عمدة القاري شرح صحيح البخاري

91 - (بابُ سُؤالِ الحاكِم المُدَّعِيَ هَلْ بَيِّنةٌ قَبْلَ اليَمِينِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سُؤال الْحَاكِم الْمُدَّعِي، بِكَسْر الْعين: هَل لَك بَيِّنَة تشهد بِمَا تَدعِي قبل عرض الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ؟

7662 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرَنا أبُو مُعَاوِيَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ شَقِيقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَن حلف على يَمين وهْوَ فيهَا فاجِرٌ لَيَقْتَطِعَ بِها مالَ امْرِىٍ مُسْلِمٍ لَقيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ قَالَ فَقَالَ الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ فِيَّ وَالله كانَ ذالِكَ كانَ بَيْنِي وبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ أرْضٌ فجَحَدَنِي فقَدَّمْتُهُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَكَ بَيِّنةٌ قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلفْ قَالَ قُلْتُ يَا رَسولَ الله إِذا يَحْلِفَ ويَذْهَبَ بمَالي قَالَ فأنْزَلَ الله تَعالى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إِلَى آخرِ الآيَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَلَك بَيِّنَة؟ قَالَ: قلت: لَا) . وَمُحَمّد شيخ البُخَارِيّ هُوَ ابْن سَلام، صرح بِهِ فِي (الْأَطْرَاف) قَالَ الجياني: وَكَذَا نسبه أَبُو مُحَمَّد بن السكن. والْحَدِيث رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْقَاسِم عَن أبي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي مُعَاوِيَة، فَيجوز أَن يكون هُوَ أَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم، بِالْخَاءِ وَالزَّاي المعجمتين: الضَّرِير، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وشقيق أَبُو وَائِل، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. والْحَدِيث قد مضى بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن فِي الْخُصُومَات فِي: بَاب كَلَام الْخُصُوم بَعضهم بِبَعْض، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

02 - (بابٌ اليَمِينُ على المُدَّعى عليْهِ فِي الأمْوالِ والحُدُودِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ دون الْمُدَّعِي. قَوْله: (فِي الْأَمْوَال وَالْحُدُود) ، يَعْنِي: سَوَاء كَانَ الْيَمين الَّذِي على الْمُدعى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال أَو الْحُدُود، وَأَرَادَ بِهِ أَن هَذَا الحكم عَام، وَقَالَ بَعضهم: يُشِير بِهِ إِلَى الرَّد على الْكُوفِيّين فِي تخصيصهم الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال دون الْحُدُود.
قلت: هَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على حكمين.
الأول: أَن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ يسْتَلْزم شَيْئَيْنِ. أَحدهمَا: أَن لَا يجب يَمِين الِاسْتِظْهَار، وَفِيه اخْتِلَاف الْعلمَاء، وَهُوَ أَن الْمُدَّعِي إِذا أثبت مَا يَدعِيهِ ببينه فللحاكم أَن يستحلفه أَن بَينته شهِدت بِحَق، وَإِلَيْهِ ذهب شُرَيْح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حَيّ، وَقد روى ابْن أبي ليلى عَن الحكم عَن الْحسن أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اسْتحْلف عبد الله بن الْحر مَعَ بَينته، وَذهب مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَى أَنه: لَا يَمِين عَلَيْهِ، وَقَالَ إِسْحَاق إِذا استراب الْحَاكِم أوجب ذَلِك، وَالْحجّة لَهُم حَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي مضى فِي الْبَاب السَّابِق من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يقل للأشعث: تحلف مَعَ الْبَيِّنَة، فَلم

(13/242)


يُوجب على الْمُدَّعِي غير الْبَيِّنَة، وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء ... } (النُّور: 4) . الْآيَة، فَأَبْرَأهُ الله تَعَالَى من الْجلد بِإِقَامَة أَرْبَعَة شُهَدَاء من غير يَمِين. وَالْآخر: أَن لَا يَصح الْقَضَاء بِشَاهِد وَاحِد وَيَمِين الْمُدَّعِي، لِأَن الشَّارِع جعل الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ، وَفِيه اخْتِلَاف أَيْضا نذكرهُ عَن قريب.
وَالْحكم الثَّانِي: أَن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال وَالْحُدُود، وَفِيه اخْتِلَاف أَيْضا، فَذهب الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد إِلَى القَوْل بِعُمُوم ذَلِك فِي الْأَمْوَال وَالْحُدُود وَالنِّكَاح وَنَحْوه، وَاسْتثنى مَالك النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعتاق والفدية، فَقَالَ: لَا يجب فِي شَيْء مِنْهَا الْيَمين حَتَّى يُقيم الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة، وَلَو شَاهدا وَاحِدًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يخْتَص الْيَمين بالمدعى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال دون الْحُدُود. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَامَ الْإِجْمَاع على استحلاف الْمُدعى عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَال، وَاخْتلفُوا فِي الْحُدُود وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح وَالْعِتْق، فَذهب الشَّافِعِي: إِلَى أَن الْيَمين وَاجِبَة على كل مدعى عَلَيْهِ إِذا لم يكن للْمُدَّعِي بَيِّنَة، وَسَوَاء كَانَت الدَّعْوَى فِي دم أَو جراح أَو طَلَاق أَو نِكَاح أَو عتق أَو غير ذَلِك، وَاحْتج بِحَدِيث الْبَاب: شَاهِدَاك أَو يَمِينه، قَالَ: وَلم يخص مدعي مَال دون مدعي دم أَو غَيره، بل الْوَاجِب أَن يحمل على الْعُمُوم. ألاَ يرى أَنه جعل الْقسَامَة فِي دَعْوَى الدَّم، وَقَالَ للْأَنْصَار: يبرئكم يهود بِخَمْسِينَ يَمِينا؟ وَالدَّم أعظم حُرْمَة من المَال. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر: إِذا ادّعت الْمَرْأَة على زَوجهَا خلعاً أَو طَلَاقا، وَجحد الزَّوْج الطَّلَاق، فعلَيْهَا الْبَيِّنَة وإلاَّ يسْتَحْلف الزَّوْج، وَإِن ادّعى الْخلْع على مَال، فأنكرت، فَإِن أَقَامَ الْبَيِّنَة لَزِمَهَا المَال وإلاَّ حَلَفت وَلزِمَ الزَّوْج الْفِرَاق، لِأَنَّهُ أقرّ بِهِ، وَإِن ادّعى العَبْد الْعتْق، وَلَا بَيِّنَة لَهُ، يسْتَحْلف السَّيِّد فَإِن حلف برىء وَإِن ادّعى السَّيِّد أَنه أعْتقهُ على مَال، وَأنكر العَبْد حلف، وَلزِمَ السَّيِّد الْعتْق، وَكَانَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يريان بِأَن يسْتَحْلف على النِّكَاح، فَإِن أَبى ألزم النِّكَاح.
قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: أَن الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يسْتَحْلف فِي النِّكَاح بِأَن يَدعِي على امْرَأَة نِكَاحا. وَهِي تجحد، أَو ادَّعَت هِيَ كَذَلِك وَهُوَ يجْحَد. وَلَا فِي الرّجْعَة، بِأَن ادّعى بعد انْقِضَاء عدتهَا أَنه كَانَ رَاجعهَا فِي الْعدة، وَهِي تجحد، أَو ادَّعَت هِيَ كَذَلِك وَهُوَ يجْحَد. وَلَا فِي فَيْء الْإِيلَاء بِأَن ادّعى بعد مُضِيّ مُدَّة الْإِيلَاء أَنه فَاء إِلَيْهَا فِي الْمدَّة، وَهِي تجحد أَو ادَّعَت الْمَرْأَة كَذَلِك، وَهُوَ يجْحَد. وَلَا فِي الِاسْتِيلَاد، بِأَن ادَّعَت الْأمة على سَيِّدهَا أَنَّهَا ولدت مِنْهُ، وَأنكر الْمولى، وَلَا يتَصَوَّر الْعَكْس من قبله عَلَيْهَا، لِأَن الِاسْتِيلَاد يثبت بِإِقْرَارِهِ. وَلَا فِي الرّقّ بِأَن ادّعى على مَجْهُول النّسَب أَنه عَبده أَو ادّعى مَجْهُول النّسَب أَنه مُعْتقه. وَلَا فِي النّسَب، بِأَن ادّعى الْوَلَد على الْوَالِد أَو الْوَالِد على الْوَلَد، وَأنكر الآخر. وَلَا فِي الْوَلَاء: بِأَن ادّعى على مَعْرُوف النّسَب أَنه مُعْتقه، أَو ادّعى مَعْرُوف النّسَب أَنه مُعْتقه، أَو كَانَ ذَلِك فِي الْمُوَالَاة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: يسْتَحْلف فِي الْكل، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد. وَلَا يسْتَحْلف بِاتِّفَاق أَصْحَابنَا فِي الْحَد، بِأَن قَالَ رجل لآخر: لي عَلَيْك حد قذف، وَهُوَ يُنكر، لَا يسْتَحْلف لِأَنَّهُ يندرىء بِالشُّبُهَاتِ إلاَّ إِذا تضمن حَقًا، بِأَن علق عتق عَبده بِالزِّنَا، وَقَالَ: إِن زَنَيْت فَأَنت حر، فَادّعى العَبْد أَنه زنى وَلَا بَيِّنَة لَهُ عَلَيْهِ، يسْتَحْلف الْمولى، حَتَّى إِذا نكل ثَبت الْعتْق دون الزِّنَا. وَقَالَ القَاضِي الإِمَام فَخر الدّين، الْمَعْرُوف: بقاضيخان الْفَتْوَى، على أَنه يسْتَحْلف الْمُنكر فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة الْمَذْكُورَة، وَذكر ابْن الْمُنْذر عَن الشّعبِيّ وَالثَّوْري وَأَصْحَاب الرَّأْي أَنه: لَا يسْتَحْلف على شَيْء من الْحُدُود، وَلَا على الْقَذْف، وَقَالُوا: يسْتَحْلف يسْتَحْلف على السّرقَة فَإِن نكل لزمَه المَال وَعند مَالك لَا يَمِين فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق والفرقة إِلَّا أَن يُقيم الْمُدعى شَاهدا وَاحِد فَإِذا أقالمه اسْتحْلف الْمُدعى عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن حبيب: إِذا أَقَامَت الْمَرْأَة أَو العَبْد شَاهدا وَاحِدًا على أَن الزَّوْج طَلقهَا، أَو أَن السَّيِّد أعْتقهُ، فاليمين تكون على السَّيِّد وَالزَّوْج، فَإِن حلفا سقط عَنْهُمَا الطَّلَاق وَالْعِتْق، وَهَذَا قَول مَالك وَابْن الْمَاجشون وَابْن كنَانَة، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَة: فَإِن نكل قضى بِالطَّلَاق وَالْعِتْق، ثمَّ رَجَعَ مَالك، فَقَالَ: لَا يقْضِي بِالطَّلَاق ويسجن، فَإِن طَال سَجَنهُ دين، وَترك وَبِه قَالَ ابْن الْقَاسِم، وَطول السجْن عِنْده سنة.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: شاهِدَاكَ أوْ يَمينُهُ

وصل البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق فِي آخر الْبَاب من حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس، وَهَذَا صَرِيح أَن الَّذِي على الْمُدعى الْبَيِّنَة، وَالَّذِي على الْمُدعى عَلَيْهِ الْيَمين، فَيَقْتَضِي منع يَمِين الْمُدَّعِي عِنْد الرَّد عَلَيْهِ، وَيَمِين الِاسْتِظْهَار أَيْضا كَمَا ذكرنَا. وارتفاع: شَاهِدَاك، على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: الْمُثبت لدعواك أَو الْحجَّة لَك شَاهِدَاك، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا على الِابْتِدَاء، وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: شَاهِدَاك هُوَ الْمَطْلُوب فِي دعواك، أَو شَاهِدَاك هما المثبتان لدعواك، وَنَحْو ذَلِك.

(13/243)


وَقَالَ قُتَيْبَةُ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ ابنِ شُبْرُمَةَ كلَّمَنِي أبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ ويَمِينِ المُدَّعِي فقُلْتُ قَالَ الله تَعَالَى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فإنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا الأُخْراى} (الْبَقَرَة: 282) . قُلْتُ إذَا كانَ يُكْتَفى بِشَهَادَةِ شاهِدٍ ويَمِينِ المُدَّعِي فَمَا يَحْتاجُ أنْ تُذْكَرَ إحْدَاهُمَا الأخْراى مَا كانَ يُصْنَعُ بِذِكْرِ هاذِهِ الأُخْراى

كَذَا هَكَذَا فِي كثير من النّسخ: قَالَ قُتَيْبَة، مُعَلّقا، وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا قُتَيْبَة، وَكَذَا نقل عَن الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي الشَّارِح، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَكَانَ الأول أظهر لِأَن البُخَارِيّ لم يحْتَج فِي (صَحِيحه) بِابْن شبْرمَة، وَابْن شبْرمَة هُوَ عبد الله بن شبْرمَة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء المضمومة: ابْن الطُّفَيْل بن حسان الضَّبِّيّ أَبُو شبْرمَة الْكُوفِي القَاضِي، فَقِيه أهل الْكُوفَة، عداده فِي التَّابِعين، وَكَانَ عفيفاً صَارِمًا عَاقِلا فَقِيها، يشبه النساك، ثِقَة فِي الحَدِيث، شَاعِرًا، حسن الْخلق، اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) وروى لَهُ فِي الْأَدَب وروى لَهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، مَاتَ سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وروى عَن أبي حنيفَة حَدِيثا وَاحِدًا. وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون، واسْمه عبد الله بن ذكْوَان الْقرشِي الْمدنِي قَاضِي الْمَدِينَة، قَالَ الْعجلِيّ: مدنِي تَابِعِيّ ثِقَة، سمع من أنس بن مَالك، مَاتَ سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة. قَوْله: إِذا كَانَ شَرط، وَقَوله: فَمَا يحْتَاج، جَزَاء، وَكلمَة: مَا، نَافِيَة بِخِلَاف قَوْله: مَا كَانَ، فَإِنَّهَا استفهامية، والفعلان: أَعنِي: يحْتَاج ويصنع، بِلَفْظ الْمَجْهُول أَي: إِذا جَازَ الْكِفَايَة على شَاهد وَيَمِين فَلَا يحْتَاج إِلَى تذكير إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى إِذْ الْيَمين تقوم مقَامهَا، فَمَا فَائِدَة ذكر التَّذْكِير فِي الْقُرْآن؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَائِدَته تتميم شَاهد، إِذْ الْمَرْأَة الْوَاحِدَة لَا اعْتِبَار لَهَا، لِأَن الْمَرْأَتَيْنِ كَرجل وَاحِد. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام عَجِيب كَأَنَّهُ مخترع من عِنْده، فَكيف يكون حَاصله: أَن مَذْهَب أبي الزِّنَاد الْقَضَاء بِشَاهِد وَيَمِين الْمُدَّعِي كَأَهل بَلَده، وَمذهب ابْن شبْرمَة خِلَافه كَأَهل بَلَده؟ فاحتج عَلَيْهِ أَبُو الزِّنَاد بالْخبر الْوَارِد فِي ذَلِك، وَاحْتج عَلَيْهِ ابْن شبْرمَة بِمَا ذكره من الْآيَة الْكَرِيمَة. وَقَالَ بَعضهم: وَإِنَّمَا يتم لَهُ الْحجَّة بذلك على أصل مُخْتَلف فِيهِ بَين الْفَرِيقَيْنِ. وَهُوَ أَن الْخَبَر إِذا ورد متضمناً لزِيَادَة على مَا فِي الْقُرْآن: هَل يكون نسخا؟ وَالسّنة لَا تنسخ الْقرَان، أَو لَا؟ يكون نسخا بل زِيَادَة مُسْتَقلَّة بِحكم مُسْتَقل إِذا ثَبت سَنَده وَجب القَوْل بِهِ، وَالْأول مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالثَّانِي مَذْهَب الْحِجَازِيِّينَ، وَمَعَ قطع النّظر عَن ذَلِك لَا ينْهض حجَّة ابْن شبْرمَة لِأَنَّهُ يصير مُعَارضَة للنَّص بِالرَّأْيِ. انْتهى. قلت: مَذْهَب ابْن شبْرمَة هُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيين والأندلسيين من أَصْحَاب مَالك، وهم يَقُولُونَ: نَص الْكتاب الْعَزِيز فِي بَاب الشَّهَادَة: رجلَانِ، فَإِذا لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ، وَالْحكم بِشَاهِد وَيَمِين مُخَالف للنَّص، فَلَا يجوز، وَالْأَخْبَار الَّتِي وَردت بِشَاهِد وَيَمِين أَخْبَار أحاد فَلَا يعْمل بهَا عِنْد مخالفتها النَّص، لِأَنَّهُ يكون نسخا وَنسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز، وَقَالَ بَعضهم: النّسخ رفع الحكم وَلَا رفع هُنَا، وَأَيْضًا النَّاسِخ والمنسوخ لَا بُد أَن يتواردا على مَحل وَاحِد، وَهَذَا غير مُتَحَقق فِي الزِّيَادَة على النَّص. قلت: النّسخ رفع الحكم قسم من أَقسَام النّسخ لِأَنَّهُ على أَرْبَعَة أَقسَام: نسخ الحكم والتلاوة جَمِيعًا، وَنسخ الحكم دون التِّلَاوَة، وَنسخ التِّلَاوَة دون الحكم، وَالرَّابِع: نسخ وصف الحكم، وَهُوَ أَيْضا مثل الزِّيَادَة على النَّص، وَهُوَ نسخ عندنَا، وَعند الشَّافِعِي هُوَ بِمَنْزِلَة تَخْصِيص الْعَام، حَتَّى جوز ذَلِك بِالْقِيَاسِ وبخبر الْوَاحِد، وَقَول هَذَا الْقَائِل: النّسخ رفع الحكم، لَيْسَ على إِطْلَاقه، لِأَن النّسخ من قبيل بَيَان التبديل، لِأَن الْبَيَان عندنَا خَمْسَة أَقسَام: بَيَان تَقْرِير، وَبَيَان تَفْسِير، وَبَيَان تَغْيِير، وَبَيَان ضَرُورَة، وَبَيَان تَبْدِيل. والنسخ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ: أَن يَزُول شَيْء ويخلفه غَيره، وَلَا شكّ أَن الحكم بِشَاهِد وَيَمِين رفع حكم الشَّاهِدين، أَو الشَّاهِد، وَالْمَرْأَة، وَكَيف يَقُول هُنَا: وَلَا رفع هُنَا؟ وَقَوله: وَأَيْضًا النَّاسِخ والمنسوخ ... إِلَى آخِره لَيْسَ على إِطْلَاقه، لأَنا نسلم أَنه لَا بُد من توارد النَّاسِخ والمنسوخ فِي مَحل وَاحِد وَلَكِن لَا نسلم قَوْله: وَهَذَا غير مُتَحَقق فِي الزِّيَادَة على النَّص، لِأَن قَائِل هَذَا، أَي من كَانَ لم يفرق بَين نسخ الْوَصْف وَبَين نسخ الذَّات، والنسخ هُنَا من قبيل نسخ الْوَصْف لَا من قبيل نسخ الذَّات، وَنحن نقُول: إِن نسخ الْوَصْف مثل نسخ الذَّات فِي الحكم، فَلهَذَا منعنَا الحكم بِشَاهِد وَيَمِين، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَتَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ جَائِز، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة عَلَيْهِ، قُلْنَا: لَا نسلم أَن الزِّيَادَة على النَّص كالتخصيص مُطلقًا، وَإِنَّمَا يكون كالتخصيص إِذا كَانَت

(13/244)


الزِّيَادَة حكما مُسْتقِلّا بِنَفسِهَا، فَحِينَئِذٍ يكون كالتخصيص، لِأَنَّهَا لَا تغير. والتخصيص بَيَان عدم إِرَادَة بعض مَا يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ، فَيبقى الْبَاقِي بذلك النّظم بِعَيْنِه، فَإِن الْعَام إِذا خص مِنْهُ بعض الْأَفْرَاد بَقِي الحكم فِيمَا وَرَاءه بِلَفْظ الْعَام بِعَيْنِه، كَلَفْظِ الْمُشْركين إِذا خص مِنْهُ أهل الذِّمَّة بَقِي الحكم فِي غَيرهم ثَابتا بِلَفْظ الْمُشْركين، فَلم يكن التَّخْصِيص نسخا، لِأَن النّسخ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم الثَّابِت، وبالتخصيص تبين أَن الْمَخْصُوص لم يكن مرَادا بِالْعَام فَلَا يكون رفعا بعد الثُّبُوت، بل منعا عَن الدُّخُول فِي حكم الْعَام، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِن التَّخْصِيص لَا يكون إلاَّ مُقَارنًا، لِأَنَّهُ بَيَان مَحْض، وَشرط النّسخ أَن يكون مُتَأَخِّرًا، فَيكون تبديلاً لَا بَيَانا مَحْضا، ثمَّ نظر هَذَا الْقَائِل فِي كَون الزِّيَادَة على النَّص كالتخصيص. بقوله: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} (النِّسَاء: 42) . وَأَجْمعُوا على تَحْرِيم الْعمة مَعَ بنت أَخِيهَا، وَسَنَد الْإِجْمَاع فِي ذَلِك السّنة الثَّابِتَة، وَكَذَلِكَ قطع رجل السَّارِق فِي الْمرة الثَّانِيَة، قُلْنَا: الْجَواب عَن هذَيْن الْحكمَيْنِ أَنَّهُمَا حكمان مستقلان بأنفسهما، وَلم يغيرا لحكم فيهمَا حَتَّى يكون نسخا. وَقد قُلْنَا: إِن مثل هَذَا كالتخصيص ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد أَخذ من رد أَن الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لكَونه زِيَادَة على الْقُرْآن بِأَحَادِيث كَثِيرَة كلهَا زَائِدَة على مَا فِي الْقُرْآن: كَالْوضُوءِ بالنبيذ، وَالْوُضُوء من القهقهة، وَمن الْقَيْء، والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْغسْل دون الْوضُوء، واستبراء المسبية، وَترك قطع من سرق مَا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد، وَشَهَادَة الْمَرْأَة الْوَاحِدَة فِي الْولادَة، وَلَا قَود إلاَّ بِالسَّيْفِ، وَلَا جُمُعَة إلاَّ فِي مصر جَامع، وَلَا تقطع الْأَيْدِي فِي الْغَزْو، وَلَا يَرث الْكَافِر الْمُسلم، وَلَا يُؤْكَل الطافي من السّمك، وَيحرم كل ذِي نَاب من السبَاع ومخلب من الطير، وَلَا يقل الْوَالِد بالوالد، وَلَا يَرث الْقَاتِل من الْقَتِيل، وَغير ذَلِك من الْأَمْثِلَة الَّتِي تَتَضَمَّن الزِّيَادَة على عُمُوم الْكتاب، قُلْنَا: هَذَا كُله لَا يرد علينا، وَالْجَوَاب عَن هَذَا كُله مَا قُلْنَا: إِن الزَّائِد على النَّص إِذا كَانَ حكما مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَا يضر ذَلِك، فَلَا يُسمى نسخا، لِأَنَّهُ لَا يُغير وَلَا يُبدل، وَالَّذِي فِيهِ التَّغْيِير بِحَسب الظَّاهِر لَا من حَيْثُ الْوَصْف وَلَا من حَيْثُ الذَّات يكون كالتخصيص.
وَقَوله: وَأَجَابُوا بِأَنَّهَا أَحَادِيث كَثِيرَة شهيرة، فَوَجَبَ الْعَمَل بهَا لشهرتها. لَا نقُول بِهِ، لأَنا لَا نلتزم شهرة تِلْكَ الْأَحَادِيث، فَالْأَصْل الَّذِي نَحن عَلَيْهِ فِيهِ الْكِفَايَة. وَقَوله: فَيُقَال لَهُم: وَحَدِيث الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين جَاءَ من طرق كَثِيرَة مَشْهُورَة، بل ثَبت من طرق صحيحية مُتعَدِّدَة، فَنَقُول: إِن كَانَ مُرَادهم بِهَذِهِ الشُّهْرَة الشُّهْرَة عِنْدهم فَلَا يلْزمنَا ذَلِك، وَإِن كَانَ المُرَاد الشُّهْرَة عِنْد الْكل فَلَا نسلم ذَلِك، لِأَن شهرتها عِنْد الْكل مَمْنُوعَة، فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان، وَلَئِن سلمنَا شهرتها فَالزِّيَادَة بهَا على الْقُرْآن لَا تخرج عَن كَونهَا نسخا، وَالَّذِي قَالَ هَؤُلَاءِ وَظِيفَة التَّوَاتُر فَلَا تَوَاتر أصلا.
قَوْله: فَمِنْهَا مَا أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِيَمِين وَشَاهد، وَقَالَ فِي التَّمْيِيز: إِنَّه حَدِيث صَحِيح لَا يرتاب فِي صِحَّته، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا مطْعن لأحد فِي صِحَّته وَلَا فِي إِسْنَاده.
وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بطرِيق الْمَنْع، وَهُوَ أَن مُسلما روى هَذَا الحَدِيث من حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان عَن قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره، وَذكر التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل الْكَبِير) : سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَنهُ، فَقَالَ: عَمْرو بن دِينَار لم يسمع عِنْدِي هَذَا الحَدِيث من ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قيس لَا نعلمهُ يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار بِشَيْء، فقد رمي الحَدِيث بالانقطاع فِي موضِعين من البُخَارِيّ بَين عَمْرو وَابْن عَبَّاس، وَمن الطَّحَاوِيّ بَين قيس وَعَمْرو، رد الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) على الطَّحَاوِيّ، وَأَشَارَ إِلَى أَن قيسا سمع من عَمْرو، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِرِوَايَة وهب بن جرير عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت قيس بن سعد يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، فَذكر الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا يبعد أَن يكون لَهُ عَن عَمْرو غير هَذَا.
قلت: لم يُصَرح أحد من أهل هَذَا الشَّأْن فِيمَا علمنَا أَن قيسا سمع من عَمْرو، لَا يلْزم من قَول جرير: سَمِعت قيسا يحدث عَن عَمْرو، أَن يكون قيس سمع ذَلِك من عَمْرو، وَذكر الذَّهَبِيّ سَيْفا فِي كِتَابه فِي (الضُّعَفَاء) وَقَالَ: رمي بِالْقدرِ، وَقَالَ فِي (الْمِيزَان) : ذكره ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وسَاق لَهُ هَذَا الحَدِيث. وَسَأَلَ عَبَّاس يحيى بن معِين عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَضعف أَحْمد بن حَنْبَل مُحَمَّد بن مُسلم، ثمَّ ذكر الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر من حَدِيث معَاذ بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عَبَّاس. قلت: رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ربيعَة ابْن عُثْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ الْأَسْلَمِيّ مَكْشُوف الْحَال، مرمي بِالْكَذِبِ وَغَيره من المصائب، وَرَبِيعَة هَذَا، قَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بذلك، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث.
وَالْجَوَاب الآخر: بطرِيق التَّسْلِيم، وَهُوَ أَنه من أَخْبَار الْآحَاد، فَلَا يجوز الزِّيَادَة بِهِ على النَّص.
قَوْله: وَمِنْهَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد. قلت: هَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد

(13/245)


ابْن أبي بكر أَبُو مُصعب الزُّهْرِيّ حَدثنَا الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالا: حَدِيث حسن غَرِيب. قُلْنَا: هَذَا حَدِيث مَعْلُول، لِأَن عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي قد سَأَلَ سهيلاً عَنهُ فَلم يعرفهُ، وَهَذَا قدح فِيهِ، لِأَن الْخصم يضعف الحَدِيث بِمَا هُوَ أدنى من ذَلِك، فَإِن قلت: يجوز أَن يكون رَوَاهُ ثمَّ نَسيَه. قلت: يجوز أَن يكون وهم فِي أول الْأَمر، وروى مَا لم يكن سَمعه، وَقد علمنَا أَن آخر أمره كَانَ جحوده وفقد الْعلم بِهِ، فَهُوَ أولى، وَقَالَ صَاحب (الْجَوْهَر النقي) : فِيهِ مَعَ نِسْيَان سُهَيْل أَنه قد اخْتلف عَلَيْهِ، فَرَوَاهُ زُهَيْر بن مُحَمَّد عَنهُ عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ.
قَوْله: وَمِنْهَا حَدِيث جَابر، مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة، أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَأَبُو عوَانَة قلت أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن اسماعيل بن جَعْفَر دحدثنا جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد. انْتهى، الأول مَرْفُوع، وَالثَّانِي مُرْسل، وَعبد الْوَهَّاب اخْتَلَط فِي آخر عمره، كَذَا ذكره ابْن معِين وَغَيره وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ ثِقَة وَفِيه ضعف. وَقَالَ ابْن الْمهْدي: أَرْبَعَة كَانُوا يحدثُونَ من كتب النَّاس وَلَا يحفظون ذَلِك الْحِفْظ، فَذكر مِنْهُم عبد الْوَهَّاب، وَقد خَالفه فِي هَذَا الحَدِيث من هُوَ أكبر مِنْهُ وأوثق كمالك وَغَيره، فَأَرْسلُوهُ. وَقَالَ صَاحب (التَّمْهِيد) : إرْسَاله أشهر. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ إِن الْمُرْسل أصح، وَكَذَا روى الثَّوْريّ عَن جَعْفَر عَن أَبِيه مُرْسلا، وَلِهَذَا ذكر فِي كتاب الْمعرفَة: أَن الشَّافِعِي لم يحْتَج بِهَذَا الحَدِيث فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، لذهاب بعض الْحفاظ إِلَى كَونه غَلطا، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَفِي الْبَاب عَن نَحْو من عشْرين من الصَّحَابَة، فِيهَا الحسان والضعاف، وَبِدُون ذَلِك تثبت الشُّهْرَة وَدَعوى نسخه مرودودة. قلت: الْجَواب ثُبُوت الشُّهْرَة بذلك، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَأما قَوْله: وَدَعوى نسخه مَرْدُودَة، فمردود لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ) ، وَقَوله: (الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر) يرد مَا قَالَه: وَكَذَا قَوْله: شَاهِدَاك أَو يَمِينه مَعَ ظَاهر الْقُرْآن، لِأَنَّهُ أوجب عِنْد عدم الرجلَيْن قبُول رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِذا وجد شَاهد وَاحِد فالرجلان معدومان، فَفِي قبُوله مَعَ الْيَمين نفي مَا اقتضته الْآيَة، وَيُؤَيّد قَول من يَدعِي النّسخ: إِن الْأَشْعَث إِنَّمَا وَفد سنة عشرَة، وَقد قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (شَاهِدَاك أَو يَمِينه) ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} (الْبَقَرَة: 282) . وَلَيْسَ الْمُدَّعِي بِشَاهِد وَاحِد مِمَّن يرضى بِاسْتِحْقَاق مَا يَدعِيهِ بقوله وَيَمِينه. وَزَعَمُوا أَن يَمِين الْمُدَّعِي قَائِمَة مقَام الْمَرْأَتَيْنِ، فعلى هَذَا، لَو كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيا فَأَقَامَ شَاهدا وَجب أَن لَا يقبل مِنْهُ، كَمَا لَو كَانَت المرإتان ذميتين.
وَأما الَّذِي رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَمنهمْ: ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَزيد بن ثَابت وَجَابِر بن عبد الله وَعلي بن أبي طَالب وسرق وَسعد بن عبَادَة وَعبد الله بن عَمْرو وَعَمْرو بن حزم والمغيرة بن شُعْبَة وزبيب بن ثَعْلَبَة وَعمارَة بن حزم وَعبد الله بن عمر وَرجل لَهُ صُحْبَة وَالزُّبَيْر بن الْعَوام، وَقد ذكرنَا أَحَادِيث: ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. أما حَدِيث زيد ابْن ثَابت فَأخْرجهُ ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن زيد بن ثَابت، أوردهُ ابْن عدي فِي تَرْجَمَة زُهَيْر بن مُحَمَّد، قَالَ: لم يقل: عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن زيد غَيره، وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : هَذَا خطأ، وَالصَّوَاب: عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ ابْن حبَان: زيد بن ثَابت وهم من زُهَيْر بن مُحَمَّد. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ ابْن عدي أَيْضا فِي تَرْجَمَة الْحَارِث بن مَنْصُور الوَاسِطِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: وَهَذَا لَا أعلم رَوَاهُ عَن الثَّوْريّ غير الْحَارِث. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَكَذَا روى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا. وَأما حَدِيث سرق فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن يزِيد مولى المنبعث عَن رجل من أهل مصر عَن سرق، أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أجَاز شَهَادَة الرجل وَيَمِين الطَّالِب، وَهَذَا فِيهِ مَجْهُول. وَأما حَدِيث سعد بن عبَادَة، فَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة ربيعَة ابْن أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ: قَالَ ربيعَة: وَأَخْبرنِي ابْن سعد بن عبَادَة، قَالَ: وجدنَا فِي كتاب سعد أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشاهذ، هَكَذَا رَوَاهُ غير مُسَمّى. وَأما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَرَوَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) وَابْن عدي أَيْضا من رِوَايَة

(13/246)


مُحَمَّد بن عبد الله بن عبيد بن عمر اللَّيْثِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ ابْن عدي: وَمُحَمّد هَذَا غير ثِقَة. وَأما حَدِيث عَمْرو بن حزم والمغيرة بن شُعْبَة فأخرجهما الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل بن سعد بن عبَادَة أَنه وجد كتابا فِي كتب آبَائِهِ، هَذَا مَا وَقع، أَو ذكر عَمْرو بن حزم والمغيرة بن شُعْبَة، قَالَا: بَينا نَحن عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل رجلَانِ يختصمان، مَعَ أَحدهمَا شَاهد لَهُ على حَقه، فَجعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمِين صَاحب الْحق مَعَ شَاهده فاقتطع بذلك حَقه. وَأما حَدِيث زبيب، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن ثَعْلَبَة الْعَنْبَري فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة شُعَيْب بن عبد الله بن زبيب الْعَنْبَري: حَدثنِي أبي قَالَ: سَمِعت جدي الزَّبِيب ... الحَدِيث مطولا، فَلْينْظر فِيهِ وَأوردهُ ابْن عدي فِي تَرْجَمَة شُعَيْب بن عبد الله، وَقَالَ: أَرْجُو أَنه يصدق فِيهِ. وَأما حَدِيث عمَارَة بن حزم فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن الْمطلب عَن سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل عَن جده أَنه قَالَ: كتاب وجدته فِي كتب سعيد بن سعد بن عبَادَة: أَن عمَارَة بن حزم شهد أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد، وَقد اخْتلف فِيهِ على عبد الْعَزِيز بن الْمطلب. وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ ابْن عدي من رِوَايَة أبي حذافة السَّهْمِي عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَقَالَ: هَذَا عَن مَالك بِهَذَا الْإِسْنَاد بَاطِل، وَقَالَ أَبُو عمر: حَدِيث أبي حذافة مُنكر. وَأما حَدِيث رجل لَهُ صُحْبَة فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث الشَّافِعِي: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن عُثْمَان عَن معَاذ بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عَبَّاس، وَآخر لَهُ صُحْبَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد يرمَى بِالْكَذِبِ، وَرَبِيعَة مُنكر الحَدِيث، قَالَه أَبُو حَاتِم. وَأما حَدِيث عبد الله بن الزبير فَذكره الْحَافِظ أَبُو سعيد مُحَمَّد بن عَليّ بن عَمْرو فِي كتاب (الشُّهُود) أَنبأَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى حَدثنَا الْحُسَيْن بن أَحْمد بن بسطَام حَدثنَا أَحْمد بن عَبدة حَدثنَا عباد عَن شُعَيْب بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن جده الزبير بن الْعَوام: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِيَمِين مَعَ الشَّاهِد.
فَإِن قلت: هَذِه الْأَحَادِيث دلّت على جَوَاز الحكم بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد، وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي الزِّنَاد عَن ابْن أبي صَفِيَّة الْكُوفِي: أَنه حضر شريحاً فِي مَسْجِد الْكُوفَة قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، وَعَن أبي الزِّنَاد: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز وشريحاً قضيا بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد، قَالَ أَبُو الزِّنَاد: كتب عمر إِلَى عبد الحميد ابْن عبد الرَّحْمَن، عَامله على الْمَدِينَة، أَن يقْضِي بِهِ. وَفِي (الْمحلى) روينَا عَن عمر بن الْخطاب أَنه قَالَ: قضى بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد الْوَاحِد. قَالَ: وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن يسَار وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأبي الزِّنَاد وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَإيَاس بن مُعَاوِيَة، وَيحيى ابْن معمر، وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة وَغَيرهم، وَقَالَ أَبُو عمر وَرُوِيَ عَن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن عمر وَالْقَضَاء بِالْيَمِينِ، وَإِن كَانَ فِي الْأَسَانِيد عَنْهَا ضعف. قلت: أما الْأَحَادِيث فقد وقفت على حَالهَا، وَأما هَؤُلَاءِ المذكورون فَإِن كَانَ روى عَنْهُم بأسانيد ضَعِيفَة، فقد روى عَن غَيرهم بأسانيد صِحَاح، أَنه لَا يجوز. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا حَمَّاد بن خَالِد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: هِيَ بِدعَة وَأول من قضى بهَا مُعَاوِيَة، وَهَذَا السَّنَد على شَرط مُسلم، وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: أول من قضى بِهِ عبد الْملك بن مَرْوَان، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِن حكم بِهِ قاضٍ نقض حكمه، وَهُوَ بِدعَة، وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة، فِيمَا مضى، عدم الْجَوَاز بِهِ.

8662 - حدَّثنا أَبُو نَعِيمٍ قَالَ حَدثنَا نافعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كتَبَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضاى باليَمِينِ على المُدَّعاى عَلَيْهِ.
(انْظُر الحَدِيث 4152 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة بَاب الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ، والْحَدِيث فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالْيَمِينِ على الْمُدعى عَلَيْهِ، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَنَافِع بن عمر بن عبد الله بن جميل الجُمَحِي الْقرشِي من أهل مَكَّة، مَاتَ بِمَكَّة، سنة تسع وَسِتِّينَ، وَمِائَة وَابْن أبي مليكَة: هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، وَقد تكَرر ذكره، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الرَّهْن عَن خَلاد بن يحيى عَن نَافِع بن عمر ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَفِيه حجَّة للحنفية أَن الْيَمين وَظِيفَة الْمُدعى عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا لَا ترد على الْمُدَّعِي، وَلَا يَمِين الِاسْتِظْهَار، وَلَا يَمِين بِشَاهِد وَاحِد.
وَقد أخرج الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عبد الله بن إِدْرِيس عَن ابْن جريج وَعُثْمَان بن الْأسود عَن ابْن أبي مليكَة، قَالَ: كنت قَاضِيا لِابْنِ الزبير على الطَّائِف، فَكتبت إِلَى ابْن عَبَّاس، فَكتب إِلَيّ: أَن رَسُول

(13/247)


الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى رجال أَمْوَال قوم ودماءهم، وَلَكِن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر) ، وَهَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وإسنادها حسن، وَقد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحِكْمَة فِي كَون الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ، بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى رجال أَمْوَال قوم ودماءهم) .
وَقيل: الْحِكْمَة فِي كَون الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي لِأَن جَانِبه ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقُول خلاف الظَّاهِر فيتقوى بهَا، وجانب الْمُدعى عَلَيْهِ قوي، لِأَن الأَصْل فرَاغ ذمَّته، فَاكْتفى مِنْهُ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا حجَّة ضَعِيفَة. فَإِن قلت: قَالَ الْأصيلِيّ: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا لَا يَصح مَرْفُوعا، إِنَّمَا هُوَ قَول ابْن عَبَّاس: كَذَا رَوَاهُ أَيُّوب وَنَافِع الجُمَحِي عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس، قلت: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من رِوَايَة ابْن جريج مَرْفُوعا، وَهَذَا يَكْفِي لصِحَّة الرّفْع، وَمَعَ هَذَا فَإِن كَانَ مُرَاد الْأصيلِيّ جَمِيع الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فَلَا يَصح، لِأَن الْمِقْدَار الَّذِي أخرجه الشَّيْخَانِ مُتَّفق على صِحَّته، وَإِن كَانَ مُرَاده هَذِه الزِّيَادَة، وَهِي قَوْله: لَو يعْطى النَّاس ... إِلَى آخِره، فَغَرِيب فَافْهَم.

(بابٌ)
قد مر غير مرّة أَن الْبَاب إِذا كَانَ مَذْكُورا مُجَردا يكون كالفصل فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَقد ذكرنَا أَيْضا أَن لفظ: الْكتاب، يجمع على الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول، وَبَاب هُنَا غير مُعرب، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد، والتركيب أللهم إلاَّ إِذا قُلْنَا: التَّقْدِير: هَذَا بَاب، فَحِينَئِذٍ يكون مَرْفُوعا على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَلَيْسَ هَذَا بمذكور فِي كثير من النّسخ.

0762 - حدَّثنا عُثْمَانِ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَريرٌ عنْ مَنْصُور عنْ أبِي وائلٍ قَالَ قَالَ عبدُ الله مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ يَسْتَحقُّ بهَا مَالا لَقِيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ثُمَّ أنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ تَصْدِيقَ ذالِكَ إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمانِهِمْ إِلَى عَذابٌ ألِيمٌ ثُمَّ إنَّ الأشْعَثَ بنَ قَيْسٍ خَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ فَحَدَّثْناهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ صَدقَ لَفِيَّ أُنْزِلَتْ كانَ بَيْنِي وبيْنَ رجُل خُصُومَةٌ فِي شَيْءٍ فاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ شاهِدَاكَ أوْ يَمينُهُ فقُلْتُ لهُ إنَّهُ إذَاً يَحْلِفَ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ حَلَفَ علَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِها مَالا وهْوَ فِيهَا فاجِرٌ لَقِيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فأنْزَلَ الله تَصْدِيقَ ذالِكَ ثُمَّ اقْتَرأَ هَذِهِ الآيَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: شَاهِدَاك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاطب بذلك الْأَشْعَث، وَكَانَ هُوَ الْمُدَّعِي، فَجعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي الرَّهْن فِي: بَاب إِذا اخْتلف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن، غير أَن هُنَاكَ أخرجه: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير ... إِلَى آخِره، وَهَهُنَا: عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْحصْر على رد الْقَضَاء بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد. وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (شَاهِدَاك) على رجل وَيَمِين الطَّالِب
أَي: بينتك، سَوَاء كَانَت رجلَيْنِ أَو رجلا وَامْرَأَتَيْنِ أَو رجلا وَيَمِين الطَّالِب. انْتهى. قلت: هَذَا تَأْوِيل غير صَحِيح، فسبحان الله كَيفَ يدل. قَوْله: (شَاهِدَاك) ، شَاهِدَاك بِالْبَيِّنَةِ، وَالْبَيِّنَة قد عرفت بِالنَّصِّ أَنَّهَا: رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ، لَيْسَ إلاَّ وَتَخْصِيص لفظ: الشَّاهِدين، لِكَوْنِهِمَا أَكثر وأغلب، فَافْهَم. وَالله أعلم.

12 - (بابٌ إِذا إدَّعى أَو قَذَفَ فلَهُ أنْ يَلْتَمِسَ البَيِّنَةَ ويَنْطَلِقَ لِطَلَبِ البَيِّنَةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا ادّعى رجل بِشَيْء على آخر. قَوْله: (أَو قذف) أَي: أَو قذف رجل رجلا أَو قذف امْرَأَته بِأَن رَمَاهَا بِالزِّنَا. قَوْله: (فَلهُ) أَي: فَلهَذَا الْمُدَّعِي أَو لهَذَا الْقَاذِف وَالضَّمِير هُنَا مثل الضَّمِير فِي قَوْله: {اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) . فَإِن هُوَ يرجع

(13/248)


إِلَى الْعدْل الَّذِي يدل عَلَيْهِ: إعدلوا، وَكَذَلِكَ قَوْله: أدعى، يدل على الْمُدَّعِي، وَقَوله: أَو قذف، يدل على الْقَاذِف. قَوْله: (وينطلق) بِالنّصب عطفا على قَوْله: (أَن يلْتَمس) وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن لَهُ حق المهلة فِي التمَاس الْبَيِّنَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون من بَاب اللف والنشر، وخصص هَذَا بالقسم الثَّانِي أَي: الْقَذْف مُوَافقَة للفظ الحَدِيث. قلت: هُوَ قَوْله: فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِذا رأى أَحَدنَا على امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة؟ ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ هَذَا، فَمن أَيْن علم حكم الادعاء؟ قلت: بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
35 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن هِشَام قَالَ حَدثنَا عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشريك بن سمحاء فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ يَا رَسُول الله إِذا رأى أَحَدنَا على امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة فَجعل يَقُول الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد فِي ظهرك فَذكر حَدِيث اللّعان) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة فَإِن قلت الحَدِيث ورد فِي الزَّوْجَيْنِ والترجمة أَعم من ذَلِك والانطلاق لالتماس الْبَيِّنَة لتمكين الْقَاذِف من إِقَامَة الْبَيِّنَة حَتَّى ينْدَفع الْحَد عَنهُ وَلَيْسَ الْأَجْنَبِيّ كَذَلِك (قلت) كَانَ ذَلِك قبل نزُول آيَة اللّعان حَيْثُ كَانَ الزَّوْج وَالْأَجْنَبِيّ سَوَاء ثمَّ كَمَا ثَبت للقاذف ذَلِك ثَبت لكل مُدع بطرِيق الأولى وَمُحَمّد بن بشار بتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة قد تكَرر ذكره وَابْن أبي عدي بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة هُوَ مُحَمَّد بن أبي عدي واسْمه إِبْرَاهِيم وَهِشَام هُوَ ابْن حسان القردوسي الْبَصْرِيّ والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير وَفِي الطَّلَاق وَأَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق وَالتِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير وَالطَّلَاق كلهم عَن بنْدَار وَهُوَ مُحَمَّد بن بشار الْمَذْكُور (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " هِلَال بن أُميَّة " بن عَامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عَامر بن كَعْب بن وَاقِف واسْمه مَالك بن امرىء الْقَيْس بن مَالك بن الأوسي الْأنْصَارِيّ الوَاقِفِي شهد بَدْرًا وأحدا وَكَانَ قديم الْإِسْلَام وَأمه أنيسَة بنت هدم أُخْت كُلْثُوم بن الْهدم الَّذِي نزل عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم الْمَدِينَة مُهَاجرا وَهُوَ الَّذِي لَاعن امْرَأَته على مَا نذكرهُ وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك وَقَالَ الطَّبَرِيّ والمهلب بن أبي صفرَة يستنكر قَوْله فِي الحَدِيث هِلَال بن أُميَّة وَإِنَّمَا الْقَاذِف عُوَيْمِر الْعجْلَاني وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة فِي شعْبَان سنة تسع منصرف سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من تَبُوك وَقَالَ الْمُهلب وَأَظنهُ غلط من هِشَام بن حسان وَمِمَّا يدل على أَنَّهَا قَضِيَّة وَاحِدَة توقف سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى أنزل الله عز وَجل الْآيَة وَلَو أَنَّهُمَا قضيتان لم يتَوَقَّف عَن الحكم فيهمَا وَالْحكم فِي الثَّانِيَة بِمَا أنزل الله تَعَالَى قلت لم ينْفَرد بِهِ هِشَام بل تَابعه عباد بن مَنْصُور ذكره التِّرْمِذِيّ وَقَالَ وَرَوَاهُ عباد بن مَنْصُور عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مُتَّصِلا وَرَوَاهُ أَيُّوب عَن عِكْرِمَة مُرْسلا وَلم يذكر ابْن عَبَّاس وروى الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره قَالَ حَدثنَا أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن مُحَمَّد حَدثنَا جرير بن حَازِم عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قذف هِلَال امْرَأَته قيل لَهُ ليجلدنك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِينَ جلدَة فَنزلت لَهُ الْآيَة الحَدِيث مطولا وَلما رَوَاهُ الْحَاكِم كَذَلِك من حَدِيث الْحسن بن مُحَمَّد الْمروزِي عَن جرير بِهِ قَالَ صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره عَن عباد عَن عَطاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ الْخَطِيب حَدِيث هِلَال وعويمر صَحِيحَانِ فلعلهما اتفقَا مَعًا فِي مقَام وَاحِد أَو مقامين وَنزلت الْآيَة الْكَرِيمَة فِي تِلْكَ الْحَال لَا سِيمَا وَفِي حَدِيث عُوَيْمِر كره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّائِل يدل على أَنه سبق بِالْمَسْأَلَة مَعَ مَا روينَا عَن جَابر أَنه قَالَ مَا نزلت آيَة اللّعان إِلَّا لِكَثْرَة السُّؤَال وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ الْأَكْثَرُونَ على أَن قَضِيَّة هِلَال أسبق من قَضِيَّة عُوَيْمِر وَالنَّقْل فيهمَا مشتبه مُخْتَلف وَقَالَ ابْن الصّباغ فِي الشَّامِل قصَّة هِلَال تبين الْآيَة نزلت فِيهِ أَولا وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعويمر " إِن الله أنزل فِيك وَفِي صَاحبَتك " مَعْنَاهُ مَا نزل فِي قَضِيَّة هِلَال لِأَن ذَلِك حكم عَام لجَمِيع الْمُسلمين

(13/249)


قَالَ النَّوَوِيّ ولعلها نزلت فيهمَا جَمِيعًا لاحْتِمَال سؤالهما فِي وَقْتَيْنِ متقاربين فَنزلت وَسبق هِلَال بِاللّعانِ قَوْله " قذف " الْقَذْف فِي اللُّغَة الرَّمْي بِقُوَّة وَلَكِن المُرَاد هُنَا رمي الْمَرْأَة بِالزِّنَا أَو مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ يُقَال قذف يقذف قذفا فَهُوَ قَاذف قَوْله " امْرَأَته " زعم مقَاتل فِي تَفْسِيره أَن الْمَرْأَة اسْمهَا خَوْلَة بنت قيس الْأَنْصَارِيَّة قَوْله " بِشريك بن سمحاء " سمحاء أمه وَأَبُو عَبدة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن معتب بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة كَذَا ضَبطه الشَّيْخ مُحي الدّين رَحمَه الله تَعَالَى وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ مغيث بالغين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة ابْن الْجد بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الدَّال ابْن عجلَان بن حَارِثَة بن ضبيعة البلوي وَهُوَ ابْن عَم معن وَعَاصِم بن عدي بن الْجد وَهُوَ حَلِيف الْأَنْصَار وَهُوَ صَاحب اللّعان قيل أَنه شهد مَعَ أَبِيه أحدا وَهُوَ أَخُو الْبَراء بن مَالك لأمه وَهُوَ الَّذِي قذفه هِلَال بن أُميَّة بامرأته وَعَن أنس أَنه أول من لَاعن فِي الْإِسْلَام وَإِنَّمَا سميت أمه سمحاء لسوادها قيل اسْمهَا لبينة وَقيل مانية بنت عبد الله قَوْله " الْبَيِّنَة " بِالنّصب أَي أحضر الْبَيِّنَة أَو أقمها وَيجوز الرّفْع على معنى الْوَاجِب عَلَيْك الْبَيِّنَة قَوْله " أَو حد " أَي الْوَاجِب عِنْد عدم الْبَيِّنَة حد فِي ظهرك ويروي الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد أَي وَإِن لم تحضر الْبَيِّنَة أَو إِن لم تقمها فجزاؤك حد فِي ظهرك والجزء الأول من الْجُمْلَة الجزائية وَالْفَاء محذوفان وَكلمَة فِي بِمَعْنى على أَي على ظهرك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي عَلَيْهَا قَوْله " يلْتَمس الْبَيِّنَة " جملَة حَالية من الالتماس وَهُوَ الطّلب قَوْله " فَجعل يَقُول " أَي فَجعل الرَّسُول يَقُول الْمَعْنى أَنه يُكَرر قَوْله الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك قَوْله فَذكر حَدِيث اللّعان أَي فَذكر ابْن عَبَّاس حَدِيث اللّعان وَهُوَ الَّذِي ذكره البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير فِي سُورَة النُّور وَالَّذِي ذكره هُنَا قِطْعَة مِنْهُ وَذكره بالسند الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن بشار الْمَذْكُور من قَوْله أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ هِلَال وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق فلينزلن الله مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأنزل عَلَيْهِ {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} فَقَرَأَ حَتَّى بلغ {إِن كَانَ من الصَّادِقين} فَانْصَرف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأرْسل إِلَيْهَا فجَاء هِلَال فَشهد وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " إِن الله يعلم أَن أَحَدكُمَا كَاذِب فَهَل مِنْكُمَا تائب " ثمَّ قَامَت فَشَهِدت فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْخَامِسَة وقفوها وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجبَة قَالَ ابْن عَبَّاس فتلكأت وَنَكَصت حَتَّى ظننا أَنَّهَا ترجع ثمَّ قَالَت لَا أفضح قومِي سَائِر الْيَوْم فمضت فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أبصروها فَإِن جَاءَت بِهِ أكحل الْعَينَيْنِ سابغ الأليتين خَدلج السَّاقَيْن فَهُوَ لِشَرِيك بن سمحاء " فَجَاءَت بِهِ كَذَلِك فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن " وَأَبُو دَاوُد لَهُ طَرِيقَانِ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أَحدهمَا عَن مُحَمَّد بن بشار إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ شَيخا وسندا ومتنا وَالْآخر عَن الْحسن بن عَليّ قَالَ حَدثنَا يزِيد بن هرون قَالَ أخبرنَا عباد بن مَنْصُور عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ جَاءَ هِلَال بن أُميَّة وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين تَابَ الله عَلَيْهِم فجَاء من أرضه عشَاء فَوجدَ عِنْد أَهله رجلا فَرَأى بِعَيْنيهِ وَسمع بأذنيه فَلم يهجه حَتَّى أصبح ثمَّ غَدا على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنِّي جِئْت أَهلِي عشَاء فَرَأَيْت عِنْدهم رجلا فَرَأَيْت بعيني وَسمعت بأذني فكره رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنزلت {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا نفسهم فشهادة أحدهم أَربع شَهَادَات} الْآيَتَيْنِ كلتيهما فسرى عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " أبشر يَا هِلَال قد جعل الله لَك فرجا ومخرجا " قَالَ هِلَال قد كنت أَرْجُو ذَلِك من رَبِّي فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرْسلُوا إِلَيْهَا فَجَاءَت فَتلا عَلَيْهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذكرهما وأخبرهما أَن عَذَاب الْآخِرَة أَشد من عَذَاب الدُّنْيَا فَقَالَ هِلَال وَالله لقد صدقت عَلَيْهَا فَقَالَت كذب فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَاعِنُوا بَينهمَا " فَقيل لهِلَال اشْهَدْ فَشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه أَنه لمن الصَّادِقين فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسَة قيل لَهُ يَا هِلَال اتَّقِ الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَإِن هَذِه الْمُوجبَة الَّتِي توجب عَلَيْك الْعَذَاب فَقَالَ وَالله لَا يُعَذِّبنِي الله عَلَيْهَا كَمَا لم يجلدني عَلَيْهَا فَشهد الْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين ثمَّ قيل لَهَا اشهدي فَشَهِدت أَربع شَهَادَات بِاللَّه أَنه لمن الْكَاذِبين فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسَة قيل لَهَا اتقِي الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَأَن هَذِه الْمُوجبَة الَّتِي توجب عَلَيْك الْعَذَاب فتلكأت سَاعَة ثمَّ قَالَت وَالله لَا أفضح قومِي فَشَهِدت الْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين فَفرق رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَينهمَا وَقضى أَن لَا يدعى وَلَدهَا لأَب وَلَا ترمى وَلَا يرْمى وَلَدهَا وَمن رَمَاهَا أَو رمى وَلَدهَا فَعَلَيهِ الْحَد وَقضى أَن لَا بَيت عَلَيْهِ وَلَا قوت من أجل أَنَّهُمَا يتفرقان

(13/250)


من غير طَلَاق وَلَا متوفي عَنْهَا وَقَالَ إِن جَاءَت بِهِ أُصَيْهِب أريصح أثيبج حمش السَّاقَيْن فَهُوَ لهِلَال وَإِن جَاءَت بِهِ أَوْرَق جَعدًا جمالِيًّا خَدلج السَّاقَيْن سابغ الأليتين فَهُوَ للَّذي رميت بِهِ فَجَاءَت بِهِ أَوْرَق جَعدًا جمالِيًّا خَدلج السَّاقَيْن سَابق الأليتين فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن قَالَ عِكْرِمَة فَكَانَ بعد ذَلِك أَمِيرا على مصر وَمَا يدعى لأَب ولنذكر تَفْسِير مَا وَقع فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة من الْأَلْفَاظ الغريبة قَوْله الْمُوجبَة أَي توجب الْعَذَاب. قَوْله فتلكأت أَي تبطأت عَن إتْمَام اللّعان. قَوْله وَنَكَصت أَي رجعت إِلَى وَرَائِهَا وَهُوَ الْقَهْقَرَى يُقَال نكص يَنْكص من بَاب نصر ينصر. قَوْله لَا أفضح بِضَم الْهمزَة من الإفضاح. قَوْله سابغ الأليتين أَي تامهما وعظيمهما من سبوغ الثَّوْب وَالنعْمَة. قَوْله خَدلج السَّاقَيْن أَي عظيمهما. قَوْله لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ويدرؤ عَنْهَا الْعَذَاب} . قَوْله فَلم يهجه أَي لم يزعجه وَلم ينفره من هاج الشَّيْء يهيج هيجا واهتاج أَي ثار وهاجه غَيره. قَوْله أُصَيْهِب تَصْغِير أصهب وَكَذَا فِي رِوَايَة أصهب بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ الَّذِي تعلو لَونه صهبة وَهِي كالشقرة وَقَالَ الْخطابِيّ وَالْمَعْرُوف أَن الصهبة مُخْتَصَّة بالشعر وَهِي حمرَة يعلوها سَواد. قَوْله أريصح تَصْغِير الأرصح وَهُوَ الناتىء الأليتين ومادته رَاء وصاد وحاء مهملتان وَيجوز بِالسِّين قَالَه الْهَرَوِيّ وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الأرسخ والأرصح هُوَ الْخَفِيف لحم الأليتين قَوْله أثيبج تَصْغِير الأثبج وَهُوَ الناتىء الثبج أَي مَا بَين الْكَتِفَيْنِ والكاهل ومادته الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم. قَوْله حمش السَّاقَيْن أَي دقيقهما يُقَال رجل حمش السَّاقَيْن وأحمش السَّاقَيْن ومادته حاء مُهْملَة وَمِيم وشين مُعْجمَة. قَوْله أَوْرَق أَي أسمر والورقة السمرَة يُقَال جمل أَوْرَق وناقة وَرْقَاء. قَوْله جعد الْجَعْد فِي صِفَات الرِّجَال يكون مدحا وذما فالمدح مَعْنَاهُ أَن يكون شَدِيد الْأسر والخلق أَو يكون جعد الشّعْر وَهُوَ ضد السبط لِأَن السبوطة أَكْثَرهَا فِي شُعُور الْعَجم وَأما الذَّم فَهُوَ الْقصير المتردد الْخلق. قَوْله جمالِيًّا بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْيَاء الضخم الْأَعْضَاء التَّام الأوصال (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) أجمع الْعلمَاء على صِحَة اللّعان وَاللّعان عندنَا شَهَادَات مؤكدات بالأيمان مقرونة بِاللّعانِ قَائِمَة مقَام الْقَذْف فِي حَقه وَلِهَذَا يشْتَرط كَونهَا مِمَّن يحد قاذفها وَلَا يقبل شَهَادَته بعد اللّعان أبدا وقائمة مقَام حد الزِّنَا فِي حَقّهَا وَلِهَذَا لَو قَذفهَا مرَارًا يَكْفِي لعان وَاحِد كالحد وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد هِيَ أَيْمَان مؤكدات بِلَفْظ الشَّهَادَة فَيشْتَرط أَهْلِيَّة الْيَمين عِنْدهم فَيجْرِي بَين الْمُسلم وَامْرَأَته الْكَافِرَة وَبَين الْكَافِر وَامْرَأَته الْكَافِرَة وَبَين العَبْد وَامْرَأَته وَعِنْدنَا يشْتَرط أَهْلِيَّة الشَّهَادَة فَلَا يجْرِي إِلَّا بَين الْمُسلمين الحرين العاقلين الْبَالِغين غير محدودين فِي قذف لقَوْله تَعَالَى {فشهادة أحدهم} وَيجْرِي عندنَا بَين الْفَاسِق وَامْرَأَته وَبَين الْأَعْمَى وَامْرَأَته لِأَن هَذِه الشَّهَادَة مَشْرُوعَة فِي مَوَاضِع التُّهْمَة وَإِن كَانَ لَا يقبل شَهَادَة الْفَاسِق وَالْأَعْمَى فِي سَائِر الْمَوَاضِع وَالشّرط أَيْضا كَون الْمَرْأَة مِمَّن يحد قاذفها فَلَا بُد من إحصانها وَالشّرط أَيْضا أَن يكون الْقَذْف بِالزِّنَا بِأَن يَقُول أَنْت زَانِيَة أَو زَنَيْت وَلَو قَذفهَا بِغَيْر الزِّنَا لَا يجب اللّعان وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْأَكْثَر على أَنَّهُمَا بفراغهما من اللّعان يَقع التَّحْرِيم المؤبد وَلَا تحل لَهُ أبدا وَإِن أكذب نَفسه مُتَمَسِّكِينَ بقوله لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا وَرُبمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن شهَاب لمضت سنة المتلاعنين أَن يفرق بَينهمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه إِذا التعنا بَانَتْ بتفريق الْحَاكِم حَتَّى لَو مَاتَ أَحدهمَا قبل حكم الْحَاكِم وَرثهُ الآخر وَقَالَ زفر لَا تقع الْفرْقَة إِلَّا إِذا تلاعنا جَمِيعًا فَإِذا تلاعنا وَقعت بِغَيْر قَضَاء وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَعبيد الله بن الْحسن التَّفْرِيق تَطْلِيقَة بَائِنَة حَتَّى إِذا أكذب نَفسه جَازَ نِكَاحهَا وَعند أبي يُوسُف تَحْرِيم مؤبد وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَزفر. وَقَالَ عُثْمَان البتي لَا تَأْثِير للعان فِي الْفرْقَة وَإِنَّمَا يسْقط النّسَب وَالْحَد وهما على الزَّوْجِيَّة كَمَا كَانَا حَتَّى يطلقهَا وَحَكَاهُ الطَّبَرِيّ أَيْضا عَن جَابر بن زيد قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ قَالَ مَالك وَالْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث أَي مِنْهُمَا نكل حد إِن كَانَ الزَّوْج فللقذف وَلها فللزنا وَعَن الشّعبِيّ وَالضَّحَّاك وَمَكْحُول إِذا أَبَت رجمت وَأيهمَا نكل حبس حَتَّى يُلَاعن وَذكر ذَلِك عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي بقوله قذف امْرَأَته بِشريك بن سمحاء على أَنه لَا حد على الرَّامِي زَوجته إِذا سمى الَّذِي رَمَاهَا بِهِ ثمَّ التعن وَعند مَالك يحد وَلَا يكْتَفى بلعانه وَاعْتذر بعض أَصْحَابه عَن حَدِيث شريك بِأَن شَرِيكا لم يطْلب حَقه. وَزعم أَبُو بكر الرَّازِيّ أَنه كَانَ حد الْقَاذِف

(13/251)


الْجلد بِدلَالَة قَوْله " الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد فِي ظهرك " وَأَنه نسخ الْجلد إِلَى اللّعان. وَفِيه فِي قَوْله لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله أَن الحكم إِذا وَقع بِشَرْطِهِ لَا ينْقض وَإِن بَين خِلَافه إِذا لم يَقع خلل أَو تَفْرِيط فِي شَيْء وَفِيه فِي قَوْله الْبَيِّنَة وَإِلَّا حد فِي ظهرك مُرَاجعَة الْخصم الإِمَام إِذا رجا أَن يظْهر لَهُ خلاف مَا قَالَ لَهُ لِأَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا كالفتيا وَفِيه أَن الْحُدُود والحقوق يَسْتَوِي فِيهِ الصَّالح وَغَيره قَالَه الدَّاودِيّ (فَإِن قلت) لم سمي هَذَا الحكم لعانا وَلم اختير لفظ اللَّعْن على لفظ الْغَضَب وَمَا الْحِكْمَة فِي مشروعيته (قلت) أما التَّسْمِيَة بِاللّعانِ فلقول الزَّوْج عَليّ لعنة الله إِن كنت من الْكَاذِبين وَاللّعان والتلاعن والملاعنة وَاحِد يُقَال تلاعنا والتعنا ولاعن القَاضِي بَينهمَا وَقيل سمي لعانا لِأَنَّهُ من اللَّعْن وَهُوَ الطَّرْد والإبعاد وَلَا شكّ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يبعد عَن صَاحبه وَأما وَجه اخْتِيَار لفظ اللَّعْن على لفظ الْغَضَب فَلِأَن لفظ اللَّعْن مقدم فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَفِي صُورَة اللّعان وَلِأَن جَانب الرجل فِيهِ أقوى من جَانب الْمَرْأَة لِأَنَّهُ قَادر على الِابْتِدَاء بِاللّعانِ دونهَا وَأَنه قد يَنْفَكّ لِعَانه عَن لعانها وَلَا ينعكس وَأما مَشْرُوعِيَّة اللّعان فلحفظ الْأَنْسَاب وَدفع المعرة عَن الْأزْوَاج (فَإِن قلت) فَلم جعل اللَّعْن للرجل وَالْغَضَب للْمَرْأَة (قلت) لِأَن الْإِنْسَان لَا يُؤثر أَن يهتك زوجه بالمحال -
22 - (بابُ اليَمِينِ بعْدَ العَصْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي الْخَبَر من الْيَمين بعد الْعَصْر.

2762 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ الله ولاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ رَجُلٌ عَلى فَضْلِ ماءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابنَ السَّبِيلِ ورَجُلٌ بايَعَ رَجُلاً لَا يُبَايِعُهُ إلاَّ لِلدُّنْيَا فإنْ أعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وإلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ ورَجُلٌ ساوَمَ رَجَلاً بِسِلْعةٍ بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّه لَقدْ أعْطَى بهِ كَذَا وكَذَا فأخذَهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان. والْحَدِيث مضى فِي الشّرْب فِي: بَاب الْخُصُومَة فِي الْبِئْر، بأتم مِنْهُ. قَوْله: (بعد الْعَصْر) ، قد ذكرنَا أَن تَخْصِيص هَذَا الْوَقْت بتعظيم الْإِثْم على من حلف فِيهِ كَاذِبًا لشهود مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فِي هَذَا الْوَقْت، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: لِأَن فِيهِ ارْتِفَاع الْأَعْمَال، لِأَن هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة يشْهدُونَ بعد صَلَاة الصُّبْح أَيْضا. قَوْله: (بِهِ) ، أَي: بالمتاع الَّذِي يدل عَلَيْهِ السّلْعَة، ويروى: بهَا، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله: (فَأَخذهَا) فِيهِ حذف، أَي: أَخذ الرجل الثَّانِي، وَهُوَ المُشْتَرِي السّلْعَة بذلك الثّمن اعْتِمَادًا على حلفه.

32 - (بابٌ يَحْلِفُ المُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا تَوَجَّهت عَلَيْهِ الْيَمين يحلف حَيْثُ مَا وَجَبت عَلَيْهِ، وَلَا يصرف من مَوْضِعه ذَلِك، وَهَذَا قَول الْحَنَفِيَّة والحنابلة، وَإِلَيْهِ مَال البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: جملَة مَذْهَب مَالك فِي هَذَا أَن الْيَمين لَا تكون عِنْد الْمِنْبَر من كل جَامع، وَلَا فِي الْجَامِع حَيْثُ كَانَ، إلاَّ فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا، وَمَا دون ذَلِك حلف فِي مجْلِس الْحَاكِم، أَو حَيْثُ شَاءَ من الْمَوَاضِع فِي السُّوق أَو غَيرهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة. قَالَ: وَلَا يعرف مَالك منبراً إلاَّ مِنْبَر الْمَدِينَة فَقَط، قَالَ: وَمن أَبى أَن يحلف عِنْده فَهُوَ كالناكل عَن الْيَمين، وَيحلف فِي أَيْمَان الْقسَامَة عِنْد مَالك إِلَى مَكَّة، شرفها الله وعظمها، كل من كَانَ من أَهلهَا فَيحلف بَين الرُّكْن وَالْمقَام، وَكَذَلِكَ الْمَدِينَة، وَيحلف عِنْد الْمِنْبَر، وَحكى أَبُو عبيد: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز حمل قوما إتهمهم بفلسطين إِلَى الصَّخْرَة، فَحَلَفُوا عِنْدهَا. وَقَالَ أَبُو عمر: وَذهب الشَّافِعِي إِلَى نَحْو قَول مَالك: إلاَّ أَن الشَّافِعِي لَا يرى الْيَمين عِنْد مِنْبَر الْمَدِينَة، وَلَا بَين الرُّكْن وَالْمقَام بِمَكَّة إلاَّ فِي عشْرين دِينَارا فَصَاعِدا وَقَالَ أَبُو حنيفَة وصاحباه: لَا يجب الِاسْتِحْلَاف عِنْد مِنْبَر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أحد، وَلَا بَين الرُّكْن وَالْمقَام على أحد فِي قَلِيل الْأَشْيَاء وَلَا فِي كثيرها، وَلَا فِي الدِّمَاء وَلَا

(13/252)


غَيرهَا، لَكِن الْحُكَّام يحلِّفون من وَجب عَلَيْهِ الْيَمين فِي مجَالِسهمْ.
قَضَى مَرْوَانُ باليَمِينِ علَى زَيْدِ بنِ ثابِتٍ علَى المِنْبَرِ فَقَالَ أحْلِفُ لَهُ مَكانِي فجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ وأبَى أنْ يَحْلِفَ علَى المِنْبَرِ فجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ

مَرْوَان هُوَ ابْن الحكم الْأمَوِي، كَانَ وَالِي الْمَدِينَة من جِهَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن دَاوُد ابْن الْحصين: سمع أَبَا غطفان بن طريف الْمزي، قَالَ: اخْتصم زيد بن ثَابت وَابْن مُطِيع يَعْنِي: عبد الله إِلَى مَرْوَان فِي دَار، فَقضى بِالْيَمِينِ على زيد على الْمِنْبَر، فَقَالَ: أَحْلف لَهُ مَكَاني. فَقَالَ مَرْوَان: لَا وَالله إلاَّ عِنْد مقاطع الْحُقُوق، فَجعل زيد يحلف أَن حَقه لحق ويأبى أَن يحلف على الْمِنْبَر، فَجعل مَرْوَان يعجب من ذَلِك، قَالَ مَالك: لَا أرى أَن يحلف على الْمِنْبَر فِي أقل من ربع دِينَار، وَذَلِكَ ثَلَاثَة دَرَاهِم. قَوْله: (على الْمِنْبَر) يتَعَلَّق بقوله: على الْمِنْبَر ظَاهرا، لَكِن السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يتَعَلَّق بِالْيَمِينِ. قَوْله: (أَحْلف) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا بِلَفْظ الْأَمر أَيْضا. قَوْله: (فَجعل) بِمَعْنى: طفق، من أَفعَال المقاربة، وروى ابْن جريج عَن عِكْرِمَة، قَالَ: أبْصر عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قوما يحلفُونَ بَين الْمقَام وَالْبَيْت، فَقَالَ: أَعلَى دم؟ قيل: لَا، قَالَ: أفعلى عَظِيم من المَال؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لقد خشيت أَن يتهاون النَّاس بِهَذَا الْمقَام. قَالَ: ومنبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي التَّعْظِيم مثل ذَلِك، لما ورد فِيهِ من الْوَعيد على من حلف عِنْده بِيَمِين كَاذِبَة.
واحتيج أَبُو حنيفَة بِمَا رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت أَنه: لم يحلف عِنْد الْمِنْبَر، وَمن يرى ذَلِك مَال إِلَى قَول مَرْوَان بِغَيْر حجَّة، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَاحْتج عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَقَالَ: لَو لم يعلم زيد أَن الْيَمين عِنْد الْمِنْبَر سُنَّة، لأنكر ذَلِك على مَرْوَان، وَقَالَ لَهُ: لَا وَالله لَا عَلَيْهِ أَحْلف إلاَّ فِي مجلسك. انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب! كَيفَ يَقُول هَذَا؟ فَلَو علم زيد أَنه سُنَّة لما حلف على أَنه لَا يحلف إلاَّ فِي مَجْلِسه، وَعدم سَمَاعه كَلَام مَرْوَان أعظم من الْإِنْكَار عَلَيْهِ صَرِيحًا، والاحتجاج بزيد بن ثَابت أولى بالاحتجاج، بل أَحَق من مَرْوَان. وَقد اخْتلف فِي الَّذِي يغلظ فِيهِ من الْحُقُوق، فَعَن مَالك: ربع دِينَار، وَعَن الشَّافِعِي: عشرُون دِينَارا فَأكْثر، وَنقل القَاضِي فِي مغربته

عَن بعض الْمُتَأَخِّرين: أَنه يغلظ فِي الْقَلِيل وَالْكثير، وَقَالَ ابْن الْجلاب: يحلف على أقل من ربع دِينَار فِي سَائِر الْمَسَاجِد، وَقَالَ مَالك: فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْقَاسِم عَنهُ: أَنه يحلف قَائِما إلاَّ من بِهِ عِلّة، وروى عَنهُ ابْن كنَانَة: لَا يلْزمه الْقيام، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة، وَخَالفهُ مطرف وَابْن الْمَاجشون، وَهل يحلف فِي دبر صَلَاة وَحين اجْتِمَاع النَّاس إِذا كَانَ المَال كثيرا؟ قَالَ ابْن الْقَاسِم ومطرف وَابْن الْمَاجشون وَأصبغ: لَيْسَ ذَلِك عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن كنَانَة عَن مَالك: يتحَرَّى بِهِ السَّاعَات الَّتِي يحضر النَّاس فِيهَا الْمَسَاجِد ويجتمعون للصَّلَاة.
وَاخْتلف فِي صفة مَا يحلف بِهِ، فَقَالَ مَالك: بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة، الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَقَالَ الشَّافِعِي: يزِيد: الَّذِي يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور، وَالَّذِي يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة. قَالَ سَحْنُون: يحلف بِاللَّه وبالمصحف، ذكره عَنهُ الدَّاودِيّ، وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: الْيَمين بِاللَّه لَا بِالطَّلَاق وَالْعتاق إلاَّ إِذا ألحَّ الْخصم، وَلَا يُبَالِي بِالْيَمِينِ بِاللَّه، فَحِينَئِذٍ يحلف بهما، لَكِن إِذا نكل لَا يقْضِي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ، لِأَنَّهُ امْتنع عَمَّا هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ شرعا، وَلَو قضى عَلَيْهِ بِالنّكُولِ لَا ينفذ ويغلظ الْيَمين بأوصاف الله تَعَالَى، وَقيل: لَا يغلظ على الْمَعْرُوف بالصلاح، ويغلظ على غَيره، وَقيل: يغلظ فِي الخطير من المَال دون الحقير، وَلَا يغلظ بِزَمَان وَلَا بمَكَان. وَفِي (التَّوْضِيح) : هَل يحلف بِحَضْرَة الْمُصحف؟ أَبَاهُ مَالك، وألزمه ذَلِك بعض المالكيين فِي عشْرين دِينَارا فَأكْثر، وَعَن ابْن الْمُنْذر: أَنه حكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: رَأَيْت مطرفاً يحلف بِحَضْرَة الْمُصحف.
وَقَالَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاهِدَاكَ أوْ يَمينُهُ فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانَاً دُونَ مَكان

لما كَانَ مَذْهَب البُخَارِيّ أَن يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ حَيْثُ مَا وَجَبت عَلَيْهِ الْيَمين، احْتج بِهَذَا على مَا ذهب إِلَيْهِ، وَقد مر هَذَا مُسْندًا فِي حَدِيث الْأَشْعَث، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ حَيْثُ وَافق الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا. قيل: قد اعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ترْجم للْيَمِين بعد الْعَصْر، فَأثْبت التَّغْلِيظ بِالزَّمَانِ وَنفى هُنَا الغليظ بِالْمَكَانِ، وَأجِيب أَنه لَا يلْزم من تَرْجَمته بذلك أَنه يُوجب تَغْلِيظ الْيَمين بِالزَّمَانِ، وَلم يُصَرح هُنَاكَ بِشَيْء من النَّفْي وَالْإِثْبَات.

(13/253)


3762 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الواحِدِ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وائِلٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ حَلَف عَلى يَمينٍ لِيَقْتَطِعَ بِها مَالا لَقِيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة، وَإِن كَانَ فِيهَا بعد، وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه بِشَيْء بتعسف، وَهُوَ أَن التَّرْجَمَة فِي أَن الْمُدعى عَلَيْهِ يحلف حَيْثُ مَا يجب عَلَيْهِ الْيَمين. والْحَدِيث فِي الْوَعيد الشَّديد فِيمَن يحلف كَاذِبًا، فَالَّذِي يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْيَمين يتحَرَّى الصدْق، سَوَاء كَانَ يحلف فِي مَكَان وَجَبت عَلَيْهِ الْيَمين فِيهِ أَو فِي غَيره من الْأَمْكِنَة الَّتِي تغلظ فِيهَا الْيَمين، احْتِرَازًا عَن الْوُقُوع فِي هَذَا الْوَعيد الشَّديد. والْحَدِيث مضى قَرِيبا بأتم مِنْهُ.

42 - (بابٌ إذَا تَسارَعَ قَوْمٌ فِي الْيَمِينِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا تسارع قوم، يَعْنِي: قوم وَجَبت عَلَيْهِم الْيَمين فتسارعوا جَمِيعًا أَيهمْ يبْدَأ أَولا، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف يُبينهُ الحَدِيث، يَعْنِي: يقرع بَينهم، وَهُوَ الْجَواب.