عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ
35 - (كِتَابُ الصُّلْحِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الصُّلْح، هَكَذَا
بالبسملة، وَبِقَوْلِهِ: كتاب الصُّلْح، وَقع عِنْد
النَّسَفِيّ والأصيلي وَأبي الْوَقْت، وَوَقع لغَيرهم:
بَاب، مَوضِع: كتاب، وَوَقع لأبي ذَر فِي الْإِصْلَاح بَين
النَّاس، وَوَقع للكشميهني: الْإِصْلَاح بَين النَّاس إِذا
تفاسدوا، وَالصُّلْح على أَنْوَاع فِي أَشْيَاء كَثِيرَة
لَا يقْتَصر على بعض شَيْء. كَمَا قَالَه بَعضهم،
وَالصُّلْح فِي اللُّغَة اسْم بِمَعْنى الْمُصَالحَة،
وَهِي المسالمة، خلاف الْمُخَاصمَة، وَأَصله من الصّلاح ضد
الْفساد، وَفِي الشَّرْع: الصُّلْح عقد يقطع النزاع من
بَين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ، وَيقطع
الْخُصُومَة، فَافْهَم.
1 - (بابُ مَا جاءَ فِي الإصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِصْلَاح بَين النَّاس،
وَفِي بعض النّسخ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْإِصْلَاح بَين
النَّاس.
وقَوْلِ الله تعَالى {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
نَجْوَاهُمْ إلأ منْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ
إصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ومنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرَاً عَظِيماً}
(النِّسَاء: 411) .
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله فِي الْإِصْلَاح،
ذكر هَذِه الْآيَة فِي بَيَان فضل الْإِصْلَاح بَين
النَّاس. وَأَن الصُّلْح: أَمر مَنْدُوب إِلَيْهِ، وَفِيه
قطع النزاع والخصومات. قَوْله: {من نَجوَاهُمْ}
(النِّسَاء: 411) . يَعْنِي: كَلَام النَّاس، وَيُقَال:
النَّجْوَى السِّرّ، وَقَالَ النّحاس: كل كَلَام ينْفَرد
بِهِ جمَاعَة سرا كَانَ أَو جَهرا، فَهُوَ نجوى. قَوْله:
{إلاَّ مِن أَمر} (النِّسَاء: 411) . تَقْدِيره: إلاَّ
نجوى من أَمر ... إِلَى آخِره، وَيجوز أَن يكون
الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا بِمَعْنى: لَكِن من أَمر
بِصَدقَة أَو مَعْرُوف، فَإِن فِي نَجوَاهُ خيرا. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ: لَا يَنْبَغِي أَن يكون أَكثر
نَجوَاهُمْ إلاَّ فِي هَذِه الْخلال. قَوْله: {أَو
مَعْرُوف} (النِّسَاء: 411) . الْمَعْرُوف اسْم جَامع لكل
مَا عرف من طَاعَة الله عز وَجل، والتقرب إِلَيْهِ
وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وكل مَا ندب إِلَيْهِ
الشَّرْع، وَنهى عَنهُ من المحسنات والمقبحات، وَهُوَ من
الصِّفَات الْغَالِبَة، أَي: أَمر مَعْرُوف بَين النَّاس
إِذا رَوَاهُ لَا ينكرونه. قَوْله: {ابْتِغَاء مرضاة الله}
(النِّسَاء: 411) . أَي: طلبا لرضاه مخلصاً فِي ذَلِك
محتسباً ثَوَاب ذَلِك عِنْد الله تَعَالَى.
وخُرُوجِ الإمَامِ إِلَى المَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ
النَّاسِ بأصْحَابِهِ
وَخُرُوج الإِمَام، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: وَقَول
الله، وَهُوَ من بَقِيَّة التَّرْجَمَة. قَالَ الْمُهلب:
إِنَّمَا يخرج الإِمَام ليصلح بَين النَّاس إِذا أشكل
عَلَيْهِ أَمرهم وَتعذر ثُبُوت الْحَقِيقَة عِنْده فيهم،
فَحِينَئِذٍ يخرج إِلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَيسمع من
الْفَرِيقَيْنِ، وَمن الرجل وَالْمَرْأَة، وَمن كَافَّة
النَّاس سَمَاعا شافياً يدل على الْحَقِيقَة، هَذَا قَول
عَامَّة الْعلمَاء، وَكَذَلِكَ ينْهض الإِمَام على
العقارات وَالْأَرضين الَّتِي يتشاح فِي قسمتهَا، فيعاين
ذَلِك وَقَالَ عَطاء: لَا يحل للْإِمَام إِذا تبين
الْقَضَاء أَن يصلح بَين الْخُصُوم، وَإِنَّمَا يَسعهُ
ذَلِك فِي الْأُمُور المشكلة، وَأما إِذا استبانت الْحجَّة
لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر، وَتبين للْحَاكِم مَوضِع
الظَّالِم على الْمَظْلُوم، فَلَا يَسعهُ أَن يحملهَا على
الصُّلْح، وَبِه قَالَ أَبُو عبيد، وَقَالَ الشَّافِعِي:
يأمرهما بِالصُّلْحِ وَيُؤَخر الحكم بَينهمَا يَوْمًا أَو
يَوْمَيْنِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِن طمع القَاضِي أَن
يصطلح الخصمان فَلَا بَأْس أَن يرددهما، وَلَا ينفذ الحكم
بَينهمَا لعلهما يصطلحان وَلَا يرددهم أَكثر من مرّة أَو
مرَّتَيْنِ، فَإِن لم يطْمع أنفذ الحكم بَينهمَا،
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه قَالَ: رددوا الْخُصُوم حَتَّى يصطلحوا، فَإِن
فصل الْقَضَاء يحدث بَين النَّاس الضغائن.
(13/265)
0962 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ
قَالَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ قَالَ حدَّثني أبُو حازِمٍ
عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ
نَاسا مِنْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ كانَ بَيْنَهُمْ
شَيْءٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ
فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ ولَمْ يَأْتِ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَجاءَ بِلاَلٌ فأذَّنَ بالصَّلاةِ ولَمْ
يَأْتِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءَ إِلَى
أبِي بَكْرٍ فَقَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حُبِسَ وقَدْ حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أنْ
تَؤُمَّ النَّاسَ فقالَ نَعَمْ إنْ شِئْتَ فأقَامَ
الصَّلاةَ فتَقَدَّمَ أبُو بَكرٍ ثُمَّ جاءَ النَّبِيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حتَّى
قامَ فِي الصَّفِّ الأوَّلِ الأوَّلِ فأخَذَ النَّاسُ
بالتَّصْفِيحِ حتَّى أكْثَرُوا وكانَ أبُو بَكْرٍ لاَ
يَكادُ يَلْتَفِتُ فِي الصَّلاةِ فالْتَفَتْ فإذَا هُوَ
بالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورَاءَهُ فأشَارَ
إلَيْهِ بِيَدِهِ فأمَرَهُ أنْ يُصَلِّي كَمَا هُوَ
فَرَفَعَ أبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ الله ثُمَّ رَجَعَ
القَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّفِّ
وتَقَدَّمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَلَّى
بالنَّاس فَلَمَّا فَرَغَ أقْبلَ علَى النَّاسِ فَقَالَ
يَا أيُّهَا النَّاسُ إذَا نابَكُمْ شَيّءٌ فِي
صَلاَتِكُمْ أخَذْتُمْ بالتَّصْفِيحِ إنَّما التَّصْفِيحُ
لِلنِّسَاءِ منْ نابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ
سُبْحَانَ الله فإنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ إلاَّ الْتَفَتَ
يَا أبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ حِينَ أشَرْتُ إلَيْكَ لَمْ
تُصَلِّ بالنَّاسِ فَقَالَ مَا كانَ يَنْبَغِي لابنِ أبِي
قُحافَةَ أنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي الْإِصْلَاح
بَين النَّاس، وَلَا سِيمَا للجزء الْأَخير من
التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله وَخُرُوج الإِمَام ومطابقته
لَهُ صَرِيح فِي قَوْله: فَخرج إِلَيْهِم النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره
نون: واسْمه مُحَمَّد بن مطرف اللَّيْثِيّ الْمدنِي، نزل
عسقلان، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي:
سَلمَة بن دِينَار. والْحَدِيث مضى فِي كتاب مَوَاقِيت
الصَّلَاة فِي: بَاب من دخل ليؤم النَّاس، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن أبي
حَازِم، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً،
قَوْله: (كَانَ بَينهم شَيْء) أَي: من الْخُصُومَة قَوْله:
(وَحبس) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: حصل لَهُ
التَّوَقُّف بِسَبَب الْإِصْلَاح. قَوْله: (بالتصفيح) هُوَ
التصفيق وَهُوَ ضرب الْيَد على الْيَد بِحَيْثُ يسمع لَهُ
صَوت. قَوْله: (إِذا نابكم) ، كلمة: إِذا، للظرفية
الْمَحْضَة لَا للشّرط. قَوْله: (لم تصل) قَالَ
الْكرْمَانِي: هُوَ مثل: مَا مَنعك إلأ لَا تسْجد، وثمة
صَحَّ أَن يُقَال: لَا، زَائِدَة، فَمَا قَوْلك هُنَا إِذْ
لِمَ لَا تكون زَائِدَة؟ ثمَّ أجَاب بقوله: (مَنعك) ،
مجَاز عَن دعَاك حملا للنقيض على النقيض.
1962 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ
سَمِعْتُ أبي أنَّ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ
قِيلَ للنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ أتَيْتَ
عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ فانْطَلَقَ إلَيْهِ النبِيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ورَكِبَ حِمَاراً فانْطَلَقَ
المُسْلِمُونَ يَمْشُون معَهُ وهْيَ أرْضٌ سَبِخَةٌ
فلَمَّا أتَاهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
إلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ آذانِي نَتْنُ حِمارِكَ
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ مِنْهُمْ وَالله لَحِمَارُ
رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطْيَبُ رِيحاً مِنْكَ
فَغَضِبَ لِعَبْدِ الله رَجُلٌ مِنْ قَوْمهِ فَشتَمَهُ
فَغَضِبَ لكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أصْحَابُهُ فَكانَ
بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بالجَرِيدِ والأيْدِي والنِّعَالِ
فَبَلَغَنا أنَّهَا أُنْزِلَتْ {وإنَّ طائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(الحجرات: 9) .
(13/266)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج إِلَى مَوضِع فِيهِ عبد الله
بن أبي بن سلول لِيَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام، وَكَانَ
ذَلِك فِي أول قدومه الْمَدِينَة إِذْ التَّبْلِيغ فرض
عَلَيْهِ، وَكَانَ يَرْجُو أَن يسلم من وَرَاءه
بِإِسْلَامِهِ لرياسته فِي قومه، وَقد كَانَ أهل
الْمَدِينَة عزموا أَن يُتَوِّجُوهُ بتاج الْإِمَارَة
لذَلِك، وَكَانَ خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفس
الْأَمر من أعظم الْإِصْلَاح فيهم، قيل: إِنَّمَا خرج
إِلَيْهِم وَلم ينفذ إِلَيْهِم لكثرتهم، وليكون خُرُوجه
أعظم فِي نُفُوسهم، وَقيل: لقرب عَهدهم بِالْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَ هَذَا قبل إِسْلَام عبد الله
بن أبيَّ. قلت: لَكِن بشكل عَلَيْهِ قَوْله: أنزلت: {وَإِن
طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) .
على مَا نذكرهُ عَن قريب.
وَرِجَاله أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد، وَقد تكَرر ذكره.
الثَّانِي: مُعْتَمر على وزن اسْم فَاعل من الاعتمار.
الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان ابْن طرخان. الرَّابِع: أنس
بن مَالك، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن
عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر عَن أَبِيه بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَو أتيت) ، كلمة: لَو، هُنَا
لِلتَّمَنِّي، فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَيجوز أَن
تكون على أَصْلهَا، وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره:
لَكَانَ خيرا، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَركب حمارا) ،
جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ قَوْله: (يَمْشُونَ) ، جملَة
حَالية، قَوْله: (سبخَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة،
وَاحِدَة السباخ، وَأَرْض سبخَة، بِكَسْر الْبَاء: ذَات
سباخ، وَهِي الأَرْض الَّتِي تعلوها الملوحة وَلَا تكَاد
تنْبت إلاَّ بعض الشّجر. قَوْله: (إِلَيْك عني) ، يَعْنِي:
تَنَح عني. قَوْله: (فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار) قَالَ
ابْن التِّين: قيل: إِنَّه عبد الله بن رَوَاحَة. قَوْله:
(لحِمَار) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وارتفاعه على
الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله: (أطيب ريحًا مِنْك) .
قَوْله: (فَغَضب لعبد الله) أَي: لأجل عبد الله، وَهُوَ
ابْن أبي بن سلول. قَوْله: (فشتمه) كَذَا فِي رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فشتما، بالتثنية بِلَا
ضمير، أَي: فشتم كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر. قَوْله:
(بِالْجَرِيدِ) ، بِالْجِيم وَالرَّاء كَذَا فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بالحديد
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالدَّال. قَوْله: (فَبَلغنَا) ،
الْقَائِل هُوَ أنس بن مَالك، قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن
الْآيَة أنزلت وأوضحها بقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ من
الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) . وَقَالَ ابْن
بطال: ويستحيل أَن تكون الْآيَة الْكَرِيمَة نزلت فِي
قصَّة ابْن أبيّ، وقتال أَصْحَابه مَعَ الصَّحَابَة، لِأَن
أَصْحَاب عبد الله لَيْسُوا مُؤمنين، وَقد تعصبوا لَهُ بعد
الْإِسْلَام فِي قصَّة الْإِفْك، وَقد جَاءَ هَذَا
الْمَعْنى مُبينًا فِي هَذَا الحَدِيث فِي كتاب
الاسْتِئْذَان من رِوَايَة أُسَامَة بن زيد، قَالَ: مر
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَجْلِس فِيهِ
أخلاط من الْمُشْركين وَالْمُسْلِمين وَعَبدَة الْأَوْثَان
وَالْيَهُود، فيهم عبد الله بن أبي، وَأَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لما عرض عَلَيْهِم الْإِيمَان قَالَ
ابْن أبي: إجلس فِي بَيْتك، فَمن جَاءَك يُرِيد
الْإِسْلَام ... الحَدِيث، فَدلَّ أَن الْآيَة لم تنزل فِي
قصَّة ابْن أبيّ وَإِنَّمَا نزلت فِي قوم من الْأَوْس
والخزرج اخْتلفُوا فِي حد، فَاقْتَتلُوا بِالْعِصِيِّ
وَالنعال، قَالَه سعيد بن جُبَير وَالْحسن وَقَتَادَة،
وَيُشبه أَن تكون نزلت فِي بني عَمْرو بن عَوْف الَّذين
خرج إِلَيْهِم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليصلح
بَينهم ... الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الصَّلَاة، وَفِي
تَفْسِير مقَاتل: مر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
الْأَنْصَار وَهُوَ رَاكب حِمَاره يَعْفُور، فَبَال،
فَأمْسك ابْن أبي بأنفِهِ وَقَالَ للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: خل للنَّاس سَبِيل الرّيح من نَتن هَذَا
الْحمار، فشق على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (فَانْصَرف) ، فَقَالَ ابْن رَوَاحَة ألاَ أَرَاك
أمسَكت على أَنْفك من بَوْل حِمَاره؟ وَالله لَهو أطيب من
ريح عرضك، فَكَانَ بَينهم ضرب بِالْأَيْدِي وَالسَّعَف،
فَرجع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأصْلح بَينهم،
فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ} (الحجرات: 9)
. الْآيَة. وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) : وأعان ابْن
أبي رجال من قومه وهم مُؤمنُونَ فَاقْتَتلُوا، وَمن زعم
أَن قِتَالهمْ كَانَ بِالسُّيُوفِ فقد كذب.
قلت: التَّحْرِير فِي هَذَا أَن حَدِيث أنس هَذَا مُغَاير
لحَدِيث سهل بن سعد الَّذِي قبله، لِأَن قصَّة سهل فِي بني
عَمْرو بن عَوْف وهم من الْأَوْس، وَكَانَت مَنَازِلهمْ
بقباء، وقصة أنس فِي رَهْط عبد الله بن أبي، وهم من
الْخَزْرَج، وَكَانَت مَنَازِلهمْ بِالْعَالِيَةِ،
فَلهَذَا اسْتشْكل ابْن بطال، ثمَّ قَالَ: يشبه أَن تكون
الْآيَة نزلت فِي بني عَمْرو بن عَوْف، فَإِذا كَانَ نزُول
الْآيَة فيهم لَا إِشْكَال فِيهِ، وَإِذا قُلْنَا:
نُزُولهَا فِي قَضِيَّة عبد الله بن أبي، يبْقى
الْإِشْكَال، وَلَكِن يحْتَمل أَن يَزُول الْإِشْكَال من
وَجه آخر، وَهُوَ أَن فِي حَدِيث أنس ذكر أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يمْضِي بِنَفسِهِ ليبلغ مَا أنزل
إِلَيْهِ لقرب عَهدهم بِالْإِسْلَامِ، فَبِهَذَا يَزُول
الْإِشْكَال إِن صَحَّ ذَلِك، مَعَ أَن الدَّاودِيّ نَص
على أَنه كَانَ قبل إِسْلَام عبد الله، كَمَا ذَكرْنَاهُ،
فَإِن صَحَّ مَا ذكره الدَّاودِيّ فالإشكال بَاقٍ،
وَيحْتَمل إِزَالَة الْإِشْكَال أَيْضا من وَجه آخر،
وَهُوَ: أَن قَول أنس فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: بلغنَا
أَنَّهَا أنزلت ... لَا يسْتَلْزم النُّزُول، فِي ذَلِك
الْوَقْت،
(13/267)
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْآيَة فِي
الحجرات ونزولها مُتَأَخّر جدا.
على أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه
الْآيَة، فَقَالَ قَتَادَة: نزلت فِي رجلَيْنِ من
الْأَنْصَار كَانَت بَينهمَا مداراة فِي حق بَينهمَا،
فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر: لآخذنَّ حَقي مِنْك عنْوَة،
لِكَثْرَة عشيرته، وَأَن الآخر دَعَاهُ إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَأبى أَن يتبعهُ، فَلم يزل الْأَمر
بَينهمَا حَتَّى تدافعا، وَحَتَّى تنَاول بَعضهم بَعْضًا
بِالْأَيْدِي وَالنعال، وَلم يكن قتال بِالسُّيُوفِ،
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّهَا نزلت فِي حَرْب سمير وحاطب،
وَكَانَ سمير قتل حَاطِبًا، فَجعل الْأَوْس والخزرج
يقتتلون إِلَى أَن أَتَاهُم رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة، وَأمر نبيه
وَالْمُؤمنِينَ أَن يصلحوا بَينهم. وَقَالَ السّديّ:
كَانَت امْرَأَة من الْأَنْصَار يُقَال لَهَا: أم زيد تَحت
رجل، وَكَانَ بَينهَا وَبَين زَوجهَا شَيْء، قَالَ: فرقى
بهَا إِلَى علية وحبسها فِيهَا، فَبلغ ذَلِك قَومهَا،
فجاؤا وَجَاء قومه فَاقْتَتلُوا بِالْأَيْدِي وَالنعال،
فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ من
الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} (الحجرات: 9) [/ ح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: بَيَان مَا كَانَ
للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِ من الصفح
والحلم وَالصَّبْر على الْأَذَى وَالدُّعَاء إِلَى الله
تَعَالَى، وتأليف الْقُلُوب على ذَلِك. وَفِيه: أَن ركُوب
الْحمار لَا نقص فِيهِ على الْكِبَار، وَكَانَ ركُوبه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على سَبِيل التشريع، ركب مرّة فرسا
لأبي طَلْحَة فِي فزع كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَركب يَوْم
حنين بغلته ليثبت الْمُسلمُونَ إِذا رَأَوْهُ عَلَيْهَا،
ووقف بِعَرَفَة على رَاحِلَته، وَسَار مِنْهَا إِلَى
مُزْدَلِفَة وَهُوَ عَلَيْهَا وَمن مُزْدَلِفَة إِلَى منى
وَإِلَى مَكَّة. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة
من تَعْظِيم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالْأَدب مَعَه والمحبة الشَّدِيدَة. وَفِيه: جَوَاز
الْمُبَالغَة فِي الْمَدْح، لِأَن الصَّحَابِيّ أطلق على
أَن ريح الْحمار أطيب من ريح عبد الله بن أبي، وَلم يُنكر
عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي ذَلِك.
وَفِيه: إِبَاحَة مشي التلامذة وَالشَّيْخ رَاكب.
2 - (بابٌ لَيْسَ الكاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ
النَّاسِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَيْسَ الْكَاذِب الَّذِي يصلح
بَين النَّاس، لِأَن فِيهِ دفع الْمفْسدَة، وقمع الشرور
وَمَعْنَاهُ: أَن هَذَا الْكَذِب لَا يعد كذبا بِسَبَب
الْإِصْلَاح، مَعَ أَنه ل يخرج من حَقِيقَته. فَإِن قلت:
الَّذِي فِي الحَدِيث: لَيْسَ الْكذَّاب) ، فَلفظ
التَّرْجَمَة لَا يطابقه قلت: فِي لفظ مُسلم من رِوَايَة
معمر عَن ابْن شهَاب كَلَفْظِ التَّرْجَمَة، فَلَا يضر
هَذَا الْقدر من الِاخْتِلَاف، وَقَالَ بَعضهم: وَكَانَ حق
السِّيَاق أَن يَقُول: لَيْسَ من يصلح بن النَّاس
كَاذِبًا، لكنه ورد على طَرِيق الْقلب، وَهُوَ سَائِغ،
انْتهى. قلت: الَّذِي ذكره هُوَ حق السِّيَاق، لِأَن
الحَدِيث هَكَذَا، فراعى الْمُطَابقَة، غير أَن
الِاخْتِلَاف فِي لفظ الْكذَّاب والكاذب، وَكِلَاهُمَا لفظ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَدِيث وَاحِد،
فَلَا يعد اخْتِلَافا، وَدَعوى الْقلب لَا دَلِيل
عَلَيْهِ، مَعَ أَن معنى قَوْله فِي الحَدِيث: {لَيْسَ
الْكذَّاب) ، أَنه من بَاب ذِي كَذَا، أَي: لَيْسَ بِذِي
كذب، كَمَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَبك بظلام
للعبيد} (فصلت: 64) . أَي: وَمَا رَبك بِذِي ظلم، لِأَن
نفي الظلامية لَا يسْتَلْزم نفي كَونه ظَالِما، فَلذَلِك
يقدر كَذَا، لِأَن الله تَعَالَى لَا يظلم مِثْقَال ذرة،
يَعْنِي لَيْسَ عِنْده ظلم أصلا.
2962 - حدَّثنا عبْدُ العزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ
حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ
شِهَابٍ أنَّ حُمَيْدَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ أخبرَهُ
أنَّ أُمَّهُ أُمَّ كَلْثُومٍ بنْتَ عُقْبَةَ أخْبَرَتْهُ
أنَّها سَمِعَتْ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يقُولُ لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ
النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرَاً أوْ يَقولُ خَيْراً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الْعَزِيز بن عبد الله
بن يحيى بن عَمْرو بن أويس الأويسي، وَفِي بعض النّسخ لفظ
الأويسي مَذْكُور، وَهُوَ نسبته إِلَى أحد أجداده.
الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان. الرَّابِع: مُحَمَّد
بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: حميد، بِضَم
الْحَاء: ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بن عبد عَوْف.
السَّادِس: أمه، أم كُلْثُوم، بنت عقبَة، بِضَم الْعين
وَسُكُون الْقَاف: ابْن أبي معيط، كَانَت تَحت زيد بن
حَارِثَة، ثمَّ تزَوجهَا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَولدت
لَهُ إِبْرَاهِيم وحميداً، ثمَّ تزَوجهَا الزبير بن
الْعَوام، ثمَّ تزَوجهَا عَمْرو بن الْعَاصِ، وَهِي أُخْت
الْوَلِيد بن
(13/268)
عقبَة وَأُخْت عُثْمَان بن عَفَّان لأمه،
أسلمت وَهَاجَرت وبايعت وَكَانَت هجرتهَا سنة سبع.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن كلهم
مدنيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وهم:
صَالح وَابْن شهَاب وَحميد. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن
الْأُم. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن عَمْرو
بن النَّاقِد وَعَن حَرْمَلَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن نصر بن عَليّ، وَعَن مُسَدّد وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد
وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْبر عَن أَحْمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
السّير عَن عبيد الله بن سعيد وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن
مُحَمَّد بن زنبور وَعَن كثير بن عبيد وَعَن أبي الطَّاهِر
بن السَّرْح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الَّذِي يصلح بَين النَّاس) فِي
مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر: لَيْسَ، وَيصْلح، بِضَم الْيَاء
من الْإِصْلَاح. قَوْله: (فينمي) ، من: نمى الحَدِيث إِذا
رَفعه وبلغه على وَجه الْإِصْلَاح، وأنماه إِذا بلغه على
وَجه الْإِفْسَاد، وَكَذَلِكَ: نماه، بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَالَ ابْن فَارس: نميت الحَدِيث إِذا أشعته. ونميت
بِالتَّخْفِيفِ: أسندته، وَقَالَ الزّجاج فِي (فعلت
وأفعلت) نميت الشَّيْء وأنميته بِمَعْنى، وَفِي (فصيح
ثَعْلَب) : نمى ينمي أَي: زَاد، وَكثر وَحكى اللحياني:
يَنْمُو، بِالْوَاو قَالَ: وهما لُغَتَانِ فصيحتان، وَفِيه
لُغَة أُخْرَى حَكَاهَا ابْن القطاع وَغَيره: نَمُوَ، على
وزن: شرف، وَقَالَ الْكسَائي: لم أسمعهُ بِالْوَاو إِلَّا
من أَخَوَيْنِ من بني سليم. قَالَ: ثمَّ سَأَلت عَنهُ بني
سليم فَلم يعرفوه بِالْوَاو، وَفِي (الصِّحَاح) : رُبمَا
قَالُوا بِالْوَاو، وينمو، وَفِي (الواعي) وَغَيره: ينمى
أفْصح، وَذكر أَبُو حَاتِم فِي (تَقْوِيم الْمُفْسد) : لَا
يُقَال: يَنْمُو. وَعَن الْأَصْمَعِي: الْعَامَّة
يَقُولُونَ يَنْمُو، وَلَا أعرف ذَلِك يثبت، وَذكر الليلي:
أَن بعض اللغويين فرق بَين ينمى وينمو، فَقَالَ: ينمى
بِالْيَاءِ لِلْمَالِ، وبالواو لغير المَال، وَقَالَ
الْحَرْبِيّ: وَأكْثر الْمُحدثين يَقُولُونَ: نمى خيرا،
بتَخْفِيف الْمِيم، وَهَذَا لَا يجوز فِي النَّحْو،
وَسَيِّدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْصح
النَّاس، وَمن خفف الْمِيم يلْزمه أَن يَقُول: خير،
بِالرَّفْع انْتهى. لقَائِل أَن يَقُول: يجوز أَن ينْتَصب
خيرا: بينمى، كَمَا ينْتَصب: بقال، وَذكر ابْن قرقول عَن
القعْنبِي: ينمي، بِضَم الْيَاء وَكسر الْمِيم، قَالَ:
وَلَيْسَ بِشَيْء، وَوَقع فِي رِوَايَة: ينْهَى، ذَلِك،
بِالْهَاءِ، وَهُوَ تَصْحِيف. وَقد يخرج على معنى أَن يبلغ
بِهِ من: أنهيت الْأَمر إِلَى كَذَا، أَي: أوصلته
إِلَيْهِ. أوصلته إِلَيْهِ. وَفِي (الْمُحكم) : أنميته:
أذعته على وَجه النميمة. قَوْله: (أَو يَقُول خيرا) ، شكّ
من الرَّاوِي، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن صَالح عَن الزُّهْرِيّ،
قَالَت: وَلم أسمعهُ يرخص فِي شَيْء مِمَّا يَقُول النَّاس
إلاَّ فِي ثَلَاث: يَعْنِي: الْحَرْب، والإصلاح بَين
النَّاس، وَحَدِيث الرجل امْرَأَته وَحَدِيث الْمَرْأَة
زَوجهَا، وَجعل يُونُس هَذِه الزِّيَادَة عَن الزُّهْرِيّ،
فَقَالَ: لم أسمع يرخص فِي شَيْء مِمَّا يَقُول النَّاس:
كذب إلاَّ فِي ثَلَاث، وَعند التِّرْمِذِيّ: لَا يحل
الْكَذِب إلاَّ فِي ثَلَاث: يحدث الرجل امْرَأَته ليرضيها،
وَالْكذب فِي الْحَرْب، وَالْكذب ليصلح بَين النَّاس،
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب،
فَقَالَت طَائِفَة: الْكَذِب المرخص فِيهِ فِي هَذِه هُوَ
جَمِيع مَعَاني الْكَذِب، فَحَمله قوم على الْإِطْلَاق،
وأجازوا قَول مَا لم يكن فِي ذَلِك لما فِيهِ من
الْمصلحَة، فَإِن الْكَذِب المذموم إِنَّمَا هُوَ فِيمَا
فِيهِ مضرَّة للْمُسلمين، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عبد
الْملك بن ميسرَة عَن النزال بن سُبْرَة، قَالَ: كُنَّا
عِنْد عُثْمَان وَعِنْده حُذَيْفَة، فَقَالَ لَهُ
عُثْمَان: بَلغنِي عَنْك أَنَّك قلت كَذَا وَكَذَا،
فَقَالَ حُذَيْفَة: وَالله مَا قلته، قَالَ: وَقد سمعناه
قَالَ ذَلِك، فَلَمَّا خرج قُلْنَا لَهُ: أَلَيْسَ قد
سمعناك تَقوله؟ قَالَ: بلَى، قُلْنَا: فَلِمَ حَلَفت؟
فَقَالَ: إِنِّي أستر ديني بعضه بِبَعْض مَخَافَة أَن يذهب
كُله، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يجوز الْكَذِب فِي شَيْء من
الْأَشْيَاء، وَلَا الْخَبَر عَن شَيْء بِخِلَاف مَا هُوَ
عَلَيْهِ، وَمَا جَاءَ فِي هَذَا إِنَّمَا هُوَ على
التورية وَطَرِيق المعاريض، تَقول للظالم: فلَان يَدْعُو
لَك، وتنوي قَوْله: أللهم اغْفِر لجَمِيع الْمُسلمين، ويعد
زَوجته وبنته، وَيُرِيد فِي ذَلِك أَن قدر الله تَعَالَى
أَو إِلَى مُدَّة، وَكَذَلِكَ الْإِصْلَاح بَين النَّاس،
وَحَدِيث الْمَرْأَة زَوجهَا يحْتَمل أَنه مِمَّا يحدث
أَحدهمَا الآخر من وده لَهُ واغتباطه بِهِ، وَالْكذب فِي
الْحَرْب هُوَ أَن يظْهر من نَفسه قُوَّة ويتحدث بِمَا
يشحذ بِهِ بَصِيرَة أَصْحَابه ويكيد بِهِ عدوه، وَقد قَالَ
سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْحَرْب
خدعة) وَقَالَ الْمُهلب: لَيْسَ لأحد أَن يعْتَقد إِبَاحَة
الْكَذِب، وَقد نهى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْكَذِب نهيا مُطلقًا، وَأخْبر أَنه مُخَالف للْإيمَان،
فَلَا يجوز اسْتِبَاحَة شَيْء مِنْهُ، وَإِنَّمَا أطلق
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للمصلح بَين النَّاس
أَن يَقُول مَا علم من الْخَيْر بَين الْفَرِيقَيْنِ ويسكت
عَمَّا سمع من الشَّرّ بَينهم، ويعد أَن يسهل مَا صَعب
وَيقرب مَا بعد، لَا أَنه يخبر بالشَّيْء على خلاف مَا
هُوَ عَلَيْهِ، لِأَن الله قد حرم ذَلِك وَرَسُوله،
وَكَذَلِكَ الرجل يعد الْمَرْأَة
(13/269)
ويمنيها وَلَيْسَ هَذَا من طَرِيق
الْكَذِب، لِأَن حَقِيقَته الْإِخْبَار عَن الشَّيْء على
خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ، والوعد لَا يكون حَقِيقَة حَتَّى
ينجز، وإلانجاز مرجو فِي الاستقيال، فَلَا يصلح أَن يكون
كذبا، وَكَذَلِكَ فِي الْحَرْب إِنَّمَا يجوز فِيهَا
المعاريض والإبهام بِأَلْفَاظ تحْتَمل وَجْهَيْن، فيوري
بهَا عَن أحد الْمَعْنيين ليغتر السَّامع بِأَحَدِهِمَا
عَن الآخر، وَلَيْسَ حَقِيقَته الْإِخْبَار عَن الشَّيْء
بِخِلَافِهِ وضده، وَنَحْو ذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه مازح عجوزاً، فَقَالَ:
(إِن العُجَّز لَا يدخلن الْجنَّة) . فأوهمها فِي ظَاهر
الْأَمر أَنَّهُنَّ لَا يدخلن الْجنَّة أصلا، وَإِنَّمَا
أَرَادَ: أَنَّهُنَّ لَا يدخلن الْجنَّة إلاَّ شبَابًا،
فَهَذَا وَشبهه من المعاريض الَّتِي فِيهَا مندوحة عَن
الْكَذِب، وَأما صَرِيح الْكَذِب فَلَيْسَ بجائز لأحد.
وَأما قَول حُذَيْفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
فَإِنَّهُ خَارج من مَعَاني الْكَذِب الَّذِي رُوِيَ عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أذن فِيهَا،
وَإِنَّمَا ذَلِك من جنس إحْيَاء الرجل نَفسه عِنْد
الْخَوْف، كَالَّذي يضْطَر إِلَى الْميتَة وَلحم
الْخِنْزِير فيأكل ليحيى نَفسه، وَكَذَلِكَ الْخَائِف،
لَهُ أَن يخلص نَفسه بِبَعْض مَا حرم الله تَعَالَى
عَلَيْهِ، وَله أَن يحلف على ذَلِك وَلَا حرج عَلَيْهِ
وَلَا إِثْم، قَالَ عِيَاض: وَأما المخادعة فِي منع حق
عَلَيْهِ أَو عَلَيْهَا أَو أَخذ مَا لَيْسَ لَهُ أَولهَا
فَهُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع.
3 - (بابُ قَوْلِ الإمامِ لأصْحَابِهِ اذْهَبُوا بِنَا
نُصْلِحْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الإِمَام ... إِلَى
آخِره. قَوْله: (نصلح) ، مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر.
3962 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله الأويْسِيُّ وإسْحَاقُ
بنَ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ قَالَا حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ
جَعْفَرَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ أهْلَ قُباءٍ اقْتَتَلُوا حتَّى
تَرَاموْا بالحِجَارَةِ فأُخْبِرَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِذَلِكَ فَقَالَ اذْهَبُوا بِنا نُصْلِحُ
بَيْنَهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن عبد الله
هُوَ مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن خَالِد بن فَارس بن
ذُؤَيْب أَبُو عبد الله الذهلي النَّيْسَابُورِي، روى
عَنهُ البُخَارِيّ فِي قريب من ثَلَاثِينَ موضعا، وَلم
يقل: حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى الذهلي مُصَرحًا، وَيَقُول:
حَدثنَا مُحَمَّد، وَلَا يزِيد عَلَيْهِ، وَرُبمَا يَقُول:
مُحَمَّد بن عبد الله، فينسبه إِلَى جده، وَيَقُول أَيْضا:
مُحَمَّد بن خَالِد، وينسبه إِلَى جد أَبِيه، وَالسَّبَب
فِي ذَلِك أَن البُخَارِيّ، لما دخل نيسابور شغب عَلَيْهِ
مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي مَسْأَلَة خلق اللَّفْظ،
وَكَانَ قد سمع مِنْهُ، فَلم يتْرك الرِّوَايَة عَنهُ وَلم
يُصَرح باسمه، مَاتَ بعد البُخَارِيّ بِيَسِير، سنة سبع
وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَأما عبد الْعَزِيز بن عبد الله
الأويسي فَهُوَ أَيْضا من مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَقد روى
عَنهُ بِلَا وَاسِطَة فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وروى
هُنَا بِوَاسِطَة مُحَمَّد بن يحيى، وَهَكَذَا وَقع فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ
وَأبي أَحْمد الْجِرْجَانِيّ بإسقاطه، وَصَارَ الحَدِيث
عِنْدهمَا: عَن البُخَارِيّ عَن عبد الْعَزِيز وَإِسْحَاق
بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن أبي فَرْوَة
أَبُو يَعْقُوب الْفَروِي، وَهُوَ أَيْضا من مَشَايِخ
البُخَارِيّ، روى عَنهُ وَعَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب
عَنهُ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الْعَزِيز وَإِسْحَاق
كِلَاهُمَا رويا عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير عَن
أبي حَازِم: سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن دِينَار عَن سهل
بن سعد الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا الحَدِيث طرف من حَدِيث سهل
بن سعد الَّذِي مضى فِي أول كتاب الصُّلْح.
قَوْله: (نصلح) ، يجوز بِالْجَزْمِ وبالرفع، أما الْجَزْم:
فَلِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر. وَأما الرّفْع فعلى تَقْدِير:
نَحن نصلح.
وَفِيه: خُرُوج الإِمَام مَعَ أَصْحَابه للإصلاح بَين
النَّاس عِنْد تفاقم أُمُورهم وَشدَّة تنازعهم. وَفِيه:
مَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّوَاضُع والخضوع
والحرص على قطع، الْخلاف وحسم دواعي الْفرْقَة عَن أمته،
كَمَا وَصفه الله تَعَالَى.
4 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {أنْ يَصَّالَحَا
بيْنَهُمَا صُلْحاً والصُّلْحُ خيْرٌ} (النِّسَاء: 821) .)
أول الْآيَة، قَوْله تَعَالَى: {وَإِن امْرَأَة خَافت من
بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا
أَن يصَّالحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير، وأحضرت
الْأَنْفس الشُّح، وَإِن تحسنوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} (النِّسَاء: 821) . يَقُول
الله تَعَالَى مخبرا ومشرعاً عَن حَال الزَّوْجَيْنِ
تَارَة فِي حَال نفور الرجل عَن الْمَرْأَة، وَتارَة فِي
حَال اتفاقه مِنْهَا، وَتارَة عِنْد فِرَاقه لَهَا.
فالحالة
(13/270)
الأولى: مَا إِذا خَافت الْمَرْأَة من
زَوجهَا أَن ينفر عَنْهَا أَو يعرض عَنْهَا، فلهَا أَن
تسْقط عَنهُ حَقّهَا أَو بعضه من نَفَقَة أَو كسْوَة أَو
مبيت أَو غير ذَلِك من حُقُوقهَا عَلَيْهِ، وَله أَن يقبل
ذَلِك مِنْهَا، فَلَا جنَاح عَلَيْهَا فِي بذلها ذَلِك
لَهُ، وَلَا عَلَيْهِ فِي قبُوله مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ
الله تَعَالَى: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصالحها
بَينهمَا صلحا} (النِّسَاء: 821) . ثمَّ قَالَ:
{وَالصُّلْح خير} (النِّسَاء: 821) . أَي: من الْفِرَاق،
وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن
معَاذ عَن سماك بن حَرْب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: خشيت سَوْدَة أَن يطلقهَا رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله! لَا
تُطَلِّقنِي، وَاجعَل يومي لعَائِشَة، فَفعل وَنزلت هَذِه
الْآيَة: {وَإِن امْرَأَة خَافت} (النِّسَاء: 821) .
الْآيَة وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى
عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ. وَقَالَ: حسن غَرِيب،
وَقيل: نزلت فِي رَافع بن خديج طلق زَوجته وَاحِدَة
وَتزَوج شَابة، فَلَمَّا قَارن انْقِضَاء الْعدة قَالَت:
أصالحك على بعض الْأَيَّام، ثمَّ لم تسمح، فَطلقهَا
أُخْرَى ثمَّ سَأَلته ذَلِك فَرَاجعهَا، فَنزلت هَذِه
الْآيَة، قَوْله: {نُشُوزًا} النُّشُوز أَصله الإرتفاع،
فَإِذا أَسَاءَ عشرتها ومنعها نَفسه وَالنَّفقَة فَهُوَ
نشوز، وَقَالَ ابْن فَارس: نشز بَعْلهَا إِذا جفاها
وضربها، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: النُّشُوز أَن يتجافى
عَنْهَا، بِأَن يمْنَعهَا الرَّحْمَة الَّتِي بَين الرجل
وَالْمَرْأَة، وَأَن يؤذيها بسب أَو ضرب، والإعراض أَن
يعرض عَنْهَا بِأَن يقل محادثتها ومؤانستها، وَذَلِكَ
لبَعض الْأَسْبَاب من طعن فِي سنّ أَو دمامة أَو شَيْء فِي
خُلق أَو خَلق أَو ملال أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: {أَن
يصَّالحَا} أَصله: أَن يتصالحا، فأبدلت التَّاء صاداً
وأدغمت الصَّاد فِي الصَّاد، فَصَارَ: يصالحا، وقريء: (أَن
يصلحا) أَي: أَن يصطلحا، وَأَصله: يصتلحا، فأبدلت التَّاء
صاداً وأدغمت فِي الْأُخْرَى، وقرىء: أَن يصلحا. وَقَوله:
{صلحا} (النِّسَاء: 821) . فِي معنى مصدر كل وَاحِد من
الْأَفْعَال الثَّلَاثَة. قَوْله: {وَالصُّلْح خير}
(النِّسَاء: 821) . أَي: من الْفرْقَة أَو من النُّشُوز
والإعراض وَسُوء الْعشْرَة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هَذِه
الْجُمْلَة اعْتِرَاض، وَكَذَلِكَ قَوْله: {وأحضرت
الْأَنْفس الشُّح} (النِّسَاء: 821) . وَمعنى إِحْضَار
الْأَنْفس الشُّح: أَن الشُّح جعل حَاضرا لَهَا لَا يغيب
عَنْهَا أبدا، وَلَا تنفك عَنهُ، يَعْنِي أَنَّهَا مطبوعة
عَلَيْهِ، وَالْغَرَض أَن الْمَرْأَة لَا تكَاد تسمح
بقسمتها، وَالرجل لَا يكَاد نَفسه تسمح بِأَن يقسم لَهَا
وَأَن يمْسِكهَا إِذا رغب عَنْهَا، وَأحب غَيرهَا. قَوْله:
{وَإِن تحسنوا} (النِّسَاء: 821) . أَي: بِالْإِقَامَةِ
على نِسَائِكُم وتتقوا النُّشُوز والإعراض، وَمَا يُؤَدِّي
إِلَى الْأَذَى وَالْخُصُومَة، {فَإِن الله كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ} (النِّسَاء: 821) . من الْإِحْسَان
وَالتَّقوى {خَبِيرا} (النِّسَاء: 821) . يثيبكم عَلَيْهِ.
4962 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا {وإنِ امْرَأةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً}
(النِّسَاء: 821) . قالَتْ هُوَ الرَّجُلُ يَراى منِ
امْرَأتِهِ مَا لاَ يُعْجِبُهُ كِبَراً أوْ غَيْرُهُ
فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا فَتَقُولُ أمْسِكْنِي واقْسِمْ لي
مَا شِئْتَ قالتْ فَلا بَأْسَ إذَا تَراضَيا.
هَذَا الحَدِيث تَفْسِير عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، هَذِه الْآيَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة،
قَوْله: كبرا، بِالنّصب بَيَان لقَوْله: مَا لَا يُعجبهُ،
أَي: كبر السن أَو غَيره من سوء خلق أَو خلق، ويروى
وَغَيره، بِالْوَاو. قَوْله: (فَتَقول) ، أَي الْمَرْأَة
تَقول لزَوجهَا: عَائِشَة فَلَا بَأْس بذلك إِذا تَرَاضيا
أَي الرجل وَامْرَأَته، وَدلّ هَذَا على أَن ترك
التَّسْوِيَة بَين النِّسَاء وتفضيل بَعضهم على بعض لَا
يجوز إلاَّ بِإِذن المفضولة ورضاها، وَيدخل فِي هَذَا
الْمَعْنى جَمِيع مَا يَقع بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي:
مَال أَو وَطْء أَو غير ذَلِك، وكل مَا تَرَاضيا عَلَيْهِ
من الصُّلْح فَهُوَ حَلَال للرجل، من زَوجته لِلْآيَةِ
الْمَذْكُورَة، وَنقل الدَّاودِيّ عَن مَالك: أَنَّهَا
إِذا رضيت بِالْبَقَاءِ بترك الْقسم لَهَا أَو الْإِنْفَاق
عَلَيْهَا، ثمَّ سَأَلت الْعدْل، كَانَ ذَلِك لَهَا،
وَالَّذِي قَالَه فِي الْمُدَوَّنَة، ذكره فِي الْقسم
لَهَا، وَأما النَّفَقَة فيلزمها ذَلِك إِذا تركته،
وَالْفرق أَن الْغيرَة لَا تملك بِخِلَاف النَّفَقَة.
5 - (بابٌ إذَا اصْطَلَحُوا على صُلْحِ جَوْرٍ فالصُّلْحُ
مَرْدُودٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا اصْطلحَ قوم على صلح
جور، الْجور فِي الأَصْل الظُّلم، يُقَال: جَار جوراً،
أَي: ظلما، وَلَفظ: جور، يجوز أَن يكون صفة لصلح، وَيجوز
أَن يكون مُضَافا إِلَيْهِ قَوْله (فَالصُّلْح) بِالْفَاءِ
جَوَاب إِذا المتضمنة معنى الشَّرْط.
(13/271)
6962 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ
أبِي ذِئبٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ عُبَيْدِ الله
بنِ عبْدِ الله عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وزَيْدِ بنِ خَالِدٍ
الجُهَنِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَا جاءَ
أعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رسولَ الله اقْضِ بَيْنَنَا
بِكتابِ الله فقامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صدَقَ اقْضِ بيْنَنَا
بِكِتَابِ الله فَقَالَ الأعْرَابِيُّ أنَّ ابْني كانَ
عَسِيفاً على هذَا فَزنَى بامْرَأتِهِ فَقَالُوا لي على
ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي منْهُ بِمَائَةٍ مِنَ
الغَنَمِ ووَلِيدَةٍ ثُمَّ سألْتُ أهْلَ العِلْمِ
فَقَالُوا إنَّمَا علَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ
عامٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله أمَّا الوَلِيدَةُ والغَنَمُ
فَرَدَّ علَيْكَ وعَلى ابْنِكَ جَلْد مِائَةٍ وتَغرِيبُ
عامٍ وأمَّا أنْتَ يَا أُنَيْسُ لرَجُلٍ فاْغْدُ على
امْرَأة هاذَا فارْجُمْهَا فَغَدَا علَيْهَا أَُنَيْسٌ
فرَجَمَهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أما الوليدة وَالْغنم
فَرد عَلَيْك) ، لِأَنَّهُ فِي معنى الصُّلْح عَمَّا وَجب
على العسيف من الْحَد، وَلم يكن ذَلِك جَائِزا فِي
الشَّرْع فَكَانَ جوراً.
وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس: واسْمه عبد الرَّحْمَن، أَصله
من خُرَاسَان، سكن فِي عسقلان. وَابْن أبي ذِئْب هُوَ
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب، وَالزهْرِيّ
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة
بن مَسْعُود.
وَبَعض هَذَا الحَدِيث مر فِي الْوكَالَة فِي: بَاب
الْوكَالَة فِي الْحُدُود، وَقد مر الْكَلَام فِيمَا
يتَعَلَّق بِهِ وبتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره، ولنتكلم
بِمَا يتَعَلَّق بِهِ هُنَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِكِتَاب الله) أَي: بِحكم كتاب
الله تَعَالَى. فَإِن قلت: هَذَا وخصمه كَانَا يعلمَانِ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحكم إلاَّ بِكِتَاب
الله، فَمَا معنى قَوْلهمَا: إقض بَيْننَا بِكِتَاب الله
تَعَالَى؟ قلت: ليفصل بَينهمَا بالحكم الصّرْف، لَا
بِالصُّلْحِ، إِذْ للْحَاكِم أَن يفعل ذَلِك لَكِن
برضاهما. قَوْله: (عسيفاً) ، أَي: أَجِيرا، وَيجمع على:
عسفاء، ذكره الْأَزْهَرِي وعسفة، على غير قِيَاس، ذكره
ابْن سَيّده، وَقيل: كل خَادِم عسيف، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: وعسيف فعيل بِمَعْنى مفعول كأسير، أَو
بِمَعْنى: فَاعل، كعليم من العسف الْجور أَو الْكِفَايَة.
قَوْله: (على هَذَا) ، إِنَّمَا قَالَ: على هَذَا، وَلم
يقل: لهَذَا، ليعلم أَنه أجِير ثَابت الْأُجْرَة عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا لابس الْعَمَل وأتمه، وَلَو
قَالَ: لهَذَا، لم يلْزم ذَلِك. قَوْله: (ووليدة) ، أَي:
قَوْله: (ثمَّ سَأَلت أهل الْعلم) ، أَرَادَ بهم
الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا يفتون فِي عصر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وهم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة
وَثَلَاثَة من الْأَنْصَار: أبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل
وَزيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَوْله:
(وتغريب عَام) ، التَّغْرِيب، بالغين الْمُعْجَمَة:
النَّفْي عَن الْبَلَد الَّذِي وَقعت فِيهِ الْجِنَايَة،
يُقَال: أغربته وغرَّبته إِذا نحيته وأبعدته، والغرب
الْبعد. قَوْله: (لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله) ، أَي:
بِحكمِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكتاب ذكر الرَّجْم، وَقد
جَاءَ الْكتاب بِمَعْنى الْفَرْض قَالَ تَعَالَى: {كتب
عَلَيْكُم الصّيام} (الْبَقَرَة: 381) . أَي: فرض،
وَيحْتَمل أَن يكون: فرض أَولا ثمَّ نسخ لَفظه دون حكمه،
على مَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه
قَالَ: قرأناها فِيمَا أنزل الله تَعَالَى: {الشَّيْخ
وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ
بِمَا قضيا من اللَّذَّة} (النِّسَاء: 61) . وَيُقَال:
الرَّجْم، وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن
باسمه الْخَاص، فَإِنَّهُ مَذْكُور فِيهِ على سَبِيل
الْإِجْمَال، وَهُوَ قَوْله عز وَجل: {فآذوهما}
(النِّسَاء: 61) . والأذى يَتَّسِع فِي مَعْنَاهُ الرَّجْم
وَغَيره من الْعقُوبَة. قَوْله: (فردٌّ عَلَيْك) ، رد
مصدر، وَلِهَذَا وَقع خَبرا، وَالتَّقْدِير: فَهُوَ رد،
أَي: مَرْدُود عَلَيْك، ويروى: (فَترد عَلَيْك) ، على
صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع. قَوْله: (يَا أنيس) ،
تَصْغِير أنس قيل: هُوَ ابْن الضَّحَّاك الْأَسْلَمِيّ يعد
فِي الشاميين، ومخرج حَدِيثه عَلَيْهِم، وَقد حدث عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن التِّين:
هُوَ تَصْغِير أنس بن مَالك خَادِم رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَذهب ابْن عبد الْبر إِلَى أَنه
الضَّحَّاك بن مرْثَد الغنوي وَالْأول أشهر، قَوْله:
(فاغدُ) أَي: ائتها غدْوَة، قَالَه ابْن التِّين، ثمَّ
قَالَ: قيل فِيهِ تَأْخِير الحكم إِلَى الْغَد، وَقَالَ
غَيره: لَيْسَ مَعْنَاهُ أمض إِلَيْهَا بكرَة، بل
مَعْنَاهُ: إمش إِلَيْهَا، وَكَذَا معنى قَوْله: فغدا
عَلَيْهَا، أَي: مَشى إِلَيْهَا. قَوْله: (فرجمها) ، أَي:
بعد أَن ثَبت باعترافها فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي
تَخْصِيص أنيس بِهَذَا الحكم؟ قلت: لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ يَأْمر فِي الْقَبِيلَة إلاَّ
رجلا مِنْهَا لنفورهم من حكم غَيرهم، وأنيساً كَانَ
أسلمياً، وَالْمَرْأَة كَانَت أسلمية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك احْتج بِهِ
الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْحسن ابْن
أبي حَيّ، وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
(13/272)
وَإِسْحَاق، على أَن الرجل إِذا لم يكن
مُحصنا وزنى فَإِنَّهُ يجلد مائَة جلدَة ويغرب عَاما.
وَقَالَ أَبُو عمر: لَا خلاف بَين الْمُسلمين إِن الْبكر
إِذا زنى يجلد مائَة جلدَة.
وَاخْتلفُوا فِي التَّغْرِيب، فَقَالَ مَالك: ينفى الرجل
وَلَا تنفى الْمَرْأَة، وَلَا العَبْد، وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيّ: ينفى الرجل وَلَا تنفى الْمَرْأَة،
وَقَالَ الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَالْحسن بن حَيّ: ينفى
الزَّانِي إِذا جُلِدَ، امْرَأَة كَانَ أَو رجلا. وَاخْتلف
قَول الشَّافِعِي فِي العَبْد، فَقَالَ مرّة: استحيى الله
فِي تغريب العَبْد، وَقَالَ مرّة: ينفى العَبْد نصف سنة،
وَقَالَ مرّة: ينفى سنة إِلَى غير بَلَده، وَبِه وَقَالَ
الطَّبَرِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد صَحَّ عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّفْي وَالْعَمَل
على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر وَعلي وَأبي
بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَأَبُو ذَر وَغَيرهم،
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن غير وَاحِد من التَّابِعين، وَهُوَ
قَول سُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَالك بن أنس وَعبد الله بن
الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ
إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد وَزفر: الْبكر إِذا زنى جلد مائَة وَلَا ينفى،
إلاَّ أَن يرى الإِمَام أَن يَنْفِيه للدعارة الَّتِي
كَانَت مِنْهُ، فينفيه إِلَى حَيْثُ أحب، كَمَا يَنْفِي
الدعار غير الزناة. قلت: الدعر والدعارة الشَّرّ
وَالْفساد. وَمُدَّة نفي الدعار موكولة إِلَى رَأْي
الإِمَام، وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أَنه غرب فِي الْخمر، وَكَانَ عمر إِذا غضب على رجل
نَفَاهُ إِلَى الشَّام، وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قطع يَد سَارِق ونفاه
إِلَى زُرَارَة، وَهِي قَرْيَة قريبَة من الْكُوفَة،
وَكَذَا جَاءَ النَّفْي فِي المخنثين على مَا يَجِيء فِي
الْكتاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن مَعَه فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي
هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ: أنَّ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْأمة إِذا زنت وَلم
تحصن فَقَالَ: (إِذا زنت وَلم تحصن فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت
فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ بيعوها وَلَو
بضفير) الحَدِيث، قَالُوا: فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأمة: إِذا زنت أَن تجلد،
وَلم يَأْمر مَعَ الْجلد، نفي، وَقَالَ الله تَعَالَى:
{فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب}
(النِّسَاء: 52) . فأعلمنا بذلك أَن مَا يجب على الْإِمَاء
إِذا زنين هُوَ نصف مَا يجب على الْحَرَائِر إِذا زنين،
ثمَّ ثَبت أَن لَا نفي على الْأمة إِذا زنت، كَذَلِك
أَيْضا لَا نفي على الْحرَّة إِذا زنت، وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ: وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد روينَاهُ عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه نهى عَن أَن
تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثَة أَيَّام إلاَّ مَعَ محرم،
فَدلَّ ذَلِك أَن لَا تُسَافِر الْمَرْأَة فِي حد الزِّنَى
ثَلَاثَة أَيَّام بِغَيْر محرم، وَفِي ذَلِك إبِْطَال
النَّفْي عَن النِّسَاء فِي الزِّنَى. وانتفى ذَلِك عَن
الرِّجَال أَيْضا، لِأَن فِي درئه إِيَّاه عَن الْحَرَائِر
دَلِيل على درئه عَن الْأَحْرَار. فَإِن قلت: يلْزم
الْحَنَفِيَّة على مَا ذكرُوا أَن لَا يمنعوا من تغريب
الْمَرْأَة إِلَى مَا دون ثَلَاثَة أَيَّام. قلت: لَا
يلْزمهُم ذَلِك، لِأَن النَّفْي لَيْسَ من الْحَد حَتَّى
يستعملوه فِيمَا يُمكنهُم، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب
التَّعْزِير. وَقَالُوا أَيْضا: النَّص جعل الْحَد مائَة،
وَالزِّيَادَة على مُطلق النَّص نسخ، وَمَا رَوَوْهُ
مَنْسُوخ بِحَدِيث مَاعِز. قلت: هَذَا إِذا ثَبت تَأَخّر
أَمر مَاعِز عَنهُ، وَلِأَن فِي التَّغْرِيب تعريضاً لَهَا
للْفَسَاد، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة، وَعمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، نفي شخصا فَارْتَد وَلحق بدار الْحَرْب،
فَحلف أَن لَا ينفى بعده أبدا، وَبِهَذَا عرف أَن نفيهم
كَانَ بطرِيق السياسة والتعزيز لَا بطرِيق الْحَد، لِأَن
مثل عمر لَا يحلف أَن لَا يُقيم الْحُدُود فَافْهَم.
وَفِيه: أَن أولى النَّاس بِالْقضَاءِ الْخَلِيفَة إِذا
كَانَ عَالما بِوُجُوه الْقَضَاء. وَفِيه: أَن الْمُدعى
أولى بالْقَوْل، والطالب أَحَق أَن يتَقَدَّم بالْكلَام،
وَإِن بَدَأَ الْمَطْلُوب. وَفِيه: أَن الْبَاطِل من
الْقَضَاء مَرْدُود، وَمَا خَالف السّنة الْوَاضِحَة من
ذَلِك فَبَاطِل. وَفِيه: أَن قبض من قضى لَهُ بِمَا قضى
لَهُ بِهِ إِذا كَانَ خطأ وجوراً وَخِلَافًا للسّنة، لَا
يدْخلهُ قَبضه فِي ملكه، وَلَا يَصح ذَلِك لَهُ، وَعَلِيهِ
رده. وَفِيه: أَن للْعَالم إِن يُفْتِي فِي مصر فِيهِ من
هُوَ أعلم مِنْهُ إِذا أفتى بِعلم. وَفِيه: أَنه لم تقع
الْفرْقَة بَينهمَا بالزنى. وَفِيه: أَنه لَا يجب على
الإِمَام حُضُور المرجوم بِنَفسِهِ. وَفِيه: دَلِيل على
وجوب قبُول خبر الْوَاحِد. وَفِيه: أدب السَّائِل فِي طلب
الْأذن. وَفِيه: أَن الرَّجْم لَا يجب إلاَّ على الْمُحصن،
وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا يحْكى
عَن الْخَوَارِج، وَقد خالفوا السّنَن. وَفِيه: أَنه لم
يَجْعَل قَاذِفا بقوله: زنى بامرأته. وَفِيه: أَنه لم
يشْتَرط فِي الِاعْتِرَاف التّكْرَار، وَهُوَ حجَّة على
الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن أبي ليلى: وَأحمد لَا يجب إلاَّ
بالأعتراف أَربع مَرَّات. وَفِيه: أَن للْإِمَام أَن
يسْأَل الْمَقْذُوف، فَإِن اعْترف حكم عَلَيْهِ
بِالْوَاجِبِ، وَإِن لم يعْتَرف وطالب الْقَاذِف أَخذ لَهُ
بِحقِّهِ، وَهَذَا مَوضِع اخْتلف فِيهِ الْفُقَهَاء،
فَقَالَ مَالك: لَا يحد الإِمَام الْقَاذِف حَتَّى
يُطَالِبهُ الْمَقْذُوف إلاَّ أَن يكون الإِمَام سَمعه
فيحده إِن كَانَ مَعَه شُهُود غَيره عدُول، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وصاحباه وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ: لَا يحد
الْقَاذِف إلاَّ بمطالبة الْمَقْذُوف. وَقَالَ ابْن أبي
ليلى: يحده الإِمَام، وَإِن لم يَطْلُبهُ الْمَقْذُوف.
وَفِيه: أَنه لم يسْأَله عَن كَيْفيَّة الزِّنَى،
لِأَنَّهُ مُبين فِي قَضِيَّة مَاعِز، وَهَذَا صَحِيح، إِن
ثَبت تَأْخِير هَذَا الْخَبَر عَن خبر مَاعِز، فَيحمل على
أَن الابْن كَانَ بكرا وَعلي
(13/273)
أَنه اعْترف، وإلأ فإقرار الْأَب عَلَيْهِ
غير مَقْبُول، أَو يكون هَذَا إِفْتَاء، أَي: إِن كَانَ
كَذَا فَكَذَا. وَفِيه: سُقُوط الْجلد مَعَ الرَّجْم
خلافًا لمسروق وَأهل الظَّاهِر فِي إيجابهم الْجمع
بَينهمَا. قُلْنَا: لَو كَانَ وَاجِبا لأمر بِهِ. وَفِيه:
اسْتِدْلَال للظاهرية على أَن المقرَّ بالزنى لَا يقبل
رُجُوعه عَنهُ، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث التَّعْرِيض
للرُّجُوع، وَقَالَ مَالك وَأَصْحَابه: يقبل مِنْهُ إِن
رَجَعَ إِلَى شُبْهَة، وَإِن رَجَعَ إِلَى غَيرهَا فِيهِ
خلاف. وَفِيه: إِقَامَة الْحَاكِم الحكم بِمُجَرَّد
إِقْرَار الْمَحْدُود من غير شَهَادَة عَلَيْهِ، وَهُوَ
أحد قولي الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَلَا يجوز ذَلِك عِنْد
مَالك إلاَّ بعد الشَّهَادَة عَلَيْهِ، وَقَالَ للقرطبي:
هَذَا كُله مبْنى على أَن أنيساً كَانَ حَاكما، وَيحْتَمل
أَن يكون رَسُولا ليستفصلها، ويعضد هَذَا التَّأْوِيل
قَوْله فِي آخر الحَدِيث فِي بعض الرِّوَايَات: فَاعْترفت
فَأمر بهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمت،
فَهَذَا يدل على أَن أنيساً إِنَّمَا سمع إِقْرَارهَا،
وَأَن تَنْفِيذ الحكم كَانَ من النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: وَحِينَئِذٍ يتَوَجَّه إِشْكَال
آخر. وَهُوَ أَن يُقَال: فَكيف اكْتفى فِي ذَلِك بِشَاهِد
وَاحِد؟ وَقد اخْتلف فِي الشَّهَادَة على الْإِقْرَار
بالزنى: هَل يَكْتَفِي بِشَهَادَة شَاهِدين؟ أَو لَا بُد
من أَرْبَعَة؟ على قَوْلَيْنِ لعلمائنا، وَلم يذهب أحد من
الْمُسلمين إِلَى الإكتفاء بِشَهَادَة وَاحِد؟
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا اللَّفْظ الَّذِي قَالَ فِيهِ:
فَاعْترفت فَأمر بهَا فرجمت، هُوَ من رِوَايَة اللَّيْث
عَن الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ مَالك
بِلَفْظ: فَاعْترفت فرجمها، لم يذكر فَأمر بهَا النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرجمت، وَعند التَّعَارُض.
فَحَدِيث مَالك أولى لما يعلم من حفظ مَالك وَضَبطه
وخصوصاً فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، فَإِنَّهُ من أعرف
النَّاس بِهِ، وَالظَّاهِر أَن أنيساً كَانَ حَاكما فيزول
الْإِشْكَال، وَلَو سلمنَا أَنه كَانَ رَسُولا فَلَيْسَ
فِي الحَدِيث مَا ينص على انْفِرَاده بِالشَّهَادَةِ،
وَيكون غَيره قد شهد عَلَيْهَا عِنْد النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بذلك. ويعضد هَذَا أَن الْقَضِيَّة اشتهرت
وانتشرت فيبعد أَن ينْفَرد بهَا وَاحِد، سلمنَا، لكنه خبر
وَلَيْسَ بِشَهَادَة فَلَا يشْتَرط الْعدَد فِيهِ،
وَحِينَئِذٍ يسْتَدلّ بهَا على قبُول أَخْبَار الْآحَاد
وَالْعَمَل بهَا فِي الدِّمَاء وَغَيرهَا. قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: وَفِيه: أَن زنى الْمَرْأَة لَا يفْسخ
نِكَاحهَا من زَوجهَا. وَفِيه: أَن الْحُدُود الَّتِي هِيَ
مَحْضَة لحق الله لَا يَصح الصُّلْح فِيهَا.
وَاخْتلف فِي حد الْقَذْف: هَل يَصح الصُّلْح فِيهِ أم
لَا؟ وَلم يخْتَلف فِي كَرَاهَته لِأَنَّهُ ثمن عرض، وَلَا
خلاف فِي جَوَازه قبل رَفعه، وَأما حققو الْأَبدَان من
الْجراح، وَحُقُوق الْأَمْوَال، فَلَا خلاف فِي جَوَازه
مَعَ الْإِقْرَار، وَاخْتلف فِي الصُّلْح على الْإِنْكَار،
فَأَجَازَهُ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَمنعه الشَّافِعِي.
7962 - حدَّثنا يَعْقُوبُ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ
سَعْدٍ عنْ أبيهِ عنِ القَاسِمِ بنُ مُحَمَّدٍ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالتْ قَالَ رسولُ
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا
هذَا مَا لَيْسَ فيهِ فَهْوَ رَدٌّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن من اصْطلحَ على صلح
جور فَهُوَ دَاخل فِي معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من أحدث فِي أمرنَا) الحَدِيث. وَيَعْقُوب شيخ
البُخَارِيّ، قيل: هُوَ يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
الدَّوْرَقِي، وَقيل: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد،
وَقيل: يَعْقُوب بن حميد بن كاسب، وَقيل: يَعْقُوب بن
مُحَمَّد بن الزُّهْرِيّ، كَذَا ذكره ابْن السكن وَأنْكرهُ
الْحَاكِم، وَزعم أَبُو نعيم أَنه يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم، وَذكر الكلاباذي وَالْحَاكِم أَنه يَعْقُوب
بن حميد، وَالَّذِي وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
يَعْقُوب، كَذَا غير مَنْسُوب، وَانْفَرَدَ ابْن السكن
بقوله: يَعْقُوب بن مُحَمَّد، وَكَذَا وَقع فِي
الْمَغَازِي فِي: بَاب فضل من شهد بَدْرًا، قَالَ
البُخَارِيّ: حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن
سعد، فَوَقع عِنْد ابْن السكن: يَعْقُوب بن مُحَمَّد، أَي:
الزُّهْرِيّ، وَعند الْأَكْثَرين غير مَنْسُوب، وَلَكِن
قَالَ أَبُو ذَر فِي رِوَايَته فِي الْمَغَازِي: يَعْقُوب
بن إِبْرَاهِيم، أَي الدَّوْرَقِي. قَوْله: (عَن أَبِيه)
هُوَ سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف،
وَوَقع مَنْسُوبا، كَذَلِك فِي مُسلم، وَقَالَ فِي
رِوَايَته: أَي وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق
الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمَدِينِيّ؟
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَقْضِيَة عَن مُحَمَّد بن
الصَّباح الْبَزَّار، وَعبد الله بن عَوْف الخزاز وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح بِهِ، وَعَن
مُحَمَّد بن عِيسَى، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي
مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان.
قَوْله: (من أحدث فِي أمرنَا هَذَا) الإحداث فِي أَمر
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ اختراع شَيْء فِي
دينه بِمَا لَيْسَ فِيهِ، مِمَّا لَا يُوجد فِي الْكتاب
وَالسّنة. قَوْله: (فَهُوَ رد) أَي: مَرْدُود، وَمن بَاب
إِطْلَاق الْمصدر على اسْم الْمَفْعُول، كَمَا يُقَال:
هَذَا خلق الله، أَي: مخلوقه، وَهَذَا نسج فلَان، أَي:
منسوجه، وَحَاصِل مَعْنَاهُ: أَنه بَاطِل غير مُعْتَد
بِهِ.
وَفِيه: رد المحدثات وَأَنَّهَا لَيست من الدّين لِأَنَّهُ
لَيْسَ عَلَيْهَا أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالْمرَاد بِهِ أَمر الدّين.
(13/274)
رواهُ عَبْدُ الله بنُ جَعْفَرٍ
الْمَخْرَميّ وعَبْدُ الواحِدِ بنُ أبِي عَوْنٍ عنْ سَعْدِ
بنِ إبْرَاهِيمَ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الله بن جَعْفَر بن عبد
الرَّحْمَن بن الْمسور بن مخرمَة وَنسبه المخرمي إِلَى جده
الْأَعْلَى، مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء، وَعبد الْوَاحِد بن أبي عون
الدوسي من أنفسهم، وَثَّقَهُ ابْن معِين، مَاتَ سنة أَربع
وَأَرْبَعين وَمِائَة، أما رِوَايَة عبد الله بن جَعْفَر
فوصلها مُسلم، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَعبد بن حميد عَن أبي عَامر، قَالَ عبد: حَدثنَا عبد
الْملك بن عَمْرو حَدثنَا عبد الله بن جَعْفَر الزُّهْرِيّ
عَن سعد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: سَأَلت الْقَاسِم بن
مُحَمَّد عَن رجل لَهُ مسَاكِن فأوصى بِثلث كل مسكن
مِنْهَا. قَالَ: يجمع ذَلِك كُله فِي مسكن وَاحِد، ثمَّ
قَالَ: أَخْبَرتنِي عَائِشَة أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ
أمرنَا فَهُوَ رد) ، وَأما رِوَايَة عبد الْوَاحِد بن أبي
عون فوصلها الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن
مُحَمَّد عَنهُ بِلَفْظ: (من فعل أمرا لَيْسَ عَلَيْهِ
أمرنَا فَهُوَ رد) ، وَلَيْسَ لعبد الْوَاحِد فِي
البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَكَذَلِكَ لعبد الله بن
جَعْفَر.
6 - (بابٌ كيْفَ يُكْتَبُ هاذَا مَا صالَحَ فُلانُ بنُ
فُلانٍ وفُلانُ بنُ فُلانٍ وإنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى
نَسَبِهِ أوْ قَبِيلَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: كَيفَ يكْتب كتاب الصُّلْح،
يكْتب: هَذَا مَا صَالح فلَان بن فلَان وَفُلَان بن فلَان،
فيكتفى بِهَذَا الْمِقْدَار إِذا كَانَ مَشْهُورا
مَعْرُوفا بَين النَّاس، وَلَا يحْتَاج أَن ينْسب فِي
الْكتاب إِلَى نسبه أَو إِلَى قبيلته، وَأما الَّذِي
يَكْتُبهُ أهل الوثائق ويذكرون فِيهِ اسْمه وَاسم جده،
ويذكرون نسبته إِلَى شَيْء من الْأَشْيَاء فَهُوَ
احْتِيَاط لخوف اللّبْس والاشتباه، فَإِذا أَمن من ذَلِك
تكون الْكِتَابَة بذلك على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب: ألاَ
يَرَى أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتصر فِي
كتاب المقاضاة مَعَ الْمُشْركين على أَن كتب: مُحَمَّد بن
عبد الله، وَلم يزدْ عَلَيْهِ لما أَمن الالتباس فِيهِ،
لِأَنَّهُ لم يكن هَذَا الِاسْم لأحد غير النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن الْفُقَهَاء استحبوا أَن
يكْتب اسْمه وَاسم أَبِيه وجده وَنسبه، لرفع الْإِشْكَال.
وَقل مَا يَقع مَعَ ذكر هَذِه الْأَرْبَعَة اشْتِبَاه فِي
اسْمه، وَلَا التباس فِي أمره.
8962 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا
غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَن أبِي إسْحَاقَ قَالَ
سَمِعْتُ البَرَاءَ ابنَ عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ لمَّا صالحَ رسولُ الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أهْلَ الحُدَيْبِيَةِ كتَبَ علَيُّ
بينَهُمْ كِتاباً فكَتَبَ مُحَمَّدٌ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ المُشْرِكُونَ لَا تَكْتُبْ
مُحَمَّدٌ رسولُ الله لَوْ كُنْتَ رَسُولا لَمْ
نُقَاتِلْكَ فَقَالَ لِعَلِيٍّ امْحُهُ فَقَالَ علِيُّ مَا
أَنا بِالَّذِي أمْحاهُ فَمحَاهُ رسولُ الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ وصالَحَهُمْ على أنْ يَدْخُلَ
هُوَ وأصْحَابُهُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ وَلَا يَدْخُلُوهًّ
إلاَّ بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ فَسألُوهُ مَا جُلُبَّانِ
السِّلاحِ فَقَالَ القِرَابُ بِمَا فِيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكتب: مُحَمَّد رَسُول
الله) ، حَيْثُ لم يذكر اسْم أَبِيه وَلَا اسْم جده،
لِأَنَّهُ لم يكن هَذَا الإسم إلاَّ لَهُ، كَمَا
ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر،
وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي
الْهَمدَانِي الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي مُوسَى
وَبُنْدَار كِلَاهُمَا وَعَن غنْدر وَعَن عبيد الله بن
معَاذ عَن أَبِيه، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن
أَحْمد ابْن حَنْبَل عَن غنْدر.
قَوْله: (إمحه) ، أَمر بِفَتْح الْحَاء وَضمّهَا، يُقَال:
محوت الشَّيْء أمحوه وأمحاه، وَقَول عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: مَا أَنا بِالَّذِي أمحاه، لَيْسَ بمخالفة
لأمر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ علم
بِالْقَرِينَةِ أَن الْأَمر لَيْسَ للْإِيجَاب. قَوْله:
(إِلَّا بجلبَّان السِّلَاح) ، بِضَم الْجِيم وَاللَّام
وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، كَذَا ضَبطه ابْن
قُتَيْبَة، وَبَعض الْمُحدثين، قَالَ: وَهُوَ أوعية
السِّلَاح بِمَا فِيهَا، قَالَ: وَمَا أرَاهُ سمى بِهِ
إلاَّ بجفائه، وَلذَلِك قيل للْمَرْأَة الجافية الغليظة:
جلبانة، وَقد فسر فِي الحَدِيث بِأَنَّهَا القراب، بِكَسْر
الْقَاف وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة،
وَهُوَ شَيْء يخرز من الْجلد يضع فِيهِ الرَّاكِب سَيْفه
بغمده وَسَوْطه ويعلقه فِي الرحل، وَقَالَ
(13/275)
الْأَزْهَرِي: القراب غمد السَّيْف،
والجلبان من الجلبة وَهِي: الْجلْدَة الَّتِي تجْعَل على
القتب، والجلدة الَّتِي تغشى التميمة لِأَنَّهَا كالغشاء
للقراب. قَالَ الْخطابِيّ: الجلبان يشبه الجراب من الْأدم،
يضع الرَّاكِب فِيهِ سَيْفه بقرابه، وَيَضَع فِيهِ سَوْطه
يعلقه الرَّاكِب من وسط رَحْله أَو من آخِره، وَيحْتَمل
أَن تكون اللَّام سَاكِنة، وَهُوَ جلب، بِضَم الْجِيم
وَاللَّام وَتَشْديد الْبَاء، وَدَلِيله قَوْله فِي
رِوَايَة مُؤَمل عَن سُفْيَان: (إلاَّ بجلب السِّلَاح) ،
قَالَ وجلب نفس السِّلَاح كجلب الرحل نفس عيبته، كَأَنَّهُ
يُرَاد بِهِ نفس السِّلَاح، وَهُوَ السَّيْف خَاصَّة من
غير أَن يكون مَعَه من أدوات الْحَرْب من لَامة ورمح وجحفة
وَنَحْوهَا، ليَكُون عَلامَة للأمن، وَالْعرب لَا تضع
السِّلَاح إلاَّ فِي الْأَمْن، قَالَ: وَقد جَاءَ: جربان
السَّيْف، فِي هَذَا الْمَعْنى، وَقَالَ الْأَصْمَعِي:
الجربان: قرَاب السَّيْف، فَلَا يُنكر أَن يكون ذَلِك من
بَاب تعاقب اللَّام وَالرَّاء، وَالَّذِي ضَبطه فِي أَكثر
الْكتب بجلب السِّلَاح، بِضَم اللَّام وَتَشْديد الْبَاء
وَضَبطه الْجَوْهَرِي وَابْن فَارس جربان بِضَم الرَّاء
وَتَشْديد الْبَاء بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الْبَاء،
وَقَالَ ابْن فَارس: جَرَيَان السَّيْف: قرَابه، وَقيل:
حَده، قَوْله: (القراب بِمَا فِيهِ) ، تَفْسِير الجلبَّان،
وَفسّر أَيْضا بِالسَّيْفِ والقوس وَنَحْوه. وَفِي
رِوَايَة: لَا يدْخل مَكَّة سِلَاحا إلاَّ فِي القراب،
وَفِي لفظ: وَلَا يحمل سِلَاحا إلاَّ سيوفاً.
9962 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوساى عنْ إسْرَائِيلَ
عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البُرَاءِ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ اعْتَمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي ذِي القِعْدَةِ فأبَى أهْلُ مَكَّةَ أنْ يَدَعُوهُ
يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قاضاهُمْ على أنْ يُقيمَ بِها
ثَلاثَةَ أيَّامٍ فلَمَّا كَتَبُوا الكِتابَ كتبُوا هاذا
مَا قاضاى عليْهِ مُحَمَّدٌ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالُوا لَا نُقِرُّ بِهَا فلَوْ نَعْلَمُ أنَّكَ
رَسوُلُ الله مَا مَنَعْنَاكَ لاكِنْ أنْتَ مُحَمَّدُ بنُ
عَبْدِ الله قَالَ أَنا رسولُ الله وأنَا مُحَمَّدُ بنُ
عَبْدِ الله ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ امْحُ رسولُ الله قَالَ
لَا وَالله لَا أمْحُوكَ أبَدَاً فأخذَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْكِتَابَ فَكَتَبَ هاذَا مَا قاضاى
عليْهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله لَا يدْخُلُ مَكَّةَ
سلاَحٌ إلاَّ فِي القِرَابِ وأنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ
أهْلِهَا بأحَدٍ إنْ أرادَ أنْ يَتَّبِعَهُ وأنْ لَا
يَمْنَعَ أحَداً مِنْ أصْحَابِهِ أرادَ أنْ يُقِيمَ بِهَا
فلَمَّا دَخَلَهَا ومَضاى الأجَلُ أتَوْا عَلِيَّاً
فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقدْ مَضاى
الأجَلُ فَخَرجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فتَبِعَتْهُمْ ابنَةُ حَمْزَةَ يَا عَمِّ يَا عَمِّ
فَتنَاوَلَها علِيُّ فأخذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ
علَيْهَا السَّلامُ دُونَكِ ابْنةَ عَمِّكِ حَمَلَتْها
فاختَصَمَ فِيها علِيٌّ وزيْدٌ وجَعْفَرٌ فَقَالَ علِيٌّ
أَنا أحَقُّ بِهَا وَهِي ابْنةُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ
ابْنَةُ عَمِّي وخالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زيْدٌ ابنَةُ
أخِي فَقضاى بِهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لِخَالَتِهَا وَقَالَ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ
وَقَالَ لِعَلِيٍّ أنْتَ مِنِّي وأنَا منْكَ وَقَالَ
لِجَعْفَر أشْبهْتَ خَلْقي وخُلُقِي. وَقَالَ لِزَيْدٍ
أنْتَ أخُونا وموْلانَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَلَفظ المقاضاة يدل
عَلَيْهَا، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي
إِسْحَاق السبيعِي، يروي عَن جده. والْحَدِيث أخرجه
التِّرْمِذِيّ أَيْضا.
قَوْله: (فِي ذِي الْقعدَة) ، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون
الْعين. قَوْله: (أَن يَدَعُوه) ، أَي: أَن يَتْرُكُوهُ.
قَوْله: (حَتَّى قاضاهم) ، معنى قاضى، فاصل، وأمضى
أَمرهمَا عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنى صَالح، وَمِنْه: قضى
القَاضِي إِذا فصل الحكم وأمضاه. قَوْله: (هَذَا) ،
إِشَارَة إِلَى مَا فِي الذِّهْن، مُبْتَدأ وَخَبره
قَوْله: مَا قاضى، ومقوله: (لَا نقربها) ، قَوْله: أَي
بالرسالة. قَوْله: (فَلَو نعلم) ، إعلم أَن لَو للماضي،
وَإِنَّمَا عدل هُنَا إِلَى الْمُضَارع ليدل على
الِاسْتِمْرَار، أَي: اسْتمرّ عدم علمنَا برسالتك، كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى، قَوْله: {لَو يطيعكم فِي كثير من
الْأَمر لعنِتُّم} (الحجرات: 7) . قَوْله: (فَأخذ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكتاب فَكتب) ، أَي: أَمر
عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكتب، كَقَوْلِك: ضرب
الْأَمِير، أَي: أَمر بِهِ. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو
الْحسن: مَا رَأَيْت هَذَا اللَّفْظ: فَكتب، إلاَّ فِي
هَذَا الْموضع، وَقيل: إِنَّه مُخْتَصّ بِهَذَا الْموضع،
وَقيل: إِنَّه كالرسم، لِأَن بعض من لَا يكْتب يرسم اسْمه
بِيَدِهِ لتكراره عَلَيْهِ، وَقيل: وَكتب، وَأما قَوْله:
{وَمَا كنت تتلو
(13/276)
من قبله من كتاب} (العنكبوت: 84) .
الْآيَة، لِأَنَّهُ تَلا بعد، وَأما قَوْله: (إِنَّا أمة
أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب) ، لِأَنَّهُ كَانَ فيهم من
يكْتب، لَكِن عَادَة الْعَرَب يسمون الْجُمْلَة باسم
أَكْثَرهَا، فَلذَلِك كَانَ أَكثر أمره أَن لَا يحسن،
فَكتب مرّة. وَقيل: لما أَخذ الْقَلَم أوحى الله إِلَيْهِ
فَكتب، وَقيل: مَا مَاتَ حَتَّى كتب، وَقيل: كتب على
الِاتِّفَاق من غير قصد، وَوَقع فِي بعض نسخ أَطْرَاف أبي
مَسْعُود أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْكتاب، وَلم
يحسن أَن يكْتب، فَكتب مَكَان رَسُول الله: مُحَمَّدًا،
وَكتب: (هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد) وَالثَّابِت
مَا ذَكرْنَاهُ أَنه أَمر عليا فَكتب. وَفِي رِوَايَة:
فَأخذ الْكتاب، وَلَيْسَ يحسن يكْتب وَأَن من معجزاته أَنه
يحسن من وقته، لِأَنَّهُ خرق للْعَادَة، وَقَالَ بِهِ
أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ وَأَبُو الْفَتْح النَّيْسَابُورِي
وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وصنف فِيهِ وَأنكر
عَلَيْهِ، وَقَالَ السُّهيْلي: وَكتب على ذَلِك الْيَوْم
نسختين إِحْدَاهمَا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَالْأُخْرَى مَعَ سُهَيْل، وَشهد فيهمَا أَبُو بكر
وَعمر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص
وَأَبُو عُبَيْدَة ابْن الْجراح وَمُحَمّد بن مسلمة
وَمِكْرَز بن حَفْص وَهُوَ يَوْمئِذٍ مُشْرك وَحُوَيْطِب
بن عبد الْعُزَّى. قَوْله: (هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ
مُحَمَّد بن عبد الله: لَا يدْخل مَكَّة) هَذَا إِشَارَة
إِلَى مَا فِي الذِّهْن مُبْتَدأ وَقَوله: مَا قاضى،
خَبره، ومفسر لَهُ. وَقَوله: لَا يدْخل، تَفْسِير للتفسير.
قَوْله: (وَأَن لَا يخرج من أَهلهَا بِأحد إِن أَرَادَ أَن
يتبعهُ) لَا يخرج، بِضَم الْيَاء من الْإِخْرَاج من
أَهلهَا، أَي: من أهل مَكَّة. فَإِن قلت: خرجت بنت حَمْزَة
وَمَضَت مَعَه؟ قلت: النِّسَاء لم يدخلن فِي الْعَهْد،
وَالشّرط إِنَّمَا وَقع فِي الرِّجَال فَقَط، وَقد بَينه
البُخَارِيّ فِي كتاب الشُّرُوط بعد هَذَا، وَفِي بعض
طرقه: فَقَالَ سُهَيْل: وعَلى أَن لَا يَأْتِيك منَّا رجل
هُوَ على دينك إلاَّ رَددته إِلَيْنَا، وَلم يذكر
النِّسَاء، فصح بِهَذَا أَن أَخذه لابنَة حَمْزَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ لهَذِهِ الْعلَّة. ألاَ
ترَاهُ رد أَبَا جندل إِلَى أَبِيه، وَهُوَ الْعَاقِد
لهَذِهِ المقاضاة؟ وَقَالَ البُخَارِيّ، فِيمَا سَيَأْتِي:
قَول الله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات}
(الممتحنة: 21) . فِيهِ نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا
على أحد الْقَوْلَيْنِ فَإِن هَذَا الْعَهْد كَانَ
يَقْتَضِي أَن لَا يَأْتِيهِ مُسلم إلاَّ رده، فنسخ الله
تَعَالَى ذَلِك فِي النِّسَاء خَاصَّة، على أَن لفظ
المقاضاة: لَا يَأْتِيك رجل، وَهُوَ إِخْرَاج النِّسَاء،
وَقَالَ السُّهيْلي: وَفِي قَول سُهَيْل: لَا يَأْتِيك منا
رجل وَإِن كَانَ على دينك إلاَّ رَددته، مَنْسُوخ عِنْد
أبي حنيفَة بِحَدِيث سَرِيَّة خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، حِين وَجهه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
خثعم، وَفِيهِمْ نَاس مُسلمُونَ، فَاعْتَصمُوا
بِالسُّجُود، فَقَتلهُمْ خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فوداهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصف
الدِّيَة، وَقَالَ: أَنا بَرِيء من كل مُسلم بَين
مُشْرِكين. قَوْله: (فَلَمَّا دَخلهَا) ، أَي: مَكَّة فِي
الْعَام الْمقبل، (وَمضى الْأَجَل) أَي: قرب انْقِضَاء
الْأَجَل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ}
(الْبَقَرَة: 432 وَالطَّلَاق: 2) . وَلَا بُد من هَذَا
التَّأْوِيل لِئَلَّا يلْزم عدم الْوَفَاء بِالشّرطِ.
قَوْله: (فتبعتهم ابْنة حَمْزَة) ، وَهِي أُمَامَة. وَقيل:
عمَارَة، وَأمّهَا سلمى بنت عُمَيْس. قَوْله: (يَا عَم)
مرَّتَيْنِ إِن قَالَت لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَهُوَ عَمها من الرضَاعَة، وَإِن قالته لزيد
فَكَانَ مصافياً لِحَمْزَة ومؤاخياً لَهُ. قَوْله: (دُونك)
، يَعْنِي: خذيها، وَهُوَ من أَسمَاء الْأَفْعَال، وَفِي
رِوَايَة: أَن زيدا أَتَى بهَا، وَاحْتج حِين خَاصم فِيهَا
لِأَنَّهُ تجشم الْخُرُوج بهَا، قَالَ ابْن التِّين: أما
أَن يكون فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وهم، أَو يكون خرج
مرّة فَلم يَأْتِ بهَا وسعت إِلَيْهِ فِي هَذِه الْمرة
فَأتى بهَا (فَتَنَاولهَا عَليّ) رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَفِيه: يتَنَاوَل غير ذَات
الْمحرم عِنْد الِاضْطِرَار إِلَيْهِ، وَالصَّحِيح
أَنَّهَا الْآن ذَات محرم، لِأَن فَاطِمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، أُخْتهَا من الرضَاعَة، وَهِي تَحت
عَليّ، فَهِيَ ذَات محرم، إلاَّ أَنَّهَا غير مُؤَبّدَة
التَّحْرِيم. قَوْله: (حملتها) ، بِلَفْظ الْمَاضِي،
وَلَعَلَّ الْفَاء فِيهِ محذوفة، ويروى: احمليها، وَفِي
رِوَايَة: احتمليها. قَوْله: (فَقَالَ زيد: ابْنة أخي)
أَي: قَالَ زيد بن حَارِثَة: هِيَ ابْنة أخي، وَلَيْسَت
بابنة أَخِيه، فَإِن أَبَا زيد هُوَ حَارِثَة، وَأَبا
حَمْزَة هُوَ عبد الْمطلب، وَأم حَمْزَة هَالة، وَأم زيد
سعدى، وَلَا رضَاع بَينهمَا، لِأَن زيدا كَانَ ابْن ثَمَان
سِنِين لما دخل مَكَّة وخالط قُريْشًا، وَإِنَّمَا آخى
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين زيد وَبَين
حَمْزَة، فَقَالَ ذَلِك بِاعْتِبَار هَذِه المؤاخاة.
قَوْله: (فَقضى بهَا) ، أَي: بابنة حَمْزَة (لخالتها) .
وفيهَا: دلَالَة أَن للخالة حَقًا فِي الْحَضَانَة،
فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْخَالَة بِمَنْزِلَة
الْأُم. قَوْله: (وَقَالَ لعَلي) رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (أَنْت مني) أَي: مُتَّصِل بِي، و: من، هَذِه تسمى
اتصالية، فطيب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قُلُوب الْكل بِنَوْع من التشريف على مَا يَلِيق
بِالْحَال. وَفِيه: منقبة عَظِيمَة جليلة لعَلي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَأعظم من قَوْله: (أَنْت مني)
قَوْله: (وَأَنا مِنْك) . قَوْله: (أشبهت خَلقي وخُلقي)
الأول بِفَتْح الْخَاء وَالثَّانِي بضَمهَا. قَوْله:
(أَنْت أخونا) أَي بِاعْتِبَار أخوة الْإِسْلَام،
وَالْمرَاد بقوله: (ومولانا) ، الْمولى الْأَسْفَل
لِأَنَّهُ أَصَابَهُ سباء فاشتري لِخَدِيجَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، فَوَهَبته للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهُوَ صبي فَأعْتقهُ وتبناه، قَالَ ابْن عمر: مَا
كُنَّا نَدْعُوهُ إلاَّ زيد بن مُحَمَّد حَتَّى نزلت:
{أدعوهم لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) . وآخى صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَينه وَبَين حَمْزَة، وَعَن عَائِشَة،
رَضِي الله
(13/277)
تَعَالَى عَنْهَا، مَا بعث رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زيد بن حَارِثَة فِي سَرِيَّة
إلاَّ أمَّره عَلَيْهِم، وَلَو بَقِي لاستخلفه، قتل بمؤتة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
7 - (بابُ الصُّلْحِ مَعَ المُشْرِكِينَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصُّلْح مَعَ
الْمُشْركين.
فِيهِ عنْ أبي سُفْيَانَ
أَي: فِي هَذَا الْبَاب شَيْء يرْوى عَن أبي سُفْيَان،
يَعْنِي: فِي، بَاب الصُّلْح مَعَ الْمُشْركين مثل الَّذِي
مر فِي شَأْن هِرقل، وَهُوَ أَن هِرقل أرسل إِلَيْهِ فِي
ركب من قُرَيْش فِي الْمدَّة الَّتِي ماد فِيهَا رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفار قُرَيْش ... الحَدِيث
مطولا فِي أول الْكتاب، وَفِيه: وَنحن فِي مُدَّة لَا
نَدْرِي مَا هُوَ صانع فِيهَا، وَهِي مُدَّة الصُّلْح
بَينهم.
وَقَالَ عَوْفُ بنُ مالِكٍ عنِ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ تَكُونُ هُدْنة بَيْنَكُمْ وبيْنَ
بَنِي الأصْفَرِ
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ
بِتَمَامِهِ فِي الْجِزْيَة من طَرِيق أبي إِدْرِيس
الْخَولَانِيّ، وعَوْف بن مَالك ابْن أبي عَوْف
الْأَشْجَعِيّ الْغَطَفَانِي أَبُو عبد الله، شهد فتح
مَكَّة مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ
نزل الشَّام وَسكن دمشق وَمَات بحمص سنة اثْنَيْنِ
وَسبعين. قَوْله: (ثمَّ تكون هدنة) ، بِضَم الْهَاء وَهُوَ
الصُّلْح، وَفِيه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة. وَبَنُو
الْأَصْفَر: الرّوم، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: سموا
بِهِ لِأَن جَيْشًا من الْحَبَشَة غلب على بِلَادهمْ فِي
وَقت، فوطىء نِسَاءَهُمْ فَولدت أَوْلَادًا صفراً بَين
سَواد الْحَبَشَة وَبَيَاض الرّوم.
وفيهِ عنْ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ
أَي: وَفِي الْبَاب رُوِيَ عَن سهل بن حنيف بن واهب
الْأنْصَارِيّ الأوسي أَبُو ثَابت، ويروى: وَفِيه سهل بن
حنيف، بِدُونِ كلمة: عَن، وَهَذَا التَّعْلِيق أَيْضا طرف
من حَدِيث وَصله البُخَارِيّ فِي آخر الْجِزْيَة، قَالَ:
حَدثنَا عَبْدَانِ أخبرنَا أَبُو حَمْزَة، قَالَ: سَمِعت
الْأَعْمَش، قَالَ: سَأَلت أَبُو وَائِل: شهِدت صفّين؟
قَالَ: نعم، فَسمِعت سهل بن حنيف يَقُول: (أتهموا
رَأْيكُمْ، رَأَيْتنِي يَوْم أبي جندل، فَلَو استطيع أَن
أرد أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لرددته)
الحَدِيث. وَسَهل بن حنيف شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ بِالْكُوفَةِ
سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، وَصلى عَلَيْهِ عَليّ بن أبي
طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وكبَّر سِتَّاً. وَوَقع
فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي: كَذَا، وَفِيه عَن سهل بن
حنيف (لقد رَأَيْتنَا يَوْم أبي جندل) . وَلم يَقع هَذَا
فِي رِوَايَة غَيرهمَا. وَأَبُو جندل: اسْمه الْعَاصِ بن
سُهَيْل بن عَمْرو، قتل مَعَ أَبِيه بِالشَّام، وَقَالَ
الْمَدَائِنِي: ثتل سُهَيْل بن عَمْرو باليرموك، وَقيل:
مَاتَ فِي طاعون عمواس. قَوْله: (أتهموا رَأْيكُمْ) ،
يُخَاطب بِهِ سهل بن حنيف أَبَا وَائِل، وَمَعْنَاهُ:
أَنْتُم أفسدتم رَأْيكُمْ حَيْثُ تركم رَأْي عَليّ بن أبي
طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْم صفّين حَتَّى جرى
مَا جرى. قَوْله: (رَأَيْتنِي) أَي: رَأَيْت نَفسِي يَوْم
أبي جندل، وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي حضر أَبُو جندل إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَوْم كَانَ يكْتب
هُوَ وَسُهيْل بن عَمْرو كتاب الصُّلْح. وَكَانَ قد حضر
أَبُو جندل، وَهُوَ يرسف فِي الْحَدِيد، وَكَانَ قد أسلم
بِمَكَّة وَأَبوهُ حَبسه وَقَيده، فهرب فجَاء إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو
سُهَيْل أَخذ بتلبيبه ويجره ليَرُدهُ إِلَى قُرَيْش، وَجعل
أَبُو جندل يصْرخ بِأَعْلَى صَوته، يَا معشر الْمُسلمين
{أأرَدُّ إِلَى الْمُشْركين يفتنوني فِي ديني؟ فَقَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا أَبَا جندل}
إصبر واحتسب، فَأن الله عز وَجل جَاعل لَك وَلمن مَعَك من
الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة فرجا ومخرجاً، وَإِنَّا قد
عَقدنَا بَيْننَا وَبينهمْ صلحا وعهداً، فَإنَّا لَا نغدر
بهم) ، وَقيل: إِنَّمَا رد أَبَا جندل لِأَنَّهُ كَانَ
يَأْمَن عَلَيْهِ الْقَتْل لحُرْمَة أَبِيه سُهَيْل بن
عَمْرو، وَمعنى قَول سهل بن حنيف: فَلَو فَلَو استطيع
إِلَى آخِره يَعْنِي مَا كنت يَوْمئِذٍ عَن قتال
الْمُشْركين وَلَكِن مَا كنت استطيع أَن أَرَادَ أَمر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَطَعْت لرددتَه،
وَأَرَادَ بأَمْره هَذَا هُوَ عقده الصُّلْح مَعَهم، وَلما
وَقع الصُّلْح تَأَخّر كل من كَانَ فِي قلبه الْقِتَال
امتثالاً لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وأسُمَاءُ والمِسْوَرُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
(13/278)
أَي: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن أَسمَاء بنت
أبي بكر الصّديق، وَعَن الْمسور بن مخرمَة، وَيجوز فِي
أَسمَاء والمسور الرّفْع على أَن يكون عطفا على قَوْله:
وَفِيه سهلُ بنُ حنيف على رِوَايَة سهل بِالرَّفْع بِدُونِ
كلمة: عَن، على مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (عَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: فِي ذكر الصُّلْح. أما
حَدِيث أَسمَاء فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيثهَا
الَّذِي مضى فِي الْهِبَة فِي: بَاب هَدِيَّة الْمُشْركين:
حَدثنَا عبيد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن
هِشَام عَن أَبِيه عَن أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَت: (وقدمت على أُمِّي وَهِي
مُشركَة) والْحَدِيث، فَإِن فِيهِ معنى الصُّلْح، على مَا
لَا يخفى. وَأما حَدِيث الْمسور بن مخرمَة فَسَيَأْتِي فِي
أول كتاب الشُّرُوط بعد سَبْعَة أَبْوَاب.
0072 - وَقَالَ موساى بنُ مَسْعُودٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ بنُ سَعِيدٍ عنْ أبِي إسُحَاقٍ عنِ البَرَاءِ بنِ
عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ صالَحَ النَّبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المُشْرِكِينَ يَوْمَ
الحُدَيْبِيَةِ على ثَلاثَةِ أشْيَاءَ على أنَّ منْ أتاهُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إلَيْهِمْ ومنْ أتاهُمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وعَلى أنْ يَدْخُلَها مِنْ
قابِل ويقيمَ بهَا ثَلاثَةَ أيَّامٍ وَلَا يَدْخُلَها
إلاَّ بجُلُبَّانِ السِّلاحِ السِّيْفِ والقَوْسِ ونحْوِهِ
فَجاءَ أبُو جُنْدَلٍ يحْجُلُ فِي قُيُودِهِ فَرَدَّهُ
إلَيْهِمْ.
. مُوسَى بن مَسْعُود أَبُو حُذَيْفَة النَّهْدِيّ، مر
فِي: بَاب الْعتْق وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَأَبُو
إِسْحَاق هُوَ السبيعِي، وَقد مر عَن قريب، وَهَذِه
الطَّرِيقَة أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَغَيره. قَوْله: (من قَابل) أَي: من عَام قَابل.
قَوْله: (يحجل) ، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْحَاء
الْمُهْملَة وَضم الْجِيم، أَي: يمشي مشي الحجلة، الطير
الْمَعْرُوف، وَقيل: أَي يمشي مشْيَة الْمُقَيد،
وَالْأَصْل فِيهِ أَن يرفع رجلا وَيقوم على أُخْرَى،
وَذَلِكَ أَن الْمُقَيد لَا يُمكنهُ أَن ينْقل رجلَيْهِ
مَعًا، وَقيل: هُوَ أَن يُقَارب خطوه، وَهُوَ مشْيَة
الْمُقَيد، وَقيل: فلَان يحجل فِي مشيته أَي: يتبختر،
وَرُوِيَ يجلجل فِي قيوده. قَوْله: (فَرده إِلَيْهِم) ،
يُرِيد رده إِلَى أَبِيه سُهَيْل بن عَمْرو.
قَالَ أَبُو عَبْدُ الله لَمْ يَذْكُرْ مؤمَّلٌ عنْ
سُفْيَانَ أبَا جَنْدَلٍ وَقَالَ إلاَّ بجُلُبِّ السِّلاحِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه أَرَادَ أَن مُؤَمل
بن إِسْمَاعِيل تَابع مُوسَى بن مَسْعُود فِي رِوَايَة
هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، لكنه لم يذكر
قصَّة أبي جندل. وَقَالَ: {إلاَّ بجلبِّ السِّلَاح) بدل
قَوْله: (إلاَّ بجلبَّان السِّلَاح) ، والجلبّ، بِضَم
الْجِيم وَاللَّام وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد
ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَقَالَ الْخطابِيّ بتَخْفِيف
الْيَاء، جمع: جلبة، وَطَرِيق مُؤَمل هَذَا أخرجه أَحْمد
فِي (مُسْنده) مَوْصُولا عَنهُ.
1072 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ رافِعٍ قَالَ حدَّثنا
سُرَيْجُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ عنْ
نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ
مُعْتَمِراً فَحال كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ
البَيْتِ فنَحَرَ هَدْيَهُ وحلَقَ رأسَهُ بالحُدَيْبِيَّةِ
وقاضاهُمْ على أنْ يعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلَا
يَحْمِلَ سِلاحاً عَلَيْهِمْ إلاَّ سُيُوفاً وَلَا يُقيمُ
بِهَا إلاَّ مَا أحَبُّوا فاعْتَمَرَ مِنَ العَامِ
الْمُقْبِلِ فدَخَلَهَا كَمَا كانَ صالَحَهُمُ فلَمَّا
أقامَ بِهَا ثَلاثاً أمَرُوهُ أنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
(الحَدِيث 1072 طراه فِي: 2524) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقَاضَاهُمْ) لِأَن
فِي المقاضاة معنى الصُّلْح، وَمُحَمّد بن رَافع،
بِالْفَاءِ وَالْعين الْمُهْملَة: ابْن أبي زيد الْقشيرِي
النَّيْسَابُورِي، وَمَات سنة خمس وَأَرْبَعين
وَمِائَتَيْنِ، وسريج، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وبالجيم:
أَبُو الْحُسَيْن الْبَغْدَادِيّ الْجَوْهَرِي روى عَنهُ
البُخَارِيّ، وروى عَن مُحَمَّد بن رَافع عَنهُ هُنَا،
وروى عَن مُحَمَّد غير مَنْسُوب عَنهُ فِي الْحَج، وفليح،
بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَفِي آخِره حاء مُهْملَة:
ابْن سُلَيْمَان بن الْمُغيرَة، وَكَانَ اسْمه: عبد
الْملك، ولقبه: فليح، فاشتهر بِهِ، يكنى أَبَا يحيى
الْخُزَاعِيّ.
(13/279)
قَوْله: (مُعْتَمِرًا) حَال. قَوْله: (فحال
كفار قُرَيْش) ، أَي: منعُوا بَينه وَبَين الْبَيْت.
قَوْله: (وَقَاضَاهُمْ) ، أَي: صَالحهمْ، وَهَذِه
الْمُصَالحَة ترتبت عَلَيْهَا الْمصلحَة الْعَظِيمَة،
وَهِي مَا ظهر من ثمراتها: فتح مَكَّة، وَدخُول النَّاس
فِي الدّين أَفْوَاجًا، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا قبل
الصُّلْح لم يَكُونُوا يختلطون بِالْمُسْلِمين وَلَا
يعْرفُونَ طَريقَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مفصلة، فَلَمَّا حصل الصُّلْح واختلطوا بهم وَعرفُوا
أَحْوَاله من المعجزات الباهرة وَحسن السِّيرَة وَجَمِيل
الطَّرِيقَة، تألفت نُفُوسهم إِلَى الْإِسْلَام فأسلموا
قبل الْفَتْح كثيرا، وَيَوْم الْفَتْح كلهم، وَكَانَت
الْعَرَب فِي الْبَوَادِي ينتظرون إِسْلَام أهل مَكَّة،
فَلَمَّا أَسْلمُوا أسلم الْعَرَب كلهم، وَالْحَمْد لله.
2072 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرٌ قَالَ
حدَّثنا يَحْيى عنْ بُشَيْرِ بنِ يَسارٍ عنُ سهْلِ بنِ
أبِي حَثْمَةَ قَالَ انْطَلَقَ عبْدُ الله بنُ سَهْل
ومُحيِّصةُ بنُ مسْعُودِ بنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ وهْيَ
يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَهِي يَوْمئِذٍ صلح)
يَعْنِي: مصالحة أَهلهَا الْيَهُود مَعَ الْمُسلمين،
وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين
الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل، وَقد مر فِي الْعلم، وَيحيى
هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة مصغر بشر: ابْن
يسَار ضد الْيَمين الْمدنِي مولى الْأَنْصَار، وَسَهل بن
أبي حثْمَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء
الْمُثَلَّثَة، وَاسم أبي حثْمَة: عَامر ابْن سَاعِدَة
أَبُو يحيى الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ الْمدنِي
الصَّحَابِيّ، وَعبد الله بن سهل الْأنْصَارِيّ
الْحَارِثِيّ، الَّذِي قَتله الْيَهُود بِخَيْبَر ابْن أخي
محيصة، بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف مَكْسُورَة وتخفيفها وبالصاد
الْمُهْملَة: ابْن مَسْعُود بن كَعْب بن عَامر بن عدي
الْحَارِثِيّ، وَوَقع هُنَا عِنْد البُخَارِيّ: مَسْعُود
بن زيد، وَعند جَمِيع أَصْحَاب الْكتب كَابْن عبد الْبر
وَابْن الْأَثِير وَغَيرهمَا لم يذكرُوا إلاَّ مَسْعُود بن
كَعْب.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة
عَن مُسَدّد أَيْضا، وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن
حَرْب وَفِي الدِّيات عَن أبي نعيم وَفِي الْأَحْكَام عَن
عبد الله بن يُوسُف وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس، كِلَاهُمَا
عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن عبد الله بن
عمر القواريري عَن حَمَّاد وَعَن القواريري عَن بشر بن
الْمفضل بِهِ، وَعَن عَمْرو بن النَّاقِد وَعَن مُحَمَّد
بن الْمثنى وَعَن قُتَيْبَة عَن لَيْث وَعَن يحيى بن يحيى
وَعَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن مُحَمَّد
بن عبد الله بن نمير وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الدِّيات عَن القواريري وَمُحَمّد بن
عبيد وَعَن الْحسن بن عَليّ وَعَن أبي الطَّاهِر بن
السَّرْح وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْقَضَاء وَفِي الْقسَامَة عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي
الطَّاهِر وَعَن أَحْمد بن عَبدة وَعَن مُحَمَّد بن
مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن إِسْمَاعِيل بن
مَسْعُود وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن الْحَارِث
بن مِسْكين، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن يحيى بن
حَكِيم.
قَوْله: (وَهِي يَوْمئِذٍ صلح) ، ويروى: وهم يَوْمئِذٍ
صلح، أَي: أهل خَيْبَر يَوْمئِذٍ فِي صلح مَعَ الْمُسلمين.
8 - (بابُ الصُّلْحِ فِي الدِّيَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الصُّلْح فِي
الدِّيَة بِأَن وَجب قصاص وَوَقع على مَال معِين، وَالدية
أَصْلهَا: ودية، لِأَنَّهُ من: ودى يَدي، يُقَال: وديت
الْقَتِيل أديه دِيَة: إِذا أَعْطَيْت دِيَته، واتديت إِذا
أخذت دِيَته، وَالْهَاء فِيهِ عوض عَن الْوَاو المحذوفة.
3072 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأنْصَارِيُّ
قَالَ حدَّثني حُمَيْدٌ أنَّ أنَساً حدَّثَهُمْ أنَّ
الرُّبَيِّعَ وهْيَ ابنَةُ الَّنضْرِ كَسَرَتْ ثَنيَّةَ
جارِيَةٍ فطَلَبُوا الأرْشَ وطلَبُوا العَفْوَ فأبَوْا
فأتَوْا النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمرَهُمْ
بالقِصاصِ فَقَالَ أنسُ بنُ النَّضْرِ أتُكْسَرَ ثَنيَّةُ
الرُّبَيِّعِ يَا رسولَ الله لَا والَّذِي بعَثَكَ
بالحَقِّ لَا تكْسَرُ ثَنيَّتُهَا فَقَالَ يَا أنسُ كِتابُ
الله القِصاصُ فَرضيَ القَوْم وعَفوْا فَقَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ منْ عِبَادِ الله منْ لَوْ
أقْسَمَ على الله لأبَرَّهُ زادَ الفَزَارِيُّ عنْ
حُمَيْدٍ عنْ أنسٍ ثُمَّ رَضيَ القَوْمُ وقَبِلُوا
الأرْشَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ رَضِي الْقَوْم
وقبلوا الْأَرْش) لِأَن قبُول الْأَرْش عوض الْقصاص لم يكن
إلاَّ بِالصُّلْحِ، فَإِن قلت: قَوْله:
(13/280)
(فرضيب الْقَوْم وعفوا) يدل على أَن لَا
صلح فِيهِ، فَمن أَيْن الْمُطَابقَة؟ قلت: رِوَايَة
الْفَزارِيّ تدل على أَن معنى: عفوا، يَعْنِي: عَن
الْقصاص، وَفِيه الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ فَافْهَم.
والْحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ، وَهِي الْعَاشِرَة
مِنْهَا.
وَمُحَمّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله بن أنس بن
مَالك الْأنْصَارِيّ، ولي قَضَاء الْبَصْرَة ثمَّ قصاء
بَغْدَاد أَيَّام الرشيد، وَولد سنة ثَمَانِي عشرَة
وَمِائَة، وَمَات سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَحميد
هُوَ الطَّوِيل، وَقد تكَرر ذكره.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي
الدِّيات عَن الْأنْصَارِيّ تَارَة مطولا وَتارَة
مُخْتَصرا، وَفِي (صَحِيح مُسلم) من رِوَايَة حَمَّاد بن
سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس: أَن أُخْت الرّبيع أم حَارِثَة
جرحت إنْسَانا، وَفِيه: فَقَالَت أم الرّبيع: وَالله لَا
تكسر ثنيتها، وَكَذَا هُوَ فِي (سنَن النَّسَائِيّ) فرجح
جمَاعَة من الْعلمَاء رِوَايَة البُخَارِيّ، وَقرر
النَّوَوِيّ فجعلهما قضيتين، فَينْظر، لِأَن الأول رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن أبي
شيبَة فِي آخَرين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن الرُّبَيْعَ) ، بِضَم الرَّاء
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف الْمَكْسُورَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: بنت
النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة:
ابْن ضَمْضَم بن زيد بن حرَام بن حبيب بن عَامر بن غنم بن
عدي بن النجار الْأَنْصَارِيَّة، وَهِي عمَّة أنس بن
مَالك، خَادِم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (ثنية جَارِيَة) ، الثَّنية مقدم الْأَسْنَان،
وَالْجَارِيَة الْمَرْأَة الشَّابَّة لَا الْأمة هُنَا،
ليتصور الْقصاص بَينهمَا. قَوْله: (فطلبوا الْأَرْش) ،
أَي: فَطلب قوم الربيّع من قوم الْجَارِيَة أَخذ الْأَرْش.
قَوْله: (وطلبوا الْعَفو) ، يَعْنِي: قَالُوا: خُذُوا
الْأَرْش أَو اعْفُوا عَن هَذِه، فَأَبَوا، يَعْنِي: قوم
الْجَارِيَة امْتَنعُوا فَلَا رَضوا بِأخذ الْأَرْش وَلَا
بِالْعَفو، فَعِنْدَ ذَلِك أَتَوا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وتخاصموا بَين يَدَيْهِ، فَأَمرهمْ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقصاصِ. قَوْله:
فَقَالَ أنس بن النَّضر، وَهُوَ عَم أنس بن مَالك، قتل
يَوْم أحد شَهِيدا وَوجد بِهِ بضعَة وَثَمَانُونَ من
ضَرْبَة بِسيف وطعنة بِرُمْح ورمية بِسَهْم، وَفِيه نزلت:
{رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى
نحبه} (الْأَحْزَاب: 32) . قَوْله: (أتُكسر؟) الْهمزَة
فِيهِ للاستفهام، وتكسر على صِيغَة الْمَجْهُول، وَلم
يُنكر أنس حكم الشَّرْع، وَالظَّاهِر أَن ذَلِك كَانَ
مِنْهُ قبل أَن يعرف أَن (كتاب الله الْقصاص) وَظن
التَّخْيِير لَهُم بَين الْقصاص وَالدية، أَو كَانَ
مُرَاده الاستشفاع من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَو قَالَ ذَلِك توقعاً ورجاء من فضل الله تَعَالَى
أَن يُرْضِي خصمها ويلقي فِي قلبه أَن يعْفُو عَنْهَا.
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: كلمة: لَا، فِي قَوْله: (لَا
وَالله) ، لَيْسَ ردا للْحكم بل نفي لوُقُوعه. وَلَفظ:
(لَا تُكسر) إِخْبَار عَن عدم الْوُقُوع، وَذَلِكَ بِمَا
كَانَ لَهُ عِنْد الله من الثِّقَة بِفضل الله ولطفه فِي
حَقه أَنه لَا يخيبه، بل يلهمهم الْعَفو، وَلذَلِك قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من عباد الله
من لَو أقسم على الله لأبرّه) ، حَيْثُ يُعلمهُ من جملَة
عباد الله المخلصين. قَوْله: (كتاب الله الْقصاص) ، أَي:
حكم كتاب الله الْقصاص على حذف مُضَاف، وَهُوَ إِشَارَة
إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والجروح قصاص} (الْمَائِدَة: 54)
. أَو إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسّن بِالسِّنِّ}
(الْمَائِدَة: 54) . أَو إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
(النَّحْل: 621) . أَو الْكتاب بِمَعْنى الْفَرْض
والإيجاب. قَوْله: (لَأَبَره) أَي: صدقه، يُقَال بر الله
قسمه وأبره. قَوْله: (زَاد الْفَزارِيّ) ، بِفَتْح الْفَاء
وَتَخْفِيف الزَّاي وَالرَّاء، وَهُوَ مَرْوَان بن
مُعَاوِيَة بن الْحَارِث الْكُوفِي سكن مَكَّة. شرفها
الله، والفزاري ينْسب إِلَى فَزَارَة بن ذبيان بن بغيص بن
ريث بن غطفان، وَتَعْلِيق الْفَزارِيّ أسْندهُ البُخَارِيّ
فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة، فَقَالَ: حَدثنَا
مُحَمَّد بن سَلام عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة
الْفَزارِيّ، فَذكره، وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: وجوب الْقصاص فِي السن،
قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ إِذا قلعهَا
كلهَا، وَفِي كسر بَعْضهَا، وَفِي كسر الْعِظَام خلاف
مَشْهُور بَين الْعلمَاء، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه: لَا
قصاص قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَذهب مَالك إِلَى أَن الْقصاص
فِي ذَلِك كُله إِذا أمكنت الْمُمَاثلَة، وَمَا لم يكن
مخوفا كعظم الْفَخْذ والصلب أخذا بقوله تَعَالَى: {فَمن
اعْتدي عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى
عَلَيْكُم} (الْبَقَرَة: 491) . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالسّن بِالسِّنِّ} (الْبَقَرَة: 491) . وَذهب
الْكُوفِيُّونَ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه: لَا
قَوَدَ فِي كسر الْعِظَام مَا خلا السن لعدم الثِّقَة
بالمماثلة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قيل لِأَحْمَد: كَيفَ
يقْتَصّ من السن؟ قَالَ يبرد. وَذكر ابْن رشد فِي
(الْقَوَاعِد) أَن ابْن عَبَّاس روى عَنهُ (أَن لَا قصاص
فِي عظم) ، وَكَذَا عَن ابْن عمر، قَالَ: وَرُوِيَ عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لم يقد من الْعظم
الْمَقْطُوع فِي غير الْمفصل) إِلَّا أَنه لَيْسَ
بِالْقَوِيّ. وَفِيه: جَوَاز الْحلف فِيمَا يَظُنّهُ
الْإِنْسَان. وَفِيه: جَوَاز الثَّنَاء على من لَا يخَاف
عَلَيْهِ الْفِتْنَة بذلك. وَفِيه: دلَالَة على كرامات
الْأَوْلِيَاء. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الْعَفو عَن الْقصاص
والشفاعة فِيهِ. وَفِيه: إِثْبَات الْقصاص بَين النِّسَاء
وَفِي الْأَسْنَان. وَفِيه: فَضِيلَة أنس. وَفِيه: أَن
الْخيرَة فِي الْقصاص وَالدية إِلَى مُسْتَحقّه لَا إِلَى
الْمُسْتَحق عَلَيْهِ.
(13/281)
|