عمدة القاري شرح صحيح البخاري

51 - (بابُ منْ قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِي العُلْيَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من قَاتل ... إِلَى آخِره.

0182 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وعنْ أبِي وائِل عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ والرَّجلُ يُقَاتِلُ

(14/107)


لِلذِّكْرِ والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ منْ قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهْوَ فِي سَبِيلِ الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله) .
وَعَمْرو: هُوَ ابْن مرّة، وَأَبُو وَائِل هُوَ شَقِيق ابْن سَلمَة، وَأَبُو مُوسَى اسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْخمس عَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي الْعلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب من سَأَلَ وَهُوَ قَائِم عَالما جَالِسا، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (جَاءَ رجل) ، فِي رِوَايَة غنْدر: (جَاءَ أَعْرَابِي) ، قيل: هَذَا يدل على وهم مَا وَقع عِنْد الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن أبي مُوسَى أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله ... فَذكره، فَإِن أَبَا مُوسَى، وَإِن جَازَ أَن يبهم نَفسه، لَكِن لَا يصفها بِكَوْنِهِ أَعْرَابِيًا، وَقيل: إِن هَذَا الْأَعرَابِي يصلح أَن يُفَسر بلاحق بن ضميرَة، وَحَدِيثه عِنْد أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي الصَّحَابَة من طَرِيق عفير بن معدان: سَمِعت لَاحق ابْن ضميرَة الْبَاهِلِيّ، قَالَ: وفدت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلته عَن الرجل يلْتَمس الْأجر وَالذكر؟ فَقَالَ: لَا شَيْء ... لَهُ الحَدِيث، وَفِي إِسْنَاده ضعف. قَوْله: (للذّكر) ، أَي: بَين النَّاس، يَعْنِي: الشُّهْرَة. قَوْله: (ليرى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (مَكَانَهُ) ، أَي: مرتبته فِي الشجَاعَة. قَوْله: (كلمة الله) ، أَي: التَّوْحِيد، فَهُوَ الْمقَاتل فِي سَبِيل الله لَا طَالب الْغَنِيمَة والشهرة، وَلَا مظهر الشَّيْء عَنهُ.

61 - (بابُ منِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبيلِ الله)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من اغبرت قدماه واغبرار الْقَدَمَيْنِ عبارَة عَن الاقتحام فِي المعارك لقِتَال الْكفَّار، وَلَا شكّ أَن الْغُبَار يثور فِي المعركة حَال مصادمة الرِّجَال ويعم سَائِر الْأَعْضَاء، وَلَكِن تَخْصِيص الْقَدَمَيْنِ بِالذكر لِكَوْنِهِمَا عُمْدَة فِي سَائِر الحركات.
وقَوْلِ الله تَعَالَى {مَا كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ} إِلَى قَوْلِهِ {إنَّ الله لاَ يُضِيعُ أجْرَ الْمُحْسِنينَ} (التَّوْبَة: 021) .

وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: من اغبرت أَي: وَفِي بَيَان قَول الله عز وَجل: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم عَن نَفسه، ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب وَلَا مَخْمَصَة فِي سَبِيل الله، وَلَا يطأون موطأ يغِيظ الْكفَّار وَلَا ينالون من عَدو نيلاً إلاَّ كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ ابْن بطال: مُنَاسبَة الْآيَة للتَّرْجَمَة أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ فِي الْآيَة) : {وَلَا يطأون موطأ يغِيظ الْكفَّار} (التَّوْبَة: 021) . وَفِي الْآيَة: {إلاَّ كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح} (التَّوْبَة: 021) . قَالَ: فسر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَمَل الصَّالح أَن النَّار لَا تمس من عمل بذلك. قَالَ: وَالْمرَاد بسبيل الله جَمِيع طاعاته. وَقيل: مُطَابقَة الْآيَة من جِهَة أَن الله أثابهم بخطواتهم وَإِن لم يباشروا قتالاً، وَكَذَلِكَ دلّ الحَدِيث على: أَن من اغبرت قدمه فِي سَبِيل الله حرمه الله على النَّار، سَوَاء بَاشر قتالاً أم لَا. وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) : عَاتب الله تَعَالَى المتخلفين عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك من أهل الْمَدِينَة وَمن حولهَا من أَحيَاء الْعَرَب، وَنفى رغبتهم بِأَنْفسِهِم عَن مواساته فِيمَا حصل من الْمَشَقَّة، فَإِنَّهُم نَقَصُوا أنفسهم من الْأجر، لِأَنَّهُ لَا يصيبهم ظمأ وَهُوَ الْعَطش وَلَا نصب، وَهُوَ التَّعَب وَلَا مَخْمَصَة وَهِي المجاعة، وَلَا يطأن موطئاً يغِيظ الْكفَّار أَي: لَا ينزلون منزلا يرهب عدوهم، وَلَا ينالون مِنْهُ ظفراً وَغَلَبَة عَلَيْهِ، إِلَّا كتب الله لَهُم بِهَذِهِ الْأَعْمَال الَّتِي لَيست دَاخِلَة تَحت قدرهم، وَإِنَّمَا هِيَ ناشئة عَن أفعالهم أعمالاً صَالِحَة وثواباً جزيلاً إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَا نضيع أجر من أحسن عملا} (الْكَهْف: 03) . وَفِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ ظَاهر قَوْله: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة} (الْكَهْف: 03) . خبر وَمَعْنَاهُ أَمر، والأعراب سكان الْبَوَادِي: مزينة وجهينة وَأَشْجَع وَأسلم وغفار، أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غزا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كتب لَهُم بِكُل روعة تنالهم فِي سَبِيل الله سبعين ألف حَسَنَة. وَقَالَ قَتَادَة: هَذَا خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا غزا بِنَفسِهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يتَخَلَّف عَنهُ إلاَّ بِعُذْر، فَأَما غَيره من الْأَئِمَّة والولاة، فَمن شَاءَ أَن يتَخَلَّف تخلف. وَقَالَ الْوَلِيد بن مُسلم: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ، وَابْن الْمُبَارك والفزاري وَابْن جَابر وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز يَقُولُونَ فِي هَذِه الْآيَة: إِنَّهَا لأوّل هَذِه الْأمة وَآخِرهَا. وَقَالَ ابْن زيد: كَانَ هَذَا وَأهل الْإِسْلَام قَلِيل، فَلَمَّا كَثُرُوا نسخهَا الله عز وَجل، وأباح التَّخَلُّف لمن شَاءَ، فَقَالَ:

(14/108)


(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة) ، وَقَالَ النّحاس: ذهب غَيره أَنه لَيْسَ هُنَا نَاسخ وَلَا مَنْسُوخ، وَأَن الْآيَة الأولى توجب إِذا نفر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو احْتِيجَ إِلَى الْمُسلمين واستنفروا لم يسع أحد التَّخَلُّف، وَإِذا بعث النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَرِيَّة خلفت طَائِفَة.

1182 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّدُ بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا يَحيى ابنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني يَزِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخْبرَنا عبَايَةُ بنُ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عَبْسٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ جَبْرٍ أنَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا اغْبَرَّتْ قَدَما عَبْدٍ فِي سَبيلِ الله فَتَمَسَّهُ النَّارُ.
(انْظُر الحَدِيث 709) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب صَلَاة الْجُمُعَة فِي: بَاب الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن يزِيد بن أبي مَرْيَم عَن عبابة بن رِفَاعَة، قَالَ: أدركني أَبُو عبس، وَأَنا أذهب إِلَى الْجُمُعَة فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من اغبرت قدماه فِي سَبِيل الله حرمه الله على النَّار. وَأَبُو عبس كنية: عبد الرَّحْمَن ابْن جبر بن عَمْرو بن زيد الْأنْصَارِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَإِسْحَاق هُوَ ابْن مَنْصُور، قَالَ الجياني: نسبه الْأصيلِيّ إِلَى ابْن مَنْصُور، وَيزِيد بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وعباية، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَرِفَاعَة بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء ابْن رَافع بِالْفَاءِ وبالعين الْمُهْملَة وَأَبُو عبس بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة وجبر بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون البارء الْمُوَحدَة. قَوْله: (من اغبرت) ، كَذَا هُوَ على الأَصْل فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي (مَا اغبرتا) ، وَهِي لُغَة.

71 - (بابُ مَسْحِ الغُبَارِ عنِ النَّاسِ فِي السَّبِيلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان عدم كَرَاهَة مسح الْغُبَار عَن رَأس النَّاس حَال كَونه فِي سَبِيل الله، نَحْو الْجِهَاد وَغَيره من أَبْوَاب الطَّاعَة. وَوَقع فِي بعض النّسخ: عَن النَّاس، قيل: هَذَا تَصْحِيف، وَالصَّوَاب: عَن الرَّأْس. قلت: لَا وَجه لدعوى التَّصْحِيف، لِأَنَّهُ إِذا كره مسح الْغُبَار عَن رَأس من كَانَ فِي سَبِيل الله فَكَذَلِك فِي مَسحه عَن غير الرَّأْس.

2182 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرَنا عبْدُ الوهَّابِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ عَن عِكْرِمَةَ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ ولِعَلِيِّ بنِ عَبْدِ الله ائْتِيَا أَبَا سَعِيدٍ فاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فأتَيْنَاهُ وهْوَ وأخُوهُ فِي حائِطٍ لَهُمَا يَسْقِيَانِ فلَمَّا رآنَا جاءَ فاحْتَبَى وجَلَسَ فقالَ كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ المَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً وكانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَسَحَ عنْ رأْسِه الغُبَارَ وَقَالَ وَيْحُ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ عمَّارٌ يدْعُوهُمْ إِلَى الله ويَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ.
(انْظُر الحَدِيث 344) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمسح عَن رَأسه الْغُبَار) وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وخَالِد هُوَ الْحذاء.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب التعاون فِي بِنَاء الْمَسْجِد. قَوْله: (وَهُوَ وَأَخُوهُ) ، قَالَ الْحَافِظ الدمياطي: لم يكن لأبي سعيد أَخ بِالنّسَبِ إلاَّ قَتَادَة بن النُّعْمَان الظفري، فَإِنَّهُ كَانَ أَخَاهُ لأمه، وَقَتَادَة مَاتَ زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ عمر أبي سعيد أَيَّام بِنَاء الْمَسْجِد عشر سِنِين أَو دونهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِن صَحَّ ذَلِك فَالْمُرَاد بِهِ أَخُوهُ من الرضَاعَة، وَلَا أقل من أَخ فِي الْإِسْلَام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أخوة} (الحجرات: 01) . قلت: بنى جَوَابه هَذَا على قَوْله: إِن صَحَّ ذَلِك وَلم يَصح ذَلِك فَلَا يَصح الْجَواب. قَوْله: (فاحتبى) ، يُقَال: احتبى الرجل إِذا جمع ظَهره وساقيه بعمامته، وَقد يحتبي بِيَدِهِ. قَوْله: (عَن رَأسه) ، ويروى على رَأسه، وَهُوَ مُتَعَلق بالغبار، أَي: الْغُبَار الَّذِي على رَأسه. قَوْله: (وَيْح) ، كلمة رَحْمَة مَنْصُوب بإضمار فعل. قَوْله: (يَدعُوهُم إِلَى الله) ، قَالَ ابْن بطال: يُرِيد وَالله أعلم أهل مَكَّة الَّذين أخرجُوا عماراً من دياره وعذبوه فِي ذَات الله، قَالَ: وَلَا يُمكن أَن يتَأَوَّل ذَلِك على الْمُسلمين، لأَنهم أجابوا دَعْوَة الله عز وَجل، وَإِنَّمَا يدعى إِلَى الله من

(14/109)


كَانَ خَارِجا عَن الْإِسْلَام. قَوْله: (ويدعونه إِلَى النَّار) ، تَأْكِيد للْأولِ، لِأَن الْمُشْركين إِذْ ذَاك طالبوه بِالرُّجُوعِ عَن دينه، قَالَ: فَإِن قيل: فتْنَة عمار كَانَت فِي أول الْإِسْلَام، وَهنا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَدعُوهُم، بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل وَمَا قبله لفظ الْمَاضِي، قيل لَهُ الْعَرَب تخبر بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبل عَن الْمَاضِي، إِذا عرف الْمَعْنى كَمَا تخبر بالماضي عَن الْمُسْتَقْبل، فَمَعْنَى: يَدعُوهُم دعاهم إِلَى الله فَأَشَارَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذكر هَذَا لما تطابقت شدته فِي نَقله لبنتين شدته فِي صبره، بِمَكَّة على الْعَذَاب تَنْبِيها على فضيلته وثباته فِي أَمر الله تَعَالَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويدعوهم، أَي: فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل، وَقد وَقع ذَلِك يَوْم صفّين معْجزَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ دَعَا الفئة الباغية إِلَى الْحق وَكَانُوا يَدعُونَهُ إِلَى الْبَاطِل الْبَغي، انْتهى. قلت: ظَاهر الْكَلَام يساعد الْكرْمَانِي، وَلَكِن ابْن بطال تأدب حَيْثُ لم يتَعَرَّض إِلَى ذكر صفّين إبعاداً لأَهْلهَا عَن نِسْبَة الْبَغي إِلَيْهِم، وَالله أعلم.

81 - (بابُ الغَسْلِ بَعْدَ الحَرْبِ والغبارِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من غسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْفَرَاغ من الْحَرْب، وَبَيَان كَون الْغُبَار على رَأس جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي تِلْكَ الْحَرْب، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما فرغ يَوْم الخَنْدَق من الْحَرْب اغْتسل وَأَتَاهُ جِبْرِيل، وعَلى رَأسه الْغُبَار، وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَن يذهب إِلَى بني قُرَيْظَة كَمَا يَجِيء الْآن بَيَانه فِي حَدِيث الْبَاب، والترجمة الْمَذْكُورَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ: على الْغسْل وعَلى الْغُبَار، فَلَا يَتَّضِح مَعْنَاهَا إلاَّ بِمَا ذكرنَا، وَبِذَلِك يحصل التطابق أَيْضا بَينهَا وَبَين حَدِيث الْبَاب.

3182 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عبْدَةُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الخَنْدَقِ ووضَعَ السِّلاَحَ واغْتَسَلَ فأتاهُ جِبرِيلُ وقَدْ عَصَبَ رأسَهُ الغُبارُ فَقَالَ وَضَعْتَ السِّلاحَ فوَالله مَا وَضَعْتُهُ فقالَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأيْنَ قَالَ هاهُنَا وأوْمأ إِلَيّ بَنِي قُرَيْظَةَ قالَتْ فخَرَجَ إلَيْهِمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث قد مر الْآن. قَوْله: (مُحَمَّد) ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِغَيْر نِسْبَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام، وَعَبدَة ضد الْحرَّة هُوَ ابْن سُلَيْمَان. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (يَوْم الخَنْدَق) ، هُوَ خَنْدَق مَدِينَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حفره الصَّحَابَة لما تحزبت عَلَيْهِم الْأَحْزَاب فَيوم الخَنْدَق هُوَ يَوْم الْأَحْزَاب، قَالَ مَالك: كَانَت غَزْوَة الخَنْدَق فِي سنة أَربع، وَقيل: سنة خمس. قَوْله: (وَقد عصب رَأسه) ، بِفَتْح الْعين وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ جملَة حَالية أَي: ركب رَأسه الْغُبَار وعلق بِهِ كالعصابة. قَوْله: (بني قُرَيْظَة) ، بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وبالظاء الْمُعْجَمَة: قَبيلَة من الْيَهُود، وَفِيه قتال الْمَلَائِكَة بِالسِّلَاحِ ومصاحبتهم الْمُجَاهدين فِي سَبِيل الله تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ فِي عونهم مَا استقاموا، فَإِن خانوا فَارَقْتهمْ، يدل على ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَعَ كل قَاض ملكان يسددانه مَا أَقَامَ الْحق، فَإِذا جَازَ تركاه. والمجاهد حَاكم بِأَمْر الله فِي أعوانه وَأَصْحَابه.

91 - (بابُ فَضْلِ قولِ الله تَعالَى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وفَضْلٍ وأنَّ الله لَا يُضيِعُ أجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمرَان: 971 181) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من ورد فِيهِ قَول الله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا} (آل عمرَان: 971 181) . الْآيَة، وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير، لِأَن ظَاهره غير مُرَاد، وَلِهَذَا حذف الْإِسْمَاعِيلِيّ لفظ: فضل، من التَّرْجَمَة، ثمَّ إِن الْآيَتَيْنِ ساقهما بتمامهما الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} (آل عمرَان: 971 181) . إِلَى {وَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُؤمنِينَ} (آل عمرَان: 971 181) . وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَات، فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يَعْقُوب حَدثنَا أبي عَن إِسْحَاق حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بن عَمْرو

(14/110)


ابْن سعيد عَن أبي الزبير الْمَكِّيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما أُصِيب إخْوَانكُمْ بِأحد جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من أثمارها، وتأوي إِلَى قناديل من ذهب فِي ظلّ الْعَرْش، فَلَمَّا وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وَحسن مقيلهم، قَالُوا: يَا لَيْت إِخْوَاننَا يعلمُونَ مَا صنع الله لنا لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد، وَلَا ينكلُوا عَن الْحَرْب، فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنا أبلغهم عَنْكُم، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} (آل عمرَان: 971) . وَمَا بعْدهَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن جرير وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وروى الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن سُفْيَان عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي حَمْزَة وَأَصْحَابه {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا} (آل عمرَان: 971) . الْآيَة، وَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَالربيع وَالضَّحَّاك، وَقَالَ أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه، بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ بن عبد الْمَدِينِيّ عَن مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن كثير بن بشر بن الْفَاكِه الْأنْصَارِيّ عَن طَلْحَة بن خرَاش بن عبد الرَّحْمَن بن خرَاش بن الصمَّة الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله، قَالَ: نظر إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم فَقَالَ: يَا جَابر {مَالِي أَرَاك مهتماً؟ قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله} اسْتشْهد أبي وَترك عَلَيْهِ دينا وعيالاً. قَالَ: أَلا أخْبرك؟ مَا كلم الله أحدا قطّ إلاَّ من وَرَاء حجاب، وَإنَّهُ كلم أَبَاك كفاحاً. قَالَ عَليّ: الكفاح المواجهة، قَالَ: سلني أعطك. قَالَ: أَسأَلك أَن أُرد إِلَى الدُّنْيَا فأقتل فِيك ثَانِيَة. فَقَالَ الرب، عز وَجل: إِنَّه سبق مني أَنهم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ. قَالَ: أَي رب، فأبلغ من ورائي، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} (آل عمرَان: 971) . حَتَّى أنفد الْآيَة. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَرْزُوق حَدثنَا عَمْرو بن يُونُس عَن عِكْرِمَة حَدثنَا إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة حَدثنِي أنس بن مَالك فِي أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين أرسلهم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أهل بِئْر مَعُونَة الحَدِيث، مطولا. وَفِي آخِره: قَالَ إِسْحَاق: حَدثنِي أنس بن مَالك أَن الله أنزل فيهم قُرْآنًا بلغُوا عَنَّا قَومنَا أَنا قد لَقينَا رَبنَا، فَرضِي عَنَّا ورضينا عَنهُ، ثمَّ نسخت بعد مَا قرأناه زَمَانا، وَأنزل الله: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله ... } (آل عمرَان: 971) . الْآيَة، وَقَالَ مقَاتل: نزلت فِي قَتْلَى بدر، وَكَانُوا أَرْبَعَة عشر شَهِيدا. قَوْله: (فرحين) ، بِمَعْنى: فارحين، وَيجوز أَن يكون حَالا من الضَّمِير فِي: يرْزقُونَ، وَأَن يكون صفة: لأحياء. قَوْله: (من فَضله) أَي: من رزقه. قَوْله: (ويستبشرون) ، عطف على فرحين من الاستبشار، وَهُوَ السرُور بالبشرة. قَوْله: {بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم} (آل عمرَان: 081) . أَي: يفرحون بإخوانهم الَّذين فارقوهم أَحيَاء يرجون لَهُم الشَّهَادَة، يَقُولُونَ إِن قتلوا نالوا مَا نلنا من الْفضل. وَقَالَ السّديّ: يُؤْتى الشَّهِيد بِكِتَاب فِيهِ: يقدم عَلَيْك فلَان يَوْم كَذَا وَكَذَا، وَيقدم عَلَيْك فلَان يَوْم كَذَا وَكَذَا، فيسر بذلك كَمَا يسر أهل الدُّنْيَا بقدوم غائبهم. قَوْله: {أَن لَا خوف عَلَيْهِم} (آل عمرَان: 081) . بدل من الَّذِي يَعْنِي: لَا خوف عَلَيْهِم فِيمَن خلفوه من ذُرِّيتهمْ، {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} (آل عمرَان: 081) . على مَا خلفوا من أَمْوَالهم. وَقيل: لَا خوف فِيمَا يقدمُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْزَنُونَ على مُفَارقَة الدُّنْيَا. قَوْله: {يستبشرون} كَلَام مُسْتَأْنف كرر للتوكيد وَالنعْمَة فضل من الله لَا أَنه وَاجِب عَلَيْهِ. قَوْله: (وَأَن الله) ، بِالْفَتْح عطفا على النِّعْمَة، وَالْفضل، وبالكسر على الِابْتِدَاء وعَلى أَن الْجُمْلَة اعتراضية، وَهِي قِرَاءَة الْكسَائي. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: هَذِه الْآيَة جمعت الْمُؤمنِينَ كلهم سَوَاء الشُّهَدَاء وَغَيرهم، وَقل مَا ذكر الله فضلا ذكر بِهِ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام ثَوَاب مَا أَعْطَاهُم إلاَّ ذكر مَا أعْطى الْمُؤمنِينَ من بعدهمْ.

4182 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى الَّذِينَ قَتَلُوا أصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاَثِينَ غَدَاةً علَى رَعْلٍ وذكْوَانَ وعُصَيَّةَ عَصَتِ الله ورَسُولَهُ قَالَ أنَسٌ أُنْزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ بَلِّغُوا قَوْمَنا أنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا ورَضِينَا عَنْهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا ... } (آل عمرَان: 971) . إِلَى آخِره، نزلت فِي حق أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة، كَمَا ذكره ابْن جرير أَيْضا، وَقد مر عَن قريب. وَذكره البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصرا، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير بأتم مِنْهُ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى.
قَوْله: (مَعُونَة) ، بِفَتْح الْمِيم وَضم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالنون:

(14/111)


وَهِي مَوضِع من جِهَة نجد بَين أَرض بني عَامر وحرة بني سليم، وَكَانَت غزوتُها سنة أَربع. قَوْله: (على رعل) ، بدل من الَّذين قتلوا بِإِعَادَة الْعَامِل. قَوْله: (ثمَّ نسخ) ، مَعْنَاهُ سقط ذكره لتقادم عَهده إلاَّ أَن يذكر بطرِيق الرِّوَايَة، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ النّسخ الَّذين بدل مَكَانَهُ خِلَافه، لِأَن الْخَبَر لَا يدْخلهُ نسخ، وَالْقُرْآن رُبمَا نسخ لَفظه، وَبَقِي حكمه مثل: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ) وَمعنى النّسخ هُنَا أَنه أسقط لَفظه من التِّلَاوَة. قَالَ السُّهيْلي: هَذَا الْمَذْكُور، أَعنِي: مَا نزل، نسخ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رونق الإعجاز. قَوْله: (رَضِينَا عَنهُ) ، وَقد تقدم بِلَفْظ أرضانا، وَالْحَال لَا يَخْلُو من أَحدهمَا. وَأجِيب: بِأَن الْقُرْآن الْمَنْسُوخ يجوز نَقله بِالْمَعْنَى. وَقَالَ الْمُهلب: فِي الحَدِيث دلَالَة على أَن من قتل غدراً فَهُوَ شَهِيد، لِأَن أَصْحَاب بِئْر مَعُونَة قتلوا غدراً.
وَاخْتلف النَّاس فِي كَيْفيَّة حَيَاة الشَّهِيد، فَقَالَ ابْن بطال: إِن الْأَرْوَاح ترزق، وَكَذَا جَاءَ الْخَبَر فِي (صَحِيح ابْن حبَان) : إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن طَائِر تعلق فِي شجر الْجنَّة، قَالَ أهل اللُّغَة: يَعْنِي تَأْكُل مِنْهَا. قَالَ ابْن قرقول: بِضَم اللاَّم، أَي: تتناوله، وَقيل: تشمه. وَهَذَا الحَدِيث عَام وَقد خصّه الْقُرْآن الْعَزِيز بِاشْتِرَاط الشَّهَادَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا لَا يَصح فِي الْعقل، وَلَا فِي الِاعْتِبَار، لِأَنَّهَا إِن كَانَت هِيَ أَرْوَاح الطير فَكيف تكون فِي الحواصل دون سَائِر الْجَسَد، وَإِن كَانَ لَهَا أَرْوَاح غَيرهَا فَكيف يكون لَهَا روحان فِي جَسَد؟ وَكَيف تصل لَهُم الأرزاق الَّتِي ذكر الله عز وَجل. انْتهى. وَفِيه نظر، لِأَن مُسلما أخرج فِي (صَحِيحه) : عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدثنَا الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق قَالَ: سَأَلنَا عبد الله عَن هَذِه الْآيَة: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا ... } (آل عمرَان: 971) . الْآيَة، فَقَالَ: إِنَّا قد سَأَلنَا عَن ذَلِك، فَقَالَ: أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالعرش تسرح من الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت، ثمَّ تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل ... الحَدِيث، وروى الْحَاكِم على شَرط مُسلم من حَدِيث، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لما أُصِيب إخْوَانكُمْ بِأحد. .) الحَدِيث، ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وروى ابْن أبي عَاصِم من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (أَن الثَّمَانِية عشر من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جعل الله أَرْوَاحهم فِي الْجنَّة فِي طير خضر) ، وَفِي لفظ: (أَرْوَاح الشُّهَدَاء عِنْد الله كطير خضر فِي قناديل تَحت الْعَرْش) . وَمن حَدِيث عَطِيَّة عَن أبي سعيد، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر ترعى فِي رياض الْجنَّة ثمَّ تكون مأواها قناديل معلقَة بالعرش. وَمن حَدِيث مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي عَن عبيد الله بن يزِيد عَن أم قلَابَة، أظنها أم مُبشر، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ طير خضر فِي حجر من الْجنَّة، يَأْكُلُون من الْجنَّة وَيَشْرَبُونَ من الْجنَّة، وَبِسَنَد صَحِيح إِلَى كَعْب بن مَالك يرفعهُ أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر) ، وَعند مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : نسمَة الْمُؤمن طَائِر. وَتَأَول بعض الْعلمَاء لفظ: فِي، فِي قَوْله: فِي جَوف طير، بِمَعْنى: على، فَيكون الْمَعْنى: أَرْوَاحهم على جَوف طير خضر، كَمَا فِي قَوْله: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) . أَي: على جُذُوع النّخل. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ، قَوْله: (أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر) ، أَي: يخلق لأرواحهم بَعْدَمَا فَارَقت أبدانهم هياكل على تِلْكَ الْهَيْئَة تتَعَلَّق بهَا وَتَكون خلفا عَن أبدانهم، فيتوسلون بهَا إِلَى نيل مَا يشتهون من اللَّذَّات الحسية. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: لَيست للأقيسة والعقول فِي هَذَا حكم، فَإِذا أَرَادَ الله أَن يَجْعَل الرّوح، إِذا خرجت من الْمُؤمن أَو الشَّهِيد، فِي قناديل أَو جَوف طير أَو حَيْثُ شَاءَ كَانَ ذَلِك، وَوَقع وَلم يبعد، لَا سِيمَا على القَوْل بِأَن الْأَرْوَاح أجساد فَغير مُسْتَحِيل أَن يصور جُزْء من الْإِنْسَان طائراً، أَو يَجْعَل فِي جَوف طَائِر فِي قناديل تَحت الْعَرْش. وَقد اخْتلفُوا فِي الرّوح. فَقَالَ كثير من أَرْبَاب علم الْمعَانِي وَعلم الْبَاطِن والمتكلمين: لَا نَعْرِف حَقِيقَته وَلَا يَصح وَصفه. وَهُوَ مَا جهل الْعباد بِعِلْمِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} (الْإِسْرَاء: 58) . وَقَالَ كَثِيرُونَ من شُيُوخنَا: هُوَ الْحَيَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أجسام لَطِيفَة مشاكلة للجسم يحيى بحياته، أجْرى الله الْعَادة بِمَوْت الْجِسْم عِنْد فِرَاقه، وَلِهَذَا وصف بِالْخرُوجِ وَالْقَبْض وبلوغ الْحُلْقُوم، قَالَ الشَّيْخ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَار، وَقد تعلق بِهَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله بعض القائلي بالتناسخ وانتقال الْأَرْوَاح وتنعيمها فِي الصُّور الحسان المرفهة وتعذيبها فِي الصُّور القبيحة المسخرة، وَزَعَمُوا أَن هَذَا هُوَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَهَذَا بَاطِل مَرْدُود لإبطاله مَا جَاءَت الشَّرَائِع من إِثْبَات الْحَشْر والنشر وَالْجنَّة وَالنَّار.

(14/112)


5182 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدَّثَنا سُفْيَانُ عنْ عَبْدِ الله عنْ عَمْرَو سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقولُ اصْطَبَحَ ناسٌ الخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا شُهَدَاءَ فقِيلَ لِسُفْيَانَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَالَ لَيْسَ هَذَا فيهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (شُهَدَاء) ، وَالْخمر الَّتِي شَرِبُوهَا ذَلِك الْيَوْم لم تَضُرهُمْ لِأَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة فِي وَقت شربهم، وَلِهَذَا أثنى الله عَلَيْهِم بعد مَوْتهمْ، وَرفع عَنْهُم الْخَوْف والحزن. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد.
قَوْله: (اصطبح) ، أَي: شربوا الْخمر صَبُوحًا، والصبوح الشّرْب بِالْغَدَاةِ، وَهُوَ خلاف الغبوق، واصطبح الرجل: شرب صَبُوحًا. قَوْله: (فَقيل لِسُفْيَان: من آخر ذَلِك الْيَوْم) ، يَعْنِي: فِي الحَدِيث هَذَا اللَّفْظ مَوْجُود، وَهُوَ قَوْله: من آخر ذَلِك الْيَوْم. قَالَ سُفْيَان: لَيْسَ هَذَا فِيهِ، أَي: لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مرويا فِي الحَدِيث: فَإِن قلت: أخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق القواريري عَن سُفْيَان بِهَذِهِ الزِّيَادَة، وَلَكِن بِلَفْظ: اصطبح قوم الْخمر أول النَّهَار وَقتلُوا آخر النَّهَار شُهَدَاء. قلت: لَعَلَّ سُفْيَان كَانَ نَسيَه ثمَّ تذكر، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان، بِدُونِ الزِّيَادَة. وَأخرجه فِي تَفْسِير الْمَائِدَة عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بإثباتها.

02 - (بابُ ظِلِّ المَلاَئِكَةِ عَلى الشَّهِيدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ظلّ الْمَلَائِكَة على الشَّهِيد.

6182 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قَالَ أخْبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ الْمُنْكَدِرِ أنَّهُ سَمِعَ جَابِراً يَقُولُ جِيءَ بِأبِي إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقدْ مُثِّلَ بِهِ ووُضِعَ بيْنَ يَدَيْهِ فذَهَبْتُ أكْشِفُ عنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي فَسَمِعَ صَوْتَ صائِحَةٍ فَقيلَ ابْنَةُ عَمْرٍ وأو أخْتُ عَمْرٍ وفقال لِمَ تَبْكِي أوْ لَا تَبْكِي مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِهَا قُلْتُ لِصَدَقَةَ أفِيهِ حَتَّى رُفِعَ قَالَ رُبَّمَا قالَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا زَالَت الْمَلَائِكَة تظله) ، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (قلت لصدقة) ، الْقَائِل هُوَ البُخَارِيّ، وَصدقَة بن الْفضل شَيْخه فِيهِ. قَوْله: (أفيه؟) الْهمزَة للاستفهام على وَجه الاستخبار، أَي أَفِي الحَدِيث لفظ حَتَّى رفع؟ قَوْله: (قَالَ: رُبمَا قَالَه) أَي: قَالَ سُفْيَان: رُبمَا قَالَه جَابر وَلم يجْزم بِهِ، وَجزم بِهِ فِي الْجَنَائِز حَيْثُ قَالَ فِي آخر الحَدِيث: حَتَّى رفع، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحميدِي وَجَمَاعَة عَن سُفْيَان.

12 - (بابُ تَمَنِّي الْمُجَاهِدِ أنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تمني الْمُجَاهِد أَن يرجع، كلمة: إِن، مَصْدَرِيَّة أَي: تمنى الْمُجَاهِد الَّذِي جَاهد فِي سَبِيل الله ثمَّ قتل رُجُوعه إِلَى الدُّنْيَا لما يرى من الكرامات للشهداء.

7182 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتادَةَ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا أحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ولَهُ مَا عَلى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 5972) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر وَقد تكَرر ذكره.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي

(14/113)


الْجِهَاد عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ.
قَوْله: (مَا أحد) فِي رِوَايَة أبي خَالِد: مَا من نفس. قَوْله: (يدْخل الْجنَّة) ، فِي رِوَايَة أبي خَالِد لَهَا: عِنْد الله خير. قَوْله: (وَله مَا على الأَرْض من شَيْء) ، وَفِي رِوَايَة أبي خَالِد، وَأَن لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَوْله: (لما يرى من الْكَرَامَة) ، أَي: لأجل مَا يرَاهُ من الْكَرَامَة للشهداء، وَفِي رِوَايَة أبي خَالِد، لما يرى من فضل الشَّهَادَة، وَلم يقل: عشر مَرَّات. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث أجل مَا جَاءَ فِي فضل الشَّهَادَة، وَالله أعلم.