عمدة القاري شرح صحيح البخاري

47 - (بابُ مَنْ غَزَا بِصَبِيٍّ لِلْخِدْمَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة خُرُوج من غزا بصبي لأجل الْخدمَة بطرِيق التّبعِيَّة، وَإِن كَانَ لَا يُخَاطب بِالْجِهَادِ.

57 - (بابُ ركوبِ البَحْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ركُوب الْبَحْر، وَلكنه أطلق وَذكره فِي أَبْوَاب الْجِهَاد، يُشِير إِلَى تَخْصِيصه بالغزو للرِّجَال وَالنِّسَاء، فَإِذا جَازَ ركُوبه للْجِهَاد فللحج أجوز، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْأَظْهر، وَكره مَالك للْمَرْأَة الْحَج فِي الْبَحْر لِأَنَّهَا لَا تكَاد تستتر من الرِّجَال، وَمِنْهُم من منع ركُوب الْبَحْر مُطلقًا، لِأَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يمْنَع النَّاس من ركُوب الْبَحْر فَلم يركبه أحد طول حَيَاته، وَلَا حجَّة فِي ذَلِك، لِأَن السّنة أباحته للرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الْجِهَاد، وَهُوَ حَدِيث الْبَاب، وَغَيره. وَأخرج أَبُو عُبَيْدَة فِي (غَرِيب الحَدِيث) من حَدِيث عمرَان الْجونِي: عَن زُهَيْر بن عبد الله يرفعهُ: من ركب الْبَحْر إِذا ارتج فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة، وَفِي رِوَايَة: يَلُومن إلاَّ نَفسه، وَزُهَيْر مُخْتَلف فِي صحبته. وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيثه فِي (تَارِيخه) فَقَالَ فِي رِوَايَته: عَن زُهَيْر عَن رجل من الصَّحَابَة، وَإِسْنَاده حسن، وَفِيه تَقْيِيد الْمَنْع بالارتجاج، وَمَفْهُومه الْجَوَاز عِنْد عَدمه وَهُوَ الْمَشْهُور من أَقْوَال الْعلمَاء، فَإِذا غلبت السَّلامَة فالبر وَالْبَحْر سَوَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر} (يُونُس: 22) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وأكبر ظَنِّي أَنه قَالَ: التج، باللاَّمِ، فَدلَّ على أَن ركُوبه مُبَاح فِي غير هَذَا الْوَقْت فِي كل شَيْء، فِي التِّجَارَة وَغَيرهَا.

5982 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ يَحْيَى عنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بن حبَّانَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ حدَّثَتْنِي أُمُّ حَرَامٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْمَاً فِي بَيتِهَا فاسْتَيْقَظَ وهْوَ يَضْحَكُ قالَتْ يَا رسولَ الله مَا يُضْحِكُكَ قَالَ عَجِبّتُ مِنْ قَوْمٍ مِنّ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ البَحْرَ كالمُلُوكِ علَى الأسِرِّةِ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنُ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أنتِ مَعَهُمْ ثُمَّ نامَ فاسْتَيْقَظَ وهْو يَضْحَكُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثاً قُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَيقولُ أنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ فتزَوَّجَ بِهَا عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ فخَرَجَ بِهَا إِلَى الغَزْوِ فلَمَّا رَجَعَتْ قُرِّبَتْ دَابَّةٌ لَتَرْكَبَهَا فوَقَعَتْ فانْدَقَّتْ عُنُقُها.
(انْظُر الْحَدِيثين 8872 و 9872 وطرافهما) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ الْقطَّان، وَمُحَمّد بن يحيى بن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن منقذ الْأنْصَارِيّ الْمدنِي. والْحَدِيث قد مضى عَن قريب فِي: بَاب غَزْو الْمَرْأَة فِي الْبَحْر، وَمضى أَيْضا فِي: بَاب من يصرع فِي سَبِيل الله، وَفِي: بَاب الدُّعَاء فِي الْجِهَاد. قَوْله: (قَالَ يَوْمًا) من القيلولة، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذِه الْأَبْوَاب مستقصىً.

67 - (بابُ مَنِ اسْتَعَانَ بالضُّعَفَاءِ والصَّالِحِينَ فِي الحَرْبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من اسْتَعَانَ ... إِلَى آخِره، يَعْنِي: ببركتهم ودعائهم.
وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ أخبرَنِي أبُو سُفْيَانَ قَالَ قَالَ لِي قَيْصَرُ سألْتُكَ أشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ

(14/178)


فَزَعَمْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبِعُوهُ وهُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ

وَجه ذكره عقيب التَّرْجَمَة هُوَ قَوْله: (فَزَعَمت أَن ضعفاءهم اتَّبعُوهُ وهم أَتبَاع الرُّسُل) وَهُوَ طرف من الحَدِيث الطَّوِيل الَّذِي فِي بَدْء الْوَحْي فِي أول الْكتاب، وَاسم أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب ضد الصُّلْح ابْن عبد شمس ابْن عبد منَاف بن قصي الْقرشِي الأومي الْمَكِّيّ، أسلم لَيْلَة الْفَتْح، نزل الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان بن عَفَّان، وَهُوَ وَالِد مُعَاوِيَة. وَقَيْصَر لقب هِرقل مَلَكَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة، فَفِي ملكه مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

6982 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ عنْ طَلْحَةَ عنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ قَالَ رأى سَعْدٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ لَهُ فَضْلاً علَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِأَنَّهُم لَا ينْصرُونَ إلاَّ بالضعفاء وَالصَّالِحِينَ فِي كل شَيْء، عملا بِإِطْلَاق الْكَلَام، وَلَكِن أهم ذَلِك وأقواه أَن يكون فِي الْحَرْب يستعينون بدعائهم ويتبركون بهم.
وَمُحَمّد بن طَلْحَة بن مصرف ابْن عَمْرو اليامي. يروي عَن أَبِيه طَلْحَة بن مصرف، وَهُوَ يروي عَن مُصعب بن سعد بن أبي وَقاص.
قَوْله: (رأى سعد) هُوَ ابْن أبي وَقاص، وَهُوَ وَالِد مُصعب الرَّاوِي عَنهُ، وَصُورَة هَذَا مُرْسل لِأَن مصعباً لم يدْرك زمَان هَذَا القَوْل. لكنه مَحْمُول على أَنه سمع ذَلِك عَن أَبِيه، وَقد وَقع التَّصْرِيح بذلك فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ مسعر: عَن طَلْحَة بن مصرف عَن مُصعب عَن أَبِيه قَوْله: رأى، أَي: ظن، وَهِي رِوَايَة النَّسَائِيّ. قَوْله: (أَن لَهُ فضلا على من دونه) أَي: من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: بِسَبَب شجاعته وَنَحْو ذَلِك من جِهَة الْغنى وَكَثْرَة المَال. قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل تنْصرُونَ ... ؟) إِلَى آخِره. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا القَوْل لسعدٍ الحض على التَّوَاضُع، وَنفي الْكبر والزهو على قُلُوب الْمُؤمنِينَ، وَأخْبر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن بدعائهم ينْصرُونَ وَيُرْزَقُونَ، لِأَن عِبَادَتهم ودعاءهم أَشد إخلاصاً وَأكْثر خشوعاً لخلو قُلُوبهم من التَّعَلُّق بزخرف الدُّنْيَا وَزينتهَا، وصفاء ضمائرهم عَمَّا يقطعهم عَن الله تَعَالَى: جعلُوا هَمهمْ وَاحِدًا. فزكت أَعْمَالهم، وَأجِيب دعاؤهم. وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِنَّمَا ينصر الله هَذِه الْأمة بضعفائهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم، وروى عبد الرَّزَّاق عَن مَكْحُول: أَن سَعْدا قَالَ: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت رجلا يكون حامية الْقَوْم وَيدْفَع عَن أَصْحَابه، أَن يكون نصِيبه كنصيب من غَيره؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثكلتك أمك يَا ابْن سعد، وَهل ترزقون وتنصرون إلاَّ بضعفائكم.

7982 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرٍ وأنَّهُ سَمِعَ جابِراً عنْ أبِي سَعيدٍ الْخُدْرِي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يأتِي زَمانٌ يَغْزُو فَئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقالُ نَعَمْ فَيُفْتحُ عَلَيْهِ ثُمَّ يأتِي زَمانٌ فيُقالُ فِيكُمْ منْ صَحِبَ أصْحَابَ النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيقالُ نَعَمْ فيُفْتَحُ ثُمَّ يَأتِي زَمانٌ فيُقالُ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صاحِبَ أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيقال نَعَمْ فيُفْتَحُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن صحب أَصْحَاب النَّبِي، وَمن صحب صَاحب أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم ثَلَاثَة: الصَّحَابَة والتابعون وَأَتْبَاع التَّابِعين، حصلت بهم النُّصْرَة لكَوْنهم ضعفاء فِيمَا يتَعَلَّق بِأَمْر الدُّنْيَا، أقوياء فِيمَا يتَعَلَّق بِأَمْر الْآخِرَة.
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَمْرو بن دِينَار، وَجَابِر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ والصحابي، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه: سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن قُتَيْبَة، وَفِي فَضَائِل الصَّحَابَة عَن عَليّ ابْن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بن حَرْب وَأحمد بن عَبدة، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن سعيد بن يحيى الْأمَوِي عَن أَبِيه.
قَوْله: (فِئَام) ، بِكَسْر الْفَاء وَفتح الْهمزَة، وَيُقَال: فيام، بياء آخر الْحُرُوف مُخَفّفَة، وَفِيه لُغَة أُخْرَى وَهِي: فتح الْفَاء، ذكره

(14/179)


ابْن عديس. وَفِي (التَّهْذِيب) : الْعَامَّة تَقول: فيام، وَهِي الْجَمَاعَة من النَّاس، قَالَ صَاحب (الْعين) : وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، قَوْله: (فِيكُم من صحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي لفظ: هَل فِيكُم من رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بدل: من صحب، وَهُوَ رد لقَوْل جمَاعَة من المتصوفة الْقَائِلين: إِن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يره أحد فِي صورته، ذكره السَّمْعَانِيّ، وَقَالَ ابْن بطال: يشْهد لهَذَا الحَدِيث قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ) .
وَفِيه: معْجزَة لسيدنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفضيلة لأَصْحَابه وتابعيهم.

77 - (بابٌ لَا يَقُولُ فلاَنٌ شَهيدٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يُقَال فلَان شَهِيد، يَعْنِي: على سَبِيل الْقطع، إلاَّ فِيمَا ورد بِهِ الْوَحْي.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الله أعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله أعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ

هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث مضى فِي أَوَائِل الْجِهَاد فِي: بَاب أفضل النَّاس مُؤمن مُجَاهِد بِنَفسِهِ وَمَاله، من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (بِمن يكلم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: بِمن يجرح.

8982 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي حازمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْتَقَى هُوَ والمشْرِكُونَ فاقْتَتَلُوا فلَمَّا مَال رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَال الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أصْحَابِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شاذَّةً ولاَ فاذَّةً إلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ مَا أجْزَأ مِنَّا اليَوْمَ أحَدٌ كَما أجْزَ فُلانٌ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَا إنَّهُ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ أَنا صاحِبُهُ فخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وقَفَ وقفَ مَعَهُ وإذَا أسْرَعَ أسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحَاً شَدِيداً فاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ علَى سَيْفِهِ فقَتَلَ نَفْسَهُ فَخَرَجَ الرِّجُلُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أشْهَدُ أنَّكَ رسولُ الله قَالَ وَمَا ذاكَ قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفَاً أنَّهُ مِنْ أهْلِ النَّارِ فأعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فقُلْتُ أَنا لَكُمْ بِهِ فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُم جُرِحَ جُرْحَاً شَدِيداً فاسْتَعْجلَ المَوْت فوَضعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأرْضِ وذبابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فقَتَلَ نفْسَهُ فَقَالَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ ذَلِكَ إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ وهْوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ وإنَّ الرَّجلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ وهْوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّحَابَة لما شهدُوا برجحان هَذَا الرجل فِي أَمر الْجِهَاد كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه شَهِيد لَو قتل، ثمَّ لما ظهر مِنْهُ أَنه لم يُقَاتل لله وَأَنه قتل نَفسه، علم أَنه لَا يُطلق على كل مقتول فِي الْجِهَاد أَنه شَهِيد قطعا، لاحْتِمَال أَن يكون مثل هَذَا، وَإِن كَانَ يُعْطي لَهُ حكم الشُّهَدَاء فِي الْأَحْكَام الظَّاهِرَة.
وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد، وَقد مضى عَن قريب، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان وَفِي الْقدر جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (التقى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ) ، وَكَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة خَيْبَر، وَقد أعَاد هَذَا الحَدِيث بِعَين هَؤُلَاءِ

(14/180)


الرِّجَال وَعين هَذَا الْمَتْن فِي: بَاب غَزْوَة خَيْبَر، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانَ فِي يَوْم أحد قَوْله: (وَفِي أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل) ، واسْمه قزمان وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين، وَكَانَ تخلف يَوْم أحد فَعَيَّرَهُ النِّسَاء وقلن لَهُ: مَا أَنْت إِلَّا امْرَأَة، فَخرج فَكَانَ أول من رمى بِسَهْم ثمَّ كسر جفن سَيْفه. ونادى: يَا آل الْأَوْس قَاتلُوا على الأحساب، فَلَمَّا خرج مر بِهِ قَتَادَة بن النُّعْمَان فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا لَك الشَّهَادَة، فَقَالَ: إِنِّي وَالله مَا قَاتَلت على دين، مَا قَاتَلت إلاَّ على الْحفاظ، ثمَّ قتل نَفسه، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر. قَوْله: (لَا يدع لَهُم شَاذَّة) ، بشين وذال معجمتين، والفاذة، بِالْفَاءِ وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة، قَالَ الْخطابِيّ: الشاذة هِيَ الَّتِي كَانَت فِي الْقَوْم ثمَّ شذت مِنْهُم، والفاذة من لم يخْتَلط مَعَهم أصلا، فوصفه بِأَنَّهُ لَا يبقي شَيْئا إِلَّا أَتَى عَلَيْهِ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الشاذة والفاذة مَا صغر وَكبر ويركب كل صَعب وَذَلُول، وَيُقَال: أنث الْكَلِمَتَيْنِ على وَجه الْمُبَالغَة، كَمَا قَالُوا: عَلامَة ونسابة، وَقيل: أنث الشاذة لِأَنَّهَا بِمَعْنى النَّسمَة. قَوْله: (مَا أجرأ) ، بجيم وزاي وهمزة، يَعْنِي: مَا أغْنى وَلَا كفى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَذَا صحت فِيهِ رِوَايَتَانِ رباعياً. وَفِي (الصِّحَاح) أجزأني الشَّيْء: كفاني، وجزا عني هَذَا الْأَمر، أَي: قضى. قَوْله: (وذبابه) ذُبَاب السَّيْف طرفه الَّذِي يضْرب بِهِ، وَقَالَ ابْن فَارس: ذُبَاب السَّيْف حَده. قَوْله: (بَين ثدييه) ، قَالَ ابْن فَارس: الثدي للْمَرْأَة وَالْجمع الثدي يذكر وَيُؤَنث، وتندوة الرجل كثدي الْمَرْأَة، وَهُوَ مَهْمُوز إِذا ضم أَوله، فَإِذا فتح لم يهمز، وَيُقَال: هُوَ طرف الثدي. قَوْله: (ثمَّ تحامل) ، أَي: مَال، يُقَال: تحاملت على الشَّيْء إِذا تكلفت الشَّيْء على مشقته. قَوْله: (فِيمَا يَبْدُو) أَي: فِيمَا يظْهر. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْقَتْل هُوَ مَعْصِيّة وَالْعَبْد لَا يكفر بالمعصية فَهُوَ من أهل الْجنَّة لِأَنَّهُ مُؤمن؟ قلت: لَعَلَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علم بِالْوَحْي أَنه لَيْسَ مُؤمنا، أَو أَنه سيرتد حَيْثُ يسْتَحل قتل نَفسه، أَو المُرَاد من كَونه من أهل النَّار: أَنه من العصاة الَّذين يدْخلُونَ النَّار ثمَّ يخرجُون مِنْهَا. انْتهى. قلت: لَو اطلع الْكرْمَانِي على أَنه كَانَ معدوداً فِي الْمُنَافِقين، أَو على قَوْله: قَاتَلت على دين، لما تكلّف بِهَذِهِ الترديدات.
وَفِيه: صدق الْخَبَر عَمَّا يكون وَخُرُوجه على مَا أخبر بِهِ الشَّارِع، وَهُوَ من عَلَامَات النُّبُوَّة. وَفِيه: زِيَادَة تطمين فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ، أَلاَ ترى أَن الرجل حِين رأى أَنه قتل نَفسه، قَالَ: حِين أخبر بِهِ الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أشهد أَنَّك لرَسُول الله. وَفِيه: أَن الإعتبار بالخواتيم وبالنيات.
وَفِيه: أَن الله يُؤَيّد دينه بِالرجلِ الْفَاجِر.

87 - (بابُ التَحْرِيضِ علَى الرَّمْيِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التحريض أَي: الْحَث على الرَّمْي بِالسِّهَامِ.
وقَوْلِ الله تَعَالَى {وأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وعَدُوَّكُمْ} (الْأَنْفَال: 06) .

(وَقَول الله) ، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: التحريض الْمَجْرُور بِالْإِضَافَة، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذِه الْآيَة فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب من احْتبسَ فرسا فِي سَبِيل الله، وَالْمرَاد بِالْقُوَّةِ الرَّمْي. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا فسر الْقُوَّة بِالرَّمْي وَإِن كَانَت الْقُوَّة تظهر بإعداد غَيره من آلَات الْحَرْب، لكَون الرَّمْي أَشد نكاية فِي الْعَدو وأسهل مُؤنَة، لِأَنَّهُ قد يَرْمِي رَأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خَلفه.

9982 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا حاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ سلَمَةَ بنَ الأكْوَعِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مرَّ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى نفَرٍ مِنْ أسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فإنَّ أبَاكُمْ كانَ رَامِياً ارْمُوا وَأَنا مَعَ بَنِي فُلانٍ قَالَ فأمْسَكَ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ بأيْدِيهِمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مالَكُمْ لاَ تَرْمُونَ قَالُوا كَيْفَ نَرْمِي وأنْتَ مَعَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارْمُوا فأنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ.

(14/181)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ارموا بني إِسْمَاعِيل) وَفِي قَوْله: (ارموا) فِي موضِعين أَيْضا. وَفِيه تحريض على الرَّمْي أَيْضا.
وحاتم بن إِسْمَاعِيل أَبُو إِسْمَاعِيل الْكُوفِي؛ سكن الْمَدِينَة، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد مصغر عبد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، والأكوع اسْمه: سِنَان بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن قُتَيْبَة وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش عَن مُسَدّد.
قَوْله: (من أسلم) أَي: من بني أسلم، الْقَبِيلَة الْمَشْهُورَة، وَهِي بِلَفْظ: أفعل التَّفْضِيل من السَّلامَة. قَوْله: (ينتضلون) بالضاد الْمُعْجَمَة أَي يترامون، يُقَال: انتصل الْقَوْم إِذا رموا للسبق والنضال. قَوْله: (ارموا بني إِسْمَاعِيل) أَي: يَا بني إِسْمَاعِيل، وحرف النداء مَحْذُوف، وَفِي كتاب ابْن مطير من حَدِيث أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِنَفر يرْمونَ، فَقَالَ: (رمياً بني إِسْمَاعِيل فَإِن أَبَاكُم كَانَ رامياً) . وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) : عَن أبي هُرَيْرَة: خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأسلم يرْمونَ، فَقَالَ: إرموا بني إِسْمَاعِيل فَأن أَبَاكُم كَانَ رامياً، إرموا وَأَنا مَعَ ابْن الأدرع، فَأمْسك الْقَوْم قسيهم، قَالُوا: من كنت مَعَه غلب، قَالَ: إرموا وَأَنا مَعكُمْ كلكُمْ. انْتهى. وَاسم ابْن الأدرع: محجن، قَالَه ابْن عبد الْبر، وَحكى ابْن مَنْدَه: أَن اسْمه سَلمَة، قَالَ: والأدرع لقب، واسْمه ذكْوَان، وَالله أعلم. قَوْله: (فَإِن أَبَاكُم كَانَ رامياً) ، وَذكر ابْن سعد من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد بن أنعم: أَخْبرنِي بكر بن سوَادَة سمع عَليّ بن رَبَاح، يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل الْعَرَب من ولد إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي كتاب الزبير: حَدثنِي إِبْرَاهِيم الْحزَامِي حَدثنِي عبد الْعَزِيز بن عمرَان عَن مُعَاوِيَة بن صَالح الْحِمْيَرِي عَن ثَوْر عَن مَكْحُول قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْعَرَب كلهَا بَنو إِسْمَاعِيل إِلَّا أَربع قبائل: السّلف والأوزاع وحضرموت وَثَقِيف، وَرَوَاهُ صاعد فِي كتاب (الفصوص) تأليفه، من حَدِيث عبد الْعَزِيز ابْن عمرَان عَن مُعَاوِيَة: أَخْبرنِي مَكْحُول عَن مَالك بن يخَامر وَله صُحْبَة، فَذكره. قَوْله: (وَأَنا مَعَ بني فلَان) قد مر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: وَأَنا مَعَ ابْن الأدرع، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: وَأَنا مَعَ محجن بن الأدرع. قَوْله: (قَالُوا: كَيفَ نرمي وَأَنت مَعَهم؟) من الْقَائِلين هَذَا نَضْلَة الْأَسْلَمِيّ، ذكره ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَن سُفْيَان بن فَرْوَة الْأَسْلَمِيّ عَن أَشْيَاخ من قومه من الصَّحَابَة، قَالَ: بَينا محجن بن الأدرع يناضل رجلا من أسلم يُقَال لَهُ: نَضْلَة ... فَذكر الحَدِيث. وَفِيه، فَقَالَ نَضْلَة، وَألقى قوسه من يَده: وَالله لَا أرمي مَعَه وَأَنت مَعَه. قَوْله: (وَأَنا مَعكُمْ كلكُمْ) بِكَسْر اللَّام، وَسُئِلَ: كَيفَ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ الْفَرِيقَيْنِ وَأَحَدهمَا غَالب وَالْآخر مغلوب؟ وَأجِيب بِأَن المُرَاد مِنْهُ معية الْقَصْد إِلَى الْخَيْر وَإِصْلَاح النِّيَّة والتدرب فِيهِ لِلْقِتَالِ.
وَفِي الحَدِيث دلَالَة على رُجْحَان قَول من قَالَ من أهل النّسَب: إِن الْيمن من ولد إِسْمَاعِيل وَأسلم من قحطان. وَفِيه: إِطْلَاق الْأَب على الْجد وَإِن علا. وَفِيه: أَن السُّلْطَان يَأْمر رِجَاله بتَعَلُّم الفروسية ويحض عَلَيْهَا خُصُوصا الرَّمْي بِالسِّهَامِ.
وَقد وَردت فِيهِ أَحَادِيث تدل على فَضله والتحريض عَلَيْهِ. فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن أبي نجيح، يَعْنِي عَمْرو بن عَنْبَسَة يرفعهُ: من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل الله فَهُوَ لَهُ عدل مُحَرر، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن كَعْب بن مرّة: من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل الله فَبلغ الْعَدو، أَو لم يبلغ، كَانَ لَهُ كعتق رَقَبَة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان عَن كَعْب بن مرّة: هَذَا، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: من بلغ الْعَدو بِسَهْم رفع الله لَهُ دَرَجَة، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن النحام، وَمَا الدرجَة يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أما إِنَّهَا لَيست بِعتبَة أمك، مَا بَين الدرجتين مائَة عَام. وَمِنْهَا: مَا ذكره فِي (الخلعيات) من حَدِيث الرّبيع بن صبيح عَن الْحسن عَن أنس: يدْخل الله بِالسَّهْمِ الْجنَّة ثَلَاثَة: الرَّامِي بِهِ وصانعه والمحتسب بِهِ. وَفِي لفظ: من اتخذ قوساً عَرَبِيَّة وجفيره يَعْنِي: كِنَانَته نفى الله عَنهُ الْفقر، وَفِي لفظ: أَرْبَعِينَ سنة. قلت: ذكر الْخَطِيب أَن الخسن هَذَا هُوَ ابْن أبي الْحَسْنَاء. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي رَاشد الحبراني عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا يَرْمِي بقوس فارسية، فَقَالَ: إرم بهَا، ثمَّ نظر إِلَى قَوس عَرَبِيَّة، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِهَذِهِ وأمثالها فَإِن بِهَذِهِ يُمكن الله لكم فِي الْبِلَاد ويزيدكم فِي النَّصْر، وَذكر الْبَيْهَقِيّ عَن أبي عبد الرَّحْمَن بن عَائِشَة، أَنَّهَا قَالَت: قَالَ قَالَ أهل الْعلم، إِنَّمَا نهى عَن الْقوس الفارسية لِأَنَّهَا إِذا انْقَطع وترها لم ينْتَفع بهَا صَاحبهَا، والعربية إِذا انْقَطع وترها كَانَت لَهُ عَصا ينْتَفع بهَا.

(14/182)


0092 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ الغَسِيلِ عنْ حَمْزَةَ بنِ أبِي أُسَيْدٍ عنْ أبِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ بَدْر حِينَ صَفَفْنا لِقُرَيْشٍ وصَفُّوا لَنا إذَا أكْتَبُوكُمْ فعَلَيْكُمْ بالنَّبْلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَعَلَيْكُم بِالنَّبلِ) ، فَإِنَّهُ تحريض على الرَّمْي بِالسِّهَامِ، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَعبد الرَّحْمَن ابْن الغسيل هُوَ عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر الراهب، وحَنْظَلَة هُوَ غسيل الْمَلَائِكَة، مر فِي الْجُمُعَة فِي: بَاب من قَالَ أما بعد، وَحَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: ابْن أبي أسيد، بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين وَإِسْكَان الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَأَبُو أسيد اسْمه مَالك السَّاعِدِيّ الخزرجي مر فِي: بَاب من شكا إِمَامه.
قَوْله: (حِين صففنا لقريش) قَالَ الْخطابِيّ: وَفِي بعض النّسخ: حِين أففنا، مَكَان: صففنا، فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاه الْقرب مِنْهُم والتدلي عَلَيْهِم. كَأَن مكانهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ أهبط من مصَاف هَؤُلَاءِ، وَمِنْه قَوْلهم: أَسف الطَّائِر فِي طيرانه إِذا انحط إِلَى أَن يُقَارب وَجه الأَرْض، ثمَّ يطير صاعداً. قَوْله: (إِذا اكثبو) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، يُقَال: أكثبك الصَّيْد إِذا أمكنك أَو قرب مِنْك، وَالْمعْنَى هُنَا: إِذا دنوا مِنْكُم وقاربوكم، وَفِي (الغريبين) : إِذا كثبوكم من الكثب بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْقرب، وَقد اسْتشْكل بِأَن الَّذِي يَلِيق بالدنو المطاعنة بِالرُّمْحِ وَالْمُضَاربَة بِالسَّيْفِ، وَأما الَّذِي يَلِيق برمي النبل فالبعد، وَالْجَوَاب أَنه لَا إِشْكَال فِيهِ، وَالْمعْنَى هُوَ الَّذِي مر ذكره، لأَنهم إِذا لم يقربُوا ورموهم على بعد قد لَا تصل إِلَيْهِم وَتذهب نبالهم ضيَاعًا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث حَمْزَة بن أبي أسيد عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين اصطففنا يَوْم بدر: إِذا غشوكم فارموهم بِالنَّبلِ واستبقوا نبلكم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِذا أكثبوكم فارموهم وَلَا تسلوا السيوف حَتَّى يغشوكم. وَقَالَ الدَّاودِيّ: معنى أكثبوكم: كاثروكم، ورد عَلَيْهِ هَذَا التَّفْسِير بِأَنَّهُ لَا يعرف. قَوْله: (فَعَلَيْكُم بِالنَّبلِ) ، أَي: لازموها، والنبل جمع نبلة وَيجمع على نبال أَيْضا، وَهِي: السِّهَام الْعَرَبيَّة اللطاف.

97 - (بابُ اللَّهْوِ بالحِرَابِ ونَحْوِهَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة اللَّهْو بالحراب، بِكَسْر الْحَاء: جمع الحربة. قَوْله: وَنَحْوهَا، أَي: نَحْو الحراب من آلَات الْحَرْب كالسيف والقوس والنبل.

1092 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا هِشامٌ عنْ مَعْمَرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ بَيْنَا قَالَ بَيْنا الحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِرَابِهِمْ دَخَلَ عُمَرُ فأهْوَى إِلَى الحَصَى فَحَصَبَهُمْ بِها فَقَالَ دَعْهُمْ يَا عُمَرُ. وزَادَ عَلَيَّ قَالَ حدَّثنا عبدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ فِي المَسْجِدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر الحراب؟ قلت: ورد ذكره فِي بعض طرقه فِي حَدِيث عَائِشَة، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب أَصْحَاب الحراب فِي الْمَسْجِد.
وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير، وَهِشَام بن يُوسُف، وَمعمر بن رَاشد، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَابْن الْمسيب سعيد.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْعِيد عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد.
قَوْله: (فَأَهوى) ، أَي: قصد، والحصى: جمع حَصَاة. قَوْله: (فحصبهم بهَا) أَي: رماهم بالحصى. قَوْله: (دعهم أَي: اتركهم. قَوْله: (وَزَاد عَليّ) ، أَي: ابْن الْمَدِينِيّ، وَالزِّيَادَة هِيَ لَفْظَة: فِي الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وزادنا عَليّ، وَفِي (التَّوْضِيح) : واللعب بالحراب سنة ليَكُون ذَلِك عدَّة للقاء الْعَدو، وليتدرب النَّاس فِيهِ. وَلم يعلم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، معنى ذَلِك حِين حصبهم حَتَّى قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دعهم.
وَفِيه: أَن من تَأَول فأخطٌ لَا لوم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يوبخ عمر إِذْ كَانَ متأولاً، وَقَالَ ابْن التِّين: حصبُ عمر الْحَبَشَة يحْتَمل أَن يكون ظن أَنه لم ير رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يعلم أَنه رَآهُمْ أَو يكون

(14/183)


ظن أَنه استحيى مِنْهُم، وَهَذَا أولى لقَوْله: يَلْعَبُونَ عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: جَوَاز مثل هَذَا اللّعب فِي الْمَسْجِد إِذا كَانَ فِيمَا يَشْمَل النَّاس لعبه.

08 - (بابُ المِجَنِّ ومنْ يتَتَرَّسُ بِتَرْسِ صاحِبِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر الْمِجَن، وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم وَفتح الْجِيم وَتَشْديد النُّون، وَهُوَ الدرقة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ الترس لِأَنَّهُ يواري حامله أَي يستره، وَالْمِيم زَائِدَة. قَوْله: (وَمن يتترس) أَي: وَفِي ذكر من يتترس أَي: يسْتَتر بترس صَاحبه

2092 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عبدُ الله قَالَ أخبرنَا الأوْزَاعِيُّ عنْ إسْحَاقَ ابنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ أبُو طَلْحَةَ يتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِترْسٍ واحِدٍ وكانَ أبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْيِ فَكانَ إذَا رَمَى تَشَرَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعَ نَبْلِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الْمِجَن والتستر بترس صَاحبه.
وَأحمد بن مُحَمَّد أَبُو حسن الْخُزَاعِيّ الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَالْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، وَسَيَأْتِي بأتم من هَذَا فِي غَزْوَة أحد.
قَوْله: (يتترس مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بترس وَاحِد) لِأَن الرَّامِي لَا يمسك الترس لِأَنَّهُ يَرْمِي بيدَيْهِ جَمِيعًا فيستره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِئَلَّا يَرْمِي، وَكَانَ حسن الرَّمْي، وانكسر فِي يَده قوسان أَو ثَلَاثَة، وَفِي رِوَايَة أَنه كَانَ يَقُول لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَنْصَرِف فيصيبك الْعَدو وَنَحْرِي دون نحرك. وَفِي حَدِيث سهل: لما أُصِيب سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد بِمَا ذكر من كسر الْبَيْضَة والرباعية، وَهِي السن الَّتِي بَين الثَّنية والناب وأدمى وَجهه عتبَة بن أبي وَقاص أَخُو سد، ورماه بَان قميئة، وَقَالَ: خذنا وَأَنا ابْن قميئة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقماك الله فِي النَّار) . فَدخل بعد ذَلِك فِي صبرَة غنم فَنَطَحَهُ تَيْس مِنْهَا وَرَاءه فَلم يُوجد لَهُ مَكَان، وَأَرَادَ أبيُّ بن خلف أَن يرميه فَأَرَادَ أَبُو طَلْحَة أَن يحول بَينه وَبَينه فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَمَا أَنْت، وَرمى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَصَابَهُ تَحت سابغة الدرْع فِي نَحره فَمَاتَ من يَوْمه. قَوْله: (تشرف) ، يُقَال تشرف الرجل إِذا تطلع على شَيْء من فَوق، ويروى (يشرف) ، بِضَم الْيَاء من الإشراف.

3092 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلٍ قَالَ لما كُسِرَتْ بَيْضةُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى رأسِهِ وأُدْمِيَ وجْهُهُ وكْسِرَتْ رَباعِيَتُهُ وكانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالمَاءِ فِي المِجَنِّ وكَانَتْ فاطِمَةُ تغْسِلُهُ فلَمَّا رأتِ الدَّمَ يَزِيدُ علَى المَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فأحْرَقَتْها وألْصَقَتْهَا على جُرْحِهِ فرَقَأَ الدَّم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي الْمِجَن) . وَيَعْقُوب وَأَبُو حَازِم سَلمَة، وَسَهل بن سعد قد مضوا عَن قريب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة، وَقد مضى الْكَلَام الْآن فِي قَوْله: (لما كسرت بَيْضَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى قَوْله: (وَكَانَ عَليّ) والبيضة، بِفَتْح الْبَاء: الخودة.
قَوْله: (وَكَانَ عَليّ) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (يخْتَلف بِالْمَاءِ) مرّة بعد أُخْرَى. قَوْله: (كَثْرَة) ، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (عَمَدت) ، أَي: قصدت. قَوْله: (فرقأ الدَّم) ، بِفَتْح الرَّاء وبالهمز، أَي: فسكن عَن الجري. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : يُقَال: رقأ الدَّم والدمع إِذا سكن بعد جريه.
وَفِيه: امتحان الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وإبلاؤهم ليعظم بذلك أجرهم وَيكون أُسْوَة بِمن ناله جرح وألم من أَصْحَابه فَلَا يَجدونَ فِي أنفسهم مِمَّا نالهم غَضَاضَة، وَلَا يجد الشَّيْطَان السَّبِيل إِلَيْهِم بِأَن يَقُول لَهُم: تقتلون أَنفسكُم وتحملون الآلام فِي صون هَذَا، وَإِذا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُم فقدت هَذِه المكيدة من اللعين وتأسى النَّاس بِهِ وجدوا فِي مساواتهم لَهُ فِي جَمِيع أَحْوَالهم. وَفِيه: خدمَة

(14/184)


الإِمَام وبذل السِّلَاح. وَفِيه: دَلِيل على أَن ترسهم كَانَ مقعراً وَلم يكن منبسطاً، فَلذَلِك كَانَ يُمكن حمل المَاء فِيهِ. وَفِيه: أَن النِّسَاء ألطف بمعالجة الرِّجَال والجرحى.

4092 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرٍ وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ مالِكِ بنِ أوْسِ بنِ الحَدَثَانِ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَتْ أمْوالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ الله عَلَى رسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونِ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكاب فَكانَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة وكانَ يُنْفِقُ علَى أهْلِهِ نفَقَةَ سنَتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي السِّلاحِ والكُرَاعِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ الله..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ يَجْعَل مَا بَقِي) إِلَى آخِره، لِأَن الْمِجَن من جملَة آلَات السِّلَاح، وَعلي بن عبد الله هُوَ المسندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَمَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، بِالْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالثاء الْمُثَلَّثَة كلهَا بِالْفَتْح، مر فِي الزَّكَاة. قيل: إِن لَهُ صُحْبَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجراح عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأحمد بن عَبدة الضَّبِّيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد عَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب، وَفِيه، وَفِيه فِي قسم الْفَيْء عَن عبيد الله بن سعيد وَفِي التَّفْسِير عَن عبيد الله بن سعيد أَيْضا وَيحيى بن مُوسَى وَهَارُون ابْن عبد الله.
قَوْله: (بني النَّضِير) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: بَنو النَّضِير وَبَنُو قُرَيْظَة بطْنَان من الْيَهُود من بني إِسْرَائِيل. قَوْله: (مِمَّا أَفَاء الله) من الْفَيْء، وَهُوَ مَا حصل للْمُسلمين من أَمْوَال الْكفَّار من غير حَرْب وَلَا جِهَاد. قَوْله: (مِمَّا لم يوجف) من الإيجاف، وَهُوَ الْإِسْرَاع فِي السّير، وَيُقَال: وجف الْبَعِير يجِف وجفاً ووجيفاً، وَهُوَ ضرب من سيره، وأوجفه صَاحبه إِذا سَار بِهِ ذَلِك السّير، وَقَالَ ابْن فَارس: أوجف أعنق فِي السّير، وَالْمعْنَى: لم يعملوا فِيهِ سعياً لَا بِالْخَيْلِ وَلَا بالركاب وَهِي الْإِبِل، وَكَانَت غَزْوَة بني النَّضِير فِي سنة أَربع، وقا الزُّهْرِيّ فِي سنة ثَلَاث. قَوْله: (فَكَانَت لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة) ، أَي: فَكَانَت أَمْوَال بني النَّضِير لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْخُصُوص لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد، وَعَن مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، قَالَ: أرسل إِلَيّ عمر بن الْخطاب فَدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّه قد حضر أهل أبيان من قَوْمك، وَإِنَّا قد أمرنَا لَهُم يرضح فاقسمه بَينهم. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مر بذلك غَيْرِي، قَالَ إقبضه أَيهَا الْمَرْء، فَبينا أَنا كَذَلِك، إِذْ جَاءَ برقاء مَوْلَاهُ فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان وَسعد يستأذنون، فَقَالَ: إيذن لَهُم، ثمَّ مكث سَاعَة ثمَّ جَاءَ فَقَالَ: هَذَا عَليّ وَالْعَبَّاس يستأذنان، فَقَالَ: إيذن لَهما، فَلَمَّا دخل الْعَبَّاس، قَالَ: إقضِ بيني وَبَين هَذَا الغادر الْفَاجِر الخائن، وهما حِينَئِذٍ يختصمان فِيمَا أَفَاء الله على رَسُوله من أَمْوَال بني النَّضِير، فَقَالَ الْقَوْم: إقسم بَينهمَا يَا أَمِير المؤمين، فأرح كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه فقد طَالَتْ خصومتهما، فَقَالَ: أنْشدكُمْ بِاللَّه الَّذِي بِإِذْنِهِ تقوم السَّمَوَات وَالْأَرْض، أتعلمون أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة؟ قَالُوا: قد قَالَ ذَلِك، ثمَّ قَالَ لَهما: أتعلمان أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة؟ قَالَا: نعم، قَالَ: فسأخبركم بِهَذَا الْفَيْء: أَن الله تَعَالَى خص نبيه بِشَيْء لم يُعْطه غَيره فَقَالَ: و {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب} (الْحَشْر: 6) . وَكَانَت هَذِه لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة، فوَاللَّه مَا اخْتَارَهَا دونكم وَلَا استأثرها دونكم وَلَقَد قسمهَا عَلَيْكُم حَتَّى بَقِي مِنْهَا هَذَا المَال، وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْفق على أَهله مِنْهُ نَفَقَة سنتهمْ ثمَّ يَجْعَل مَا بَقِي فِي مَال الله، قَوْله: (والكراع) ، وَهُوَ اسْم للخيل. قَوْله: (عدَّة) ، وَهِي الاستعداد، وَمَا أعددته لحوادث الدَّهْر من السِّلَاح وَنَحْوه.

5092 - حدَّثنا قَبِيصَةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمُ قَالَ حدَّثني عبْدُ الله بنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّاً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ مَا رَأيْتُ النبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُفَدِّي رَجُلاً بَعْدَ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي.
.

(14/185)


قيل: دُخُول هَذَا الحَدِيث هُنَا لَا وَجه لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُطَابق وَاحِدًا من جزئي التَّرْجَمَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ أثبت أَن شبويه قبل هَذَا الحَدِيث لفظ: بَاب بِغَيْر تَرْجَمَة فَعلى هَذَا يكون لَهُ وَجه من حَيْثُ أَن الرَّامِي لَا يَسْتَغْنِي عَن شَيْء بَقِي بِهِ نَفسه من سِهَام من يَقْصِدهُ. قلت: هَذَا لَا يَخْلُو عَن تعسف، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: وَجه الْمُنَاسبَة أَن فِيهِ ذكر الرَّمْي، وَكَذَلِكَ الحَدِيث الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب فِيهِ ذكر الرَّمْي، فَهَذَا الْقدر كَاف فِي ذَلِك.
وَقبيصَة بِفَتْح الْقَاف هُوَ ابْن عقبَة، قد تكَرر ذكره، وَزعم أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) أَن لفظ قبيصَة هُنَا تَصْحِيف من الْكَاتِب، وَأَن الصَّوَاب: حَدثنَا قُتَيْبَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. قلت: كَأَنَّهُ علل بِأَن المُرَاد من سُفْيَان هُنَا هُوَ الثَّوْريّ، وَأَن قُتَيْبَة لم يسمع من الثَّوْريّ، وَلَكِن لَا مَانع أَن يكون لكل وَاحِد من السفيانين هَذَا الحَدِيث.
وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي الْأَدَب هَذَا الحَدِيث من طَرِيق يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَأخرجه فِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن أبي نعيم وَعَن بسرة ابْن صَفْوَان، وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن ابْن الْمثنى وَابْن بشار، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن بنْدَار عَن يحيى عَن سُفْيَان وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن بنْدَار عَن غنْدر بِهِ. قَوْله: (يفدى) ، مضارع فدَاه، إِذا قَالَ لَهُ: جعلت فدَاك، وَكَذَا فدَاه بِنَفسِهِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْفِدَاء إِذا كسر أَوله يمد وَيقصر وَإِذا فتح فَهُوَ مَقْصُور يُقَال: قُم فدى لَك أبي. قَوْله: (بعد سعد) أَي: سعد بن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة المبشرة، وَقَالَ الْخطابِيّ: التفدية من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُعَاء، وأدعيته خليق أَن تكون مستجابة، وَادّعى الْمُهلب أَن هَذَا مِمَّا خص بِهِ سعد، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، أَنه فدى الزبير بذلك، وَلَعَلَّ عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لم يسمعهُ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقد جَمعهمَا لغَيْرِهِمَا، أَيْضا، والتفدية بذلك جَائِزَة عِنْد الْجُمْهُور، وَكَرِهَهُ عمر بن الْخطاب وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَكَرِهَهُ بَعضهم فِي التفدية بِالْمُسلمِ من أَبَوَيْهِ، وَالصَّحِيح الْجَوَاز مُطلقًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَة فدَاء، وَإِنَّمَا هُوَ بر ولطف وإعلام بمحبته لَهُ، وَقد وَردت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بالتفدية مُطلقًا. فَإِن قلت: روى أَبُو سَلمَة عَن ابْن الْمُبَارك عَن الْحسن: دخل الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ شَاك، فَقَالَ: كَيفَ تجدك جعلني الله فدَاك؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تركت أعرابيتك بعد، وَقَالَ الْحسن: لَا يَنْبَغِي أَن يفْدي أحد أحدا، وَرَوَاهُ الْمُنْكَدر عَن أَبِيه مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: دخل الزبير ... فَذكره. قلت: هَذَا غير صَحِيح لِأَن الأول مُرْسل وَالثَّانِي ضَعِيف، وَقَالَ الطَّبَرِيّ، هَذِه أَخْبَار واهية، لِأَن مَرَاسِيل الْحسن أَكْثَرهَا صحف غير سَماع، وَإِذا وصل الْأَخْبَار فَأكْثر رِوَايَته عَن مَجَاهِيل لَا يعْرفُونَ، والمنكدر بن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عِنْد أهل النَّقْل لَا يعْتَمد على نَقله، وعَلى تَقْدِير الصِّحَّة لَيْسَ فِيهِ النَّهْي عَن ذَلِك، وَالْمَعْرُوف من قَول الْقَائِل إِذا قَالَ: فلَان لم يتْرك أعرابيته، أَنه نسبه إِلَى الْجفَاء لَا إِلَى فعل مَا لَا يجوز، وأعلمه أَن غَيره من القَوْل والتحية ألطف وأرق مِنْهُ دُعَاء. قَوْله: (فدَاك أبي وَأمي) أَي: مفدى لَك أبي وَأمي: فَقَوله: أبي، مُبْتَدأ، وَأمي عطف عَلَيْهِ، و: فدَاك، خَبره مقدما، وَقد يُوهم هَذَا القَوْل أَن فِيهِ إزراء بِحَق الْوَالِدين، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَنَّهُمَا مَاتَا كَافِرين، وَسعد مُسلم ينصر الدّين وَيُقَاتل الْكفَّار، فتفديته بِكُل كَافِر غير مَحْذُور، قَالَه الْخطابِيّ. قلت: القَوْل بِأَنَّهُمَا مَاتَا كَافِرين غير جيد، لما قيل: إِن الله أحياهما لأَجله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل الْوَجْه فِي هَذَا أَن هَذَا القَوْل بالتفدية لأجل إِظْهَار الْبر والمحبة، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وللأبوة حُرْمَة كَيفَ كَانَت، وَعَن مَالك: من آذَى مُسلما فِي أَبَوَيْهِ الْكَافرين عُوقِبَ وأدب لحرمتهما عَلَيْهِ.

18 - (بابُ الدَّرَقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة اتِّخَاذ الدرق، وَهُوَ جمع: درقه، وَهِي الحجفة، وَيُقَال: هُوَ الترس الَّذِي يتَّخذ من الْجُلُود.

6092 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْبٍ قَالَ عَمْرٌ وحدَّثني أبُو الأسْوَدِ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا دَخَلَ علَيَّ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعِنْدِي جارِيَتَانِ تُغنِّيانِ بِغِنَاءِ بُعاثَ

(14/186)


فاضْطَجَعَ عَلى الفِرَاشِ وحَوَّلَ جْهَهُ فدَخَلَ أبُو بَكْرٍ فانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رسولِ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأقْبَلَ عَلَيْهِ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقال دَعْهُمَا فلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجْنَا. قالَتْ وكانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بالدَّرَقِ والحِرَابِ فإمَّا سَألْتُ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإمَّا قالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فقالَتْ نَعَمْ فأقَامَنِي ورَاءَهُ علَى خَدِّهِ ويَقُولُ دُونَكُمْ بَني أرْفِدَةَ حَتَّى مَلِمْتُ قَالَ حَسْبُكِ قُلْتُ نعَمْ قَالَ فاذْهَبِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بالدرق) . وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَعَمْرو هُوَ ابْن الْحَارِث الْمصْرِيّ، وَأَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن نَوْفَل الْمدنِي، يَتِيم عُرْوَة، وَكَانَ أَبوهُ أوصى بِهِ إِلَى عُرْوَة بن الزبير، فَقيل لَهُ: يَتِيم عُرْوَة، لذَلِك. وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مضى فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، و: الْغناء، بِالْكَسْرِ وَالْمدّ، و: بُعَاث، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة غير منصرف: يَوْم حَرْب كَانَ بَين الْأَوْس والخزرج بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ ينشد الشّعْر وَيذكر مفاخر نَفسه، و: المزمار، بِالْهَاءِ وَالْمَشْهُور بِدُونِهِ. قَوْله: (فَلَمَّا عمل) أَي: اشْتغل بِعَمَل قَوْله: تنظرين، ويروى: تنظري، وَذَلِكَ جَائِز. قَوْله: (دونكم) كلمة الإغراء. قَوْله: (بني أرفدة) أَي: يَا بني أرفدة، وأرفدة، بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا لقب جنس من الْحَبَش يرقصون، وَقيل: أرفدة اسْم أَبِيهِم الأقدم، وَقَالَ ابْن بطال: نِسْبَة إِلَى جدهم وَكَانَ يُسمى أرفدة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله قَالَ أحْمَدُ عنِ ابنِ وهْبٍ فلَمَّا غفَلَ

أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأحمد هُوَ ابْن أبي صَالح الْمصْرِيّ، يَعْنِي روى بِلَفْظ غفل من الْغَفْلَة.

28 - (بابُ الْحَمائِلِ وتَعْلِيقِ السَّيْفِ بالْعُنُقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حمائل السَّيْف، وَهِي جمع حمالَة بِالْكَسْرِ، وَهِي علاقَة مثل السَّيْف الْمحمل، هَذَا قَول الْخَلِيل، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: حمائل من السَّيْف لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وَإِنَّمَا وَاحِدهَا: محمل، وَقَالَ بَعضهم: الحمائل جمع حميلة، قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، والحميلة مَا حمله السَّيْل من الغثاء. وَقَوله: (تَعْلِيق السَّيْف) ، أَي: وَفِي جَوَاز تَعْلِيق السَّيْف بالعنق.

8092 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْسَنَ النَّاسِ وأشْجَعَ النَّاسِ ولَقَدْ فَزِعَ أهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدِ اسْتَبْرَأ الخَيْرَ وهْوَ عَلَى فَرَسٍ لأِبِي طَلْحَةَ عُرُيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وهْوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرَاً أوْ قَالَ إنَّهُ لَبَحْرٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَفِي عُنُقه السَّيْف) فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ ذكر الحمائل. قلت: الحمائل من جملَة السَّيْف، وَذكر السَّيْف يدل عَلَيْهِ. والْحَدِيث مر عَن قريب فِي: بَاب ركُوب الْفرس العري، وَفِي: بَاب الشجَاعَة فِي الْحَرْب، وَفِي غَيرهمَا وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَقد اسْتَبْرَأَ) أَي: حقق الْخَبَر قَوْله: لم تراعوا، وَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني مرَّتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: لَا تخافوا وَالْعرب تَتَكَلَّم بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَاضِعَة كلمة: لم، مَوضِع كلمة: لَا. قَوْله: (وحدناه بحراً) أَي: وجدنَا هَذَا الْفرس وَاسع الجري كَمَاء الْبَحْر كَأَنَّهُ يسبح فِي جريه كَمَا يسبح مَاء الْبَحْر إِذا ركب بعض أمواجه بَعْضًا. قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من الرَّاوِي أَي: لَو قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه لبحجر، وَهَذَا أبلغ من الأول فِي وَصفه بالجري الْقوي.

(14/187)


38 - (بابُ مَا جاءَ فِي حِلْيَةِ السُّيُوفِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي حلية السيوف من الْجَوَاز وَعَدَمه والحلية والحلي اسْم لكل مَا يتزين بِهِ من مصاغ الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَجمع الْحِلْية: حلى مثل لحية ولُحى وَجمع الحلى: حُلي، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، وَتطلق الْحِلْية على الصّفة أَيْضا.

9092 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخْبَرَنَا عبْدُ الله قَالَ أخْبرَنا الأوْزَاعِيُّ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بنَ حَبِيبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أمَامَةَ يَقُولُ لَقَدْ فَتَحَ الفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ الذَّهَبِ ولاَ الفِضَّةَ إنَّمَا كانَتْ حِلْيتُهُم العَلاَبِيَّ والآنُكَ والحَدِيدَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أَبُو الْعَبَّاس، يُقَال لَهُ مرْدَوَيْه الْمروزِي. الثَّانِي: عبد الله الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: سُلَيْمَان بن حبيب الْمحَاربي، قَاضِي دمشق فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: أَبُو أُسَامَة، صدى، بِضَم الْمُهْملَة الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عجلَان الْبَاهِلِيّ الصَّحَابِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن سُلَيْمَان الْمَذْكُور لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن دُحَيْم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (العلابي) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: العلابي الْجُلُود الَّتِي لَيست بمدبوغة، وَقيل: هُوَ العصب يُؤْخَذ رطبه فيشد بِهِ جفوف السيوف يلوى عَلَيْهَا فيجف، وَكَذَلِكَ يلوى رطبه على مَا يتصدع من الرماح، وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ عصب الْعُنُق، وَهُوَ أمتن مَا يكون من عصب الْبَعِير. وَيُقَال: هُوَ جمع علْبَاء. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: العلباء الْعصبَة الصَّفْرَاء فِي عنق الْبَعِير، وهما علباوان بَينهمَا منبت الْعرق، وَإِن شِئْت قلت: علباءان لِأَنَّهَا همزَة مُلْحقَة، وَإِن شِئْت شبهتها بالتأنيث الَّذِي فِي حَمْرَاء وبالأصلية فِي كسَاء، وَالْجمع: العلابي، وَقَالَ بَعضهم: وَزعم الدَّاودِيّ أَن العلابي ضرب من الرصاص فَأَخْطَأَ، وَكَأَنَّهُ لما رَآهُ قرن بالأنك ظَنّه ضربا مِنْهُ. انْتهى. قلت: مَا أَخطَأ إلاَّ من خطأه، وَقد ذكر فِي (الْمُنْتَهى) : أَن العلابي أَيْضا جنس من الرصاص، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ الرصاص أَو جنس مِنْهُ، وَغَايَة مَا فِي الْبَاب أَن الْقَزاز لما ذكر قَول من قَالَ: العلابي ضرب من الرصاص، قَالَ: هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَكَونه غير مَعْرُوف عِنْده لَا يسْتَلْزم خطأ من قَالَ: إِنَّه ضرب من الرصاص. قَوْله: (والأنك) ، بِالْمدِّ وَضم النُّون بعْدهَا كَاف: وَهُوَ الرصاص، وَهُوَ وَاحِد لَا جمع لَهُ، وَقيل: هُوَ من شَاذ كَلَام الْعَرَب أَن يكون وَاحِد زنته أفعل. وَقَالَ فِي (الواعي) : هُوَ الأسرب: يَعْنِي القصدير، وَفِي (المغيث) : جعله بَعضهم الْخَالِص مِنْهُ، وَقيل: الآنك اسْم جنس، والقطعة مِنْهُ: آنكة، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون الآنك فَاعِلا، وَلَيْسَ بأفعل، وَيكون أَيْضا شاذاً. وَذكر كرَاع أَنه الرصاص القلعي، وَهُوَ بِفَتْح الَّلام مَنْسُوب إِلَى القلعة، اسْم مَوضِع بالبادية ينْسب ذَلِك إِلَيْهِ، وينسب إِلَيْهِ السيوف أَيْضا، فَيُقَال: سيوف قلعية، وَكَأَنَّهُ مَعْدن يُوجد فِيهِ الْحَدِيد والرصاص. وقالالمهلب: إِن الْحِلْية الْمُبَاحَة من الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي السيوف إِنَّمَا كَانَت ليرهب بهَا على الْعَدو فاستغنى الصَّحَابَة بشدتهم على الْعَدو، وبقلتهم وقوتهم فِي إِيمَانهم فِي الْإِيقَاع بهم والنكاية لَهُم.

48 - (بابُ مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بالشَّجَرِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ القَائِلَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر مَا علق سَيْفه ... إِلَى آخِره، والقائلة: الظهيرة، وَقد يكون بِمَعْنى النّوم فِي الظهيرة.

0192 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثنِي سِنانُ بنُ أبِي سَنانٍ الدُّؤَلِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحْمانِ أنَّ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ أخْبرَ أنَّهُ غَزَا مَعَ

(14/188)


رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِبَلَ نَجْدٍ فلَمَّا قَفَلَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَفَلَ معَهُ فأدْرَكَتْهُمْ القَائِلَةُ فِي وادٍ كَثِيرِ العْضَاهِ فنَزَلَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بالشَّجَرِ فَنَزَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ وعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ونِمْنَا نَوْمَةً فإذَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُونَا وإذَا عِنْدَهُ أعْرَابِيٌّ فَقَالَ أنَّ هذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وأنَا نائِمٌ فاسْتَيْقَظْتُ وهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتاً فَقَالَ منْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ الله ثلاثَاً ولَمْ يُعَاقِبْهُ وجَلَسَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَنزل تَحت سَمُرَة وعلق بهَا سَيْفه) وَفَائِدَة هَذِه التَّرْجَمَة بَيَان شجاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحسن توكله بِاللَّه وَصدق يقينه وَإِظْهَار معجزته وَبَيَان عَفوه وصفحه عَمَّن يَقْصِدهُ بِسوء.
وَأَبُو الْيَمَان: هُوَ الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَسنَان: بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون: ابْن سِنَان، واسْمه: يزِيد بن أبي أُميَّة الدؤَلِي، بِضَم الدَّال وَفتح الْهمزَة: نِسْبَة إِلَى الدئل من كنَانَة، وَيُقَال: الدؤَلِي، بِضَم الدَّال وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ فِي قبائل فِي ربيعَة وَفِي الأزد وَفِي الربَاب، وَقَالَ الْأَخْفَش، فِيمَا حَكَاهُ أَبُو حَاتِم السّخْتِيَانِيّ: جَاءَ حرف وَاحِد شَاذ على وزن: فعل، وَهُوَ: الدئل، بِضَم الدَّال وَكسر الْهمزَة، وَهُوَ دويبة صَغِيرَة تشبه ابْن عرس، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب فِي الْأَسْمَاء وَلَا فِي الصِّفَات بنية على وزن: فعل، وَإِنَّمَا ذَلِك من بنية الْفِعْل.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي الْيَمَان أَيْضا، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي وَعَن أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن مَنْصُور عَن أبي الْيَمَان، هَذَا فِي تَرْجَمَة سِنَان.
وَفِي تَرْجَمَة أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد وَفِي الْمَغَازِي عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن عبد بن حميد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غزا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل نجد) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: نَاحيَة نجد، وَهِي مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب، فالطائف من نجد وَالْمَدينَة من نجد وَأَرْض الْيَمَامَة والبحرين إِلَى عمان الْعرُوض. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: نجد بلد للْعَرَب، وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: قبل أحد، وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن ذَلِك كَانَ فِي غزوته إِلَى غطفان لثنتي عشرَة مَضَت من صفر، وَقيل: فِي ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ، وَهِي غَزْوَة ذِي أَمر، بِفَتْح الْهمزَة وَالْمِيم، وَهُوَ مَوضِع من ديار غطفان، وسماها الْوَاقِدِيّ: غَزْوَة أَنْمَار، وَيُقَال: كَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع. قَوْله: (فَلَمَّا قفل) ، أَي: رَجَعَ. قَوْله: (القائلة) ، مر تَفْسِيرهَا عَن قريب. قَوْله: (العضاه) ، بِكَسْر الْعين على وزن: شِيَاه، قَالَ ابْن الْأَثِير: العضاه شجر أم غيلَان، وكل شجر عَظِيم لَهُ شوك، الْوَاحِدَة عضة بِالتَّاءِ وَأَصلهَا: عضهة، وَقيل: واحدتها عضاهة. قَوْله: (تَحت سَمُرَة) ، السمرَة، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم: وَاحِدَة السمر، وَهُوَ من شجر الطلح، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كُنَّا إِذا نزلنَا طلبنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعظم الشّجر، قَالَ: فنزلنا تَحت سَمُرَة، فجَاء رجل وَأخذ سَيْفه، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد من يَعْصِمك مني؟ فَأنْزل الله عز وَجل {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} (الْمَائِدَة: 76) . قَوْله: (وَإِذا عِنْده أَعْرَابِي) واسْمه: غورث، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الرَّاء وبالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن الْحَارِث، وَسَماهُ الْخَطِيب: غورك، بِالْكَاف مَوضِع الثَّاء، وَقَالَ الْخطابِيّ: غويرث بِالتَّصْغِيرِ، وَذكر عِيَاض أَنه مضبوط عِنْد بعض رُوَاة البُخَارِيّ بِعَين مُهْملَة، قَالَ: وَصَوَابه الْمُعْجَمَة، قَالَ الجيلاني: هُوَ فوعل من الْغَوْث وَهُوَ الْجُوع، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لما نزل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت شَجَرَة نزع ثوبيه ونشرهما على الشَّجَرَة ليجفا من مطر أَصَابَهُ، واضطجع تحتهَا، فَقَالَ الْكفَّار لدعثور، وَكَانَ سيدهم وَكَانَ شجاعاً: قد انْفَرد مُحَمَّد فَعَلَيْك بِهِ، فَأقبل وَمَعَهُ صارم حَتَّى قَامَ على رَأسه فَقَالَ: من يمنعك مني؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَدفع جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صَدره فَوَقع السَّيْف من يَده، فَأَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(14/189)


وَقَالَ: من يمنعك أَنْت مني الْيَوْم؟ قل: لَا أحد، فَقَالَ: قُم فَاذْهَبْ لشأنك، فَلَمَّا ولى قَالَ: أَنْت خير مني، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا أَحَق بذلك مِنْك، ثمَّ أسلم بعد. وَفِي لفظ، قَالَ: وَأَنا أشهد أَن لَا إلاه إلاَّ الله وَأَنَّك رَسُول الله، ثمَّ أَتَى قومه فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام. وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: فَسقط السَّيْف من يَد الْأَعرَابِي، فَأَخذه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: من يمنعك مني؟ قَالَ: كن خير آخذ. قَالَ: فتسلم؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن أعاهدك على أَن لَا أقاتلك وَلَا أكون مَعَ قوم يقاتلونك، فخلَّى سَبيله، فَأتى أَصْحَابه فَقَالَ: جِئتُكُمْ من عِنْد خير النَّاس. قَوْله: (اخْتَرَطَ) ، أَي: سل، وَأَصله من خرطت الْعود أخرطه وأخرطه خرطاً، قَوْله: (صَلتا) رُوِيَ بِالنّصب وبالرفع. فَوجه النصب أَن يكون على الْحَال، أَي: مُصْلِتًا وَوجه الرّفْع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ قَوْله: سيف، وَفِي يَده، مُتَعَلق بِهِ، وَفِي (التَّوْضِيح) : الْمَشْهُور فتح لَام: صلت، وَذكر القعْنبِي أَنَّهَا تكسر فِي لُغَة، وَقَالَ ابْن عديس: ضربه بِالسَّيْفِ صَلتا وصلتا بِالْفَتْح وَالضَّم، أَي مُجَردا، يُقَال: سيف صلت ومنصلت وأصلت: متجرد ماضٍ، قَوْله: (فَقَالَ: من يمنعك مني؟) اسْتِفْهَام يتَضَمَّن النَّفْي، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا مَانع لَك مني. قَوْله: (الله) ، أَي: يمنعك الله، قَالَه ثَلَاث مَرَّات، فَلم يبالِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله وَلَا عرج عَلَيْهِ ثِقَة بِاللَّه وتوكلاً عَلَيْهِ، فَلَمَّا شَاهد هَذَا الرجل تِلْكَ الْقُوَّة الَّتِي فَارق بهَا عَادَة النَّاس فِي مثل تِلْكَ الْحَالة، تحقق صدقه، وَعلم أَنه لَا يصل إِلَيْهِ بِضَرَر، وَهَذَا من أعظم الخوارق للْعَادَة، فَإِنَّهُ عَدو مُتَمَكن بِيَدِهِ سيف مَشْهُور وَمَوْت حَاضر، وَلَا تغير لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَال وَلَا حصل لَهُ روع وَلَا جزع، وَهَذَا من أعظم الكرامات، وَمَعَ اقتران التحدي يكون من أوضح المعجزات. قَوْله: (وَلم يُعَاقِبهُ) أَي: وَلم يُعَاقب النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجلَ الْمَذْكُور. قَوْله: (وَجلسَ) ، حَال من الْمَفْعُول.
وَفِي الحَدِيث تفرق النَّاس عَن الإِمَام فِي القائلة وطلبهم الظل والراحة، وَلَكِن لَيْسَ ذَلِك فِي غير رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ بعد أَن يبْقى مَعَه من يَحْرُسهُ من أَصْحَابه، لِأَن الله تَعَالَى قد كَانَ ضمن لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعصمة. وَفِيه: أَن حراسة الإِمَام فِي القائلة وَفِي اللَّيْل من الْوَاجِب على النَّاس، وَأَن تضييعه من الْمُنكر وَالْخَطَأ. وَفِيه: جَوَاز نوم الْمُسَافِر إِذا أَمن، وَأَن الْمُجَاهِد أَيْضا إِذا أَمن نَام وَوضع سلاحه، وَإِن خَافَ استوفز. وَفِيه: دُعَاء الإِمَام لأتباعه إِذا أنكر شخصا. وَفِيه: ترك الإِمَام معاقبة من جَفا عَلَيْهِ وتوعده، إِن شَاءَ، وَإِن أحب الْعَفو عَفا. وَفِيه: صَبر سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفحه عَن الْجُهَّال.

58 - (بابُ لُبْس البيْضَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة لبس الْبَيْضَة، قَالَ بَعضهم: الْبَيْضَة مَا يلبس فِي الرَّأْس من آلَات السِّلَاح، قلت: من آلَات السِّلَاح: السَّيْف وَالرمْح وَمَا يلبس فِي الرَّأْس، والبيضة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: هِيَ الخودة، وَهِي مَعْرُوفَة.

1192 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي حازِمٍ عنْ أبِيهِ عنْ سَهْلٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ سُئِلَ عنْ جُرْحِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ أُحُدٍ فَقال جُرِحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وهُشِمَتِ البيْضَةُ علَى رَأسِهِ فَكانَتْ فاطِمَةُ علَيْهَا السَّلاَمُ تَغْسِلُ الدَّمَ وعَلِيٌّ يُمْسِكُ فَلَمَّا رَأتْ أنَّ الدَّمَ لاَ يَزِيدُ إلاَّ كَثْرَةً أخَذَتْ حَصِيراً فأحْرَقَتْهُ حتَّى صارَ رَمادَاً ثُمَّ ألْزَقَتْهُ فاسْتَمْسَكَ الدَّمُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وهشمت الْبَيْضَة على رَأسه) وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب الْمِجَن، ون يتترس بترس صَاحبه، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وهشمت) ، من الهشم، وَهُوَ كسر الشَّيْء الْيَابِس، وَقد أَمر الله تَعَالَى باتخاذ آلَات الْحَرْب فِي قَوْله: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة ... } (الْأَنْفَال: 06) . الْآيَة، فَأخْبر أَن السِّلَاح هُنَا إرهاب لِلْعَدو.
وَفِيه: أَيْضا تَقْوِيَة لقلوب الْمُؤمنِينَ من أجل أَن الله تَعَالَى جبل الْقُلُوب على الضعْف، وَإِن كَانَ السِّلَاح لَا يمْنَع الْمنية لَكِن فِيهِ تَقْوِيَة للقلوب، وَأنس لمتخذيه، وَأما لبس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السِّلَاح، وَإِن كَانَ مَحْفُوظًا من عِنْد الله، فلإرشاد أمته لتتقوى قُلُوبهم عِنْد الْحَرْب وَغير ذَلِك.

(14/190)