عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 9 - (بابٌ لَا يَشْهَدُ على شِهَادَةِ
جَوْر إذَا أُشْهِدَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يشْهد الرجل على شَهَادَة
جور، وَهُوَ الظُّلم والحيف والميل عَن الْحق. قَوْله:
(إِذا أشهد) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
0562 - حدَّثنا عبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ
أخبرنَا أبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عنِ
النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ
سألَتْ أُمِّي أبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مالِهِ
ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فقالَت لَا أرْضاى حتَّى
تُشْهِدَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخَذَ بِيَدِي
وأنَا غُلامٌ فأتاى بيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ إنَّ أُمَّهُ بنْتَ رَواحَةَ سألَتْنِي بَعْضَ
الْمَوْهِبَةِ لِهاذا قَالَ ألَكَ ولَدٌ سِواهُ قَالَ
نَعَمْ قَالَ فأُرَاهُ قَالَ لَا تُشْهِدْني عَلَى جَوْر.
وَقَالَ أبُو حَرِيزٍ عنِ الشَّعْبِيِّ لَا أشْهَدُ على
جَوْر.
(انْظُر الحَدِيث 6852 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: إِذا أشهد،
لِأَنَّهُ لَا يشْهد على جور إِذا لم يستشهد بطرِيق
الأولى، وعبدان هُوَ عبد الله ابْن عُثْمَان الْمروزِي،
وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي وَأَبُو
حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء
آخر الْحُرُوف وبالنون التَّيْمِيّ، بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، واسْمه: يحيى بن سعيد الْكُوفِي،
وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل. والْحَدِيث مضى فِي
كتاب الْهِبَة فِي: بَاب الْهِبَة للْوَلَد وَفِي: بَاب
الْإِشْهَاد فِي الْهِبَة.
قَوْله: (الموهبة) بِمَعْنى: الْهِبَة مصدر ميمي. قَوْله:
(ثمَّ بدا لَهُ) أَي: نَدم من الْمَنْع كَأَنَّهُ منع
أَولا ثمَّ نَدم على ذَلِك. قَوْله: (بنت رَوَاحَة)
بِفَتْح الرَّاء وَالْوَاو المخففة، وَبِالْحَاءِ
الْمُهْملَة: وَهِي عمْرَة بنت رَوَاحَة، مرت هُنَاكَ.
قَوْله: (على جور) ، الْجور هُنَا بِمَعْنى الْميل عَن
الِاعْتِدَال وَالْمَكْرُوه جور أَيْضا، وَذَلِكَ لِأَن
الْجور بِمَعْنى الظُّلم مشْعر بِالْحُرْمَةِ. قَوْله:
(وَقَالَ أَبُو حريز) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر
الرَّاء وبالزاي وَهُوَ عبد الله بن الْحُسَيْن
الْأَزْدِيّ قَاضِي سجستان، وَقد ذكرنَا فِي الْهِبَة من
وَصله، وَفِي بعض النّسخ وَقع قَوْله: (وَقَالَ أَبُو
حريز) إِلَى آخِره قبل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقَالَ
صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقع فِي غير مَا نسخه: قَالَ أَبُو
حريز ... إِلَى آخِره، ثمَّ ذكر الحَدِيث. وَفِي نُسْخَة
ذكره بعد إِيرَاده لحَدِيث النُّعْمَان بن بشير،
وَكَأَنَّهُ أولى.
1562 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا أبُو جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بنَ
مُضَرِّبٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بنَ حُصَيْن رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ
(13/212)
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ
عِمْرَانُ لَا أدْرِي أذَكَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعْدُ قَرْنَيْنِ أوْ ثَلاثَةً قَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ بَعْدَكُمْ قَوْماً يَخُونُونَ
ولاَ يُؤْتَمَنُونَ ويَشْهَدُونَ وَلَا يستشهدون
ويَنْذِرُونَ ولاَ يَفُونَ ويَظْهَرُ فيهِمُ السِّمْنُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيشْهدُونَ وَلَا
يستشهدون) ، لِأَن الشَّهَادَة قبل الاستشهاد فِيهَا معنى
الْجور.
وَأَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وَالرَّاء: نصر بن عمرَان
الضبعِي، وَقد مر فِي أَوَاخِر كتاب الْإِيمَان، و:
زَهْدَم، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْهَاء وَفتح الدَّال
الْمُهْملَة: ابْن مضرب، بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء: الْجرْمِي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل الصَّحَابَة
عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الرقَاق عَن بنْدَار
عَن غنْدر وَفِي النذور عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد.
وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي بكر وَأبي مُوسَى
وَبُنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر وَعَن مُحَمَّد بن
حَاتِم عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي النذور عَن مُحَمَّد ابْن عبد الْأَعْلَى، سبعتهم عَن
شُعْبَة عَن أبي جَمْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قرنء) قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي:
الْمَعْنى: خير النَّاس أهل قَرْني، فَحذف الْمُضَاف، وَقد
يُسمى أهل الْعَصْر قرنا، لاقترانهم فِي الْوُجُود،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ بِسُكُون الرَّاء من النَّاس
أهل زمَان وَاحِد، وَقَالَ ابْن التِّين معنى قَوْله:
(قَرْني) أَي: أَصْحَابِي من رَآهُ أَو سمع كَلَامه، فدان
بِهِ، وَالْقرَان أهل عصر مُتَقَارِبَة أسنانهم، وَقَالَ
الْخطابِيّ: واشتق لَهُم هَذَا الإسم من الاقتران فِي
الْأَمر الَّذِي يجمعهُمْ، وَقيل: إِنَّه لَا يكون قرنا
حَتَّى يَكُونُوا فِي زمن نَبِي أَو رَئِيس يجمعهُمْ على
مِلَّة أَو رَأْي أَو مَذْهَب. وَقَالَ ابْن التِّين:
سَوَاء قلَّت الْمدَّة أَو كثرت. وَقيل: الْقرن ثَمَانُون
سنة. وَقيل: أَرْبَعُونَ، وَقيل: مائَة سنة. قَالَ
الْقَزاز: وَاحْتج لهَذَا بِأَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مسح بِيَدِهِ على رَأس غُلَام، وَقَالَ
لَهُ: (عش قرنا) ، فَعَاشَ مائَة سنة. قَالَ ابْن عديس:
قَالَ ثَعْلَب: هَذَا هُوَ الِاخْتِيَار، وَقَالَ ابْن
التِّين: وَقيل: من عشْرين إِلَى مائَة وَعشْرين وَقيل:
سِتُّونَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ثَلَاثُونَ سنة، وَقَالَ
ابْن سَيّده: هُوَ مِقْدَار التَّوَسُّط فِي أَعمار أهل
الزَّمَان، فَهُوَ فِي كل قوم على مِقْدَار أعمارهم.
قَالَ: وَهُوَ الْأمة تَأتي بعد الْأمة. قيل: مدَّته عشر
سِنِين، وَفِي (الموعب) : وَقيل عشرُون سنة، وَقيل:
سَبْعُونَ، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْقرن الْوَقْت من
الزَّمَان، وَفِي (التَّهْذِيب) : لِأَنَّهُ يقرن أمة
بِأمة وعالماً بعالم. قَوْله: (يَلُونَهُمْ) ، مِنْ
وَلِيهُ يَلِيهِ، بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَالْوَلِيّ: الْقرب
والدنو. قَوْله: (قَالَ عمرَان) هُوَ مَوْصُول
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَهُوَ بَقِيَّة حَدِيث
عمرَان. قَوْله: (أذَكر؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
قَوْله: (بعدٌ) مَبْنِيّ على الضَّم منوي الْإِضَافَة،
وَفِي رِوَايَة: بعد قرنه. قَوْله: (إِن بعدكم قوما) ،
كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ وَابْن شبويه: (إِن بعدكم قوم) قَالَ
الْكرْمَانِي: فَلَعَلَّهُ مَنْصُوب، لكنه كتب بِدُونِ
الْألف على اللُّغَة الربيعية أَو ضمير الشَّأْن مَحْذُوف
على ضعف. قَوْله: (يخونون) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من
الْخِيَانَة، أَو فِي رِوَايَة ابْن حزم: يحربون،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة،
قَالَ: فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا فَهُوَ من قَوْلهم: حربه
يحربه إِذا أَخذ مَاله وَتَركه بِلَا شَيْء، وَرجل محروب
أَي: مسلوب المَال. قَوْله: (وَلَا يؤتمنون) أَي: لَا
يَثِق النَّاس بهم وَلَا يعتقدونهم، أَي: يكون لَهُم
خِيَانَة ظَاهِرَة بِحَيْثُ لَا يبْقى للنَّاس اعْتِمَاد
عَلَيْهِم. قَوْله: (وَيشْهدُونَ) ، يحْتَمل أَن يُرَاد:
يتحملون الشَّهَادَة بِدُونِ التحميل، أَو يؤدون
الشَّهَادَة بِدُونِ طلب الْأَدَاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: بعض الشَّهَادَات تجب أَو يسْتَحبّ الْأَدَاء
قبل الطّلب. قلت: حذف الْمَفْعُول بِهِ يدل على إِرَادَة
الْعُمُوم، فالمذموم عدم التَّخْصِيص، وَذَلِكَ الْبَعْض
مثل مَا فِيهِ حق مُؤَكد لله تَعَالَى الْمُسَمّى
بِشَهَادَة الْحِسْبَة غير مُرَاد بِدَلِيل خارجي، وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: إِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين قَوْله:
(يشْهدُونَ وَلَا يستشهدون؟) ، وَبَين قَوْله فِي حَدِيث
زيد ن خَالِد: (أَلا أخْبركُم بِخَير الشُّهَدَاء: الَّذين
يأْتونَ بِالشَّهَادَةِ قبل أَن يُسْألُوها) . فَالْجَوَاب
أَن التِّرْمِذِيّ ذكر عَن بعض أهل الْعلم أَن المُرَاد
بِالَّذِي يشْهد وَلَا يستشهد شَاهد الزُّور. وَاحْتج
بِحَدِيث عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه
قَالَ: (ثمَّ يفشوا الْكَذِب حَتَّى يشْهد الرجل وَلَا
يستشهد) ، وَالْمرَاد بِحَدِيث زيد بن خَالِد الشَّاهِد
على الشَّيْء فَيُؤَدِّي شَهَادَته وَلَا يمْتَنع من
إِقَامَتهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَيحْتَمل أَن يُرِيد
الشَّهَادَة على المغيب من أَمر الْخلق فَيشْهد على قوم
أَنهم من أهل النَّار، ولآخرين بِغَيْر ذَلِك على مَذْهَب
أهل الْأَهْوَاء، وَقيل: إِنَّمَا هَذَا فِي الرجل تكون
عِنْده الشَّهَادَة وَقد نَسِيَهَا صَاحب الْحق، وَيتْرك
أطفالاً وَلَهُم على النَّاس حُقُوق، وَلَا علم للْمُوصي
بهَا، فَيَجِيء مَن عِندَه الشَّهَادَة فيبذل شَهَادَته
لَهُم بذلك، فيحيى حَقهم، فَحمل بذل الشَّهَادَة قبل
الْمَسْأَلَة على مثل هَذَا. وَقَالَ ابْن بطال:
وَالشَّهَادَة المذمومة لم يرد بهَا الشَّهَادَة على
الْحُقُوق، إِنَّمَا أُرِيد بهَا الشَّهَادَة فِي
الْإِيمَان، يدل عَلَيْهِ قَول النَّخعِيّ رِوَايَة فِي
آخر الحَدِيث، وَكَانُوا
(13/213)
يضربوننا على الشَّهَادَة، فَدلَّ هَذَا من
قَول إِبْرَاهِيم: أَن الشَّهَادَة المذموم عَلَيْهَا
صَاحبهَا هِيَ قَول الرجل: أشهد بِاللَّه مَا كَانَ كَذَا
على كَذَا، على معنى الْحلف، فكره ذَلِك، وَهَذِه
الْأَقْوَال أَقْوَال الَّذين جمعُوا بَين حَدِيث
النُّعْمَان وَزيد. وَأما ابْن عبد الْبر فَإِنَّهُ رجح
حَدِيث زيد بن خَالِد لكَونه من رِوَايَة أهل الْمَدِينَة،
فقدمه على رِوَايَة أهل الْعرَاق، وَبَالغ فِيهِ حَتَّى
زعم أَن حَدِيث النُّعْمَان لَا أصل لَهُ، وَمِنْهُم من
رجح حَدِيث عمرَان، لِاتِّفَاق صَاحِبي (الصَّحِيح)
عَلَيْهِ، وانفراد مُسلم بِإِخْرَاج حَدِيث زيد بن خَالِد،
قَوْله: (وينذرون) ، بِفَتْح أَوله وبكسر الذَّال
الْمُعْجَمَة وَبِضَمِّهَا. قَوْله: (وَلَا يفون) من
الْوَفَاء، يُقَال: وَفِي يَفِي وَأَصله، يُوفي، حذفت
الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، وأصل: يفون،
يوفيون، فَلَمَّا حذفت الْوَاو وَلما ذكرنَا استثقلت الضمة
على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد سلب حَرَكَة مَا
قبلهَا. قَوْله: (وَيظْهر فيهم السّمن) ، بِكَسْر السِّين
الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم بعْدهَا نون، مَعْنَاهُ: أَنهم
يحبونَ التَّوَسُّع فِي المآكل والمشارب، وَهِي أَسبَاب
السّمن. وَقَالَ ابْن التِّين: المُرَاد ذمّ محبته وتعاطيه
لَا مَن يخلق كَذَلِك. وَقيل: المُرَاد، يظْهر فيهم
كَثْرَة المَال، وَقيل: المُرَاد أَنهم يتسمنون أَي:
يتكثرون بِمَا لَيْسَ فيهم، وَيدعونَ مَا لَيْسَ لَهُم من
الشّرف، وَيحْتَمل أَن يكون جَمِيع ذَلِك مرَادا، وَقد
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق هِلَال بن يسَاف عَن
عمرَان بن حُصَيْن بِلَفْظ: ثمَّ يَجِيء قوم فيتسمنون
وَيُحِبُّونَ السّمن.
2562 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا
سُفْيَانُ عنْ مَنْصُور عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عُبَيْدَةَ
عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أقْوَامٌ تَسْبِقُ
شَهَادَةُ أحَدِهِمْ يَمِينَهُ ويَمِينُه شَهَادَتَهُ
قَالَ إبْرَاهِيمُ وكانُوا يَضْرِبُونَنَا على
الشَّهَادَةِ والعَهْدِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تسبق شهادةُ أحدهم
يَمِينه ويمنُه شهادَتَه) لِأَن فِيهِ معنى الْجور، لِأَن
مَعْنَاهُ أَنهم لَا يتورعون فِي أَقْوَالهم، ويستهينون
بِالشَّهَادَةِ وَالْيَمِين، وَمَنْصُور هُوَ ابْن
الْمُعْتَمِر وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ وَعبيدَة
بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة:
هُوَ السَّلمَانِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة
من التَّابِعين على نسق وَاحِد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَضَائِل عَن
مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان، وَفِي النذور عَن سعد ابْن
حَفْص وَفِي الرَّقَائِق عَن عَبْدَانِ، وَأخرجه مُسلم فِي
الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة وهناد وَعَن عُثْمَان
وَإِسْحَاق وَعَن ابْن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد ابْن بشار.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن هناد. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الشُّرُوط عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَفِي
الْقَضَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَعَن أَحْمد
بن عُثْمَان النَّوْفَلِي وَعَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار،
وَعَن بشر بن خَالِد وَعَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة
وَعَمْرو بن نَافِع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ تَجِيء أَقوام تسبق شَهَادَة
أحدهم يَمِينه ويمنه شَهَادَته) ، يَعْنِي فِي حَالين لَا
فِي حَالَة وَاحِدَة، قَالَ الْكرْمَانِي: تقدم
الشَّهَادَة على الْيَمين وَبِالْعَكْسِ دور فَلَا يُمكن
وُقُوعه فَمَا وَجهه؟ قلت: هم الَّذين يحرصون على
الشَّهَادَة مشغوفون بترويجها، يحلفُونَ على مَا يشْهدُونَ
بِهِ، فَتَارَة يحلفُونَ قبل أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ،
وَتارَة يعكسون، وَيحْتَمل أَن يكون مثلا فِي سرعَة
الشَّهَادَة وَالْيَمِين، وحرص الرجل عَلَيْهِمَا حَتَّى
لَا يدْرِي بأيتهما يبتديء، فَكَأَنَّهُ يسْبق أَحدهمَا
الآخر من قلَّة مبالاته بِالدّينِ. قَوْله: (قَالَ
إِبْرَاهِيم) إِلَى آخِره، مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور، وَقيل: مُعَلّق، وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من
زعم أَنه مُعَلّق. قلت: لم يقم الدَّلِيل على أَنه وهم، بل
كَلَام بِالِاحْتِمَالِ. قَوْله: (وَكَانُوا يضربوننا على
الشَّهَادَة والعهد) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي
الْفَضَائِل بِهَذَا الْإِسْنَاد: (وَنحن صغَار) .
وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم بِلَفْظ: كَانُوا ينهوننا وَنحن
غلْمَان عَن الْعَهْد والشهادات. وَقَالَ أَبُو عمر:
مَعْنَاهُ عِنْدهم: النَّهْي عَن مبادرة الرجل بقوله: إشهد
بِاللَّه، وعَلى عهد الله لقد كَانَ كَذَا وَنَحْو ذَلِك،
وَإِنَّمَا كَانُوا يضربونهم على ذَلِك حَتَّى لَا يصير
لَهُم بِهِ عَادَة فَيحلفُونَ فِي كل مَا يصلح وَمَا لَا
يصلح، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالعهد الْمنْهِي
الدُّخُول فِي الْوَصِيَّة لما يَتَرَتَّب على ذَلِك من
الْمَفَاسِد، وَالْوَصِيَّة تسمى الْعَهْد، قَالَ الله
تَعَالَى: {لن ينَال عهدي الظَّالِمين} (الْبَقَرَة: 421)
. .
01 - (بابُ مَا قيلَ فِي شَهادَةِ الزُّورِ)
(13/214)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي
شَهَادَة الزُّور من التَّغْلِيظ والوعيد، والزور وصف
الشَّيْء بِخِلَاف صفته، فَهُوَ تمويه الْبَاطِل بِمَا
يُوهم أَنه حق، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: الْكَذِب.
لِقَوْلِ الله عزَّ وجَلَّ {والَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ
الزُّورَ} (الْفرْقَان: 27) .
ذكره هَذِه الْقطعَة من الْآيَة فِي معرض التَّعْلِيل لما
قيل فِي شَهَادَة الزُّور من الْوَعيد والتهديد لَا وَجه
لَهُ، لِأَن الْآيَة سيقت فِي مدح الَّذين لَا يشْهدُونَ
الزُّور، وَمَا قبلهَا أَيْضا فِي مدح التائبين العاملين
الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَتَمام الْآيَة أَيْضا مدح فِي
الَّذين إِذا سمعُوا اللَّغْو مروا كراماً، وَمَا بعْدهَا
أَيْضا من الْآيَات كَذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ
إِلَى أَن الْآيَة سيقت فِي ذمّ متعاطي شَهَادَة الزُّور،
وَهُوَ اخْتِيَار لأحد مَا قيل فِي تَفْسِيرهَا. انْتهى.
قلت: مَا سيقت الْآيَة، إلاَّ فِي مدح تاركي شَهَادَة
الزُّور، كَمَا قُلْنَا. وَقَوله: وَهُوَ اخْتِيَار لأحد
مَا قيل فِي تَفْسِيرهَا، لم يقل بِهِ أحد من
الْمُفَسّرين، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الزُّور،
فَقَالَ أَكْثَرهم: الزُّور والشرك، وَقيل: شَهَادَة
الزُّور، قَالَه ابْن طَلْحَة وَقيل: الْمُشْركُونَ،
وَقيل: الصَّنَم، وَقيل: مجَالِس الخناء، وَقيل: مجْلِس
كَانَ يشْتم فِيهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل:
العهود على الْمعاصِي.
وكِتْمَانِ الشِّهادةِ
وكتمان، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فِي شَهَادَة الزُّور،
أَي: وَمَا قيل فِي كتمان الشَّهَادَة بِالْحَقِّ من
الْوَعيد والتهديد.
لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ومَنْ
يَكْتُمْها فإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالله بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَة: 382) .
هَذَا التَّعْلِيل فِي مَحَله، أَي: وَلَا تخفوا
الشَّهَادَة، إِذا دعيتم إِلَى إِقَامَتهَا، وَمن كتمانها
ترك التَّحَمُّل عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ. قَوْله:
{فَإِنَّهُ آثم قلبه} (الْبَقَرَة: 382) . أَي: فَاجر
قلبه، وَخَصه بِالْقَلْبِ لِأَن الكتمان يتَعَلَّق بِهِ،
لِأَنَّهُ يضمره فِيهِ فأسند إِلَيْهِ {وَالله بِمَا
تَعْمَلُونَ عليم} (الْبَقَرَة: 382) . أَي: يجازي على
أَدَاء الشَّهَادَة وكتمانها.
تَلْوُوا ألْسِنَتَكُمْ بِالشَّهادَةِ
أَشَارَ بقوله: تلووا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرا} (النِّسَاء: 531) . أَي: وَإِن تلووا
أَلْسِنَتكُم بِالشَّهَادَةِ، وروى الطَّبَرِيّ عَن
الْعَوْفِيّ فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: وتلوي لسَانك
بِغَيْر الْحق، وَهِي اللجلجة، فَلَا تقيم الشَّهَادَة على
وَجههَا. وتلووا من اللي، وَأَصله اللوي. قَالَ
الْجَوْهَرِي: لوى الرجل رَأسه وألوى بِرَأْسِهِ، أقَال
وَأعْرض. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن تلووا أَو تعرضوا}
(النِّسَاء: 531) . بواوين، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ
القَاضِي يكون ليه وإعراضه لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر،
وَقد قرىء بواو وَاحِدَة مَضْمُومَة اللَّام من: وليت،
وَقَالَ مُجَاهِد: أَي إِن تلووا الشَّهَادَة فتقيموها أَو
تعرضوا عَنْهَا فتتركوها، فَإِن الله يجازيكم عَلَيْهِ،
قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَو فصل البُخَارِيّ بَين لفظ:
تلووا، وَلَفظ: أَلْسِنَتكُم، بِمثل: أَي، أَو: يَعْنِي،
ليتميز الْقرَان عَن كَلَامه لَكَانَ أولى قلت: بل كَانَ
التَّمْيِيز بَين الْقُرْآن وَكَلَامه وَاجِبا، لِأَن من
لَا يحفظ الْقُرْآن أَو لَا يحسن الْقِرَاءَة يظنّ أَن
قَوْله: (أَلْسِنَتكُم) من الْقُرْآن، وَكَانَ الَّذِي
يَنْبَغِي أَن يَقُول، وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن تلووا}
(النِّسَاء: 531) . يَعْنِي أَلْسِنَتكُم. و: إتْيَان،
كلمة مُفْردَة من الْقُرْآن فِي معرض الِاحْتِجَاج لَا
يُفِيد، وَلَا هُوَ بطائل أَيْضا.
3562 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُنيرٍ قَالَ سَمِعَ وهْبَ
بنَ جَرِير وعبْدَ المَلِكِ بنَ إبْرَاهِيمَ قالاَ حدَّثنا
شُعْبَةُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ أنَسٍ عنْ
أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سُئلَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الكَبَائِرِ قَالَ الأشْرَاكُ
بِاللَّه وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وقَتْلُ النَّفْسِ
وشَهَادَةُ الزُّورِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَشَهَادَة الزُّور) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم
الْمِيم وَكسر النُّون: أَبُو عبد الرَّحْمَن الزَّاهِد،
مر فِي الْوضُوء. الثَّانِي: وهب بن جرير بن حَازِم
الْأَزْدِيّ أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث: عبد الْملك بن
إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله، مولى بني عبد الدَّار
الْقرشِي. الرَّابِع: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الْخَامِس:
عبيد الله، بتصغير العَبْد، ابْن أبي بكر بن أنس بن مَالك.
السَّادِس: أنس بن مَالك.
(13/215)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي
وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَن وهب بن جرير بَصرِي وَأَن عبد
الْملك بن إِبْرَاهِيم مكي جدي، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد
الدَّال الْمُهْملَة، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَن شُعْبَة
واسطي سكن الْبَصْرَة، وَأَن عبيد الله بَصرِي. قَوْله:
عَن عبد الله بن أبي بكر، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن
جَعْفَر الَّتِي تَأتي فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن
جَعْفَر عَن شُعْبَة حَدثنِي عبيد الله بن أبي بكر سَمِعت
أنس بن مَالك. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَفِي
الدِّيات عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن يحيى بن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع وَفِي التَّفْسِير عَن
مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْقَضَاء وَفِي الْقصاص وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، ويروى: سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة بهز عَن شُعْبَة عِنْد
أَحْمد أَو ذكرهَا، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر:
ذكر الْكَبَائِر أَو سُئِلَ عَنْهَا، قَوْله: (عَن
الْكَبَائِر) ، جمع كَبِيرَة وَهِي الفعلة القبيحة من
الذُّنُوب الْمنْهِي عَنْهَا شرعا. الْعَظِيم أمرهَا:
كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا والفرار من الزَّحْف وَغير ذَلِك،
وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة، يَعْنِي صَار إسماً
لهَذِهِ الفعلة القبيحة، وَفِي الأَصْل هِيَ صفة،
وَالتَّقْدِير: الفعلة القبيحة أَو الْخصْلَة القبيحة،
قيل: الْكَبِيرَة كل مَعْصِيّة، وَقيل: كل ذَنْب قرن
بِنَار أَو لعنة أَو غضب أَو عَذَاب. قلت: الْكَبِيرَة
أَمر نسبي، فَكل ذَنْب فَوْقه ذَنْب فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ كَبِيرَة، وبالنسبة إِلَى مَا تَحْتَهُ صَغِيرَة.
وَاخْتلفُوا فِي الْكَبَائِر، وَهَهُنَا ذكر أَرْبَعَة،
وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا أَربع فَقَط، لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ شَيْء مِمَّا يدل على الْحصْر. وَقيل: هِيَ سبع،
وَهِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (اجتنبوا السَّبع
الموبقات وَهِي: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَقتل النَّفس
الَّتِي حرم الله إلاَّ بِالْحَقِّ، وَالسحر، وَأكل
الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتولي يَوْم الزَّحْف،
وَقذف الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات الْغَافِلَات) . وَقيل:
الْكَبَائِر تسع، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي حَدِيث طَوِيل
فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، وَزَاد عَلَيْهَا: (عقوق
الْوَالِدين الْمُسلمين، وَاسْتِحْلَال الْحَرَام) . وَذكر
شَيخنَا عَن أبي طَالب الْمَكِّيّ أَنه قَالَ: الْكَبَائِر
سبع عشرَة، قَالَ: جمعتها من جملَة الْأَخْبَار وَجُمْلَة
مَا اجْتمع من قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَغَيرهم: الشّرك
بِاللَّه، والإصرار على مَعْصِيَته، والقنوط من رَحمته،
والأمن من مكره، وَشَهَادَة الزُّور، وَقذف الْمُحصن،
وَالْيَمِين الْغمُوس، وَالسحر، وَشرب الْخمر، والمسكر،
وَأكل مَال الْيَتِيم ظلما وَأكل الرِّبَا، وَالزِّنَا،
واللواطة، وَالْقَتْل، وَالسَّرِقَة، والفرار من الزَّحْف،
وعقوق الْوَالِدين. انْتهى. وَقَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس:
الْكَبَائِر سبع؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعمِائة. قَوْله:
(الْإِشْرَاك بِاللَّه) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف التَّقْدِير: الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه
وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وَوجه تَخْصِيص هَذِه
الْأَرْبَعَة بِالذكر لِأَنَّهَا أكبر الْكَبَائِر والشرك
أعظمها. قَوْله: (وعقوق الْوَالِدين) ، العقوق من العق،
وَهُوَ: الْقطع، وَذكر الْأَزْهَرِي أَنه يُقَال: عق
وَالِده يعقه، بِضَم الْعين: عقاً وعقوقاً إِذا قطعه،
والعاق اسْم فَاعل، وَيجمع على عققة، بِفَتْح الْحُرُوف
كلهَا، و: عُقُق، بِضَم الْعين وَالْقَاف. وَقَالَ صَاحب
(الْمُحكم) : رجل عُقُق وعقوق وعق وعاق، بِمَعْنى وَاحِد.
والعاق هُوَ الَّذِي شقّ عَصا الطَّاعَة لوَالِديهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا قَول أهل اللُّغَة. وَأما
حَقِيقَة العقوق الْمحرم شرعا فقلَّ من ضَبطه، وَقد قَالَ
الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد بن عبد السَّلَام: لم
أَقف فِي عقوق الْوَالِدين وَفِيمَا يختصان بِهِ من العقوق
على ضَابِط اعْتمد عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يجب طاعتهما
فِي كل مَا يأمران بِهِ وَلَا ينهيان عَنهُ بِاتِّفَاق
الْعلمَاء، وَقد حرم على الْوَلَد الْجِهَاد بِغَيْر
إذنهما لما يشق عَلَيْهِمَا من توقع قَتله أَو قطع عُضْو
من أَعْضَائِهِ ولشدة تفجعهما على ذَلِك،، وَقد ألحق بذلك
كل سفر يخافان فِيهِ على نَفسه أَو عُضْو من أَعْضَائِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح فِي
(فَتَاوِيهِ) : العقوق الْمحرم كل فعل يتَأَذَّى بِهِ
الْوَالِدَان تأذياً لَيْسَ بالهين مَعَ كَونه لَيْسَ من
الْأَفْعَال الْوَاجِبَة، قَالَ: وَرُبمَا قيل: طَاعَة
الْوَالِدين وَاجِبَة فِي كل مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة،
وَمُخَالفَة أَمرهمَا فِي ذَلِك عقوق، وَقد أوجب كثير من
الْعلمَاء طاعتهما فِي الشُّبُهَات، وَلَيْسَ قَول من
قَالَ من عُلَمَائِنَا: يجوز لَهُ السّفر فِي طلب الْعلم
وَفِي التِّجَارَة بِغَيْر إذنهما مُخَالفا لما ذكرته،
فَإِن هَذَا كَلَام مُطلق، وَفِيمَا ذكرته بَيَان لتقييد
ذَلِك الْمُطلق. قَوْله: (وَقتل النَّفس) ، يَعْنِي:
بِغَيْر الْحق وَيَكْفِي فِيهِ وعيداً قَوْله تَعَالَى:
{وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا
فِيهَا} (النِّسَاء: 39) . الْآيَة. قَوْله: (وَشَهَادَة
(13/216)
الزُّور) ، وَقد مر تَفْسِير الزُّور فِي
أول الْبَاب. وَقد رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ:
عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه، وَقَرَأَ عبد
الله {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا
قَول الزُّور} (الْحَج: 03) . وَاخْتلف فِي شَاهد الزُّور،
إِذا تَابَ، فَقَالَ مَالك: تقبل تَوْبَته وشهادته كشارب
الْخمر، وَعَن عبد الْملك: لَا تقبل كالزنديق. وَقَالَ
أَشهب: إِن أقرّ بذلك لم تقبل تَوْبَته أبدا، وَعند أبي
حنيفَة: إِذا ظَهرت تَوْبَته يجب قبُول شَهَادَته إِذا
أَتَى ذَلِك مرّة أُخْرَى، يظْهر فِي مثلهَا تَوْبَته،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: وَقَول أبي حنيفَة وَمن تبعه أصح. وَقَالَ ابْن
الْقَاسِم: بَلغنِي عَن مَالك أَنه: لَا تقبل شَهَادَته
أبدا وَإِن تَابَ وَحسنت تَوْبَته. وَاخْتلف هَل يُؤَدب
إِذا أقرّ، فَعَن شُرَيْح أَنه: كَانَ يبْعَث بِشَاهِد
الزُّور إِلَى قومه أَو إِلَى سوقه إِن كَانَ مولى، إِنَّا
قد زيفنا شَهَادَة هَذَا، وَيكْتب اسْمه عِنْده ويضربه
خفقات، وَينْزع عمَامَته عَن رَأسه، وَعَن الْجَعْد بن
ذكْوَان: أَن شريحاً ضرب شَاهد زور عشْرين سَوْطًا. وَعَن
عمر بن عبد الْعَزِيز: أَنه اتهمَ قوما على هِلَال
رَمَضَان فضربهم سبعين سَوْطًا وأبطل شَهَادَتهم، وَعَن
الزُّهْرِيّ: شَاهد الزُّور يُعَزّر. وَقَالَ الْحسن:
يضْرب شَيْئا. وَيُقَال للنَّاس: إِن هَذَا شَاهد زور،
وَقَالَ الشّعبِيّ: يضْرب مَا دون الْأَرْبَعين خَمْسَة
وَثَلَاثِينَ سَبْعَة وَثَلَاثِينَ سَوْطًا. وَفِي (كتاب
الْقَضَاء) لأبي عبيد بن سَلام: عَن معمر: أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد شَهَادَة رجل فِي كذبة
كذبهَا. وَذكره أَبُو سعيد النقاش بِإِسْنَادِهِ إِلَى
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: كذبة وَاحِدَة كذها.
وَفِي (الْأَشْرَاف) : كَانَ سوار يَأْمر بِهِ، يلبب
بِثَوْبِهِ، وَيَقُول لبَعض أعوانه: إذهبوا بِهِ إِلَى
مَسْجِد الْجَامِع فدوروا بِهِ على الْخلق وَهُوَ يُنَادي:
من رَآنِي فَلَا يشْهد بزور. وَكَانَ النُّعْمَان يرى أَن
يبْعَث بِهِ إِلَى سوقه إِن كَانَ سوقياً أَو إِلَى
مَسْجِد قومه، وَيَقُول: القَاضِي يقرؤكم السَّلَام،
وَيَقُول: إِنَّا وجدنَا هَذَا شَاهد زور، فَاحْذَرُوهُ
وَحَذرُوهُ الناسَ، وَلَا يرى عَلَيْهِ تعزيراً. وَعَن
مَالك: أرى أَن يفضح ويعلن بِهِ وَيُوقف، وَأرى أَن يضْرب
ويسار بِهِ، وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: يُقَام للنَّاس،
ويعذر ويؤدب. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: يُعَاقب. وَقَالَ
الشَّافِعِي: يُعَزّر وَلَا يبلغ بالتعزير أَرْبَعِينَ
سَوْطًا ويشهر بأَمْره، وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أَنه حَبسه يَوْمًا وخلى عَنهُ، وَعَن
ابْن أبي ليلى: يضْرب خَمْسَة وَسبعين سَوْطًا لاولا
يبْعَث بِهِ. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ: إِذا كَانَا اثْنَيْنِ
وشهدا على طَلَاق فَفرق بَينهمَا ثمَّ أكذبا نفسهما،
أَنَّهُمَا يضربان مائَة مائَة ويغرمان للزَّوْج الصَدَاق.
وَعَن الْقَاسِم وَسَالم: شاهذ الزُّور يحبس ويخفق سبع
خفقات بعد الْعَصْر، وينادى عَلَيْهِ. وَعَن عبد الْملك بن
يعلى قَاضِي الْبَصْرَة: أَنه أَمر بحلق أَنْصَاف رؤوسهم
وتسخم وُجُوههم وَيُطَاف بهم فِي الْأَسْوَاق. قلت: عِنْد
أبي حنيفَة: شَاهد الزُّور يبْعَث بِهِ إِلَى محلته أَو
سوقه، فَيُقَال لَهُم: إِنَّا وجدنَا هَذَا شَاهد زور
فَاحْذَرُوهُ، فَلَا يضْرب وَلَا يحبس. وَعند أبي يُوسُف
وَمُحَمّد، يضْرب وَيحبس إِن لم يحدث تَوْبَة، لِأَنَّهُ
ارْتكب مَحْظُورًا فيعزر.
تابَعَهُ غُنْدَرٌ وأبُو عامِرٍ وبَهْزٌ وعَبْدُ الصَّمَدِ
عنْ شُعْبَةَ
أَي: تَابع وهب بن جرير فِي رِوَايَته عَن شُعْبَة غنْدر،
وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو عَامر عبد الْملك
الْعَقدي، وبهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون
الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: ابْن أَسد الْعمي، وَعبد
الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَهَؤُلَاء بصريون، فمتابعة
الْعَقدي وَصلهَا أَبُو سعيد النقاش فِي (كتاب الشُّهُود)
وَابْن مَنْدَه فِي (كتاب الْإِيمَان) من طَرِيقه عَن شعبه
بِلَفْظ: (أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه) .
ومتابعة بهز وَصلهَا أَحْمد عَنهُ ومتابعة عبد الصَّمد
وَصلهَا البُخَارِيّ فِي الدِّيات.
4562 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ
الْمُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا الجُرَيْرِيُّ عنْ عَبْدِ
الرَّحْمانِ بنِ أبِي بَكْرَةَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ألاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الكَبَائِرِ ثَلاثاً
قَالُوا بلَى يَا رسُولَ الله قَالَ الإشْرَاكُ بِاللَّه
وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وجَلسَ وكانَ مُتَّكِئَاً فقالَ
ألاَ وقَوْلِ الزُّورِ قَالَ فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا
حتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبشر، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، والجريري،
بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى: سعيد بن إِيَاس
الْأَزْدِيّ، وَسَماهُ فِي رِوَايَة خَالِد الْحذاء عَنهُ
فِي أَوَائِل الْأَدَب، وَقد أخرج البُخَارِيّ للْعَبَّاس
بن فرور والجريري
(13/217)
لكنه إِذا أخرج عَنهُ سَمَّاهُ، وَعبد
الرَّحْمَن بن أبي بكرَة يروي عَن أَبِيه أبي بكرَة
واسْمه: نفيع، بِضَم النُّون: الثَّقَفِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اسْتِتَابَة
الْمُرْتَدين عَن مُسَدّد أَيْضا وَفِي الاسْتِئْذَان عَن
عَليّ بن عبد الله ومسدد، وَفِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق
ابْن شاهين، وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين أَيْضا عَن
قيس بن حَفْص، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عَمْرو
النَّاقِد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر وَفِي
الشَّهَادَات، وَفِي التَّفْسِير عَن حميد بن مسْعدَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَلا أنبئكم) أَي: أَلا أخْبركُم،
وألاَ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، للتّنْبِيه
هُنَا ليدل على تحقق مَا بعْدهَا. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي:
قَالَ لَهُم: (ألاَ أنبئكم) ثَلَاث مَرَّات، وَإِنَّمَا
كَرَّرَه تَأْكِيدًا ليتنبه السَّامع على إِحْضَار فهمه،
وَكَانَت عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِعَادَة
حَدِيثه ثَلَاثًا ليفهم عَنهُ. قَوْله: (الْإِشْرَاك
بِاللَّه) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي:
أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه، لِأَنَّهُ لَا
ذَنْب أعظم من الْإِشْرَاك بِاللَّه. قَوْله: (وعقوق
الْوَالِدين) ، إِنَّمَا ذكر هَذَا (وَقَول الزُّور) مَعَ
الْإِشْرَاك بِاللَّه، مَعَ أَن الشّرك أكبر الْكَبَائِر
بِلَا شكّ لِأَنَّهُمَا يشابهانه من حَيْثُ إِن الْأَب
سَبَب وجوده ظَاهرا وَهُوَ يرِيبهُ، وَمن حَيْثُ إِن
المزور يثبت الْحق لغير مُسْتَحقّه، فَلهَذَا ذكرهمَا الله
تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {فَاجْتَنبُوا الرجس من
الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} (الْحَج: 03) .
قَوْله: (وَجلسَ) أَي: للاهتمام بِهَذَا الْأَمر، وَهُوَ
يفيدنا تَأْكِيد تَحْرِيمه وَعظم قبحه. قَوْله: (وَكَانَ
مُتكئا) ، جملَة حَالية. وَسبب الإهتمام بذلك كَون قَول
الزُّور أَو شَهَادَة الزُّور أسهل وقوعاً على النَّاس،
والتهاون بهَا أَكثر، لِأَن الْحَوَامِل عَلَيْهِ
كَثِيرَة: كالعداوة والحقد والحسد ... وَغير ذَلِك، فاحتيج
إِلَى الإهتمام بتعظيمه، والشرك مفسدته قَاصِرَة، ومفسدة
الزُّور متعدية. قَوْله: (ألاَ وَقَول الزُّور) ، وَفِي
رِوَايَة خَالِد عَن الْجريرِي: (أَلا وَقَول الزُّور،
وَشَهَادَة الزُّور) . وَفِي رِوَايَة ابْن علية:
(شَهَادَة الزُّور أَو قَول الزُّور) . وَقَول الزُّور
أَعم من أَن يكون شَهَادَة زور أَو غير شَهَادَة، كالكذب،
فلأجل ذَلِك بوب عَلَيْهِ التِّرْمِذِيّ بقوله: بَاب مَا
جَاءَ فِي التَّغْلِيظ فِي الْكَذِب والزور، وَنَحْوه.
ثمَّ روى حَدِيث أنس الْمَذْكُور قبل هَذَا، فالكذب فِي
الْمُعَامَلَات دَاخل فِي مُسَمّى قَول الزُّور، لَكِن
حَدِيث خريم بن فاتك الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن
مَاجَه من رِوَايَة حبيب بن النُّعْمَان الْأَسدي عَن خريم
بن فاتك. قَالَ: صلى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
صَلَاة الصُّبْح، فَلَمَّا انْصَرف قَامَ قَائِما فَقَالَ:
(عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه، ثَلَاث
مَرَّات) . ثمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنبُوا الرجس من
الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور حنفَاء لله غير
مُشْرِكين بِهِ} (الْحَج: 03) . يدل على أَن المُرَاد بقول
الزُّور فِي آيَة الْحَج: شَهَادَة الزُّور، لِأَنَّهُ
قَالَ: (عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه) ثمَّ
قَرَأَ: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا
قَول الزُّور} (الْحَج: 03) . فَجعل فِي الحَدِيث قَول
الزُّور المعادل للإشراك هُوَ شَهَادَة الزُّور، لَا مُطلق
قَول الزُّور، وَإِذا عرف أَن قَول الزُّور هُوَ الْكَذِب.
فَلَا شكّ أَن دَرَجَات الْكَذِب تَتَفَاوَت بِحَسب
المكذوب عَلَيْهِ، وبحسب الْمُتَرَتب على الْكَذِب من
الْمَفَاسِد. .
وَقد قسم ابْن الْعَرَبِيّ الْكَذِب على أَرْبَعَة
أَقسَام: أَحدهَا: وَهُوَ أَشدّهَا: الْكَذِب على الله
تَعَالَى: قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن كذب على
الله} (الزمر: 93) . وَالثَّانِي: الْكَذِب على رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَهُوَ هُوَ، أَو
نَحوه. الثَّالِث: الْكَذِب على النَّاس، وَهِي شَهَادَة
الزُّور فِي إِثْبَات مَا لَيْسَ بِثَابِت على أحد، أَو
إِسْقَاط مَا هُوَ ثَابت. الرَّابِع: الْكَذِب للنَّاس،
قَالَ وَمن أشده الْكَذِب فِي الْمُعَامَلَات، وَهُوَ أحد
أَرْكَان الْفساد الثَّلَاثَة فِيهَا، وَهِي: الْكَذِب
وَالْعَيْب والغش، وَالْكذب، وَإِن كَانَ محرما، سَوَاء
قُلْنَا كَبِيرَة أَو صَغِيرَة، فقد يُبَاح عِنْد الْحَاجة
إِلَيْهِ، وَيجب فِي مَوَاضِع ذكرهَا الْعلمَاء. قَوْله:
(حَتَّى قُلْنَا ليته سكت) إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك شَفَقَة
على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَرَاهَة لما
تزعجه. فَإِن قلت: الحَدِيث لَا يتَعَلَّق بكتمان
الشَّهَادَة، وَهُوَ مَذْكُور فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: علم
مِنْهُ حكمه قِيَاسا عَلَيْهِ، لِأَن تَحْرِيم شَهَادَة
الزُّور لإبطال الْحق والكتمان أَيْضا فِيهِ إبِْطَال
لَهُ، وَالله أعلم.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
الجُرَيْريُّ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَشْهُور بِابْن علية،
وَعليَّة: بِضَم الْعين وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء
آخر الْحُرُوف: وَهُوَ اسْم أمه، مولاة لبني أَسد،
والجريري مضى عَن قريب، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي
بكرَة الْمَذْكُور. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ
فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين، على مَا يَجِيء بَيَانه،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(13/218)
11 - (بابُ شَهَادَةِ الأعْماى وأمرِهِ
ونِكَاحِهِ وإنْكَاحِهِ ومُبَايَعَتِهِ وقَبُولِهِ فِي
التَّأْذِينِ وغيْرِهِ وَمَا يُعْرَفُ بالأصْوَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شَهَادَة الْأَعْمَى.
قَوْله: (وَأمره) ، أَي: وَفِي بَيَان أمره أَي حَاله فِي
تَصَرُّفَاته. قَوْله: (ونكاحه) ، أَي: وتزوجه بِامْرَأَة.
قَوْله: (وإنكاحه) ، أَي: وتزويجه غَيره. قَوْله:
(ومبايعته) ، يَعْنِي بَيْعه وشراءه. قَوْله: (وقبوله) ،
أَي: قبُول الْأَعْمَى فِي تأذينه. (وَغَيره) نَحْو
إِقَامَته للصَّلَاة وإمامته أَيْضا أَي: إِذا توفّي
النَّجَاسَة. قَوْله: (وَمَا يعرف بالأصوات) ، أَي: وَفِي
بَيَان مَا يعرف بالأصوات. قَالَ ابْن الْقصار: الصَّوْت
فِي الشَّرْع قد أقيم مقَام الشَّهَادَة، ألاَ ترى أَنه
إِذا سمع الْأَعْمَى صَوت امْرَأَته فَإِنَّهُ يجوز لَهُ
أَن يَطَأهَا، والإقدام على اسْتِبَاحَة الْفرج أعظم من
الشَّهَادَة فِي الْحُقُوق، والإقرارات مفتقرة إِلَى
السماع، وَلَا تفْتَقر إِلَى المعاينة بِخِلَاف
الْأَفْعَال الَّتِي تفْتَقر إِلَى المعاينة، وَكَأن
البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَنه
يُجِيز شَهَادَة الْأَعْمَى. وَفِيه خلاف نذكرهُ عَن قريب.
وأجَازَ شَهَادَتَهُ قاسِمٌ والحَسنُ وابنُ سِيرِينَ
والزُّهْرِيُّ وعَطاءٌ
أَي: أجَاز شَهَادَة الْأَعْمَى قَاسم بن مُحَمَّد بن أبي
بكر الصّديق وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين
وَمُحَمّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح.
وَتَعْلِيق الْقَاسِم وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن
يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت الحكم ابْن
عتيبة يسْأَل الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن شَهَادَة
الْأَعْمَى، فَقَالَ: جَائِزَة، وَتَعْلِيق الْحسن وَابْن
سِيرِين وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أَشْعَث عَن
الْحسن وَابْن سِيرِين قَالَا: شَهَادَة الْأَعْمَى
جَائِزَة وَتَعْلِيق الزُّهْرِيّ وَصله ابْن أبي شيبَة:
حَدثنَا ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي ذِئْب عَن
الزُّهْرِيّ أَنه كَانَ يُجِيز شَهَادَة الْأَعْمَى،
وَتَعْلِيق عَطاء وَصله الْأَثْرَم من طَرِيق ابْن جريج
عَنهُ، قَالَ: تجوز شَهَادَة الْأَعْمَى، وَقَالَ ابْن
حزم، صَحَّ عَن عَطاء أَنه أجَاز شَهَادَة الْأَعْمَى.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ شَهادَتُهُ إذَا كانَ
عاقِلاً
أَي: قَالَ عَامر الشّعبِيّ، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن
وَكِيع عَن الْحسن بن صَالح وَإِسْرَائِيل عَن عِيسَى بن
أبي عزة عَن الشّعبِيّ أَنه أجَاز شَهَادَة الْأَعْمَى،
وَمعنى قَوْله: (إِذا كَانَ عَاقِلا) ، إِذا كَانَ كيِّساً
فطناً للقرائن درّاكاً للأمور الدقيقة. وَلَيْسَ هُوَ
بِقَيْد احْتِرَازًا عَن الْجُنُون، لِأَن الْعقل لَا بُد
مِنْهُ فِي جَمِيع الشَّهَادَات.
وَقَالَ الحَكَمُ رُبَّ شَيءٍ تُجَوَّزُ فِيهِ
أَي: قَالَ الحكم بن عتيبة، وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن
ابْن مهْدي عَن شُعْبَة قَالَ: سَأَلت الحكم عَن شَهَادَة
الْأَعْمَى فَقَالَ: رب شَيْء تجوز فِيهِ. قَوْله: (تجوز)
، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: خفف فِيهِ، وغرضه أَنه قد
يسامح للأعمى شَهَادَته فِي بعض الْأَشْيَاء الَّتِي تلِيق
بالمسامحة وَالتَّخْفِيف.
وقالَ الزُّهْرِيُّ: أرَأيْتَ ابنَ عبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ
علَى شَهَادَةٍ أكُنْتَ تَرُدُّهُ؟
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى
آخِره، وتعليقه وَصله الْكَرَابِيسِي فِي (أدب الْقَضَاء)
من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب عَنهُ، وَهَذَا يُؤَيّد مَا
قَالَه الشّعبِيّ فِي الْأَعْمَى إِذا كَانَ عَاقِلا.
وَقُلْنَا: إِن مَعْنَاهُ كَانَ فطناً كيّساً. وَهَذَا
ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ أفطن
النَّاس وأذكاهم وأدركهم بدقائق الْأُمُور فِي حَال بَصَره
وَفِي حَال عماه، فَلذَلِك استبعد رد شَهَادَته بعد عماه.
وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَبْعثُ رَجُلاً إذَا غابَتِ
الشَّمْسُ أفْطَرَ ويَسألُ عنِ الفَجْرِ فإذَا قيلَ لَهُ
طَلَعَ صلَّى رَكْعَتَيْنِ
أَي: كَانَ عبد الله بن عَبَّاس يبْعَث رجلا يمفحص عَن
غيبوبة الشَّمْس للإفطار، فَإِذا أخبرهُ بالغيبوبة أفطر.
وَوجه تعلقته بالترجمة كَون ابْن عَبَّاس قبل قَول
الْغَيْر فِي غرُوب الشَّمْس أَو طُلُوعهَا وَهُوَ أعمى،
وَلَا يرى شخص الْمخبر، وَإِنَّمَا يسمع صَوته قيل:
لَعَلَّ
(13/219)
البُخَارِيّ يُشِير بأثر ابْن عَبَّاس
إِلَى جَوَاز شَهَادَة الْأَعْمَى على التَّعْرِيف،
يَعْنِي: إِذا عرف أَنه فلَان، فَإِذا عرف شهد وَشَهَادَة
التَّعْرِيف مُخْتَلف فِيهَا عِنْد مَالك. وَكَذَلِكَ
الْبَصِير إِذا لم يعرف نسب الشَّخْص فَعرفهُ نسبه من
يَثِق بِهِ فَهَل يشْهد على فلَان ابْن فلَان بنسبه أَو
لَا؟ مُخْتَلف فِيهِ أَيْضا.
وقالَ سُلَيْمَانُ بنُ يَسارٍ: إسْتَأْذَنْتُ على عائِشَةَ
فعَرَفَتْ صَوْتِي قالتْ سُلَيْمَانُ ادْخُلْ فإنَّكَ
مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيءٌ
سُلَيْمَان بن يسَار ضد الْيَمين أَبُو أَيُّوب أَخُو
عَطاء، وَعبد الله وَعبد الْملك مولى مَيْمُونَة بنت
الْحَارِث الْهِلَالِي. قَوْله: (قَالَت سُلَيْمَان)
يَعْنِي: يَا سُلَيْمَان، وَهُوَ منادى حذف مِنْهُ حرف
النداء. قَوْله: (مَا بَقِي عَلَيْك شَيْء) أَي: من مَال
الْكِتَابَة، وَلَا بُد فِي هَذَا من تَأْوِيل، لِأَن
سُلَيْمَان مكَاتب لميمونة لَا لعَائِشَة وَوَجهه أَن
يُقَال: إِن، على، فِي قَول عَائِشَة تكون بِمَعْنى: من،
أَي: اسْتَأْذَنت من عَائِشَة فِي الدُّخُول على
مَيْمُونَة، فَقَالَت: أَدخل عَلَيْهَا، أَو لَعَلَّ
مذهبها أَن النّظر حَلَال إِلَى العَبْد سَوَاء كَانَ
ملكهَا أَو لاد، وَأَنَّهَا لَا ترى الاحتجاب من العَبْد
مُطلقًا، واستبعده بَعضهم بِغَيْر دَلِيل فَلَا يلْتَفت
إِلَيْهِ، وَقيل: يحْتَمل أَنه كَانَ مكَاتبا لعَائِشَة،
وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَن الْأَخْبَار الصَّحِيحَة
بِأَنَّهُ مولى مَيْمُونَة ترده.
وأجازَ سَمُرَةُ بنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأةٍ
مُتْنقِبَةٍ
متنقبة، بتَشْديد الْقَاف فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي
رِوَايَة غَيره، منتقبة، بِسُكُون النُّون وتقديمها على
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، من الانتقاب، وَالْأول من
التنقب. وَهِي الَّتِي كَانَ على وَجههَا نقاب. وَفِي
(التَّلْوِيح) : هَذَا التَّعْلِيق يخدش فِيهِ مَا رَوَاهُ
أَبُو عبد الله بن مَنْدَه فِي (كتاب الصَّحَابَة) : أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَلمته امْرَأَة وَهِي
متنقبة، فَقَالَ: أسفري، فَإِن الْإِسْفَار من الْإِيمَان.
5562 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ مَيْمُونٍ
قَالَ أخْبَرَنا عيساى بنُ يُونُسَ عَن هِشَامٍ عنْ أبِيه
عَن عائشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالتْ سَمِعَ
النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجُلاً يَقْرأُ فِي
الْمَسْجِدِ فَقَالَ رَحِمَهُ الله لَقدْ أذْكَرَنِي كذَا
وكذَا آيَة أسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذا وكذَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم اعْتمد على صَوت ذَلِك الرجل الَّذِي قَرَأَ فِي
الْمَسْجِد من غير أَن يرى شخصه، وَمُحَمّد بن عبيد مصغر
عبد بن مَيْمُون، مر فِي الصَّلَاة، وَهُوَ من أَفْرَاده،
وَعِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي أَبُو
عَمْرو، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه
عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة. والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد
بن عبيد الْمَذْكُور أَيْضا. قَوْله: (اسقطتهن) أَي:
نسيتهن.
وزَادَ عَبَّادُ بنُ عَبْدِ الله عنْ عائِشَةَ تَهَجَّدَ
النَّبيُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِي فَسَمِعَ
صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ يَا
عائِشَةُ لَصوْتُ عَبَّادٍ هاذَا قُلْتُ: نَعمْ قَالَ:
أللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّاداً
عباد بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن
عبد الله بن الزبير بن الْعَوام التَّابِعِيّ، مر فِي
الزَّكَاة، وَهَذِه الزِّيَادَة الَّتِي هِيَ التَّعْلِيق
وَصلهَا أَبُو يعلى من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن
يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: تهجد النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِي وتهجد عباد بن بشر
فِي الْمَسْجِد، فَسمع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صَوته، فَقَالَ: يَا عَائِشَة (هَذَا عباد بن بشر؟)
فَقلت: نعم قَالَ (أللهم ارْحَمْ عباداً) .
قَوْله: (تهجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، من
الهجود وَهُوَ من الأضداد يُقَال: تهجد بِاللَّيْلِ إِذا
صلى، وتهجد إِذا نَام، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال:
تهجدت إِذا سهرت وَإِذا نمت، فَهُوَ من الأضداد. قَوْله:
(فَسمع صَوت عباد) ، وَهُوَ عباد بن بشر الْأنْصَارِيّ
الأشْهَلِي، شهد بَدْرًا وأضاءت لَهُ عَصَاهُ لما خرج من
عِنْد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
الزُّهْرِيّ: اسْتشْهد يَوْم الْيَمَامَة وَهُوَ ابْن خمس
وَأَرْبَعين سنة، وَلَا يظنّ أَن عباداً الَّذِي فِي
قَوْله: فَسمع صَوت عباد، هُوَ عباد بن عبد الله
(13/220)
بن الزبير، وَقد ميز بَينهمَا فِي رِوَايَة
أبي يعلى، فَعبَّاد بن بشر صَحَابِيّ جليل، وَعباد بن عبد
الله تَابِعِيّ من وسط التَّابِعين، قَالَ الْكرْمَانِي:
وَفِي بعض النّسخ: فَسمع صَوت عباد بن تَمِيم، وَهُوَ
سَهْو. قَوْله: (لصوت عباد هَذَا؟) ، فَقَوله: هَذَا،
مُبْتَدأ و: لصوت عباد، مقدما خَبره، وَاللَّام فِيهِ
للتَّأْكِيد.
وَفِيه: جَوَاز رفع الصَّوْت فِي الْمَسْجِد
بِالْقِرَاءَةِ فِي اللَّيْل. وَفِيه: الدُّعَاء لمن أصَاب
الْإِنْسَان من جِهَته خيرا وَإِن لم يَقْصِدهُ ذَلِك
الْإِنْسَان. وَفِيه: جَوَاز النسْيَان على النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا قد بلغه إِلَى الْأمة.
6562 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدثنَا
عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي سلَمَةَ قَالَ أخبرَنا ابنُ
شِهابٍ عَن سالِمِ بنِ عبْدِ الله عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ
فَكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يُؤذِّنَ أوْ قالَ حتَّى
تَسْمَعُوا أذَانَ ابنِ أُمِّ مكْتُومٍ وكانَ ابنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ رجُلاً أعْماى لَا يُؤَذِّنُ حتَّى يَقُولَ لَهُ
النَّاسُ أصْبَحْتَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهُم كَانُوا يعتمدون
على صَوت الْأَعْمَى. والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب أَذَان
الْأَعْمَى. وَفِي بَاب الْأَذَان بعد الْفجْر، وَفِي:
بَاب الْأَذَان قبل الْفجْر، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
7562 - حدَّثنا زيادُ بنُ يَحْيى قَالَ حدَّثنا حاتِمُ بنُ
وَرْدَانَ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي
مُلَيْكَةَ عنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ قَدِمْتُ على النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أقْبِيَةٌ فَقَالَ لي أبي مخْرَمَةُ
انْطَلِقْ بِنا إليْهِ عسَى أنْ يُعْطِينَا مِنْهَا
شَيْئاً فَقَامَ أبي على البَابِ فتَكَلَّمَ فعَرَفَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوْتَهُ فخَرَجَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعَهُ قَباءٌ وهُوَ يُرِيهِ
مَحاسِنَهُ وهْوَ يَقُولُ خَبأتُ هاذَا لَكَ خَبَأتُ هاذَا
لَكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اعْتمد على صَوت مخرمَة قبل أَن يرى شخصه،
وَزِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وتحفيف الْيَاء آخر الْحُرُوف:
ابْن يحيى بن زِيَاد أَبُو الْخطاب الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة
أَربع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وحاتم بن وردان على وزن
فعلان من الْوُرُود أَبُو صَالح الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة
أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْهِبَة فِي: بَاب كَيفَ يقبض
العَبْد وَالْمَتَاع، ومقصود البُخَارِيّ من هَذِه
التَّرْجَمَة وَمن الْأَحَادِيث الَّتِي أوردهَا فِيهَا
بَيَان جَوَاز شَهَادَة الْأَعْمَى. وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي جَمِيع مَا ذكره دلَالَة
على قبُول شَهَادَة الْأَعْمَى فِيمَا يحْتَاج إِلَى
إِثْبَات الْأَعْيَان، أما نِكَاح الْأَعْمَى فَإِنَّهُ
فِي نَفسه، لِأَنَّهُ فِي زَوجته وَأمته لَا لغيره فِيهِ.
وَأما مَا رَوَاهُ فِي التأذين فقد أخبر أَنه كَانَ لَا
يُؤذن حَتَّى يُقَال لَهُ: أَصبَحت، وَكفى بِخَبَر سيدنَا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاهدا لَهُ،
فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يصبح، والاعتماد على الْجمع
الَّذِي يخبرونه بِالْوَقْتِ. وَأما مَا قَالَه عَن
الزُّهْرِيّ فِي ابْن عَبَّاس فَهُوَ تَأْوِيل لَا احتجاج.
وَأما مَا ذكر من سَماع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قِرَاءَة رجل بَيَان أَن كل صائت، وَإِن لم ير مصوته، يعرف
بِصَوْتِهِ. وَإِمَّا مَا ذكره من قصَّة مخرمَة فَإِنَّمَا
يرِيه محَاسِن الثَّوْب مساً لَا إبصاراً لَهُ بِالْعينِ.
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن
الْجَمَاعَة الَّذين ذكرهم البُخَارِيّ أَجَازُوا شَهَادَة
الْأَعْمَى، فَهُوَ دَلِيل البُخَارِيّ. انْتهى. وَقَالَ
ابْن حزم: شَهَادَة الْأَعْمَى مَقْبُولَة كَالصَّحِيحِ،
رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَصَحَّ عَن الزُّهْرِيّ
وَعَطَاء وَالقَاسِم وَالشعْبِيّ وَشُرَيْح وَابْن سِيرِين
وَالْحكم بن عتيبة وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ وَابْن جريج وَأحد قولي الْحسن وَأحد قولي
إِيَاس بن مُعَاوِيَة وَأحد قولي ابْن أبي ليلى وَهُوَ
قَول مَالك وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي سُلَيْمَان
وأصحابنا.
وَقَالَت طَائِفَة: تجوز شَهَادَته فِيمَا عرف قبل الْعَمى
وَلَا تجوز فِيمَا عرف بعد الْعَمى، وَهُوَ أحد قولي
الْحسن وَأحد قولي ابْن أبي ليلى. وَهُوَ قَول أبي يُوسُف
وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه. وَقَالَت طَائِفَة: تجوز فِي
الشَّيْء الْيَسِير، رُوِيَ ذَلِك عَن النَّخعِيّ.
وَقَالَت طَائِفَة: لَا تقبل فِي شَيْء أصلا إلاَّ فِي
الْأَنْسَاب وَهُوَ قَول زفر، وَعند أبي حنيفَة لَا تقبل
فِي شَيْء أصلا.
وَفِي (التَّوْضِيح) : فحصلنا فِيهِ على سِتَّة مَذَاهِب:
الْمَنْع الْمُطلق،
(13/221)
وَالْجَوَاز الْمُطلق، وَالْجَوَاز فِيمَا
طَرِيقه الصَّوْت دون الْبَصَر، وَالْفرق بَين مَا علمه
قبل وَبَين مَا عمله بعد، وَالْجَوَاز الْيَسِير،
وَالْجَوَاز فِي الْأَنْسَاب خَاصَّة.
21 - (بابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز شَهَادَة النِّسَاء.
وقَوْلِ الله تعالَى {فإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وامْرَأتَانِ} (الْبَقَرَة: 282) .
ذكر هَذِه الْقطعَة من الْآيَة لِأَنَّهَا تدل على جَوَاز
شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، وَقَالَ ابْن بطال:
أجمع أَكثر الْعلمَاء على أَن شَهَادَتهنَّ لَا تجوز فِي
الْحُدُود وَالْقصاص. وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب
وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَمَالك
وَاللَّيْث والكوفيين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر.
وَاخْتلفُوا فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق
وَالنّسب وَالْوَلَاء، فَذهب ربيعَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى: أَنه لَا تجوز فِي
شَيْء من ذَلِك كُله مَعَ الرِّجَال، وَأَجَازَ
شَهَادَتهنَّ فِي ذَلِك كُله مَعَ الرِّجَال
الْكُوفِيُّونَ، وَاتَّفَقُوا أَنه: تجوز شَهَادَتهنَّ
منفردات فِي الْحيض والولادة والاستهلال وعيوب النِّسَاء،
وَمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال من عوراتهن
للضَّرُورَة. وَاخْتلفُوا فِي الرَّضَاع، فَمنهمْ من أجَاز
شهاداتهن منفردات، وَمِنْهُم من أجازها مَعَ الرِّجَال،
وَقَالَ أَصْحَابنَا: يثبت الرَّضَاع بِمَا ثَبت بِهِ
المَال، وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل
وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا تقبل شَهَادَة النِّسَاء
المنفردات، وَعند الشَّافِعِي: يثبت بِشَهَادَة أَربع
نسْوَة وَعند مَالك: بامرأتين. وَعند أَحْمد: بمرضعة
فَقَط. وَفِي (الْكَافِي) : أَنه لَا فرق بَين أَن يشْهد
قبل النِّكَاح أَو بعده. انْتهى. وَاخْتلفُوا فِي عدد من
يجب قبُول شَهَادَته من النِّسَاء على مَا لَا يطلع
عَلَيْهِ الرِّجَال. فَقَالَت طَائِفَة: لَا تقبل أقل من
أَربع، وَهَذَا قَول أهل الْبَيْت وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء
بن أبي رَبَاح وَهُوَ رَأْي الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر.
وَقَالَت طَائِفَة: تجوز شَهَادَة امْرَأتَيْنِ على مَا
لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال، وَبِه قَالَ مَالك وَابْن
شبْرمَة وَابْن أبي ليلى، وَعَن مَالك: إِذا كَانَت مَعَ
الْقَابِلَة امْرَأَة أُخْرَى فشهادتها جَائِزَة، وَرُوِيَ
عَن الشّعبِيّ أَنه أجَاز شَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة
فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال، وَعَن مَالك: أرى أَن
تجوز شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ فِي الدّين مَعَ يَمِين
صَاحبه، وَعَن الشَّافِعِي: يسْتَحْلف الْمُدعى عَلَيْهِ
وَلَا يحلف الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ.
وَقَالَت طَائِفَة لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء إلاَّ فِي
موضِعين فِي: المَال، وَحَيْثُ لَا يرى الرِّجَال من عورات
النِّسَاء.
8562 - حدَّثنا ابنُ أبيَ مَرْيَمَ قَالَ أخبَرَنَا
مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أخْبَرَنِي زَيْدٌ عنْ
عِياضِ بنِ عبْدِ الله عنْ أبِي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي
الله تَعَالَى عنهِ عنِ النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أنَّهُ قَالَ ألَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأْةِ مِثْلَ نِصْفِ
شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَذَلِكَ مِنْ
نُقْصَانِ عَقْلِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ
سعيد بن مُحَمَّد بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي الْمصْرِيّ،
وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير وَزيد هُوَ ابْن أسلم،
وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه: سعد بن مَالك، والْحَدِيث
مضى بأتم مِنْهُ فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب ترك الْحَائِض
الصَّوْم، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
31 - (بابُ شَهَادَةِ الإمَاءِ والعَبيدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شَهَادَة الْإِمَاء وَهُوَ
جمع: أمة، وَالْعَبِيد جمع: عبد، وَحكمه أَن شَهَادَتهم
لَا تقبل مُطلقًا عِنْد الْجُمْهُور، وَعند أَحْمد
وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر: تقبل فِي الشَّيْء الْيَسِير،
وَهُوَ قَول شُرَيْح وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن.
وقالَ أنَسٌ شهادَةُ العَبْدِ جائِزَةٌ إذَا كانَ عَدْلاً
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص بن غياث
عَن الْمُخْتَار بن فلفل، قَالَ: سَأَلت أنسا عَن شَهَادَة
العبيد؟ فَقَالَ: جَائِزَة وَفِي الإشراف: وَمَا علمت أحدا
رد شَهَادَة العَبْد.
(13/222)
وأجَازَهُ شُرَيْحٌ وزُرَارَةُ بنُ أوْفى
أَي: أجَاز حكم شَهَادَة العَبْد شُرَيْح هُوَ القَاضِي،
وزرارة، بِضَم الزَّاي وَتَخْفِيف الرَّاء: ابْن أوفى
بِوَزْن أفعل التَّفْضِيل أَو أفعل من الْمَاضِي الثلاثي
الْمَزِيد فِيهِ العامري قَاضِي الْبَصْرَة، وَتَعْلِيق
شُرَيْح أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي زَائِدَة عَن
أَشْعَث عَن عَامر: أَن شريحاً أجَاز شَهَادَة العَبْد.
وَأما التَّعْلِيق عَن زُرَارَة فَذكره ابْن حزم محتجاً
بِهِ، وَلَا يحْتَج إلاَّ بِصَحِيح.
وَقَالَ ابنُ سِيرينَ: شَهادَتُهُ جائزَةٌ إلاَّ العَبْدَ
لِسَيِّدِهِ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين: شَهَادَة العَبْد
جَائِزَة، وَوَصله عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل: حَدثنَا
أبي حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا حَمَّاد بن
زيد عَن يحيى بن عَتيق عَنهُ بِلَفْظ: إِنَّه كَانَ لَا
يرى بِشَهَادَة الْمَمْلُوك بَأْسا إِذا كَانَ عدلا.
وأجَازَهُ الحَسَنُ وإبْرَاهِيمُ فِي الشِّيْءِ التَّافِهِ
أَي: أجَاز حكم شَهَادَة العَبْد الْحسن الْبَصْرِيّ
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي الشَّيْء التافه أَي الحقير،
وَهُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وبالفاء
الْمَكْسُورَة وَالْهَاء. وَتَعْلِيق الْحسن وَصله ابْن
أبي شيبَة، عَن معَاذ بن معَاذ عَن أَشْعَث الحمراني عَنهُ
من غير ذكر التافه، وَتَعْلِيق إِبْرَاهِيم، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَيْضا عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن
مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم بِلَفْظ: كَانُوا يجيزونها فِي
الشَّيْء الطفيف.
وَقَالَ شرَيْحٌ كُلُّكُمْ بَنُو عبيدٍ وإمَاءٍ
كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
ابْن السكن: كلكُمْ عبيد وإماء، وَوَصله ابْن أبي شيبَة من
طَرِيق عمار الذَّهَبِيّ: سَمِعت شريحاً شهد عِنْده عبد
فَأجَاز شَهَادَته، فَقيل: إِنَّه عبد. فَقَالَ كلنا عبيد
وَأمنا حَوَّاء عَلَيْهَا السَّلَام.
وللعلماء فِي شَهَادَة العَبْد ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: جَوَازهَا كَالْحرِّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، كَقَوْل أنس وَشُرَيْح، وَبِه قَالَ
أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَثَانِيها: جَوَازهَا
فِي الشَّيْء التافه، رُوِيَ عَن الشّعبِيّ كَقَوْل الْحسن
وَالنَّخَعِيّ. وَثَالِثهَا: لَا يجوز فِي شَيْء أصلا،
رُوِيَ عَن عمر وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول عَطاء
وَمَكْحُول، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ
وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فَإِن قلت: كل من
جَازَ قبُول خَبره جَازَ قبُول شَهَادَته كَالْحرِّ. قلت:
لَا نسلم، فَإِن الْخَبَر قد سومح فِيهِ مَا لم يسامح فِي
الشَّهَادَة، لِأَن الْخَبَر يقبل من الْأمة مُنْفَرِدَة
وَمن العَبْد مُنْفَردا وَلَا تقبل شَهَادَتهمَا منفردين،
وَالْعَبْد نَاقص عَن رُتْبَة الْحر فِي أَحْكَام،
فَكَذَلِك فِي الشَّهَادَة، وَمذهب ابْن حزم الْجَوَاز،
فَإِن شَهَادَة العَبْد وَالْأمة مَقْبُولَة فِي كل شَيْء
لسَيِّده أَو لغيره كَشَهَادَة الْحر والحرة، وَلَا فرق.
9562 - حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ
أَبِيْ مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ بنِ الحارِثِ ح وحدَّثنا
عَلِيُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ
عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ أبِي مُلَيْكَةَ
قَالَ حدَّثني عُقْبَةُ بنُ الحَارِثِ أوْ سَمِعْتُهُ
مِنْهُ أنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أبِي إهَابٍ
قَالَ فَجاءَتْ أمَةٌ سَوْدَاءُ فقالَتْ قَدْ
أرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرْتُ ذالِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فأعْرَضَ عَنِّي قَالَ فَتَنَحَّيْتُ
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ وكَيْفَ وقَدْ زَعَمَتْ أنْ
قَدْ أرْضَعَتْكُمَا فَنهاهُ عنْها..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْأمة الْمَذْكُورَة
لَو لم تكن شهادتها مَقْبُولَة مَا عمل بهَا، وَلذَلِك
أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عقبَة بِفِرَاق
امْرَأَته بقول الْأمة الْمَذْكُورَة، ثمَّ إِنَّه أخرج
الحَدِيث الْمَذْكُور من طَرِيقين: الأول: عَن أبي عَاصِم
الضَّحَّاك بن مخلد عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن
جريج عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن عقبَة بن الْحَارِث.
وَالثَّانِي: عَن عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن
الْمَدِينِيّ عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن ابْن جريج
... إِلَى آخِره، وَقد مضى الحَدِيث فِي
(13/223)
كتاب الْعلم فِي: بَاب الرحلة فِي
الْمَسْأَلَة النَّازِلَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ وَأجَاب الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن حَدِيث الْبَاب،
فَقَالَ: قد جَاءَ فِي بعض طرقه: فَجَاءَت مولاة لأهل
مَكَّة، قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظ يُطلق على الْحرَّة
الَّتِي عَلَيْهَا الْوَلَاء، فَلَا دلَالَة فِيهِ على
أَنَّهَا كَانَت رَفِيقَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن رِوَايَة
حَدِيث الْبَاب فِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّهَا أمة، فَتعين
أَنَّهَا لَيست بحرة.
41 - (بابُ شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شَهَادَة الْمُرضعَة.
0662 - حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدٍ عنِ
ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ قَالَ
تَزَوَّجْتُ امْرَأةً فجَاءَتْ امْرَأةٌ فَقالَتْ إنِّي
قَدْ أرْضَعْتُكُمَا فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ وكَيْفَ وقَدْ قِيلَ دَعْهَا عَنْكَ أوْ
نَحْوَهُ..
هَذَا الطَّرِيق عَن أبي عَاصِم عَن عمر بن سعيد بن
حُسَيْن النَّوْفَلِي الْقرشِي المكيد، وَفِي الْبَاب
الَّذِي قبله: أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج، كِلَاهُمَا عَن
ابْن أبي مليكَة، فَكَانَ لأبي عَاصِم فِيهِ شَيْخَانِ،
وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) : لَهُ شَيْخَانِ آخرَانِ
فِيهِ، رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن أبي عَاصِم عَن
أبي عَامر الخزاز وَمُحَمّد بن سليم، كِلَاهُمَا عَن ابْن
أبي مليكَة أَيْضا، فَصَارَ لأبي عَاصِم أَرْبَعَة من
الشُّيُوخ كلهم يروون عَن ابْن أبي مليكَة، وَأَبُو عَاصِم
يروي عَنْهُم. قَوْله: (دعها) أَي: اتركها بعيدَة متجاوزة
عَنْك.
51 - (بابُ تَعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بَعْضَاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَعْدِيل النِّسَاء بَعضهم
بَعْضًا فِي أَمر قَضِيَّة، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا
من غير رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر
زَاد قبل الْبَاب حَدِيث الْإِفْك، ثمَّ قَالَ: بَاب
الْإِفْك، بِكَسْر الْهمزَة: الْكَذِب.
1662 - حدَّثنا أبُو الرَّبِيعِ سلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ
فأفْهَمَنِي بَعْضَهُ أحْمدُ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ
سُلَيْمان عنِ ابنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ بنِ
الزُّبَيْرِ وسَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ وعَلْقَمَةَ بنِ
وَقَّاصٍ اللَّيْثِي وعُبَيْدِ الله بنِ عبْدِ الله بنِ
عُتْبَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ قالَ لَهَا
أهْلُ الأفْكِ مَا قالُوا فَبَرَّأهَا الله مِنْهُ قَالَ
الزُّهْرِيُّ وكُلُّهُمْ حدَّثنِي طائِفَةً مِنْ
حَدِيثِهَا وبَعْضُهُمْ أوْعاى مِنْ بَعْضٍ وأثْبَتُ لَهُ
اقْتِصَاصاً وقَدْ وعَيْتُ عنْ كُلِّ واحِدٍ مِنْهُمُ
الحَدِيثَ الَّذِي حدَّثني عَن عائِشَةَ وبَعْضُ
حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضاً زَعَمُوا أنَّ عائِشَةَ
قالَتْ كانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا
أرَادَ أنْ يَخْرُجَ سَفَرَاً أقْرَعَ بَيْنَ أزْوَاجِهِ
فأيَّتَهُنَّ خَرَجَ سَهمُهَا خَرَجَ بِها معَهُ فأقْرَعَ
بَيْنن فِي غَزاةٍ غَزاهَا فَخرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ
معَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجَابُ فَأَنا أحْمَلُ فِي
هَوْدَجً وأُنْزَلُ فِيهه فَسِرْنَا حتَّى إذَا فَرَغَ
رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ غَزْوَتِهِ
تِلْكَ وقَفَلَ ودَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ
لَيْلَةً بالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بالرَّحِيلِ
فَمَشَيْتُ حتَّى جاوَزْتُ الجَيْشَ فلَمَّا قَضَيْتُ
شَأنِي أقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فلَمَسْتُ صَدْرِي فإذَا
عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْع أظْفارً قدِ انْقَطَعَ فرَجَعْتُ
فالْتَمَسْتُ عِقْدِي فحَبَسَني ابْتِغَاؤهُ فأقْبَلَ
الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي
فرَحَلُوهُ عَلى بَعيري الَّذِي كُنْتُ أرْكَبُ وهُمْ
يَحْسُبونَ أنِّي فِيهِ وكانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ
خِفافاً لَمْ يَثْقُلْنَ ولَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ
وإنَّمَا يأكُلْنَ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعامِ فَلَمْ
(13/224)
يَسْتَنْكِر القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثقلَ
الهَوْدَج فاحْتَمَلُوهُ وكُنْتُ جَارِيَة حديثَةَ
السِّنِّ فبَعَثُوا الجَمَلَ وسارُوا فَوَجَدْتُ عِقْدِي
بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ فَجئْتُ مَنْزِلَهُم
ولَيْسَ فيِه أَحَدٌ فأمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ
بِهِ فظَنَنْتُ أنَّهُمْ سَيَفْقِدُوني فَيرْجِعُونَ إليَّ
فَبيْنَا أَنا جالِسَةٌ غلبتني عَيْنَايَ فَنِمْتُ وكانَ
صَفْوانُ بنُ المُعَظَّلِ السُّلَميُّ ثُمَّ
الذَّكْوَاتيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ فأصْبَحَ عِنْدَ
مَنْزِلِي فَرأى سَوادَ إنْسَانٍ نائِمٍ فأتانِي وكانَ
يَرانِي قبْلَ الحِجَابِ فاسْتَيْقَظْتُ باسْتِرْجَاعِهِ
حِينَ أناخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِىءَ يَدَها فرَكِبْتُهَا
فانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حتَّى أتَيْنَا
الجَيْشَ بعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرٍ
الظَّهِيرَةِ فهَلَكَ مَنْ هَلكَ وكانَ الَّذي تَوَلَّى
الإفْكَ عبْدُ الله بنُ أُبَيِّ ابنِ سَلول فَقَدِمْنَا
المَدِينَةَ فاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْراً والنَّاسُ
يُفيضُونَ مِنْ قَوْلِ أصْحَابِ الإفْكِ ويَريبُنِي فِي
وَجَعِي أنِّي لَا أراى مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أراى مِنْهُ حِينَ أمْرَضُ
إنَّمَا يَدْخُلُ فيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفُ تِيكُمْ
لَا أشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذالِكَ حتَّى نقَهْتُ
فَخَرَجْتُ أَنا وأُمَّ مِسْطَحٍ قِبلَ المناصِعِ
مُتَبَرَّزُنا لَا نَخْرُجُ إلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ
وذالِكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَريباً مِنْ
بُيُوتِنَا وأمْرُنا أمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي
البَرِيَّةِ أَو فِي التَّنَزُّهِ فأقْبَلْتُ أَنا وأُمُّ
مِسْطَحٍ بِنْتَ أبِي رُهْمٍ نَمْشِي فَعَثَرَتْ فِي
مِرْطها فقالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ فقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا
قُلْتِ أتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً فقالَتْ يَا
هنْتَاهُ ألَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا فأخْبَرَتْنِي
بِقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ فازْدَدْتُ مَرَضاً إِلَى مَرَضِي
فلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دخَلَ علَيَّ رسوُلُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ تِيكُمْ
فَقُلْتُ إئْذِنْ لِي إِلَى أبَوَيَّ قالَتْ وأنَا
حِينَئِذٍ أريدُ أنْ أسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِما
فأذِنَ لِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأتيْتُ
أبَوَيَّ فقُلْتُ لَأُمِّي مَا يتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ
فقالَتْ يَا بُنَيَّةَ هَوِّنِي علَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ
فَوَالله لقَلَّمَا كانَتِ امْرَأةٌ قطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ
رَجُلٍ يُحِبُّهَا ولَهَا ضَرَائِرُ إلاَّ أكْثَرْنَ
عَلَيْهَا فقُلْتُ سُبْحَانَ الله ولَقَدْ يَتَحَدَّثُ
النَّاسُ بهاذا قالتْ فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حتَّى
أصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أكْتَحِلُ
بِنَوْمٍ ثُمَّ أصْبَحْتُ فَدَعَا رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عليَّ بنَ أبِي طَالِبٍ وأُسَامَةَ ابنَ
زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي
فِرَاقِ أهْلِهِ فأمَّا أُسَامَةُ فأشارَ عَلَيْهِ
بالَّذِي يَعْلمُ فِي نفْسِهِ مِنَ الوُدِّ لَهُمْ فَقَالَ
أُسَامَةُ أهْلُكَ يَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَا نَعْلَمُ وَالله إلاَّ خَيْراً وأمَّا علِيُّ بنُ
أبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رسولَ الله لَمْ يُضَيِّقِ الله
علَيْكَ والنِّسَاءُ سِواهَا كَثيرٌ وسَلِ الجارِيةَ
تَصْدُقْكَ فَدَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَريرَةَ فَقَالَ يَا بَرِيرَةَ هَلْ رَأيْتَ فِيهَا
شَيْئاً يَريبُكِ فقالتْ بَرِيرَةُ لَا والَّذِي بَعثَكَ
بالحَقِّ إنْ رَأيْتُ مِنهَا أمْراً أغْمِصُهُ علَيْهَا
أكْثَرَ مِنْ أنَّهَا جارِيةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تنامُ
عنِ العَجِينِ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأكُلُهُ فقامَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ يَوْمِهِ
فاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ الله بنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلُولَ
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ
يَعْذِرُنِي مِنْ رَجلٍ بلَغَنِي أذَاهُ فِي أهْلِي
فوَاللَّه مَا عَلِمْتُ على أهْلِي إلاَّ خَيْراً وقدْ
ذَكَرُوا رجُلاً مَا علمْتُ علَيْهِ إلاَّ خَيْراً وَمَا
كانَ يَدْخُلُ على أهْلِي إلاَّ مَعِي فقامَ
(13/225)
سعْدُ بنُ مُعَاذٍ قَالَ يَا رسولَ الله
أَنا وَالله أعْذِرُكَ منْهُ إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضربْنا
عُنُقَهُ وإنْ كانَ مِنْ أخْوَانِنا مِنَ الخَزْرَجِ
أمرْتَنا ففَعَلْنَا فيِهِ أمْرَكَ فقامَ سَعْدُ بنُ
عُبَادَةَ وهْوَ سيِّدُ الخَزْرجِ وكانَ قبْلَ ذالِكَ
رجُلاً صَالحا ولاكِنْ احْتَمَلَتْهُ الحَميَّةُ فَقَالَ
كذبْتَ لَعَمْرُ الله لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تقْدِرُ على
ذالِكَ فَقامَ أُسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ فَقَالَ كذَبْتَ
لَعَمْرُ الله وَالله لَنقْتُلَنَّهُ فإنَّكَ مُنَافِقُ
تُجَادِلُ عنِ المُنَافِقِينَ فَثارَ الحيَّانِ الأوْسُ
والخَزْرَجُ حتَّى هَمُّوا ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على المِنْبَرِ فنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حتَّى
سَكَتُوا وسَكَتَ وبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقأُ لِي
دَمْعٌ وَلَا اكْتَحِلُ بِنَوْم فأصْبَحَ عِنْدِي أبَوايَ
قدْ بَكَيْتُ ليْلَتَيْنِ ويوْماً حتَّى أظُنُّ أنَّ
البُكَاءَ فالِقٌ كَبِدِي قالتْ فَبيْنَما هُمَا جالِسانِ
عِنْدِي وَأَنا أبْكِي إذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأةٌ مِنَ
الأنْصَارِ فأذِنْتُ لَهَا فجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِيَ
فبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فجلَسَ ولَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ
قِيلَ فِيَّ مَا قيلَ قَبْلَهَا وقَدْ مَكَثَ شَهْراً لاَ
يُوحَى إلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ قالَتْ فتَشَهَّدَ
ثُمَّ قالَ يَا عائِشَةُ فإنَّهُ بلَغَنِي عَنْكِ كَذَا
وكَذَا فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فسَيُبرِّئُكِ الله وإنْ
كُنْتِ ألْمَمْتِ فاسْتَغْفِرِي الله وتُوبِي إلَيْهِ
فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تابَ تابَ
الله علَيْهِ فلَمَّا قَضَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَقالَتَهُ قلَصَ دَمْعِيَ حتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ
قَطْرَةً وقُلْتُ لأبِي أجِبُ عَنِّي رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَالله مَا أدرِي مَا أقولُ
لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ لِأُمِّي
أجِيبي عَنِّي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا
قَالَ قالَتْ وَالله مَا أدْرِي مَا أقولُ لِرَسولِ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ وَأَنا جارِيَةٌ حديثَةُ
السِّنِّ لَا أقْرَأُ كَثيراً مِنَ القُرْآنِ فقُلْتُ
إنِّي وَالله لَقَدْ عَلِمْتُ أنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا
يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ ووَقَرَ فِي أنْفُسِكُمْ
وصَدَّقْتُمْ بِهِ ولَئِنْ قُلْتُ إنِّي بَريئَةٌ وَالله
يَعْلَمُ إنِّي لبَرِيئَةً لاَ تُصَدِّقُونِي بِذالِكَ
ولَئنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأمْرِ وَالله يَعْلَمُ أنِّي
بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَالله مَا أجِدُ لي ولَكُمْ
مثَلاً إلاَّ أَبَا يُوسُفَ إذْ قالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَالله المُسْتَعَانُ على مَا تَصِفُونَ} (يُوسُف:. 1) .
ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِراشِي وأنَا أرْجُو أَن
يُبَرِّئَنِي الله ولَكِنْ وَالله مَا ظَنَنْتُ أنْ
يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْياً ولأنا أحْقَرُ فِي نَفْسِي
مِنْ أنْ يَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أمْرِي ولَكِنِّي
كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيا يُبَرِّئُنِي الله فَوَالله
مَا رَامَ مَجْلِسَهُ ولاَ خَرَجَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ
البَيْتِ حتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فأخَذَهُ مَا كانَ
يأخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حتَّى أنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ
مِنْهُ مِثْلُ الجُمَّانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شاتٍ
فلَمَّا سُرِّيَ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وهْوَ يَضْحَكُ فَكانَ أوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِها أنْ
قالِ لِي يَا عائِشَةُ احْمَدِي الله فقَدْ بَرَّأكِ الله
فقالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَى رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ لاَ وَالله لَا أقُومُ إلَيْهِ
ولاَ أحْمَدُ إلاَّ الله فأنْزَلَ الله تَعَالَى إنَّ
الَّذِينَ جاؤُوا بالإفْكِ عُصْبَةً مِنْكُمْ الآياتِ
فلَمَّا أنْزَلَ الله هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وكانَ
يُنْفِقُ على مِسْطَح بن أثاثةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ
وَالله لَا أُنْفِقُ علَى مِسْطَح شيْئاً
(13/226)
أبدَاً بعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ
فأنْزَلَ الله تَعَالى {وَلاَ يَأْتَلِ أولُو الفَضْلِ
مِنْكُمْ والسَّعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورٌ رَحيمٌ}
(النُّور: 22) . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَلَى
وَالله إنِّي لأُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ الله لِي فرَجَعَ إلَى
مِسْطَحٍ الَّذي كانَ يَجْدِي عَلَيْهِ وكانَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْألُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ
عنْ أمْرِي فَقَالَ يَا زَيْنَبَ مَا عَلِمْتِ مَا رَأيْتِ
فقالَتْ يَا رسولَ الله أحْمِي سَمْعِي وبَصَرِي وَالله
مَا علِمْتُ علَيْهَا إلاَّ خَيْرَاً قالَتْ وهْيَ الَّتِي
كانَتْ تُسامِينِي فعَصَمَها الله بالوَرَعِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ سُؤال النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرِيرَة وَزَيْنَب بنت جحش عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وثناء كل
مِنْهُمَا عَلَيْهَا بِخَير، وَهَذَا تَعْدِيل وتزكية عَن
بعض النِّسَاء لبَعض.
ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة: الأول: أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان
بن دَاوُد الْعَتكِي، مَاتَ فِي آخر سنة إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، مر فِي الْإِيمَان.
الثَّانِي: أَحْمد، وَقد اخْتلف فِيهِ، فَفِي (أصل)
الدمياطي: هُوَ أَحْمد بن يُونُس، وَقَالَ الْكرْمَانِي
وَفِي بعض النّسخ: أَحْمد بن يُونُس، أَي: أَحْمد بن عبد
الله بن يُونُس الْيَرْبُوعي الْمَشْهُور بشيخ
الْإِسْلَام، مر فِي الوضوءد، وَكَذَا قَالَ خلف فِي
(أَطْرَافه) : إِنَّه أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس، ووهمه
الْمزي وَلم يبين سَببه، وَزعم ابْن خلفون أَن أَحْمد
هَذَا هُوَ: أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي
(طَبَقَات الْفراء) : هُوَ أَحْمد بن النَّضر
النَّيْسَابُورِي. الثَّالِث: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح
اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء
مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، وَكَانَ اسْمه
عبد الْملك، ولقبه فليح فغلب على اسْمه واشتهر بِهِ، يكنى
أَبَا يحيى الْخُزَاعِيّ، وَيُقَال الْأَسْلَمِيّ.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس:
سعيد بن الْمسيب، بِفَتْح الْيَاء الْمُشَدّدَة وَكسرهَا.
السَّابِع: عَلْقَمَة بن وَقاص اللَّيْثِيّ العتواري.
الثَّامِن: عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن عبد الله بن
عتبَة بن مَسْعُود أَبُو عبد الله الْهُذلِيّ، أحد
الْفُقَهَاء السَّبْعَة. التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
فأفهمني بعضه أَحْمد، إِنَّمَا قَالَ بِهَذِهِ الْعبارَة
وَلم يقل: حَدثنِي، وَلَا: أَخْبرنِي، وَنَحْو ذَلِك
إشعاراً أَنه أفهمهُ بعض مَعَاني الحَدِيث ومقاصده لَا
لَفظه. قَوْله: فأفهمني، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول،
وَأحمد مَرْفُوع على الفاعلية، وَبَعضه مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول ثَان. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي، وَبَقِيَّة
الروَاة مدنيون. وَفِيه: خَمْسَة من التَّابِعين
مُتَوَالِيَة. وَفِيه: أَن فليحاً روى عَن الزُّهْرِيّ
وَأَن الزُّهْرِيّ روى عَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن جمَاعَة من
التَّابِعين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي وَفِي التَّفْسِير وَفِي
الْأَيْمَان وَالنُّذُور وَفِي الِاعْتِصَام عَن عبد
الْعَزِيز بن عبد الله وَفِي الْجِهَاد والتوحيد وَفِي
الشَّهَادَات وَفِي الْمَغَازِي وَفِي التَّفْسِير وَفِي
الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن حجاج بن منهال وَفِي
التَّفْسِير والتوحيد أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن
اللَّيْث، وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي الرّبيع
الزهْرَانِي وَعَن حبَان بن مُوسَى وَعَن حسن الْحلْوانِي
وَعبد بن حميد وَعَن إِسْحَاق بن أبراهيم وَمُحَمّد بن
رَافع وَمُحَمّد بن حميد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة
النِّسَاء عَن أبي دَاوُد سُلَيْمَان بن سيف الْحَرَّانِي،
وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أهل الْإِفْك) قَالَ السُّهيْلي
فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الَّذين جاؤا بالإفك} (النُّور:
11) . هم: عبد الله ابْن أبيَّ وَحمْنَة بنت جحش وَعبد
الله أَبُو أَحْمد أَخُوهَا ومسطح وَحسان، وَقيل: حسان لم
يكن مِنْهُم، وَقَالَ النَّسَفِيّ، فِي هَذِه الْآيَة: أهل
الْإِفْك هم: عبد الله ابْن أبيّ رَأس الْمُنَافِقين
وَيزِيد بن رِفَاعَة وَحسان بن ثَابت ومسطح بن أَثَاثَة
وَحمْنَة بنت جحش وَمن ساعدهم وَفِي (صَحِيح مُسلم) :
وَكَانَ الَّذين تكلمُوا: مسطح وَحمْنَة وَحسان، وَأما
الْمُنَافِق عبد الله بن أبيّ، فَهُوَ الَّذِي كَانَ
يستوشيه ويجمعه، وَهُوَ الَّذِي تولى كبره، وَحمْنَة.
قَوْله: (يتسوشيه، أَي: يَسْتَخْرِجهُ بالبحث
وَالْمَسْأَلَة، ثمَّ يفشيه ويشيعه ويحركه وَلَا يَدعه
يخمد. وَقَالَ النَّسَفِيّ: فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذِي تولى كبره} (النُّور: 11) . هُوَ عبد الله بن
أبيّ، أَي: الَّذِي تولى عظمه وَبَدَأَ بِهِ ومعظم الشركان
مِنْهُ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِي تولى كبره
مِنْهُم لَهُ عَذَاب عَظِيم} (النُّور: 11) . لإمعانه فِي
عَدَاوَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وانتهازه
الفرص وَطَلَبه سَبِيلا إِلَى الغميزة، ثمَّ قَالَ
(13/227)
النَّسَفِيّ: وَقيل: الَّذِي تولى كبره
هُوَ حسان بن ثَابت، وَعَن عَامر الشّعبِيّ: أَن عَائِشَة
قَالَت، مَا سَمِعت بِشَيْء أحسن من شعر حسان: وَمَا تمثلت
بِهِ إلاَّ رَجَوْت لَهُ الْجنَّة. قَوْله لأبي سُفْيَان:
(هجوتَ مُحَمَّدًا فأجبتُ عَنهُ ... وَعند الله فِي ذَاك
الْجَزَاء)
وَهُوَ من قصيدة قَالَهَا لأبي سُفْيَان، فَقيل لعَائِشَة:
يَا أم الْمُؤمنِينَ: أَلَيْسَ الله يَقُول: {وَالَّذِي
تولى كبره مِنْهُم لَهُ عَذَاب عَظِيم} (النُّور: 11) .
فَقَالَت وَأي عَذَاب أَشد من الْعَمى؟ فَذهب بَصَره
وَكِيع بِسيف، وَكَانَ يدْفع عَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَأما الْإِفْك، فَقَالَ النَّسَفِيّ:
الْإِفْك أبلغ مَا يكون من الافتراء وَالْكذب، وَقيل: هُوَ
الْبُهْتَان لَا تشعر بِهِ حَتَّى يفجأك، وَأَصله:
الْإِفْك، بِالْفَتْح مصدر قَوْلك: أفكه يأفكه أفكاً. قلبه
وَصَرفه عَن الشَّيْء، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أجئتنا
لتأفكنا عَن آلِهَتنَا} (الْأَحْقَاف: 22) . وَقيل للكذب:
إفْك، لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الصدْق. قَوْله: (وَقَالَ
الزُّهْرِيّ: وَكلهمْ حَدثنِي طَائِفَة) أَي: بَعْضًا،
هَذَا قَول جَائِز سَائِغ من غير كَرَاهَة، لِأَنَّهُ قد
بَين أَن بعض الحَدِيث عَن بَعضهم وَبَعضه عَن بَعضهم.
وَالْأَرْبَعَة الَّذين حدثوه أَئِمَّة حفاظ من أجلَّة
التَّابِعين، فَإِذا ترددت اللَّفْظَة من هَذَا الحَدِيث
بَين كَونهَا عَن هَذَا أَو عَن ذَاك لم يضر، وَجَاز
الِاحْتِجَاج بهَا لِأَنَّهُمَا ثقتان، وَقد اتّفق
الْعلمَاء على أَنه لَو قَالَ: حَدثنِي زيد أَو عمر وهما
ثقتان معروفان بذلك عِنْد الْمُخَاطب جَازَ الِاحْتِجَاج
بذلك الحَدِيث. قَوْله: (أوعى من بعض) أَي: أحفظ وَأحسن
إيراداً وسرداً للْحَدِيث. قَوْله: (اقتصاصاً) أَي: حفظا،
يُقَال: قصصت الشَّيْء إِذا تتبعت أَثَره شَيْئا بعد
شَيْء، وَمِنْه: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص}
(يُوسُف: 3) . {قَالَت لأخته قصية} (الْقَصَص: 11) . أَي:
اتبعي أَثَره، وَمِنْه الْقَاص الَّذِي يَأْتِي بالقصة
وَيجوز بِالسِّين: قسست، أَثَره قساً. قَوْله: (وَقد وعيت)
، بِفَتْح الْعين. أَي: حفظت. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: قَالَ أَولا كلهم: حَدثنِي طَائِفَة، وَثَانِيا: وعيت
عَن كل وَاحِد مِنْهُم ... الحَدِيث، وهما متنافيان؟ قلت:
المُرَاد بِالْحَدِيثِ الْبَعْض الَّذِي حَدثهُ مِنْهُ،
إِذْ الحَدِيث يُطلق على الْكل وعَلى الْبَعْض، وَهَذَا
الَّذِي فعله الزُّهْرِيّ من جمعه الحَدِيث عَنْهُم
جَائِز، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَبَعض حَدِيثهمْ) ،
الْقيَاس أَن يُقَال: بَعضهم يصدق بَعْضًا، أَو حَدِيث
بَعضهم يصدق بَعْضًا، وَلَكِن لَا شكّ أَن المُرَاد ذَلِك.
لَكِن قد يسْتَعْمل أَحدهمَا مَكَان الآخر لما بَينهمَا من
الْمُلَازمَة بِحَسب عرف الِاسْتِعْمَال. قَوْله:
(زَعَمُوا) ، أَي: قَالُوا، والزعم قد يُرَاد بِهِ القَوْل
الْمُحَقق الصَّرِيح. وَقد يُرَاد غير ذَلِك، وَإِنَّمَا
قَالُوا لِأَن بَعضهم صَرَّحُوا بِالْبَعْضِ، وَبَعْضهمْ
صدق الْبَاقِي، وَإِن لم يقل صَرِيحًا بِهِ. قَوْلهَا:
(كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَرَادَ
أَن يخرج سفرا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ذكرُوا أَن
عَائِشَة قَالَت: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا أَرَادَ أَن يخرج سفرا. قَوْلهَا: (أَقرع بَين
أَزوَاجه) أَي: ساهم بَينهُنَّ تطييباً لقلوبهن.
وَكَيْفِيَّة الْقرعَة بالخواتيم، يُؤْخَذ خَاتم هَذَا
وَخَاتم هَذَا ويدفعان إِلَى رجل فَيخرج مِنْهُمَا
وَاحِدًا. وَعَن الشَّافِعِي يَجْعَل رِقَاعًا صغَارًا
يكْتب فِي كل وَاحِد اسْم ذِي السهْم، ثمَّ يَجْعَل
بَنَادِق طين ويغطي عَلَيْهَا ثوب، ثمَّ يدْخل رجل يَده
فَيخرج بندقة وَينظر من صَاحبهَا، فيدفعها إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو عبيد بن سَلام: عمل بِالْقُرْعَةِ ثَلَاثَة
من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
نَبينَا: وَيُونُس، وزكرياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قَوْلهَا: (فأيتهن خرج سهمها أخرج بهَا
مَعَه) . كَذَا هُوَ: أخرج، بِالْألف فِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ، وَلأبي ذَر عَن غير الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني والباقين: خرج، بِلَا ألف، وَهُوَ
الصَّوَاب. قَوْلهَا: (فِي غزَاة غَزَاهَا) ، هِيَ غَزْوَة
بني المصطلق، وَكَانَت سنة سِتّ، كَذَا جزم بِهِ ابْن
التِّين، وَقَالَ غَيره: فِي شعْبَان سنة خمس، وتعرف
أَيْضا بغزوة الْمُريْسِيع، وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: سنة
أَربع، فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقْوَال. قَوْلهَا: (فَأَنا
أحمل) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْلهَا: (فِي هودج) بتح
الْهَاء وَسُكُون الْوَاو وبفتح الذَّال الْمُهْملَة وَفِي
آخِره جِيم وَهُوَ مركب من مراكب الْعَرَب أعد النِّسَاء
قَوْلهَا سش
(وقفل) ، أَي: رَجَعَ. قَوْلهَا: (آذن لَيْلَة) ، من
الإيذان وَمن التأذين. قَالَه الْكرْمَانِي، وَيُقَال: آذن
بِالْمدِّ وَالتَّخْفِيف مثل قَوْله: {فَقل آذنتكم على
سَوَاء} (الْأَنْبِيَاء: 901) . وَرُوِيَ بِالْقصرِ
وبالتشديد، أَي: إعلم، قَوْلهَا: (بالرحيل) ، بِالْجَرِّ
على الأَصْل، ويروى: الرحيل، بِالنّصب حِكَايَة عَن
قَوْلهم: الرحيل، مَنْصُوبًا على الإغراء. قَوْلهَا:
(شأني) أَي: مَا يتَعَلَّق بِقَضَاء الْحَاجة، وَهُوَ مَا
يكنى عَنهُ استقباحاً لذكره. قَوْلهَا: (إِلَى الرحل) ،
قَالَ الْكرْمَانِي: الرحل: الْمَتَاع. قلت: الرحل الْمنزل
والمسكن، يُقَال: انتيهنا إِلَى رحالنا أَي: إِلَى
مَنَازلنَا. قَوْلهَا: (فَإِذا عقد) ، كلمة: إِذا،
للمفاجأة، وَالْعقد، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْقَاف:
القلادة. قَوْلهَا: (من جزع أظفار) ، الْجزع، بِفَتْح
الْجِيم وَسُكُون الزَّاي: خرز يمَان، وَزعم أَبُو
الْعَبَّاس أَحْمد ابْن يُوسُف التيفاشي فِي كِتَابه
(الْأَحْجَار) : أَنه يُوجد فِي الْيمن فِي معادن العقيق،
وَمِنْه مَا يُؤْتى بِهِ من الصين، وَهُوَ أصنافٍ فَمِنْهُ
(13/228)
البقراني والغروي والفارسي والحبشي والعسلي
والمعرق، وَلَيْسَ فِي الْحِجَارَة أَصْلَب من الْجزع
جسماً لَا يكَاد يُجيب من يعالجه سَرِيعا، وَإِنَّمَا يحسن
إِذا طبخ بالزيت، وَزَعَمت الفلاسفه أَنه يشتق من اسْمه:
الْجزع، لِأَنَّهُ يُولد فِي الْقلب جزعاً، وَمن تقلد بِهِ
كثرت همومه وَرَأى أحلاماً رَدِيئَة وَكثر الْكَلَام بَينه
وَبَين النَّاس، وَإِن علق على طِفْل كثر لعابه وسال،
وَإِن لف فِي شعر الْمُطلقَة ولدت. وَيقطع نفث الدَّم
وَيخْتم القروح. وَعند الْبكْرِيّ: وَمِنْه جزع يعرف
بالنقمي ومعدنه بضمير وسعوان وعذيقة ومخلاف حولان والجزع
السماوي وَهُوَ العشاري، وَقَالَ ثَعْلَب فِي (الفصيح) :
والجزع الخرز، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: لَيْسَ كل الخرز
يُسمى جزعاً، وَإِنَّمَا الْجزع مِنْهَا المجزع أَي:
المقطع بالألوان الْمُخْتَلفَة، قد قطع سوَاده ببياضه.
وَفِي (المنضد) لكراع عَن الْأَثْرَم: أهل الْبَصْرَة
يَقُولُونَ: الْجزع والجزع، بِالْفَتْح وَالْكَسْر: الخرز،
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم التَّمِيمِي فِي كِتَابه
(المستطرف) عَن بنْدَار: الْجزع وَاحِد لَا جمع لَهُ.
وَقَالَ الْحَرْبِيّ وَابْن سَيّده: الْجزع الخرز، واحدته
جزعة. قَوْلهَا: (أظفار) ، بِالْألف فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ظفار، بِلَا ألف
وَكَذَا وَقع فِي (صَحِيح مُسلم) بِلَا ألف. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: من قَيده بِأَلف أَخطَأ وصحيح الرِّوَايَة
بِفَتْح الظَّاء. وَقَالَ ابْن السّكيت: ظفار قَرْيَة
بِالْيمن، وَعَن ابْن سعد: جبل، وَفِي (الصِّحَاح) :
مَبْنِيّ على الْكسر كقطام. وَقَالَ الْبكْرِيّ: قَالَ
بَعضهم: سَبِيلهَا سَبِيل الْمُؤَنَّث لَا ينْصَرف.
وَقَالَ ابْن قرقول: ترفع وتنصب، وَقَالَ أَبُو عبيد:
وَقصر المملكة بظفار قصر ذِي ريدان، وَيُقَال: إِن الْجِنّ
بنتهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي ظفار، بِفَتْح الْمُعْجَمَة
وخفة الْفَاء وبالراء: مَدِينَة بِالْيمن، وَيُقَال: جزع
ظفاري وَفِي بَعْضهَا أظفار، بِزِيَادَة همزَة فِي أَولهَا
نَحْو الْأَظْفَار جمع الظفر، وَلَعَلَّه سمي بِهِ لِأَن
الظفر نوع من الْعطر، أَو لِأَنَّهُ مَا اطْمَأَن من
الأَرْض، أَو لِأَن الْأَظْفَار اسْم لعود يُمكن أَن
يَجْعَل كالخرز فيتحلى بِهِ. انْتهى. وَقَالَ ابْن التِّين
فِي بعض الرِّوَايَات: العقد الملتمس مِقْدَار ثمنه اثْنَي
عشرَة درهما. قَوْلهَا: (يرحلون لي) ، بِاللَّامِ. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: يرحلون بِي، بِالْبَاء وَاللَّام أَجود. قلت:
بِاللَّامِ فِي مُسلم، و: يرحلون، بِفَتْح الْيَاء
وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْحَاء المخففة وَهُوَ معنى
قَوْلهَا: فرحلوه، بتَخْفِيف الْحَاء أَيْضا من: رحلت
الْبَعِير، أَي: شددت عَلَيْهِ الرحل. ويروى: (من الرحيل)
. قَوْلهَا: (إِذْ ذَاك) ، أَي: حِينَئِذٍ (لم يثقلن) ،
أَي: من اللَّحْم. قَوْلهَا: (وَلم يغشهن اللَّحْم) أَي:
لم يركب عَلَيْهِنَّ اللَّحْم، يَعْنِي: لم يكن سمينات.
وَعند مُسلم: (وَكَانَ النِّسَاء إِذْ ذَاك خفافاً لم
يهبلن وَلم يغشهن اللَّحْم) . يُقَال: هبله اللَّحْم
وأهبله إِذا أثقله وَكثر لَحْمه وشحمه. قَوْلهَا:
(وَإِنَّمَا يأكلن الْعلقَة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون اللَّام وبالقاف، أَي: الْقَلِيل، وَيُقَال لَهَا
أَيْضا: الْبلْغَة، كَأَنَّهُ الَّذِي يمسك الرمق وَتعلق
النَّفس للإزدياد مِنْهُ، أَي: تشوقها إِلَيْهِ. وَقَالَ
صَاحب (الْعين) : الْعلقَة مَا فِيهِ بلغَة من الطَّعَام
إِلَى وَقت الْغَدَاة، وأصل الْعلقَة شجر يبْقى فِي
الشتَاء يعلق بِهِ الْإِبِل، أَي تجتزىء بِهِ حَتَّى يدْرك
الرّبيع، وَقيل: مَا يمسك بِهِ الْمَرْء نَفسه من الْأكل.
وَقيل: هُوَ مَا يَأْكُلهُ من الْغَدَاة. قَوْلهَا:
(فبعثوا الْجمل) أَي: أثاروه. قَوْلهَا: (مَا اسْتمرّ
الْجَيْش) ، أَي: ذهب وَمضى. قَالَه الدَّاودِيّ، وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى: {سحر مُسْتَمر} (الْقَمَر: 2) . أَي:
ذَاهِب، أَو مَعْنَاهُ: دَائِم أَو قوي شَدِيد، وَلَيْسَ
فِيهِ أحد. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَلَيْسَ بهَا دَاع
وَلَا مُجيب) . قَوْلهَا: (فأممت) ، أَي: قصدت، من أم.
وَمِنْه: {آمين الْبَيْت الْحَرَام} (الْمَائِدَة: 2) .
قَالَ ابْن التِّين: فعلى هَذَا يقْرَأ، أممت،
بِالتَّخْفِيفِ وَإِن شددت فِي بعض الْأُمَّهَات، وَذكره
فِي الْمَغَازِي، بِلَفْظ: (فَتَيَمَّمت منزلي) ،
وَالْمعْنَى وَاحِد. قَوْلهَا: (فَظَنَنْت) ، الظَّن هُنَا
بِمَعْنى الْعلم. قَوْلهَا: (فَبينا أَنا) ، أَصله: بَين،
فأشبعت فَتْحة النُّون فَصَارَت ألفا، وَهُوَ مُضَاف إِلَى
الْجُمْلَة الَّتِي بعده (وغلبتني) جَوَابه قَوْلهَا:
(وَكَانَ صَفْوَان بن الْمُعَطل السّلمِيّ) صَفْوَان،
إِمَّا من: الصَّفَا، أَو من: صفن، فَفِي الأول النُّون
زَائِدَة، و: الْمُعَطل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين
الْمُهْملَة وَتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة: ابْن وبيصة بن
المؤمل بن خزاعي بن محَارب بن مرّة بن هِلَال بن فالج بن
ذكْوَان ابْن ثَعْلَبَة بن بهنة بن سليم، ذكره الْكَلْبِيّ
وَغَيره، وَنسبه خَليفَة: رحيضة، مَوضِع، وبيصة، وَفِي
محَارب محاربي. قَوْلهَا: (السّلمِيّ) ، بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَفتح اللَّام، نِسْبَة إِلَى سليم
الْمَذْكُور فِي نسبه، وَهُوَ من شواذ النّسَب، لِأَن
الْقيَاس فِيهِ: السليمي. قَوْلهَا: (ثمَّ الذكواني) ،
بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى ذكْوَان
الْمَذْكُور فِي نسبه، وَكَانَ صَفْوَان على السَّاقَة
يلتقط مَا يسْقط من مَتَاع الْجَيْش ليَرُدهُ إِلَيْهِم،
وَقيل: إِنَّه كَانَ ثقيل النّوم لَا يَسْتَيْقِظ حَتَّى
يرتحل النَّاس، وَقد جَاءَ فِي (سنَن أبي دَاوُد) (شكت
امْرَأَته ذَلِك مِنْهُ لسيدنا رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنَّا أهل بَيت نوم عرف لنا
ذَلِك، لَا نكاد نستيقظ حَتَّى تطلع الشَّمْس) .
(13/229)
وَذكر القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ
أَنه كَانَ حصوراً لم يكْشف كنف أُنْثَى قطّ، وَفِي (سير)
: لقد سُئِلَ عَن صَفْوَان فوجدوه لَا يَأْتِي النِّسَاء،
وَأول مشاهده الْمُريْسِيع، وَذكر الْوَاقِدِيّ أَنه شهد
الخَنْدَق وَمَا بعْدهَا، وَكَانَ شجاعاً خيَّراً
شَاعِرًا، وَعَن ابْن إِسْحَاق: قتل فِي غَزْوَة أرمينية
شَهِيدا سنة تسع عشرَة، وَقيل: توفّي فِي خلَافَة
مُعَاوِيَة سنة ثَمَان وَخمسين واندقت رجله يَوْم قتل
فطاعن بهَا وَهِي منكسرة حَتَّى مَاتَ، وَلما ضرب حسان بن
ثَابت بِسَيْفِهِ لما هجاه وَلم يقتصه مِنْهُ سيدنَا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استوهب من حسان
جِنَايَته، فوهبه لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَعوضهُ مِنْهَا حَائِطا من نخيل، وَزعم ابْن إِسْحَاق
وَأَبُو نعيم: أَنه بيرحاء، وَسِيرِين أُخْت مَارِيَة،
قيل: فِيهِ نظر لِأَن بيرحاء إِنَّمَا وصل لحسان من جِهَة
أبي طَلْحَة، وَفِي (الِاكْتِفَاء) لأبي الرّبيع
سُلَيْمَان بن سَالم: رُوِيَ من وُجُوه أَن إِعْطَاء
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحسان سِيرِين
إِنَّمَا كَانَ لذبه عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَوْلهَا: (فَرَأى سَواد إِنْسَان) أَي: شخصه.
قَوْلهَا: (وَكَانَ يراني قبل الْحجاب) أَي: قبل حجاب
الْبيُوت، وَآيَة الْحجاب نزلت فِي زَيْنَب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. قَوْلهَا: (واستيقظت من نومي) أَي:
تنبهت من نومي. قَوْلهَا: (باسترجاعه) ، أَي: بقوله:
{إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} (الْبَقَرَة:
651) . وَفِي رِوَايَة مسمل: فَاسْتَيْقَظت باسترجاعه حِين
عرفني. فحمرت وَجْهي بجلبابي، وَالله مَا يكلمني كلمة
وَلَا سَمِعت مِنْهُ كلمة غير استرجاعه حَتَّى أَنَاخَ
رَاحِلَته فوطىء على يَدهَا فركبتها. قَوْلهَا: (حِين
أَنَاخَ رَاحِلَته) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين بِكَلِمَة: حِين، بِمَعْنى: الْوَقْت، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني والنسفي: حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَته.
قَوْلهَا: (فوطىء يَدهَا) ، أَي: فوطىء صَفْوَان يَد
الرَّاحِلَة ليسهل الرّكُوب عَلَيْهَا فَلَا يكون
احْتِيَاج إِلَى مساعدة. قَوْلهَا: (يَقُود بِي) ، جملَة
حَالية. قَوْلهَا: (حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْش بَعْدَمَا
نزلُوا معرسين) ، أَي: حَال كَونهم معرسين، من
التَّعْرِيس، وَهُوَ النُّزُول. قَالَه ابْن بطال،
وَالْمَشْهُور أَن التَّعْرِيس هُوَ النُّزُول فِي آخر
اللَّيْل، وَلم يجىء الْمَعْنى هَهُنَا إلاَّ على قَول أبي
زيد، فَإِنَّهُ قَالَه: التَّعْرِيس: النُّزُول أَي: وَقت
كَانَ، وَمن هَذَا أَخذ ابْن بطال حَيْثُ أطلق النُّزُول،
وَفِي رِوَايَة مُسلم: بَعْدَمَا نزلُوا موغرين فِي نحر
الظهيرة، وَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي
وَالتَّفْسِير، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الرِّوَايَة
الصَّحِيحَة بالغين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة من
الوغرة بِسُكُون الْغَيْن، وَهِي شدَّة الْحر، وَرَوَاهُ
مُسلم من رِوَايَة يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بِعَين
مُهْملَة وزاي، وَيُمكن أَن يُقَال فِيهِ: هُوَ من وعزت
إِلَيْهِ، أَي: تقدّمت، يُقَال: وعزت إِلَيْهِ وَعزا،
مخففاً، وَيُقَال: وعزت إِلَيْهِ توعيزاً بِالتَّشْدِيدِ،
قَالَ: وصحفه بَعضهم فَقَالَ: موعرين، يَعْنِي بِعَين
مُهْملَة وَرَاء. قَالَ: وَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: مغورين، بغين مُعْجمَة مُقَدّمَة،
والتغوير النُّزُول للقائلة. قَوْلهَا: (فِي نحر الظهيرة)
وَهُوَ وَقت القائلة وَشدَّة الْحر والنحر الأول والصدر
وأوائل الشَّهْر تسمى النحور. وَقَالَ الدَّاودِيّ:
الظهيرة نصف النَّهَار عِنْد أول الْفَيْء، قَالَ: وَقيل:
الظّهْر والظهير لما بعد نصف النَّهَار لِأَن الظّهْر آخر
الْإِنْسَان، وَسمي آخر الشَّهْر بذلك، وَلَا نسلم لَهُ،
لِأَن أول اشتداد الْحر قبل نصف النَّهَار، قَوْلهَا:
(وَهلك من هلك) أَي: هلك الَّذين اشتغلوا بالإفك، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: وَهلك من هلك فِي شأني. قَوْلهَا:
(وَكَانَ الَّذِي تولى الْإِفْك) أَي: تصدر وتصدى، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: وَكَانَ الَّذِي تولى كبره (عبد الله بن
أبيّ بن سلول) وَابْن سلول بِالرَّفْع صفة لعبد الله لَا
لأبي، وَلِهَذَا يكْتب بِالْألف، و: سلول، بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام الأولى غير منصرف عَلَم
لأم عبد الله. قَوْلهَا: (فاشتكيت) أَي: مَرضت. قَوْلهَا:
(بهَا) أَي: بِالْمَدِينَةِ. قَوْلهَا: (شهرا) ، أَي:
مُدَّة شهر. قَوْلهَا: (فيفيضون) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم:
وَالنَّاس يفيضون، بِضَم الْيَاء، من الْإِفَاضَة وَهِي
التكثير والتوسعة، يُقَال: أَفَاضَ الْقَوْم فِي الحَدِيث
إِذا انْدَفَعُوا فِيهِ يَخُوضُونَ، وَهُوَ من قَوْله:
{لمسكم فِيمَا أَفَضْتُم فِيهِ عَذَاب عَظِيم} (النُّور:
41) . وَقَالَ ابْن عَرَفَة: حَدِيث مفاض ومستفاض ومستفيض
فِي النَّاس، أَي: جارٍ فيهم وَفِي كَلَامهم. قَوْلهَا:
(ويريبني) بِفَتْح الْيَاء وَضمّهَا، فَالْأول من،
رَابَنِي، وَالثَّانِي، من: أرابني، يُقَال: رَابَنِي
الْأَمر يريبني: إِذا توهمته وَشَكَكْت فِيهِ فَإِذا
استيقنته قلت: رَابَنِي مِنْهُ كَذَا يريبني، وَعَن
الْفراء: هما بِمَعْنى وَاحِد فِي الشَّك. وَقَالَ صَاحب
(الْمُنْتَهى) : الِاسْم الرِّيبَة بِالْكَسْرِ، وأرابني
ورابني إِذا تخوفت عاقبته، وَقيل: رَابَنِي إِذا علمت بِهِ
الرِّيبَة، وأرابني إِذا ظَنَنْت بِهِ، وَقيل: رَابَنِي
إِذا رَأَيْت مِنْهُ مَا يريبك وتكرهه، وَيَقُول هُذَيْل:
أرابني وأراب إِذا أَتَى بريبة، وراب: صَار ذَا رِيبَة،
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي (الواعي) رَابَنِي أفْصح.
قَوْلهَا: (اللطف) ، بِضَم اللَّام وَسُكُون الطَّاء.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيُقَال بِفَتْحِهَا لُغَتَانِ،
وَهُوَ الْبر والرفق،
(13/230)
وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِنِّي لَا أعرف من
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللطف الَّذِي أرِي
مِنْهُ. قَوْلهَا: (حِين أمرض) ، على صِيغَة الْمَجْهُول
من التمريض، وَهُوَ الْقيام على الْمَرِيض فِي مَرضه.
قَوْلهَا: (تيكم) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى
الْمُؤَنَّث نَحْو: ذاكم إِلَى الْمُذكر. قَوْلهَا:
(حَتَّى نقهت) بِفَتْح الْقَاف، ذكره ثَعْلَب، وبالكسر
ذكره الْجَوْهَرِي، هُوَ من: نقه فَهُوَ ناقه، وَهُوَ
الَّذِي برىء من الْمَرَض، وَهُوَ قريب عهد بِهِ لم يتراجع
إِلَيْهِ كَمَال صِحَّته. وَقَالَ النَّوَوِيّ: يُقَال:
نقه ينقه نقوهاً فَهُوَ ناقه، ككلح يكلح كلوحاً فَهُوَ
كالح، ونقه ينقه كفرح يفرح فَرحا، وَجمع الناقه: نقه،
بِضَم النُّون وَتَشْديد الْقَاف، وأنقهه الله. قَوْلهَا:
(قبل المناصع) ، بِكَسْر الْقَاف أَي: جِهَة المناصع
بِفَتْح الْمِيم، وَهِي مَوَاضِع خَارج الْمَدِينَة
كَانُوا يتبرزون فِيهَا، الْوَاحِد منصع، وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: أرَاهُ موضعا بِعَيْنِه خَارج الْمَدِينَة،
وَهُوَ فِي الحَدِيث: (صَعِيد أفيح خَارج الْمَدِينَة)
وَقَالَ ابْن السّكيت: المناصع فِي اللُّغَة الْمجَالِس.
قَوْلهَا: (متبرزنا) ، بِفَتْح الرَّاء الْمُشَدّدَة
وبالزاي، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يتبرزون فِيهِ أَي: يقضون
فِيهِ حَاجتهم، وَالْبرَاز اسْم ذَلِك الْموضع أَيْضا.
قَوْلهَا: (الكنف) ، بِضَم الْكَاف وَالنُّون، جمع: كنيف،
قَالَ أهل اللُّغَة: الكنيف السَّاتِر مُطلقًا، وَسمي بِهِ
مَوضِع الْغَائِط لأَنهم يستترون بِهِ. قَوْلهَا: (وأمرنا
أَمر الْعَرَب الأول) ، يَعْنِي فِي التبرز خَارج
الْمَدِينَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ضبط الأول
بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: ضم الْهمزَة وَتَخْفِيف الْوَاو،
وَالْآخر: بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْوَاو،
وَكِلَاهُمَا صَحِيح. قَوْلهَا: (أَو فِي التَّنَزُّه) ،
شكّ من الرَّاوِي فِي طلب النزاهة بِالْخرُوجِ إِلَى
الصَّحرَاء وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وأمرنا أَمر الْعَرَب
الأول فِي التَّنَزُّه) ، وَكُنَّا نتأذى بالكنف أَن
نتخذها عِنْد بُيُوتنَا. قَوْلهَا: (وَأم مسطح بنت أبي
رهم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَانْطَلَقت أَنا وَأم
مسطح) ، وَهِي ابْنة أبي رهم بن الْمطلب بن عبد منَاف،
وَأما إبنة صَخْر بن عَامر خَالَة أبي بكر الصّديق،
وَابْنهَا مسطح بن أَثَاثَة بن عباد بن الْمطلب. انْتهى.
و: مسطح، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة
وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة، وَاسم أمه: سلمى بنت أبي رهم،
وَذكر أَبُو نعيم فِيمَا نقل من خطه: أَن اسْمهَا رائطة
بنت صَخْر أُخْت أم الصّديق، وَأَبُو رهم، بِضَم الرَّاء
وَسُكُون الْهَاء، وَهِي زَوْجَة أَثَاثَة، بِضَم الْهمزَة
وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة الأولى، وَكَانَت من
أَشد النَّاس على ابْنهَا مسطح، وَقَالَ النَّوَوِيّ:
ومسطح لقب، واسْمه: عَامر، وَقيل: عَوْف، وكنيته: أَبُو
عباد، وَقيل: أَبُو عبد الله، توفّي سنة سبع وَثَلَاثِينَ،
وَقيل: أَربع وَثَلَاثِينَ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: شهد
مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صفّين وَمَات فِي
سنة سبع وَثَلَاثِينَ عَن سِتّ وَخمسين سنة. قلت: مسطح،
إسم عود من أَعْوَاد الخباء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
أَثَاثَة، بِضَم الْهمزَة: إسم رجل، وَقَالَ أَبُو زيد:
الأثاث: المَال أجمع الْإِبِل وَالْغنم وَالْعَبِيد
وَالْمَتَاع، الْوَاحِدَة: أَثَاثَة، يَعْنِي بِفَتْح
الْهمزَة. وَقَالَ الْفراء: الأثاث: مَتَاع الْبَيْت،
وَلَا وَاحِد لَهُ. قَوْلهَا: (نمشي) ، حَال أَي: ماشين.
قَوْلهَا: (فَعَثَرَتْ فِي مرْطهَا) ، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: فَعَثَرَتْ أم مسطح فِي مرْطهَا، عثرت، بِفَتْح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة أَي: زلقت، و: المرط، بِكَسْر
الْمِيم: كسَاء من صوف، قَالَه الدَّاودِيّ، وَقَالَ ابْن
فَارس: ملحفة يؤتزر بهَا، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: المروط
الأكسية، وَضَبطه ابْن التِّين: المرط، بِفَتْح الْمِيم.
قَوْلهَا: (فَقَالَت: تعس مسطح) ، بِكَسْر الْعين
وَفتحهَا، لُغَتَانِ مشهورتان، وَمَعْنَاهُ: عثر، وَقيل:
هلك، وَقيل: لزمَه الشَّرّ، وَقيل: بعد، وَقيل: سقط لوجهه،
وَقيل: التعس أَن لَا ينتعش من عثرته، وَقيل: تعس تعساً
وأتعسه الله، وَقَالَ ابْن التبين: المحدثون يقرؤونه
بِكَسْر الْعين، وَهُوَ عِنْد أهل اللُّغَة بِفَتْحِهَا،
وَقيل: مَعْنَاهُ انكبّ أَي: أكبه الله. قَوْلهَا:
(فَقَالَت: يَا هنتاه) ، وَفِي رِوَايَة: أَي: هنتاه،
وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي:
وهنتاه، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون النُّون وَفتحهَا
والسكون أشهر، وبضم الْهَاء الْأَخِيرَة، وتسكن ونونها
مُخَفّفَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: عَن بَعضهم تَشْدِيد
النُّون، وَأنْكرهُ الْأَزْهَرِي، قَالُوا: وَهَذِه
اللَّفْظَة تخْتَص بالنداء، وَمَعْنَاهَا: يَا هَذِه،
وَقيل: يَا امْرَأَة، وَقيل: يَا بلها، كَأَنَّهَا نسبت
إِلَى قلَّة الْمعرفَة بمكائد النَّاس وشرورهم، وَقد تقدم
فِي الْحَج فِي: بَاب من قدم ضعفة أَهله بِاللَّيْلِ،
وَيُقَال فِي التَّثْنِيَة: هنتان، وَفِي الْجمع: هَنَات
وهنوات، وَفِي الْمُذكر: هن وهنان وهنون، وَلَك أَن تلحقها
الْهَاء لبَيَان الْحَرَكَة فَتَقول: ياهنه، وَأَن تشبع
الْحَرَكَة فَتَصِير ألفا فَتَقول: يَا هَناه، وَلَك ضم
الْهَاء فَتَقول: يَا هَناه، أقبل. قَوْلهَا: (ألم تسمعي؟)
، وَفِي الْمَغَازِي. . وَلم تسمعي؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم:
أَو لم تسمعي؟ قَوْلهَا: (إئذن لي إِلَى أَبَوي) أَي: إئذن
لي أَن آتِي أَبَوي، وَفِي رِوَايَة مُسلم، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: أتأذن لي أَن آتِي أَبَوي؟ قَوْلهَا: (من
قبلهمَا) ، بِكَسْر الْقَاف أَي: من جهتهما. قَوْلهَا:
(لقلما كَانَت امْرَأَة قطّ وضئية) ، اللَّام فِي: لقلما
للتَّأْكِيد. و: قلَّ، فعل مَاض دخلت عَلَيْهِ كلمة: مَا،
لتأكيد معنى الْقلَّة، وَتارَة تسْتَعْمل هَذِه الْكَلِمَة
فِي نفي
(13/231)
أصل الْفِعْل، وَتارَة فِي الْقلَّة جدا.
وضيئة، على وزن فعيلة. . أَي: جميلَة حَسَنَة من
الْوَضَاءَة وَهُوَ الْحسن. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح
مُسلم) : وَفِي نُسْخَة ابْن ماهان: حظية، من الحظوة،
وَهِي الوجاهة، يُقَال: حظيت الْمَرْأَة عِنْد زَوجهَا
تحظى حُظوة وحِظوة، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر: أَي: سعدت بِهِ
وَدنت من قلبه وأحبها. قَوْلهَا: (وَلها ضرائر) ،
بِالْألف، وَهُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ جمع ضرَّة، وزوجات
الرجل ضرائر، لِأَن كل وَاحِدَة تتضرر بِالْأُخْرَى
بالغيرة وَالْقسم، وَفِي بعض النّسخ: ضرار، وَأَصله من:
الضّر، بِكَسْر الضَّاد وَضمّهَا. قَوْلهَا: (إِلَّا أكثرن
عَلَيْهَا) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، أَي: أكثرن عَلَيْهَا
القَوْل فِي عيبها ونقصها. قَوْلهَا: (لَا يرقأ لي دمع) ،
مَهْمُوز، أَي: لَا يَنْقَطِع من رقأ الدمع إِذا انْقَطع.
قَوْلهَا: (وَلَا أكتحل بنوم) ، أَي: لَا أَنَام، وَهُوَ
اسْتِعَارَة. قَوْلهَا: (حِين استلبث الْوَحْي) ، أَي:
حِين أَبْطَأَ. ولبث وَلم ينزل. قَوْلهَا: (يستشيرهما) ،
جملَة حَالية مقدرَة من الاستشارة. قَوْلهَا: (أهلك) ،
رُوِيَ بِالنّصب أَي: إلزم أهلك، وَرُوِيَ بِالرَّفْع أَي:
هِيَ أهلك لَا تسمع فِيهَا شَيْئا. قَوْلهَا: (وَأما عَليّ
بن أبي طَالب) إِلَى آخِره، إِنَّمَا قَالَ عَليّ ذَلِك
مصلحَة ونصيحة للرسول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
اعْتِقَاده لِأَنَّهُ رأى انزعاج رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِهَذَا الْأَمر وقلقه، فَأَرَادَ رَاحَة
خاطره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا لعداوة لعَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْلهَا: (يريبك) ، من راب،
وَقد ذكر مرّة يَعْنِي: هَل رَأَيْت شَيْئا فِيهَا مَا
يريبك؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم: هَل رَأَيْت من شَيْء يريبك
من عَائِشَة؟ قَوْلهَا: (إِن رَأَيْت مِنْهَا) أَي: مَا
رَأَيْت مِنْهَا. قَوْلهَا: (أغمصه عَلَيْهَا) ، بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم
وَضم الصَّاد الْمُهْملَة، أَي: أعيبها بِهِ وأطعن
عَلَيْهَا. قَوْلهَا: (فتأتي الدَّاجِن) ، وَهِي الشاه
الَّتِي تألف الْبَيْت وَلَا تخرج إِلَى المرعى، وَقَالَ
ابْن التِّين: هِيَ الشَّاة الَّتِي تحبس فِي الْبَيْت
لدرها لَا تخرج إِلَى المرعى، وَقيل: هُوَ دجَاجَة أَو
حمام أَو وَحش أَو طير يألف الْبَيْت، وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: الدَّاجِن الشَّاة الْمُعْتَادَة للْقِيَام
فِي الْمنزل إِذا سمنت للذبح، وَاللَّبن وَلم تسرح فِي
السَّرْح وكل مُعْتَاد موضعا هُوَ بِهِ يُقيم فَهُوَ
كَذَلِك دَاجِن، يُقَال: دجن فلَان بمَكَان كَذَا وأدجن
بِهِ إِذا أَقَامَ بِهِ. قَوْلهَا: (فَقَامَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يَوْمه) ، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: (قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهُوَ على الْمِنْبَر: يَا معشر الْمُسلمين من يعذرني) .
قَوْلهَا: (فاستعذر من عبد الله بن أبي) ، أَي: طلب من
يعذرهُ مِنْهُ أَي: من ينصفه مِنْهُ. قَوْلهَا: (من يعذرني
من رجل) ، وَقَالَ الْخطابِيّ: (من يعذرني) ، يؤول على
وَجْهَيْن أَي: من يقوم بِعُذْرِهِ فِيمَا يَأْتِي إِلَيّ
من الْمَكْرُوه مِنْهُ؟ وَالثَّانِي: من يقوم بعذري إِن
عاقبته على سوء فعله؟ وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ: من
يقوم بعذري إِن كافأته على قبح فعاله، وَلَا يلومني على
ذَلِك؟ وَقيل: مَعْنَاهُ: من ينصرني، والعذير النَّاصِر،
وَقيل: مَعْنَاهُ من ينْتَقم لي مِنْهُ، وَيشْهد لهَذَا
جَوَاب سعد بن معَاذ: أَنا أعذرك مِنْهُ. قَوْلهَا: (رجلا)
، هُوَ صَفْوَان. قَوْلهَا: (فَقَامَ سعد بن معَاذ
فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَنا أعذرك مِنْهُ) إِنَّمَا
قَالَ ذَلِك لِأَن الْأَوْس من قومه وهم بَنو النجار، وَمن
آذَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب قَتله،
ثمَّ إِن الْمَوْجُود فِي الْأُصُول: سعد بن معَاذ، وَقع
فِي مَوضِع آخر: سعد بن عبَادَة، وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا
عندنَا وهمٌ لِأَن سعد بن معَاذ مَاتَ إِثْر غَزْوَة بني
قُرَيْظَة بِلَا شكّ وَبني قُرَيْظَة كَانَ فِي إخر ذِي
الْقعدَة من سنة أَربع فَبين الغزوتين نَحْو من سنتَيْن
وَالوهم لم يعر مِنْهُ أخحد من الْبشر وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ ذكر سعد بن معَاذ وهم اتّفق فِيهِ الروَاة
وَقَالَ بن عمر هم وهم وَخطأ، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قَالَ بعض شُيُوخنَا: ذكر سعد بن
معَاذ فِي هَذَا وهمٌ، وَالْأَشْبَه أَنه غَيره، وَلِهَذَا
لم يذكرهُ ابْن إِسْحَاق فِي (السّير) وَإِنَّمَا قَالَ:
إِن الْمُتَكَلّم أَولا وآخراً أسيد بن حضير.
وَقَالَ القَاضِي: هَذَا مُشكل، لِأَن هَذِه الْقِصَّة
كَانَت فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع وَهِي غَزْوَة بني
المصطلق سنة سِتّ، وَسعد بن معَاذ مَاتَ فِي إِثْر غزَاة
الخَنْدَق من الرَّمية الَّتِي أَصَابَته، وَذَلِكَ فِي
سنة أَربع، وَلِهَذَا قيل وهم الْأَشْبَه أَنه غَيره
وَقَالَ القَاضِي فِي الْجَواب أَن مُوسَى بن عقبَة ذكر
أَن اليسيع سنة أرع وَهِي سنة الخَنْدَق، فَيحْتَمل أَن
المريسي وَحَدِيث الْإِفْك كَانَا فِي سنة أَربع قبل
الخَنْدَق. قلت: هَذَا يبين صِحَة مَا ذكره البُخَارِيّ من
أَنه سعد بن معَاذ، وَهُوَ الَّذِي فِي (الصَّحِيحَيْنِ) .
أما سعد بن معَاذ، بِضَم الْمِيم فَهُوَ: ابْن النُّعْمَان
بن امرىء الْقَيْس ابْن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن
الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عَمْرو بن النبيت، واسْمه:
عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ الأوسي
الأشْهَلِي، أسلم على يَد مُصعب بن عُمَيْر لما أرْسلهُ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة يعلم
الْمُسلمين، شهد بَدْرًا لم يَخْتَلِفُوا فِيهِ وَشهد أحدا
وَالْخَنْدَق، ورماه يَوْمئِذٍ حبَان بن عَرَفَة فِي
أكحله، وَمر عَن قريب تَارِيخ وَفَاته. وَأما سعد بن
عبَادَة، بِضَم الْعين، فَهُوَ ابْن دليم بن حَارِثَة بن
أبي حزيمة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الزَّاي
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم
(13/232)
بعْدهَا هَاء: ابْن ثَعْلَبَة بن طريف بن
الْخَزْرَج بن سَاعِدَة بن كَعْب بن الْخَزْرَج الْأَكْبَر
أخي الْأَوْس بن حَارِثَة بن ثَعْلَبَة العنقاء ابْن
عَمْرو المزيقياء بن عَامر مَاء السَّمَاء، وَأم الْأَوْس
والخزرج: قيلة بنت كَاهِل بن عذرة بن سعد بن قضاعة، وَقيل:
قيلة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة، وَكَانَ نقيب بني
سَاعِدَة، شهد بَدْرًا عِنْد بَعضهم وَلم يُبَايع أَبَا
بكر وَلَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَسَار
إِلَى الشَّام، فَأَقَامَ بحوران إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس
عشرَة، وَلم يَخْتَلِفُوا أَنه وجد مَيتا على مغتسله.
وَأما أسيد، بِضَم الْهمزَة فَهُوَ: ابْن حضير، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن
سماك بن عتِيك بن امريء الْقَيْس بن زيد بن عبد الْأَشْهَل
بن جشم ابْن الْحَارِث بن عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس
الْأنْصَارِيّ الأوسي الأشْهَلِي أَبُو يحيى، أسلم على يَد
مُصعب بن عُمَيْر بِالْمَدِينَةِ بعد الْعقبَة الأولى.
وَقيل: الثَّانِيَة، وَاخْتلف فِي شُهُوده بَدْرًا فنفاه
ابْن إِسْحَاق الْكَلْبِيّ، وأثبته غَيرهمَا، وَشهد أحدا
وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَشهد مَعَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فتح الْبَيْت الْمُقَدّس، مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين، وَصلى عَلَيْهِ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْلهَا: (وَكَانَ قبل ذَلِك رجلا صَالحا) ، وَفِي مُسلم
وَكَانَ رجلا صَالحا، يَعْنِي: لم يكن قبل ذَلِك يحمي
لمنافق. قَوْلهَا: (وَلَكِن احتملته الحمية) ، بحاء
مُهْملَة وَمِيم أَي: أغضبته، وَعند مُسلم: أجتهلته، بجيم
وهاء أَي: أغضبته وَحَمَلته على الْجَهْل، فالروايتان
صحيحتان. قَوْلهَا: (كذبت لعمر الله وَالله) ، أَي: إِن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَجْعَل حكمه
إِلَيْك، كَذَا قَالَ الدَّاودِيّ، وَقَالَ ابْن التِّين:
مَعْنَاهُ أَنه قَالَ لَهُ: كذبت إِنَّك لَا تقدر على
قَتله، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. قَوْلهَا: (فَقَامَ أسيد
بن الْحضير) ، قد مرت تَرْجَمته الْآن، فَقَالَ: كذبت لعمر
الله، وَالله لنقتله، أَي: إِن أمرنَا رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَتَلْنَاهُ، وَقوم أسيد بَنو عبد
الْأَشْهَل. قَوْلهَا: (فَإنَّك مُنَافِق) ، أَي: تفعل فعل
الْمُنَافِقين، وَلم يرد بِهِ النِّفَاق الْحَقِيقِيّ.
قَوْلهَا: (فثار الْحَيَّانِ الْأَوْس والخزرج) ، أَي:
تناهضوا للنزاع والعصبية، وَأَصله من ثار الشَّيْء يثور
إِذا ارْتَفع وانتشر. قَوْلهَا: (حَتَّى هموا) ، أَي:
حَتَّى قصدُوا الْمُحَاربَة وتناهضوا للنزاع. قَوْلهَا:
(فخفضهم) ، يَعْنِي تلطف بهم حَتَّى سكتوا. قَوْلهَا:
(وَقد بَكَيْت لَيْلَتَيْنِ وَيَوْما) ، هَذَا هَكَذَا فِي
رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَيْلَتي
وَيَوْما، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَأبي الْوَقْت:
لَيْلَتي ويومي. قَوْلهَا: (فالق) ، من فلق؛ إِذا شقّ.
قَوْلهَا: (وَأَنا أبْكِي) ، جملَة حَالية. قَوْلهَا:
(إِذْ اسْتَأْذَنت) كلمة: إِذا، للمفاجأة وَكَذَلِكَ؛
إِذْ، فِي قَوْلهَا: (إِذْ دخل) . قَوْلهَا: (قيل فيَّ) ،
بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْلهَا: (وَقد مكث
شهراف لَا يُوحى إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم:
وَلَقَد لَبِثت شهرا لَا يُوحى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ ليعلم
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُتَكَلّم من
غَيره. قَوْلهَا: (فِي شأني) أَي: فِي أَمْرِي وحالي.
قَوْلهَا: (أَلممْت بِشَيْء) وَفِي رِوَايَة: بذنب،
وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَهُوَ من الْإِلْمَام،
وَهُوَ النُّزُول النَّادِر غير المتكرر، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَي: فعلت ذَنبا، مَعَ أَنه لَيْسَ من
عادتك. قَوْلهَا: (فَإِن العَبْد إِذا اعْترف بِذَنبِهِ
تَابَ الله عَلَيْهِ) قَالَ الدَّاودِيّ: دَعَاهَا إِلَى
الِاعْتِرَاف وَلم يأمرها بالستر كَغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ
لَا يَنْبَغِي عِنْد الشَّارِع امْرَأَة أَصَابَت ذَنبا.
قَوْلهَا: (قلص دمعي) ، بِفَتْح الْقَاف وَاللَّام أَي:
ارْتَفع وانقبض، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَعْنِي: أَن
الْحزن والوجدة قد انْتَهَت نهايتهما وَبَلغت غايتهما
وَمهما انْتهى الْأَمر إِلَى ذَلِك قلص الدمع لفرط حرارة
الْمُصِيبَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: قلص دمعي أَي: ذهب.
وَقيل: نقص، وَقَالَ ابْن السّكيت: قلص المَاء فِي
الْبَيْت إِذا ارْتَفع، وَمَاء قليص. قَوْلهَا: (مَا أحس)
، بِضَم الْهمزَة من الإحساس، قَالَ تَعَالَى: {هَل تحس
مِنْهُم من أحد} (مَرْيَم: 89) . قَوْلهَا: (قَالَ: وَالله
مَا أَدْرِي مَا أَقُول) ، مَعْنَاهُ: إِن الْأَمر الَّذِي
سَأَلَهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقف
مِنْهُ على أَمر زَائِد على مَا عِنْد رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قبل نزُول الْوَحْي من حسن الظَّن.
قَوْلهَا: (إلاَّ أَبَا يُوسُف) أَي: إلاَّ مثل يَعْقُوب،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ: الصَّبْر،
وَكَأَنَّهَا من شدَّة حزنها لم تتذكر اسْم يَعْقُوب،
وَإِنَّمَا قَالَت: أَبَا يُوسُف، لِأَنَّهُ لما جَاءَ
إخْوَة يُوسُف أباهم يَعْقُوب وَمَعَهُمْ قَمِيص يُوسُف
بِدَم كذب. قَالَ يَعْقُوب: {بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا
فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} (يُوسُف:
81) . قَوْلهَا: (إِذْ قَالَ) ، أَي: حِين قَالَ.
قَوْلهَا: (فوَاللَّه مَا رام مَجْلِسه) ، أَي: مَا برح
الْمجْلس وَلَا قَامَ عَنهُ، يُقَال: رامه يريمه ريماً،
أَي: برحه ولازمه. قَوْلهَا: (من البرحاء) بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة على وزن: فعلاء، من البرح، وَهِي: شدَّة
الْحمى وَغَيرهَا من الشدائد، وَقيل: البرح: شدَّة الْحر،
وَقَالَ الْخطابِيّ: شدَّة الكرب، مَأْخُوذ من قَوْلك:
بَرحت بِالرجلِ إِذا بلغت بِهِ غَايَة الْأَذَى
وَالْمَشَقَّة. قَوْلهَا: (ليتحدر) ، اللَّام فِيهِ
للتَّأْكِيد، أَي: ينزل ويقطر، من: حدر يحدر حدراً
وحدوراً، والحدور ضد الصعُود، وَيَتَعَدَّى وَلَا
يتَعَدَّى. قَوْلهَا: (مثل الجمان) ، بِضَم الْجِيم
وَتَخْفِيف الْمِيم، وَهُوَ الدّرّ، كَذَا ذكره ابْن
التِّين وَغَيره، وَقَالَ ابْن سَيّده: الجمان هنوات على
أشكال اللُّؤْلُؤ من فضَّة، فَارسي مُعرب، واحدته جمانة،
وَرُبمَا سميت
(13/233)
الدرة جمانة. وَقيل: الجمان: الْحِرْز يبيض
بِمَاء الْفضة، وَفِي (المغيث) : هُوَ اللُّؤْلُؤ
الصَّغِير، وَقَالَ الجواليقي، وَقد جعل لبيد الدرة جمانة
فَقَالَ:
(كجمانة البحري سلَّ نظامها)
قَوْلهَا: (فَلَمَّا سري) ، وَهُوَ مشدد مَبْنِيّ لما لم
يسم فَاعله وَمَعْنَاهُ: لما كشف وأزيل عَنهُ. قَالَ ابْن
دحْيَة: وَنزل عذرها بعد سبع وَثَلَاثِينَ لَيْلَة.
قَوْلهَا: (وَالله لَا أقوم إِلَيْهِ) ، قَالَت ذَلِك
إدلالاً عَلَيْهِم وعتاباً لكَوْنهم شكوا فِي حَالهَا مَعَ
علمهمْ بِحسن طرائفها وَجَمِيل أحوالها وتنزهها عَن هَذَا
الْبَاطِل الَّذِي افتراه الظلمَة، لَا حجَّة لَهُم وَلَا
شُبْهَة فِيهِ. قَوْلهَا: (لِقَرَابَتِهِ) ، وَذَلِكَ أَن
أم مسطح، سلمى هِيَ بنت خَالَة أبي بكر الصّديق. قَوْلهَا:
{وَلَا يَأْتَلِ} (النُّور: 22) . أَي: وَلَا يحلف {أولُوا
الْفضل مِنْكُم} (النُّور: 22) . والآلية: الْيَمين
وَالْفضل هُنَا المَال {وَالسعَة} (النُّور: 22) . فِي
الْعَيْش والرزق. فَإِن قلت: قَوْله: {أولُوا} (النُّور:
22) . جمع، وَالْمرَاد هُنَا الصّديق؟ قلت: قَالَ
الضَّحَّاك: أَبُو بكر وَغَيره من الْمُسلمين. قَوْلهَا:
(إِلَى قَوْله: {غَفُور رَحِيم} (النُّور: 22) .) وَفِي
رِوَايَة مُسلم: إِلَى قَوْله: {ألاَ تحبون أَن يغْفر الله
لكم} (النُّور: 22) . قَالَ ابْن حبَان بن مُوسَى: قَالَ
عبد الله بن الْمُبَارك: هَذِه أَرْجَى آيَة فِي كتاب
الله، فَقَالَ أَبُو بكر: بلَى وَالله إِنِّي لأحب أَن
يغْفر الله لي، فَرجع إِلَى مسطح النَّفَقَة الَّتِي كَانَ
ينْفق عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَنْزعهَا مِنْهُ أبدا.
قَوْلهَا: (الَّذِي كَانَ يجدى عَلَيْهِ) ، أَي: يعْطى، من
الجداء، وَهُوَ الْعَطِيَّة. وَكَذَلِكَ: الجدوي.
قَوْلهَا: (أحمي) ، أَي: أصون (سَمْعِي) من أَن أَقُول:
سَمِعت وَلم أسمع، (وبصري) من أَن أَقُول: أَبْصرت وَلم
أبْصر، أَي: لَا أكذب حماية لَهما. قَوْلهَا: (تساميني)
أَي: تضاهيني بكمالها ومكانها عِنْد رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي مفاعلة من السمو، وَهُوَ:
الِارْتفَاع.
قَالَ: وحدَّثنا فُلَيحٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ
عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ وعَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ
مِثْلَهُ
أَي: قَالَ أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد: وَحدثنَا
فليح بن سُلَيْمَان عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه
عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة وَعبد الله بن الزبير
مثله، أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ فليح
عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة.
قَالَ: وحدَّثنا فلَيْحٌ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبدِ
الرَّحْمانِ ويَحْيَى بنِ سَعيدٍ عنِ القاسِمِ بنِ
مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ
أَي: قَالَ أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان: وَحدثنَا فليح ...
إِلَى آخِره، وَالْحَاصِل أَن فليح بن سُلَيْمَان روى
الحَدِيث الْمَذْكُور من أَرْبَعَة مَشَايِخ. الأول: ابْن
شهَاب الزُّهْرِيّ الثَّانِي: هِشَام بن عُرْوَة.
وَالثَّالِث: ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، شيخ مَالك.
وَالرَّابِع: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور: فِيهِ:
جَوَاز رِوَايَة الحَدِيث عَن جمَاعَة، عَن كل وَاحِد
قِطْعَة مُبْهمَة مِنْهُ، وَإِن كَانَ فعل الزُّهْرِيّ
وَحده فقد أجمع الْمُسلمُونَ على قبُوله مِنْهُ والاحتجاج
بِهِ. وَفِيه: صِحَة الْقرعَة بَين النِّسَاء، وَبِه
اسْتدلَّ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وجماهير الْعلمَاء
فِي الْعَمَل بِالْقُرْعَةِ: فِي الْقسم بَين الزَّوْجَات،
وَفِي الْعتْق والوصايا وَالْقِسْمَة وَنَحْو ذَلِك،
وَقَالَ أَبُو عبيد: عمل بهَا ثَلَاثَة من الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِم السَّلَام، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اسْتِعْمَالهَا كالإجماع وَلَا
معنى لقَوْل من يردهَا، وَالْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة،
إِبْطَالهَا، وَحكي عَنهُ إجازتها. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر
وَغَيره: الْقيَاس تَركهَا، لَكِن عَملنَا بهَا بالآثار.
انْتهى. قلت: لَيْسَ الْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة إبِْطَال
الْقرعَة، وَأَبُو حنيفَة لم يقل كَذَلِك، وَإِنَّمَا
قَالَ: الْقيَاس يأباها، لِأَنَّهُ تَعْلِيق لَا
اسْتِحْقَاق بِخُرُوج الْقرعَة، وَذَلِكَ قمار، وَلَكِن
تركنَا الْقيَاس للآثار وللتعامل الظَّاهِر من لدن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا من
غير نَكِير مُنكر، وَإِنَّمَا قَالَ هَهُنَا: يفعل تطييباً
لقلوبهن، والْحَدِيث مَحْمُول عَلَيْهِ، وَالدَّلِيل على
ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن التَّسْوِيَة
وَاجِبَة عَلَيْهِ فِي الْحَضَر، وَإِنَّمَا كَانَ
يَفْعَله تفضلاً، وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَعند أبي
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ إِذا أَرَادَ الرجل سفرا أَقرع بَين
نِسَائِهِ، لَا يجوز أَخذ بَعضهنَّ بِغَيْر ذَلِك،
وَالَّذِي فِي الْقَدُورِيّ: عَن مَذْهَب أبي حنيفَة: لَا
حقَّ لَهُنَّ فِي حَالَة السّفر يُسَافر بِمن شَاءَ
مِنْهُنَّ، وَقَالَ الأقطع فِي (شَرحه) : لِأَن الزَّوْج
لَا يلْزمه اسْتِصْحَاب وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَلَا يلْزمه
الْقِسْمَة فِي حَالَة السّفر، وَالْأولَى وَالْمُسْتَحب
أَن يقرع لتطييب قلوبهن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَعَن
مَالك: يُسَافر بِمن شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْر قرعَة، لِأَن
الْقِسْمَة سَقَطت للضَّرُورَة. وَقَالَ ابْن التِّين:
قَالَ مَالك: الشَّارِع يفعل ذَلِك تَطَوّعا مِنْهُ
لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ أَن يعدل بَينهُنَّ. وَفِيه:
عدم وجوب قَضَاء مُدَّة السّفر للنسوة المقيمات، وَهَذَا
مجمع عَلَيْهِ إِذا كَانَ السّفر طَويلا. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَحكم السّفر الْقصير حكم الطَّوِيل على
الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَخَالف فِيهِ
(13/234)
بعض أَصْحَابنَا. وَفِيه: جَوَاز سفر الرجل
بِزَوْجَتِهِ. وَفِيه: جَوَاز الْغَزْو بِهن. وَفِيه:
جَوَاز ركُوب النِّسَاء فِي الهوادج. وَفِيه: جَوَاز خدمَة
الرِّجَال لَهُنَّ فِي ذَلِك فِي الْأَسْفَار. وَفِيه: أَن
إرتحال الْعَسْكَر يتَوَقَّف على أَمر الْأَمِير، وَفِيه:
جَوَاز خُرُوج الْمَرْأَة لحَاجَة الْإِنْسَان بِغَيْر
إِذن الزَّوْج، وَهَذَا من الْأُمُور المستثناة. وَفِيه:
جَوَاز لبس النِّسَاء القلائد فِي السّفر كالحضر. وَفِيه:
أَن من يركب الْمَرْأَة على الْبَعِير وَغَيره لَا يكلمها
إِذا لم يكن محرما إِلَّا لحَاجَة، لأَنهم حملُوا وَلم
يكلموا من يظنونها فِيهِ. وَفِيه: فَضِيلَة الاقتصاد فِي
الْأكل للنِّسَاء وغيرهن، وَلَا يكثرن مِنْهُ بِحَيْثُ
يهبلهن اللَّحْم. وَفِيه: جَوَاز تَأَخّر بعض الْجَيْش
سَاعَة وَنَحْوهَا لحَاجَة تعرض لَهُم. وَفِيه: إغاثة
الملهوف وَعون الْمُنْقَطع، وإنقاذ الضائع وإكرام ذَوي
الأقدار، كَمَا فعل صَفْوَان بِهَذَا كُله. وَفِيه: حسن
الْأَدَب مَعَ الأجنبيات، لَا سِيمَا فِي الْخلْوَة بِهن
عِنْد الضَّرُورَة فِي بَريَّة أَو غَيرهَا. وَفِيه: أَنه
إِذا أركب أَجْنَبِيَّة يَنْبَغِي أَن يمشي قدامها وَلَا
يمشي بجنبها وَلَا وَرَاءَهَا. وَفِيه: اسْتِحْبَاب
الاسترجاع عِنْد المصائب سَوَاء كَانَت فِي الدّين أَو فِي
الدُّنْيَا، وَسَوَاء كَانَت فِي نَفسه أَو من يعز
عَلَيْهِ. وَفِيه: تَغْطِيَة الْمَرْأَة وَجههَا عَن نظر
الْأَجْنَبِيّ، سَوَاء كَانَ صَالحا أَو غَيره. وَفِيه:
جَوَاز الْحلف من غير استحلاف. وَفِيه: أَنه يسْتَحبّ أَن
يسر عَن الْإِنْسَان مَا يُقَال فِيهِ إِذا لم يكن فِي
ذكره فَائِدَة كَمَا كتموا عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، هَذَا الْأَمر شهرا وَلم تسمعه بعد
ذَلِك، إلاَّ بِعَارِض عرض، وَهُوَ قَول أم مسطح: تعس
مسطح. وَفِيه: اسْتِحْبَاب ملاطفة الرجل زَوجته وَيحسن
معاشرتها. وَفِيه: أَنه إِذا عرض عَارض بِأَن سمع عَنْهَا
شَيْئا أَو نَحْو ذَلِك يقلل من اللطف وَنَحْوه لتفطن أَن
ذَلِك لعَارض، فتسأل عَن سَببه فتزيله. وَفِيه:
اسْتِحْبَاب السُّؤَال عَن الْمَرِيض. وَفِيه: أَنه
يسْتَحبّ للْمَرْأَة إِذا أَرَادَت الْخُرُوج لحَاجَة أَن
يكون مَعهَا رَفِيقَة لَهَا لتأنس بهَا وَلَا يتَعَرَّض
لَهَا. وَفِيه: كَرَاهَة الْإِنْسَان صَاحبه وقريبه إِذا
آذَى أهل الْفضل، أَو فعل غير ذَلِك من القبائح، كَمَا
فعلت أم مسطح فِي دعائها عَلَيْهِ. وَفِيه: فَضِيلَة أهل
بدر والذب عَنْهُم، كَمَا فعلت عَائِشَة فِي ذبها عَن
مسطح. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة لَا تذْهب لبيت أَبَوَيْهَا
إلاَّ بِإِذن زَوجهَا. وَفِيه جَوَاز التَّعَجُّب بِلَفْظ
التَّسْبِيح وَفِيه اسْتِحْبَاب مُشَاورَة الرجل بطانته
وَأَهله وأصدقاء فِيمَا ينويه من الإمور وَفِيه: جَوَاز
الْبَحْث وَالسُّؤَال عَن الْأُمُور المسموعة لمن لَهُ
بهَا تعلق، وَأما غَيره فمنهي عَنهُ، وَهُوَ تجسس وفضول.
وَفِيه: خطْبَة الإِمَام النَّاس عِنْد نزُول أمرٍ بهم.
وَفِيه: اشتكاء ولي الْأَمر إِلَى الْمُسلمين من تعرض لَهُ
بأذى فِي أَهله أَو فِي نَفسه. وَفِيه: فَضَائِل ظَاهره
لِصَفْوَان بِشَهَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمَا شهد وبفعاله الجميلة. وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى
قطع الْفِتَن والخصومات والمنازعات. وَفِيه: فَضِيلَة سعد
بن معَاذ وَأسيد بن حضير. وَفِيه: قبُول التَّوْبَة والحث
عَلَيْهَا. وَفِيه: تَفْوِيض الْكَلَام إِلَى الْكِبَار
دون الصغار لأَنهم أعرف. وَفِيه: جَوَاز الاستشهاد بآيَات
الْقرَان الْعَزِيز، وَلَا خلاف أَنه جَائِز. وَفِيه:
اسْتِحْبَاب الْمُبَادرَة بتبشير من تَجَدَّدَتْ لَهُ
نعْمَة ظَاهِرَة أَو اندفعت عَنهُ بلية بارزة. وَفِيه:
بَرَاءَة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من
الْإِفْك، وَهِي بَرَاءَة قَطْعِيَّة بِنَصّ الْقُرْآن،
فَلَو تشكك فِيهَا إِنْسَان صَار كَافِرًا مُرْتَدا
بِإِجْمَاع الْمُسلمين. وَفِيه: تَجْدِيد شكر الله
تَعَالَى تجدّد النِّعْمَة. وَفِيه: فَضَائِل لأبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا
يَأْتَلِ أولُوا الْفضل مِنْكُم} (النُّور: 22) . وَفِيه
اسْتِحْبَاب صلَة الْأَرْحَام وَإِن كَانُوا مسيئين وَفِيه
اسْتِحْبَاب الْعَفو والصفح عَن الْمُسِيء وَفِيه:
اسْتِحْبَاب الصَّدَقَة والإنفاق فِي سَبِيل الْخيرَات.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب لمن حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا
خيرا مِنْهَا أَن يَأْتِي بِالَّذِي هُوَ خير، فيكفر عَن
يَمِينه. وَفِيه فَضِيلَة زَيْنَب أم الْمُؤمنِينَ رَضِي
الله عَنْهَا وَفِيه التثبيت فِي الشَّهَادَة وَفِيه أَن
الْخطْبَة مبتداة بِالْحَمْد لله وَالثنَاء عليهوفيه:
اسْتِحْبَاب القَوْل: بأما بعد، فِي الْخطْبَة بعد:
الْحَمد لله وَالصَّلَاة على رَسُوله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَفِيه: غضب الْمُسلمين عِنْد انتهاك حُرْمَة
أَمِيرهمْ واهتمامهم بِدفع ذَلِك. وَفِيه: جَوَاز سبّ
المتعصب لمبطل، كَمَا سبّ أسيد بن حضير سعد بن عبَادَة
لتعصبه لِلْمُنَافِقِ، وَقَالَ: إِنَّك مُنَافِق تجَادل
عَن الْمُنَافِقين، وَقد ذكرنَا أَنه لم يرد بِهِ
النِّفَاق الْحَقِيقِيّ. وَفِيه: جَوَاز تَعْدِيل
النِّسَاء، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ
بَرِيرَة وَزَيْنَب عَن عَائِشَة وهما من أخبرتا بفضلها،
وَكَمَال دينهَا، وَبِه احْتج أَبُو حنيفَة فِي جَوَاز
تَعْدِيل النِّسَاء بَعضهنَّ بَعْضًا. وَفِيه: أَن من آذَى
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَهله أَو عرضه،
فَإِنَّهُ يقتل، لقَوْل أسيد بن حضير: إِن كَانَ من
الْأَوْس قَتَلْنَاهُ، وَلم يرد عَلَيْهِ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، قَالَ ابْن بطال: وَكَذَا من
سبّ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِمَا برأها
الله مِنْهُ أَنه يقتل لتكذيبه الله وَرَسُوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ قوم: لَا يقتل من سبها بِغَيْر
مَا برأها الله تَعَالَى مِنْهُ، وَقَالَ الْمُهلب:
وَالنَّظَر عِنْدِي أَن يقتل من سبّ زَوْجَات سيدنَا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَا رميت بِهِ
عَائِشَة أَو بِغَيْر ذَلِك. وَفِيه:
(13/235)
وجوب تَعْظِيم أهل بدر والذب عَنْهُم.
وَفِيه: أَن الصَّبْر الْجَمِيل فِيهِ الْغِبْطَة والعزة
فِي الدَّاريْنِ. وَفِيه: ترك الْحَد لما يخْشَى من
تَفْرِيق الْكَلِمَة، كَمَا ترك رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حد ابْن سلول. وَفِيه: أَن الِاعْتِرَاف
بِمَا يَشَاء من الْبَاطِل لَا يحل. وَفِيه: أَن الْوَحْي
مَا كَانَ يَأْتِيهِ مَتى أَرَادَ، لبَقَائه شهرا لم يوحَ
إِلَيْهِ. وَفِيه: جَوَاز تحلي النِّسَاء بِالذَّهَب
وَالْفِضَّة واللؤلؤ والخرز وَنَحْوهَا. وَفِيه: حُرْمَة
التشكيك فِي تبرئة عَائِشَة من الْإِفْك. وَفِيه: أَن
العصبية تنقل عَن إسم، كَمَا قَالَت: وَكَانَ قبل ذَلِك
رجلا صَالحا. وَفِيه: الْكَشْف والبحث عَن الْأَخْبَار
الْوَارِدَة، إِن كَانَ لَهَا نَظَائِر، أم لَا، لسؤاله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَرِيرَة وَأُسَامَة وَزَيْنَب
وَغَيرهم من بطانته عَن عَائِشَة وَعَن سَائِر أفعالها،
وَمَا يغمص عَلَيْهَا، وَالْحكم بِمَا يظْهر من
الْأَفْعَال على اقيل، وَذكر ابْن مرْدَوَيْه فِي
(تَفْسِيره) من حَدِيث يُونُس بن بكير عَن هِشَام عَن
أَبِيه عَن عَائِشَة: سَأَلَ، يَعْنِي، رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، جَارِيَة لي سَوْدَاء، فَقَالَ:
(أَخْبِرِينَا بِمَا علمك بعائشة. .) فَذكرت الْعَجِين،
وَمَعَهُ نَاس، فأداروها حَتَّى فطنت. فَقَالَت: سُبْحَانَ
الله! وَالله مَا أعلم على عَائِشَة إلاَّ مَا يعلم
الصَّائِغ على تبر الذَّهَب الْأَحْمَر. وَفِي لفظ:
جَارِيَة نوبية، وَهَذِه الْفَوَائِد مَا تنيف على
سِتِّينَ فَائِدَة، وَالله هُوَ الْمُسْتَعَان.
61 - (بابٌ إذَا زَكَّى رَجُلٌ رجُلاً كَفَاهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا زكى رجل رجلا كَفاهُ أَي:
كفى رجلا الَّذِي هُوَ المزكَّى، بِفَتْح الْكَاف، يَعْنِي
لَا يحْتَاج إِلَى آخر مَعَه، وَقد ذكر فِي أَوَائِل
الشَّهَادَات: بَاب تَعْدِيل كم يجوز، فتوقف فِي جَوَابه،
وَهَهُنَا صرح بالأكتفاء بِالْوَاحِدِ، وَفِيه خلاف:
فَعِنْدَ مُحَمَّد بن الْحسن: يشْتَرط إثنان كَمَا فِي
الشَّهَادَة، وَهُوَ الْمُرَجح عِنْد الشَّافِعِيَّة
والمالكية، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ. وَعند أبي حنيفَة
وَأبي يُوسُف: يكْتَفى بِوَاحِد، والاثنان أحب، وَكَذَا
الْخلاف فِي الرسَالَة والترجمة.
وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ وجَدْتُ مَنْبُوذاً فلَمَّا
رَآنِي عُمَرُ قَالَ عَسَى الغُوَيْرُ بُؤساً كأنَّهُ
يَتَّهِمُنِي قَالَ عَرِيفي أنَّهُ رَجُلٌ صَالح قَالَ
كذَلِكَ اذْهَبْ وعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (قَالَ عريفي
أَنه رجل صَالح، قَالَ كَذَلِك اذْهَبْ) ، فَإِنَّهُ يدل
على أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قبل تَزْكِيَة
الْوَاحِد وَاكْتفى بِهِ، وَأَبُو جميلَة، بِفَتْح الْجِيم
وَكسر الْمِيم: واسْمه سِنِين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة
وبنونين أولاهما مَفْتُوحَة مُخَفّفَة بَينهمَا يَاء آخر
الْحُرُوف، كَذَا ضَبطه عبد الْغَنِيّ بن سعيد
وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن مَاكُولَا، وَقَالَ بَعضهم:
وَوهم من شدد التحتانة كالداودي. قلت: كَيفَ ينْسب
الدَّاودِيّ إِلَى الْوَهم وَلم ينْفَرد هُوَ
بِالتَّشْدِيدِ، فَإِن البُخَارِيّ ذكر فِي (تَارِيخه)
كَانَ ابْن عُيَيْنَة وَسليمَان بن كثير يثقلان سنيناً،
وَاقْتصر عَلَيْهِ ابْن التِّين، وَهَذَا التَّعْلِيق
رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى: حَدثنَا
هِشَام عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سِنِين أبي جميلَة،
وَأَنه أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَخرج
مَعَه عَام الْفَتْح، وَأَنه الْتقط مَنْبُوذًا، فَأتى
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَهُ عَنهُ فَأثْنى
عَلَيْهِ خيرا، وَأنْفق عَلَيْهِ من بَيت المَال، وَجعل
ولاءه لَهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَبُو جميلَة سِنِين،
وَقيل: ميسرَة ضد الميمنة ابْن يَعْقُوب الطهوي، بِضَم
الطَّاء وَفتح الْهَاء، وَقيل: بسكونها، وَقد يفتحون
الطَّاء مَعَ سُكُون الْهَاء، فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات، ورد
عَلَيْهِ: بِأَن أَبَا جميلَة الَّذِي ذكره وترجمه لَيْسَ
بِأبي جميلَة الْمَذْكُور فِي البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ
تَابِعِيّ طهوي كُوفِي، وَذَاكَ صَحَابِيّ عِنْد
الْأَكْثَرين، وَإِن كَانَ الْعجلِيّ ذكره من التَّابِعين
واسْمه سِنِين بن فرقد. وَقَالَ ابْن سعد: هُوَ سلمي،
وَقَالَ غَيره: هُوَ ضمري، وَقيل: سليطي. وَذكره
الذَّهَبِيّ فِي (الصَّحَابَة) وَقَالَ: أَبُو جميلَة
سِنِين السّلمِيّ، أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَحَدِيثه فِي التِّرْمِذِيّ روى عَنهُ
الزُّهْرِيّ. قلت: تفرد الزُّهْرِيّ بالرواية عَنهُ.
قَوْله: (وجدت مَنْبُوذًا) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
النُّون وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي
آخِره ذال مُعْجمَة، وَمَعْنَاهُ: اللَّقِيط. قَوْله:
(فَلَمَّا رأى عمر) ، أَي: فَلَمَّا رَآهُ عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (قَالَ: عَسى الغوير أبؤساً)
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة أبي
ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن الْكشميهني، وَسقط فِي
رِوَايَة البَاقِينَ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة
فَقَالَ: حَدثنَا ابْن علية عَن الزُّهْرِيّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَنه سمع سنيناً أَبَا جميلَة يَقُول:
وجدت مَنْبُوذًا
(13/236)
فَذكره عريفي لعمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَأَتَيْته فَقَالَ: هُوَ حر وَوَلَاؤُهُ لَك
ورضاعه علينا، وَمعنى تَمْثِيل عمر بِهَذَا الْمثل عَسى
النوير أبؤساً أَن عمر اتهمه أَن يكون وَلَده أَتَى بِهِ
للْفَرض لَهُ فِي بَيت المَال، وَيحْتَمل أَن يكون ظن أَنه
يُرِيد أَن يفْرض ويلي أمره وَيَأْخُذ مَا يفْرض لَهُ.
ويصنع مَا شَاءَ، فَقَالَ عمر هَذَا الْمثل، فَلَمَّا
قَالَ لَهُ عريفه: إِنَّه رجل صَالح صدقه، وَقَالَ
الميداني فِي (مجمع الْأَمْثَال) تأليفه: الغوير تَصْغِير
غَار، والأبؤس جمع بؤس، وَهُوَ الشدَّة. وَيُقَال الأبؤس
الداهية. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: إِن أصل هَذَا الْمثل أَنه
كَانَ غَار فِيهِ نَاس فانهار عَلَيْهِم، أَو قَالَ:
فَأَتَاهُم عَدو فَقَتلهُمْ فِيهِ، فَقيل ذَلِك لكل من دخل
فِي أَمر لَا يعرف عاقبته. وَفِي (علل الْخلال) قَالَ
الزُّهْرِيّ: هَذَا مثل يضْربهُ أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ
سُفْيَان: أَصله أَن نَاسا كَانَ بَينهم وَبَين آخَرين
حَرْب، فَقَالَت لَهُم عَجُوز: إحذروا واستعدوا من
هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم يألونكم شرا، فَلم يَلْبَثُوا أَن
جَاءَهُم فزع. فَقَالَت الْعَجُوز: عَسى الغوير أبؤساً،
تَعْنِي: لَعَلَّه أَتَاكُم النَّاس من قبل الغوير، وَهُوَ
الشّعب. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: غوير مَاء لكَلْب مَعْرُوف
فِي نَاحيَة السماوة، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الغوير
طَرِيق يعبرون فِيهِ، وَكَانُوا يتواصون بِأَن يحسروه
لِئَلَّا يؤتوا مِنْهُ، وروى الْحَرْبِيّ عَن عَمْرو عَن
أَبِيه. أَن الغوير نفق فِي حصن الرباء، وَيُقَال: هَذَا
مثل لكل شَيْء يخَاف أَن يَأْتِي مِنْهُ شَرّ، وانتصاب
أبؤساً بعامل مُقَدّر، تَقْدِيره: عَسى الغوير يصير أبؤساً
وَقَالَ أَبُو عَليّ: جعل: عَسى بِمعنى: كَانَ، ونزله
مَنْزِلَته، يضْرب للرجل يُقَال لَهُ: لَعَلَّ الشَّرّ
جَاءَ من قبلك، وَيُقَال: تَقْدِيره: عَسى أَن يَأْتِي
الغوير بشر. قَوْله: (كَأَنَّهُ يتهمني) ، أَي: بِأَن يكون
الْوَلَد لَهُ، كَمَا ذكرنَا أَن يكون قَصده الْفَرْض لَهُ
من بَيت المَال. قَوْله: (قَالَ عريفي) ، العريف
النَّقِيب، وَهُوَ دون الرئيس، قَالَ ابْن بطال: وَكَانَ
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قسم النَّاس أقساماً
وَجعل على كل ديوَان عريفاً ينظر عَلَيْهِم، وَكَانَ الرجل
النابذ من ديوَان الَّذِي زَكَّاهُ عِنْد عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قَالَ: كَذَلِك) ، أَي: قَالَ
عمر لعريفه: هُوَ صَالح مثل مَا يَقُول، وَزَاد مَالك فِي
رِوَايَته: قَالَ: نعم، يَعْنِي: كَذَلِك. قَوْله: (إذهب
وعلينا نَفَقَته) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: إذهب فَهُوَ حر
وَلَك وَلَاؤُه وعلينا نَفَقَته، يَعْنِي: من بَيت المَال.
وَقَالَ ابْن بطال فِي هَذِه الْقَضِيَّة: إِن القَاضِي
إِذا سَأَلَ فِي مجْلِس نظره عَن أحد فَإِنَّهُ يجتزىء
بقول الْوَاحِد، كَمَا صنع عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَأما إِذا كلف الْمَشْهُود لَهُ أَن يعدل شُهُوده،
فَلَا يقبل أقل من اثْنَيْنِ.
وَفِيه: جَوَاز الِالْتِقَاط، وَإِن لم يشْهد، وَأَن
نَفَقَته إِذا لم يعرف فِي بَيت المَال وَأَن ولاءه
لملتقطه. وَفِيه: أَن اللَّقِيط حر، وَقَالَ قوم: إِنَّه
عبد، وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّه حر، عَليّ بن أبي طَالب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعمر بن عبد الْعَزِيز،
وَإِبْرَاهِيم، وَالشعْبِيّ.
2662 - حدَّثنا ابنُ سَلام قَالَ أخبرنَا عبدُ الوَهَّابِ
قَالَ حدَّثنا خالِدٌ الحَذَّاءُ عنْ عبدِ الرَّحْمانِ بنِ
أبِي بَكْرَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ أثْنَى رَجُلٌ علَى رَجُلٍ
عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ويْلَكَ
قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِكَ
مِرَاراً ثُمَّ قالَ مَنْ كانَ مِنْكُمْ مادِحاً أخاهُ لاَ
مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أحْسِبُ فُلاناً وَالله حَسِيبُهُ
ولاَ أُزَكِّي عَلى الله أحَداً أحْسِبُهُ كَذَا وكَذَا
إنْ كانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ.
قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ شَارِح التراجم: وَجه مُطَابقَة
الحَدِيث للتَّرْجَمَة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
أرشد إِلَى أَن التَّزْكِيَة كَيفَ تكون، فَلَو لم تكن
مُقَيّدَة لما أرشد إِلَيْهَا، لَكِن للمانع أَن يَقُول:
إِنَّهَا مُقَيّدَة مَعَ تَزْكِيَة أُخْرَى لَا بمفردها.
وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على أحد الطَّرِيقَيْنِ.
انْتهى. قلت: قَوْله: إِنَّهَا مُقَيّدَة مَعَ تَزْكِيَة
أُخْرَى، غير مُسلم وَالْمَنْع بطرِيق مَا ذكره غير
صَحِيح، لِأَن الحَدِيث يدل على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، اعْتبر تَزْكِيَة الرجل إِذا اقتصد، وَلَا يتغالى
وَلم يعب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ إلاَّ الإغراق
والغلو فِي الْمَدْح، وَبِهَذَا يرد قَول من قَالَ: لَيْسَ
فِي الْخَبَر: إِن تَزْكِيَة الْوَاحِد للْوَاحِد
كَافِيَة. حَيْثُ يحْتَاج إِلَى التَّزْكِيَة الْبَتَّةَ،
وَكَذَا فِيهِ رد لقَوْل من قَالَ: اسْتِدْلَال
البُخَارِيّ على التَّرْجَمَة بِحَدِيث أبي بكرَة ضَعِيف،
لِأَنَّهُ ضعف مَا هُوَ صَحِيح، لِأَنَّهُ علل بقوله:
فَإِن غَايَته أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتبر
تَزْكِيَة الرجل أَخَاهُ إِذا اقتصد وَلم يغل، وتضعيفة
بِهَذَا هُوَ عين تَصْحِيح وَجه الْمُطَابقَة بَين
الحَدِيث والترجمة لما ذَكرْنَاهُ، وكل هَذِه التعسفات
مَعَ الرَّد على البُخَارِيّ بِمَا ذكر لأجل الرَّد على
أبي حنيفَة حَيْثُ احْتج بِهَذَا الحَدِيث على اكتفائه فِي
التَّزْكِيَة بِوَاحِد، فَافْهَم.
ثمَّ رجال الحَدِيث الْمَذْكُور خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد
بن سَلام، وَفِي بعض النّسخ اسْمه وَاسم أَبِيه.
الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ
الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: خَالِد
(13/237)
ابْن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة. الْخَامِس:
أَبوهُ أَبُو بكرَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه:
نفيع بن الْحَارِث الثَّقَفِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن آدم
وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي آخر
الْكتاب عَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن عمر وَأبي بكر
وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة،
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن يُونُس.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أثنى رجل على رجل عِنْد النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، قيل: يحْتَمل أَن يكون المثني، بِكَسْر
النُّون هُوَ: محجن بن الأدرع الْأَسْلَمِيّ، وَأَن يكون
الْمثنى عَلَيْهِ ذُو البجادين، لِأَن للْأولِ حَدِيثا
عِنْد الطَّبَرَانِيّ لَا يبعد أَن يكون هُوَ إِيَّاه،
وَللثَّانِي حَدِيثا عِنْد ابْن إِسْحَاق يشْعر أَن يكون
الْمثنى عَلَيْهِ ذَا البجادين. ومحجن، بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم وَفِي آخِره
نون: ابْن الأدرع، قَالَ الذَّهَبِيّ: قديم الْإِسْلَام،
نزل الْبَصْرَة واختط مَسْجِدهَا، لَهُ أَحَادِيث قلت:
عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ: وَذُو البجادين، بِكَسْر
الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا الْجِيم: واسْمه عبد الله بن
عبد بهم بن عفيف الْمُزنِيّ، مَاتَ فِي غَزْوَة تَبُوك،
قَالَ عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
دَفنه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحطه بِيَدِهِ
فِي قَبره، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي قد أمسيت عَنهُ
رَاضِيا فارضَ عَنهُ) . قَالَ ابْن مَسْعُود: فليتني كنت
صَاحب الحفرة. قَالَ الذَّهَبِيّ: حَدِيث صَحِيح قَوْله:
(وَيلك) ، لفظ الويل فِي الأَصْل الْحزن والهلاك
وَالْمَشَقَّة من الْعَذَاب، وَيسْتَعْمل بِمَعْنى التفجع
والتعجب، وَهَهُنَا كَذَلِك، وينتصب عِنْد الْإِضَافَة
ويرتفع عِنْد الْقطع. وَوجه انتصابه بعامل مُقَدّر من غير
لَفظه. قَوْله: (قطعت عنق صَاحبك) ، وَفِي رِوَايَة:
قطعْتُمْ عنق الرجل، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: قطعْتُمْ ظهر
الرجل، وَهِي اسْتِعَارَة من قطع الْعُنُق الَّذِي هُوَ
الْقَتْل لاشْتِرَاكهمَا فِي الْهَلَاك. قَوْله: (لَا
محَالة) ، بِفَتْح الْمِيم أَي: الْبَتَّةَ لَا بُد مِنْهُ
قَوْله: (أَحسب فلَانا) ، أَي: أَظُنهُ، من: حسب يحْسب
بِكَسْر عين الْفِعْل فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي
الْمُسْتَقْبل محسبة وحسباناً، بِالْكَسْرِ وَمَعْنَاهُ
الظَّن، وَأما: حسبته أَحْسبهُ بِالضَّمِّ حسباً وحسباناً
وحسابة إِذا عددته. قَوْله: (وَالله حسيبه) ، أَي: كافيه،
فعيل بِمَعْنى مفعول، من أحسبني الشَّيْء إِذا كفاني.
قَوْله: (وَلَا أزكي على الله أحدا) أَي: لَا أقطع لَهُ
على عَاقِبَة أحد بِخَير وَلَا غَيره، لِأَن ذَلِك مغيب
عَنَّا، وَلَكِن نقُول: نحسب ونظن، لوُجُود الظَّاهِر
الْمُقْتَضِي لذَلِك. قَوْله: (أَحْسبهُ كَذَا وَكَذَا) ،
أَي: أَظُنهُ على حَالَة كَذَا، وَصفَة كَذَا، إِن كَانَ
يعلم ذَلِك مِنْهُ: وَالْمرَاد من قَوْله: يعلم، يظنّ،
وَكَثِيرًا يَجِيء الْعلم بِمَعْنى الظَّن، وَإِنَّمَا
قُلْنَا: مَعْنَاهُ يظنّ، حَتَّى لَا يُقَال: إِذا كَانَ
يعلم مِنْهُ فلِمَ يَقُول أَحْسبهُ؟ فَإِن قلت: قد جَاءَ
أَحَادِيث صَحِيحَة بالمدح فِي الْوَجْه. قلت: النَّهْي
مَحْمُول على الإفراط فِيهِ أَو على من يخَاف عَلَيْهِ،
وَأما من لَا يخَاف عَلَيْهِ، ذَلِك لَكمَا تقواه ورسوخ
عقله فَلَا نهى إِذا لم يكن فِيهِ مجازفة، بل إِن كَانَ
يحصل بذلك مصلحَة كالإزدياد عَلَيْهِ، والاقتداء بِهِ
كَانَ مُسْتَحبا، قَالَه النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) .
71 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الإطْنَابِ فِي المَدْحِ
ولْيَقُلْ مَا يَعْلَمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من الإطناب فِي مدح
الرجل، والإطناب، بِكَسْر الْهمزَة فِي الْكَلَام:
الْمُبَالغَة فِيهِ. قَوْله: (وَليقل) ، أَي: المادح، مَا
يُعلمهُ فِي الممدوح وَلَا يتجاوزه وَلَا يطنب فِيهِ.
3662 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ حدَّثنا بُرَيْدُ بنُ
عبْدِ الله عنْ أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوساى رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعَ النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم رَجُلاً يُثْنِي علَى رَجُلٍ ويُطْرِيهِ فِي
مَدْحِهِ فَقَالَ أهْلكْتُمْ أوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ
الرَّجُلِ.
(الحَدِيث 3662 طرفه فِي: 0606) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويطريه فِي مدحه) ،
وَهُوَ ظَاهر. فَإِن قلت: كَيفَ دلّ الحَدِيث على الْجُزْء
الْأَخير من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: وَليقل مَا
يعلم؟ قلت: الَّذِي يطنب لَا بُد أَن يَقُول بِمَا لَا
يعلم، لِأَنَّهُ لَا يطلع على سَرِيرَته وخلواته، فيستقضي
أَن لَا يطنب، وَهَذَا الحَدِيث بِمَعْنى الحَدِيث
السَّابِق، لِأَنَّهُمَا متحدان فِي الْمَعْنى، وَأَشَارَ
بِهِ إِلَى أَن الثَّنَاء على الرجل فِي وَجهه لَا يكره،
وَإِنَّمَا يكره الإطناب، فَلذَلِك ذكر هَذِه
التَّرْجَمَة.
وَمُحَمّد بن الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: مر
فِي الصَّلَاة، وَإِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء أَبُو زِيَاد
الْأَسدي، مَوْلَاهُم الخلقاني الْكُوفِي، وبريد، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة، بِضَم
الْبَاء أَيْضا، يروي عَن
(13/238)
أبي بردة وَهُوَ جده، وجده يروي عَن أَبِيه
أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَهُوَ عبد الله بن قيس، وَاسم
أبي بردة: الْحَارِث، وَيُقَال: عَامر، وَيُقَال: اسْمه
كنيته.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب،
وَمُسلم فِي آخر الْكتاب، كِلَاهُمَا عَن مُحَمَّد بن
الصَّباح عَن إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء.
قَوْله: (رجلا يثني على رجل) ، يحْتَمل أَن يَكُونَا مَا
ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث الْمَاضِي. قَوْله: (ويطريه)
بِضَم الْيَاء من الإطراء، وَهُوَ الْمُبَالغَة فِي
الْمَدْح، وَيُقَال أطراه أَي: مدحه، وَجَاوَزَ الْحَد
فِيهِ، وَذكره الْجَوْهَرِي فِي معتل اللَّام اليائي.
وَإِنَّمَا قَالَ: (أهلكتم) ، لِئَلَّا يغتر الرجل وَيرى
أَنه عِنْد النَّاس كَذَلِك بِتِلْكَ الْمنزلَة ليحصل
مِنْهُ الْعجب فيجد إِلَيْهِ سَبِيلا.
81 - (بابُ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وشَهَادَتِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حد بُلُوغ الصّبيان وَحكم
شَهَادَتهم. والترجمة مُشْتَمِلَة على حكمين. الأول:
بُلُوغ الصّبيان، قَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن
الِاحْتِلَام فِي الرِّجَال وَالْحيض فِي النِّسَاء هُوَ
الْبلُوغ الَّذِي يلْزم بِهِ الْعِبَادَات وَالْحُدُود
والاستئذان وَغَيره، وَاخْتلفُوا فِيمَن تَأَخّر احتلامه
من الرِّجَال أَو حيضه من النِّسَاء، فَقَالَ اللَّيْث
وَأحمد وَإِسْحَاق وَمَالك: الإنبات، أَو أَن يبلغ من السن
مَا يعلم أَن مثله قد بلغ، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم:
وَذَلِكَ سبع عشرَة سنة أَو ثَمَان عشرَة سنة، وَفِي
النِّسَاء هَذِه الْأَوْصَاف أَو الْجَبَل، إِلَّا أَن
مَالِكًا لَا يُقيم الْحَد بالإنبات إِذا زنى أَو سرق مَا
لم يَحْتَلِم أَو يبلغ من السن مَا يعلم أَن مثله لَا
يبلغهُ حَتَّى يَحْتَلِم، فَيكون عَلَيْهِ الْحَد، وَأما
أَبُو حنيفَة فَلم يعْتَبر الإنبات، وَقَالَ: حد الْبلُوغ
فِي الْجَارِيَة سبع عشرَة، وَفِي الْغُلَام تسع عشرَة،
وَفِي رِوَايَة: ثَمَانِي عشرَة مثل قَول ابْن الْقَاسِم،
وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَمذهب الشَّافِعِي: أَن الإنبات
عَلامَة بُلُوغ الْكَافِر لَا الْمُسلم، وَاعْتبر خمس
عشرَة سنة فِي الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَمذهب أبي يُوسُف
وَمُحَمّد كمذهب الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ
وَابْن وهب وَابْن الْمَاجشون. الحكم الثَّانِي: فِي
شَهَادَة الصّبيان، وَاخْتلفُوا فِيهَا. فَعَن النَّخعِيّ:
تجوز شَهَادَتهم بَعضهم على بعض، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب
وَشُرَيْح وَالْحسن وَالشعْبِيّ، مثله، وَعَن شُرَيْح:
أَنه كَانَ يُجِيز شَهَادَة الصّبيان فِي السن والموضحة،
ويأباه فِيمَا سوى ذَلِك. وَفِي رِوَايَة: أَنه أجَاز
شَهَادَة غلْمَان فِي أمة وَقضى فِيهَا بأَرْبعَة آلَاف،
وَكَانَ عُرْوَة يُجِيز شَهَادَتهم، وَقَالَ عبد الله بن
الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: هم أَحْرَى إِذا
سئلوا عَم رؤا أَن يشْهدُوا. وَقَالَ مَكْحُول: إِذا بلغ
خمس عشرَة سنة فأجز شَهَادَته. وَقَالَ الْقَاسِم وَسَالم:
إِذا أنبت، وَقَالَ عَطاء: حَتَّى يكبروا، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: وَقَالَت طَائِفَة: لَا تجوز شَهَادَتهم،
رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَالقَاسِم وَسَالم
وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَابْن أبي ليلى
وَالثَّوْري والكوفيين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق
وَأبي ثَوْر وَأبي عبيد، وَقَالَت طَائِفَة: تجوز
شَهَادَتهم بَعضهم على بعض فِي الْجراح وَالدَّم، رُوِيَ
ذَلِك عَن عَليّ وَابْن الزبير وَشُرَيْح وَالنَّخَعِيّ
وَعُرْوَة وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَمَالك إِذا لم
يتفرقوا.
وقَوْلِ الله تَعالى {وإذَا بلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ
الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (النُّور: 95) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على: بُلُوغ الصّبيان، أَي:
وَفِي بَيَان قَوْله تَعَالَى، وَتَمَامه: {كَمَا
اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته
وَالله عليم حَكِيم} (النُّور: 95) . وَإِنَّمَا ذكر هَذَا
لِأَن فِيهِ تَعْلِيق الحكم ببلوغ الْحلم، لِأَن
التَّرْجَمَة فِي بُلُوغ الصّبيان والأطفال: جمع طِفْل،
وَهُوَ الصَّبِي، وَيَقَع على الذّكر وَالْأُنْثَى
وَالْجَمَاعَة، وَيُقَال: طفلة وَأَطْفَال قَالَه ابْن
الْأَثِير، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الطِّفْل الْمَوْلُود،
وَالْجمع: أَطْفَال، وَقد يكون الطِّفْل وَاحِدًا وجمعاً،
مثل: الْجنب، قَالَ الله تَعَالَى: {أَو الطِّفْل الَّذين
لم يظهروا} (النُّور: 13) . وَذكر فِي كتاب (خلق
الْإِنْسَان) لِثَابِت: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه
فَهُوَ جَنِين، وَإِذا وَلدته يُسمى صَبيا مَا دَامَ
رضيعاً، فَإِذا فطم سمي غُلَاما إِلَى سبع سِنِين، ثمَّ
يصير يافعاً إِلَى عشر حجج، ثمَّ يصير حزوراً إِلَى خمس
عشرَة سنة، ثمَّ يصير قمداً إِلَى خمس وَعشْرين سنة، ثمَّ
يصير عنطنطاً إِلَى ثَلَاثِينَ سنة، ثمَّ يصير صملاً إِلَى
أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ يصير كهلاً إِلَى خمسين سنة، ثمَّ
يصير شَيخا إِلَى ثَمَانِينَ سنة، ثمَّ يصير هرماً بعد
ذَلِك فانياً كَبِيرا. انْتهى. قلت: فعلى هَذَا: لَا
يُقَال الصَّبِي إلاَّ للرضيع مَا دَامَ رضيعاً. وعَلى
قَول ابْن الْأَثِير: الصَّبِي والطفل وَاحِد. قَوْله
تَعَالَى: {وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم} (النُّور: 95)
. أَي: الصّبيان. قَالَ النَّسَفِيّ: مِنْكُم، أَي: من
الْأَحْرَار دون المماليك. قَوْله: {الْحلم} أَي:
الْبلُوغ، وَمِنْه: الحالم، وَهُوَ الَّذِي يبلغ مبلغ
الرِّجَال، وَهُوَ من: حلَم، بِفَتْح اللَّام، والحِلم
بِالْكَسْرِ: الأناءة، وَهُوَ من: حلُم، بِضَم اللَّام.
قَوْله: {فليستأذنوا} أَي: فِي جَمِيع الْأَوْقَات فِي
الدُّخُول عَلَيْكُم.
(13/239)
قَوْله: {كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من
قبلهم} (النُّور: 95) . أَي: الْأَحْرَار الَّذين بلغُوا
الْحلم من قبلهم، وَأكْثر الْعلمَاء على أَن هَذِه الْآيَة
محكمَة، وَحكي عَن سعيد بن الْمسيب، أَنَّهَا مَنْسُوخَة،
وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: آيَة
لَا يُؤمن بهَا أَكثر النَّاس: آيَة الْإِذْن، وَإِنِّي
لآمر جارتي أَن تستأذن عَليّ، وَسَأَلَهُ عَطاء، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: أَأَسْتَأْذِنُ على أُخْتِي؟ قَالَ:
نعم، وَإِن كَانَت فِي حجرك تمونها، وتلا هَذِه الْآيَة.
وقالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنا ابنُ ثِنْتَيْ
عَشَرَةَ سَنَةً
مُغيرَة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا وبالألف وَاللَّام
ودونها: ابْن مقسم الضَّبِّيّ الْكُوفِي الْفَقِيه
الْأَعْمَى، وَكَانَ من فُقَهَاء إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
عَن يحيى، ثِقَة مَأْمُون وَكَانَ عثمانياً، مَاتَ سنة
ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَكَانَ مِمَّن أَخذ عَن
أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ يُفْتِي
بقوله ويحتج بِهِ. قَوْله: (وَأَنا ابْن ثِنْتَيْ عشرَة
سنة) وَجَاء مثله عَن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُم
ذكرُوا أَنه لم يكن بَينه وَبَين ابْنه عبد الله ابْن
عَمْرو فِي السن سوى ثِنْتَيْ عشرَة سنة.
وبُلُوغُ النِّساءِ فِي الحَيْضِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ
{واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ}
إِلَى قَوْلِهِ {أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطَّلَاق: 4)
.
هُوَ بَقِيَّة من التَّرْجَمَة، و: بُلُوغ، بِالْجَرِّ
عطفا على قَوْله: وشهادتهم، أَي: بَاب فِي حكم بُلُوغ
الصّبيان وشهادتهم، وَفِي حكم بُلُوغ النِّسَاء فِي
الْحيض، وَيجوز رَفعه على أَن يكون مُبْتَدأ وَخَبره.
قَوْله: (فِي الحض) ، وَوجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ أَن
فِيهَا تَعْلِيق الحكم فِي الْعدة بِالْأَقْرَاءِ على
حُصُول الْحيض، فَدلَّ على أَن الْحيض بُلُوغ فِي حق
النِّسَاء، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ. قَوْله: {واللائي}
(الطَّلَاق: 4) . أَي: النِّسَاء اللائي {يئسن}
(الطَّلَاق: 4) . أَي: لَا يرجون أَن يحضن، وَبعده: {إِن
ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر، واللائي لم يحضن وَأولَات
الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} (الطَّلَاق: 4)
. قَوْله: {إِن ارتبتم} (الطَّلَاق: 4) . أَي: إِن
شَكَكْتُمْ أَن الدَّم الَّذِي يظْهر مِنْهَا لكبرها من
الْمَحِيض أَو الِاسْتِحَاضَة، فعدتهن ثَلَاثَة أشهر
{واللائي لم يحضن} (الطَّلَاق: 4) . يَعْنِي: الصغار
{فعدتهن ثَلَاثَة أشهر} (الطَّلَاق: 4) . فَحذف لدلَالَة
الْمَذْكُور عَلَيْهِ. قَوْله: {وَأولَات الْأَحْمَال}
(الطَّلَاق: 4) . أَي: الحبالى: {أَجلهنَّ} (الطَّلَاق: 4)
. أَي: عدتهن {أَن يَضعن حَملهنَّ} (الطَّلَاق: 4) . من
المطلقات والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا، وَإِن ارْتَفَعت
حَيْضَة الْمَرْأَة وَهِي شَابة فَإِن ارتابت أحامل هِيَ
أم لَا؟ فَإِن استبان حملهَا فأجلها أَن تضع حملهَا، وَإِن
لم يستبن فَاخْتلف فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: يستأنى بهَا،
واقصى ذَلِك سنة، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق
وَأبي عبيد، وَرووا ذَلِك عَن عمر وَغَيره، وَأهل الْعرَاق
يرَوْنَ عدتهَا بِثَلَاث حيض بَعْدَمَا كَانَت حَاضَت فِي
بَاقِي عمرها، وَإِن مكثت عشْرين سنة إِلَى أَن تبلغ من
الْكبر مبلغا تيأس من الْحيض فَتكون عدتهَا بعد الْإِيَاس
ثَلَاثَة أشهر، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح من مَذْهَب
الشَّافِعِي، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَرُوِيَ ذَلِك
عَن ابْن مَسْعُود وَأَصْحَابه.
وَقَالَ الحَسَنُ بنُ صالِحٍ: أدْرَكْتُ جارَةً لَنا
جَدَّةً بِنْتَ إحْدَى وعِشرِينَ سَنَةً
الْحسن بن صَالح ابْن أخي مُسلم بن حبَان بن شفي بن هني بن
رَافع الْهَمدَانِي الثَّوْريّ أَبُو عبد الله الْكُوفِي
العابد، ولد سنة مائَة وَمَات سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة.
قَوْله: (جدة) ، بِالنّصب على أَنه بدل من: جَارة.
وَقَوله: (بنت) ، مَنْصُوب على أَنه صفة لجدة، وتصوير
ذَلِك بِأَن هَذِه حَاضَت وعمرها تسع سِنِين وَولدت وعمرها
عشر سِنِين، وَعرض لبنتها، مثلهَا، وَأَقل مَا يُمكن مثله
فِي تسع عشرَة سنة، وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَيْضا
أَنه رأى بِالْيمن جدة بنت إِحْدَى وَعشْرين سنة،
وَأَنَّهَا حَاضَت لاستكمال تسع، وَوضعت بِنْتا لاستكمال
عشر، وَوَقع لبنتها كَذَلِك.
4662 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ سَيدٍ قَالَ حَدثنَا
أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حدَّثني عُبَيْدُ الله قَالَ
حدَّثني نافِعٌ قَالَ حدَّثني ابنُ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وهْوَ ابنُ أرْبعَ عَشْرَةَ
سَنةً فَلَمْ يُجزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ
وأنَا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فأجَازَنِي قَالَ نافِعٌ
(13/240)
فقَدِمْتُ عَلى عُمَرَ بنِ عَبْدِ
العَزِيزِ وهْو خَليفَةُ فَحدَّثْتُهُ هاذَا الحَدِيث
فَقَالَ إنَّ هذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ
وكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلغَ
خَمسَ عَشْرَةَ.
(الحَدِيث 4662 طرفه فِي: 7904) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يوضحها بِأَن
بُلُوغ الصَّبِي فِي خمس عشرَة سنة بِاعْتِبَار السن،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجَاز لِابْنِ
عمر، وسنه خمس عشرَة، فَدلَّ على أَن الْبلُوغ بِالسِّنِّ
بِخمْس عشرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبيد الله بن سعيد، كَذَا
وَقع فِي جَمِيع الْأُصُول: عبيد الله بتصغير عبد وَهُوَ
أَبُو قدامَة السَّرخسِيّ، وَوَقع لبَعض الْحفاظ: عبيد بن
إِسْمَاعِيل، وَبِذَلِك جزم الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات)
: فَأخْرج الحَدِيث من طَرِيق مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن
الْخَثْعَمِي عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل، ثمَّ قَالَ: أخرجه
البُخَارِيّ عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل. قلت: عبيد بن
إِسْمَاعِيل، واسْمه فِي الأَصْل: عبد الله يكنى أَبَا
مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَهُوَ من
مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَمن أَفْرَاده، وَيحْتَمل أَن يكون
البُخَارِيّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَنْهُمَا جَمِيعًا،
فَوَقع هُنَا فِي كثير من النّسخ: عبيد الله بن سعيد،
وَوَقع فِي بَعْضهَا: عبيد بن إِسْمَاعِيل، على أَن عبيد
بن إِسْمَاعِيل أَيْضا روى عَن أبي أُسَامَة. الثَّانِي:
أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن
الْخطاب ...
وَفِي السَّنَد: االتحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين،
وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحُدُود عَن عَليّ بن
مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عرضه يَوْم أحد) ذكر ابْن عمر
هُنَا: عرضه، وَبعد ذَلِك قَالَ: عرضني، لِأَن الأَصْل:
عرضه، وَأما التَّكَلُّم على سَبِيل الْحِكَايَة فَهُوَ
نقل كَلَام ابْن عمر بِعَيْنِه، فَإِن كَانَ الْكل كَلَام
ابْن عمر لَا كَلَام الرَّاوِي، يكون من بَاب التَّجْرِيد،
فَإِن ابْن عمر جرد من نَفسه شخصا وَعبر عَنهُ بِلَفْظ
الْغَائِب، وَجَاز فِي أَمْثَالهَا وَجْهَان: تَقول: أَنا
الَّذِي ضربت زيدا، وَأَنا الَّذِي ضرب زيدا. قَوْله:
(فَلم يجزني) ، يَعْنِي فِي ديوَان المقاتلين وَلم يقدر لي
رزقا مثل أرزاق الأجناد، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : فَلم
يجزني وَلم يرني بلغت. قَوْله: (يَوْم الخَنْدَق) ، وَوَقع
فِي (جمع) الْحميدِي، بدل الخَنْدَق: يَوْم الْفَتْح،
وَهُوَ غلط نَقله أَبُو الْفضل بن نَاصِر السلَامِي عَن
تعليقة أبي مَسْعُود، وَخلف، قَالَ: وتبعهما شَيخنَا
الْحميدِي، وراجعنا الْكِتَابَيْنِ فِي هَذَا فَلم نجد
فيهمَا إلاَّ الخَنْدَق. وَهُوَ الصَّوَاب، وَفِي رِوَايَة
ذكرهَا ابْن التِّين: عرضت عَام الخَنْدَق، ولي أَربع
عشرَة، فأجازني، قَالَ: وَقيل: إِنَّمَا عرض يَوْم بدر
فَرده وَأَجَازَهُ بِأحد، وَقَالَ بَعضهم: ذكر الخَنْدَق
وهمٌ، وَإِنَّمَا كَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع، لِأَن
الخَنْدَق كَانَت سنة خمس، وَهُوَ قَالَ إِنَّه كَانَ فِي
أحد ابْن أَربع عشرَة، فعلى هَذَا يكون غَزْوَة ذَات
الرّقاع هِيَ المرادة، لِأَنَّهَا كَانَت فِي سنة أَربع،
بَينهَا وَبَين أحد سنة، وَقد يُجَاب: بِأَنَّهُ يحْتَمل
أَن ابْن عمر فِي أُحد دخل فِي أول سنة أَربع من حِين
مولده، وَذَلِكَ فِي شَوَّال مِنْهَا ثمَّ تكملت لَهُ سنة
أَربع عشرَة فِي شَوَّال من الْآتِيَة، ثمَّ دخل فِي
الْخَامِس عشرَة إِلَى شوالها الَّذِي كَانَت فِيهِ
الخَنْدَق، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنه فِي أحد فِي أول
الرَّابِعَة، وَفِي الخَنْدَق فِي آخر الْخَامِسَة. وَقد
رُوِيَ عَن مُوسَى بن عقبَة وَغَيره: أَن الخَنْدَق كَانَت
سنة أَربع، فَلَا حَاجَة إِذن لهَذِهِ الْأُمُور. قَوْله:
(قَالَ نَافِع) مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
قَوْله: (إِن هَذَا لحد) ، أَي: إِن هَذَا السن، وَهُوَ
خمس عشرَة سنة، نِهَايَة الصغر وبداية الْبلُوغ، وَفِي
رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن عبيد الله بن عمر عِنْد
التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: هَذَا حد مَا بَين الذُّرِّيَّة
والمقاتلة. قَوْله: (وَكتب إِلَى عماله) ، بِضَم الْعين
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم، جمع: عَامل، وهم النواب
الَّذين استنابهم فِي الْبِلَاد، وَفِي رِوَايَة مُسلم
زِيَادَة. قَوْله: وَمن كَانَ دون ذَلِك فَاجْعَلُوهُ فِي
الْعِيَال. قَوْله: (أَن يفرضوا) ، أَي: يقدروا لَهُم رزقا
فِي ديوَان الْجند.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن من اسْتكْمل خمس عشرَة
سنة أجريت عَلَيْهِ أَحْكَام الْبَالِغين وَإِن لم
يَحْتَلِم فيكلف بالعبادات وَإِقَامَة الْحُدُود،
وَيسْتَحق سهم الْغَنِيمَة وَيقتل إِن كَانَ حَرْبِيّا
وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام. وَمن ذَلِك: أَن الإِمَام
يستعرض من يخرج مَعَه لِلْقِتَالِ قبل أَن يَقع الْحَرْب،
فَمن وجده أَهلا استصحبه، وَمن لَا فَيردهُ. وَقَالَ
بَعضهم: وَعند الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة لَا
تتَوَقَّف الْإِجَازَة لِلْقِتَالِ
(13/241)
على الْبلُوغ، بل للْإِمَام أَن يُجِيز من الصّبيان من
فِيهِ قُوَّة ونجدة، فَرب مراهق أقوى من بَالغ، وَحَدِيث
ابْن عمر حجَّة عَلَيْهِم. انْتهى. قلت: لَيْسَ بِحجَّة
عَلَيْهِم أصلا، لِأَن حكم الْمُرَاهق كَحكم الْبَالِغ،
حَتَّى إِذا قَالَ: قد بلغت، يصدق.
5662 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا صَفْوَانُ بنُ سُلَيْمٍ عنْ
عَطَاءِ بنِ يَسار عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ يَبْلُغُ بِهِ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَة واجِبٌ على
كلِّ مُحْتَلِمٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَاجِب على كل
محتلم) ، إِذْ لَو لم يَتَّصِف المحتلم بِالْبُلُوغِ لما
وَجب عَلَيْهِ شَيْء، وَهَذَا الْبلُوغ بالإنزال. فَإِن
قلت: الْجُزْء الْأَخير من التَّرْجَمَة الشَّهَادَة
وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِيمَا قبله ذكرهَا؟ قلت: أُجِيب
بِأَنَّهُ ترْجم بهَا، وَلكنه لم يظفر بِشَيْء من ذَلِك
على شَرطه. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب
هَل على من لم يشْهد الْجُمُعَة غسل؟ وَقد مضى الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ. |