِ: فتح الرَّاء وَكسرهَا، وَقد
(13/205)
رضع الصَّبِي أمه، بِكَسْر الضَّاد، يرضعها
بِفَتْحِهَا، قَالَ الْجَوْهَرِي: يَقُول أهل نجد: رضع
يرضع، بِفَتْح الضَّاد فِي الْمَاضِي، وبكسرها فِي
الْمُضَارع رضعاً، كضرب يضْرب ضربا، وَالْحكم الَّذِي يعرف
مِنْهُ قد مر فِي الحَدِيث الْمَاضِي.
7462 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا
سُفْيانُ عنْ أشْعَثَ بنِ أبِي الشَّعْثَاءِ عنْ أبِيهِ
عنْ مَسْرُوقٍ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
قالَتْ دخَلَ علَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعِنْدِي رَجُلٌ قَالَ يَا عائِشَةُ مَنْ هاذَا قُلْتُ أخي
مِنَ الرَّضَاعَةِ قَالَ يَا عائِشَةُ انْظُرْنَ منْ
إخْوَانُكُنَّ فإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ.
(الحَدِيث 7462 طرفه فِي: 2015) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله كلهم كوفيون
إلاَّ عَائِشَة وَمُحَمّد بن كثير ضد الْقَلِيل وسُفْيَان
هُوَ الثَّوْريّ، وَأَشْعَث، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وبالثاء
الْمُثَلَّثَة: هُوَ ابْن سليم بن الْأسود الْمحَاربي
وَأَبوهُ أَبُو الشعْثَاء مثل حُرُوف أَشْعَث. واسْمه سليم
الْمَذْكُور، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن
أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث بِهِ. وَأخرجه
مُسلم فِي النِّكَاح عَن هناد وَعَن ابْن الْمثنى وَعَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن عبد بن
حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير
بِهِ وَعَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
هناد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَعِنْدِي رجل) ، الْوَاو فِيهِ
للْحَال. وَفِي رِوَايَة: (وَعِنْدِي رجل قَاعد،
فَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِ وَرَأَيْت الْغَضَب فِي وَجهه،
قَالَ: يَا عَائِشَة من هَذَا؟ فَقلت: يَا رَسُول الله!
إِنَّه أخي من الرضَاعَة) . قَوْله: (أنظرن) ، من النّظر
الَّذِي بِمَعْنى التفكير والتأمل. قَوْله: (من؟)
استفهامية. قَوْله: (إخوانكن) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم:
(إخوتكن) وَكِلَاهُمَا جمع: أَخ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
الْأَخ أَصله أَخُو، بِالتَّحْرِيكِ، لِأَنَّهُ جمع على:
آخا، مثل: آبَاء، والذاهب مِنْهُ وَاو، وَيجمع أَيْضا على
إخْوَان مثل: خرب وخربان، وعَلى إخْوَة وأُخوة، عَن
الْفراء. قَوْله: (فَإِنَّمَا الرضَاعَة) ، الْفَاء فِيهِ
للتَّعْلِيل لقَوْله: (أنظرن من إخوانكن) يَعْنِي: لَيْسَ
كل من أرضع لبن أمهَا يصير أَخا لَكِن، بل شَرطه أَن يكون
من المجاعة، أَي: الْجُوع، أَي: الرضَاعَة الَّتِي تثبت
بهَا الْحُرْمَة مَا يكون فِي الصغر حَتَّى يكون الرَّضِيع
طفْلا يسد اللَّبن جوعته، وَأما مَا كَانَ بعد الْبلُوغ
فَلَا يسدها اللَّبن وَلَا يشبعه إلاَّ الْخبز. وَقيل:
مَعْنَاهُ أَن المصة والمصتين لَا تسد الْجُوع، وَكَذَلِكَ
الرَّضَاع بعد الْحَوْلَيْنِ، وَإِن بلغ خمس رَضعَات،
وَإِنَّمَا يحرم إِذا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ قدر مَا
يدْفع المجاعة. وَهُوَ مَا قدر بِهِ السّنة يَعْنِي:
خمْسا، أَي: لَا بُد من اعْتِبَار الْمِقْدَار
وَالزَّمَان، قَالَه الْكرْمَانِي: قلت: فِيهِ خلاف فِي
الْمِقْدَار وَالزَّمَان. أما الْمِقْدَار: فقد قَالَ
الشَّافِعِي وَأَصْحَابه: لَا يثبت الرَّضَاع بِأَقَلّ من
خمس رَضعَات، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعنهُ: ثَلَاث رَضعَات،
وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء: يثبت برضعة وَاحِدَة، حَكَاهُ
ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر
وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء وطاووس وَسَعِيد بن الْمسيب
وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة
وَالْحكم وَحَمَّاد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري
وَأَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ
أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَابْن الْمُنْذر، رَحِمهم الله:
يثبت بِثَلَاث رَضعَات، وَلَا يثبت بِأَقَلّ، وَبِه قَالَ
سُلَيْمَان بن يسَار وَسَعِيد بن جُبَير وَدَاوُد
الظَّاهِرِيّ، وَحَكَاهُ ابْن حزم عَن إِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه، وَاحْتج الشَّافِعِي، وَمن مَعَه بِحَدِيث
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ
فِيمَا نزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات يحرمن ثمَّ نسخن
بِخمْس مَعْلُومَات، فَتوفي رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهِي فِيمَا يقرؤ من الْقُرْآن) . رَوَاهُ
مُسلم، وعنها: (أَنَّهَا لَا تحرم المصة والمصتان) ،
رَوَاهُ مُسلم أَيْضا، وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن مَعَه
بِإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم}
(النِّسَاء: 3) . وَلم يذكر عددا وَالتَّقْيِيد بِهِ
زِيَادَة، وَهُوَ نسخ ولإطلاق الْأَحَادِيث مِنْهَا قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من
النّسَب) ، وَقد مضى ذكره عَن قريب، وَمَا رَوَاهُ
مَنْسُوخ، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: قَوْله:
(لَا تحرم الرضعة والرضعتان) ، كَانَ فأمااليوم فالرضعة
الْوَاحِدَة تحرم، فَجعله مَنْسُوخا، حَكَاهُ أَبُو بكر
الرَّازِيّ، وَقيل: الْقُرْآن لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد،
وَإِذا لم يثبت قُرْآنًا لم يثبت خبر وَاحِد عَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن بطال: أَحَادِيث
عَائِشَة مضطربة فَوَجَبَ تَركهَا. وَالرُّجُوع إِلَى كتاب
الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ يرويهِ ابْن زيد مرّة عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمرَّة عَن عَائِشَة،
وَمرَّة عَن أَبِيه
(13/206)
وبمثله يسْقط. وَأما الزَّمَان: فمدته
ثَلَاثُونَ شهرا عِنْد أبي حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا سنتَانِ،
وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَعند زفر
ثَلَاث سِنِين، وَقَالَ بَعضهم: لَا حدَّ لَهُ للنصوص
الْمُطلقَة، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن
أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} (الْبَقَرَة: 332) .
وَقَوله: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} (الْأَحْقَاف:
51) . وَأَقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر. فَبَقيَ للفصال
حولان. وَلأبي حنيفَة قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أَرَادَا
فصالاً عَن تراضٍ مِنْهُمَا وتشاور} (الْبَقَرَة: 332) .
بعد قَوْله: {والوالدات يرضعن} (الْبَقَرَة: 332) . فَثَبت
أَن بعد الْحَوْلَيْنِ رضَاع، وَالْمعْنَى فِيهِ: أَنه لَا
يُمكن قطع الْوَلَد عَن اللَّبن دفْعَة وَاحِدَة، فَلَا
بُد من زِيَادَة مُدَّة يعْتَاد فِيهَا الصَّبِي مَعَ
اللَّبن الْفِطَام فَيكون غذاؤه اللَّبن تَارَة وَأُخْرَى
الطَّعَام إِلَى أَن ينسى اللَّبن، وَأَقل مُدَّة تنْتَقل
بهَا الْعَادة سِتَّة أشهر اعْتِبَارا بِمدَّة الْحمل.
تابَعَهُ ابنُ مَهْدِيٍّ عنْ سُفْيَانَ
أَي: تَابع مُحَمَّد بن كثير عبد الرَّحْمَن بن مهْدي فِي
رِوَايَته الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، كَمَا
رَوَاهُ ابْن كثير عَنهُ، وَهَذِه الْمُتَابَعَة رَوَاهَا
مُسلم عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان
بِهِ.
8 - (بابُ شَهَادَةِ القَاذِفِ والسَّاِرِقِ والزَّاني)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شَهَادَة الْقَاذِف،
وَهُوَ الَّذِي يقذف أحدا بِالزِّنَا، وأصل الْقَذْف
الرَّمْي، يُقَال: قذف يقذف، من بَاب: ضرب يضْرب، قذفا،
فَهُوَ قَاذف، وَلم يُصَرح بِالْجَوَابِ لمَكَان الْخلاف
فِيهِ.
وقَوْلِ الله تعَالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أبَداً وأُولائِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إلاَّ الَّذِينَ
تَابُوا} (النُّور: 4 و 5) .
وَقَول الله، مجرور عطفا على قَوْله: شَهَادَة الْقَاذِف،
وأوله قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات
ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جلدَة، وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا
وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إلاَّ الَّذين تَابُوا من
بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا، فَإِن الله غَفُور رَحِيم}
(النُّور: 4 و 5) . ظَاهر الْآيَة لَا يدل على الشَّيْء
الَّذِي بِهِ رموا الْمُحْصنَات، وَذكر الرَّامِي لَا يدل
على الزِّنَا، إِذْ قد يرميها بِسَرِقَة وَشرب خمر، فَلَا
بُد من قرينَة دَالَّة على التَّعْيِين، وَقد اتّفق
الْعلمَاء على أَن المُرَاد الرَّمْي بِالزِّنَا، لقرائن
دلّت عَلَيْهِ، وَهِي تقدم ذكر الزِّنَا وَذكر
الْمُحْصنَات الَّتِي هِيَ العفائف، يدل على أَن المُرَاد
الرَّمْي بضد العفاف. وَقَوله: {ثمَّ لم يَأْتُوا
بأَرْبعَة شُهَدَاء} (النُّور: 4 و 5) . وَمَعْلُوم أَن
الشُّهُود غير مَشْرُوط، إلاَّ فِي الزِّنَا،
وَالْإِجْمَاع على أَنه لَا يجب الْجلد بِالرَّمْي بِغَيْر
الزِّنَا. قَوْله: {فَاجْلِدُوهُمْ} (النُّور: 4 و 5) .
الْخطاب للأئمة. قَوْله: {إلاَّ الَّذين تَابُوا}
(النُّور: 4 و 5) . هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، لِأَن
التائبين غير داخلين فِي صدر الْكَلَام، وَهُوَ قَوْله:
{وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} (النُّور: 4 و 5) . إِذْ
التَّوْبَة تجب مَا قبلهَا من الذُّنُوب، فَلَا يكون
التائب فَاسِقًا، وَأما شَهَادَته فَلَا تقبل أبدا عِنْد
الْحَنَفِيَّة، لِأَن رد الشَّهَادَة من تَتِمَّة الْحَد،
لِأَنَّهُ يصلح جَزَاء فَيكون مشاركاً للْأولِ فِي كَونه
حدا. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} (النُّور: 4
و 5) . لَا يصلح جَزَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ بخطاب للأئمة،
بل هُوَ إِخْبَار عَن صفة قَائِمَة بالقاذفين، فَلَا يصلح
أَن يكون من تَمام الْحَد لِأَنَّهُ كَلَام مُبْتَدأ على
سَبِيل الِاسْتِئْنَاف مُنْقَطع عَمَّا قبله لعدم صِحَة
عطفه على مَا سبق. لِأَن قَوْله: {وَأُولَئِكَ هم
الْفَاسِقُونَ} (النُّور: 4 و 5) . جملَة إخبارية لَيْسَ
بخطاب للأئمة، وَمَا قبله جملَة إنشائية خطاب للأئمة،
وَكَذَا قَوْله: {وَلَا تقبلُوا} (النُّور: 4 و 5) . جملَة
إنشائية، خطاب للأئمة، فيصلح أَن يكون عطفا على قَوْله:
{فاجلدوا} (النُّور: 4 و 5) . وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله
قطع قَوْله: {وَلَا تقبلُوا} (النُّور: 4 و 5) . عَن
قَوْله: {فاجلدوا} (النُّور: 4 و 5) . مَعَ دَلِيل
الِاتِّصَال، وَهُوَ كَونه جملَة إنشائية صَالِحَة للجزاء،
مفوضة إِلَى الْأَئِمَّة مثل الألى وواصل قَوْله
(وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ) مَعَ قيانم دَلِيل
الإنفصال وَهُوَ كَونه جملَة إسمية غير صَالِحَة للجزاء
ثمَّ إِنَّه إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته عِنْد الشَّافِعِي،
وَعند أبي حنيفَة رد شَهَادَته يتَعَلَّق بِاسْتِيفَاء
الْحَد، فَإِذا شهد قبل الْحَد أَو قبل تَمام اسْتِيفَائه
قبلت شَهَادَته، فَإِذا استوفى لم تقبل شَهَادَته أبدا،
وَإِن تَابَ وَكَانَ من الْأَبْرَار الأتقياء، وَعند
الشَّافِعِي رد شَهَادَته مُتَعَلق بِنَفس الْقَذْف،
فَإِذا تَابَ عَن الْقَذْف بِأَن يرجع عَنهُ عَاد مَقْبُول
الشَّهَادَة، وَكِلَاهُمَا متمسك بِالْآيَةِ على الْوَجْه
الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الشَّافِعِي: التَّوْبَة من
الْقَذْف إكذابه نَفسه، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي: مَعْنَاهُ
أَن يَقُول: كذبت فَلَا أَعُود إِلَى مثله. وَقَالَ أَبُو
إِسْحَاق: لَا يَقُول كذبت، لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ
صَادِقا، فَيكون قَوْله: كذبت كذبا، وَالْكذب مَعْصِيّة،
والإتيان بالمعصية لَا يكون تَوْبَة عَن مَعْصِيّة
أُخْرَى، بل يَقُول: الْقَذْف بَاطِل نَدِمت على مَا قلت
وَرجعت عَنهُ وَلَا أَعُود إِلَيْهِ. قَوْله:
{وَأَصْلحُوا} (النُّور: 4 و 5) . قَالَ أَصْحَابنَا:
إِنَّه بعد التَّوْبَة لَا بُد
(13/207)
من مُضِيّ مُدَّة عَلَيْهِ فِي حسن الْحَال
حَتَّى قدرُوا ذَلِك بِسنة، لِأَن الْفُصُول الْأَرْبَعَة
يتَغَيَّر فِيهَا الْأَحْوَال والطبائع، كَمَا فِي
الْعنين، قَوْله: {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} (النُّور: 4
و 5) . يقبل التَّوْبَة من كرمه.
وجَلَدَ عُمَرُ أبَا بَكْرَةَ وشِبْلَ بنَ مَعْبَدٍ
ونافِعَاً بِقَذْفِ المُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ
وَقَالَ مَنْ تابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ
أَبُو بكرَة اسْمه نفيع مصغر نفع بِالْفَاءِ: ابْن
الْحَارِث بن كلدة، بِالْكَاف وَاللَّام وَالدَّال
الْمُهْملَة المفتوحات: ابْن عَمْرو بن علاج ابْن أبي
سَلمَة واسْمه: عبد الْعُزَّى، وَيُقَال: ابْن عبد الْعزي
بن نميرة بن عَوْف بن قسي، وَهُوَ ثَقِيف الثَّقَفِيّ،
صَاحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: كَانَ
أَبوهُ عبدا لِلْحَارِثِ بن كلدة، فاستلحقه الْحَار وَهُوَ
أَخُو زِيَاد لأمه، وَكَانَت أمهما سميَّة أمة لِلْحَارِثِ
بن كلدة، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: أَبُو بكرَة، لِأَنَّهُ
تدلى إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ببكرة من
حصن الطَّائِف، فكنى أَبَا بكرَة فَأعْتقهُ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمئِذٍ رُوِيَ لَهُ عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مائَة حَدِيث
وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا على ثَمَانِيَة،
وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة، وَمُسلم بِحَدِيث،
وَكَانَ مِمَّن اعتزل يَوْم الْجمل وَلم يُقَاتل مَعَ أحد
من الْفَرِيقَيْنِ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة إِحْدَى
وَخمسين، وَصلى عَلَيْهِ أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وشبل، بِكَسْر الشين
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن معبد،
بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن
عَليّ بن أسلم بن أحمس بن الْغَوْث بن أَنْمَار البَجلِيّ،
قَالَه الطَّبَرِيّ، وَهُوَ أَخُو أبي بكرَة لأمه، وهم
أَرْبَعَة أخوة لأم وَاحِدَة اسْمهَا سميَّة. وَقد
ذَكرنَاهَا الْآن. وَقَالَ بَعضهم: لَيست لَهُ صُحْبَة،
وَكَذَا قَالَ يحيى بن معِين، روى لَهُ التِّرْمِذِيّ،
وَنَافِع بن الْحَارِث أَخُو أبي بكرَة لأمه نزلا من
الطَّائِف فَأَسْلمَا وَله رِوَايَة، قَالَه الذَّهَبِيّ.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: الثَّلَاثَة يَعْنِي: أَبَا بكرَة
وشبل بن معبد ونافعاً أخوة صحابيون شهدُوا مَعَ أَخ آخر
لأبي بكرَة اسْمه: زِيَاد، على الْمُغيرَة فجلد
الثَّلَاثَة، وَزِيَاد لَيست لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة،
وَكَانَ من دهاة الْعَرَب وفصحائهم، مَاتَ سنة ثَلَاث
وَخمسين، وقصتهم رويت من طرق كَثِيرَة. ومحصلها: أَن
الْمُغيرَة بن شُعْبَة كَانَ أَمِير الْبَصْرَة لعمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فاتهمه أَبُو بكرَة
وشبل وَنَافِع وَزِيَاد الَّذِي يُقَال لَهُ زِيَاد بن أبي
سُفْيَان، وهم أخوة لأم تسمى: سميَّة، وَقد ذَكرنَاهَا،
فَاجْتمعُوا جَمِيعًا فَرَأَوْا الْمُغيرَة متبطن
الْمَرْأَة، وَكَانَ يُقَال لَهَا: الرقطاء أم جميل بنت
عَمْرو بن الأفقم الْهِلَالِيَّة، وَزوجهَا الْحجَّاج بن
عتِيك بن الْحَارِث بن عَوْف الْجُشَمِي، فرحلوا إِلَى
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فشكوه، فَعَزله عمر وَولى
أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وأحضر الْمُغيرَة فَشهد
عَلَيْهِ الثَّلَاثَة بِالزِّنَا، وَأما زِيَاد فَلم يثبت
الشَّهَادَة، وَقَالَ: رَأَيْت منْظرًا قبيحاً وَمَا
أَدْرِي أخالطها أم لَا؟ فَأمر عمر بجلد الثَّلَاثَة حد
الْقَذْف، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق
عبد الْعَزِيز بن أبي بكرَة الْقِصَّة مُطَوَّلَة، وفيهَا:
فَقَالَ زِيَاد: رأيتهما فِي لِحَاف وَسمعت نفسا عَالِيا،
وَمَا أَدْرِي مَا وَرَاء ذَلِك، وَالتَّعْلِيق الَّذِي
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَصله الشَّافِعِي فِي (الْأُم) عَن
سُفْيَان، قَالَ: سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول: زعم أهل
الْعرَاق أَن شَهَادَة الْمَحْدُود لَا تجوز، فَأشْهد
لأخبرني فلَان أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ لأبي بكرَة، تب وَأَقْبل شهادتك. قَالَ
سُفْيَان: سمى الزُّهْرِيّ الَّذِي أخبرهُ فحفظته ثمَّ
نَسِيته، فَقَالَ لي عمر بن قيس: هُوَ ابْن الْمسيب، وروى
سُلَيْمَان بن كثير عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد أَن عمر
قَالَ لأبي بكرَة وشبل وَنَافِع: من تَابَ مِنْكُم قبلت
شَهَادَته، قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: ابْن الْمسيب لم
يَأْخُذهُ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاَّ
بلاغاً لِأَنَّهُ لم يَصح لَهُ عَنهُ سَماع، وروى أَبُو
دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا قيس بن سَالم
الْأَفْطَس عَن قيس بن عَاصِم، قَالَ: كَانَ أَبُو بكرَة
إِذا أَتَاهُ رجل ليشهده قَالَ: أشهِد غَيْرِي، فَإِن
الْمُسلمين قد فسقوني. وَالدَّلِيل على أَن الحَدِيث لم
يكن عِنْد سعيد بِالْقَوِيّ، أَنه كَانَ يذهب إِلَى
خِلَافه، روى عَنهُ قَتَادَة وَعَن الْحسن أَنَّهُمَا
قَالَا: الْقَاذِف إِذا تَابَ تَوْبَة فِيمَا بَينه وَبَين
ربه، عز وَجل، لَا تقبل لَهُ شَهَادَة، ويستحيل أَن يسمع
من عمر شَيْئا بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَلَا ينكرونه
عَلَيْهِ وَلَا يخالفونه ثمَّ يتْركهُ إِلَى خِلَافه،
وَذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي كِتَابه (الْمدْخل) : إِذا لم
يثبت هَذَا، كَيفَ رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه؟
وَأجِيب: بِأَن الْخَبَر مُخَالف للشَّهَادَة، وَلِهَذَا
لم يتَوَقَّف أحد من أهل الْمصر عَن الرِّوَايَة عَنهُ
وَلَا طعن
(13/208)
أحد على رِوَايَته من هَذِه الْجِهَة مَعَ
إِجْمَاعهم أَن لَا شَهَادَة لمحدود فِي قذف غير ثَابت،
فَصَارَ قبُول خَبره جَارِيا مجْرى الْإِجْمَاع، وَفِيه
مَا فِيهِ.
وأجازَهُ عبْدُ الله بنُ عُتْبَةَ وعُمرُ بنُ عَبْدِ
العَزِيزِ وسعيدُ بنُ جُبَيْر وطاوُوسٌ ومُجَاهِدٌ
والشَّعْبِيُّ وعِكْرِمَةُ والزُّهْرِيُّ ومُحَارِبُ بنُ
دِثَارٍ وشُرَيْحٌ ومُعَاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ
أَي: وَأَجَازَ الحكم الْمَذْكُورَة، وَهُوَ قبُول
شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف عبد الله بن عتبَة
بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة
من فَوق: ابْن مَسْعُود الْهُذلِيّ، وَوَصله الطَّبَرِيّ
من طَرِيق عمرَان بن عُمَيْر. قَالَ: كَانَ عبد الله بن
عتبَة يُجِيز شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ، وَعمر بن عبد
الْعَزِيز الْخَلِيفَة الْمَشْهُور وَوَصله الطَّبَرِيّ
والخلال من طَرِيق ابْن جريج عَن عمرَان بن مُوسَى: سَمِعت
عمر بن عبد الْعَزِيز أجَاز شَهَادَة الْقَاذِف وَمَعَهُ
رجل، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج فَزَاد مَعَ
عمر بن عبد الْعَزِيز أبات بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن
حزم. قَوْله: (وَسَعِيد بن جُبَير) التَّابِعِيّ
الْمَشْهُور، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيقه بِلَفْظ:
تقبل شَهَادَة الْقَاذِف إِذا تَابَ. قَوْله: (وطاووس)
هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَانِيّ، وَمُجاهد بن جبر
الْمَكِّيّ، وصل مَا روى عَنْهُمَا سعيد بن مَنْصُور
وَالشَّافِعِيّ والطبري من طَرِيق ابْن أبي نجيح، قَالَ:
الْقَاذِف إِذا تَابَ تقبل شَهَادَته، قيل لَهُ: من
يَقُوله؟ قَالَ: عَطاء وطاووس وَمُجاهد. قَوْله:
(وَالشعْبِيّ) هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وصل مَا روى عَنهُ
الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي خَالِد عَنهُ أَنه كَانَ
يَقُول: إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته. قَوْله: (وَعِكْرِمَة)
، هُوَ مولى ابْن عَبَّاس، وصل مَا روى عَنهُ الْبَغَوِيّ
فِي (الجعديات) عَن شُعْبَة عَن يُونُس هُوَ ابْن عبيد عَن
عِكْرِمَة قَالَ: إِذا تَابَ الْقَاذِف قبلت شَهَادَته.
قَوْله: (وَالزهْرِيّ) ، هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب،
وصل مَا روى عَنهُ ابْن جرير عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا حد
الْقَاذِف فَإِنَّهُ يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يستتيبه،
فَإِن تَابَ قبلت شَهَادَته، وإلاَّ لم تقبل. قَوْله:
(ومحارب) ، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَكسر
الرَّاء: ابْن دثار، بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة: الْكُوفِي قاضيها، و:
شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة القَاضِي، وَمُعَاوِيَة
بن قُرَّة بن إِيَاس الْبَصْرِيّ أدْرك جمَاعَة من
الصَّحَابَة. وَقَالَ بَعضهم: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من
أهل الْكُوفَة. قلت: لَا نسلم قَوْله: إِن مُعَاوِيَة من
أهل الْكُوفَة، بل هُوَ من أهل الْبَصْرَة، وَلم يُرْوَ
عَن أحد مِنْهُم التَّصْرِيح بِقبُول شَهَادَة الْقَاذِف،
وَهَؤُلَاء أحد عشر نفسا ذكرهم البُخَارِيّ تَقْوِيَة
لمَذْهَب من يرى بِقبُول شَهَادَة الْقَاذِف، ورد
الْمَذْهَب من لَا يرى بذلك، وَمن لَا يرى بذلك أَيْضا
رووا عَن ابْن عَبَّاس ذكره ابْن حزم عَنهُ بِسَنَد جيد من
طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَنهُ أَنه
قَالَ: شَهَادَة الْقَاذِف لَا تجوز وَإِن تَابَ، وَهَذَا
وَاحِد يُسَاوِي هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، بل يفضل
عَلَيْهِم، وَكفى بِهِ حجَّة. وَقَالَ ابْن حزم أَيْضا:
وَصَحَّ ذَلِك أَيْضا عَن الشّعبِيّ فِي أحد قوليه،
وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُجاهد فِي أحد قوليه، وَعِكْرِمَة
فِي أحد قوليه، وَشُرَيْح وسُفْيَان بن سعيد، وروى ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن
الْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب قَالَا: لَا شَهَادَة لَهُ
وتوبته بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَهَذَا سَنَد صَحِيح
على شَرط مُسلم، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمثنى بن
الصَّباح وآدَم بن فائد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن جده: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام)
. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: آدم والمثنى لَا يحْتَج
بهما. قلت: فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة حَدثنَا عبد
الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عَن حجاج عَن عَمْرو بن شُعَيْب
عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض إلاَّ
محدوداً فِي قذف) . فقد تَابع الْحجَّاج وَهُوَ ابْن
أَرْطَأَة آدم والمثنى، وَالْحجاج أخرج لَهُ مُسلم مقرون
بآخر، وَرَوَاهُ أَبُو سعيد النقاش فِي (كتاب الشُّهُود)
تأليفه من حَدِيث حجاج وَمُحَمّد بن عبيد الله
الْعَزْرَمِي وَسليمَان بن مُوسَى عَن عَمْرو بن شُعَيْب،
وَرَوَاهُ أَحْمد بن مُوسَى بن مرْدَوَيْه فِي مجالسه من
حَدِيث الْمثنى عَن عَمْرو عَن أَبِيه عَن عبد الله بن
عَمْرو.
وقالَ أبُو الزِّنادِ الأمْرُ عِنْدَنا بالمَدِينَةِ إذَا
رجِعَ القاذِفُ عنْ قَوْلِهِ فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
قُبِلَتْ شِهادَتُهُ
أَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد
الله بن ذكْوَان، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن
مَنْصُور من طَرِيق حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن قَالَ:
رَأَيْت رجلا جلد حدا فِي قذف بِالزِّنَا، فَلَمَّا فرغ من
ضربه أحدث تَوْبَة، فَلَقِيت أَبَا الزِّنَاد، فَقَالَ لي:
الْأَمر عندنَا ... فَذكره.
(13/209)
وقالَ الشُّعْبِيُّ وقَتادَةُ إذَا أكْذَبَ
نفْسَهُ جُلِدَ وقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ
الشّعبِيّ عَامر بن شرَاحِيل، وصل مَا روى عَنهُ ابْن أبي
حَاتِم من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ
قَالَ: إِذا أكذب الْقَاذِف نَفسه قبلت شَهَادَته. قلت: قد
صَحَّ عَن الشّعبِيّ فِي أحد قوليه: إِنَّه لَا تقبل، وَقد
ذَكرْنَاهُ الْآن عَن ابْن حزم.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا جُلِدَ العَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ
جازَتْ شَهَادَتُهُ وإنِ اسْتُقْضِيَ الْمَحُدُودُ
فَقضاياهُ جائِزَةٌ
أَي: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: رَوَاهُ عَنهُ فِي
(جَامعه) عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، وروى عبد
الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن وَاصل عَن إِبْرَاهِيم
قَالَ: لَا تقبل شَهَادَة الْقَاذِف تَوْبَته فِيمَا بَينه
وَبَين الله، وَقَالَ الثَّوْريّ: وَنحن على ذَلِك.
وَقَالَ بعْضُ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ شهادَةُ القَاذِفِ
وإنْ تابَ
أَرَادَ بِبَعْض النَّاس أَبَا حنيفَة، فِيمَا ذهب
إِلَيْهِ، وَلَكِن هَذَا لَا يمشي وَلَا يبرد بِهِ قلب
المتعصب، فَإِن أَبَا حنيفَة مَسْبُوق بِهَذَا القَوْل،
وَلَيْسَ هُوَ بمخترع لَهُ، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، نَحوه وَعَن
جمَاعَة من التَّابِعين، وَقد ذَكَرْنَاهُمْ، وَقَالَ
بَعضهم: وَهَذَا مَنْقُول عَن الحنيفة، يَعْنِي: عدم قبُول
شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف، وَقَالَ: وَاحْتَجُّوا
فِي ذَلِك بِأَحَادِيث قَالَ الْحفاظ: لَا يَصح شَيْء
مِنْهَا، وأشهرها حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن
جده مَرْفُوعا: لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة
وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام. أخرجه أَبُو دَاوُد
وَابْن مَاجَه وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة
نَحوه، وَقَالَ: لَا يَصح، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مُنكر،
قلت: قد مر عَن قريب حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن جده أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي (مُصَنفه) وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَلما أخرجه أَبُو دَاوُد سكت
عَنهُ، وَهَذَا دَلِيل الصِّحَّة عِنْده.
ثُمَّ قالَ لَا يَجُوزُ نِكاحٌ بِغَيْرِ شاهِدَيْنِ فإنْ
تَزوَّجَ بِشَهَادَةِ محْدُودَيْنِ جازَ وإنْ تَزوَّجَ
بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ
أَي: ثمَّ قَالَ بعض النَّاس الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ
إِثْبَات التَّنَاقُض فِيمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة،
وَلَكِن لَا يمشي أصلا لِأَن حَالَة التَّحَمُّل لَا
تشْتَرط فِيهَا الْعَدَالَة، كَمَا ذكر عَن بعض
الصَّحَابَة أَنه تحمل فِي حَال كفره، ثمَّ أدّى بعد
إِسْلَامه، وَذَلِكَ لِأَن الْغَرَض شهرة النِّكَاح،
وَذَلِكَ حَاصِل بِالْعَدْلِ، وَغَيره عِنْد التَّحَمُّل،
وَأما عِنْد الْأَدَاء فَلَا يقبل إلاَّ الْعدْل. قَوْله:
(فَإِن تزوج) إِلَى آخِره أَيْضا إِثْبَات التَّنَاقُض
فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تنَاقض، لِأَن عدم جَوَاز النِّكَاح
بِغَيْر شَاهِدين بِالنَّصِّ، وَأما التَّزَوُّج
بِشَهَادَة محدودين فقد ذكرنَا أَن المُرَاد من ذَلِك شهرة
النِّكَاح، وَذَلِكَ حَاصِل بِشَهَادَة المحدودين، وَأما
عدم جَوَاز التَّزَوُّج بِشَهَادَة عَبْدَيْنِ فَلِأَن
الأَصْل فِيهِ أَن كل من ملك الْقبُول بِنَفسِهِ انْعَقَد
العقد بِحُضُورِهِ، وَمن لَا فَلَا، فَإِذا كَانَ كَذَلِك
لَا ينْعَقد بِحُضُور عَبْدَيْنِ أَو صبيين أَو مجنونين،
فَمن أَيْن التَّنَاقُض يرد؟ وَمن أَيْن الِاعْتِرَاض
الصَّادِر من غير تَأمل فِي دقائق الْأَشْيَاء؟
وأجازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ والعبْدِ والأمَةِ
لِرُؤْيَةِ هِلالِ رَمَضانَ
أَي: أجَاز بعض النَّاس الْمشَار إِلَيْهِ. . إِلَى آخِره،
وَهَذَا الِاعْتِرَاض أَيْضا لَيْسَ بِشَيْء أصلا،
وَذَلِكَ لِأَن أَبَا حنيفَة أجْرى ذَلِك مجْرى الْخَبَر،
وَالْخَبَر يُخَالف الشَّهَادَة فِي الْمَعْنى، لِأَن
الْمخبر لَهُ دخل فِي حكم مَا شهد بِهِ، وَقَالَ بِهَذَا
أَيْضا غير أبي حنيفَة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) :
هَذَا غلط لِأَن الشَّاهِد على هِلَال رَمَضَان لَا يَزُول
عَنهُ اسْم شَاهد، وَلَا يُسمى مخبرا، فَحكمه حكم
الشَّاهِد فِي الْمَعْنى لاستحقاقه ذَلِك بالإسم،
وَأَيْضًا: فَإِن الشَّهَادَة على هِلَال رَمَضَان حكم من
الْأَحْكَام، وَلَا يجوز أَن يقبل فِي الْأَحْكَام إلاَّ
من تجوز شَهَادَته فِي كل شَيْء، وَمن جَازَت شَهَادَته
فِي هِلَال رَمَضَان وَلم تجز فِي الْقَذْف فَلَيْسَ
بِعدْل، وَلَا هُوَ مِمَّن يرضى، لِأَن الله تَعَالَى
إِنَّمَا تعبدنا بِمن نرضى من الشُّهَدَاء. انْتهى. قلت:
هَذَا تَطْوِيل الْكَلَام بِلَا فَائِدَة، وَكَلَام
مَبْنِيّ على غير معرفَة بدقائق الْأَشْيَاء، وَقَوله:
الشَّاهِد على هِلَال رَمَضَان لَا يَزُول عَنهُ اسْم
الشَّاهِد، وَلَا يُسمى مخبرا، تحكم زَائِد، وَعدم زَوَال
اسْم الشَّاهِد عَن الشَّاهِد على هِلَال رَمَضَان لَا
عَقْلِي وَلَا نقلي، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان
وَنفي الْإِخْبَار عَن شَاهد هِلَال رَمَضَان غير صَحِيح،
على مَا لَا يخفى. وَقَوله: وَحكمه حكم الشَّاهِد فِي
الْمَعْنى يُنَاقض كَلَامه، الأول، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا
يُسمى مخبرا ثمَّ كَيفَ
(13/210)
يَقُول: فَحكمه أَي: فَحكم هَذَا الْمخبر
حكم الشَّاهِد فِي الْمَعْنى، وَنحن أَيْضا نقُول بذلك،
وَلكنه لَيْسَ بِشَهَادَة حَقِيقَة إِذْ لَو كَانَت
شَهَادَة حَقِيقَة لما جَازَ الحكم بِشَهَادَة وَاحِد فِي
هِلَال رَمَضَان، مَعَ أَنه يَكْتَفِي بِشَهَادَة وَاحِد
عِنْد اعتلال المطلع بِشَيْء، وَهُوَ قَول عِنْد
الشَّافِعِي أَيْضا وَرِوَايَة أَحْمد، وَالله تَعَالَى
تعبدنا بِمن نرضى من الشُّهَدَاء عِنْد الشَّهَادَات
الْحَقِيقِيَّة، والإخبار بِهِلَال رَمَضَان لَيْسَ من
ذَلِك، وَالله أعلم.
وكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ وقَدْ نَفاى النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الزَّانِي سَنةً
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَهُوَ من تَمام
التَّرْجَمَة، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا عطف على أول
التَّرْجَمَة، وَكَثِيرًا مَا يفعل البُخَارِيّ مثله، يردف
تَرْجَمَة على تَرْجَمَة، وَإِن بعد مَا بَينهمَا. قَوْله:
(وَكَيف تعرف تَوْبَته؟) أَي: كَيفَ تعرف تَوْبَة
الْقَاذِف؟ وَأَشَارَ بذلك إِلَى الِاخْتِلَاف، فَقَالَ:
أَكثر السّلف: لَا بُد أَن يكذب نَفسه، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَاخْتَارَهُ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق. وَقَالَ:
تَوْبَته أَن يزْدَاد خيرا وَلم يشْتَرط إكذاب نَفسه فِي
تَوْبَته، لجَوَاز أَن يكون صَادِقا فِي قذفه، وَإِلَى
هَذَا مَال البُخَارِيّ، كَمَا نذكرهُ الْآن، وَهُوَ
استدلاله على ذَلِك بقوله: وَقد نفى النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الزَّانِي سنة، أَي: قد نَفَاهُ عَن
الْبَلَد، وَهُوَ التَّغْرِيب، وَلم ينْقل عَنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه شَرط على الزَّانِي تَكْذِيبه
لنَفسِهِ واعترافه بِأَنَّهُ عصى الله، عز وَجل، فِي
مُدَّة تغريبه، وَسَيَأْتِي نفي الزَّانِي مَوْصُولا فِي
آخر الْبَاب.
ونهاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ كَلامِ كعبِ
بنِ مالِكٍ وصاحِبَيْهِ حتَّى مضاى خَمسُونَ لَيْلَةً
هَذَا أَيْضا من جملَة مَا يسْتَدلّ بِهِ البُخَارِيّ على
مَا ذهب إِلَيْهِ مثل مَا ذهب مَالك، بَيَانه أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما نهى عَن كَلَام كَعْب بن مَالك
وصاحبيه هما مرَارَة بن الرّبيع وهلال بن أُميَّة {الَّذين
خلفوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا
رَحبَتْ} (التَّوْبَة: 811) . لم ينْقل عَنهُ أَنه شَرط
عَلَيْهِم ذَلِك فِي مُدَّة الْخمسين، وقصة كَعْب ستأتي
بِطُولِهَا فِي آخر تَفْسِير بَرَاءَة، وغزوة تَبُوك.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلق قصتهم
بِالْبَابِ؟ قلت: تخلفوا عَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك، والتخلف عَنهُ بِدُونِ
إِذْنه مَعْصِيّة، كالسرقة وَنَحْوهَا.
8462 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْبٍ عنْ
يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ
شِهابِ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ
امْرَأةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ فَأتى بهَا رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ أمَرَ فَقُطِعَتْ
يَدُها قالتْ عائِشَةُ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها وتَزَوَّجَتْ
وكانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذالِكَ فأرْفعُ حاجَتَها إِلَى
رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فحسنت توبتها) ،
لِأَن فِيهِ دلَالَة على أَن السَّارِق إِذا تَابَ وَحسنت
حَاله تقبل شَهَادَته، فَالْبُخَارِي ألحق الْقَاذِف
بالسارق لعدم الْفَارِق عِنْده، وَنقل الطَّحَاوِيّ
الْإِجْمَاع على قبُول شَهَادَة السَّارِق إِذا تَابَ،
وَذهب الْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن صَالح إِلَى أَن
الْمَحْدُود فِي الْخمر إِذا تَابَ لَا تقبل شَهَادَته،
وَقد خالفا فِي ذَلِك جَمِيع فُقَهَاء الْأَمْصَار.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَابْن وهب هُوَ عبد
الله بن وهب، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحُدُود عَن
إِسْمَاعِيل أَيْضا بِإِسْنَادِهِ، وَفِي غَزْوَة الْفَتْح
عَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن
أبي الطَّاهِر وحرملة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن يحيى عَن أبي صَالح، وَهُوَ عبد الله بن صَالح
كَاتب اللَّيْث عَن اللَّيْث. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْقطع عَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن وهب. وَأما
التَّعْلِيق عَن اللَّيْث فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد عَن
مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس عَن أبي صَالح لَكِن بِغَيْر
هَذَا اللَّفْظ، وَظهر أَن هَذَا اللَّفْظ لِابْنِ وهب.
قَوْله: (أَن امْرَأَة) ، اسْمهَا: فَاطِمَة بنت الْأسود.
قَوْله: (ثمَّ أَمر بهَا فَقطعت) ، فِيهِ حذف يَعْنِي:
بَعْدَمَا ثَبت عِنْد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
بِشُرُوطِهِ أَمر بِقطع يَدهَا.
وَفِيه: أَن الْمَرْأَة كَالرّجلِ فِي حكم السّرقَة.
وَفِيه: أَن تَوْبَة السَّارِق إِذا حسنت لَا ترد
شَهَادَته بعد ذَلِك.
(13/211)
9462 - حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله
بنِ عبدِ الله عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ
أمَرَ فِيمَنْ زَنَى ولَمْ يُحْصِنْ بِجِلْدِ مائَةٍ
وتَغْرِيبِ عامٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يشْتَرط على الَّذِي زنى وأقيم عَلَيْهِ الْحَد
ذكر التَّوْبَة، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَاعِز: حصلت
التَّوْبَة بِالْحَدِّ، وَكَذَا فِي هَذَا الزَّانِي.
وَرِجَال هَذَا الحَدِيث قد ذكرُوا غير مرّة بِهَذَا
النسق، ومفرقين أَيْضا، وَعبيد الله بن عبد الله ابْن
عتبَة بن مَسْعُود، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن قُتَيْبَة
وَمُحَمّد بن رمح وَعَن أبي الطَّاهِر وحرملة.
قَوْله: (بجلد مائَة) ، الْبَاء فِيهِ مُتَعَلق بقوله
أَمر. وَقَوله: (فِيمَن زنى) فِي مَحل النصب على المفعولية
بقوله: (يجلد مائَة) ، لِأَن الْمصدر يعْمل عمل فعله.
قَوْله: (وَلم يحصن) ، بِفَتْح الصَّاد وَكسرهَا وَالْوَاو
فِيهِ للْحَال. والْحَدِيث احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَمَالك
وَأحمد على أَن الزَّانِي إِذا لم يكن مُحصنا يجلد مائَة
جلدَة ويغرب سنة. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يجمع بَين جلد
وَنفي، لِأَن النَّص جعل الْجلد مائَة وَالزِّيَادَة على
مُطلق النَّص نسخ، والْحَدِيث مَنْسُوخ، وَلِأَن فِي
التَّغْرِيب تعريضاً للْفَسَاد، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة،
وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نفى شخصا فَارْتَد،
وَلحق بدار الْحَرْب، فَحلف أَن لَا يَنْفِي بعده أبدا،
وَبِهَذَا عرف أَن نفيهم كَانَ بطرِيق السياسة
وَالتَّعْزِير لَا بطرِيق الْحَد. لِأَن مثل عمر لَا يحلف
أَن لَا يُقيم الْحُدُود، وَالله أعلم. |