عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 9 - (بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِلْحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا ابْني هذَا سيد ولَعَلَّ الله أنْ
يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول االنبي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِلْحسنِ بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا إِلَى آخِره، قَوْله: (ابْني هَذَا)
جملَة إسمية. لِأَن قَوْله: ابْني، خبر عَن قَوْله: هَذَا،
قَوْله: (سيد) ، خبر بعد خبر، وَالسَّيِّد الرئيس، قَالَ
كرَاع: وَجمعه سادة، قيل: سادة جمع: سائد، وَهُوَ من
السؤدد، وَهُوَ الشّرف، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَقد يهمز
السؤدد وتضم، وَقد سادهم سُودًا وسودداً وسيادة وسيدودة،
واستادهم كسادهم، وسوده هُوَ، وَذكر الزبيدِيّ فِي كِتَابه
(طَبَقَات النَّحْوِيين) : أَن أَبَا مُحَمَّد
الْأَعرَابِي قَالَ لإِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الثائر
بأشبيلية: بِاللَّه أَيهَا الْأَمِير مَا سيَّدتْكَ
الْعَرَب إلاَّ بحقك، يَقُولهَا بِالْيَاءِ، فَلَمَّا أنكر
عَلَيْهِ، قَالَ: السوَاد السخام، وأصر على أَن الصَّوَاب
مَعَه، ومالأه على ذَلِك الْأَمِير لعظم مَنْزِلَته فِي
الْعلم. وَقيل: اشتقاق السَّيِّد من السوَاد، أَي: الَّذِي
يَلِي السوَاد الْعَظِيم من النَّاس. قَوْله: (وَلَعَلَّ
الله) ، اسْتعْمل: لَعَلَّ، اسْتِعْمَال: عَسى،
لاشْتِرَاكهمَا فِي الرَّجَاء. قَوْله: (فئتين عظيمتين)
ووصفهما بالعظيمتين لِأَن الْمُسلمين كَانُوا يَوْمئِذٍ
فرْقَتَيْن: فرقة مَعَ الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَفرْقَة مَعَ مُعَاوِيَة، وَهَذِه معْجزَة عَظِيمَة من
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أخبر بِهَذَا
فَوَقع مثل مَا أخبر.
وأصل الْقَضِيَّة أَن عَليّ بن أبي طَالب، لما ضربه عبد
الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي يَوْم الْجُمُعَة لثلاث
عشرَة بقيت من رَمَضَان من سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة،
قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ. وَقَالَ ابْن الْهَيْثَم: ضربه
فِي لَيْلَة سَبْعَة وَعشْرين من رَمَضَان، وَقَالَ أَبُو
الْيَقظَان: فِي اللَّيْلَة السَّابِعَة عشر من رَمَضَان،
وَقَالَ الْحسن: كَانَت لَيْلَة الْقدر، اللَّيْلَة
الَّتِي عرج فِيهَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، ونبىء فِيهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَمَات فِيهَا مُوسَى ويوشع بن نون، عَلَيْهِمَا
السَّلَام، مكث يَوْم الْجُمُعَة وَلَيْلَة السبت
وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من
رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة، وبويع لِابْنِهِ
الْحسن بالخلافة فِي شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة، فَقيل:
فِي الْيَوْم الَّذِي اسْتشْهد فِيهِ عَليّ، قَالَه
الْوَاقِدِيّ، وَقيل: فِي اللَّيْلَة الَّتِي دفن فِيهَا،
وَقيل: بعد وَفَاته بيومين، وَقَالَ هِشَام: وَأقَام
الْحسن أَيَّامًا مفكراً فِي أمره ثمَّ رأى اخْتِلَاف
النَّاس فرقة من جِهَته وَفرْقَة من جِهَة مُعَاوِيَة،
وَلَا يَسْتَقِيم الْأَمر، وَرَأى النّظر فِي إصْلَاح
الْمُسلمين وحقن دِمَائِهِمْ أولى من النّظر فِي حَقه،
سلَّم الْخلَافَة لمعاوية فِي الْخَامِس من ربيع الأول من
سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَقيل: من ربيع الْأُخَر، وَقيل:
فِي غرَّة جمادي الأولى، وَكَانَت خِلَافَته سِتَّة أشهر
إلاَّ أَيَّامًا. وَسمي هَذَا الْعَام عَام الْجَمَاعَة.
وَهَذَا الَّذِي أخبر بِهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين) .
وقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(الحجرات: 9) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: قَول النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِذكر هَذِه الْقطعَة من
الْآيَة الْكَرِيمَة: {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ
اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا} (الحجرات: 9) . إِلَى أَن
الصُّلْح أَمر مَشْرُوع ومندوب إِلَيْهِ.
4072 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنْ أبِي مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الحسَنَ يَقُولُ
اسْتَقْبَلَ وَالله الحَسَنُ بنُ علِيٍّ مُعاوِيَةَ
بِكَتائِبَ أمْثَالِ الجبالِ فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ
إنّى لأرى كَتَائِبَ لاَ تولِّي حتَّى تَقْتُلَ أقْرَانَها
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وكانَ وَالله خَيْرُ
الرُّجُلَيْنِ أيْ عَمْرُو إنْ قَتَلَ هَؤُلاءِ هَؤلاءِ
وهَؤلاءِ هؤُلاءِ مَن لِي بأمُورِ النَّاس مَنْ لِي
بِنِسائِهِمْ منْ لي بِضَيْعَتِهِمْ فبَعَثَ إلَيْهِ
رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِن بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ
الرَّحْمانِ بنَ سَمُرَةَ وعَبْدَ الله بنَ عامِرِ بنِ
كرَيْز فَقَالَ اذْهَبَا إلَى هَذَا الرَّجُلِ فاعْرِضَا
عَلَيْهِ وقُولاَ لَهُ واطْلُبَا إلَيْهِ فأتَياهُ
فَدَخَلا عَلَيْهِ فتَكَلَّمَا وَقَالا لَهُ فطَلَبا
إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إنَّا بَنُو
عَبْدِ المُطَّلِبِ قدْ أصَبْنَا مِنَ المَالِ وإنَّ هذِهِ
الأمَّةَ قدْ عاثَتْ فِي دِمائِهَا قَالَا فإنَّهُ
يَعْرِضُ عَلَيْكَ كذَا وكَذَا ويَطْلُبُ إلَيْكَ
ويَسْألُكَ قَالَ فَمَنْ لِي بهَذا قَالَا نَحْنُ
(13/282)
لكَ بِهِ فَما سَألَهُما شَيْئاً إلاَّ
قالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ فصَالَحَهُ فَقَالَ الحَسنُ
ولَقَدْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رأيْتُ رسولَ
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى المِنْبَرِ والحَسَنُ
بنُ عَلِيٍّ إِلَى جنْبِهِ وهْوَ يُقْبِلُ عَلى النَّاسِ
مَرَّةً وَعلَيْهِ أُخْرَى ويَقُول إنَّ ابْنِي هَذا
سَيِّدٌ ولَعلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ
عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا مَأْخُوذَة من
الحَدِيث، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو
جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وسُفْيَان هُوَ
ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو مُوسَى هُوَ إِسْرَائِيل بن
مُوسَى الْبَصْرِيّ، نزل الْهِنْد، وَالْحسن هُوَ
الْبَصْرِيّ
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل الْحسن،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي
الْفِتَن عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي عَلَامَات
النُّبُوَّة عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم
وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
المناقب عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي
قدامَة السَّرخسِيّ وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن
مَنْصُور وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة بن
سعيد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان مُرْسل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْحسن بن عَليّ) فَاعل قَوْله:
اسْتقْبل، وَلَفْظَة: وَالله، مُعْتَرضَة بَينهمَا،
وَمُعَاوِيَة، بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (بكتائب) جمع
كَتِيبَة، وَهِي: الْجَيْش، وَيُقَال: الكتبية مَا جمع
بَعْضهَا إِلَى بعض، وَمِنْه قيل للقطعة المجتمعة من
الْجَيْش: كَتِيبَة، قَالَ الدَّاودِيّ: سميت بذلك
لِأَنَّهُ كتب اسْم كل طَائِفَة من كتاب فلزمها هَذَا
الإسم. قَوْله: (أَمْثَال الْجبَال) أَي: لَا يرى لَهَا
طرف لكثرتها، كَمَا لَا يرى من قَابل الْجَبَل طَرفَيْهِ،
وَكَانَت ملاقاة الْحسن مَعَ مُعَاوِيَة بِمَنْزِلَة من
أَرض الْكُوفَة، وَكَانَ الْحسن لما مَاتَ عَليّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، بَايعه أهل الْكُوفَة، وَبَايع أهل
الشَّام مُعَاوِيَة، فَالْتَقَيَا فِي الْموضع
الْمَذْكُور، وَبعد كَلَام طَوِيل ومحاورات جرت بَينهمَا
سلم الْحسن الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة وَصَالَحَهُ
وَبَايَعَهُ على الْأَمر وَالطَّاعَة على إِقَامَة كتاب
الله وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ رَحل
الْحسن إِلَى الْكُوفَة فَأخذ مُعَاوِيَة الْبيعَة
لنَفسِهِ على أهل العراقين، فَكَانَت تِلْكَ السّنة سنة
الْجَمَاعَة لِاجْتِمَاع النَّاس واتفاقهم، وَانْقِطَاع
الْحَرْب، وَبَايع مُعَاوِيَة كل من كَانَ مُعْتَزِلا
عَنهُ، وَبَايَعَهُ سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر
وَمُحَمّد بن مسلمة، وتباشر النَّاس بذلك، وَأَجَازَ
مُعَاوِيَة الْحسن بن عَليّ بثلاثمائة ألف وَألف ثوب
وَثَلَاثِينَ عبدا، وَمِائَة جمل، ثمَّ انْصَرف الْحسن
إِلَى الْمَدِينَة وَولى مُعَاوِيَة الكوفةَ الْمُغيرَة بن
شُعْبَة، وَولى الْبَصْرَة عبد الله بن عَامر، وَانْصَرف
إِلَى دمشق واتخذها دَار مَمْلَكَته. قَوْله: (فَقَالَ
عَمْرو بن الْعَاصِ: إِنِّي لأرى كتائب لَا تولي) ،
أَرَادَ عَمْرو بِهَذَا الْكَلَام تحريض مُعَاوِيَة على
الْقِتَال مَعَ الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، و: لَا
تولي، من التَّوْلِيَة، وَهِي الإدبار أَي: إِن تولت
بِغَيْر حَملَة غلبت لكثرتها. قَوْله: (أقرانها) ، بِفَتْح
الْهمزَة جمع: قرن، بِكَسْر الْقَاف وَهُوَ الكفؤ والنظير
فِي الشجَاعَة وَالْحَرب. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ
مُعَاوِيَة) أَي: قَالَ لعَمْرو بن الْعَاصِ مُعَاوِيَة
جَوَابا عَن قَوْله: (إنى لأرى كتائب) إِلَى آخِره.
قَوْله: (أَي عَمْرو!) مقول قَول مُعَاوِيَة، أَي: يَا
عَمْرو (وَإِن قتل هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ) إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَكَانَ وَالله خير الرجلَيْن) ، من كَلَام
الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقع مُعْتَرضًا بَين قَوْله: (قَالَ
لَهُ مُعَاوِيَة) ، وَبَين قَوْله: (أَي عَمْرو) .
وَقَوله: (وَالله أَيْضا) معترض بَين: كَانَ وَخَبره،
وَأَرَادَ بِالرجلَيْنِ: مُعَاوِيَة وعمراً، وَأَرَادَ
بخيرهما مُعَاوِيَة، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ
كَانَ يعلم أَن خلاف عَمْرو على الْحسن بن عَليّ كَانَ
أَشد من خلاف مُعَاوِيَة إِيَّاه، لِأَنَّهُ كَانَ يحرض
مُعَاوِيَة على الْقِتَال مَعَه وَمُعَاوِيَة كَانَ
يتَوَقَّع الصُّلْح وَيُرِيد أَن يرد الْحسن بِدُونِ
الْقِتَال، وَأَنه يبايعه وَيَأْخُذ مِنْهُ مَا يُريدهُ،
وَيذْهب إِلَى الْمَدِينَة وَهَكَذَا وَقع فِي آخر
الْأَمر. وَإِثْبَات الْحسن الْبَصْرِيّ الْخَيْرِيَّة،
لمعاوية بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمْرو لَا بِالنِّسْبَةِ
إِلَى غَيره، لِأَنَّهُ لم يشك هُوَ وَلَا غَيره أَن
الْحسن بن عَليّ كَانَ خير النَّاس كلهم فِي ذَلِك
الزَّمَان. قَوْله: (إِن قتل هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ) ، أَي:
إِن قتل عَسْكَر الْحسن عسكرنا أَو عسكرنا عسكره،
فَهَؤُلَاءِ الأول فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية،
وَالثَّانِي النصب على المفعولية فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْله: (من لي؟) جَوَاب الشَّرْط، أَعنِي. قَوْله: (إِن
قتل) ، أَي: من يتكفل لي بِأُمُور النَّاس؟ يَعْنِي: على
كلا التَّقْدِيرَيْنِ أَنا المطالب عِنْد الله، فَإِذا
وَقع الصُّلْح فَأَكُون أَنا أول من يسلم فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة، وَهَذَا يدل على نظر مُعَاوِيَة فِي العواقب
ورغبته فِي دفع الْحَرْب. قَوْله: (من لي بضيعتهم) ،
هَكَذَا هُوَ فِي كثير من النّسخ، والضيعة، بِفَتْح
الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالعين الْمُهْملَة: وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: الْعقار،
ويروى: (بصبيتهم) ، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة فَسرهَا
الْكرْمَانِي بقوله: (والصبية) ، المُرَاد بهَا
الْأَطْفَال
(13/283)
والضعفاء لأَنهم لَو تركُوا بحالهم لضاعوا
لعدم استقلالهم بالمعاش. قَوْله: (عبد الرَّحْمَن بن
سَمُرَة بن حبيب) ، ضد الْعَدو ابْن عبد شمس الْقرشِي أسلم
يَوْم الْفَتْح، وَهُوَ الَّذِي فتح سجستان وَمَات
بِالْبَصْرَةِ أَو بمرو سنة إِحْدَى وَخمسين، وَعبد الله
بن عَامر ابْن كريز، بِضَم الْكَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالزاي، مَاتَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ابْن ثَلَاث عشرَة سنة، وَقد
افْتتح خُرَاسَان وأصبهان وكرمان، وَقتل كسْرَى فِي
ولَايَته، وَقيل: أحرم من نيسابور شكرا الله تَعَالَى،
وَمَات سنة تسع وَخمسين. قَوْله: (واطلبا إِلَيْهِ) ، أَي:
يكون مطلوبكما مفوضاً إِلَيْهِ وطلبكما منتهياً إِلَيْهِ،
أَي: التزما مطالبه. قَوْله: (إِنَّا بَنو عبد الْمطلب قد
أصبْنَا من هَذَا المَال) ، مَعْنَاهُ إِنَّا بَنو عبد
الْمطلب المجبولون على الْكَرم والتوسع لمن حوالينا من
الْأَهْل والموالي، وَقد أصبْنَا من هَذَا المَال بالخلافة
مَا صَارَت لنا بِهِ عَادَة إِنْفَاق وأفضال على الْأَهْل
والحاشية، فَإِن تخليت من هَذَا الْأَمر قَطعنَا الْعَادة،
وَإِن هَذِه الْأمة قد عاثت فِي دمائها، قتل بَعْضهَا
بَعْضًا، فَلَا يكفون إلاَّ بِالْمَالِ، فَأَرَادَ أَن
يسكن الْفِتْنَة وَيفرق المَال فِيمَا لَا يرضيه غير
المَال، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن وَعبد الله: نفرض لَك من
المَال فِي كل عَام كَذَا، وَمن الأقوات وَالثيَاب مَا
تحْتَاج إِلَيْهِ لكل مَا ذكرت، فصالحاه على ذَلِك، فَقبل
مِنْهُمَا لعلمه أَن مُعَاوِيَة لَا يخالفهما، وَاشْترط
شُرُوطًا، وَسلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة. قَوْله:
(قَالَا: فَإِنَّهُ يعرض عَلَيْك) أَي: قَالَ عبد
الرَّحْمَن وَعبد الله: فَإِن مُعَاوِيَة يعرض عَلَيْك.
قَوْله: (قَالَ: فَمن لي بِهَذَا؟) أَي: قَالَ الْحسن:
فَمن يكفل لي بِالَّذِي تذكر أَنه؟ (قَالَا: نَحن لَك
بِهِ) أَي: نَحن نكفل لَك بِالَّذِي ذكرنَا. قَوْله:
(فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئا) أَي: فَمَا سَأَلَ الْحسن عبد
الرَّحْمَن وَعبد الله شَيْئا من الْأَشْيَاء. (إلاَّ
قَالَا: نَحن لَك بِهِ) أَي: نَحن نكفل لَك بِهِ. قَوْله:
(فَصَالحه) أَي: فَلَمَّا فرغت هَذِه المحاورات بَينهمَا
وَبَين الْحسن صَالح الْحسن مُعَاوِيَة. قَوْله: (فَقَالَ
الْحسن) أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ. قَوْله: (أَبَا بكرَة) ،
هُوَ نفيع بن الْحَارِث الثَّقَفِيّ، وَالْوَاو فِي
قَوْله: (وَالْحسن) وَفِي قَوْله: (وَهُوَ يقبل) للْحَال.
قَوْله: (فئتين) ، تَثْنِيَة فِئَة، الفئة: الْفرْقَة
مَأْخُوذَة من: فأوت رَأسه بِالسَّيْفِ، وفأيت: إِذا
شققته، وَجمع الفئة فئات وفئون، وَقَالَ ابْن الْأَثِير،
رَحمَه الله تَعَالَى: الفئة الْجَمَاعَة من النَّاس فِي
الأَصْل، والطائفة الَّتِي تقيم وَرَاء الْجَيْش، فَإِن
كَانَ عَلَيْهِم خوف أَو هزيمَة التجئوا إِلَيْهِم،
وَمعنى: عظيمتين، قد مر فِي أول الْبَاب.
وَفِيه: فَضِيلَة الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
دَعَاهُ ورعه إِلَى ترك الْملك وَالدُّنْيَا رَغْبَة
فِيمَا عِنْد الله تَعَالَى، وَلم يكن ذَلِك لعِلَّة وَلَا
لذلة وَلَا لقلَّة، وَقد بَايعه على الْمَوْت أَرْبَعُونَ
ألفا، فَصَالحه رِعَايَة لمصْلحَة دينه ومصلحة الْأمة،
وَكفى بِهِ شرفاً وفضلاً، فَلَا أسيَد مِمَّن سَمَّاهُ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سيداً. وَفِيه:
وَفِيه أَن الرُّسُل يسمع قَوْلهم وَلَا يتَعَرَّض
إِلَيْهِ. وَفِيه ولَايَة الْمَفْضُول على الْفَاضِل لِأَن
مُعَاوِيَة ولى وَسعد وَسَعِيد حَيَّان وهما يدريان أَن
قتال الْمُسلم الْمُسلم لَا يُخرجهُ عَن الْإِسْلَام إِذا
كَانَ على تَأْوِيل. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فِي
النَّار) ، المُرَاد بِهِ تَأْكِيد الْوَعيد عَلَيْهِم،
وَقَالَ الْمُهلب: الحَدِيث يدل على أَن السِّيَادَة
إِنَّمَا يَسْتَحِقهَا من ينْتَفع بِهِ النَّاس،
لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علق السِّيَادَة
بالإصلاح بَين النَّاس.
وَقَالَ أَبُو عَبْدُ الله قَالَ لِي عَلِيُّ بنُ عبْدِ
الله إنَّما ثَبَتَ لَنا سَماعُ الْحَسَنِ مِنْ أبِي
بَكْرَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَعلي بن عبد الله هُوَ
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. قَوْله: (سَماع الْحسن)
، أَي: الْبَصْرِيّ من أبي بكرَة نفيع الْمَذْكُور،
لِأَنَّهُ صرح بِالسَّمَاعِ مِنْهُ والْحَدِيث الْمَذْكُور
رُوِيَ عَن جَابر أَيْضا، قَالَ الْبَزَّار: وَحَدِيث أبي
بكرَة أشهر وَأحسن إِسْنَادًا، وَحَدِيث جَابر أعرف، وَذكر
ابْن بطال أَنه روى أَيْضا عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة،
وَزعم الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحسن رَوَاهُ أَيْضا عَن أم
سَلمَة. قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة وهم، وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُد عَن ابْن أَزْهَر وعَوْف الْأَعرَابِي عَن الْحسن
مُرْسلا، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال، وَإِلَيْهِ
الْمرجع والمآل.
01 - (بابٌ هَلْ يُشيرُ الإمَامُ بالصُّلْحِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ هَل يُشِير الإِمَام لأحد
الْخَصْمَيْنِ، أَولهمَا جَمِيعًا، بِالصُّلْحِ، وَإِن
اتجه الْحق لأَحَدهمَا، وَفِيه خلاف، فَلذَلِك لم يذكر
جَوَاب الِاسْتِفْهَام، فالجمهور استحبوا ذَلِك وَمنعه
الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ ابْن التِّين: لَيْسَ فِي حَدِيثي
الْبَاب مَا ترْجم بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ ا
(13/284)
الحض على ترك بعض الْحق، ورد عَلَيْهِ
بِأَن أشارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحط بعض الْحق
بِمَعْنى الصُّلْح.
5072 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبِي أوَيْسٍ قَالَ
حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ يَحْيى بنِ سَعِيدٍ عَن
أبي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ
أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمانِ قالتْ
سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تقولُ
سَمِعَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوْتَ
خُصُومٍ بالبابِ عالِيَةٍ أصْوَاتُهُمَا وإذَا أحَدُهُمَا
يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ ويَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وهْوَ
يَقُولُ وَالله لَا أفْعَلُ فخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسوُلُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أيْنَ المُتألَّى
على الله لَا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ فَقَالَ أنَا يَا رسولَ
الله ولهُ أيُّ ذالِكَ أحَبَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي قَوْله: (وَله أَي
ذَلِك أحب) معنى الصُّلْح، وأخو إِسْمَاعِيل هُوَ عبد
الحميد بن أبي أويس واسْمه عبد الله بن أبي بكر الأصبحي
الْمدنِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال أَبُو أَيُّوب،
وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو الرِّجَال مُحَمَّد
بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ وكنى بِأبي الرِّجَال لما
كَانَ لَهُ أَوْلَاد عشرَة كلهم صَارُوا رجَالًا كَامِلين،
وَأمه عمْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: بنت عبد
الرَّحْمَن بن سعد بن زُرَارَة الْأَنْصَارِيَّة، مَاتَت
سنة سِتّ وَمِائَة.
وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم مدنيون. وَفِيه: ثَلَاثَة
من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الشّركَة، وَقَالَ: حَدثنَا
غير وَاحِد عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، قَالَ عِيَاض:
إِن قَول الرَّاوِي: حَدثنَا غير وَاحِد، أَو حَدثنَا
الثِّقَة، أَو بعض أَصْحَابنَا، لَيْسَ من الْمَقْطُوع
وَلَا من الْمُرْسل وَلَا من المعضل عِنْد أهل هَذَا
الْفَنّ، بل هُوَ من بَاب الرِّوَايَة عَن الْمَجْهُول،
قَالَ: وَلَعَلَّ مُسلما أَرَادَ بقوله: غير وَاحِد،
البُخَارِيّ وَغَيره، وَأَبُو دَاوُد عد هَذَا النَّوْع
مُرْسلا وَعند أبي عمر والخطيب هُوَ مُنْقَطع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صَوت خصوم) ، الْخُصُوم، بِضَم
الْخَاء: جمع خصم، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْخصم يَسْتَوِي
فِيهِ الْجمع والمؤنث لِأَنَّهُ فِي الأَصْل مصدر، وَمن
الْعَرَب من يثنيه ويجمعه فَيَقُول: خصمان وخصوم، والخصم،
بِفَتْح الْخَاء وَكسر الصَّاد أَيْضا: الْخصم، وَالْجمع:
خصماء، وَيُقَال: الْخصم، بِكَسْر الصَّاد: شَدِيد
الْخُصُومَة وَالْخُصُومَة الإسم. قَوْله: (عالية
أصواتهما) ، ويروى (أَصْوَاتهم) ، أَي: أصوات الْخُصُوم،
وَهُوَ ظَاهر، لِأَن الْخُصُوم جمع، وَأما وَجه: أصواتهما،
بتثنية الضَّمِير فباعتبار الْخَصْمَيْنِ المتنازعين.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا على قَول من قَالَ: أقل
الْجمع اثْنَان، وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لمن
يجوز صِيغَة الْجمع بالإثنين، كَمَا زعم بعض الشُّرَّاح،
قلت: إِن كَانَ مُرَاده من بعض الشُّرَّاح الْكرْمَانِي:
فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم يزْعم ذَلِك، بل ذكر أَنه:
على قَول من قَالَ أقل الْجمع إثنان، ويروى: أصواتها،
بإفراد الضَّمِير للمؤنث، وَوَجهه أَن يكون بِالنّظرِ
إِلَى لفظ الْخُصُوم الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر
والمؤنث، كَمَا قُلْنَا. قَوْله: (عالية) ، يجوز فِيهِ
الْجَرّ وَالنّصب، أما الْجَرّ فعلى أَنه صفة، وَأما النصب
فعلى الْحَال. وَقَوله: (أصواتهما) ، بِالرَّفْع بقوله:
عالية، لِأَن اسْم الْفَاعِل يعْمل عمل فعله. قَوْله:
(وَإِذا أَحدهمَا) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة و: أَحدهمَا،
مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ. (ويستوضع) خَبره، وَإِنَّمَا
قَالَ: أَحدهمَا، بتثنية الضَّمِير لما قُلْنَا: إِنَّه
بِاعْتِبَار الْخَصْمَيْنِ، وَمعنى: يستوضع، يطْلب أَن يضع
من دينه شَيْئا. قَوْله: (ويسترفقه) ، أَي: يطْلب مِنْهُ
أَن يرفق بِهِ فِي الِاسْتِيفَاء والمطالبة، قَوْله: (فِي
شَيْء) ، أَي من الدّين وَحَاصِله فِي حط شَيْء مِنْهُ
قَوْله (وَهُوَ يَقُول) أَي وَالْحَال أَن الآخر وَهُوَ
الطَّالِب يَقُول (وَالله لَا أفعل) أَي: لَا أحط شَيْئا.
قَوْله: (فَخرج عَلَيْهِمَا) ، أَي: على المتخاصمين
اللَّذين بِالْبَابِ. قَوْله: (أَيْن المتألي؟) ، بِضَم
الْمِيم وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق والهمزة
وَتَشْديد اللَّام الْمَكْسُورَة، أَي: الْحَالِف المبالغ
فِي الْيَمين، مَأْخُوذ من: الألية، بِفَتْح الْهمزَة
وَكسر اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي
الْيَمين. قَوْله: (فَلهُ أَي ذَلِك أحب) ، أَي: فلخصمي
أَي شَيْء من الْحَط أَو الرِّفْق أحب، وَفِي روايلاة ابْن
حبَان: دخلت امْرَأَة على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَقَالَت: (إِنِّي ابتعت أَنا وَابْني من فلَان
تَمرا، فأحصيناه. لَا وَالَّذِي أكرمك بِالْحَقِّ مَا
أحصينا مِنْهُ إلاَّ مَا نأكله فِي بطوننا، أَو نطعمه
مِسْكينا، وَجِئْنَا نستوضعه مَا نقصنا، فَقَالَ: إِن
شِئْت وضعت مَا نَقَصُوا وَإِن شِئْت من رَأس المَال) .
فَوضع مَا نَقَصُوا، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا يشْعر بِأَن
المُرَاد بِالْوَضْعِ: الْحَط من رَأس المَال، وبالرفق:
الِاقْتِصَار عَلَيْهِ، وَترك الزِّيَادَة، لَا كَمَا زعم
بعض الشُّرَّاح: أَنه يُرِيد بالرفق الْإِمْهَال. قلت: قد
فسر الشَّيْخ مُحي الدّين
(13/285)
الرِّفْق: بالرفق فِي الْمُطَالبَة وَهُوَ
الْإِمْهَال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الحض على الرِّفْق
بالغريم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ بِالْوَضْعِ عَنهُ.
وَفِيه: الزّجر عَن الْحلف على ترك فعل الْخَيْر، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: إِنَّمَا كره ذَلِك لكَونه حلف على ترك أَمر
عَسى أَن يكون قد قدر الله وُقُوعه، وَاعْترض عَلَيْهِ
ابْن التِّين بِأَنَّهُ: لَو كَانَ كَذَلِك لكره الْحلف
لمن حلف: ليفعلن خيرا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الَّذِي يظْهر
أَنه كره لَهُ قطع نَفسه عَن فعل الْخَيْر، قَالَ: وَيشكل
على هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي
الَّذِي قَالَ: وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص،
فَقَالَ: أَفْلح إِن صدق، وَلم يُنكر عَلَيْهِ حلفه على
ترك الزِّيَادَة، وَهِي من فعل الْخَيْر. وَأجِيب: بِأَن
فِي قصَّة الْأَعرَابِي كَانَ فِي مقَام الدُّعَاء إِلَى
الْإِسْلَام والاستمالة إِلَى الدُّخُول فِيهِ، بِخِلَاف
من تمكن فِي الْإِسْلَام، فيحضه على الازدياد من نوافل
الْخَيْر. وَفِيه: سرعَة فهم الصَّحَابَة لمراد الشَّارِع
وطواعيتهم لما يُشِير إِلَيْهِ وحرصهم على فعل الْخَيْر.
وَفِيه: الصفح عَمَّا يجْرِي بَين المتخاصمين من اللغظ
وَرفع الصَّوْت عِنْد الْحَاكِم. وَفِيه: جَوَاز سُؤال
الْمَدْيُون الحطيطة من صَاحب الدّين، خلافًا لمن كرهه من
الْمَالِكِيَّة، واعتل بِمَا فِيهِ من تحمل الْمِنَّة،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَعَلَّ من أطلق كَرَاهَته أَنه
أَرَادَ أَنه خلاف الأولى. قلت: يَنْبَغِي أَن يكون
مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا هَكَذَا لِأَنَّهُ علل فِي
جَوَاز تيَمّم الْمُسَافِر الَّذِي عدم المَاء، وَمَعَ
رَفِيقه مَاء، بقوله: لِأَن فِي السُّؤَال ذلاً. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَفِيه: أَنه لَا بَأْس بالسؤال بِالْوَضْعِ
والرفق لَكِن بِشَرْط أَن لَا يَنْتَهِي إِلَى الإلحاح
وإهانة النَّفس أَو الْإِيذَاء، وَنَحْو ذَلِك إلاَّ من
ضَرُورَة. وَفِيه: الشَّفَاعَة إِلَى أَصْحَاب الْحُقُوق
وَقبُول الشَّفَاعَة فِي الْخَيْر. فَإِن قلت: هَل كَانَت
فِي يَمِين المتألي الْمَذْكُور كَفَّارَة أم لَا؟ قلت:
قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : إِن كَانَت يَمِينه بعد نزُول
الْكَفَّارَة فَفِيهَا الْكَفَّارَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَيسْتَحب لمن حلف أَن لَا يفعل خيرا أَن يَحْنَث فيكفر
عَن يَمِينه.
6072 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةَ عنِ الأعْرَجِ قَالَ
حَدثنِي عبْدُ الله بنُ كعْبٍ بنِ مالِكٍ عنْ كعْبِ بنِ
مالِكٍ أنَّهُ كانَ لَهُ على عَبْدِ الله بنِ أبِي
حَدْرَدٍ الأسْلَمِيّ مالٌ فَلَقِيَهُ فلَزِمَهُ حَتَّى
ارْتَفَعَتْ أصْواتُهُمَا فَمَرَّ بهِمَا النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا كعْبُ فأشارَ بِيَدِهِ كأنَّهُ
يقولُ النَّصفَ فأخذَ نِصْفَ مالَهُ علَيْهِ وتَرَكَ
نِصْفَاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب التقاضي
والملازمة فِي الْمَسْجِد عَن عبد الله بن مُحَمَّد ...
إِلَى آخِره. والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز،
وروى ابْن أبي شيبَة أَن الدّين الْمَذْكُور كَانَ
أوقيتين. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أصل لقَوْل
النَّاس: (خير الصُّلْح على الشّطْر) . قَوْله: (النّصْف)
، مَنْصُوب بِتَقْدِير: ارتك النّصْف، أَو نَحوه.
11 - (بابُ فَضْلِ الإصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ والعَدْلِ
بَيْنَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فَضِيلَة الْإِصْلَاح إِلَى
آخِره.
7072 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
قَالَ أخْبرنَا معْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كلُّ سُلاماى مِنَ النَّاسِ علَيْهِ
صَدَقةٌ كلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ
بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يعدل بَين اثْنَيْنِ
صَدَقَة) وَفِيه الْإِصْلَاح أَيْضا على مَا لَا يخفى،
وَعطف الْعدْل على الْإِصْلَاح من عطف الْعَام على
الْخَاص، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن مَنْصُور، وَهَكَذَا وَقع
فِي رِوَايَة أبي ذَر: وَوَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات غير
رِوَايَته غير مَنْسُوب. وَمعمر، بِفَتْح الميمين: ابْن
رَاشد، وَهَمَّام، بِالتَّشْدِيدِ: ابْن مُنَبّه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن
إِسْحَاق بن نصر، وَفِي مَوضِع آخر مِنْهُ عَن إِسْحَاق:
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (كل سلامى) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف
(13/286)
اللَّام وَفتح الْمِيم مَقْصُورا، أَي: كل
مفصل. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هِيَ عِظَام أَصَابِع
الْيَد والقدم، وسلامى الْبَعِير عِظَام فرسنه. قَالَ:
وَهِي عِظَام صغَار على طول الإصبع أَو قريب مِنْهَا، فِي
كل يَد وَرجل أَربع سلاميات أَو ثَلَاث، وَفِي (الْجَامِع)
: هِيَ عِظَام الْأَصَابِع والأشاجع والأكارع، كَأَنَّهَا
كعاب، وَالْجمع: السلاميات. يُقَال: آخر مَا يبْقى فِي
المخ فِي السلامى وَالْعين، وَقيل: السلاميات فصوص على
الْقَدَمَيْنِ، وَهِي من الْإِبِل فِي دَاخل الأخفاف، وَمن
الْخَيل فِي الحوافر. وَفِي (الصِّحَاح) واحده وَجمعه
سَوَاء. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَرُبمَا شدده إِحْدَاث
طلبة الحَدِيث لقلَّة علمهمْ، وَمعنى هَذَا الحَدِيث: أَن
عِظَام الْإِنْسَان هِيَ من أصل وجوده، وَبهَا حُصُول
مَنَافِعه، إِذْ لَا يَتَأَتَّى الْحَرَكَة والسكون إلاَّ
بهَا، فَهِيَ من أعظم نعم الله تَعَالَى على الْإِنْسَان،
وَحقّ الْمُنعم عَلَيْهِ أَن يُقَابل كل نعْمَة مِنْهَا
بشكر يَخُصهَا، فيعطي صَدَقَة كَمَا أعْطى مَنْفَعَة.
لَكِن الله، عز وَجل، لطف وخفف بِأَن جعل الْعدْل بَين
النَّاس وَشبهه صَدَقَة. وَفِي مُسلم: السلامى مفاصل
الْإِنْسَان، وَهِي ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ مفصلا، قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر هَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوب، وَلَكِن
خففه الله تَعَالَى حَيْثُ جعل مَا خَفِي من المندوبات
مسْقطًا لَهُ. قَوْله: (كل يَوْم) ، بِالنّصب ظرف لما
قبله، وبالرفع مُبْتَدأ، وَالْجُمْلَة بعده خَبره، والعائد
يجوز حذفه. فَافْهَم. قَوْله: (يعدل بَين اثْنَيْنِ) ،
فَاعل: يعدل، الشَّخْص أَو الْمُكَلف، وَهُوَ مُبْتَدأ على
تَقْدِير: أَن يعدل، أَي: عدله، وَخَبره: صَدَقَة. وَهَذَا
كَقَوْلِهِم: تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ،
وَالتَّقْدِير: أَن تسمع، أَي: سماعك.
21 - (بابٌ إذَا أشارَ الإمامُ بالصُّلْحِ فأباى حَكَمَ
عَلَيْهِ بالحُكْمِ البَيّنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا أَشَارَ الإِمَام إِلَى
آخِره. قَوْله: (فَأبى) ، أَي: الْخصم امْتنع من الصُّلْح.
قَوْله: (بالحكم الْبَين) ، أَي: الظَّاهِر، أَرَادَ الحكم
عَلَيْهِ بِمَا ظهر لَهُ من الْحق البيّن.
8072 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ
أنَّ الزُّبَيْرَ كانَ يُحَدِّثُ أنَّهُ خاصَمَ رجُلاً
مِنَ الأنْصارِ قدْ شَهِدَ بدْراً إِلَى رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شِرَاجٍ منَ الحَرَّةِ كانَا
يَسْقِيَانِ بِهِ كِلاهُمَا فَقَالَ رسولُ الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِلزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ
أرْسِلْ إِلَى جارِكَ فغَضِبَ الأنْصَارِيُّ فقالَ يَا
رسولَ الله أنْ كانَ ابنَ عَمَّتِكَ فتَلَوَّنَ وجْهُ
رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قالَ اسْقِ ثُمَّ
احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الجَدْرَ فاسْتَوْعاى رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ حَقَّهُ للزُّبَيْرِ
وكانَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ ذالِكَ
أشارَ على الزُّبَيْرِ بِرَأي سَعَةً لَهُ
ولِلْأَنْصَارِيِّ فلَمَّا أحْفَظَ الأنْصَارِيُّ رسولَ
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَوْعَى للزُّبَيْرِ
حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ قَالَ عُرْوَةُ قَالَ
الزُّبَيرُ وَالله مَا أحْسِبُ هاذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ
إلاَّ فِي ذالِكَ {فَلا ورَبُّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النِّسَاء: 56) .
الْآيَة..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث. وَهَذَا
الْإِسْنَاد بهؤلاء الرِّجَال على نسق، قد مر غير مرّة.
وَأَبُو الْيَمَان: الحكم ابْن نَافِع الْحِمصِي،
وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، والْحَدِيث قد مضى
فِي الشّرْب فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب مُتَوَالِيَة.
قَوْله: (فِي شراج) بالشين الْمُعْجَمَة وبالجيم: وَهُوَ
مسيل المَاء. قَوْله: (من الْحرَّة) ، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: أَرض ذَات حِجَارَة سود.
قَوْله: (كِلَاهُمَا) تَأْكِيد، ويروى: كِلَاهُمَا،
بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام. قَوْله: (أَن كَانَ) بِفَتْح
الْهمزَة وَكسرهَا. قَوْله: (الْجدر) بِفَتْح الْجِيم
وَسُكُون الدَّال: أَي: الْجِدَار. قَوْله: (فاستوعى) أَي:
استوفى. قَوْله: (سَعَة لَهُ) بِالنّصب أَي: للسعة،
يَعْنِي مُسَامَحَة لَهما، وتوسيعاً عَلَيْهِمَا على
سَبِيل الصُّلْح والمجاملة. قَوْله: (احفظ) أَي: أغضب،
ومادته: حاء مُهْملَة وَفَاء وظاء مُعْجمَة، وَقَالَ
الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون قَوْله: (فَلَمَّا أحفظ) إِلَى
آخِره، من كَلَام الزُّهْرِيّ. وَقد كَانَ من عَادَته أَن
يصل بعض كَلَامه بِالْحَدِيثِ إِذا رَوَاهُ، فَلذَلِك
قَالَ لَهُ مُوسَى بن عقبَة: ميَّز بَين قَوْلك وَقَول
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(13/287)
31 - (بابُ الصُّلْحِ بَيْنَ الغُرَمَاءِ
وأصْحَابِ المِيِرَاثِ والْمُجَازَفَةِ فِي ذَلِكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصُّلْح بَين الْغُرَمَاء
وَأَصْحَاب الْمِيرَاث، وهم الوارثة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: لفظ: بَين، يَقْتَضِي طرفين: الْغُرَمَاء
وَأَصْحَاب الْمِيرَاث. قلت: كَلَامه يشْعر أَن الصُّلْح
بَين الْغُرَمَاء وَبَين أَصْحَاب الْمِيرَاث، فَقَط،
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل كَلَامه أَعم من أَن يكون بَينهم
وَبينهمْ، وَمن أَيْن يكون بَين كل من الْغُرَمَاء
وَأَصْحَاب الْمِيرَاث. قَوْله: والمجازفة فِي ذَلِك،
يَعْنِي عِنْد الْمُعَاوضَة، أَرَادَ أَن المجازفة فِي
الِاعْتِيَاض عَن الدّين جَائِزَة.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ لَا بَأْس أنْ يَتَخَارَجَ
الشَّرِيكَانِ فيَأْخُذَ هَذَا دَيْناً وهَذَا عَيْناً
فإنْ تَوِيَ لأحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ علَى صاحِبِهِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة، وَاخْتلف
الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا اقتسم
الشريكان الْغُرَمَاء فَأخذ هَذَا بَعضهم وَهَذَا بَعضهم،
فَتْوَى نصيب أَحدهمَا وَخرج نصيب آخر، قَالَ: إِذا
أَبرَأَهُ مِنْهُ فَهُوَ جَائِز، وَقَالَ النَّخعِيّ:
لَيْسَ بِشَيْء وَمَا توى أَو خرج فَهُوَ بَينهمَا
نِصْفَانِ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ والكوفيين،
وَقَالَ سَحْنُون: إِذا قبض أحد الشَّرِيكَيْنِ من دينه
عرضا، فَإِن صَاحبه بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ جوز لَهُ مَا
أَخذ وَاتبع الْغَرِيم بِنَصِيبِهِ، وَأَن شَاءَ رَجَعَ
على شَرِيكه بِنصْف مَا قبض واتبعا الْغَرِيم جَمِيعًا
بِنصْف الدّين فاقتسماه بَينهمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا قَول
ابْن الْقَاسِم. قَوْله: (فَإِن توي) بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْوَاو: أَي هلك واضمحل، وَضَبطه
بَعضهم بِكَسْر الْوَاو على وزن: علم، قَالَ ابْن التِّين:
وَلَيْسَ هَذَا ببين، واللغة هُوَ الأول.
9072 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا عبدُ
الوهَّابِ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنِ وهْبِ بنِ
كَيْسَانَ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله
تَعَالَى عنهُما قَالَ تُوُفِّيَ أبي وعَلَيْهِ دَيْنٌ
فَعَرَضْتُ عَلى غُرَمَائِهِ أنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ
بِمَا عَلَيْهِ فأبَوْا ولَمْ يَرَوْا أنَّ فِيهِ وَفَاء
فأتَيْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرْتُ
ذالِكَ لَهُ فقالَ إذَا جَدَدْتَهُ فَوَضَعْتَهُ فِي
المِرْبَدِ آذَنْتُ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَجاءَ ومعَهُ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ فجَلَسَ عَلَيْهِ
ودَعَا بالْبَرَكَةِ ثُمَّ قالَ ادْعُ غُرَمَاءَكَ
فأوْفِهِمْ فَمَا تَرَكْتُ أحَدَاً لَهُ على أبِي دَيْنٌ
إلاَّ قَضَيْتُهُ وفَضَلَ ثلاثَةَ عَشَرَ وسْقاً سَبْعَةٌ
عَجْوَةٌ وسِتَّة لَوْنٌ أوْ سِتَّةٌ عَجْوَةٌ وسَبْعَة
لَوْنٌ فَوَافَيْتُ معَ رسولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم المَغْرِبَ فَذَكرْتُ ذالِكَ لَهُ فَضَحِكَ فَقَالَ
ائْتِ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ فأخْبِرْهُمَا فَقالاَ لَقَدْ
عَلِمْنَا أذْ صَنَعَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَا صنَعَ أنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ. وَقَالَ هِشَامٌ عنْ
وهْبٍ عنْ جابِرِ صلاةَ العَصْرِ ولَمْ يَذْكُرْ أَبَا
بَكْرٍ ولاَ ضَحِكَ وَقَالَ وَتَرَكَ أبي عَلَيْهِ
ثَلاثِينَ وسْقاً دَيْناً وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ عنْ
وَهْبٍ عنْ جابِرٍ صلاةَ الظُّهْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ صلح الْوَارِث
مَعَ الْغُرَمَاء يشْعر بذلك. قَوْله: (فَمَا تركت أحدا
لَهُ على أبي دين إلاَّ قَضيته) لِأَن فيهم من لَا يَخْلُو
عَن الصُّلْح فِي قبض دينه.
وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَعبيد
الله بن عمر، وَقد مضى الحَدِيث فِي الاستقراض فِي: بَاب
إِذا قاص أَو جازفه فِي الدي. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ مُسْتَوفى، ولنتكلم هُنَا بعض شَيْء.
قَوْله: (إِذا جددته) ، بِالدَّال الْمُهْملَة والمعجمة
أَي: إِذا قطعته. قَوْله: (فِي المربد) ، بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال
الْمُهْملَة. وَهُوَ الْموضع الَّذِي يحبس فِيهِ الْإِبِل
وَغَيره، وَأهل الْمَدِينَة يسمون الْموضع الَّذِي يجفف
فِيهِ التَّمْر مربداً، والجرين فِي لُغَة أهل نجد.
قَوْله: (آذَنت) ، أَي: أعلمت، وضع الْمظهر مَوضِع
الْمُضمر لتقوية الدَّاعِي وللإشعار بِطَلَب الْبركَة
مِنْهُ، أَو نَحوه. قَوْله: (وَفضل) ، من بَاب دخل يدْخل،
وَجَاء من بَاب حذر يحذر، وَمن بَاب فضل بِالْكَسْرِ يفضل
بِالضَّمِّ، وَهُوَ شَاذ. قَوْله: (عَجْوَة) ، وَهُوَ ضرب
من أَجود تمور الْمَدِينَة. قَوْله: (لون) ، قَالَ ابْن
الْأَثِير: اللَّوْن نوع من النّخل، وَقيل: هُوَ الدقل،
وَقيل: النّخل كُله
(13/288)
مَا خلا البرني، والعجوة يُسَمِّيه أهل الْمَدِينَة
الألوان، واحدته لينَة، وَأَصله: لونة، قلبت الواء يَاء
لسكونها وانكسار مَا قبلهَا. قَوْله: (إِذْ صنع) ، أَي:
حِين صنع. قَوْله: (أَن سَيكون) ، بِفَتْح الْهمزَة،
لِأَنَّهُ مفعول لقَوْله: علمنَا، قَوْله: (وَقَالَ
هِشَام) ، أَي: ابْن عُرْوَة، وَرِوَايَة هِشَام هَذِه قد
تقدّمت مَوْصُولَة فِي الاستقراض. قَوْله: (وَقَالَ ابْن
إِسْحَاق) أَي: روى مُحَمَّد ابْن إِسْحَاق عَن وهب بن
كيسَان عَن جَابر صَلَاة الظّهْر.
وَاعْلَم أَن هَذَا الِاخْتِلَاف، فِي رِوَايَة عبيد الله
بن عمر: (صَلَاة الْمغرب، وَفِي رِوَايَة هِشَام، صَلَاة
الْعَصْر) ، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (صَلَاة
الظّهْر) غير قَادِح فِي صِحَة أصل الحَدِيث، لِأَن تعْيين
الصَّلَاة بِعَينهَا لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ كَبِير معنى.
41 - (بابُ الصُّلْحِ بالدَّيْنِ والْعَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصُّلْح بِالدّينِ
وَالْعين، وَقَالَ ابْن بطال: اتّفق الْعلمَاء على أَنه
إِن صَالح غريمة عَن دَرَاهِمه بِدَرَاهِم أقل مِنْهَا
أَنه جَائِز إِذا حل الْأَجَل، فَإِذا لم يحل الْأَجَل لم
يجز أَن يحط عَنهُ شَيْئا، وَإِذا صَالحه بُد حُلُول
الْأَجَل عَن دَرَاهِم بِدَنَانِير أَو عَكسه لم يجز إلاَّ
بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهُ صرف، فَإِن قبض بَعْضًا وَبَقِي
بَعْضًا جَازَ فِيمَا قبض وانتقض فِيمَا لم يقبض.
0172 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ قَالَ أخبرَنَا يونُسُ. وَقَالَ
اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنْ ابنِ شِهَابٍ قَالَ
أَخْبرنِي عبدُ الله بنُ كَعْبٍ أنَّ كَعْبَ بنَ مالِكٍ
أخبرَهُ أنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْناً كانَ
لَهُ علَيْهِ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي الْمَسْجِدِ فارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُما حتَّى
سَمِعَهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي
بَيْتٍ فخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إلَيْهِمَا حتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فنَادَى كَعْبَ
بنَ مالِكٍ فَقَالَ يَا كَعْبُ فَقَالَ لَبَّيْكَ يَا
رسولَ الله فأشارَ بِيَدِهِ أَن ضَعِ الشَّطْرَ فَقَالَ
كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ الله فَقَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُمْ فاقْضِهِ..
قَالَ ابْن التِّين: لَيْسَ فِيهِ مَا ترْجم بِهِ.
وَأجِيب: بِأَن فِيهِ الصُّلْح فِيمَا يتَعَلَّق
بِالدّينِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي
الحَدِيث ذكر الْعين، فَكيف دلّ على التَّرْجَمَة؟ قلت:
بِالْقِيَاسِ على الدّين، وَهَذَا الحَدِيث قد تقدم قبل
ثَلَاثَة أَبْوَاب، وَفِي كتاب الصَّلَاة كَمَا
ذَكرْنَاهُ، وَأخرجه هُنَا من طَرِيقين: الثَّانِي مُعَلّق
وَهُوَ قَوْله: وَقَالَ اللَّيْث، وَوَصله الذهلي فِي
الزهريات. |