عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 8 - (بابُ مَا جاءَ فِي صِفَةِ الجَنَّةِ
وأنَّهَا مَخْلُوقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي
صفة الْجنَّة، وَفِي بَيَان أَنَّهَا مخلوقة وموجودة
الْآن. وَفِيه رد على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قَالُوا:
إِنَّهَا لَا تُوجد إلاَّ يَوْم الْقِيَامَة، وَكَذَلِكَ
قَالُوا فِي النَّار: إِنَّهَا تخلق يَوْم الْقِيَامَة،
وَالْجنَّة: الْبُسْتَان من الشّجر المتكاثف المظلل
بالتفاف أغصانه، والتركيب دائر على معنى السّتْر،
وَكَأَنَّهَا لتكاثفها وتظللها سميت بِالْجنَّةِ الَّتِي
هِيَ الْمرة من مصدر جنه إِذا ستره كَأَنَّهَا ستْرَة
وَاحِدَة لفرط التفافها، وَسميت دَار الثَّوَاب جنَّة لما
فِيهَا من الْجنان.
قالَ أبُو العَالِيَةِ مُطَهَّرةٌ مِنَ الحَيْضِ
والْبَوْلِ والْبُزَاقِ
(15/146)
أَبُو الْعَالِيَة هُوَ رفيع الريَاحي،
وَقد ذكر فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَأَشَارَ بذلك إِلَى
تَفْسِير لفظ: مطهرة، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم
فِيهَا أَزوَاج مطهرة} (الْبَقَرَة: 52، النِّسَاء: 75) .
وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من رِوَايَة مُجَاهِد، وَزَاد:
وَمن الْمَنِيّ وَالْولد، وَفِي رِوَايَة قَتَادَة من:
الْأَذَى وَالْإِثْم. قَوْله: (والبزاق) ، وَيُقَال
بالصَّاد: بصاق، أَيْضا.
{كُلَّمَا رُزِقُوا} أُوتُوا بِشَيْءٍ ثُمَّ أُوتُوا
بآخَرَ {قالُوا هاذا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}
(الْبَقَرَة: 52) . أوُتِينَا مِنْ قَبْلُ
أَشَارَ بقوله: كلما رزقوا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلما
رزقوا مِنْهَا من ثَمَرَة رزقا قَالُوا هَذَا الَّذِي
رزقنا من قبل وأوتوا بِهِ متشابهاً} (الْبَقَرَة: 52) .
قَوْله: (أُوتُوا بآخر) أَي: بثمر آخر، واستفيد التّكْرَار
من لفظ: كلما، فَإِذا أُوتُوا بآخر قَالُوا: هَذَا الَّذِي
رزقنا من قبل، وَفَسرهُ بقوله: أوتينا من قبل، قَالَ ابْن
التِّين: هُوَ من أُوتِيتهُ إِذا أَعْطيته، وَهَكَذَا
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
أَتَيْنَا من أَتَيْته، بِالْقصرِ، يَعْنِي: جِئْته.
وَقَالَ ابْن التِّين: وَالْأول: هُوَ الصَّوَاب، وَفِي
الْقبلية وَجْهَان: أَحدهمَا مَا رَوَاهُ السّديّ فِي
(تَفْسِيره) عَن مَالك وَعَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس
وَعَن مرّة عَن ابْن مَسْعُود وَعَن نَاس من الصَّحَابَة:
{قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل} (الْبَقَرَة: 52) .
قَالُوا: إِنَّهُم أُوتُوا بالثمرة فِي الْجنَّة، فَلَمَّا
نظرُوا إِلَيْهَا قَالُوا: هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل فِي
دَار الدُّنْيَا، وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَعبد
الرَّحْمَن بن زيد ابْن أسلم. وَالْآخر: مَا قَالَه
عِكْرِمَة: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل}
(الْبَقَرَة: 52) . قَالَ: مَعْنَاهُ مثل الَّذِي كَانَ
بالْأَمْس، وَهَكَذَا قَالَ الرّبيع ابْن أنس، قَالَ
مُجَاهِد: يَقُولُونَ: مَا أشبهه بِهِ، وَقَالَ ابْن جرير:
وَقَالَ آخَرُونَ: بل تَأْوِيل ذَلِك: هَذَا الَّذِي رزقنا
من ثمار الْجنَّة من قبل هَذِه الشدَّة يشابه بَعْضهَا
بَعْضًا لقَوْله تَعَالَى: {واتوا بِهِ متشابهاً}
(الْبَقَرَة: 52) .
وأُوتُوا بِهِ مُتَشَابِهَاً يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضَاً
ويَخْتَلِفُ فِي الطُّعُومِ
فسر قَوْله تَعَالَى: {وأوتوا بِهِ متشابهاً} (الْبَقَرَة:
52) . بقوله: يشبه بعضه بَعْضًا، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو
جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن أنس عَن أبي
الْعَالِيَة، وَلكنه قَالَ: فِي الطّعْم بِالْإِفْرَادِ،
وَهُوَ أَيْضا رِوَايَة فِي الْكتاب. وَقَالَ ابْن أبي
حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا سعيد بن سُلَيْمَان حَدثنَا
عَامر بن يسَاف عَن يحيى بن أبي كثير، قَالَ: عشب الْجنَّة
الزَّعْفَرَان، وكثبانها الْمسك، وَيَطوف عَلَيْهِم
الْولدَان بالفواكه ويأكلونها ثمَّ يُؤْتونَ بِمِثْلِهَا،
فَيَقُول لَهُم أهل الْجنَّة: هَذَا الَّذِي آتيتمونا
آنِفا بِهِ، فَيَقُول لَهُم الْولدَان: كلوا، فَإِن
اللَّوْن وَاحِد والطعم مُخْتَلف، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{واتوا بِهِ متشابهاً} (الْبَقَرَة: 52) . وَقَالَ ابْن
جرير فِي (تَفْسِيره) بِإِسْنَادِهِ عَن السّديّ عَن أبي
مَالك وَعَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله:
متشابهاً، يَعْنِي: فِي اللَّوْن والمرأى، وَلَيْسَ يشبه
فِي الطّعْم وَقَالَ عِكْرِمَة: {واتوا بِهِ متشابهاً}
(الْبَقَرَة: 52) . يشبه ثَمَر الدُّنْيَا غير أَن ثَمَر
الْجنَّة أطيب، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن
الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس: لَا يشبه
شَيْء مِمَّا فِي الْجنَّة مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي
الْأَسْمَاء، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا
مِمَّا فِي الْجنَّة إلاَّ الْأَسْمَاء، رَوَاهُ ابْن جرير
من رِوَايَة الثَّوْريّ، وَابْن أبي حَاتِم من رِوَايَة
أبي مُعَاوِيَة كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش بِهِ.
قُطُوفُها يَقْطِفُونَ كَيْفَ شَاؤُا. دانِيةٌ قَرِيبَةٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {قطوفها
دانية} (الحاقة: 32) . وَفسّر قطوفها بقوله: يقطفون كَيفَ
شاؤا، قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ فسر القطوف بيقطفون؟ قلت:
جعل {قطوفها دانية} (الحاقة: 32) . جملَة حَالية، وَأخذ
لازمها، وروى عبد بن حميد من طَرِيق إِسْرَائِيل عَن أبي
إِسْحَاق عَن الْبَراء قَالَ فِي قَوْله: {قطوفها دانية}
(الحاقة: 32) . يتَنَاوَل مِنْهَا حَيْثُ شَاءَ، وروى ابْن
أبي حَاتِم من طَرِيق الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق عَن
الْبَراء أَيْضا، وَمن طَرِيق قَتَادَة قَالَ: دنت فَلَا
يرد أَيْديهم عَنْهَا بُعد وَلَا شوك.
الأرَائِكُ السُّرُرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى الأرائك فِي قَوْله: {متكئين فِيهَا
على الأرائك} (الْكَهْف: 13، الْإِنْسَان: 31) . وفسرها
بقوله: السرر، وَكَذَا فسره عبد بن حميد من طَرِيق حُصَيْن
عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: الأرائك: السرر فِي
الحجال، والأرائك جمع أريكة، قَالَ ابْن فَارس: الحجلة على
السرير لَا تكون إلاَّ كَذَا، وَعَن ثَعْلَب: الأريكة لَا
تكون إلاَّ سريراً متخذاً فِي قبَّة عَلَيْهِ شوار ومخدة.
قلت: الشوار، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة
(15/147)
وَتَخْفِيف الْوَاو: مَتَاع الْبَيْت،
والحجلة بِالتَّحْرِيكِ بَيت لَهُ قبَّة يستر بالثياب
وَيكون لَهُ أزرار كبار.
وقالَ الحَسَنُ النَّضْرَةُ فِي الوُجُوهِ. والسُّرُورُ
فِي الْقَلْبِ
أَشَارَ بتفسير الْحسن الْبَصْرِيّ إِلَى مَا فِي قَوْله:
{ولقَّاهم نَضرة وسروراً} (الْإِنْسَان: 11) . وأوله:
{فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم} (الْإِنْسَان: 11) .
أَي: فوقى الله الْأَبْرَار شَرّ ذَلِك الْيَوْم الَّذِي
يخافونه من شدائده، ولقّاهم أَي: أَعْطَاهُم بدل عبوس
الْفجار وحزنهم نَضرة فِي الْوُجُوه، وَهُوَ أثر
النِّعْمَة وَحسن اللَّوْن والبهاء، وسروراً فِي الْقُلُوب
وَأثر الْحسن، رَوَاهُ عبد بن حميد من طَرِيق مبارك بن
فضَالة عَنهُ
وقالَ مُجاهِدٌ سَلْسَبِيلاً حَدِيدَةُ الجِرْيَةِ
أَشَارَ بتعليق مُجَاهِد وَتَفْسِير هَذَا إِلَى مَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {عينا فِيهَا تسمى سلسبيلاً} (الأنسان:
81) . قَوْله: (عينا) ، بدل من قَوْله: زنجبيلاً فِيمَا
قبله. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي الْجنَّة. وَقَالَ
الزّجاج: أَي: يسقون عينا فِيهَا تسمى سلسبيلاً
لِسَلَامَةِ انحدارها فِي الْحلق وسهولة مساغها. وَقَالَ
أَبُو الْعَالِيَة وَمُقَاتِل بن حَيَّان: سميت سلسبيلاً
لِأَنَّهَا تسيل عَلَيْهِم فِي الطَّرِيق، وَفِي
مَنَازِلهمْ تنبع من أصل الْعَرْش من جنَّة عدن إِلَى أهل
الْجنان، والسلسبيل فِي اللُّغَة وصف لما كَانَ فِي غَايَة
السلاسة، يُقَال: شراب سلسبيل وسلسل وسلسال، وَقد زيدت
الْيَاء فِيهِ حَتَّى صَار خماسياً، وَدلّ على غَايَة
السلاسة، وَتَعْلِيق مُجَاهِد وَصله سعيد بن مَنْصُور
وَعبد بن حميد بإسنادهما عَنهُ. قَوْله: (حَدِيدَة) ،
بِالْحَاء والدالين المهملات أَي: شَدِيدَة الجرية أَي:
الجريان، وَقَالَ عِيَاض: رَوَاهَا الْقَابِسِيّ:
جَرِيدَة، بِالْجِيم وَالرَّاء بدل: الدَّال الأولى،
وفسرها باللينة، ورد عَلَيْهِ بِأَن مَا قَالَه لَا يعرف.
غَوْلٌ وَجَعُ البَطْنِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا فِيهَا
غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} (الصافات: 74) . وَفسّر
الغول بوجع الْبَطن، وَهَذَا التَّفْسِير مَرْوِيّ عَن
مُجَاهِد وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: صداع.
يُنْزَفُونَ لاَ تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ
فسر: ينزفون، بقوله: لَا تذْهب عُقُولهمْ عِنْد شرب خمر
الْجنَّة، وَهَذَا التَّفْسِير مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس
وَغَيره، وقرىء: ينزفون، بِكَسْر الزَّاي وَفِيه قَولَانِ:
أَحدهمَا من أنزف الرجل إِذا نفد شرابه، وَالْآخر: يُقَال
أنزف، إِذا سكر، وَأما: نزف، إِذا ذهب عقله من الشّرْب
فمشهور مسموع.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ دِهَاقاً مُمْتَلِئاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وكأساً
دهاقاً} (النبإ: 43) . وَفسّر الدهاق بقوله: ممتلئاً،
وَوَصله الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب: حَدثنَا مَرْوَان ابْن
يحيى عَن مُسلم بن نسطاس قَالَ ابْن عَبَّاس لغلامه: إسقني
دهاقاً، قَالَ: فجَاء بهَا الْغُلَام ملأى، فَقَالَ ابْن
عَبَّاس: هَذَا دهاق، وروى أَيْضا عَن أبي صَالح عَن ابْن
عَبَّاس فِي قَوْله: {كأساً دهاقاً} (النبإ: 43) . قَالَ:
ملأى
كَوَاعِبَ نَوَاهِدَ
أشارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وكواعب
أَتْرَابًا} (النبإ: 33) . فسر كواعب بقوله: نواهد،
وَهَذَا التَّفْسِير عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن أبي
حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن
(15/148)
أبي طَلْحَة عَنهُ، والنواهد جمع ناهد،
وَهِي الَّتِي بدا نهدها، يُقَال: نهد الثدي إِذا ارْتَفع
عَن الصَّدْر، وَصَارَ لَهُ حجم، والأتراب جمع ترب،
بِالْكَسْرِ وَهُوَ: الْقرن.
الرَّحِيقُ الخَمْرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {رحيق مختوم}
(المطففين: 52) . وَفسّر الرَّحِيق بِالْخمرِ، وَهَذَا
التَّفْسِير وَصله الطَّبَرِيّ عَن طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {رحيق
مختوم} (المطففين: 52) . قَالَ: الْخمر ختم بالمسك، وَقيل:
الرَّحِيق الْخَالِص من كل شَيْء، وَقَالَ مُجَاهِد
يشْربهَا أهل الْجنَّة صرفا، وَقَالَ سعيد بن جُبَير
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: ختامه آخر طعمه.
التَّسْنِيمُ يَعْلُو شَرَابَ أهْلِ الجَنَّةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ومزاجه من
تسنيم} (المطففين: 72) . وَفَسرهُ بقوله: يَعْلُو شراب أهل
الْجنَّة، وَهَذَا وَصله عبد ب حميد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن
سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: التسنيم يَعْلُو
شراب أهل الْجنَّة، وَهُوَ صرف للمقربين ويمزج لأَصْحَاب
الْيَمين وَقَالَ الْجَوْهَرِي: التسنيم اسْم مَاء فِي
الْجنَّة، سمي بذلك لِأَنَّهُ جرى فَوق الغرف والقصور.
خِتامُهُ طِينُهُ مِسْك
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {رحيق مختوم}
(المطففين: 52) . وَفسّر الْمَخْتُوم بقوله: ختامه طينه
مسك، وَهَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق مُجَاهِد
فِي قَوْله: ختامه مسك، قَالَ: طينه مسك، وَفِي طَرِيق أبي
الدَّرْدَاء فِي قَوْله: ختامه مسك، قَالَ هُوَ شراب أَبيض
مثل الْفضة يختمون بِهِ آخر شرابهم.
نَضَّاخَتَانِ فَيَّاضَتَانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا
عينان نضاختان} (الرَّحْمَن: 66) . وَفسّر النضاختان
بقوله: فياضتان، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَصله ابْن
أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ والنضخ
فِي اللُّغَة بِالْمُعْجَمَةِ أَكثر من الْمُهْملَة.
يُقَالُ: مَوْضُونَةٌ مَنْسُوجَةٌ. ومنْهُ: وَضِينُ
النَّاقَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {على سرر
موضونة} (الْوَاقِعَة: 51) . وَفسّر الموضونة بالمنسوجة،
أَي: المنسوجة بِالذَّهَب، وَقيل: بالجواهر واليواقيت،
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن عِكْرِمَة. وَرُوِيَ أَيْضا
من طَرِيق الضَّحَّاك فِي قَوْله: موضونة، قَالَ:
الْوَضِين التشبيك والنسيج يَقُول: وَسطهَا مشبك منسوج.
قَوْله: (وَمِنْه) ، أَي: وَمن هَذَا وضين النَّاقة:
وَهُوَ البطان إِذا نسج بعضه على بعض مضاعفاً.
والكُوبُ مَا لاَ أُذُنَ لَهُ ولاَ عُرْوَةَ، والأبارِيقُ
ذَوَاتُ الآذَانِ والْعُرَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير مَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{بأكواب وأباريق} (الْوَاقِعَة: 81) . والأكواب جمع كوب،
وَفَسرهُ بقوله: والكوب مَا لَا أذن لَهُ وَلَا عُرْوَة،
وَقيل: الكوب المستدير لَا عرىً لَهُ، وَيجمع على أكواب،
وَيجمع الأكواب على: أكاويب، وروى عبد ابْن حميد من طَرِيق
قَتَادَة، قَالَ: الكوب دون الإبريق لَيْسَ لَهُ عُرْوَة،
والأباريق جمع إبريق على وزن إفعيل أَو فعليل.
عُرْبَاً مُثَقَّلَةً واحِدُهَا مثْلُ صَبُورٍ وصبر
يُسَمِّيهَا أهْلُ مَكَّةَ العَرَبَةَ وأهْلُ المدِينَة
الغَنِجَةَ وأهْلُ العِرَاقِ الشِّكِلَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فجعلناهن
أَبْكَارًا عربا أَتْرَابًا} الْوَاقِعَة: 63 وَفسّر:
عربا، بِقوم مثقلة أَي: مَضْمُومَة الرَّاء، قيل: مُرَادهم
بالتثقيل الضَّم وبالتخفيف الإسكان. قلت: لَيْت شعري هَذَا
اصْطِلَاح من أهل الأدبية. قَوْله: (واحدتها) أَي:
وَاحِدَة الْعَرَب بِضَم الرَّاء: غرُوب، مثل: صبور فِي
الْمُفْرد، وصبر بِضَم الْبَاء فِي الْجمع، وَذكر
النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) فِي قَوْله تَعَالَى:
{فجعلناهن أَبْكَارًا} (الْوَاقِعَة: 63) . عذارى عربا
عواشق محببات إِلَى أَزوَاجهنَّ جمع عروب، وَقَالَ الْحسن:
العروب الملقة، وَقَالَ عِكْرِمَة: غنجة، وَقَالَ ابْن
زيد: شكله بلغَة مَكَّة، مغنوجة بلغَة الْمَدِينَة، وَعَن
زيد بن حَارِثَة: حسان الْكَلَام، وَقيل: حَسَنَة
الْفِعْل، وَجزم الْفراء: بِأَن العروب الغنجة. قَوْله:
(العربة) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الرَّاء وَفتح الْبَاء،
وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق تَمِيم بن حدلم فِي قَوْله
تَعَالَى: {عربا} (الْوَاقِعَة: 63) . قَالَ: العربة
الْحَسَنَة التبعل، كَانَت الْعَرَب تَقول إِذا كَانَت
الْمَرْأَة حَسَنَة التبعل: إِنَّهَا لعربة، وَمن طَرِيق
عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر الْمَكِّيّ، قَالَ: العربة
الَّتِي تشْتَهي زَوجهَا. قَوْله: (الغنجة) ، بِفَتْح
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر النُّون وبالجيم: من الغنج،
وَهُوَ التكسر
(15/149)
والتدلل فِي الْمَرْأَة، وَقد غنجت وتغنجت.
قَوْله: (الشكلة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر
الْكَاف ذَات الدل.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ رَوْحٌ جَنَّةٌ ورَخَاءٌ والرَّيْحَانُ
الرِّزْقُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَروح
وَرَيْحَان وجنة نعيم} (الْوَاقِعَة: 98) . وَفسّر
مُجَاهِد: روحاً بجنة ورخاء، وَفسّر الريحان بالرزق.
وَقَالَ الْفرْيَابِيّ: حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: (فَروح) قَالَ جنَّة
{وَرَيْحَان} (الْوَاقِعَة: 98) . قَالَ: رزق. وَأخرجه
الْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) من طَرِيق آدم عَن وَرْقَاء
بِسَنَدِهِ بِلَفْظ: {فَروح وَرَيْحَان} (الْوَاقِعَة: 98)
. قَالَ: الروج جنَّة ورخاء، وَالريحَان الرزق. وروى عبد
بن حميد فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا شَبابَة عَن ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد: {فَروح وَرَيْحَان} (الْوَاقِعَة: 98)
. قَالَ: رزق، وَحدثنَا أَبُو نعيم عَن عبد السَّلَام بن
حَرْب عَن لَيْث عَن مُجَاهِد، قَالَ: الرّوح الْفَرح،
وَالريحَان الرزق، وَقيل: روح طيب ونسيم، وَقيل:
الاسْتِرَاحَة، وَمن قَرَأَ بِضَم الرَّاء أَرَادَ
الْحَيَاة الَّتِي لَا موت مَعهَا، وَعَن الْحسن: الريحان
ريحاننا هَذَا.
والمَنْضُودُ المَوْزُ والمَخْضُودُ المُوقَرُ حَمْلاً
ويُقَالُ أَيْضا لَا شَوْكَ لَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فِي سدر
مخضود وطلح منضود وظل مَمْدُود وَمَاء مسكوب}
(الْوَاقِعَة: 82 13) . الْآيَة وَفسّر قَوْله: {وطلح
منضود} (الْوَاقِعَة: 82 13) . بِأَنَّهُ: الموز، وَقَالَ
عِيَاض: وَقع هُنَا تَخْلِيط، وَالصَّوَاب: والطلح الموز،
والمنضود: الموقر حملا الَّذِي نضد بعضه على بعض من
كَثْرَة حَملَة، واستصوب بَعضهم مَا قَالَه البُخَارِيّ،
وَفِي ضمنه رد على عِيَاض، وَالصَّوَاب مَا قَالَه عِيَاض
لِأَن المنضود لَيْسَ اسْم الموز وَإِنَّمَا هُوَ صفة
الطلح. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : طلح شجر
موز، وَعَن السّديّ: شجر يشبه طلح الدُّنْيَا وَلَكِن لَهُ
ثَمَر أحلى من الْعَسَل، وَقَالَ النَّسَفِيّ أَيْضا:
حُكيَ أَن رجلا قَرَأَ عِنْد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: {وطلح منضود} (الْوَاقِعَة: 82 13) . فَقَالَ
عَليّ: وَمَا شَأْن الطلح؟ إِنَّمَا هُوَ: طلع منضود، ثمَّ
قَرَأَ , {طلعها هضيم} (الشُّعَرَاء: 841) . فَقيل:
إِنَّهَا فِي الْمُصحف بِالْحَاء أَفلا نحولها؟ فَقَالَ:
إِن الْقُرْآن لَا يهاج الْيَوْم وَلَا يحول، وَعَن
الْحسن: لَيْسَ الطلح بالموز وَلكنه شجر لَهُ ظلّ بَادر
طيب، وَقَالَ الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة: الطلح عِنْد
الْعَرَب شجر عِظَام لَهَا شوك، وَقيل: هُوَ شجر أم غيلَان
وَله نوار كثير طيب الرَّائِحَة. قلت: وعَلى كل تَقْدِير
فِي معنى الطلح فالمنضود صفة وَلَيْسَ باسم، وَمَعْنَاهُ:
متراكم قد نضد بِالْحملِ من أَسْفَله إِلَى أَعْلَاهُ،
وَلَيْسَت لَهُ سَاق بارزة. وَقَالَ مَسْرُوق: أَشجَار
الْجنَّة من عروقها إِلَى أفنائها ثَمَر كُله. قَوْله:
(والمخضود) ، بالمعجمتين: صفة للسدر كَمَا نطق بِهِ
الْقُرْآن.
والعُرُبُ المُحَبَّبَاتُ إِلَى أزْوَاجِهِنَّ
قد ذكر: العُرب، عَن قريب وفسرها بقوله: مثقلة، وَقَالَ:
واحدتها عروب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ بِمَا فِيهِ
الْكِفَايَة.
ويُقَالُ: مسْكُوبٌ جَارٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَاء
مسكوب} (الْوَاقِعَة: 13) . وَفَسرهُ بقوله: جَار،
وَأَرَادَ بِهِ أَنه قوي الجري كَأَنَّهُ يسْكب سكباً.
وفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وفرش
مَرْفُوعَة} (الْوَاقِعَة: 23 43) . بعد قَوْله: {وفاكِهَة
كَثِيرَة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة} (الْوَاقِعَة:
23 43) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المرفوعة الْعَالِيَة،
يُقَال بِنَاء مَرْفُوع أَي: عَال، وروى ابْن حبَان
وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي
قَوْله: {وفرش مَرْفُوعَة} (الْوَاقِعَة: 23 43) . قَالَ:
ارتفاعها خَمْسمِائَة عَام.
لَغْوَاً باطِلاً تأثِيماً كَذِبَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا
يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيماً} (الْوَاقِعَة: 52) .
وَفسّر اللَّغْو بِالْبَاطِلِ والتأثيم بِالْكَذِبِ،
وَكَذَا رَوَاهُ الْفرْيَابِيّ عَن مُجَاهِد.
أفْنان أغْصانٌ
(15/150)
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {ذواتا أفنان} (الرحمان: 84) . وَفسّر الأفنان
بالأغصان، وَكَذَا فسره عِكْرِمَة وَفِي (تَفْسِير
النَّسَفِيّ) : الأفنان جمع فنن وَهُوَ من قَوْلهم: أفنن
فلَان فِي حَدِيثه إِذا أَخذ فِي فنون، وَعَن مُجَاهِد:
أفنان أَغْصَان وَاحِدهَا فنن، وَعَن عِكْرِمَة: ظلّ
الأغصان على الْحِيطَان، وَعَن الْحسن: ذواتا أفنان ذواتا
ظلال، وَخص الأفنان بِالذكر لِأَنَّهَا الغصنة الَّتِي
تتشعب من فروع الشَّجَرَة لِأَنَّهَا الَّتِي تورق وتثمر،
فَمِنْهَا تمتد الظلال وَمِنْهَا تجتنى الثِّمَار.
{وجَناى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (الرحمان: 45) . مَا
يُجْتَناى قريب مِنْها
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {متكئين على
فرش بطائنها من استبرق. وجنا الجنتين دَان} (الرحمان: 45)
. وَفسّر: جنى، بِمَا يجتنى، ودانٍ بقوله: قريب مِنْهَا.
وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وجنا الجنتين ثَمَرهَا
دانٍ قريب يَنَالهُ الْقَائِم والقاعد والنائم.
مُدْهَامَّتَانِ سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن
دونهمَا جنتان فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ:
مدهامتان} (الرحمان: 26 46) . يَعْنِي: وَمن دون الجنتين
الْأَوليين الموعودتين: {لمن خَافَ مقَام ربه جنتان}
(الرحمان: 26 46) . أخريان: {مدهامتان} (الرحمان: 26 46) .
وفسرها بقوله: سوداوان من الرّيّ، وَكَذَا رُوِيَ عَن
مُجَاهِد، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : مدهامتان
ناعمتان سوداوتان من ريهما وَشدَّة خضرتهما، لِأَن الخضرة
إِذا اشتدت قربت إِلَى السوَاد والدهمة السوَاد الْغَالِب.
0423 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا ماتَ أحَدُكُمْ فإنَّهُ
يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالْغَداةِ والْعَشِيِّ فإنْ
كانَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الجَنَّةِ وإنْ
كانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَمِنْ أهْلِ النَّارِ. (انْظُر
الحَدِيث 9731 وطرفه) .
شرع البُخَارِيّ يذكر فِي هَذَا الْبَاب خَمْسَة عشر
حَدِيثا مطابقات كلهَا للتَّرْجَمَة فِي ذكر الْجنَّة،
وَفِي بَعْضهَا وصفهَا، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر
الْمُطَابقَة بعد هَذَا فِي أول كل حَدِيث، وَهَذَا
الحَدِيث قد تقدم فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب
الْمَيِّت يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشي،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن
نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
1423 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا سَلْمُ بنُ
زَرِيرٍ قَالَ حدَّثنا أبُو رَجاءٍ عنْ عِمْرَانَ بنِ
حُصَيْنٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
اطْلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِها
الفُقَرَاءَ واطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فرَأيْتُ أكْثَرَ
أهْلِهَا النِّساء. .
أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ،
وَسلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام:
ابْن زرير، بِفَتْح الزَّاي وَكسر الرَّاء الأولى وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف: العطاردي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو
رَجَاء عمرَان بن ملْحَان العطاردي الْبَصْرِيّ، أدْرك
زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأسلم بعد فتح
مَكَّة وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم
يُهَاجر إِلَيْهِ، بلغ مائَة وَثَلَاثِينَ سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن أبي
الْوَلِيد أَيْضا عَن سلم بن زرير وَفِي النِّكَاح عَن
عُثْمَان بن الْهَيْثَم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة
جَهَنَّم عَن ابْن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة
النِّسَاء وَفِي الرقَاق عَن قُتَيْبَة وَعَن بشر بن
هِلَال وَعمْرَان ابْن مُوسَى، وَفِيه الِاخْتِلَاف على
أبي رَجَاء فَإِن مُسلما رَوَاهُ من حَدِيث الثَّقَفِيّ
عَن أَيُّوب عَن أبي رَجَاء عَن ابْن عَبَّاس، وَمن حَدِيث
أبي الْأَشْهب عَن أبي رَجَاء عَن ابْن عَبَّاس، وَمن
حَدِيث ابْن أبي عرُوبَة عَن أبي رَجَاء عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وكلا الإسنادين لَيْسَ فيهمَا مقَال،
يحْتَمل أَن يكون أَبُو رَجَاء سمع مِنْهُمَا جَمِيعًا.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي النِّكَاح من حَدِيث عَوْف عَن
أبي رَجَاء، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد روى غير عَوْف
أَيْضا هَذَا الحَدِيث عَن أبي رَجَاء عَن عمرَان بن
حُصَيْن، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث يزِيد بن عبد
الله وَمُحَمّد بن عبد الله وَهُوَ متابع لأبي رَجَاء عَن
عمرَان. وَلَفظه: (أقل سَاكِني الْجنَّة النِّسَاء) ،
وَفِي
(15/151)
لَفْظَة: (وَعَامة أهل النَّار النِّسَاء)
، وَفِي النَّسَائِيّ من حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ
مَرْفُوعا: لَا تدخل النِّسَاء إلاَّ كعدد هَذَا الْغُرَاب
مَعَ هَذِه الْغرْبَان، وَفِي (الْأَخْبَار) للألكائي من
حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن شبْل مَرْفُوعا: (إِن الْفُسَّاق
هم أهل النَّار) ، ثمَّ فسرهم بِالنسَاء، قَالُوا: يَا
رَسُول الله ألسن أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا؟ قَالَ: بلَى،
(وَلَكِن إِذا أُعطين لم يشكرن وَإِذا ابتلين لم يصبرن) .
وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا تسْتَحقّ النِّسَاء النَّار
لكفرهن العشير. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا كَانَ
النِّسَاء أقل سَاكِني الْجنَّة لما يغلب عَلَيْهِنَّ
الْهوى والميل إِلَى عَاجل زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا،
ولنقصان عقولهن، فيضعفن عَن عمل الْآخِرَة وَالتَّأَهُّب
لَهَا لميلهن إِلَى الدُّنْيَا والتزين بهَا، وأكثرهن
معرضات عَن الْآخِرَة سريعات الانخداع لراغبيهن من
المعرضين عَن الدّين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إِلَى
الْآخِرَة وأعمالها، وَأما الْفُقَرَاء فَلَمَّا كَانُوا
فاقدي المَال الَّذِي يتوسل بِهِ إِلَى الْمعاصِي فازوا
بِالسَّبقِ. فَإِن قلت: فقد ظهر فضل الْفقر فَلم استعاذ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ؟ قلت: إِنَّمَا
استعاذ من شَرّ فتنته كَمَا استعاذ من شَرّ فتْنَة الْغنى.
فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الْجنَّة عزب وَلكُل رجل زوجان، فكي
يكون وصفهن بالقلة فِي الْجنَّة وبالكثرة فِي النَّار؟
قلت: ذكر الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ وَغَيره أَن الْإِكْثَار
بِكَوْن النِّسَاء أَكثر أهل النَّار كَانَ قبل
الشَّفَاعَة فِيهِنَّ، فعلى كَون زَوْجَيْنِ لكل رجل يكنَّ
أَكثر أهل الْجنَّة.
2423 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ
أخبرَنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَيْنا نَحْنُ عِنْدَ
رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ قالَ بَيْنَا
أنَا نائِمٌ رَأيْتُنِي فِي الجَنَّةِ فإذَا امْرَأةٌ
تَتَوَضَّأُ إِلَى جانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هذَا
القَصْرُ فقَالُوا لِعُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فَذَكَرْتُ
غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرَاً فبَكَى عُمَرُ وقالَ
أعَلَيْكَ أغَارُ يَا رسُولَ الله. .
أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي فضل عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن سعيد بن أبي مَرْيَم
أَيْضا، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الْحَارِث
الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عَن أبي
هُرَيْرَة: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(رَأَيْت فِي الْجنَّة قصراً من ذهب، فَقلت: لمن هَذَا؟
قَالَ: لعمر بن الْخطاب) . قَالَ: وَمعنى هَذَا الحَدِيث:
أَنِّي دخلت البارحة الْجنَّة، يَعْنِي: رَأَيْت فِي
الْمَنَام كَأَنِّي دخلت الْجنَّة، هَكَذَا رُوِيَ فِي بعض
هَذَا الحَدِيث ويروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ:
(رُؤْيا الْأَنْبِيَاء حق) ، وَقد روى أَحْمد من حَدِيث
معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: (إِن عمر من أهل
الْجنَّة) ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ مَا رأى فِي يقظته ومنامه سَوَاء، وَأَنه
قَالَ: (بَينا أَنا فِي الْجنَّة إِذْ رَأَيْت فِيهَا
جَارِيَة، فَقلت: لمن هَذِه؟ فَقيل: لعمر بن الْخطاب.
قَوْله: (رَأَيْتنِي) ، أَي: رَأَيْت نَفسِي. قَوْله:
(فَإِذا امْرَأَة) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله:
(تتوضأ) ، قَالَ الْكرْمَانِي: تتوضأ من الْوَضَاءَة،
وَهِي الْحسن والنظافة، وَيحْتَمل أَن يكون من الْوضُوء،
وَقَالَ الْخطابِيّ: فَإِذا امْرَأَة شوهاء، وَإِنَّمَا
أسقط الْكَاتِب مِنْهُ بعض الْحُرُوف فَصَارَ: يتَوَضَّأ
لالتباس ذَلِك فِي الْخط لِأَنَّهُ لَا عمل فِي الْجنَّة
لَا وضوء وَلَا غَيره، والشوهاء بالشين الْمُعْجَمَة.
قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ الْمَرْأَة الْحَسْنَاء، والشوهاء
وَاسِعَة الْفَم وَالصَّغِيرَة الْفَم، وَقَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: الشوهاء القبيحة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فرس
شوهاء صفة محمودة، وَيُقَال: يُرَاد بهَا سَعَة أشداقها،
ورد عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، وَقَالَ: الرِّوَايَة
الصَّحِيحَة: (تتوضأ) ، ووضوء هَذِه الْمَرْأَة إِنَّمَا
هُوَ لتزداد حسنا ونوراً لَا أَنَّهَا تزيل وسخاً وَلَا
قذراً، إِذْ الْجنَّة منزهة عَن القذر، وَقَالَ ابْن
التِّين: وَذكر عَن الشَّيْخ أبي الْحسن أَنه قَالَ: هَذَا
فِيهِ أَن الْوضُوء موصل إِلَى هَذَا الْقصر وَالنَّعِيم.
قَوْله: (فَذكرت غيرته) ، بِالْفَتْح مصدر قَوْلك: غَار
الرجل على أَهله من فلَان، وَهِي الحمية والأنفة، يُقَال:
رجل غيور، وَامْرَأَة غيور، وَجَاء امْرَأَة غيراء،
وَصِيغَة غيور للْمُبَالَغَة.
(15/152)
3423 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ
قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ سَمِعْتُ أبَا عِمْرَانَ
الجَوْنِيَّ يُحَدِّثُ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الله
بنِ قَيْسٍ الأشْعَرِيِّ عنْ أبِيهِ أنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ
طُولُهَ فِي السَّمَاءِ ثَلاثُونَ مِيلاً فِي كلِّ
زَاوِيَةٍ مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِ أهْل لاَ يَرَاهُمُ
الآخَرُونَ. قَالَ أبُو عَبْدِالصَّمَدِ والحَارِثُ بنُ
عُبَيْدٍ عنْ أبِي عِمْرَان سِتُّونَ مِيلاً. (الحَدِيث
3423 طرفه فِي: 9784) .
همام، بتَشْديد الْمِيم: ابْن يحيى أبي دِينَار
الْبَصْرِيّ وَأَبُو عمرَان عبد الْملك بن حبيب الْجونِي،
بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وبالنون، وَأَبُو بكر
اسْمه عَمْرو بن عبد الله بن قيس بن سليم الْأَشْعَرِيّ
مَاتَ فِي ولَايَة خَالِد بن عبد الله وَكَانَ أكبر من
أَخِيه ابْن بردة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْجنَّة عَن
سعيد بن مَنْصُور وَعَن أبي غَسَّان وَعَن أبي بكر بن أبي
شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن بنْدَار بِهِ مُخْتَصرا.
قَوْله: (الْخَيْمَة) ، بَيت مربع من بيُوت الْأَعْرَاب.
قَوْله: (درة مجوفة) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ، وَالْمُسْتَمْلِي: (در مجوف
طوله) ، ويروى: (من لؤلؤة) ، ومجوفة بِالْفَاءِ، وَفِي
رِوَايَة السَّمرقَنْدِي: بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي:
المثقوبة الَّتِي قطع داخلها. قَوْله: (ثَلَاثُونَ ميلًا)
، والميل ثلث الفرسخ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس:
(الْخَيْمَة درة مجوفة فَرسَخ فِي فَرسَخ لَهَا أَرْبَعَة
آلَاف مصراع من ذهب) ، وَعَن أبي الدَّرْدَاء: (الْخَيْمَة
لؤلؤة وَاحِدَة لَهَا سَبْعُونَ بَابا) . وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: يعلم من هَذَا الحَدِيث أَن نوع النِّسَاء
الْمُشْتَمل على الْحور والآدميات فِي الْجنَّة أَكثر من
نوع رجال بني آدم. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الصَّمد) ،
واسْمه عبد الْعَزِيز بن عبد الصَّمد الْعمي الْبَصْرِيّ،
مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. قَوْله: (والْحَارث
بن عبيد) ، أَبُو قدامَة، بِضَم الْقَاف: الأيادي، بِفَتْح
الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال
الْمُهْملَة، يَعْنِي: روى هَذَانِ الإثنان هَذَا الحَدِيث
بِهَذَا الْإِسْنَاد فَقَالَا: (سِتُّونَ ميلًا) بدل قَول
همام: ثَلَاثُونَ، وَتَعْلِيق أبي عبد الصَّمد وَصله
البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن عَن مُحَمَّد
ابْن الْمثنى عَنهُ، وَتَعْلِيق الْحَارِث وَصله مُسلم
وَلَفظه: إِن للْعَبد فِي الْجنَّة لخيمة من لؤلؤة مجوفة
طولهَا سِتُّونَ ميلًا.
54 - (حَدثنَا الْحميدِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ
حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الله أَعدَدْت لعبادي
الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا
خطر على قلب بشر فاقرؤا إِن شِئْتُم فَلَا تعلم نفس مَا
أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين) الْحميدِي تكَرر ذكره
وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى وسُفْيَان بن
عُيَيْنَة وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن
ذكْوَان والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز والْحَدِيث
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن
عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْجنَّة عَن سعيد بن
عَمْرو وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن
أبي عمر وَهَذَا الحَدِيث يدل على وجود الْجنَّة لِأَن
الإعداد غَالِبا لَا يكون إِلَّا لشَيْء حَاصِل قَوْله "
مَا لَا عين رَأَتْ " مَا هُنَا إِمَّا مَوْصُولَة أَو
مَوْصُوفَة وَعين وَقعت فِي سِيَاق النَّفْي فَأفَاد
الِاسْتِغْرَاق وَالْمعْنَى مَا رَأَتْ الْعُيُون كُلهنَّ
وَلَا عين وَاحِدَة مِنْهُنَّ والأسلوب من بَاب قَوْله
تَعَالَى {مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع} فَيحمل
على نفي الرُّؤْيَة وَالْعين مَعًا أَو نفي الرُّؤْيَة
فَحسب أَي لَا رُؤْيَة وَلَا عين أَو لَا رُؤْيَة وعَلى
الأول الْغَرَض مِنْهُ نفي الْعين وَإِنَّمَا ضمت إِلَيْهِ
الرُّؤْيَة ليؤذن بِأَن انْتِفَاء الْمَوْصُوف أَمر
مُحَقّق لَا نزاع فِيهِ وَبلغ فِي تحَققه إِلَى أَن صَار
كالشاهد على نفي الصّفة وَعَكسه قَوْله " وَلَا خطر على
قلب بشر " هُوَ من بَاب قَوْله تَعَالَى {يَوْم لَا ينفع
الظَّالِمين معذرتهم} وَقَوله
(لَا حب يهتدى بمنارة ... )
أَي لَا قلب وَلَا خطر أَو لَا خطور فعلى الأول لَيْسَ
لَهُم خطر فَجعل انْتِفَاء الصّفة دَلِيلا على انْتِفَاء
الذَّات أَي إِذا لم يحصل ثَمَرَة الْقلب وَهُوَ الاخطار
فَلَا قلب كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن
كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع} (فَإِن قلت) لم خص
الْبشر هُنَا دون القرينتين السابقتين قلت لأَنهم هم
الَّذين يَنْتَفِعُونَ بِمَا أعد لَهُم ويهتمون بِشَأْنِهِ
ويخطرونه ببالهم بِخِلَاف الْمَلَائِكَة والْحَدِيث
كالتفصيل لِلْآيَةِ فَإِنَّهَا نفت الْعلم والْحَدِيث نفى
طرق حُصُوله قَوْله " فاقرؤا إِن شِئْتُم " قَالَ
الدَّاودِيّ هُوَ من قَول أبي هُرَيْرَة
(15/153)
ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين وَقَالَ
الظَّاهِر خِلَافه وَأَنه من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " قُرَّة أعين " قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ قَوْله تَعَالَى {فَلَا تعلم نفس مَا
أُخْفِي لَهُم} لَا تعلم النُّفُوس كُلهنَّ وَلَا نفس
وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَلَا ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل أَي
نوع عَظِيم من الثَّوَاب ادخره الله تَعَالَى لأولئك
وأخفاه عَن جَمِيع خلائقه لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ مِمَّا
تقر بِهِ عيونهم وَلَا مزِيد على هَذِه الْعدة وَلَا مطمح
وَرَاءَهَا انْتهى وَيُقَال أقرّ الله عَيْنك وَمَعْنَاهُ
أبرد الله تَعَالَى دمعتها لِأَن دمعة الْفَرح بَارِدَة
حَكَاهُ الْأَصْمَعِي وَقَالَ غَيره مَعْنَاهُ بلغك الله
أمنيتك حَتَّى ترْضى بِهِ نَفسك فَلَا تستشرف إِلَى غَيره
-
5423 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبَرَنا
عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامِ بنِ
مُنَبِّهٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوَّلُ
زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُورَتُهُمْ على صُورَةِ
القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لاَ يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا
يَمْتَخِطُونَ ولاَ يَتَغَوَّطُونَ آنِيَتُهُمْ فِيهَا
الذَّهَبُ أمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ
ومَجَامِرُهُمْ الألاوَّةُ ورَشْحُهُمْ المِسْكُ ولِكُلِّ
واحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِما مِنْ
وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ لَا اخْتِلاَفَ
بَيْنَهُمْ ولاَ تَباغُضَ قُلُوبُهُمْ قلْبٌ واحدٌ
يُسَبِّحُونَ الله بُكْرَةً وعَشِيَّاً. .
عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك. والْحَدِيث أخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي صفة الْجنَّة أَيْضا عَن سُوَيْد بن نصر
عَن ابْن الْمُبَارك أَيْضا، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح.
قَوْله: (أول زمرة) أَي: جمَاعَة. قَوْله: (تلج) ، أَي:
تدخل من: ولج يلج ولوجاً. قَوْله: (صورتهم على صُورَة
الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر) أَي: فِي الإضاءة، وَسَيَأْتِي
فِي الرقَاق بِلَفْظ: يدْخل الْجنَّة من أمتِي سَبْعُونَ
ألفا تضيء وُجُوههم إضاءة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر،
وَيَجِيء هُنَا فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَالَّذين
على آثَارهم كأشد كَوْكَب إضاءة. قَوْله: (لَا يبصقون) ،
من البصاق (وَلَا يَمْتَخِطُونَ) من المخاط (وَلَا
يَتَغَوَّطُونَ) من الْغَائِط وَهُوَ كِنَايَة عَن
الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ جَمِيعًا، وَزَاد فِي صفة
آدم: لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتْفلُونَ، وَيَأْتِي فِي
الرِّوَايَة الثَّانِيَة: وَلَا يسقمون، وَفِي رِوَايَة
مُسلم من حَدِيث جَابر: يَأْكُل أهل الْجنَّة
وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ
طعامهم ذَلِك جشاء كريح الْمسك، وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ من حَدِيث زيد بن أَرقم، قَالَ: جَاءَ رجل من
أهل الْكتاب فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِم {تزْعم أَن أهل
الْجنَّة يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ} قَالَ: نعم، إِن
أحدكُم ليُعْطى قُوَّة مائَة رجل فِي الْأكل وَالشرب
وَالْجِمَاع، قَالَ: الَّذِي يَأْكُل وَيشْرب تكون لَهُ
الْحَاجة، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة أَذَى؟ قَالَ: تكون
حَاجَة أحدهم رشحاً يفِيض من جُلُودهمْ كَرَشْحِ الْمسك.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: السَّائِل ثَعْلَبَة بن الْحَارِث.
قَوْله: (آنيتهم الذَّهَب) ، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي
تَأتي: وَالْفِضَّة. وَقَالَ فِي الأمشاط عكس ذَلِك،
فَكَأَنَّهُ اكْتفى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذكر أَحدهمَا
عَن الآخر. قَوْله: (أمشاطهم) جمع مشط، وَهُوَ مثلث
الْمِيم، والأفصح ضمهَا. قَوْله: (ومجامرهم) ، جمع مجمرة
وَهِي المبخرة، سميت مجمرة لِأَنَّهَا يوضع فِيهَا
الْجَمْر ليفوح بِهِ مَا يوضع فِيهَا من البخور، ومجامرهم
مُبْتَدأ و: الألوة، خَبره، وَيفهم مِنْهُ نفس الْعود،
وَلَكِن فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: وقود مجامرهم
الألوة، فعلى هَذَا يكون الْمُضَاف هُنَا محذوفاً. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فِي الْجنَّة نفس المجمرة هِيَ الْعود. قلت:
فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: وعودهم الألوة، فَإِذا كَانَ
الألوة عوداً يكون الْحمل غير صَحِيح، لِأَن الْمَحْمُول
يكون غير الْمَوْضُوع، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: المجامر جمع
مجمرة بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ الَّذِي يوضع النَّار فِيهِ
للبخور، وبالضم هُوَ الَّذِي يتبخر بِهِ وَأعد لَهُ
الْجَمْر، ثمَّ قَالَ: وَالْمرَاد فِي الحَدِيث هُوَ
الأول، وَفَائِدَة الْإِضَافَة أَن الألوة هِيَ الْوقُود
نَفسه بِخِلَاف الْمُتَعَارف، فَإِن وقودهم غير الألوة
وَقيل: المجامر جمع، والألوة مُفْرد، فَلَا مُطَابقَة بَين
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. وَأجِيب: بِأَن الألوة جنس،
وَهُوَ بِضَم الْهمزَة وَفتحهَا وَضم اللَّام وَتَشْديد
الْوَاو، وَهُوَ: الْعود الَّذِي يتبخر بِهِ، وَرُوِيَ
بِكَسْر اللَّام أَيْضا، وَهُوَ مُعرب، وَحكى ابْن التِّين
كسر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْوَاو والهمزة أَصْلِيَّة،
وَقيل: زَائِدَة. فَإِن قلت: إِن رَائِحَة الْعود إِنَّمَا
تفوح بِوَضْعِهِ فِي النَّار وَالْجنَّة لَا نَار فِيهَا.
قلت: يحْتَمل أَن يشتعل بِغَيْر نَار، وَيحْتَمل أَن يكون
بِنَار لَا ضَرَر فِيهَا وَلَا إحراق وَلَا دُخان، وَقيل:
تفوح بِغَيْر إشعال، ويشابه ذَلِك مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: أَن
الرجل فِي الْجنَّة ليشتهي الطير فيخر بَين يَدَيْهِ
مشوياً. فَإِن قلت: أَي: حَاجَة لَهُم إِلَى الْمشْط وهم
مرد وشعورهم لَا تنسخ؟ وَأي حَاجَة لَهُم إِلَى
(15/154)
البخور وريحهم أطيب من الْمسك؟ قلت: نعيم
أهل الْجنَّة من أكل وَشرب وَكِسْوَة وَطيب لَيْسَ عَن ألم
جوع أَو ظمأ، أَو عري أَو نَتن، وَإِنَّمَا هِيَ لذات
مترادفة وَنعم مُتَوَالِيَة، وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَنهم
ينعمون بِنَوْع مَا كَانُوا يتنعمون بِهِ فِي دَار
الدُّنْيَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب أهل السّنة أَن
تنعم أهل الْجنَّة على هَيْئَة تنعم أهل الدُّنْيَا إلاَّ
مَا بَينهمَا من التَّفَاضُل فِي اللَّذَّة، وَدلّ الْكتاب
وَالسّنة على أَن نعيمهم لَا انْقِطَاع لَهُ. قَوْله:
(ورشحهم الْمسك) أَي: عرقهم كالمسك فِي طيب الرَّائِحَة.
قَوْله: (زوجتان) ، أَي: من نسَاء الدُّنْيَا، وَيُؤَيّد
هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا فِي صفة أدنى أهل الْجنَّة منزلَة: وَأَن لَهُ
من الْحور الْعين ثِنْتَيْنِ وَسبعين زَوْجَة سوى أَزوَاجه
من الدُّنْيَا، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الظَّاهِر أَن
التَّثْنِيَة يَعْنِي فِي قَوْله: زوجتان، للتكرير لَا
للتحديد كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأرجع الْبَصَر كرتين}
(الْملك:) . لِأَنَّهُ قد جَاءَ أَن للْوَاحِد من أهل
الْجنَّة الْعدَد الْكثير من الْحور الْعين. قلت: فِيهِ
نظر لَا يخفى، وَقيل: يجوز أَن يكون يُرَاد بِهِ نَحْو:
لبيْك وَسَعْديك، فَإِن المُرَاد تَلْبِيَة بعد تَلْبِيَة،
وَلَيْسَ المُرَاد نفس التَّثْنِيَة، أَو يكون بِاعْتِبَار
الصِّنْفَيْنِ نَحْو: زوجه طَوِيلَة وَالْأُخْرَى
قَصِيرَة، أَو إِحْدَاهمَا كَبِيرَة وَالْأُخْرَى
صَغِيرَة، قيل: اسْتدلَّ أَبُو هُرَيْرَة بِهَذَا
الْإِسْنَاد على أَن النِّسَاء فِي الْجنَّة أَكثر من
الرِّجَال. فَإِن قلت: يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي حَدِيث الْكُسُوف: (رأيتكن أَكثر أهل النَّار)
قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ لَا يلْزم من أكثريتهن فِي النَّار
فَفِي أكثريتهن فِي الْجنَّة. فَإِن قلت: يشكل على هَذَا
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الآخر:
اطَّلَعت فِي الْجنَّة فَرَأَيْت أقل ساكنيها النِّسَاء؟
قلت: قد ذكرنَا فِيمَا مضى عَن قريب أَن هَذَا كَانَ قبل
الشَّفَاعَة، ثمَّ قَوْله: زوجتان، بِالتَّاءِ وَهِي لُغَة
كثرت فِي الحَدِيث، وَالْأَشْهر خلَافهَا، وَبِه جَاءَ
الْقُرْآن وَهُوَ الْأَفْصَح، مَعَ أَن الْأَصْمَعِي كَانَ
يُنكر التَّاء، وَلَكِن رد عَلَيْهِ أَبُو حَاتِم
السجسْتانِي بشواهد ذكرهَا. قَوْله: (يُرى مخ سوقهما من
وَرَاء اللَّحْم) ، المخ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الْخَاء
الْمُعْجَمَة: مَا فِي دَاخل الْعظم لَا يسْتَتر بالعظم
وَاللَّحم وَالْجَلد، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ليرى
بَيَاض سَاقهَا من وَرَاء سبعين حلَّة، حَتَّى يرى مخها.
وَفِي رِوَايَة أَحْمد من رِوَايَة أبي سعيد: ينظر وَجهه
فِي خدها أصفى من الْمرْآة، وسوق، بِضَم السِّين جمع:
سَاق. وَكلمَة: من، فِي: من الْحسن، يجوز أَن تكون
للتَّعْلِيل و: أَن، تكون بَيَانِيَّة. قَوْله: (لَا
اخْتِلَاف بَينهم) ، أَي: بَين أهل الْجنَّة (وَلَا تباغض)
لصفاء قُلُوبهم ونظافتها من الكدورات. قَوْله: (قُلُوبهم)
، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء وَخَبره: قلب وَاحِد،
بِالْإِضَافَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: وَاحِد، مَرْفُوع على أَنه صفة لقلب،
وَأَصله على التَّشْبِيه حذفت أداته أَي: كقلب رجل وَاحِد.
قَوْله: {يسبحون الله بكرَة وعشياً} (الْملك: 4) . هَذَا
التَّسْبِيح لَيْسَ عَن تَكْلِيف وإلزام، وَقد فسره جَابر
فِي حَدِيثه عِنْد مُسلم بقوله: يُلْهمُون التَّسْبِيح
وَالتَّكْبِير كَمَا يُلْهمُون النَّفس، وَوجه التَّشْبِيه
أَن تنفس الْإِنْسَان لَا كلفة عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا بُد
لَهُ مِنْهُ، فَجعل تنفسهم تسبيحاً وَسَببه أَن قُلُوبهم
تنورت بِمَعْرِِفَة الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وامتلأت
بحبه، وَمن أحب شَيْئا أَكثر من ذكره. فَإِن قلت: لَا
بكرَة وَلَا عَشِيَّة، إِذْ لَا طُلُوع وَلَا غرُوب. قلت:
المُرَاد مِنْهُ مقدارهما أَو دَائِما يتلذذون بِهِ،
قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: إِذا تلذذوا بِهِ دَائِما
يبْقى. قَوْله: (بكرَة وعشياً) بِلَا فَائِدَة،
وَالظَّاهِر أَن تسبيحهم يكون فِي هذَيْن الْوَقْتَيْنِ.
فَإِن قلت: كَيفَ يعْرفُونَ هذَيْن الْوَقْتَيْنِ بِلَا
ليل وَلَا نَهَار؟ قلت: قد قيل: إِن تَحت الْعَرْش ستارة
معلقَة تطوى وتنشر على يَد ملك، فَإِذا طواها يعلمُونَ
أَنهم لَو كَانُوا فِي الدُّنْيَا، كَانَ هَذَا نَهَارا،
وَإِذا أسبلها يعلمُونَ أَنهم لَو كَانُوا فِي الدُّنْيَا
كَانَ لَيْلًا، وانتصاب: (بكرَة وعشياً) على
الظَّرْفِيَّة.
6423 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبرَنا شعَيْبٌ
قَالَ حدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ
الجَنَّةَ علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ
والَّذِينَ علَى إثْرِهِمْ كأشَدِّ كَوْكبٍ إضَاءَةً
قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ لاَ اخْتِلاَفَ
بَيْنَهُمْ ولاَ تَباغُضَ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ
زَوْجَتَانِ كُلُّ وَاحِدَة منْهُمَا يُرَى مُخُّ ساقِها
منْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الحُسْنِ يُسَبِّحُونَ الله
بُكْرَةً وعَشِيَّاً لاَ يَسْقَمُونَ ولاَ يَمْتَخِطُونَ
ولاَ يَبْصُقُونَ آنِيَتُهُمْ الذَّهَبُ والفِضَّةُ
وأمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ وَقُودَ مَجَامِرِهِمْ
الأُلْوَةُ. قَالَ أبُو اليَمَانِ يَعْنِي العُودَ
ورَشْحُهُمْ الِمسْكُ.
(15/155)
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث أبي هُرَيْرَة
وَرُوَاته على هَذَا النسق قد مروا غير مرّة. وَأَبُو
الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (على إثرهم) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء
الْمُثَلَّثَة وَبِفَتْحِهَا أَيْضا، أَي: الَّذين
يدْخلُونَ الْجنَّة عقيب الْأَوَّلين، وَالَّذين يدْخلُونَ
بعدهمْ كأشد كَوْكَب إضاءة، وَإِنَّمَا أفرد الْمُضَاف
إِلَيْهِ ليُفِيد الِاسْتِغْرَاق فِي هَذَا النَّوْع من
الْكَوْكَب، يَعْنِي: إِذا انْقَضتْ كوكباً كوكباً
رَأَيْتهمْ كأشد إضاءة. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين هَذَا
وَبَين التَّرْكِيب السَّابِق؟ قلت: كِلَاهُمَا مشبهان
إِلَّا أَن الْوَجْه فِي الثَّانِي هُوَ الإضاءة فَقَط،
وَفِي الأول الْهَيْئَة وَالْحسن والضوء، كَمَا إِذا قلت:
إِن زيدا لَيْسَ بِإِنْسَان بل هُوَ فِي صُورَة الْأسد
وشجاعته وجراءته. وَهَذَا التَّشْبِيه قريب من
الِاسْتِعَارَة المكنية. قَوْله: (آنيتهم الذَّهَب
وَالْفِضَّة) ، وَفِي الحَدِيث السَّابِق قَالَ: آنيتهم
الذَّهَب، وَهنا زَاد: الْفضة، وَفِي الأمشاط ذكر بعكس
ذَلِك فَكَأَنَّهُ اكْتفى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذكر
أَحدهمَا كَمَا ذكرنَا هُنَاكَ، كَمَا فِي قَوْله:
{والَّذِين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 43) . وخصص
الذَّهَب لِأَنَّهُ لَعَلَّه أَكثر من الْفضة كنزاً، أَو
لِأَن الذَّهَب أشرف، أَو أَن حَال الزمرة الأولى خَاصَّة،
فآنيتهم كلهَا من الذَّهَب لشرفهم وَهَذَا أَعم مِنْهُم،
فتفاوت الْأَوَانِي بِحَسب تفَاوت أَصْحَابهَا، وَأما
الأمشاط فَلَا تفَاوت بَينهم فِيهَا، فَلم يذكر الْفضة
هُنَا، وَلما علم ثمَّة أَن فِي آنِية الزمرة الأولى قد
تكون الْفضة فغيرهم بِالطَّرِيقِ الأولى، وَحَقِيقَة هَذِه
الْأَحْوَال لَا يعلمهَا إلاَّ الله تَعَالَى.
وقالَ مُجَاهِدٌ الإبْكَارُ أوَّلُ الفَجْرِ والعَشِيُّ
مَيْلُ الشَّمْسِ إلَى أنْ أُرَاهُ تَغْرُبَ
قَوْله: (أُراه) أَي: أَظُنهُ، وَهِي جملَة مُعْتَرضَة
بَين قَوْله: (إِلَى أَن) وَقَوله: (تغرب) وَكَانَ
البُخَارِيّ ظن فِي آخر الْعشي يَعْنِي مبدأ الْعشي
مَعْلُوم وَآخره مظنون، و: تغرب، مَنْصُوب بِأَن،
وَتَعْلِيق مُجَاهِد وَصله عبد بن حميد والطبري وَغَيرهمَا
من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: إِلَى أَن
تغيب، وَقَالَ: الإبكار، مصدر تَقول: أبكر فلَان فِي
حَاجته يبكر إبكاراً إِذا خرج من بَين طُلُوع الْفجْر
إِلَى وَقت الْفجْر، وَأما الْعشي فَمن بعد الزَّوَال،
قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا الظل من برد الضُّحَى يستطيعه ... وَلَا الْفَيْء
من برد الْعشي يَذُوق)
قَالَ، والفيء يكون عِنْد زَوَال الشَّمْس. ويتناهى
بمغيبها.
57 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي قَالَ
حَدثنَا فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن
سعد رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ ليدخلن من أمتِي سَبْعُونَ
ألفا أَو سَبْعمِائة ألف لَا يدْخل أَوَّلهمْ حَتَّى يدْخل
آخِرهم وُجُوههم على صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر)
أَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي اسْمه
سَلمَة قَوْله " ليدخلن " اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة
للتَّأْكِيد وَهُوَ أَيْضا مُؤَكد بالنُّون الثَّقِيلَة
وَسَبْعُونَ ألفا فَاعله قَوْله " أَو سَبْعمِائة ألف "
شكّ من الرَّاوِي كَذَا قَالَه ابْن التِّين وَفِي حَدِيث
مُسلم عَن عمرَان بن حُصَيْن مَرْفُوعا " يدْخل الْجنَّة
من أمتِي سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب " وَفِي حَدِيث
التِّرْمِذِيّ عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا وَعَدَني رَبِّي
أَن يدْخل الْجنَّة من أمتِي سبعين ألفا لَا حِسَاب
عَلَيْهِم وَلَا عَذَاب مَعَ كل ألف سَبْعُونَ ألفا
وَثَلَاث حثيات من حثيات رَبِّي عز وَجل وَقَالَ غَرِيب
وَفِي حَدِيث الْبَزَّار من حَدِيث أنس بِلَفْظ " مَعَ كل
وَاحِد من السّبْعين ألفا سَبْعُونَ ألفا " وَفِي كتاب
الشَّفَاعَة للْقَاضِي إِسْمَاعِيل من حَدِيث أنس
مَرْفُوعا " أَن الله وَعَدَني أَن يدْخل الْجنَّة من
أمتِي أَرْبَعمِائَة ألف " فَقَالَ أَبُو بكر زِدْنَا
فَقَالَ وَهَكَذَا فَقَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
حَسبك يَا أَبَا بكر فَقَالَ دَعْنِي يَا عمر وَمَا
عَلَيْك أَن يدخلنا الله الْجنَّة كلنا قَالَ عمر إِن
شَاءَ الله أَدخل خلقه الْجنَّة بحثية وَاحِدَة فَقَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صدق عمر وروى
الكلاباذي من حَدِيث عبد الْعَزِيز الْيَمَانِيّ عَن
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت فقدت رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَات يَوْم
فاتبعته فَإِذا هُوَ فِي مشربَة يُصَلِّي فَرَأَيْت على
رَأسه ثَلَاثَة أنوار فَلَمَّا قضى صلَاته قَالَ من هَذِه
قلت عَائِشَة فَقَالَ هَل رَأَيْت الْأَنْوَار قلت نعم
قَالَ " إِن آتٍ أَتَانِي من رَبِّي عز وَجل فبشرني أَن
الله تَعَالَى يدْخل الْجنَّة من أمتِي سبعين ألفا بِغَيْر
حِسَاب وَلَا عَذَاب ثمَّ أَتَانِي فِي الْيَوْم الثَّانِي
آتٍ من رَبِّي فبشرني أَن الله تَعَالَى يدْخل من أمتِي
مَكَان كل وَاحِد من السّبْعين ألفا سبعين ألفا بِغَيْر
حِسَاب وَلَا عَذَاب ثمَّ أَتَانِي فِي الْيَوْم الثَّالِث
(15/156)
آتٍ من رَبِّي فبشرني أَن الله تَعَالَى
يدْخل من أمتِي مَكَان كل وَاحِد من السّبْعين ألفا
المضاعفة سبعين ألفا بِغَيْر حِسَاب وَلَا عَذَاب فَقلت
يَا رَبِّي لَا تبلغ هَذَا أمتِي قَالَ يكملون من
الْأَعْرَاب مِمَّن لَا يَصُوم وَلَا يُصَلِّي. ثمَّ قَالَ
الكلاباذي اخْتلف النَّاس فِي الْأمة من هم فَقَالَ قوم
أهل الْملَّة وَقَالَ آخَرُونَ كل مَبْعُوث إِلَيْهِ
وَلَزِمتهُ الْحجَّة بالدعوة وَهَؤُلَاء يخْتَلف
أَحْوَالهم فَمنهمْ من بعث إِلَيْهِ ودعي فَلم يجب كَأَهل
الْأَدْيَان من أهل الْكتاب وَسَائِر الْمُشْركين
فَهَؤُلَاءِ لَا يدْخلُونَ الْجنَّة أبدا وَمِنْهُم من
دعِي فَأجَاب وَلم يتبع من جِهَة اسْتِعْمَال مَا لزمَه
بالإجابة فَهُوَ مُؤمن بالإجابة إِلَى مَا دعِي إِلَيْهِ
من التَّوْحِيد والرسالة وَإِن لم يسْتَعْمل مَا أَمر بِهِ
تشاغلا عَنهُ وخلاعة وتجوزا فَهَؤُلَاءِ من أمة الدعْوَة
والإجابة وَلَيْسوا من أمة الِاتِّبَاع وَمِنْهُم من أجَاب
إِلَى مَا دعِي وَاسْتعْمل مَا أَمر بِهِ فَهَؤُلَاءِ من
أمة الدعْوَة والإجابة والاتباع وَهَؤُلَاء الْأَعْرَاب
يجوز أَن يَكُونُوا من أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من طَرِيق الْإِجَابَة إِيمَانًا
بِاللَّه وبرسوله وَلم يستعملوا مَا لَزِمَهُم بالإجابة
فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أمته على معنى الِاتِّبَاع وَمعنى
يكملون من الْأَعْرَاب يَعْنِي من هَؤُلَاءِ الَّذين
آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَلم يستعملوا مَا لَزِمَهُم
بالإجابة قَوْله " لَا يدْخل أَوَّلهمْ حَتَّى يدْخل
آخِرهم " مَعْنَاهُ لَا يدْخل آخِرهم حَتَّى يدْخل
أَوَّلهمْ وَإِلَّا لم يدْخل الآخر آخرا فَيلْزم الدّور
وَهَذَا الدّور غير مَمْنُوع لِأَنَّهُ دور معية والممنوع
دور التَّقَدُّم وَالْغَرَض مِنْهُ أَنهم يدْخلُونَ كلهم
مَعًا صفا وَاحِدًا قَوْله " وُجُوههم كَالْقَمَرِ لَيْلَة
الْبَدْر " جملَة حَالية وَقعت بِلَا وَاو -
8423 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ
قَالَ حدَّثنا يُونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
شَيْبَانُ عنْ قَتَادَةَ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ وكانَ يَنْهَى عنِ
الحَرِيرِ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا فَقَالَ والَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمنادِيلُ سَعْدٍ بنِ مُعاذٍ
فِي الجَنَّةِ أحْسَنُ مِنْ هَذَا. (انْظُر الحَدِيث 5162
وطرفه) .
عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ هُوَ الْمَعْرُوف
بالمسندي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَيُونُس بن مُحَمَّد
أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ مَاتَ فِي سنة
ثَمَان وَمِائَتَيْنِ، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ، وَكَانَ مؤدباً لبني دَاوُد بن عَليّ أَصله
بَصرِي وَسكن الْكُوفَة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْهِبَة
فِي: بَاب قبُول الْهَدِيَّة من الْمُشْركين، وَمر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
0523 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثَنَا
سُفْيَانُ عنْ أبِي حازِمٍ عَنْ سَهلٍ بنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِيِّ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيها.
عَليّ بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ
ابْن عُيَيْنَة وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار. قَوْله:
(خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) ، قَالَ الدَّاودِيّ:
يَعْنِي فِي الْحسن والبهجة، وَقَالَ غَيره: يَعْنِي أَنه
دَائِم لَا يفنى، فَكَانَ أفضل مِمَّا يفنى. فَإِن قلت: لم
خص السَّوْط بِالذكر؟ قلت: لِأَن من شَأْن الرَّاكِب إِذا
أَرَادَ النُّزُول فِي منزل أَن يلقِي سَوْطه قبل أَن ينزل
معلما بذلك الْمَكَان الَّذِي يُريدهُ لِئَلَّا يسْبقهُ
إِلَيْهِ أحد.
1523 - حدَّثنا رَوْحُ بنُ عَبْدِ المُؤْمِنِ قَالَ
حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثَنَا سَعِيدٌ عنْ
قَتَادَةَ قَالَ حدَّثنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ إنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ
فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عامٍ لَا يَقْطَعُهَا.
روح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبد الْمُؤمن أَبُو الْحسن
الْبَصْرِيّ الْمقري. وَهُوَ من أَفْرَاده وَلَيْسَ لَهُ
فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَيزِيد من
الزِّيَادَة، وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيق
معمر عَن قَتَادَة، وَزَاد فِي آخِره: وَإِن شِئْتُم
فاقرأوا: {وظل مَمْدُود} (الْوَاقِعَة: 03) .
(15/157)
2523 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ
قَالَ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا
هِلاَلُ بنُ عَلِيٍّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي
عَمْرَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ فِي
الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا
مائَةَ سَنَةٍ واقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ {وظِلٍّ مَمْدُودٍ}
ولَقَابُ قَوْسِ أحدِكُمْ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مَمَّا
طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أوْ تَغْرُبُ. (انْظُر
الحَدِيث 3972) .
صدر هَذَا الحَدِيث مثل حَدِيث أنس الْمَذْكُور قبله،
وَفِيه الزِّيَادَة، وَهِي قَوْله: واقرأوا ... إِلَى
آخِره، وَقَالَ الْخطابِيّ: الشَّجَرَة الْمَذْكُورَة
يُقَال: إِنَّهَا طُوبَى، وروى ابْن عبد الْبر من حَدِيث
عتبَة بن عبد السّلمِيّ مَرْفُوعا: (شَجَرَة طُوبَى تشبه
الجوزة) ، قَالَ رجل: يَا رَسُول الله! مَا عظم أَصْلهَا؟
قَالَ: (لَو رحلت جَذَعَة مَا أحاطت بأصلها حَتَّى تنكسر
ترقوتها هرماً) ، وروى ابْن وهب من حَدِيث شهر بن حَوْشَب
عَن أبي أُمَامَة، قَالَ: (شَجَرَة طُوبَى فِي الْجنَّة
لَيْسَ فِيهَا دَار إلاَّ وفيهَا غُصْن مِنْهَا، لَا طير
حسن وَلَا ثَمَرَة، إلاَّ وَهِي فِيهَا) . قَوْله: (فِي
ظلها) أَي: راحتها وَنَعِيمهَا من قَوْلهم عَن ظَلِيل،
وَقيل: مَعْنَاهُ دارها وناحيتها، كَمَا يُقَال: أَنا فِي
ظلك، أَي: فِي كنفك، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا
التَّأْوِيل لِأَن الظل الْمُتَعَارف إِنَّمَا هُوَ وقاية
حر الشَّمْس وأذاها، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة شمس وَإِنَّمَا
هِيَ أنوار مُتَوَالِيَة لَا حر فِيهَا وَلَا قر، بل لذات
مُتَوَالِيَة وَنعم متتابعة. قَوْله: (لَقَاب قَوس)
اللاَّم فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، القاب والقيب
كالقاد والقيد بِمَعْنى الْقدر، وعينه: وَاو.
4523 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ قَالَ حدَّثنا أبي عنْ هِلاَلٍ عنْ
عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي عَمْرَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ
عَلى صورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ والَّذِينَ علَى
آثَارِهِمْ كأحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ
إِضَاءَةً قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبٍ رَجُلٍ واحِدٍ لاَ
تَباغُضَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَحاسُدَ لِكُلِّ امْرِىءٍ
زَوْجَتَانِ مِنَ الحُورِ العِين يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ
مِنْ وَرَاءِ العَظْمِ واللَّحْمِ.
هَذَا أحد الطّرق الثَّلَاثَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة
الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب. الأول: رَوَاهُ عَن
مُحَمَّد بن مقَاتل. وَالثَّانِي: رَوَاهُ عَن أبي
الْيَمَان، وَهَذَا هُوَ الثَّالِث: رَوَاهُ عَن
إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أبي إِسْحَاق الْحزَامِي عَن
مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه فليح بن سُلَيْمَان ابْن أبي
الْمُغيرَة عَن هِلَال بن عَليّ. قَوْله: (درى) ، فِيهِ
لُغَات: ضم الدَّال وَتَشْديد الرَّاء وبالياء آخر
الْحُرُوف بِلَا همز، وَالثَّانيَِة بِالْهَمْز،
وَالثَّالِثَة بِكَسْر الدَّال مهموزاً أَيْضا. وَهُوَ:
الْكَوْكَب الْعَظِيم الْبراق، وَسمي بِهِ لبياضه كالدر،
وَقيل: لضوئه، وَقيل: لشبهه بالدر فِي كَونه أرفع
النُّجُوم كَمَا أَن الدّرّ أرفع الْجَوَاهِر.
5523 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ أَخْبرنِي قَالَ
سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَمَّا ماتَ
إبْرَاهِيمُ قَالَ إنَّ لَهُ مُرْضِعَاً فِي الجَنَّةِ.
(انْظُر الحَدِيث 2831 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا
قيل فِي أَوْلَاد الْمُسلمين. قَوْله: (مُرْضعًا) إِنَّمَا
قَالَ مُرْضعًا وَلم يقل: مُرْضِعَة، لِأَن المُرَاد
الَّتِي من شَأْنهَا الْإِرْضَاع أَعم من أَن يكون فِي
حَالَة الْإِرْضَاع.
6523 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ
حدَّثني مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ عنْ
عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ أهْلَ
الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَيُونَ
الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأفُقِ مِنَ
المَشْرِقِ أوِ المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ
قَالُوا يَا رسولَ الله تِلْكَ مَنازِلُ الأنْبِيَاءِ لاَ
يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ
(15/158)
قالَ بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّه وصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ. ا
(لحَدِيث 6523 طرفه فِي: 6556) .
عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم
الْقرشِي العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَصَفوَان بن
سليم، بِضَم السِّين وَفتح اللاَّم: الْمدنِي، وَعَطَاء بن
يسَار ضد الْيَمين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة الْجنَّة أَيْضا عَن عبد
الله بن جَعْفَر وَعَن هَارُون بن سعيد كِلَاهُمَا عَن
مَالك.
قَوْله: (عَن صَفْوَان) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم:
(أَخْبرنِي صَفْوَان) ، وَوهم أَيُّوب بن سُوَيْد
فَرَوَاهُ: عَن مَالك عَن زيد ابْن أسلم بدل صَفْوَان،
ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الغرائب) . قَوْله: (عَن أبي
سعيد) ، وَفِي رِوَايَة فليح عَن هِلَال بن عَليّ عَن
عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة، أخرجه التِّرْمِذِيّ
وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، وَنقل الدَّارَقُطْنِيّ فِي
(الغرائب) عَن الذهلي أَنه قَالَ: لست أرفع حَدِيث فليح،
يجوز أَن يكون عَطاء بن يسَار حدث بِهِ عَن أبي سعيد وَعَن
أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (يتراءيون) على وزن: يتفاعلون، من
بَاب التفاعل أَي: يرَوْنَ وَيَنْظُرُونَ، وَفِيه معنى
التَّكَلُّف كَمَا فِي قَول أبي البخْترِي: تراءينا
الْهلَال أَي: تكلفنا النّظر إِلَيْهِ هَل نرَاهُ أم لَا،
وَفِي رِوَايَة مُسلم: يرَوْنَ، وَهَذَا يدل على أَن بَاب
التفاعل هُنَا لَيْسَ على بَابه. قَوْله: (الغرف) ، بِضَم
الْغَيْن وَفتح الرَّاء جمع: غرفَة، وَهِي الْعلية،
قَوْله: (الغابر) ، بالغين الْمُعْجَمَة وَالْبَاء
الْمُوَحدَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي
رِوَايَة (الْمُوَطَّأ) الغاير بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف،
وَمَعْنَاهُ الدَّاخِل فِي الْغُرُوب، وَمعنى الغابر
بِالْبَاء الْمُوَحدَة الذَّاهِب، وَهُوَ من الأضداد،
يُقَال: غبر بِمَعْنى: ذهب، وَبِمَعْنى: بَقِي وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ: العازب بِالْعينِ الْمُهْملَة
وَالزَّاي، وَمَعْنَاهُ الْبعيد، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ: العارب بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالرَّاء.
قَوْله: (فِي الْأُفق) ، قَالَ بَعضهم: المُرَاد من
الْأُفق السَّمَاء. قلت: الْأُفق أَطْرَاف السَّمَاء.
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تَقْيِيد
الْكَوَاكِب بالدري، ثمَّ بالغابر فِي الْأُفق؟ قلت:
للإيذان بِأَنَّهُ من بَاب التَّمْثِيل الَّذِي وَجهه
منتزع من عدَّة أُمُور متوهمة فِي الْمُشبه شبه رُؤْيَة
الرَّائِي فِي الْجنَّة صَاحب الغرفة بِرُؤْيَة الرَّائِي
الْكَوْكَب المستضيء الْبَاقِي فِي جَانب الشرق أَو الغرب
فِي الاستضاءة مَعَ الْبعد، فَلَو قيل: الغابر، لم يَصح
لِأَن الْإِشْرَاق يفوت عِنْد الْغُرُوب اللَّهُمَّ إلاَّ
أَن يقدر المستشرف على الْغُرُوب كَقَوْلِه تَعَالَى:
{فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} (الْبَقَرَة: 432، الطَّلَاق: 2) .
لَكِن لَا يَصح هَذَا الْمَعْنى فِي الْجَانِب الشَّرْقِي،
نعم على هَذَا التَّقْدِير كَقَوْلِه:
(مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحاً ... وعلفته تبناً وَمَاء
بَارِدًا)
أَي: طالعاً فِي الْأُفق من الْمشرق وغابراً فِي الْمغرب،
فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر الشرق والغرب، وهلا قيل: فِي
السَّمَاء أَي فِي كَبِدهَا؟ قلت: لَو قيل: فِي السَّمَاء،
لَكَانَ الْقَصْد الأول بَيَان الرّفْعَة، وَيلْزم مِنْهُ
الْبعد، وَفِي ذكر الْمشرق أَو الْمغرب الْقَصْد الأول
الْبعد، وَيلْزم مِنْهُ الرّفْعَة. قَوْله: (قَالَ بلَى) ،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بل، الَّتِي للإضراب. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: هَكَذَا وَقع هَذَا الْحَرْف: بلَى،
الَّتِي أَصْلهَا حرف جَوَاب وتصديق، وَلَيْسَ هَذَا
موضعهَا، لأَنهم لم يستفهموا وَإِنَّمَا أخبروا أَن تِلْكَ
الْمنَازل للأنبياء، عَلَيْهِم السَّلَام، لَا لغَيرهم،
فجواب هَذَا يَقْتَضِي أَن تكون: بل، الَّتِي للإضراب عَن
الأول وَإِيجَاب الْمَعْنى للثَّانِي، فَكَأَنَّهُ تسومح
فِيهَا، فَوضعت: بلَى، مَوضِع: بل. قَوْله: (رجال) ،
مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هم رجال
آمنُوا بِاللَّه، أَي: حق إيمَانه، وَصَدقُوا الْمُرْسلين
أَي: حق تصديقهم، وإلاَّ فَكل من يدْخل الْجنَّة آمن
بِاللَّه وَصدق رسله.
9 - (بابُ صِفَةِ أبْوَاب الجَنَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة أَبْوَاب الْجنَّة. قَالَ
بَعضهم: هَكَذَا ترْجم بِالصّفةِ وَلَعَلَّه أَرَادَ
بِالصّفةِ الْعدَد أَو التَّسْمِيَة. قلت: هَذَا تخمين،
لِأَنَّهُ لَا وَجه لما ذكره، أما ذكر الصّفة وَإِرَادَة
الْعدَد فَفِيهِ مَا فِيهِ، لِأَن الْعدَد اسْم. قَالَ
الْجَوْهَرِي: عددت الشَّيْء عدا أحصيته، وَالِاسْم
الْعدَد والعديد، وَالصّفة خَارِجَة عَن ذَات الشَّيْء،
وَأما ذكر الصّفة وَإِرَادَة التَّسْمِيَة فتعسف جدا
لِأَنَّهُ لَا نُكْتَة فِيهِ حَتَّى يعدل عَن التَّسْمِيَة
إِلَى ذكر الصّفة، وَالَّذِي يظْهر أَن ذكره أَبْوَاب
الْجنَّة وَاقع فِي مَحَله، لِأَن فِي الْبَاب ذكر
ثَمَانِيَة أَبْوَاب فيطابق التَّرْجَمَة، وَذكر الصّفة
إِشَارَة إِلَى قَوْله: الريان، لِأَنَّهُ صفة للباب
الَّذِي يدْخل مِنْهُ الصائمون. فَإِن قلت: الْمَذْكُور
فِي الحَدِيث يُسمى الريان. قلت: فِي الْحَقِيقَة صفة
لذَلِك الْبَاب، لِأَن الصائمين الَّذين كابدوا الْعَطش
فِي الدُّنْيَا إِذا دخلُوا من هَذَا الْبَاب إِلَى
الْجنَّة يشربون من النَّهر الَّذِي فِيهِ فيروون، فَلَا
يحصل لَهُم الظمأ بعد ذَلِك أبدا، فَغلبَتْ الإسمية على
الصّفة، كَمَا فِي الْعَبَّاس والْحَارث وَنَحْوهمَا.
(15/159)
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ دُعِيَ مِنْ بَابِ
الجَنَّةِ
روى هَذَا التَّعْلِيق مُسْندًا مَوْصُولا فِي كتاب
الصّيام فِي: بَاب الريان للصائمين، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن معن عَن مَالك
عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي
هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: من أنْفق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل الله نُودي من
أَبْوَاب الْجنَّة ... الحَدِيث، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،
وَفِيه: فَمن كَانَ من أهل الْجِهَاد دعِي من بَاب
الْجِهَاد ... الحَدِيث.
فِيهِ عُبادَةُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْبَاب روى عَن عبَادَة بن الصَّامِت،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا
رَوَاهُ فِي ذكر عِيسَى من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن
عبَادَة بن الصَّامِت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: من شهد أَن لَا إلاه إلاَّ الله ...
الحَدِيث، وَفِيه: أدخلهُ الله من أَبْوَاب الْجنَّة
الثَّمَانِية أَيهَا شَاءَ، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي
(مُعْجَمه) من حَدِيث ابْن سَلام: عَن أبي أُمَامَة عَن
عبَادَة بن الصَّامِت وَلَفظه: عَلَيْكُم بِالْجِهَادِ فِي
سَبِيل الله فَإِنَّهُ بَاب من أَبْوَاب الْجنَّة،
يُذْهِبُ الله بِهِ الهَمَّ والغَمَّ.
7523 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حدَّثني أبُو حازِمٍ عنْ
سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ فِي
الجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أبْوَابٍ فِيهَا بابٌ يُسَمَّى
الرَّيَّانَ لاَ يَدْخُلُهُ إلاَّ الصَّائِمُونَ. (انْظُر
الحَدِيث 6981) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثَمَانِيَة أَبْوَاب،
وَمُحَمّد بن مطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء
الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة، وَأَبُو حَازِم
سَلمَة بن دِينَار، والْحَدِيث من أَفْرَاده، قَالَ
الدَّاودِيّ: هَذَا الحَدِيث يبين قَوْله تَعَالَى:
{وَفتحت أَبْوَابهَا} (الزمر: 37) . لِأَن الْوَاو
إِنَّمَا تَأتي بعد سَبْعَة. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ:
الْوَاو زَائِدَة، وَهُوَ خطأ عِنْد الْبَصرِيين، لِأَن
الْوَاو تفِيد معنى الْعَطف. فَلَا يجوز أَن تزاد. قَوْله:
(الريان) ، أَصله: الرويان، اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو
وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء ثمَّ
أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، والريان ضد العطشان، من: رويت
من المَاء بِالْكَسْرِ أروى رِياً ورَياً، وَرُوِيَ أَيْضا
مثل: رَضِي، ورَويت الحَدِيث، بِالْفَتْح رِوَايَة.
قَوْله: (لَا يدْخلهُ إلاَّ الصائمون) مجازاة لَهُم لما
كَانَ يصيبهم من الْعَطش من صِيَامهمْ، وَالله أعلم.
01 - (بابُ صِفَةِ النَّارِ وأنَّهَا مَخْلُوقَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة النَّار، يَعْنِي: نَار
جَهَنَّم، وَفِي بَيَان أَنَّهَا مخلوقة مَوْجُودَة،
وَفِيه رد على الْمُعْتَزلَة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي: بَاب
صفة الْجنَّة، وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا ملخصه: إِن
النَّسَفِيّ لم يروِ من أول الْبَاب إِلَى أول حَدِيث
الْبَاب اللُّغَات الْمَذْكُورَة، وَلم يُوجد فِي نسخته
شَيْء من ذَلِك، وأمثال هَذِه مِمَّا سَمعه الْفربرِي عَن
البُخَارِيّ عِنْد سَماع الْكتاب، فألحقها هُوَ بِهِ،
وَالْأولَى بِوَضْع هَذَا الْجَامِع فقدانها لَا وجدانها،
إِذْ مَوْضُوعه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
جِهَة أَقْوَاله وأفعاله وأحواله، فَيَنْبَغِي أَن لَا
يتَجَاوَز الْبَحْث عَن ذَلِك.
غَسَاقَاً يُقالُ غَسَقَتْ عَيْنُهُ ويَغْسِقُ الْجُرْحُ
وكأنَّ الغَسَاقَ والغَسَقَ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ
حميماً وغسَّاقاً} (النبإ: 52) . قَوْله: (يُقَال: غسقت
عينه) إِذا سَالَ مِنْهَا المَاء الْبَارِد، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: غسقت عينه إِذا أظلمت، وغسق الْجرْح إِذا
سَالَ مِنْهُ مَاء أصفر، وَيُقَال: الغساق المَاء
الْبَارِد المنتن يُخَفف ويشدد، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو
بِالتَّشْدِيدِ، وَالْكسَائِيّ بِالتَّخْفِيفِ، وَقيل:
الغساق قيح غليظ، قَالَه عبد الله بن عَمْرو، وَقَالَ ابْن
دُرَيْد: هُوَ صديدهم تصهرهم النَّار فيجتمع صديدهم فِي
حِيَاض فيسقونه، وَقَالَ ابْن فَارس: الغساق مَا يقطر من
جُلُود أهل النَّار، وَقيل: بَارِد يحرق كَمَا تحرق
النَّار، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{إلاَّ حميماً وغساقاً} (النبإ: 52) . الْحَمِيم: المَاء
الْحَار، والغساق مَا همي وسال. وَفِي حَدِيث
التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم عَن أبي سعيد مَرْفُوعا: (لَو
أَن دلواً من غساق يهراق إِلَى الدُّنْيَا لأنتن أهل
الدُّنْيَا) . قَوْله: (كَأَن الغساق والغسق وَاحِد) ،
هَكَذَا
(15/160)
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: الغسق،
بِفتْحَتَيْنِ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: الغسيق على وزن:
فعيل، وَقد تردد البُخَارِيّ فِي كَون الغساق والغسق
وَاحِدًا، وَلَيْسَ بِوَاحِد. فَإِن الغساق مَا ذَكرْنَاهُ
من الْمعَانِي، والغسق: الظلمَة، يُقَال: غسق يغسق غسوقاً
فَهُوَ غَاسِق: إِذا أظلم، وأغسق مثله.
غِسْلِينٌ كلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ
فَهْوَ غِسْلِينٌ فِعْلِينٌ مِن الغَسْلِ مِنَ الْجُرْحِ
والدَّبَرِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا
طَعَام إلاَّ من غسلين} (الحاقة: 63) . وَقد فسره بقوله:
كل شَيْء ... إِلَى آخِره، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو
عُبَيْدَة، وَقد روى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: الغسلين صديد أهل
النَّار. قَوْله: (فعلين) ، أَي: وزن غسلين فعلين،
وَالنُّون وَالْيَاء فِيهِ زائدتان. قَوْله: (والدبر) ،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ مَا يُصِيب الْإِبِل
من الْجِرَاحَات. فَإِن قلت: بَين هَذِه الْآيَة، وَبَين
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إلاَّ من ضَرِيع}
(الغاشية: 6) . مُعَارضَة ظَاهرا. قلت: جمع بَينهمَا بِأَن
الضريع من الغسلين، أَو هم طَائِفَتَانِ: فطائفة يجازون
بِالطَّعَامِ من غسلين بِحَسب استحقاقهم لذَلِك،
وَطَائِفَة يجازون بِالطَّعَامِ من ضَرِيع، كَذَلِك،
وَالله أعلم.
وقالَ عِكْرِمَةُ حَصَبُ جَهَنَّمَ حَطَبٌ بالحَبَشِيَّةِ:
وقالَ غَيرُهُ حاصِبَاً الرِّيحُ الْعاصِفُ والحَاصِبُ مَا
تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ ومِنْهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ يُرْمَى
بِهِ فِي جَهَنَّمَ هُمْ حَصَبُهَا ويُقَالُ حَصَبَ فِي
الأرْضِ ذَهَبَ والحَصَبُ مُشْتَق منْ حَصْبَاءِ
الحجَارَةِ
تَعْلِيق عِكْرِمَة وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عبد
الْملك بن أبجر: سَمِعت عِكْرِمَة بِهَذَا ... وَأخرجه
ابْن أبي عَاصِم عَن ابْني سعيد الْأَشَج: حَدثنَا وَكِيع
عَن سُفْيَان عَن عبد الْملك بن أبجر سَمِعت عِكْرِمَة،
وَقَالَ ابْن عَرَفَة: إِن كَانَ أَرَادَ بهَا حبشية
الأَصْل سَمعتهَا الْعَرَب فتكلمت بهَا فَصَارَت حِينَئِذٍ
عَرَبِيَّة، وإلاَّ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن غير
الْعَرَبيَّة، وَقَالَ الْخَلِيل: حصب مَا هيء للوقود من
الْحَطب، فَإِن لم يهيأ لذَلِك فَلَيْسَ بحصب، وروى
الْفراء عَن عَليّ وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قرآها: (حطب) ، بِالطَّاءِ وروى
الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَهَا بالضاد
الْمُعْجَمَة، قَالَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنهم الَّذين
تسجر بهم النَّار، لِأَن كل شَيْء هيجت بِهِ النَّار
فَهُوَ حصب. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، أَي: غير
عِكْرِمَة: حاصباً، أَي: فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو يُرْسل
عَلَيْكُم حاصباً} (الْإِسْرَاء: 86) . هُوَ الرّيح العاصف
الشَّديد، كَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (والحاصب)
مَا ترمى بِهِ الرّيح، لِأَن الحصب الرَّمْي، وَمِنْه: حصب
جَهَنَّم يرْمى بِهِ فِيهَا، وَيُقَال: الحاصب الْعَذَاب.
قَوْله: (هم حصبها) ، أَي: أهل النَّار حصب جَهَنَّم،
وَهُوَ مُشْتَقّ من حصبهاء الْحِجَارَة، وَهِي الْحَصَى.
قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَصْبَاء الْحَصَى وحصبت الرجل
أحصبه بِالْكَسْرِ، أَي: رميته بالحصباء.
صَدِيدٌ قَيْحٌ ودَمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويسقى من
مَاء صديد} (إِبْرَاهِيم: 61) . وَفَسرهُ: بالقيح
وَالدَّم، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
خَبَتْ طَفِئَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كلما خبت}
(الْإِسْرَاء: 79) . وَفَسرهُ بقوله: طفئت، بِفَتْح
الطَّاء وَكسر الْفَاء، يُقَال: طفئت النَّار تطفأ طفأ،
وَهُوَ من بَاب: علم يعلم من المهموز، وانطفأت، وَأَنا
أطفأتها. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَقُولُونَ للنار إِذا
سكن لهبها وَعلا الْجَمْر رماد: خبت، فَإِن طفىء مُعظم
الْجَمْر يُقَال: خمدت، وَإِن طفىء كُله يُقَال: همدت.
تُورُونَ تَسْتَخْرِجُون: أوْرَيْتُ أوْقَدْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون} (الْوَاقِعَة: 17)
. وفسرها بقوله: تستخرجون، وَأَصله من: ورى الزند،
بِالْفَتْح يري ورياً: إِذا خرجت ناره، وَفِيه لُغَة
أُخْرَى: وري الزند يري، بِالْكَسْرِ فيهمَا، وأوريته
أَنا، وَكَذَلِكَ: وريته تورية، وأصل
(15/161)
تورون: توريون، نقلت ضمة الْيَاء إِلَى
الرَّاء وحذفت الْيَاء لالتقاء الساكنين، فَصَارَ: تورون
على وزن: تفعون.
لِلْمُقْوِينَ لِلْمُسَافِرِينَ والْقِيُّ القفرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تذكرة
ومتاعاً للمقوين} (الْوَاقِع: 37) . وَفسّر المقوين بقوله
الْمُسَافِرين، واشتقاقه من: أقوى الرجل إِذا نزل الْمنزل
القواء، وَهُوَ الْموضع الَّذِي لَا أحد فِيهِ. وروى
الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: للمقوين للمسافرين، وَمن طَرِيق
الضَّحَّاك وَقَتَادَة مثله، وَمن طَرِيق مُجَاهِد قَالَ:
للمقوين، أَي: الْمُسْتَحقّين، أَي: الْمُسَافِر والحاضر،
وَيُقَال: المقوين من لَا زَاد لَهُ، وَقيل: المقوي
الَّذِي لَهُ مَال، وَقيل: المقوي الَّذِي أَصْحَابه
وَإِبِله أقوياء، وَقيل: هُوَ من مَعَه دَابَّة. قَوْله:
(والقي) ، بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء، وَفَسرهُ
بقوله: (القفر) بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْفَاء وَفِي
آخِره رَاء، وَهُوَ: مفازة لَا نَبَات فِيهَا وَلَا مَاء،
وَيجمع على: قفار.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: صِرَاطُ الجَحِيمُ: سَوَاءُ
الجَحِيمِ وَوَسَطُ الجَحِيمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاهدوهم
إِلَى صِرَاط الْجَحِيم} (الصافات: 32) . وروى الطَّبَرِيّ
من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي
قَوْله تَعَالَى: {فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم}
(الصافات: 55) . قَالَ: فِي وسط الْجَحِيم، وَمن طَرِيق
قَتَادَة وَالْحسن مثله.
لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ ويُساطُ
بِالحَمِيمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن
لَهُم عَلَيْهَا لشوباً من حميم} (الصافات: 76) . وَفَسرهُ
بقوله: يخلط ... إِلَى آخِره، والشوب الْخَلْط. قَالَ
أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب: كل شَيْء خلطته
بِغَيْرِهِ فَهُوَ شوب. قَوْله: (يساط) ، على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: يخلط، وَمِنْه: المسواط، وَهُوَ
الْخَشَبَة الَّتِي يُحَرك بهَا مَا فِيهِ التَّخْلِيط،
وَهُوَ بِالسِّين الْمُهْملَة.
زَفِيرٌ وشَهِيقٌ صَوْت شَديدٌ وصَوْتٌ ضَعِيفٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَفِي
النَّار لَهُم فِيهَا زفير وشهيق} (هود: 601) . وَفسّر
الزَّفِير بالصوف الشَّديد، والشهيق بالصوت الضَّعِيف،
وَهَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، أخرجه الطَّبَرِيّ وَابْن
أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس، وَمن طَرِيق أبي الْعَالِيَة قَالَ: الزَّفِير
فِي الْحلق والشهيق فِي الصَّدْر، وَمن طَرِيق قَتَادَة:
هُوَ كصوت الْحمار أَو لَهُ زفير وَآخره شهيق. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: الشهيق هُوَ الَّذِي يبْقى بعد الصَّوْت
الشَّديد من الْحمار.
وِرْداً عِطاشاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ونسوق
الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا} (مَرْيَم: 68) . وَفسّر
الْورْد بالعطاش، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس،
وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد: وردا مُنْقَطِعَة أَعْنَاقهم قَالَ
أهل اللُّغَة: الْورْد مصدر: ورد، وَالتَّقْدِير عِنْدهم،
ذَوي ورد، ويحكى أَنه يُقَال للواردين المَاء: ورد،
وَيُقَال: ورد، أَي: وراد، كَمَا يُقَال: قوم زور أَي
زوار. فَإِن قلت: الَّذِي يرد المَاء يُنَافِي الْعَطش.
قلت: لَا يلْزم من الْوُرُود إِلَى المَاء تنَاوله مِنْهُ،
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة أَنهم يَشكونَ الْعَطش
فَترفع لَهُم جَهَنَّم سراب مَاء، فَيُقَال: أَلا تردون؟
فيردونها فيتساقطون فِيهَا.
غَيَّاً خُسْرَانَاً
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فسوق
يلقون غيّاً} (مَرْيَم: 95) . وَفسّر الغي بالخسران، وَعَن
ابْن مَسْعُود: الغي: وادٍ فِي جَهَنَّم، وَالْمعْنَى فسوق
يلقون حر الغي، وَعنهُ: وادٍ فِي جَهَنَّم بعيد القعر
خَبِيث الطّعْم.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْجَرُونَ، تُوقَدُ بِهِمْ النَّارُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ فِي
النَّار يسجرون} (غَافِر: 27) . وَفَسرهُ بقوله: توقد بهم
النَّار كَأَنَّهُمْ يصيرون وقود النَّار، وَفِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين: توقد لَهُم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بهم،
بِالْبَاء.
(15/162)
ونُحَاسٍ الصُّفْرُ يُصَبُّ علَى
رُؤُوسِهِمْ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل
عَلَيْكُمَا شواظ من نَار ونحاس} (الرَّحْمَن: 53) .
وَفسّر النّحاس بالصفر يصب على رُؤُوس أهل النَّار من
الْكفَّار، وَأخرج عبد بن حميد من طَرِيق مَنْصُور عَن
مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ
من نَار} (الرَّحْمَن: 53) . قَالَ: قِطْعَة من نَار
حَمْرَاء، و: نُحَاس، قَالَ: يذاب الصفر فَيصب على رؤوسهم.
قلت: الصفر بِالضَّمِّ النّحاس الْجيد الَّذِي يعْمل
مِنْهُ الْآنِية.
ذُوقُوا باشِرُوا وجَرِّبُوا وليْسَ هاذَا مِنْ ذَوْقِ
الفَمِ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وذوقوا
عَذَاب الْحَرِيق} (الْأَنْفَال: 52 وَالْحج: 22) .
وَفَسرهُ بقوله: باشروا ... إِلَى آخِره وغرضه أَن
الذَّوْق هُنَا بِمَعْنى الْمُبَاشرَة والتجربة لَا
بِمَعْنى ذوق الْفَم، وَهَذَا من الْمجَاز أَن يسْتَعْمل
الذَّوْق وَهُوَ مِمَّا يتَعَلَّق بالأجسام فِي الْمعَانِي
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى أَيْضا: {فذاقوا وبال أَمرهم}
(الْحَشْر: 51) .
مَارِجٌ خَالِصٌ مِنَ النَّارِ مَرَجَ الأمِيرُ
رَعِيَّتَهُ إذَا خَلاَهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ علَى
بَعْضٍ مَرِيجٍ مُلْتَبِسٌ مَرِج أمْرُ النَّاسِ اخْتَلَطَ
مَرَجَ البَحْرَيْنِ مَرَجْتَ دَابَّتَكَ تَرَكْتَها
أَشَارَ بقوله: مارج، إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَخلق الجان من مارج من نَار} (الرحمان: 51) . ثمَّ فسره
بقوله: خَالص من النَّار، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَخلق الجان من مارج من نَار} (الرَّحْمَن: 51)
. مَا من خَالص النَّار، وَمن طَرِيق الضَّحَّاك عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: خلقت الْجِنّ من مارج من نَار، وَهُوَ
لِسَان النَّار الَّذِي يكون فِي طرفها إِذا التهب.
قَوْله: (مرج الْأَمِير رَعيته) يَعْنِي: تَركهم حَتَّى
يظلم بَعضهم بَعْضًا. قَوْله: (مريج) أَشَارَ بِهِ إِلَى
مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فِي أَمر مريج} (قّ: 5) .
وَفَسرهُ بقوله: ملتبس، وَمِنْه قَوْلهم: مرج أَمر
النَّاس، بِكَسْر الرَّاء، إِذا اخْتَلَط، وَأما مرج
بِالْفَتْح فَمَعْنَاه: ترك وخلي وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:
{مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ بَينهمَا برزخ لَا يبغيان}
(الرَّحْمَن: 91 02) . أَي: خلاهما لَا يلتبس أَحدهمَا
بِالْآخرِ، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : مرج
الْبَحْرين، يَعْنِي: أرسل الْبَحْرين العذب وَالْملح
متجاورين يَلْتَقِيَانِ لَا فضل بَين الماءين فِي مرأى
الْعين، بَينهمَا برزخ حاجز وَحَائِل من قدرَة الله
تَعَالَى، وحكمته لَا يبغيان لَا يتجاوان حديهما، وَلَا
يَبْغِي أَحدهمَا على الآخر بالممازجة، وَلَا يختلطان
وَلَا يتغيران. وَقَالَ قَتَادَة: لَا يطغيان على النَّاس
بِالْغَرَقِ وَقَالَ الْحسن مرج الْبَحْرين يَعْنِي بَحر
الرّوم وبحر الْهِنْد وَقَالَ قَتَادَة بَحر فَارس
وَالروم، بَينهمَا برزخ: وَهِي الجزائر، وَقَالَ مُجَاهِد
وَالضَّحَّاك: يَعْنِي بَحر السَّمَاء وبحر الأَرْض
يَلْتَقِيَانِ كل عَام. قَوْله: (مرجت دابتك) بِفَتْح
الرَّاء مَعْنَاهُ: تركتهَا. وَفِي (الصِّحَاح) : مرجت
الدَّابَّة أمرجها بِالضَّمِّ مرجاً: إِذا أرسلتها ترعى.
8523 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ
عنْ مُهاجِرٍ أبي الحَسَنِ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بنَ
وَهْبٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ يَقُولُ كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
سَفَرٍ فقَالَ أبْرِدْ ثُمَّ قالَ أبْرِدْ حتَّى فاءَ
الْفَيْءُ يَعْنِي لِلتُّلُولِ ثُمَّ قَالَ أبْرِدُوا
بالصَّلاَةِ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيحِ جَهَنَّمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من فيح جَهَنَّم)
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ،
و: مهَاجر، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من هَاجر: أَبُو الْحسن
الصَّائِغ يعد فِي الْكُوفِيّين، وَزيد بن وهب أَبُو
سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْكُوفِي، خرج إِلَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَهُوَ فِي الطَّرِيق، وَأَبُو ذَر جُنْدُب بن
جُنَادَة، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب
الْإِبْرَاد بِالظّهْرِ فِي شدَّة الْحر. قَوْله: (حَتَّى
فَاء الْفَيْء) يَعْنِي: حَتَّى وَقع الظل تَحت التلول.
9523 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ ذَكْوَانَ عنْ أبِي سَعِيدٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أبْرِدُوا بالصَّلاةِ فإنَّ شِدَّةَ
الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. (انْظُر الحَدِيث 8354) .
(15/163)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من فيح
جَهَنَّم) وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش بن
سُلَيْمَان، والْحَدِيث مر فِي الصَّلَاة فِي الْبَاب
الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
0623 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أبُو سلَمَةَ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ يَقولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فقالَتْ يَا
رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضاً فأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ
نَفَسٍ فِي الشِّتاءِ ونفَسٍ فِي الصَّيْفِ فأشَدُّ مَا
تَجِدُونَ فِي الحَرِّ وأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ
الزَّمْهِرِيرِ. (انْظُر الحَدِيث 735) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: النَّار، فَإِن المُرَاد
مِنْهُ جَهَنَّم وَلَيْسَ المُرَاد نفس النَّار، لِأَن
جَهَنَّم فِيهَا النَّار وفيهَا الزَّمْهَرِير، وَهُوَ
الْبرد الشَّديد، والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَفظ
جَهَنَّم يشملهما، وعَلى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْعَذَاب
أعاذنا الله من ذَلِك برحمته وَرِجَاله على هَذَا النسق قد
ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث قد مضى فِي الصَّلَاة فِي
الْبَاب الْمَذْكُور آنِفا. وَفِيه: دلَالَة على أَن الله
تَعَالَى يخلق فِيهَا أدراكاً، وَقيل: إِن الْجنَّة
وَالنَّار أسمع الْمَخْلُوقَات، وَأَن الْجنَّة إِذا
سَأَلَهَا عبد أمنت على دُعَائِهِ، وَالنَّار إِذا استجار
مِنْهَا أحد أمنت على دُعَائِهِ.
1623 - حدَّثني عبدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
أَبُو عامِرٍ هُوَ العَقَدِيُّ حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ أبِي
جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ كُنْتُ أجَالِسُ ابنَ
عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ فأخَذَتْنِي الحُمَّى فَقَالَ
أبْرُدْها عَنْكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ فإنَّ رسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ
جَهَنَّمَ فأبْرِدُوهَا بالمَاءِ أوْ قَال بِمَاءِ
زَمْزَمَ شَكَّ هَمَّامٌ. [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من فيح جَهَنَّم) وَعبد
الله بن مُحَمَّد هُوَ المسندي، وَأَبُو عَامر عبد الْملك
الْعَقدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْقَاف،
وَهَمَّام: بِالتَّشْدِيدِ: هُوَ ابْن يحيى الْبَصْرِيّ،
وَأَبُو جَمْرَة، بِالْجِيم وَالرَّاء: نصر بن عمرَان
الضبعِي.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن الْحسن بن
إِسْحَاق. (وفيح جَهَنَّم) سطوع حرهَا، قَالَه اللَّيْث،
وَيُقَال: فاحت الْقدر إِذا غلت، وَأَصله واوي، وَهَذَا من
الطِّبّ النَّبَوِيّ الَّذِي لَا يشك فِي حُصُول الشِّفَاء
بِهِ، وَكَلَام الْحَكِيم الَّذِي يُخَالف هَذَا
وَأَمْثَاله لَغْو فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
2623 - حدَّثني عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ
الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ أبِيهِ عنْ
عَبَابَةَ بنِ رِفَاعَةَ قَالَ أخْبرَنِي رَافِعُ بنُ
خَدِيجٍ قالَ سَمِعْتُ النَّبِيَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُولُ الحُمَّى منْ فَوْرِ جَهَنَّمَ فأبْرِدُوهَا
عَنْكُمْ بِالْمَاءِ. (الحَدِيث 2623 طرفه فِي: 6275) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من فَور جَهَنَّم)
وَعَمْرو بن عَبَّاس، بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة:
أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ يروي عَن أَبِيه سعيد بن
مَسْرُوق، وعباية: بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالباء
الْمُوَحدَة المخففة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف:
ابْن رِفَاعَة، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء
وبالعين الْمُهْملَة، وَرَافِع بِالْفَاءِ ابْن خديج،
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة:
الأوسي الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن
مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن هناد وَعَن أبي
بكر بن أبي شيبَة وَأبي بكر بن نَافِع وَمُحَمّد بن
الْمثنى وَمُحَمّد بن حَاتِم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبيد الله.
قَوْله: (من فَور جَهَنَّم) أَي: من شدَّة حرهَا، و: فار،
أَي: جاش
4623 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله
قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فأبْرِدُوها بالْمَاءِ.
(الحَدِيث 4623 طرفه فِي: 3275) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد
الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن زُهَيْر بن حَرْب
وَمُحَمّد بن الْمثنى، وَفِي هَذَا الْبَاب روى أَبُو نعيم
من حَدِيث أبي عُبَيْدَة بن حُذَيْفَة عَن عمته فَاطِمَة،
قَالَت: عدت
(15/164)
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقد حم، فَأمر بسقاء يعلق على شَجَرَة ثمَّ اضْطجع بجنبه،
فَجعل يقطر المَاء على فُؤَاده، فَقلت: ادْع الله أَن
يكْشف عَنْك. فَقَالَ: (إِن أَشد النَّاس بلَاء
الْأَنْبِيَاء ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ) . وَعَن طَارق بن
شهَاب: سَمِعت أُسَامَة يَقُول: قَالَ لي رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: ائْتِنِي فِي وَجه الصُّبْح بِمَاء
أصبه عَليّ لعَلي أجد خفافاً فَأخْرج إِلَى الصَّلَاة،
وروى الْأنْصَارِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن الْحسن
الْمَكِّيّ عَن الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا: (الْحمى
قِطْعَة من النَّار) ، إِذا حم دَعَا بغرفة من مَاء
فأفرغها على قرنه فاغتسل، وَصَححهُ الْحَاكِم، وروى ابْن
مَاجَه من حَدِيث الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا:
الْحمى كير من كير جَهَنَّم فنحوها عَنْكُم بِالْمَاءِ
الْبَارِد، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا:
(إِذا حم أحدكُم فليستق عَلَيْهِ المَاء الْبَارِد من
السحر ثَلَاثًا) ، وَصَححهُ الْحَاكِم.
5623 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبِي أوَيْسٍ قَالَ
حدَّثني مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ
سَبْعِينَ جُزْءَاً مِنْ نارِ جَهَنَّمَ قِيلَ يَا رسولَ
الله إنْ كانَتْ لَكافِيَةً قَالَ فُضِّلَتْ علَيْهَا
بِتِسْعَةٍ وسِتِّينَ جُزْءاً كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الزِّنَاد عبد
الله بن ذكْوَان. والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (نَاركُمْ) مُبْتَدأ. وَقَوله: (جُزْء من سبعين
جُزْءا) خَبره، وَكلمَة: من، فِي (من نَار جَهَنَّم)
للتبيين، وَفِي معنى التَّبْعِيض أَيْضا، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: (نَاركُمْ جُزْء وَاحِد من سبعين جُزْءا) ، وَفِي
رِوَايَة أَحْمد: من مائَة جُزْء وَالْجمع بَينهمَا أَن
الحكم للزائد وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث أنس مَرْفُوعا
(نَاركُمْ هَذِه جُزْء من سبعين جُزْءا (من نَار جَهَنَّم،
وَلَوْلَا أَنَّهَا اطفئت بِالْمَاءِ مرَّتَيْنِ مَا
انتفعتم بهَا، وَأَنَّهَا لتدعو الله عز وَجل، أَن لَا
يُعِيدهَا فِيهَا) . وَذكر ابْن عُيَيْنَة فِي (جَامعه) من
حَدِيث ابْن عَبَّاس: (هَذِه النَّار قد ضرب بهَا الْبَحْر
سبع مَرَّات، وَلَوْلَا ذَلِك مَا انْتفع بهَا أحد) ،
وَعَن ابْن مَسْعُود: (ضرب بهَا الْبَحْر عشر مَرَّات) ،
وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
أَيْضا عَن نَار الدُّنْيَا: مِم خلقت؟ قَالَ: من نَار
جَهَنَّم، غير أَنَّهَا طفئت بِالْمَاءِ سبعين مرّة،
وَلَوْلَا ذَلِك مَا قربت لِأَنَّهَا من نَار جَهَنَّم،
وَمعنى قَوْله: جُزْء من سبعين جُزْءا، أَنه لَو جمع كل
مَا فِي الْوُجُود من النَّار الَّتِي يوقدها الآدميون
لكَانَتْ جُزْءا من أَجزَاء نَار جَهَنَّم الْمَذْكُورَة،
بَيَانه: لَو جمع حطب الدُّنْيَا وأوقد كُله حَتَّى صَارَت
نَارا لَكَانَ الْجُزْء الْوَاحِد من أَجزَاء نَار
جَهَنَّم الَّذِي هُوَ من سبعين جُزْءا أَشد مِنْهُ.
قَوْله: (إِن كَانَت لكَافِيَة) ، كلمة: إِن، هَذِه
مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة عِنْد الْبَصرِيين، وَهَذِه
اللاَّم هِيَ المفرقة بَين إِن، النافية، وَأَن، المخففة
من الثَّقِيلَة، وَالْمعْنَى: إِن نَار الدُّنْيَا كَانَت
كَافِيَة لتعذيب الجهنميين، وَهِي عِنْد الْكُوفِيّين
بِمَعْنى: مَا، وَاللَّام بِمَعْنى: الا، تَقْدِيره
عِنْدهم: مَا كَانَت إلاَّ كَافِيَة. قَوْله: (قَالَ) ،
أَي: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
جوابهم بِأَن نَار جَهَنَّم (فضِّلت عَلَيْهَا) أَي: على
نَار الدُّنْيَا، ويروى: عَلَيْهِنَّ، كَمَا فضلت
عَلَيْهَا فِي الْمِقْدَار وَالْعدَد بِتِسْعَة وَسِتِّينَ
جُزْءا فضلت عَلَيْهَا فِي الْحر بِتِسْعَة وَسِتِّينَ
جُزْءا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: فَإِن قلت: كَيفَ طابق لفظ:
فضلت وعليهن جَوَابا، وَقد علم هَذَا التَّفْضِيل من
كَلَامه السَّابِق؟ قلت: مَعْنَاهُ: الْمَنْع من
الْكِفَايَة أَي: لَا بُد من التَّفْضِيل ليتميز عَذَاب
الله من عَذَاب الْخلق، وروى ابْن الْمُبَارك عَن معمر عَن
مُحَمَّد بن الْمُنْذر قَالَ لما خلقت النَّار فزعت
الْمَلَائِكَة وطارت أفئدتهم وَلما خلق آدم عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام سكن ذَلِك عَنْهُم، وَقَالَ
مَيْمُون بن مهْرَان: لما خلق الله جَهَنَّم أمرهَا فزفرت
زفرَة فَلم يبْق فِي السَّمَوَات السَّبع ملك إلاَّ خرَّ
على وَجهه، فَقَالَ لَهُم الرب: إرفعوا رؤوسكم، أما
علمْتُم أَنِّي خلقتكم للطاعة وَهَذِه خلقتها لأهل
الْمعْصِيَة؟ قَالُوا: رَبنَا لَا نأمنها حَتَّى نرى
أَهلهَا، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وهم من خشيَة رَبهم
مشفقون} (الْمُؤْمِنُونَ: 75) . وَعَن عبد الله بن عمر
مَرْفُوعا: (إِن تَحت الْبَحْر نَارا) ، قَالَ عبد الله:
الْبَحْر طبق جَهَنَّم، ذكره ابْن عبد الْبر وَضَعفه،
وَفِي (تَفْسِير ابْن النَّقِيب) فِي قَوْله تَعَالَى:
{يَوْم تبدل الأَرْض} (إِبْرَاهِيم: 84) . تجْعَل الأَرْض
جَهَنَّم، وَالسَّمَوَات الْجنَّة.
6623 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سَمِعَ عَطَاءً يُخْبِرُ عنْ
صَفْوَانَ بنِ يَعْلَى عنْ أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ
النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ علَى
المِنْبَرِ ونَادَو يامالِكُ. .
(15/165)
ذكره هَذَا هُنَا مَعَ أَنه ذكره فِي: بَاب
ذكر الْمَلَائِكَة، لمطابقة قَوْله: يَا مَالك،
للتَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، لِأَن المُرَاد من: مَالك،
هُوَ خَازِن جَهَنَّم، وَهُنَاكَ أخرجه: عَن عَليّ بن عبد
الله عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره، وَقد ذكر
هُنَاكَ، وَقَالَ سُفْيَان: وَقَالَ فِي قراء عبد الله:
يَا مَال، بالترخيم، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
74 - (حَدثنَا عَليّ قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن
الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل قَالَ قيل لأسامة لَو أتيت
فلَانا فكلمته قَالَ إِنَّكُم لترون أَنِّي لَا ُأكَلِّمهُ
إِلَّا أسمعكم إِنِّي ُأكَلِّمهُ فِي السِّرّ دون أَن أفتح
بَابا لَا أكون أول من فَتحه وَلَا أَقُول لرجل أَن كَانَ
عَليّ أَمِيرا إِنَّه خير النَّاس بعد شَيْء سمعته من
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالُوا وَمَا سمعته يَقُول قَالَ سمعته يَقُول يجاء
بِالرجلِ يَوْم الْقِيَامَة فَيلقى فِي النَّار فتندلق
أقتابه فِي النَّار فيدور كَمَا يَدُور الْحمار برحاه
فيجتمع أهل النَّار عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَي فلَان مَا
شَأْنك أَلَيْسَ كنت تَأْمُرنَا بِالْمَعْرُوفِ وتنهانا
عَن الْمُنكر قَالَ كنت آمركُم بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتيه
وأنهاكم عَن الْمُنكر وآتيه) مطابقته للتَّرْجَمَة من
حَدِيث أَن فِيهِ ذكر النَّار الَّتِي هِيَ جَهَنَّم وَعلي
هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَالْأَعْمَش هُوَ
سُلَيْمَان وَأَبُو وَائِل هُوَ شَقِيق بن سَلمَة
وَأُسَامَة هُوَ ابْن زيد بن حَارِثَة حب النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن بشر بن خَالِد
وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر
وَابْن نمير وَإِسْحَاق وَأبي كريب خمستهم عَن أبي
مُعَاوِيَة وَعَن عُثْمَان عَن جرير (ذكر مَعْنَاهُ)
قَوْله " لَو أتيت " جَوَاب لَو مَحْذُوف أَو هِيَ
لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب قَوْله " فلَانا
" أَرَادَ بِهِ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَوْله " فكلمته " أَي فِيمَا يَقع من الْفِتْنَة
بَين النَّاس وَالسَّعْي فِي إطفاء نائرتها قَالَه
الْكرْمَانِي وَفِي التَّوْضِيح أَرَادَ أَن يكلمهُ فِي
شَأْن أَخِيه لأمه الْوَلِيد بن عتبَة لما شهد عَلَيْهِ
بِمَا شهد فَقيل لأسامة ذَلِك لكَونه كَانَ من خَواص
عُثْمَان قَوْله " إِنَّكُم لترون أَنِّي لَا ُأكَلِّمهُ "
اي أَنكُمْ لتظنون أَنِّي لَا ُأكَلِّمهُ قَوْله " إِلَّا
أسمعكم " أَي أَنِّي لَا ُأكَلِّمهُ إِلَّا بحضوركم
وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ وأسمعكم بِضَم الْهمزَة من الإسماع
ويروى إِلَّا بسمعكم بِصِيغَة الْمصدر قَوْله " إِنِّي
ُأكَلِّمهُ سرا " أَي فِي السِّرّ دون أَن أفتح بَاب من
أَبْوَاب الْفِتَن حَاصله ُأكَلِّمهُ طلبا للْمصْلحَة لَا
تهييجا للفتنة لِأَن المهاجرة على الْأُمَرَاء بالإنكار
يكون فِيهِ نوع الْقيام عَلَيْهِم لِأَن فِيهِ تشنيعا
عَلَيْهِم يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاق الْكَلِمَة وتشتيت
الْجَمَاعَة قَوْله " لَا أكون أول من فَتحه " أَي أول من
فتح بَاب من أَبْوَاب الْفِتْنَة قَوْله " إِن كَانَ "
بِفَتْح الْهمزَة أَي لِأَن كَانَ قَوْله " فتندلق أقتابه
" أَي تنصب أمعاؤه من جَوْفه وَتخرج من دبره والاندلاق
بِالدَّال الْمُهْملَة وَالْقَاف الْخُرُوج بالسرعة
وَمِنْه دلق السَّيْف واندلق إِذا خرج من غير سل والأقتاب
جمع قتب بِالْكَسْرِ وَهِي الأمعاء والقتب مُؤَنّثَة
وتصغيره قُتَيْبَة وَمِنْه سمي الرجل قُتَيْبَة قَوْله "
أَي فلَان " يَعْنِي يَا فلَان مَا شَأْنك أَي مَا حالك
الَّتِي أَنْت فِيهَا قَوْله " أَلَسْت " الْهمزَة فِيهِ
للاستفهام على سَبِيل الاستخبار قَوْله " بِالْمَعْرُوفِ "
وَهُوَ اسْم جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله عز وَجل
والتقرب إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس وكل مَا ندب
إِلَيْهِ الشَّرْع وَنهى عَنهُ من المحسنات والمقبحات
وَهُوَ من الصِّفَات الْغَالِبَة أَي أَمر مَعْرُوف بَين
النَّاس لَا ينكرونه وَالْمُنكر ضد الْمَعْرُوف وكل مَا
قبحه الشَّرْع وَحرمه وَكَرِهَهُ فَهُوَ مُنكر فِيهِ
الْأَدَب مَعَ الْأُمَرَاء واللطف بهم ووعظهم سرا وتبليغهم
قَول النَّاس فيهم ليكفوا عَنهُ هَذَا كُله إِذا أمكن
فَإِن لم يُمكن الْوَعْظ سرا فليجعله عَلَانيَة لِئَلَّا
يضيع الْحق لما روى طَارق بن شهَاب قَالَ قَالَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أفضل
الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر " وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد بِإِسْنَاد حسن قَالَ
الطَّبَرِيّ مَعْنَاهُ إِذا أَمن على نَفسه أَو أَن
يلْحقهُ من الْبلَاء مَا لَا قبل لَهُ بِهِ رُوِيَ ذَلِك
عَن ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَهُوَ مَذْهَب أُسَامَة
وَقَالَ آخَرُونَ الْوَاجِب على من رأى مُنْكرا من ذِي
سُلْطَان أَن يُنكره عَلَانيَة كَيفَ أمكنه رُوِيَ ذَلِك
عَن عمر
(15/166)
وَأبي بن كَعْب رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا وَقَالَ آخَرُونَ الْوَاجِب أَن يُنكر بِقَلْبِه
وَيَنْبَغِي لمن أَمر بِمَعْرُوف أَن يكون كَامِل الْخَيْر
لَا وصم فِيهِ وَقد قَالَ شُعَيْب عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم
عَنهُ إِلَّا أَنه يجب عِنْد الْجَمَاعَة أَن يَأْمر
بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر من لَا يفعل ذَيْنك
وَقَالَ جمَاعَة من النَّاس يجب على متعاطي الكاس أَن
ينْهَى جمَاعَة الْجلاس وَفِيه وصف جَهَنَّم بِأَمْر
عَظِيم روى مُسلم عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا " يُؤْتى
بجهنم يَوْم الْقِيَامَة لَهَا سَبْعُونَ ألف زِمَام مَعَ
كل زِمَام سَبْعُونَ ألف ملك يجرونها " وَلابْن وهب عَن
زيد بن أسلم عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مَرْفُوعا " فَبَيْنَمَا هم يجرونها إِذْ شَردت عَلَيْهِم
شَرْدَةً فلوا أَنهم أدركوها لأحرق من فِي الْجمع "
(رَوَاهُ غنْدر عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش) أَي روى
الحَدِيث الْمَذْكُور غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر
عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْفِتَن -
11 - (بابُ صِفَةِ إبْلِيسَ وجُنُودِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة إِبْلِيس، وَفِي بَيَان
جُنُوده. وَالْكَلَام فِي صفته وَحَقِيقَة أمره على
أَنْوَاع:
الأول فِي اسْمه: هَل هُوَ مُشْتَقّ أَو لَا؟ فَقَالَ
جمَاعَة: هُوَ اسْم أعجمي، وَلِهَذَا منع من الصّرْف
للعلمية والعجمة، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: لَو كَانَ
عَرَبيا لصرف كإكليل، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا لم
يصرف وَإِن كَانَ عَرَبيا لقلَّة نَظِيره فِي كَلَام
الْعَرَب، فشبهوه بالعجمي، وَهَذَا فِيهِ نظر، لِأَن كَون
قلَّة نَظِيره فِي كَلَام الْعَرَب لَيْسَ عِلّة من
الْعِلَل الْمَانِعَة لاسم من الصّرْف، وَقَالَ قوم: هُوَ
اسْم عَرَبِيّ مُشْتَقّ من: أبلس، إِذا يئس. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: أبلس من رَحْمَة الله إِذا يئس، وَمِنْه سمي
إِبْلِيس، وَكَانَ اسْمه: عزازيل، قيل: من ادّعى أَنه
عَرَبِيّ فقد غلط وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ، وَلَكِن روى
الطَّبَرِيّ عَن ابْن أبي الدُّنْيَا عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: كَانَ اسْم إِبْلِيس حَيْثُ كَانَ عِنْد
الْمَلَائِكَة عزازيل، ثمَّ أبلس بعد، وَهَذَا يُؤَيّد
قَول من ادّعى أَنه عَرَبِيّ، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن
اسْمه الْحَارِث. وَأما كنيته، فَقيل: كَانَت كنيته أَبَا
مرّة، وَقيل: أَبُو الْعُمر، وَقيل: أَبُو كرْدُوس.
النَّوْع الثَّانِي: فِي بَيَان أصل خلقه روى الطَّبَرِيّ
من حَدِيث حجاج عَن ابْن جريج عَن صَالح مولى التؤمة
وَشريك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِن من الْمَلَائِكَة
قَبيلَة من الْجِنّ، وَكَانَ إِبْلِيس مِنْهَا، وَعَن ابْن
عَبَّاس: سمي قَبيلَة الْجِنّ لأَنهم خزان الْجنَّة، وَعَن
ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِبْلِيس حَيّ من أَحيَاء
الْمَلَائِكَة، يُقَال لَهُم: الْجِنّ، خلقُوا من نَار
السمُوم، وخلقت الْمَلَائِكَة كلهم من النُّور غير هَذَا
الْحَيّ. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: إِنَّه من
الشَّيَاطِين، وَلم يكن من الْمَلَائِكَة قطّ، وَاحْتج
بقوله تَعَالَى: {إلاَّ إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ}
(الْكَهْف: 05) . وَقَالَ مقَاتل: لَا من الْمَلَائِكَة
وَلَا من الْجِنّ، بل هُوَ خلق مُنْفَردا من النَّار كَمَا
خلق آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الطين.
وَقَالَ شهر بن حَوْشَب: كَانَ إِبْلِيس من الْجِنّ
الَّذين يعْملُونَ فِي الأَرْض الْفساد، فَأسرهُ بعض
الْمَلَائِكَة فَذهب بِهِ إِلَى السَّمَاء، وَيُقَال:
كَانَ نوع من الْجِنّ سكان الأَرْض، وَكَانَ فيهم الْملك
والنبوة وَالدّين والشريعة، فاستمروا على ذَلِك مُدَّة،
ثمَّ طغوا وأفسدوا وجحدوا الربوبية وسفكوا الدِّمَاء،
فَأرْسل الله إِلَيْهِم جنداً من السَّمَاء فَقَاتلُوا
مَعَهم قتالاً شَدِيدا فطردهم إِلَى جزائر الْبَحْر،
وأسروا مِنْهُم خلقا كثيرا، وَكَانَ فِيمَن أسر: عزازيل،
وَهُوَ إِذْ ذَاك صبي، وَنَشَأ مَعَ الْمَلَائِكَة وَتكلم
بكلامهم وَتعلم من علمهمْ، وَأخذ يسوسهم وطالت أَيَّامه
حَتَّى صَار رَئِيسا فيهم حَتَّى أَرَادَ الله تَعَالَى
خلق آدم، وَاتفقَ لَهُ مَا اتّفق. وروى عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس، أَنه قَالَ: إِبْلِيس أصل الجان وَالشَّيَاطِين،
وَهُوَ أَبُو الْكل، وروى مُجَاهِد عَنهُ أَنه قَالَ:
الجان أَبُو الْجِنّ كلهم، كَمَا أَن آدم أَبُو الْبشر.
النَّوْع الثَّالِث: فِي حَده وَصفته: أما حَده: فَمَا
ذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي (تَفْسِيره) هُوَ شخص روحاني خلق
من نَار السمُوم، وَهُوَ أَبُو الشَّيَاطِين، وَقد ركبت
فيهم الشَّهَوَات، مُشْتَقّ من الإبلاس وَهُوَ الْيَأْس من
الْخَيْر. وَأما صفته: فَمَا قَالَه الطَّبَرِيّ: كَانَ
الله قد حسن خلقه وشرفه وَكَرمه وَملكه على سَمَاء
الدُّنْيَا وَالْأَرْض، وَجعله مَعَ ذَلِك من خَزَائِن
الْجنَّة، فاستكبر على الله تَعَالَى وَادّعى الربوبية،
ودعا من كَانَ تَحت يَده إِلَى طَاعَته وعبادته، فمسخه
الله شَيْطَانا رجيماً، وشوه خلقه وسلبه مَا كَانَ خوله،
ولعنه
(15/167)
وطرده عَن سماواته فِي العاجل، ثمَّ جعل
مَسْكَنه ومسكن شيعته وَأَتْبَاعه فِي الْآخِرَة نَار
جَهَنَّم. انْتهى. وَكَانَ يُقَال لَهُ: طَاوس
الْمَلَائِكَة لحسنه، ثمَّ مسخه الله تَعَالَى. وَقَالَ
عبد الْملك بن أَحْمد بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: كَانَ إِبْلِيس يَأْتِي يحيى بن زَكَرِيَّا،
عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، طَمَعا أَن يفتنه،
وَعرف ذَلِك يحيى مِنْهُ، وَكَانَ يَأْتِيهِ فِي صور
شَتَّى، فَقَالَ لَهُ: أحب أَن تَأتِينِي فِي صُورَتك
الَّتِي أَنْت عَلَيْهَا، فَأَتَاهُ فِيهَا فَإِذا هُوَ
مُشَوه الْخلق كريه المنظر، جسده جَسَد خِنْزِير وَوَجهه
وَجه قرد وَعَيناهُ مشقوقتان طولا وأسنانه كلهَا عظم
وَاحِد وَلَيْسَ لَهُ لحية ويداه فِي مَنْكِبَيْه وَله
يدان آخرَانِ فِي جانبيه وأصابعه خلقَة وَاحِدَة وَعَلِيهِ
لِبَاس الْمَجُوس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَفِي وَسطه
منْطقَة من جُلُود السبَاع، فِيهَا كيزان معلقَة وَعَلِيهِ
جلاجل، وَفِي يَده جرس عَظِيم وعَلى رَأسه بَيْضَة من
حَدِيدَة معوجة كالخطاف، فَقَالَ يحيى صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: وَيحك مَا الَّذِي شوه خلقتك؟ فَقَالَ: كنت طَاوس
الْمَلَائِكَة فعصيت الله فمسخني فِي أخس صُورَة، وَهِي
مَا ترى. قَالَ: فَمَا هَذِه الكيزان؟ قَالَ: شهوات بني
آدم. قَالَ: فَمَا هَذِه الجرس؟ قَالَ: صَوت المعازف
وَالنوح، قَالَ: فَمَا هَذِه الخطاطيف؟ قَالَ: أخطف بهَا
عُقُولهمْ. قَالَ: فَأَيْنَ تسكن؟ قَالَ: فِي صُدُورهمْ
وَأجْرِي فِي عروقهم، قَالَ: فَمَا الَّذِي يعصمهم مِنْك؟
قَالَ: بغض الدُّنْيَا وَحب الْآخِرَة.
النَّوْع الرَّابِع: فِي أَوْلَاده وَجُنُوده. وروى
مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بلغنَا أَن لإبليس
أَوْلَادًا كثيرين، واعتماده على خَمْسَة مِنْهُم: شبر
والأعور ومسوط وداسم وزلنبور، وَقَالَ مقَاتل: لإبليس ألف
ولد ينْكح نَفسه ويلد ويبيض كل يَوْم مَا أَرَادَ، وَمن
أَوْلَاده: الْمَذْهَب وخنزب وهفاف وَمرَّة والولهان
والمتقاضي، وَجعل كل وَاحِد مِنْهُم على أَمر ذكرته فِي
(تاريخي الْكَبِير) وَمن ذُريَّته: الأقنص وَهَامة بن
الأقنص ويلزون وَهُوَ الْمُوكل بالأسواق وَأمه طرطية،
وَيُقَال: بل هِيَ حاضنتهم، ذكره النقاش، قَالُوا: باضت
ثَلَاثِينَ بَيْضَة: عشرَة بالشرق، وَعشرَة بالمغرب،
وَعشرَة فِي وسط الأَرْض، وَأَنه خرج من كل بيض جنس من
الشَّيَاطِين كالعفاريت والغيلان والحيات، وأسماؤهم
مُخْتَلفَة كلهم عَدو لبني آدم، أعاذنا الله من شرهم، وَله
جنود يرسلهم إِلَى إضلال بني آدم، وَقد روى ابْن حبَان
وَالْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ مَرْفُوعا، قَالَ: إِذا أصبح إِبْلِيس
يبْعَث جُنُوده، فَيَقُول: من أضلّ مُسلما ألبسته التَّاج
الحَدِيث، وروى مُسلم من حَدِيث جَابر: سَمِعت رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: عرش إِبْلِيس على
الْبَحْر، فيبعث سراياه فيفتنون النَّاس، فأعظمهم عِنْده
أعظمهم فتْنَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ: دُحورَاً
مَطْرُودِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويقذفون من
كل جَانب دحوراً وَلَهُم عَذَاب واصب} (الصافات: 8 9) .
وَفسّر يقذفون بقوله: يرْمونَ، ودحوراً بقوله: مطرودين،
كَأَنَّهُ جعل الْمصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول جمعا، وَقد
فسره عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد
كَذَلِك.
وِاصِبٌ دَائِمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم
عَذَاب واصب} (الصافات: 9) . وَفسّر الواصب بقوله: دَائِم،
وَقد ذكره البُخَارِيّ وَمَا بعده اتِّفَاقًا واستطراداً.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ مَدْحُورَاً مَطْرُودَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتلقى فِي
جَهَنَّم ملوماً مَدْحُورًا} (الْإِسْرَاء: 93) . وَوصل
هَذَا التَّعْلِيق الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَنهُ، والمدحور مفعول من الدَّحْر، وَهُوَ الدّفع
والإبعار من قَوْلك: دحرته أدحره دحراً ودحوراً. وَفِي
(تَفْسِير عبد بن حميد) : عَن قَتَادَة: دحوراً: قذفا فِي
النَّار.
يُقالُ مَرِيداً مُتَمَرِّدَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن
يدعونَ إلاَّ شَيْطَانا مرِيدا} (النِّسَاء: 711) . وَفسّر
مرِيدا بقوله: متمرداً.
(15/168)
بَتَّكَهُ قَطَعَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولآمرنَّهُم
فليبتكن آذان الْأَنْعَام} (النِّسَاء: 911) . أَي:
ليقطعن، وَفسّر: بتكه، بِمَعْنى: قطعه وَقَالَ قَتَادَة:
يَعْنِي الْبحيرَة. وَهِي إِذا نتجت خَمْسَة أبطن، وَكَانَ
آخرهَا ذكرا شَقوا أذنها، وَلم ينتفعوا بهَا،
وَالتَّقْدِير: ولآمرنهم بتبتيك آذانهن، وليبتكنها.
واسْتَفْزِزْ اسْتَخِفَّ بِخَيْلِكَ الفُرْسَانُ
والرَّجْلُ الرَّجَّالَّةُ واحِدُها رَاجِلٌ مِثْلُ صاحِب
وصَحْبٍ وتاجِرٍ وتَجْر
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {واستفزز من
اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك، واجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك}
(الْإِسْرَاء: 46) . وَفسّر قَوْله: استفزز، بقوله: استخف،
وَيُرِيد بالصوت الْغناء والمزامير، وَفسّر الْخَيل
بالفرسان، وَفسّر الرجل بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْجِيم
بالرجالة بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الْجِيم، ثمَّ قَالَ
وَاحِد الرجالة راجل، وَمثله بقوله: صَاحب وَصَحب، فَإِن
الصحب جمع صَاحب والتجر، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق: جمع تَاجر، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كل خيل سَارَتْ
فِي مَعْصِيّة، وكل رجل مشت فِيهَا وكل مَا أُصِيب من
حرَام فَهُوَ للشَّيْطَان، وَقَالَ غَيره: مشاركته فِي
الْأَمْوَال الْبحيرَة والسائبة، وَفِي الْأَوْلَاد عِنْد
الْغَزْو وَعند الحروب.
لأحْتَنِكَنَّ: لأَستَأصِلَنَّ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لأحتنكن
ذُريَّته إلاَّ قَلِيلا} (الْإِسْرَاء: 26) . وَفسّر:
لأحتنكنَّ، بقوله: لأستأصلنَّ من الاستئصال.
قَرِينٌ شَيْطَانٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَهُوَ
لَهُ قرين} (الزخرف: 63) . وَفسّر القرين بالشيطان،
وَفَسرهُ مُجَاهِد كَذَلِك.
8623 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخْبَرَنا
عِيسَى عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ اللَّيْثُ كَتَبَ إلَيَّ هِشامٌ
أنَّهُ سَمِعَهُ ووَعَاهُ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ
سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى كانَ
يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا
يَفْعَلُهُ حتَّى كانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا ودَعا ثُمَّ
قَالَ أشَعَرْتِ أنَّ الله أفْتَانِي فِيما فِيهِ شِفَائِي
أتَانِي رَجُلان فَقَعَدَ أحَدُهُمَا عِنْدَ رأسِي
والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فقالَ أحَدُهُمَا لِلآخَرِ مَا
وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ
قَالَ لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ قَالَ فِيما ذَا قَالَ فِي
مُشْطٍ ومُشَاقَةٍ وجُفَّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فأيْنَ
هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرَوانَ فخَرَجَ إلَيْهَا
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ
لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ نَخْلُهَا كأنَّهَا رُؤُوسُ
الشَّيَاطِينَ فَقُلْتُ اسْتَخْرَجتْهُ فَقَالَ لَا أمَّا
أنَا فَقَدْ شَفَانِي الله وَخَشِيتُ أنْ يُثِيرَ ذَلِكَ
علَى النَّاسِ شَرَّاً ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ. .
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السحر إِنَّمَا
يتم باستعانة الشَّيْطَان على ذَلِك، وَهِي من جملَة
صِفَاته القبيحة. وَإِبْرَاهِيم ابْن مُوسَى بن يزِيد
الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير،
وَعِيسَى هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي،
وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، يروي
عَن أَبِيه عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن
إِبْرَاهِيم ابْن مُوسَى عَن عِيسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الطِّبّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن عِيسَى بن
يُونُس نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث) ، هُوَ
اللَّيْث بن سعد، رَحمَه الله، هَذَا التَّعْلِيق وَصله
أَبُو بكر عبد الله بن دَاوُد عَن عِيسَى ابْن حَمَّاد
النجيبي الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث. قَوْله: (ووعاه) ، أَي:
حفظه. قَوْله: (يخيل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من تخيل
الشَّيْء
(15/169)
كَذَا وَلَيْسَ كَذَلِك، وَأَصله الظَّن.
قَوْله: (ذَات يَوْم) إِنَّمَا لم يتَصَرَّف لِأَن إضافتها
من قبيل إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى الِاسْم، لِأَن معنى:
كَانَ ذَات يَوْم قِطْعَة من الزَّمَان ذَات يَوْم، أَي:
صَاحِبَة هَذَا الإسم. قَوْله: (أشعرت) أَي: أعلمت.
قَوْله: (أفتاني) ، ويروى: أنبأني، أَي: أَخْبرنِي.
قَوْله: (مطبوب) ، أَي: مسحور، والطب جَاءَ بِمَعْنى:
السحر. قَوْله: (مَن طبه؟) أَي: مَن سحره؟ قَوْله: (فِي
مشط ومشاقة) ، الْمشْط فِيهِ لُغَات: ضم الْمِيم
وَإِسْكَان الشين وَضمّهَا أَيْضا وَكسر الْمِيم
بِإِسْكَان الشين، والمشاقة: بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف
الشين الْمُعْجَمَة وَالْقَاف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا
يغزل من الْكَتَّان. قلت: المشاقة مَا يخرج من الْكتاب
حِين يمشق، والمشق: جذب الشَّيْء ليمتد وَيطول. قَوْله:
(وجف طلعة ذكر) ، الجف، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْفَاء:
وَهُوَ وعَاء طلع النّخل، وَهُوَ الغشاء الَّذِي يكون
عَلَيْهِ وَيُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَلِهَذَا
قَيده بقوله: ذكر، وَهُوَ الَّذِي يدعى بالكفري، وَقَالَ
ابْن فَارس: جف الطّلع، وعاؤها، يُقَال: إِنَّه شَيْء ينثر
من جُذُوع النّخل، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: ويروى فِي مشط
ومشاقة فِي جف طلعة، قَالَ: المشاطة الشّعْر الَّذِي يسْقط
من الرَّأْس واللحية عِنْد التسريح بالمشط، قَالَ: وجف
طلعة، أَي: فِي جوفها. وَقَوله: (ذكر) ، الذَّكر من النّخل
الَّذِي يُؤْخَذ طلعه فَيجْعَل مِنْهُ فِي طلع النَّخْلَة
المثمرة فَيصير بذلك تَمرا، وَلَو لم يَجْعَل فِيهِ
لَكَانَ شيصاً لَا نوى فِيهِ، وَلَا يكَاد يساغ. قَوْله:
(فِي بِئْر ذروان) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الرَّاء، ويروى: ذِي أروان، وَكِلَاهُمَا صَحِيح
مَشْهُور، وَالْأول أصح، وَهِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ فِي
بُسْتَان بني زُرَيْق، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالقاف، من الْيَهُود.
قَوْله: (كَأَنَّهَا رُؤُوس الشَّيَاطِين) ، قَالَ
الْخطابِيّ: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا مستدقة
كرؤوس الْحَيَّات، والحية يُقَال لَهَا: الشَّيْطَان.
وَالْآخر: أَنَّهَا وحشية المنظر سمجة الأشكال، وَهُوَ مثل
فِي استقباح صورتهَا وهول منظرها كصورة الشَّيَاطِين.
قَوْله: (أَن يثير ذَلِك على النَّاس شرا) يُرِيد فِي
إِظْهَاره، وَقيل: إِنَّمَا امْتنع عَن تعْيين السَّاحر
لِئَلَّا تقوم أنفس الْمُسلمين فَيَقَع بَينهم وَبَين قبيل
السَّاحر فتْنَة. قَوْله: (ثمَّ دفنت الْبِئْر) ، على
صِيغَة الْمَجْهُول.
وَفِيه: أَن آثَار الْفِعْل الْحَرَام يجب إِزَالَتهَا،
وَقد مر الْبَحْث فِي هَذَا مُسْتَوفى فِي: بَاب هَل
يُعْفَى عَن الذِّمِّيّ إِذا سحر؟ فِي أَوَاخِر الْجِهَاد.
9623 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبِي أُوَيْسٍ قَالَ
حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ بنِ بِلاَلٍ عنْ يَحْيَى
ابنِ سَعِيدٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ علَى
قَافِيَةِ رأسِ أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نامَ ثَلاَثُ عُقَدٍ
يَضْرِبُ علَى كُلِّ عُقْدَةٍ مَكانها علَيْكَ لَيْلٌ
طَوِيلٌ فارْقُدْ فإنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ الله
انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَة
فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّها فأصْبَحَ
نَشِيِطاً طَيِّبَ النَّفْسِ وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ
النَّفْسِ كَسْلاَنَ. (انْظُر الحَدِيث 411) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن عقد الشَّيْطَان على
قافية رَأس أحد من أَفعَال الشَّيْطَان وَصِفَاته القبيحة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ فِي:
بَاب عقد الشَّيْطَان على قافية الرَّأْس، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن أبي
الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه
عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، واسْمه عبد الله الْمدنِي
ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَهُوَ يروي عَن أَخِيه عبد
الحميد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَمعنى: يعْقد،
يتَكَلَّم عَلَيْهِ، والقافية: مُؤخر الرَّأْس، وَمِنْه
قافية الشّعْر. قَوْله: (انْحَلَّت عقده) ، وَهُوَ جمع
عقدَة، وَلِهَذَا أكده بقوله: كلهَا.
0723 - حدَّثنا عُثُمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدثنَا
جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي وائِلِ عنْ عبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلٌ نامَ لَيْلَهُ حتَّى
أصْبَحَ قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ بالَ الشَّيْطَانُ فِي
أُذُنَيْهِ أوْ قَالَ فِي أُذُنِهِ. (انْظُر الحَدِيث
4411) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن بَوْل الشَّيْطَان
فِي أذن الرجل النَّائِم كل لَيْلَة من صِفَاته القبيحة،
وَأَبُو وَائِل شَقِيق، وَعبد الله
(15/170)
هُوَ ابْن مَسْعُود. وَمضى الحَدِيث فِي
كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب إِذا نَام وَلم يصلِّ بَال
الشَّيْطَان فِي أُذُنه، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل
... إِلَى آخِره.
1723 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
هَمَّامٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سالِمِ بنِ أبِي الجَعْد عنْ
كُرَيْبٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما
عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أما إنَّ
أحَدَكُمْ إذَا أتَى أهْلَهُ وَقَالَ بِسْمُ الله
اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وجَنِّبِ الشَّيْطَانَ
مَا رَزَقَتنَا فَرُزِقَا ولَدَاً لَمْ يَضُرُّهُ
الشَّيْطَانُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن من صِفَات
الشَّيْطَان ضَرَره الْعَام للْمُؤْمِنين، وَهُوَ من
صِفَاته الذميمة القبيحة. وَرِجَاله قد مروا غير مرّة.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب
التَّسْمِيَة على كل حَال، وَعند الوقاع، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن عَليّ بن عبد الله عَن جرير عَن مَنْصُور عَن
سَالم بن أبي الْجَعْد عَن كريب ... الحَدِيث، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
2723 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرَنا عَبْدَةُ عنْ
هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إذَا طَلَعَ حاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا
الصَّلاَةَ حتَّى تَبْرُزَ وإذَا غَابَ حاجِبُ الشَّمْسِ
فَدَعُوا الصَّلاَةَ حتَّى تَغِيبَ. وَلاَ تَحَيَّنُوا
بِصَلاَتِكُمْ طُلوُعَ الشَّمْسِ ولاَ غُرُوبها فإنَّها
تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ أوِ الشَّيْطَانِ لاَ
أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قَالَ هِشامٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِنَّهَا تطلع بَين
قَرْني الشَّيْطَان) . مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام، قَالَه
أَبُو نعيم، وَأَبُو عَليّ، وَعَبدَة، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن
سُلَيْمَان. والْحَدِيث مضى فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة
فِي: بَاب الصَّلَاة بعد الْفجْر حَتَّى ترْتَفع الشَّمْس،
وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (حَتَّى تبرز) ، أَي: حَتَّى تظهر. قَوْله: (وَلَا
تَحَيَّنُوا) من التحين، وَهُوَ طلب وَقت مَعْلُوم (وقرنا
الشَّيْطَان) جانبا رَأسه. قَوْله: (لَا أَدْرِي أَي ذَلِك
قَالَ هِشَام) ، الْقَائِل بِهَذَا هُوَ عَبدة بن
سُلَيْمَان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة.
80 - (حَدثنَا أَبُو معمر قَالَ حَدثنَا عبد الْوَارِث
حَدثنَا يُونُس عَن حميد بن هِلَال عَن أبي صَالح عَن أبي
سعيد قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - إِذا مر بَين يَدي أحدكُم شَيْء وَهُوَ
يُصَلِّي فليمنعه فَإِن أَبى فليمنعه فَإِن أبي فليقاتله
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي
قَوْله " فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان " وَأَبُو معمر بِفَتْح
الميمين عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري
المقعد وَعبد الْوَارِث بن سعيد وَيُونُس هُوَ ابْن عبد
الله الْعَبْدي الْبَصْرِيّ وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب يرد الْمصلى
من مر بَين يَدَيْهِ
(وَقَالَ عُثْمَان بن الْهَيْثَم حَدثنَا عَوْف عَن
مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ
قَالَ وكلني رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِحِفْظ زَكَاة رَمَضَان فَأَتَانِي آتٍ
فَجعل يحثو من الطَّعَام فَأَخَذته فَقلت لأرفعنك إِلَى
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذكر
الحَدِيث فَقَالَ إِذا أويت إِلَى فراشك فاقرأ آيَة
الْكُرْسِيّ لن يزَال من الله حَافظ وَلَا يقربك شَيْطَان
حَتَّى تصبح فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صدقك وَهُوَ كذوب ذَاك الشَّيْطَان) مطابقته
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " ذَاك الشَّيْطَان " وَعُثْمَان
بن الْهَيْثَم بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة مُؤذن
(15/171)
الْبَصْرَة وعَوْف الْأَعرَابِي والْحَدِيث
مضى فِي كتاب الْوكَالَة فِي بَاب إِذا وكل رجال بِعَين
مَا ذكره هُنَا قَالَ وَقَالَ عُثْمَان بن الْهَيْثَم
إِلَى آخِره مطولا وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ -
6723 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ
عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرَنِي عُرْوَةُ
بنُ الزُّبَيْرِ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ رسوُلُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يأتِي الشَّيْطَانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولُ منْ خَلَقَ كذَا
مَنْ خَلَقَ كذَا حتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فإذَا
بَلَغَهُ فلْيَسْتَعِذِ بِاللَّه ولْيَنْتَهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الْملك بن
شُعَيْب وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حميد وَعَن
هَارُون بن مَعْرُوف وَمُحَمّد بن عباد وَعَن مَحْمُود بن
غيلَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن هَارُون بن
مَعْرُوف بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَعَن أَحْمد بن
سعيد وَعَن هَارُون ابْن سعيد.
قَوْله: (من خلق كَذَا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا
يزَال النَّاس يسْأَلُون حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا خلق
الله، فَمن خلق الله؟ قَوْله: (فليستعذ باالله) ، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (فَلْيقل آمَنت بِاللَّه) . وَلأبي
دَاوُد: (فَإِذا قَالُوا ذَلِك فَقولُوا: الله أحد الله
الصَّمد الْآيَة، ثمَّ ليتفل عَن يسَاره ثَلَاثًا وليستعذ
بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم) . وَمعنى: فليستعذ،
أَي: قل أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، من
الْأَعْرَاض والشبهات الْوَاهِيَة الشيطانية. قَوْله:
(ولينته) ، أَي: عَن الاسترسال مَعَه فِي ذَلِك بِإِثْبَات
الْبَرَاهِين القاطعة الحقانية، على أَن لَا خَالق لَهُ
بِإِبْطَال التسلسل، وَنَحْوه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ:
لينته أَي: ليترك التفكر فِي هَذَا الخاطر، وليستعذ
بِاللَّه من وَسْوَسَة الشَّيْطَان، فَإِن لم يزل التفكر
بالاستعاذة فَليقمْ وليشتغل بِأَمْر آخر، وَإِنَّمَا أمره
بذلك وَلم يَأْمُرهُ بِالتَّأَمُّلِ والاحتجاج لِأَن
الْعلم باستغنائه عَن الموجد أَمر ضَرُورِيّ لَا يقبل
المناظرة لَهُ، وَعَلِيهِ، وَلِأَن السَّبَب فِي مثله
إحساس الْمَرْء فِي عَالم الْحس، وَمَا دَامَ هُوَ كَذَلِك
لَا يزِيد فكره إلاَّ زيغاً عَن الْحق، وَمن كَانَ هَذَا
حَاله فَلَا علاج لَهُ إلاَّ اللجاء إِلَى الله تَعَالَى
والاعتصام بحوله وقوته. وَقَالَ الْمَازرِيّ: الخواطر على
قسمَيْنِ، فالتي لَا تَسْتَقِر وَلَا تجلبها شُبْهَة هِيَ
الَّتِي تدفع بالأعراض عَنْهَا، وعَلى هَذَا ينزل
الحَدِيث، وعَلى مثلهَا يُطلق اسْم الوسوسة. وَأما الخواطر
المستقرة الناشئة عَن الشُّبْهَة فَهِيَ لَا تنْدَفع إلاَّ
بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال.
8723 - حدثناالحُمَيْدِيُّ حدَّثَنَا سُفْيانُ حدَّثنا
عَمْرٌ وَقَالَ أخْبرني سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ
ل إبْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ حدَّثنا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ
أنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُولُ إنَّ مُوسَى قَالَ لِفَتاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا
قَالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي
نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أنْسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطَانُ
أنْ أذْكُرَهُ ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى
جاوَزَ المَكَانَ الَّذِي أمَرَ الله بِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمَا أنسانيه إلاَّ
الشَّيْطَان) والْحميدِي بن عبد الله بن الزبير بن عِيسَى،
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَمْرو بن دِينَار.
(15/172)
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِي غَيره أَيْضا وَقد ذَكرْنَاهُ
هُنَاكَ.
9723 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
عبْدِ الله بنِ دِينِارٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ رَأيْتُ رَسُولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُشِيرُ إلَى المَشْرِقِ فَقَالَ
هَا إنَّ الفِتْنَةَ هَهُنَا إنَّ الفِتْنَةَ هَهُنَا مِنْ
حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيّطَانِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من حَيْثُ يطلع قرن
الشَّيْطَان) وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. قَوْله:
(هَا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَا، حرف وَلم يزدْ على هَذَا
شَيْئا. قلت: هُوَ حرف من حُرُوف المعجم، وَمن حُرُوف
الزِّيَادَة وَهِي حرف تَنْبِيه. قَوْله: (من حَيْثُ يطلع
قرن الشَّيْطَان) ، نسب الطُّلُوع إِلَى قرن الشَّيْطَان
مَعَ أَن الطُّلُوع للشمس لكَونه مُقَارنًا لطلوع
الشَّمْس، وَالْغَرَض أَن منشأ الْفِتَن هُوَ جِهَة
الْمشرق، وَقد كَانَ كَمَا أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
0823 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ جَعْفَرٍ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأنْصَارِيُّ حدَّثنا ابنُ
جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطاءٌ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ إذَا اسْتَجَنحَ اللَّيْلُ أوْ كانَ جُنْحُ
اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فإنَّ الشَّيَاطِينَ
تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فإذَا ذهَبَ ساعَةٌ مِنَ العَشَاءِ
فَخَلُّوهُمْ وأغْلِقْ بابَكَ واذكُرِ اسْمَ الله
وَأطْفِىءْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ الله وأوْكِ
سِقَاءَكَ واذْكُرِ اسْمَ الله وخَمِّرْ إنَاءَكَ واذْكُرِ
اسْمَ الله وَلَوْ تَعْرُضُ علَيْهِ شَيْئَاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن الشَّيَاطِين
تَنْتَشِر) . وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا
البُخَارِيّ البيكندي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَمُحَمّد بن
عبد الله الْأنْصَارِيّ من شُيُوخ البُخَارِيّ، وروى عَنهُ
هُنَا بِوَاسِطَة، وَابْن جريج عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن
إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن
إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن أَحْمد بن عُثْمَان. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أَحْمد بن
عُثْمَان وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن عَمْرو بن دِينَار
عَن جَابر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا استجنح) أَي: إِذا أظلم،
ومادته: جِيم وَنون وحاء، وَقَالَ ابْن سَيّده: جنح
اللَّيْل يجنح جنوحاً وجنحاً إِذا أظلم، وَيُقَال: إِذا
أقبل ظلامه، والجنح، بِضَم الْجِيم وَكسرهَا لُغَتَانِ:
وَهُوَ ظلام اللَّيْل، وأصل الجنح الْميل. وَقيل: جنح
اللَّيْل أول مَا يظلم. قَوْله: (أَو كَانَ جنح اللَّيْل)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أَو قَالَ: كَانَ جنح
اللَّيْل، وَحكى عِيَاض أَنه وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر:
استجنع، بِالْعينِ الْمُهْملَة بدل الْحَاء، وَهُوَ
تَصْحِيف، وَعند الْأصيلِيّ: وَأول اللَّيْل بدل: قَوْله:
إِذا كَانَ جنح اللَّيْل، وَكَانَ هَذِه تَامَّة بِمَعْنى
وجد أَو حصل. قَوْله: (فكفوا صِبْيَانكُمْ) ، أَي: ضموهم
وامنعوهم من الانتشار، وَفِي رِوَايَة: فاكفتوا، ومادته:
كَاف وَفَاء وتاء مثناة من فَوق، وَمَعْنَاهُ: ضموهم
إِلَيْكُم، وكل من ضممته إِلَى شَيْء فقد كفته، وَفِي
رِوَايَة: وَلَا تُرْسِلُوا صِبْيَانكُمْ. وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: إِنَّمَا خيف على الصّبيان فِي ذَلِك
الْوَقْت لِأَن النَّجَاسَة الَّتِي يلوذ بهَا
الشَّيَاطِين مَوْجُودَة مَعَهم غَالِبا. وَالذكر الَّذِي
يستعصم بِهِ مَعْدُوم عِنْدهم، وَالشَّيَاطِين عِنْد
انتشارهم يتعلقون بِمَا يُمكنهُم التَّعَلُّق بِهِ،
فَلذَلِك خيف على الصّبيان فِي ذَلِك الْوَقْت وَالْحكمَة
فِي انتشارهم حِينَئِذٍ أَن حركتهم فِي اللَّيْل أمكن
مِنْهَا لَهُم فِي النَّهَار، لِأَن الظلام أجمع لَهُم من
غَيره، وَكَذَلِكَ كل سَواد، وَيُقَال: إِن الشَّيَاطِين
تستعين بالظلمة وَتكره النُّور وتشأم بِهِ. قَوْله:
(فخلوهم) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة، هَكَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة. قَوْله: (وأغلق) من الإغلاق،
فَلهَذَا يُقَال: الْبَاب مغلق، وَلَا يُقَال: مغلوق،
وَإِنَّمَا قَالَ: فكفوا، بِصِيغَة الْجمع، وَقَالَ: أغلق
بِصِيغَة الْإِفْرَاد لِأَن المُرَاد بقوله: أغلق لكل
وَاحِد، وَهُوَ عَام بِحَسب الْمَعْنى، أَو هُوَ فِي معنى
الْمُفْرد إِذْ مُقَابلَة الْجمع بِالْجمعِ تفِيد
التَّوْزِيع، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كف أَنْت صبيك، كَذَا
قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا شكّ أَن
مُقَابلَة الْمُفْرد بالمفرد تفِيد التَّوْزِيع. قلت:
لَيْسَ كَذَلِك، بل الصَّوَاب مَا قَالَه الْكرْمَانِي.
(15/173)
قَوْله: (وأطفىء) أَمر من الإطفاء إِنَّمَا
أَمر بذلك لِأَنَّهُ جَاءَ فِي (الصَّحِيح) : أَن الفويسقة
جرت الفتيلة فأحرقت أهل الْبَيْت، وَهُوَ عَام يدْخل فِيهِ
السراج وَغَيره، وَأما الْقَنَادِيل الْمُعَلقَة فَإِن خيف
حريق بِسَبَبِهَا دخلت فِي الْأَمر بالإطفاء، وَإِن أَمن
ذَلِك كَمَا هُوَ من الْغَالِب فَالظَّاهِر أَنه لَا بَأْس
بهَا لانْتِفَاء الْعلَّة، وَسبب ذَلِك أَنه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى على خمرة فجرت الفتيلة الْفَأْرَة
فأحرقت من الْخمْرَة مِقْدَار الدِّرْهَم، فَقَالَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك نبه عَلَيْهِ
ابْن الْعَرَبِيّ وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: جَاءَت فَأْرَة فَأخذت تجر الفتيلة،
فَجَاءَت بهَا وألقتها بَين يَدي رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على الْخمْرَة الَّتِي كَانَ قَاعِدا
عَلَيْهَا، فأحرقت مِنْهَا مَوضِع دِرْهَم. قَوْله: (وأوك)
أَمر من الإيكاء، وَهُوَ الشد، والوكاء: اسْم مَا يشد بِهِ
فَم الْقرْبَة، وَهُوَ مَمْدُود مَهْمُوز، والسقاء بِكَسْر
السِّين: اللَّبن، وَالْمَاء، والوطب للبن خَاصَّة، والنحي
للسمن، والقربة للْمَاء. قَوْله: (وخمِّر) ، أَمر من
التخمير وَهُوَ التغطية، وللتخمير فَوَائِد: صِيَانة من
الشَّيَاطِين والنجاسات والحشرات وَغَيرهَا، وَمن الوباء
الَّذِي ينزل فِي لَيْلَة من السّنة، وَفِي رِوَايَة أَن
فِي السّنة لليلة وَفِي رِوَايَة يَوْمًا ينزل وباء لَا
يمر بِإِنَاء لَيْسَ عَلَيْهِ غطاء أَو شَيْء لَيْسَ
عَلَيْهِ وكاء إلاَّ نزل فِيهِ ذَلِك الوباء. قَالَ
اللَّيْث بن سعد: والأعاجم يَتَّقُونَ ذَلِك فِي كانون
الأول. قَوْله: (وَلَو تعرض عَلَيْهِ شَيْئا) بِضَم
الرَّاء وَكسرهَا، وَمَعْنَاهُ: إِن لم تقدر أَن تغطي
فَلَا أقل من أَن تعرض عَلَيْهِ عوداً، أَي: تعرضه
عَلَيْهِ بِالْعرضِ وتمده عَلَيْهِ عرضا، أَي: خلاف الطول.
قَوْله: (شَيْئا) ، وَفِي رِوَايَة: عوداً، هَذَا مُطلق
فِي الْآنِية الَّتِي فِيهَا شراب أَو طَعَام. قلت: روى
مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، يَقُول: أَخْبرنِي أَبُو حميد السَّاعِدِيّ، قَالَ:
أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقدح لبن من النقيع
لَيْسَ مخمراً. قَالَ: ألاَ خمرته، وَلَو تعرض عَلَيْهِ
عوداً قَالَ أَبُو حميد: إِنَّمَا أَمر بالأسقية إِن توكأ
لَيْلًا، وبالأبواب أَن تغلق لَيْلًا انْتهى. فَهَذَا
أَبُو حميد قيد الإيكاء والإغلاق بِاللَّيْلِ. قلت: قَالَ
النَّوَوِيّ: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ،
وَالْمُخْتَار عِنْد الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مَذْهَب
الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن تَفْسِير
الصَّحَابِيّ إِذا كَانَ خلاف ظَاهر اللَّفْظ لَيْسَ
بِحجَّة، وَلَا يلْزم غَيره من الْمُجْتَهدين مُوَافَقَته
على تَفْسِيره. وَأما إِذا كَانَ فِي ظَاهر الحَدِيث مَا
يُخَالِفهُ فَإِن كَانَ مُجملا يرجع إِلَى تَأْوِيله،
وَيجب الْحمل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مُجملا لَا
يحل لَهُ حمله على شَيْء إلاَّ بتوقيف، وَكَذَا لَا يجوز
تَخْصِيص الْعُمُوم بِمذهب الرَّاوِي عندنَا، بل يتَمَسَّك
بِالْعُمُومِ، وَقد يُقَال: أَبُو حميد قَالَ: أمرنَا،
وَهَذَا رِوَايَة لَا تَفْسِير، وَهُوَ مَرْفُوع على
الْمُخْتَار، وَلَا تنَافِي بَين رِوَايَة أبي حميد
وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى فِي يَوْم، إِذْ لَيْسَ فِي
أَحدهمَا نفي للْآخر وهما ثابتان. فَإِن قلت: مَا حكم
أوَامِر هَذَا الْبَاب؟ قلت: جَمِيعهَا من بَاب
الْإِرْشَاد إِلَى الْمصلحَة الدُّنْيَوِيَّة، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {واشهدوا إِذا تبايعتم} (الْبَقَرَة: 282) .
وَلَيْسَ على الْإِيجَاب، وغايته أَن يكون من بَاب النّدب،
بل قد جعله كثير من الْأُصُولِيِّينَ قسما مُنْفَردا
بِنَفسِهِ عَن الْوُجُوب وَالنَّدْب، وَيَنْبَغِي للمرء
أَن يمتثل أمره، فَمن امتثل أمره سلم من الضَّرَر بحول
الله وقوته، وَمَتى وَالْعِيَاذ بِاللَّه خَالف إِن كَانَ
عناداً خلد فَاعله فِي النَّار، وَإِن كَانَ عَن خطأ أَو
غلط فَلَا يحرم شرب مَا فِي الْإِنَاء أَو أكله، وَالله
أعلم.
86 - (حَدثنِي مَحْمُود بن غيلَان قَالَ حَدثنَا عبد
الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عَليّ
بن الْحُسَيْن عَن صَفِيَّة ابْنة حييّ قَالَت كَانَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
معتكفا فَأَتَيْته أَزورهُ لَيْلًا فَحَدَّثته ثمَّ قُمْت
فَانْقَلَبت فَقَامَ معي لِيقلبنِي وَكَانَ مَسْكَنهَا فِي
دَار أُسَامَة بن زيد فَمر رجلَانِ من الْأَنْصَار
فَلَمَّا رَأيا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَسْرعَا فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على رِسْلكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّة
بنت حييّ فَقَالَا سُبْحَانَ الله يَا رَسُول الله قَالَ
إِن الشَّيْطَان يجْرِي من الْإِنْسَان مجْرى الدَّم
وَإِنِّي خشيت أَن يقذف فِي قُلُوبكُمَا سوءا أَو قَالَ
شَيْئا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله إِن الشَّيْطَان
وَعلي بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم والْحَدِيث مر فِي كتاب الِاعْتِكَاف فِي
بَاب هَل يخرج الْمُعْتَكف لحوائجه إِلَى بَاب الْمَسْجِد
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب
عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره نَحوه وَمر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ قَوْله " فَانْقَلَبت " من الانقلاب وَهُوَ
الرُّجُوع مُطلقًا وَالْمعْنَى هُنَا
(15/174)
فَرَجَعت فَقَامَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معي لِيقلبنِي أَي لأرجع
إِلَى بَيْتِي فَقَامَ معي يصحبني قَوْله " على رِسْلكُمَا
" بِكَسْر الرَّاء أَي على هيئتكما فَمَا هُنَا شَيْء
تكرهانه قَوْله " إِن الشَّيْطَان يجْرِي " قيل هُوَ على
ظَاهره إِن الله جعل لَهُ قُوَّة وقدرة على الجري فِي
بَاطِن الْإِنْسَان مجْرى الدَّم وَقيل اسْتِعَارَة
لِكَثْرَة وسوسته فَكَأَنَّهُ لَا يُفَارِقهُ كَمَا لَا
يُفَارق دَمه وَقيل أَنه يلقِي وسوسته فِي مسام لَطِيفَة
من الْبدن بِحَيْثُ يصل إِلَى الْقلب وَفِيه التَّحَرُّز
عَن سوء الظَّن بِالنَّاسِ وَفِيه كَمَال شفقته - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أمته لِأَنَّهُ خَافَ
أَن يلقِي الشَّيْطَان فِي قلبهما شَيْئا فيهلكان فَإِن ظن
السوء بالأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام كفر
87 - (حَدثنَا عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش
عَن عدي بن ثَابت عَن سُلَيْمَان بن صرد قَالَ كنت جَالِسا
مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ورجلان يستبان فأحدهما احمر وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه
فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِنِّي لأعْلم كلمة لَو قَالَهَا ذهب عَنهُ مَا يجد لَو
قَالَ أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان ذهب عَنهُ مَا يجد
فَقَالُوا لَهُ إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ تعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان فَقَالَ
وَهل بِي جُنُون) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وعبدان
تكَرر ذكره وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة
وَالزَّاي اسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي الْمروزِي
وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَسليمَان بن صرد بِضَم الصَّاد
الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة
الْخُزَاعِيّ وَقد مر فِي الْغسْل والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن عمر بن حَفْص وَعَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن
يحيى بن يحيى وَأبي كريب وَعَن نصر بن عَليّ وَعَن أبي بكر
بن أبي شيبَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة
عَن هناد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز قَوْله " يستبان
" أَي يتشاتمان قَوْله " أوداجه " جمع ودج بِفتْحَتَيْنِ
وَهُوَ عرق فِي الْحلق فِي المذبح وانتفاخ الْأَوْدَاج
كِنَايَة عَن شدَّة الْغَضَب (فَإِن قلت) لكل أحد ودجان
وَهنا ذكر الْأَوْدَاج بِالْجمعِ (قلت) هَذَا من قبيل
قَوْله تَعَالَى {وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} أَو لِأَن كل
قِطْعَة من الودج يُسمى ودجا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث
أَزجّ الحواجب قَوْله " مَا يجد " من وجد يجد وجدا وموجدة
إِذا غضب وَوجد يجد وجدانا إِذا لَقِي مَا يَطْلُبهُ
قَوْله " هَل بِي جُنُون " قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله
تَعَالَى هَذَا كَلَام من لم يتفقه فِي دين الله وَلم
يتهذب بأنوار الشَّرِيعَة المكرمة وتوهم أَن
الِاسْتِعَاذَة مُخْتَصَّة بالمجانين وَلم يعلم أَن
الْغَضَب من نزغات الشَّيْطَان وَيحْتَمل أَنه كَانَ من
الْمُنَافِقين أَو من جُفَاة الْأَعْرَاب انْتهى
والاستعاذة من الشَّيْطَان تذْهب الْغَضَب وَهُوَ أقوى
السِّلَاح على دفع كَيده وَفِي حَدِيث عَطِيَّة " الْغَضَب
من الشَّيْطَان فَإِن الشَّيْطَان خلق من النَّار
وَإِنَّمَا تطفأ النَّار بِالْمَاءِ فَإِذا غضب أحدكُم
فَليَتَوَضَّأ " وَعَن أبي الدَّرْدَاء " أقرب مَا يكون
العَبْد من غضب الله إِذا غضب " وَقَالَ بكر بن عبد الله "
اطفئوا نَار الْغَضَب بِذكر نَار جَهَنَّم " وَفِي بعض
الْكتب قَالَ الله تَعَالَى " ابْن آدم اذْكُرْنِي إِذا
غضِبت أذكرك إِذا غضِبت " وروى الْجَوْزِيّ فِي ترغيبه عَن
مُعَاوِيَة بن قُرَّة قَالَ قَالَ إِبْلِيس أَنا جَمْرَة
فِي جَوف ابْن آدم إِذا غضب حميته وَإِذا رَضِي منيته -
3823 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا مَنْصُورٌ
عَن سالِمِ بنِ أبِي الجَعْدِ عنْ كُرَيْبٍ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إذَا أتَى أهْلَهُ قَالَ اللَّهُمَّ
جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا
رَزَقْتَنِي فَإِن كانَ بَيْنَهُمَا ولَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ
الشَّيْطَانُ ولَمْ يُسَلَّطْ علَيْهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث قد مر عَن قريب
فِي هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ أخرجه: عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل عَن همام بن مَنْصُور إِلَى آخِره. قَوْله:
(لم يضرّهُ) يَعْنِي: لم يُسَلط عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ
وإلاَّ فَلَا يَخْلُو من الوسوسة.
قَالَ وحدَّثنا الأعْمَشُ عنْ سالِمٍ عنْ كُرَيْبٍ عنْ
ابنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
أَي: قَالَ شُعْبَة: وَحدثنَا سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن
سَالم بن أبي الْجَعْد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لشعبة
شَيْخَانِ فِيهِ.
//
(15/175)
89 - (حَدثنَا مَحْمُود حَدثنَا شَبابَة
حَدثنَا شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنه صلى صَلَاة فَقَالَ إِن الشَّيْطَان عرض
لي فَشد عَليّ يقطع الصَّلَاة عَليّ فأمكنني الله مِنْهُ
فَذكره) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ومحمود هُوَ ابْن
غيلَان الْمروزِي وشبابة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى
مَفْتُوحَة ابْن سوار الْفَزارِيّ الْمروزِي والْحَدِيث مر
فِي كتاب الصَّلَاة فِي بَاب الْأَسير أَو الْغَرِيم يرْبط
فِي الْمَسْجِد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم عَن روح وَمُحَمّد بن جَعْفَر كِلَاهُمَا عَن
شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة عَن
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
إِن عفريتا من الْجِنّ تفلت على البارحة أَو كلمة نَحْوهَا
ليقطع عَليّ الصَّلَاة فأمكنني الله مِنْهُ وَأَرَدْت أَن
أربطه إِلَى سَارِيَة من سواري الْمَسْجِد حَتَّى تصبحوا
أَو تنظروا إِلَيْهِ كلكُمْ فَذكرت قَول أخي سُلَيْمَان
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {رب اغْفِر لي وهب لي ملكا
لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} قَالَ روح فَرده خاسئا
قَوْله " فَذكره " أَي فَذكر الحَدِيث بِتَمَامِهِ وَهُوَ
الَّذِي ذَكرْنَاهُ
90 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ
عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا نُودي بِالصَّلَاةِ أدبر
الشَّيْطَان وَله ضراط فَإِذا قضي أقبل فَإِذا ثوب بهَا
أدبر فَإِذا قضى أقبل حَتَّى يخْطر بَين الْإِنْسَان
وَقَلبه فَيَقُول اذكر كَذَا وَكَذَا حَتَّى لَا يدْرِي
أَثلَاثًا صلى أم أَرْبعا فَإِذا لم يدر ثَلَاثًا صلى أَو
أَرْبعا سجد سَجْدَتي السَّهْو) مطابقته للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
والْحَدِيث قد مر فِي أَوَاخِر كتاب الصَّلَاة فِي بَاب
تفكر الرجل الشَّيْء فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن جَعْفَر عَن
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا أذن بِالصَّلَاةِ أدبر
الشَّيْطَان إِلَى آخِره
91 - (حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب عَن أبي
الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله
عَنهُ قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كل بني آدم يطعن الشَّيْطَان فِي جَنْبَيْهِ
بِأُصْبُعِهِ حِين يُولد غير عِيسَى بن مَرْيَم ذهب يطعن
فطعن فِي الْحجاب) الْمُطَابقَة فِي هَذَا وَفِي بَقِيَّة
الْأَحَادِيث بَينهَا وَبَين التَّرْجَمَة ظَاهِرَة
وَهَؤُلَاء الروَاة قد تكَرر ذكرهم قَوْله " يطعن " بِضَم
الْعين يُقَال طعن بِالرُّمْحِ وَمَا أشبهه يطعن بِضَم
الْعين من بَاب نصر ينصر وَطعن فِي الْعرض وَالنّسب يطعن
بِفَتْح الْعين فيهمَا على الْمَشْهُور وَقيل باللغتين
فيهمَا قَوْله " فِي جَنْبَيْهِ " بالتثنية فِي رِوَايَة
أبي ذَر والجرجاني وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي جنبه
بِالْإِفْرَادِ وَحكى عِيَاض أَن فِي كِتَابه من رِوَايَة
الْأصيلِيّ من تَحْتَهُ الَّذِي هُوَ ضد فَوق قَالَ وَهُوَ
تَصْحِيف قَوْله " بِأُصْبُعِهِ " بِالْإِفْرَادِ أَو
بالتثنية أَيْضا على اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ فِي
الْجنب قَوْله " فِي الْحجاب " هُوَ الْجلْدَة الَّتِي
فِيهَا الْجَنِين وَتسَمى المشيمة قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ
وَقيل الْحجاب الثَّوْب الَّذِي يلف فِيهِ الْمَوْلُود
وَفِيه فَضِيلَة ظَاهِرَة لعيسى وَأمه عَلَيْهِمَا
السَّلَام وَأَرَادَ الشَّيْطَان التَّمَكُّن من أمه
فَمَنعه الله مِنْهَا ببركة أمهَا حنة بنت فاقوذ بن ماثان
حَيْثُ قَالَت {وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من
الشَّيْطَان الرَّجِيم} وروى عبد الرَّزَّاق فِي تَفْسِيره
عَن الْمُنْذر بن النُّعْمَان الْأَفْطَس سمع وهب بن
مُنَبّه يَقُول لما ولد عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام أَتَت الشَّيَاطِين إِبْلِيس فَقَالُوا
أَصبَحت الْأَصْنَام منكسة فَقَالَ هَذَا حَادث مَكَانكُمْ
وطار حَتَّى بلغ خافقي الأَرْض فَلم يجد شَيْئا ثمَّ جَاءَ
الْبحار فَلم يقدر على شَيْء ثمَّ طَار فَوجدَ عِيسَى قد
ولد عِنْد مد ودحمار وَإِذا الْمَلَائِكَة قد حفت بِهِ
فَرجع إِلَيْهِم فَقَالَ إِن نَبيا قد ولد البارحة وَلَا
حملت أُنْثَى وَلَا وضعت قطّ إِلَّا وَأَنا بحضرتها إِلَّا
هَذِه فأيسوا من أَن يعبدوا الْأَصْنَام فِي هَذِه
الْبَلدة وَفِي لفظ بعد هَذِه
(15/176)
اللَّيْلَة وَلَكِن ائْتُوا بني آدم بالخفة
والعجلة. قَوْله إِلَّا هَذِه يُخَالف مَا فِي الصَّحِيح
إِلَّا أَن يؤول وَأَشَارَ القَاضِي إِلَى أَن جَمِيع
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام يشاركون
عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي ذَلِك وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ هُوَ قَول قَتَادَة قَالَ وَإِن لم يكن
كَذَلِك بطلت الخصوصية وَلَا يلْزم من نخسه إضلال الممسوس
وإغواؤه فَإِن ذَلِك نخس فَاسد فَلم يعرض الشَّيْطَان
لخواص الْأَوْلِيَاء بأنواع الإغواء والمفاسد وَمَعَ ذَلِك
فقد عصمهم الله بقوله {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم
سُلْطَان} -
7823 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا
إسْرَائِيلُ عنِ المُغِيرَةِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ
عَلْقَمَةَ قَالَ قَدِمْتُ الشَّأمَ فَقُلْتُ منْ هاهُنَا
قالُوا أبُو الدَّرْدَاءَ قَالَ أفِيكُمُ الَّذِي أجارَهُ
الله مِنَ الشِّيْطَانِ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. .
مَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ
الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق
السبيعِي، والمغيرة بن مقسم الضَّبِّيّ، وَإِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ الْكُوفِي، وَاسم أبي
الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك الْأنْصَارِيّ الخزرجي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصرا جدا،
وَأخرجه بأتم مِنْهُ فِي فضل عمار وَحُذَيْفَة عَن مَالك
بن إِسْمَاعِيل أَيْضا، وَأخرجه أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن
حَرْب على مَا يَجِيء عَن قريب فِي هَذَا الْبَاب. وَفِي
الاسْتِئْذَان عَن أبي الْوَلِيد وَعَن يحيى بن جَعْفَر
وَعَن يزِيد بن هَارُون وَفِي مَنَاقِب ابْن مَسْعُود عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب
وَفِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان. قَوْله:
(أفيكم؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار،
أَي: أَفِي الْعرَاق؟ قَوْله: (الَّذِي أجاره الله) ، أَي:
مَنعه وحماه من الشَّيْطَان، وَهُوَ عمار بن يَاسر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وسيصرح بِهِ البُخَارِيّ فِي
الحَدِيث الَّذِي بعده، وَفِي التَّوْضِيح يجوز أَن يكون
قَالَه أَبُو الدَّرْدَاء لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة ويدعونه إِلَى النَّار)
، أَو يكون شهد لَهُ: أَن الله أجاره من الشَّيْطَان.
حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ
مُغِيرَةَ وَقَالَ الَّذِي أجارَهُ الله علىَ لِسانِ
نَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي عَمَّارَاً
بِهَذَا بَين البُخَارِيّ أَن المُرَاد من قَول أبي
الدَّرْدَاء: أفيكم الَّذِي أجاره الله من الشَّيْطَان؟
أَنه عمار بن يَاسر الَّذِي هُوَ من السَّابِقين فِي
الْإِسْلَام الْمنزل فِيهِ: {إلاَّ من أكره وَقَلبه مطمئن
بِالْإِيمَان} (النَّحْل: 601) . وَقد قَالَ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُ: مرْحَبًا بالطيب المطيب.
7823 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا
إسْرَائِيلُ عنِ المُغِيرَةِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ
عَلْقَمَةَ قَالَ قَدِمْتُ الشَّأمَ فَقُلْتُ منْ هاهُنَا
قالُوا أبُو الدَّرْدَاءَ قَالَ أفِيكُمُ الَّذِي أجارَهُ
الله مِنَ الشِّيْطَانِ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. .
مَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ
الْكُوفِي، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق
السبيعِي، والمغيرة بن مقسم الضَّبِّيّ، وَإِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ الْكُوفِي، وَاسم أبي
الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك الْأنْصَارِيّ الخزرجي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصرا جدا،
وَأخرجه بأتم مِنْهُ فِي فضل عمار وَحُذَيْفَة عَن مَالك
بن إِسْمَاعِيل أَيْضا، وَأخرجه أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن
حَرْب على مَا يَجِيء عَن قريب فِي هَذَا الْبَاب. وَفِي
الاسْتِئْذَان عَن أبي الْوَلِيد وَعَن يحيى بن جَعْفَر
وَعَن يزِيد بن هَارُون وَفِي مَنَاقِب ابْن مَسْعُود عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب
وَفِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان. قَوْله:
(أفيكم؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار،
أَي: أَفِي الْعرَاق؟ قَوْله: (الَّذِي أجاره الله) ، أَي:
مَنعه وحماه من الشَّيْطَان، وَهُوَ عمار بن يَاسر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وسيصرح بِهِ البُخَارِيّ فِي
الحَدِيث الَّذِي بعده، وَفِي التَّوْضِيح يجوز أَن يكون
قَالَه أَبُو الدَّرْدَاء لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة ويدعونه إِلَى النَّار)
، أَو يكون شهد لَهُ: أَن الله أجاره من الشَّيْطَان.
حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ
مُغِيرَةَ وَقَالَ الَّذِي أجارَهُ الله علىَ لِسانِ
نَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي عَمَّارَاً
بِهَذَا بَين البُخَارِيّ أَن المُرَاد من قَول أبي
الدَّرْدَاء: أفيكم الَّذِي أجاره الله من الشَّيْطَان؟
أَنه عمار بن يَاسر الَّذِي هُوَ من السَّابِقين فِي
الْإِسْلَام الْمنزل فِيهِ: {إلاَّ من أكره وَقَلبه مطمئن
بِالْإِيمَان} (النَّحْل: 601) . وَقد قَالَ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُ: مرْحَبًا بالطيب المطيب.
8823 - قالَ وقالَ اللَّيْثُ حدَّثني خالِدُ بنُ يَزِيدَ
عنْ سَعِيدِ بنِ أبِي هِلاَلٍ أنَّ أبَا الأسْوَدِ
أخْبَرَهُ عُرْوَةُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عنهَا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
المَلاَئِكَةُ تَتَحَدَّثُ فِي الْعَنَانِ والْعَنَانُ
الْغَمَامُ بالأمْرِ يَكُونُ فِي الأرْضِ فتَسْمَعُ
الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فتَقُرُّهَا فِي أُذُنِ
الكَاهِنِ كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ فَيَزِيدُونَ
مَعَها مِائَةَ كَذِبَةٍ. .
أورد هَذَا التَّعْلِيق فِي: بَاب ذكر الْمَلَائِكَة،
قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم أخبرنَا
اللَّيْث حَدثنَا ابْن أبي جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، زوج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِن
الْمَلَائِكَة تنزل فِي الْعَنَان وَهُوَ السَّحَاب فَتذكر
الْأَمر قضي فِي السَّمَاء فتسترق الشَّيَاطِين السّمع
فتوحيه إِلَى الْكُهَّان فيكذبون مَعهَا مائَة كذبة من
عِنْد أنفسهم، فَانْظُر بَينهمَا إِلَى التَّفَاوُت فِي
الْإِسْنَاد والمتن، وَأَبُو الْأسود فِي الروَاة هُوَ
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن.
قَوْله: (بِالْأَمر) يتَعَلَّق بقوله: (تَتَحَدَّث) .
وَقَوله: (والعنان الْغَمَام) ، جملَة مُعْتَرضَة بَين
المتعلِّق والمتعلَّق. قَوْله: (يكون) ، جملَة وَقعت حَالا
من قَوْله: (بِالْأَمر) . قَوْله: (فتقرها) ، بِضَم
الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء، وَهُوَ الصَّحِيح قَالَ ابْن
التِّين: لما تقرر من أَن كل فعل مضاعف مُتَعَدٍّ يكون
بِالضَّمِّ إلاَّ أحرف شواذ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَقَالَ
الْخطابِيّ: يُقَال: قررت الْكَلَام فِي أذن الْأَصَم إِذا
وضعت فمك على صماخه فتلقيه فِيهِ. وَقَالَ الْهَرَوِيّ:
إِنَّه ترديد الْكَلَام فِي أذن الأبكم حَتَّى يفهم.
قَوْله: (كَمَا تقر القارورة) ، يُرِيد بِهِ تطبيق رَأس
القارورة
(15/177)
بِرَأْس الْوِعَاء الَّذِي يفرغ مِنْهَا
فِيهِ. وَقَالَ الْقَابِسِيّ: مَعْنَاهُ يكون لما يلقيه
الكاهن حس كحس القارورة عِنْد تحريكها مَعَ الْيَد أَو على
الصفاء، وَفِي التَّوْضِيح: وَيُقَال: بالزاي، وَهُوَ مَا
يسمع من حس الزجاجة حِين يحك بهَا على شَيْء. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فتقرها، يرْوى من الْإِقْرَار، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: يلقيها كَمَا يسْتَقرّ الشَّيْء فِي قراره.
9823 - حدَّثنا عاصِمُ بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا ابنُ أبِي
ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ
فإذَا تَثاءَبَ أحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ
فإنَّ أحَدَكُمْ إذَا قَالَ هَا ضَحِكَ الشَّيْطَانُ.
عَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب أَبُو الْحُسَيْن
مولى قريبَة بنت مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق من أهل
وَاسِط، وروى البُخَارِيّ عَنهُ فِي مَوَاضِع، وروى عَن
مُحَمَّد بن عبد الله عَنهُ فِي الْحُدُود، قَالَ: مَاتَ
سنة إِحْدَى وَعشْرين أَو عشْرين وَمِائَتَيْنِ. وَقَالَ
ابْن سعد: مَاتَ بواسط. قلت: هُوَ من الْأَفْرَاد، وروى
عَنهُ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن سعيد
المَقْبُري عَن أَبِيه كيسَان عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقَالَ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) : حَدِيث: التثاؤب من
الشَّيْطَان، ثمَّ علم عَلامَة البُخَارِيّ حرف (خَ) ثمَّ
قَالَ فِي صفة إِبْلِيس: عَن عَاصِم بن عَليّ عَنهُ بِهِ،
ثمَّ علم عَلامَة النَّسَائِيّ (س) ثمَّ قَالَ فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة: عَن أَحْمد بن حَرْب إِلَى آخِره،
ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ غير وَاحِد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن
سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة،
وَسَيَأْتِي. ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: لما وعده مُحَمَّد بن
عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن
أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، حَدِيث: (إِن الله يحب العطاس
وَيكرهُ التثاؤب (خَ)) وَفِي الْأَدَب عَن آدم، وَفِيه
وَفِي بَدْء الْخلق عَن عَاصِم بن عَليّ (د) فِي الْأَدَب
(ت) فِي الاستيذان جَمِيعًا عَن الْحسن عَليّ (س) فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَمْرو بن عَليّ، ثمَّ قَالَ:
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا أصح من حَدِيث ابْن عجلَان،
يَعْنِي: عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ
الْقَاسِم بن يزِيد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن أبي
هُرَيْرَة.
قَوْله: (التثاؤب) ، مصدر من تثاءب يتثاءب، وَالِاسْم
الثؤباء. قَوْله: (من الشَّيْطَان) ، وَإِنَّمَا جعله من
الشَّيْطَان كَرَاهَة لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون مَعَ
ثقل الْبدن وامتلائه وميله إِلَى الكسل وَالنَّوْم، وأضافه
إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَى
إِعْطَاء النَّفس شهواتها، وَأَرَادَ بِهِ التحذير من
السَّبَب الَّذِي يتَوَلَّد مِنْهُ، وَهُوَ التَّوَسُّع
فِي الْمطعم والشبع، فيثقل عَن الطَّاعَات ويكسل عَن
الْخيرَات. قَوْله: (فَإِذا تثاءب) هُوَ فعل ماضي من بَاب
تفَاعل، وَأَصله من: الثأب، ومادته: ثاء مُثَلّثَة وهمزة
وباء مُوَحدَة، وتثاءب بِالْمدِّ وَالتَّخْفِيف، ويروى
بِالْوَاو: تثاوب، وَقيل: لَا يُقَال: تثاءب، مخففاً بل
تثأب، بِالتَّشْدِيدِ فِي الْهمزَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
لَا يُقَال: تثاوب، بِالْوَاو. وَأما حَدِيث التثاوب
فَهُوَ النَّفس الَّذِي ينفتح مِنْهُ الْفَم لدفع البخارات
المختنقة فِي عضلات الفك، وَهُوَ إِنَّمَا ينشأ من امتلاء
الْمعدة وَثقل الْبدن وَيُورث الكسل وَسُوء الْفَهم
والغفلة. قَوْله: (فليرده) أَي: ليكظم وليضع يَده على
الْفَم لِئَلَّا يبلغ الشَّيْطَان مُرَاده من تَشْوِيه
صورته وَدخُول فَمه وضحكه مِنْهُ. قَوْله: (إِذا قَالَ
هَا) ، كلمة: هَا، حِكَايَة صَوت المتثاوب، فَإِذا قَالَ:
هَا، يَعْنِي: إِذا بَالغ فِي التثاؤب، ضحك الشَّيْطَان
فَرحا بذلك، وَلذَلِك قَالُوا: لم يتثاءب نَبِي قطّ.
وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن فتح فَاه وَلم يضمه بَصق فِيهِ
وَقَالَ: هَا، ضحك مِنْهُ.
0923 - حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ يَحيَى حدَّثَنا أبُو
أُسَامَةَ قَالَ هِشَامٌ أخْبَرَنَا عنْ أبِيهِ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا كانَ
يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ فَصاحَ إبْلِيسُ أيْ
عِبَادَ الله أُخْرَاكُمْ فرَجَعَتْ أُولاَهُمْ
فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وأُخْرَاهُمْ فنَظَرَ حُذَيْفَةُ فإذَا
هُوَ بِأبِيهِ الْيَمانِ فَقَالَ أَي عِبَادَ الله أَبى
أبي فَوَالله مَا احْتَجَزُوا حتَّى قتَلُوهُ فَقال
حُذَيْفَةُ غَفَرَ الله لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَمَا
زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى
لَحِقَ بِاللَّه. .
زَكَرِيَّاء بن يحيى بن عمر أبي السكن الطَّائِي
الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد
بن أُسَامَة، وَهِشَام بن عُرْوَة يروي
(15/178)
عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن أم
الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن
إِسْحَاق وَفِي الْمَغَازِي عَن عبيد الله بن سعيد،
كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة أَيْضا.
قَوْله: (أَي عباد الله) ، يَعْنِي: يَا عباد الله.
قَوْله: (أخراكم) أَي: الطَّائِفَة الْمُتَأَخِّرَة، أَي:
يَا عباد الله احْذَرُوا الَّذين من وَرَائِكُمْ متأخرين
عَنْكُم، أَو اقْتُلُوهُمْ، وَالْخطاب للْمُسلمين، أَرَادَ
إِبْلِيس تغليطهم لِيُقَاتل الْمُسلمُونَ بَعضهم بَعْضًا.
فَرَجَعت الطَّائِفَة الْمُتَقَدّمَة قَاصِدين لقِتَال
الْأُخْرَى ظانين أَنهم من الْمُشْركين. قَوْله: (فاجتلدت
هِيَ) ، أَي: الطَّائِفَة الْمُتَقَدّمَة والطائفة
الْأُخْرَى، أَي تضاربت الطائفتان، وَيحْتَمل أَن يكون
الْخطاب للْكَافِرِينَ، أَي: اقْتُلُوا أخراكم، فَرَجَعت
أولاهم فتجالد أولى الْكفَّار، وَأُخْرَى الْمُسلمين.
قَوْله: (فَنظر حُذَيْفَة بن الْيَمَان) فَإِذا هُوَ
بِأَبِيهِ يَعْنِي: الْيَمَان، بتَخْفِيف الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالنون بِلَا يَاء بعْدهَا، وَهُوَ لقب واسْمه:
حسيل، مصغر الحسل بالمهملتين: ابْن جَابر الْعَبْسِي،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة بَين الْمُهْمَلَتَيْنِ، أسلم مَعَ
حُذَيْفَة وَهَاجَر إِلَى الْمَدِينَة وَشهد أحدا وأصابه
الْمُسلمُونَ فِي المعركة فَقَتَلُوهُ يَظُنُّونَهُ من
الْمُشْركين، وَحُذَيْفَة يَصِيح وَيَقُول: هُوَ أبي لَا
تقتلوه، وَلم يُسمع مِنْهُ. قَوْله: (مَا احتجزوا) ، أَي:
مَا امْتَنعُوا مِنْهُ، وَيُقَال لكل من ترك شَيْئا: انحجز
عَنهُ. قَوْله: (غفر الله لكم) ، دَعَا لمن قَتَلُوهُ من
غير علم، لِأَنَّهُ عذرهمْ، وَتصدق حُذَيْفَة بديته على من
أَصَابَهُ، وَيُقَال: إِن الَّذِي قَتله هُوَ عقبَة بن
مَسْعُود فعفى عَنهُ. قَوْله: (بَقِيَّة خير) ، بَقِيَّة
دُعَاء واستغفار لقَاتل الْيَمَان حَتَّى مَاتَ، وَقَالَ
التَّيْمِيّ: مَعْنَاهُ: مَا زَالَ فِي حُذَيْفَة بَقِيَّة
حزن على أَبِيه من قتل الْمُسلمين.
1923 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ الرَّبِيعِ حدَّثنا أبُو
الأحْوَصِ عنْ أشْعَثَ عنْ أبِيهِ عنْ مَسْرُوقِ قَالَ
قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا سألتُ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الْتِفاتِ
الرَّجُلِ فِي الصَّلاةِ فَقَالَ هُوَ اخْتِلاَسٌ
يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاةِ أحَدِكُمْ. (انْظُر
الحَدِيث 157) .
الْحسن بن الرّبيع بن سُلَيْمَان البَجلِيّ الْكُوفِي،
يعرف بالبوراني، وَأَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم
الْكُوفِي، وَأَشْعَث، بالشين الْمُعْجَمَة وَالْعين
الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أبي الشعْثَاء،
مؤنث الْأَشْعَث الْمَذْكُور، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب
الصَّلَاة فِي: بَاب الِالْتِفَات فِي الصَّلَاة،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن أبي الْأَحْوَص
إِلَى آخِره. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
2923 - حدَّثنا أبُو المُغِيرَةِ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ
قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ عنْ عَبْدِ الله
بنِ أبِي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (و) حدَّثني سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ حدَّثنا الوَلِيدُ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ
قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ قَالَ حدَّثني
عَبْدُ الله بنُ أبِي قَتادَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤيَا
الصَّالِحَةُ مِنَ الله والْحُلُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ
فإذَا حَلُمَ أحَدُكُمْ حُلُمَاً يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ
عنْ يَسَارِهِ ولْيَتَعَوَّذْ بِاللَّه مِنْ شَرِّهِمَا
فإنَّهَا لاَ تَضُرُّهِ. .
أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن أبي
الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج، مر فِي: بَاب
تَزْوِيج الْمحرم عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي
قَتَادَة الْحَارِث بن الربعِي الْأنْصَارِيّ عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن
عبد الرَّحْمَن عَن ابْنه شُرَحْبِيل بن أَيُّوب
الدِّمَشْقِي عَن الْوَلِيد بن مُسلم الدِّمَشْقِي عَن
الْأَوْزَاعِيّ ... إِلَى آخِره، فالطريق الأولى أَعلَى،
وَلَكِن فِي الثَّانِيَة التَّصْرِيح بتحديث عبد الله بن
أبي قَتَادَة ليحيى بن أبي كثير. والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن مُسَدّد. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن إِسْحَاق بن
مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَة) ،
الرُّؤْيَا على وزن: فعلى، بِلَا تَنْوِين، وَجَمعهَا:
رؤًى، مثل: رعًى، يُقَال: رأى فِي مَنَامه
(15/179)
رُؤْيا، وَفِي الْيَقَظَة رأى رُؤْيَة،
قيل: إِن الرُّؤْيَا أَيْضا تكون فِي الْيَقَظَة،
وَعَلِيهِ تَفْسِير الْجُمْهُور فِي قَوْله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك
إلاَّ فتْنَة للنَّاس} (الْإِسْرَاء: 06) . إِن الرُّؤْيَا
هَهُنَا فِي الْيَقَظَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
الرُّؤْيَا بِمَعْنى: الرُّؤْيَة إلاَّ أَنَّهَا
مُخْتَصَّة بِمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْمَنَام دون
الْيَقَظَة، فَلَا جرم، فرق بَينهمَا بِحرف التَّأْنِيث.
وَقَالَ الواحدي: الرُّؤْيَا مصدر كالبُشرى، إلاَّ أَنه
لما صَار اسْما لهَذَا المتخيل فِي الْمَنَام جرى مجْرى
الْأَسْمَاء، وَقيل: يجوز ترك همزها تَخْفِيفًا. وَقَوله:
الصَّالِحَة، إِمَّا صفة مُوضحَة للرؤيا، لِأَن غير
الصَّالِحَة تسمى: بالحلم، أَو مخصصة، وَالصَّلَاح إِمَّا
بِاعْتِبَار صورتهَا، وَإِمَّا بِاعْتِبَار تعبيرها،
وَيُقَال لَهَا: الرُّؤْيَا الصادقة والرؤيا الْحَسَنَة.
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: معنى الصَّالِحَة الْحَسَنَة:
وَيحْتَمل أَن تجْرِي على ظَاهرهَا، وَأَن تجْرِي على
الصادقة، وَالْمرَاد بهَا صِحَّتهَا وَتَفْسِير رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبَشِّرَات على الأول
ظَاهر، لِأَن الْبشَارَة كل خبر صدق يتَغَيَّر بِهِ بشرة
الْوَجْه، واستعمالها فِي الْخَيْر أَكثر، وعَلى الثَّانِي
مؤول، أما على التغليب أَو يحمل على أصل اللُّغَة وإضافتها
إِلَى الله تَعَالَى إِضَافَة اخْتِصَاص وإكرام لسلامتها
من التَّخْلِيط وطهارتها عَن حُضُور الشَّيْطَان. قَوْله:
(والحلم من الشَّيْطَان) أَي: الرُّؤْيَا الْغَيْر
الصَّالِحَة أَي: الكاذبة، أَو السَّيئَة، وَإِنَّمَا نسبت
إِلَى الشَّيْطَان لِأَن الرُّؤْيَا الكاذبة يُرِيد بهَا
الشَّيْطَان ليسيء ظَنّه ويحزنه ويقل حَظه من شكر الله،
وَلِهَذَا أمره بالبصق عَن يسَاره. وَعَن ابْن
الْجَوْزِيّ: الرُّؤْيَا والحلم بِمَعْنى وَاحِد، لِأَن
الْحلم مَا يرَاهُ الْإِنْسَان فِي نَومه، غير أَن صَاحب
الشَّرْع خص الْخَيْر باسم الرُّؤْيَا وَالشَّر باسم
الْحلم. قَوْله: (فَإِذا حلم أحدكُم) ، بِفَتْح اللَّام،
قَالَ ابْن التِّين: وحلم، بِضَم اللَّام عَنهُ بِمَعْنى:
عفى عَنهُ، وحلم بِالْكَسْرِ، يُقَال: حلم الْأَدِيم إِذا
شب قبل أَن يدبغ. قَوْله: (حلما) ، مصدر بِضَم اللاَّم
وسكونها: وَيجمع على: أَحْلَام فِي الْقلَّة: وحلوم، فِي
الْكَثْرَة، وَإِنَّمَا جمع وَإِن كَانَ مصدرا لاخْتِلَاف
أَنْوَاعه، وَهُوَ فِي الأَصْل عبارَة عَمَّا يرَاهُ
الرَّائِي فِي مَنَامه حسنا كَانَ أَو مَكْرُوها. قَوْله:
(يخافه) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله:
حلماً. قَوْله: (فليبصق) ، دحراً للشَّيْطَان بذلك كرمي
الْجمار، كَمَا يتفل عِنْد الشَّيْء القذر يرَاهُ وَلَا
شَيْء أقذر من الشَّيْطَان، وَذكر الشمَال لِأَن الْعَرَب
عِنْدهَا إتْيَان الشَّرّ كُله من قبل الشمَال، وَلذَلِك
سمتها الشؤمى، وَكَانُوا يتشاءمون بِمَا جَاءَ من قبلهَا
من الطير، وَأَيْضًا لَيْسَ فِيهَا كثير عمل وَلَا بَطش
وَلَا أكل وَلَا شرب. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن
الْحلم، وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير بِاعْتِبَار أَن الْحلم
هُوَ الرُّؤْيَا السَّيئَة الكاذبة الْمَكْرُوهَة، والرؤيا
الْمَكْرُوهَة هِيَ الَّتِي تكون عَن حَدِيث النَّفس
وشهواتها، وَكَذَلِكَ رُؤْيا التهويل والتخويف يدْخلهُ
الشَّيْطَان على الْإِنْسَان ليشوش عَلَيْهِ فِي
الْيَقَظَة، وَهَذَا النَّوْع هُوَ الْمَأْمُور بالاستعاذة
مِنْهُ، لِأَنَّهُ من تخيلاته، فَإِذا فعل الْمَأْمُور
بِهِ صَادِقا أذهب الله عَنهُ مَا أَصَابَهُ من ذَلِك.
2923 - حدَّثنا أبُو المُغِيرَةِ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ
قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ عنْ عَبْدِ الله
بنِ أبِي قَتَادَةَ عنْ أبِيهِ عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (و) حدَّثني سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ حدَّثنا الوَلِيدُ حدَّثنا الأوْزَاعِيُّ
قَالَ حدَّثني يَحْيَى بنُ أبِي كَثِيرٍ قَالَ حدَّثني
عَبْدُ الله بنُ أبِي قَتادَةَ عنْ أبِيهِ قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤيَا
الصَّالِحَةُ مِنَ الله والْحُلُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ
فإذَا حَلُمَ أحَدُكُمْ حُلُمَاً يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ
عنْ يَسَارِهِ ولْيَتَعَوَّذْ بِاللَّه مِنْ شَرِّهِمَا
فإنَّهَا لاَ تَضُرُّهِ. .
أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن أبي
الْمُغيرَة عبد القدوس بن الْحجَّاج، مر فِي: بَاب
تَزْوِيج الْمحرم عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الله بن أبي
قَتَادَة الْحَارِث بن الربعِي الْأنْصَارِيّ عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن
عبد الرَّحْمَن عَن ابْنه شُرَحْبِيل بن أَيُّوب
الدِّمَشْقِي عَن الْوَلِيد بن مُسلم الدِّمَشْقِي عَن
الْأَوْزَاعِيّ ... إِلَى آخِره، فالطريق الأولى أَعلَى،
وَلَكِن فِي الثَّانِيَة التَّصْرِيح بتحديث عبد الله بن
أبي قَتَادَة ليحيى بن أبي كثير. والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن مُسَدّد. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن إِسْحَاق بن
مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَة) ،
الرُّؤْيَا على وزن: فعلى، بِلَا تَنْوِين، وَجَمعهَا:
رؤًى، مثل: رعًى، يُقَال: رأى فِي مَنَامه رُؤْيا، وَفِي
الْيَقَظَة رأى رُؤْيَة، قيل: إِن الرُّؤْيَا أَيْضا تكون
فِي الْيَقَظَة، وَعَلِيهِ تَفْسِير الْجُمْهُور فِي
قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أريناك إلاَّ فتْنَة للنَّاس} (الْإِسْرَاء: 06) .
إِن الرُّؤْيَا هَهُنَا فِي الْيَقَظَة، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الرُّؤْيَا بِمَعْنى: الرُّؤْيَة إلاَّ
أَنَّهَا مُخْتَصَّة بِمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْمَنَام
دون الْيَقَظَة، فَلَا جرم، فرق بَينهمَا بِحرف
التَّأْنِيث. وَقَالَ الواحدي: الرُّؤْيَا مصدر كالبُشرى،
إلاَّ أَنه لما صَار اسْما لهَذَا المتخيل فِي الْمَنَام
جرى مجْرى الْأَسْمَاء، وَقيل: يجوز ترك همزها تَخْفِيفًا.
وَقَوله: الصَّالِحَة، إِمَّا صفة مُوضحَة للرؤيا، لِأَن
غير الصَّالِحَة تسمى: بالحلم، أَو مخصصة، وَالصَّلَاح
إِمَّا بِاعْتِبَار صورتهَا، وَإِمَّا بِاعْتِبَار
تعبيرها، وَيُقَال لَهَا: الرُّؤْيَا الصادقة والرؤيا
الْحَسَنَة. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: معنى الصَّالِحَة
الْحَسَنَة: وَيحْتَمل أَن تجْرِي على ظَاهرهَا، وَأَن
تجْرِي على الصادقة، وَالْمرَاد بهَا صِحَّتهَا وَتَفْسِير
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُبَشِّرَات على
الأول ظَاهر، لِأَن الْبشَارَة كل خبر صدق يتَغَيَّر بِهِ
بشرة الْوَجْه، واستعمالها فِي الْخَيْر أَكثر، وعَلى
الثَّانِي مؤول، أما على التغليب أَو يحمل على أصل
اللُّغَة وإضافتها إِلَى الله تَعَالَى إِضَافَة اخْتِصَاص
وإكرام لسلامتها من التَّخْلِيط وطهارتها عَن حُضُور
الشَّيْطَان. قَوْله: (والحلم من الشَّيْطَان) أَي:
الرُّؤْيَا الْغَيْر الصَّالِحَة أَي: الكاذبة، أَو
السَّيئَة، وَإِنَّمَا نسبت إِلَى الشَّيْطَان لِأَن
الرُّؤْيَا الكاذبة يُرِيد بهَا الشَّيْطَان ليسيء ظَنّه
ويحزنه ويقل حَظه من شكر الله، وَلِهَذَا أمره بالبصق عَن
يسَاره. وَعَن ابْن الْجَوْزِيّ: الرُّؤْيَا والحلم
بِمَعْنى وَاحِد، لِأَن الْحلم مَا يرَاهُ الْإِنْسَان فِي
نَومه، غير أَن صَاحب الشَّرْع خص الْخَيْر باسم
الرُّؤْيَا وَالشَّر باسم الْحلم. قَوْله: (فَإِذا حلم
أحدكُم) ، بِفَتْح اللَّام، قَالَ ابْن التِّين: وحلم،
بِضَم اللَّام عَنهُ بِمَعْنى: عفى عَنهُ، وحلم
بِالْكَسْرِ، يُقَال: حلم الْأَدِيم إِذا شب قبل أَن يدبغ.
قَوْله: (حلما) ، مصدر بِضَم اللاَّم وسكونها: وَيجمع على:
أَحْلَام فِي الْقلَّة: وحلوم، فِي الْكَثْرَة، وَإِنَّمَا
جمع وَإِن كَانَ مصدرا لاخْتِلَاف أَنْوَاعه، وَهُوَ فِي
الأَصْل عبارَة عَمَّا يرَاهُ الرَّائِي فِي مَنَامه حسنا
كَانَ أَو مَكْرُوها. قَوْله: (يخافه) جملَة فِي مَحل
النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: حلماً. قَوْله: (فليبصق) ،
دحراً للشَّيْطَان بذلك كرمي الْجمار، كَمَا يتفل عِنْد
الشَّيْء القذر يرَاهُ وَلَا شَيْء أقذر من الشَّيْطَان،
وَذكر الشمَال لِأَن الْعَرَب عِنْدهَا إتْيَان الشَّرّ
كُله من قبل الشمَال، وَلذَلِك سمتها الشؤمى، وَكَانُوا
يتشاءمون بِمَا جَاءَ من قبلهَا من الطير، وَأَيْضًا
لَيْسَ فِيهَا كثير عمل وَلَا بَطش وَلَا أكل وَلَا شرب.
قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن الْحلم، وَإِنَّمَا أنث
الضَّمِير بِاعْتِبَار أَن الْحلم هُوَ الرُّؤْيَا
السَّيئَة الكاذبة الْمَكْرُوهَة، والرؤيا الْمَكْرُوهَة
هِيَ الَّتِي تكون عَن حَدِيث النَّفس وشهواتها،
وَكَذَلِكَ رُؤْيا التهويل والتخويف يدْخلهُ الشَّيْطَان
على الْإِنْسَان ليشوش عَلَيْهِ فِي الْيَقَظَة، وَهَذَا
النَّوْع هُوَ الْمَأْمُور بالاستعاذة مِنْهُ، لِأَنَّهُ
من تخيلاته، فَإِذا فعل الْمَأْمُور بِهِ صَادِقا أذهب
الله عَنهُ مَا أَصَابَهُ من ذَلِك.
3923 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنْ
سُمَيُ مَوْلَى أبي بَكْرٍ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ قَالَ لاَ إلاهَ إلاَّ
الله وحْدَهُ لاَ شَرِيِكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ
الحَمْدُ وهْوَ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ
مِائَةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ
وكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنةٍ ومُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ
سَيِّئَةٍ وكانَتُ لَهُ حِرْزَاً مِنَ الشَّيْطَانِ
يَوْمَهُ ذَلِكَ حتَّى يُمْسِي ولَمْ يَأتِ أحَدٌ
بِأفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ أحَدٌ عَمِلَ أكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ. (الحَدِيث 3923 طرفه فِي: 3046) .
سمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد
الْيَاء: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن
هِشَام بن الْمُغيرَة الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي،
وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات أَيْضا.
وَأخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي ثَوَاب التَّسْبِيح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (عدل) ، بِفَتْح الْعين، أَي: مثل ثَوَاب إِعْتَاق
عشر رِقَاب. قَوْله: (حرْزا) ، بِكَسْر الْحَاء
الْمُهْملَة، وَهُوَ الْموضع الْحصين وَيُسمى التعويذ
أَيْضا حرْزا. قَوْله: (يَوْمه) ، نصب على الظّرْف.
قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى الْيَوْم الَّذِي دَعَا
فِيهِ بِهَذَا الْكَلَام الْمُشْتَمل على الِاعْتِرَاف
بالوحدانية، وعَلى الشُّكْر لله وَالْإِقْرَار بقدرته على
كل شَيْء. قَوْله: (عمل) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة
لقَوْله: أحد. قَوْله: (من ذَلِك) ، أَي: من الْعَمَل
الَّذِي عمله الأول.
(15/180)
4923 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله
حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا أبِي عنْ
صالِحٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرَنِي عَبْدُ
الْحَميدِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنَ زَيْدٍ أنَّ
مُحَمَّدَ بنَ سَعْدِ بنِ أبِي وقَّاصٍ أخْبَرَهُ أنَّ
أبَاه سَعْدَ بنَ أبِي وَقَّاصٍ قَالَ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ
علَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعِنْدَهُ
نِساءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ ويَسْتَكْثِرْنَهُ
عالِيَةً أصْوَاتُهُنَّ فلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ
يَبْتَدِرْنَ الحِجَابَ فأذِنَ لَهُ رسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ورسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَضْحَكُ فَقَالَ عُمَرُ أضُحَكَ الله سِنَّكَ يَا رسُولَ
الله قَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاءِ اللاَّتِي كُنَّ
عِنْدِي فلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الحِجَابَ
قَالَ عُمَرُ فأنْتَ يَا رسولَ الله كُنْتُ أحَقَّ أنْ
يَهَبْنَ ثُمَّ قَالَ أَي عَدُوَّاتِ أنْفُسِهِنَّ
أتَهَبْنَنِي ولاَ تَهَبْنَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قُلْنَ نَعَمْ أنْتَ أفَظُّ وأغْلَظُ مِنْ رَسُولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ
الشَّيْطَانُ قَطُّ سالِكَاً فَجَّاً إلاَّ سَلَكَ فَجَّاً
غَيْرَ فَجِّكَ.
على بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ،
وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن
سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن
شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل عمر عَن عبد
الْعَزِيز بن عبد الله وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله فرقهما،
وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مَنْصُور بن أبي
مُزَاحم وَعَن الْحسن بن عَليّ الْحلْوانِي وَعبد بن حميد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب وَفِي الْيَوْم
وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم
وَفِيه أَرْبَعَة من التَّابِعين وهم صَالح وَمن بعده.
قَوْله: (يكلمنه) ، أَي: يكلمن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ويستكثرنه) ، أَي: يطلبن كثيرا
من كَلَامه وَجَوَابه، وَيحْتَمل أَن يكون من الْعَطاء،
وَيُؤَيِّدهُ أَنه ورد فِي رِوَايَة أَنَّهُنَّ يردن
النَّفَقَة. قَوْله: (عالية أصواتهن) ، هَذِه الْجُمْلَة
وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: يكلمنه، وأصواتهن،
بِالرَّفْع لِأَن اسْم الْفَاعِل يعْمل عمله فعله، وعلو
أصواتهن يحمل على أَنه كَانَ قبل النَّهْي عَن رفع
الصَّوْت، أَو يحمل على أَنه لاجتماعهن، حصل لغط من كلامهن
أَو يكون فِيهِنَّ من هِيَ جهيرة الصَّوْت أَو يحمل على
أَنَّهُنَّ لما علِمْنَ عَفوه وصفحه سمحن فِي رفع
الصَّوْت. قَوْله: (يبتدرون) ، أَي: يتسارعن، وَالْجُمْلَة
حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: قُلْنَ. قَوْله: (وَرَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضْحك) ، جملَة حَالية.
قَوْله: (أضْحك الله سنك) ، لَيْسَ دُعَاء بِكَثْرَة الضحك
حَتَّى يُعَارضهُ قَوْله تَعَالَى: {فليضحكوا قَلِيلا}
(التَّوْبَة: 28) . بل المُرَاد لَازمه وَهُوَ السرُور،
أَو الْآيَة لَيست عَامَّة شَامِلَة لَهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَه الْكرْمَانِي. وَفِيه نظر،
وَالْوَجْه هُوَ الأول. قَوْله: (يهين) بِفَتْح الْهَاء
من: الهيبة. قَوْله: (أَي: عدوات) ، أَي: يَا عدوات.
قَوْله: (أفظ وَأَغْلظ) ، والفظاظة والغلظ بِمَعْنى
وَاحِد، هِيَ عبارَة عَن شدَّة الْخلق وخشونة الْجَانِب.
فَإِن قلت: الأفظ والأغلظ يَقْتَضِي الشّركَة فِي أصل
الْفِعْل، فَيلْزم أَن يكون رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فظاً غليظاً، وَقد نفى الله عَنهُ ذَلِك
بقوله: {وَلَو كنت فظاً غليظ الْقلب لانفضوا من حولك} (آل
عمرَان: 951) . قلت: لَا يلْزم مِنْهُ إلاَّ نفس الفظاظة
والغلظ، وَهُوَ أَعم من كَونه فظاً غليظاً، لِأَنَّهُمَا
صفة مشبهة يدلان على الثُّبُوت وَالْعَام لَا يسْتَلْزم
الْخَاص أَو الْأَفْضَل لَيْسَ بِمَعْنى الزِّيَادَة،
لقَوْله تَعَالَى: {هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض}
(النَّجْم: 23) . هَذَا كُله كَلَام الْكرْمَانِي، وَفِي
النَّفس مِنْهُ قلق، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِنَّه على
المفاضلة، وَإِن الْقدر الَّذِي بَينهمَا فِي رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ مَا كَانَ إغلاظه على
الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ، قَالَ الله تَعَالَى: {جَاهد
الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأَغْلظ عَلَيْهِم}
(التَّوْبَة: 37، وَالتَّحْرِيم: 9) . قَوْله: (فجاً)
بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الْجِيم هُوَ: الطَّرِيق
الْوَاسِع، وَقيل: هُوَ الطَّرِيق بَين الجبلين، وَقَالَ
عِيَاض: يحْتَمل أَنه ضرب مثلا لبعد الشَّيْطَان وأعوانه
من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَنه لَا سَبِيل
لَهُم عَلَيْهِم، أَي: إِنَّك إِذا سلكت فِي أَمر
بِمَعْرُوف أَو نهي عَن مُنكر تنفذ فِيهِ وَلَا تتركه
فييأس الشَّيْطَان من أَن يوسوس فِيهِ فتتركه وتسلك غَيره،
وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الطَّرِيق على الْحَقِيقَة، لِأَن
الله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا
ترونهم} (الْأَعْرَاف: 72) . فَلَا يخافه إِذا فِي فج
لِأَنَّهُ لَا يرَاهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت:
فَيلْزم من ذَلِك أَن يكون عمر أفضل من أَيُّوب النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ قَالَ: {مسنى الشَّيْطَان
بِنصب وَعَذَاب} (ص: 14) . قلت: لَا، إِذْ التَّرْكِيب لَا
يدل إلاَّ على الزَّمَان الْمَاضِي
(15/181)
وَذَلِكَ أَيْضا مَخْصُوص بِحَال من
الْإِسْلَام، فَلَيْسَ على ظَاهره، وَأَيْضًا هُوَ مُقَيّد
بِحَال سلوك الطَّرِيق، فَجَاز أَن يلقاه فِي غير تِلْكَ
الْحَالة. انْتهى. قلت: الْجَواب الْأَخير موجه، وَالَّذِي
ذَكرْنَاهُ آنِفا أوجه من الْكل وَالله أعلم. وَفِيه فضل
لين الْجَانِب والرفق وَفِيه: فضل عمر رَضِي الله عَنهُ
وَفِيه حلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَايَة مَا
يكون
وَفِيه: لَا يَنْبَغِي الدُّخُول على أحد إلاَّ بعد
الاسْتِئْذَان.
5923 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثني
ابنُ أبِي حازِمٍ عنْ يَزِيدَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ
إبْرَاهِيمَ عنْ عِيسَى بنِ طَلْحَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا اسْتَيْقَظَ أُرَاهُ أحَدُكُمْ
مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثَاً
فإنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ.
إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي:
أَبُو إِسْحَاق الزبيرِي الْأَسدي الْمَدِينِيّ، وَابْن
أبي حَازِم عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم واسْمه ثَعْلَبَة
بن دِينَار، وَيزِيد، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف فِي أَوله:
هُوَ يزِيد بن الْهَاد، والهاد أحد أجداده لِأَن يزِيد
هَذَا هُوَ ابْن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد،
وَيُقَال: يزِيد بن عبد الله بن شَدَّاد بن أُسَامَة بن
عَمْرو، وَهُوَ الْهَاد بن عبد الله وَمُحَمّد بن
إِبْرَاهِيم ابْن الْحَارِث أَبُو عبد الله التَّيْمِيّ
الْقرشِي الْمَدِينِيّ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة،
وَعِيسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله بن عُثْمَان التَّيْمِيّ
الْقرشِي، مَاتَ فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن بشر بن الحكم.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن زنبور
الْمَكِّيّ.
قَوْله: (أرَاهُ) أَي: أَظُنهُ. قَوْله: (فليستنثر) ، أَمر
من الاستنثار، وَهُوَ نثر مَا فِي الْأنف بِنَفس. قَالَه
الْجَوْهَرِي، وَقيل: أَن يستنشق المَاء ثمَّ يسْتَخْرج
مَا فِيهِ من أَذَى أَو مخاط، وَكَذَلِكَ الانتنثار،
وَقيل: فليستنثر أَكثر فَائِدَة من قَوْله: فليستنشق،
لِأَن الاستنثار يَقع على الِاسْتِنْشَاق بِغَيْر عكس، فقد
يستنشق وَلَا يستنثر، والاستنثار من تَمام فَائِدَة
الِاسْتِنْشَاق، لِأَن حَقِيقَة الِاسْتِنْشَاق جذب المَاء
برِيح الْأنف إِلَى أقصاه، والاستنثار إِخْرَاج ذَلِك
المَاء. قلت: وَمِمَّا يدل على أَن الاستنثار غير
الِاسْتِنْشَاق مَا روى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليجعل المَاء فِي أَنفه ثمَّ
ليستنثر، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وروى: أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يستنشق ثَلَاثًا فِي كل مرّة يستنثر،
وَقد مر فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب الاستنثار فِي
الْوضُوء حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة أبي إِدْرِيس
عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ:
من تَوَضَّأ فليستنثر، وَمن استجمر فليوتر، وَفِي: بَاب
الِاسْتِجْمَار أَيْضا من رِوَايَة الْأَعْرَج عَنهُ: أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا
تَوَضَّأ أحدكُم فليجعل فِي أَنفه مَاء ثمَّ لينتثر. .)
الحَدِيث، وَمَرَّتْ زِيَادَة الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (على خيشومه) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم الْمُعْجَمَة، قَالَ
الْكرْمَانِي: هُوَ أقْصَى الْأنف، وَفِي (التَّوْضِيح) :
هُوَ الْأنف. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ المنخران
وَالْيَاء فِيهِ زَائِدَة، يُقَال: رجل أخشم إِذا لم يجد
رَائِحَة الطّيب، وَقيل: الأخشم منتن الخيشوم، وَقيل:
الأخشم الَّذِي لَا يجد ريح الشَّيْء أصلا وَهُوَ الخشام،
والخشم مَا يسيل من الخيشوم، ثمَّ ظَاهر الحَدِيث
يَقْتَضِي أَن هَذَا يَقع لكل نَائِم، وَلَكِن يُمكن أَن
يُقَال: هَذَا يَقع لمن يحترس من الشَّيْطَان بِشَيْء من
الذّكر، فَإِنَّهُ رُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن
فِي ذكر الله حرْزا من الشَّيْطَان.
21 - (بابُ ذِكْرِ الجِنِّ وثَوَابِهِمْ وعِقَابِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجود الْجِنّ، وَفِي بَيَان
أَنهم يثابون بِالْخَيرِ ويعاقبون بِالشَّرِّ، وَالْكَلَام
فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول: فِي وجود الْجِنّ: فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو
الْعَبَّاس بن تَيْمِية، رَحمَه الله: لم يُخَالف أحد من
طوائف الْمُسلمين فِي وجود الْجِنّ، وَجُمْهُور طوائف
الْكفَّار على إِثْبَات الْجِنّ وَإِن وجد فيهم من يُنكر
ذَلِك فَكَمَا يُوجد فِي بعض طوائف الْمُسلمين: كالجهمية
والمعتزلة، من يُنكر ذَلِك، وَأَن كَانَ جُمْهُور
الطَّائِفَة وأئمتها مقرين بذلك، وَهَذَا لِأَن وجود
الْجِنّ قد تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَار الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، تواتراً مَعْلُوما
بالاضطرار، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه
(الشَّامِل) : اعلموا، رحمكم الله، إِن كثيرا من الفلاسفة
وجماهير الْقَدَرِيَّة وكافة الزَّنَادِقَة أَنْكَرُوا
الشَّيَاطِين وَالْجِنّ رَأْسا، وَلَا يبعد لَو أنكر ذَلِك
من لَا يتدين وَلَا يتشبث بالشريعة، وَإِنَّمَا الْعجب
(15/182)
من إِنْكَار الْقَدَرِيَّة مَعَ نُصُوص
الْقُرْآن وتواتر الْأَخْبَار واستفاضة الْآثَار. وَقَالَ
أَبُو الْقَاسِم الْأنْصَارِيّ فِي (شرح الْإِرْشَاد) :
وَقد أنكرهم مُعظم الْمُعْتَزلَة وَدلّ إنكارهم إيَّاهُم
على قلَّة مبالاتهم وركاكة ديانتهم، فَلَيْسَ فِي إثباتهم
مُسْتَحِيل عَقْلِي، وَقد دلّت نُصُوص الْكتاب وَالسّنة
على إثباتهم. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني:
وَكثير من الْقَدَرِيَّة يثبتون وجود الْجِنّ قَدِيما،
وينفون وجودهم الْآن، وَمِنْهُم من يقر بوجودهم وَيَزْعُم
أَنهم لَا يُرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فِيهَا،
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا لَا يُرون لأَنهم لَا ألوان
لَهُم. وَقَالَ عبد الْجَبَّار المعتزلي: الدَّلِيل على
إثباتهم السّمع دون الْعقل إِذْ لَا طَرِيق إِلَى إِثْبَات
أجسام غَائِبَة، لِأَن الشَّيْء لَا يدل على غَيره من غير
أَن يكون بَينهمَا تعلق.
النَّوْع الثَّانِي فِي بَيَان ابْتِدَاء خلق الْجِنّ:
قَالَ أَبُو حُذَيْفَة إِسْحَاق بن بشر الْقرشِي فِي
(الْمُبْتَدَأ) : حَدثنَا عُثْمَان بن الْأَعْمَش عَن بكير
بن الْأَخْنَس عَن عبد الرَّحْمَن بن سليط الْقرشِي عَن
ابْن عَبَّاس عَن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: خلق الله
الْجِنّ قبل آدم بألفي سنة، وَيُقَال: عمروا الأَرْض ألفي
سنة، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ الْجِنّ سكان الأَرْض
وَالْمَلَائِكَة سكان السَّمَاء وهم عمارها. وَقَالَ
إِسْحَاق بن بشر: حَدثنِي جُوَيْبِر وَعُثْمَان بإسنادهما
أَن الله تَعَالَى خلق الْجِنّ وَأمرهمْ بعمارة الأَرْض،
فَكَانُوا يعْبدُونَ الله تَعَالَى، فطال بهم الأمد فعصوا
الله وسفكوا الدِّمَاء، وَكَانَ فيهم ملك يُقَال لَهُ:
يُوسُف، فَقَتَلُوهُ فَأرْسل الله عَلَيْهِم جنداً من
الْمَلَائِكَة كَانُوا فِي السَّمَاء الدُّنْيَا كَانَ
فيهم إِبْلِيس، وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، فهبطوا فنفوا
بني الجان وأجلوهم عَنْهَا وألحقوهم بجزائر الْبَحْر،
وَسكن إِبْلِيس والجند الَّذِي كَانُوا مَعَه الأَرْض فهان
عَلَيْهِم الْعَمَل وأحبوا الْمكْث فِيهَا.
النَّوْع الثَّالِث فِي بَيَان خلقهمْ مماذا؟ قَالَ الله
تَعَالَى: {وَخلق الجان من مارج من نَار} (الرَّحْمَن: 51)
. وروى مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خلقت الْمَلَائِكَة من
نور وَخلق الجان من مارج من نَار وَخلق آدم مِمَّا وصف
لكم) . فَثَبت أَن أصل الْجِنّ النَّار، كَمَا أَن أصل
الْإِنْس الطين. وَحكى الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن عَن
قَوْله: {خلقتني من نَار} (الْأَعْرَاف: 21، وص: 67) .
فَهَذَا أَيْضا يدل على أَن أصل الْجِنّ النَّار. فَإِن
قلت: يجوز أَن يكذب فِي ذَلِك أَو يَظُنّهُ وَلَا يكون
لَهُ علم بِهِ. قلت: لَو لم يكن الْأَمر على مَا قَالَه
لأنزل الله تَعَالَى تَكْذِيبه، لِأَن عدم تَكْذِيب
الْكَاذِب مِمَّن لَا يجوز عَلَيْهِ الْخَوْف وَالْجهل
قَبِيح. فَإِن قلت: فِي النَّار من اليبس مَا لَا يَصح
وجود الْحَيَاة فِيهَا والحياة فِي وجودهَا يحْتَاج إِلَى
رُطُوبَة. قلت: فَالله قَادر على أَن يفعل رُطُوبَة فِي
تِلْكَ النَّار بِمِقْدَار مَا يَصح وجود الْحَيَاة
فِيهَا، مَعَ أَن أَبَا هَاشم جوز وجود الْحَيَاة مَعَ عدم
التنفس، وَيَقُول: إِن أهل النَّار لَا يتنفسون.
النَّوْع الرَّابِع: فِي أَنهم أجسام وَأَنَّهُمْ على صور
مُخْتَلفَة، قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى مُحَمَّد بن
الْحُسَيْن بن الْفراء الْحَنْبَلِيّ: الْجِنّ أجسام مؤلفة
وأشخاص ممثلة، وَيجوز أَن تكون رقيقَة وَأَن تكون رقيقَة
وَأَن تكون كثيفة خلافًا للمعتزلة فِي قَوْلهم: إِنَّهُم
أجسام رقيقَة ولرقتها لَا نراهم قُلْنَا: الرقة لَيْسَ
بمانعة عَن الرُّؤْيَة فِي بَاب الرُّؤْيَة، وَيجوز أَن
تكون الْأَجْسَام الكثيفة مَوْجُودَة وَلَا نرَاهَا إِذا
لم يخلق الله فِينَا الْإِدْرَاك، وَحكى أَبُو الْقَاسِم
الْأنْصَارِيّ عَن القَاضِي أبي بكر: نَحن نقُول إِنَّمَا
رَآهُمْ من رَآهُمْ لِأَن الله خلق لَهُم الرُّؤْيَة،
وَأَن من لم يخلق لَهُ الرُّؤْيَة لَا يراهم وَأَنَّهُمْ
أجساد مؤلفة وجثث، وَقَالَ كثير من الْمُعْتَزلَة:
إِنَّهُم أجساد رقيقَة بسيطة. وَقَالَ القَاضِي عبد
الْجَبَّار: أجسام الْجِنّ رقيقَة ولضعف أبصارنا لَا نراهم
لَا لعِلَّة أُخْرَى، وَلَو قوى الله أبصارنا أَو كثف
أجسامهم لرأيناهم. وَقَالَ السُّهيْلي: الْجِنّ ثَلَاثَة
أَصْنَاف، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث: صنف على صور
الْحَيَّات، وصنف على صُورَة كلاب سود، وصنف ريح طيارة.
أَو قَالَ: هفافة ذُو أَجْنِحَة، وهم يتصورون فِي صور
الْحَيَّات والعقارب، وَفِي صور الْإِبِل وَالْبَقر
وَالْغنم وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير، وَفِي صور
الطير، وَفِي صور بني أَدَم. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى:
وَلَا قدرَة للشياطين على تَغْيِير خلقهمْ والانتقال فِي
الصُّور، وَإِنَّمَا يجوز أَن يعلمهُمْ الله كَلِمَات
وَضَربا من ضروب الْأَفْعَال، إِذا فعله وَتكلم بِهِ نَقله
من صُورَة إِلَى صور أُخْرَى. وَأما أَن يصور نَفسه فَذَاك
محَال.
النَّوْع الْخَامِس: فِي أَن الْجِنّ على أَنْوَاع
مِنْهُم: الغول، وَهُوَ العفريت، قَالُوا: إِن الغول
حَيَوَان لم تحكمه الطبيعة وَأَنه لما خرج مُنْفَردا توحش
وَلم يسْتَأْنس وَطلب القفار، ويتلون فِي ضروب من الصُّور
ويتراءى فِي اللَّيْل وَفِي أَوْقَات الخلوات لمن كَانَ
مُسَافِرًا وَحده فيتوهم أَنه إِنْسَان ويضل الْمُسَافِر
عَن الطَّرِيق، وَمِنْهُم: السعلاة، وَهِي مُغَايرَة
للغول، وَأكْثر مَا يُوجد فِي الفيافي إِذا ظَفرت
بِإِنْسَان ترقصه وتلعب بِهِ كَمَا تلعب السنور بالفأر،
وَمِنْهُم: الغدار، وَهُوَ يُوجد بِأَكْنَافِ الْيمن
وَرُبمَا يُوجد فِي أَرض
(15/183)
مصر إِذا عاينه الْإِنْسَان خر مغشياً
عَلَيْهِ. وَمِنْهُم: الولهان، يُوجد فِي جزائر الْبَحْر
وَهُوَ فِي صُورَة إِنْسَان رَاكب على نعَامَة يَأْكُل
النَّاس الَّذين يقذفهم الْبَحْر، وَمِنْهُم: الشق،
كَنِصْف آدَمِيّ بالطول زَعَمُوا أَن النسناس مركبه يظْهر
للنَّاس فِي أسفارهم. وَمِنْهُم: من يأنس بالآدميين وَلَا
يؤذيهم. وَمِنْهُم: من يختطف النِّسَاء الْأَبْكَار.
وَمِنْهُم: من هُوَ فِي صُورَة الوزغ. وَمِنْهُم: من هُوَ
على صُورَة الْكلاب.
النَّوْع السَّادِس: فِي وَجه تَسْمِيَة الْجِنّ بِهَذَا
الإسم: قَالَ ابْن دُرَيْد: الْجِنّ خلاف الْإِنْس،
يُقَال: جنه اللَّيْل وأجنه وجن عَلَيْهِ وغطاه فِي معنى
وَاحِد: إِذا ستره، وكل شَيْء استتر عَنْك فقد جن عَنْك،
وَبِه سميت الْجِنّ، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسمون
الْمَلَائِكَة جناً لاستتارهم عَن الْعُيُون، وَالْجِنّ
وَالْجنَّة وَاحِد، وَالْجنَّة مَا واراك من سلَاح، قَالَ:
والحن بِالْحَاء الْمُهْملَة ضرب من الْجِنّ، قَالَ
الراجز:
يلعبن أحوالي من حن وجن
وَقَالَ أَبُو عُمَيْر الزَّاهِد: الحن كلاب الْجِنّ
وسفلتهم، وَوَقع فِي كَلَام السُّهيْلي: فِي النتائج أَن
الْجِنّ يَشْمَل الْمَلَائِكَة وَغَيرهم مِمَّا اجتن عَن
الْأَبْصَار.
النَّوْع السَّابِع: فِي بَيَان أَن الْجِنّ هَل
يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتناكحون ويتوالدون؟
وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَال: الأول: أَن جَمِيع الْجِنّ
لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون، وَهَذَا قَول سَاقِط.
الثَّانِي: أَن صنفا مِنْهُم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ
وَصِنْفًا لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون. الثَّالِث: أَن
جَمِيعهم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ. وَاخْتلفُوا فِي صفة
أكلهم وشربهم، فَقَالَ بَعضهم: أكلهم وشربهم تشمم واسترواح
لَا مضع وَلَا بلع، وَهَذَا قَول لَا يدل عَلَيْهِ دَلِيل،
وَقَالَ آخَرُونَ: أكلهم وشربهم مضغ وبلع، وَيدل عَلَيْهِ
مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أُميَّة بن محشي،
وَفِيه: مَا زَالَ الشَّيْطَان يَأْكُل مَعَه، فَلَمَّا
ذكر الله تَعَالَى استقى مَا فِي بَطْنه. وَسُئِلَ وهب بن
مُنَبّه عَن الْجِنّ: مَا هم؟ وَهل يَأْكُلُون
وَيَشْرَبُونَ ويتناكحون ويتوالدون ويموتون؟ فَقَالَ: هم
أَجنَاس، فَأَما خَالص الْجِنّ فهم ريح لَا يَأْكُلُون
وَلَا يشربون وَلَا يتناكحون وَلَا يتوالدون، وَمِنْهُم
أَجنَاس يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ ويتناكحون ويتوالدون
مِنْهُم: السعالي والغول والقطرب وَغير ذَلِك، رَوَاهُ
أَبُو عمر بِإِسْنَادِهِ عَنهُ.
النَّوْع الثَّامِن: فِي بَيَان تَكْلِيف الْجِنّ: قَالَ
أَبُو عمر: الْجِنّ عِنْد الْجَمَاعَة مكلفون مخاطبون.
لقَوْله تَعَالَى: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس}
(الْأَنْعَام: 031، والرحمن: 33) . وَذكر عَن الحشوية
أَنهم مضطرون إِلَى أفعالهم وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بمكلفين،
وعَلى القَوْل بتكليفهم: هَل لَهُم ثَوَاب وَعَلَيْهِم
عِقَاب أم لَا؟ وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ على قَوْلَيْنِ:
فَقيل: لَا ثَوَاب لَهُم إلاَّ النجَاة من النَّار، ثمَّ
يُقَال لَهُم: كونُوا تُرَابا مثل الْبَهَائِم، وَهُوَ
قَول أبي حنيفَة، حَكَاهُ ابْن حزم وَغَيره عَنهُ، وَقَالَ
ابْن أبي الدُّنْيَا: حَدثنَا دَاوُد عَن عمر والضبي
حَدثنَا عفيف بن سَالم عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن لَيْث
بن أبي سليم، قَالَ: ثَوَاب الْجِنّ أَن يجاروا من
النَّار، ثمَّ يُقَال لَهُم: كونُوا تُرَابا. القَوْل
الثَّانِي: أَنهم يثابون على الطَّاعَة ويعاقبون على
الْمعْصِيَة، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَمَالك
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَنقل أَيْضا
عَن الشَّافِعِي وَأحمد، وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَ: نعم، لَهُم ثَوَاب
وَعَلَيْهِم عِقَاب. وَاتفقَ الْعلمَاء على أَن كَافِر
الْجِنّ يعذب فِي الْآخِرَة لقَوْله تَعَالَى: {النَّار
مثواكم} (الْأَنْعَام: 821) . وَاخْتلفُوا فِي مؤمني
الْجِنّ، هَل يدْخلُونَ الْجنَّة؟ على أَرْبَعَة أَقْوَال:
وَالْجُمْهُور على أَنهم يدْخلُونَهَا، حَكَاهُ ابْن حزم
فِي (الْملَل) عَن ابْن أبي ليلى، وَأبي يُوسُف وَجُمْهُور
النَّاس. قَالَ: وَبِه نقُول، ثمَّ اخْتلفُوا هَل
يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ؟ فروى سُفْيَان الثَّوْريّ فِي
(تَفْسِيره) عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك أَنهم
يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ، وَعَن مُجَاهِد أَنهم
يدْخلُونَهَا وَلَكِن لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون ويلهمون
من التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس مَا يجده أهل الْجنَّة من
لَذَّة الطَّعَام وَالشرَاب، وَذهب الْحَارِث المحاسبي
إِلَى أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة، نراهم يَوْم الْقِيَامَة
وَلَا يروننا عكس مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.
القَوْل الثَّانِي: إِنَّهُم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة بل
يكونُونَ فِي ربضها يراهم الْإِنْس من حَيْثُ لَا يرونهم،
وَهَذَا القَوْل مأثور عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، حَكَاهُ ابْن تَيْمِية، وَهُوَ
خلاف مَا حَكَاهُ ابْن حزم. القَوْل الثَّالِث: أَنهم على
الْأَعْرَاف. القَوْل الرَّابِع: الْوَقْف. وروى الْحَافِظ
أَبُو سعيد عَن عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن الكنجرودي فِي
(أَمَالِيهِ) بِإِسْنَادِهِ إِلَى الْحسن عَن أنس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (إِن مؤمني الْجِنّ لَهُم ثَوَاب وَعَلَيْهِم
عِقَاب) . فسألنا عَن ثوابهم، فَقَالَ: على الْأَعْرَاف،
وَلَيْسوا فِي الْجنَّة. فَقَالُوا: مَا الْأَعْرَاف؟
قَالَ: حَائِط الْجنَّة تجْرِي مِنْهُ الْأَنْهَار وتنبت
فِيهِ الْأَشْجَار وَالثِّمَار، وَقَالَ الْحَافِظ
الذَّهَبِيّ: هَذَا حَدِيث مُنكر جدا، ثمَّ إِن مؤمني
الْجِنّ إِذا دخلُوا الْجنَّة هَل يرَوْنَ الله تَعَالَى؟
فقد وَقع فِي كَلَام عبد السَّلَام فِي (الْقَوَاعِد
الصُّغْرَى) مَا يدل على أَنهم لَا يرَوْنَ الله تَعَالَى.
وَأَن الرُّؤْيَة مَخْصُوصَة بمؤمني الْبشر، فَإِنَّهُ صرح
بِأَن الْمَلَائِكَة لَا يرَوْنَ الله تَعَالَى فِي
الْجنَّة، وَمُقْتَضى هَذَا أَن الْجِنّ لَا يرونه.
النَّوْع التَّاسِع: هَل كَانَ فيهم نَبِي مِنْهُم أَو
لَا؟ فروى
(15/184)
الطَّبَرِيّ من طَرِيق الضَّحَّاك بن
مُزَاحم، إِثْبَات ذَلِك، وَجُمْهُور الْعلمَاء سلفا
وخلفاً على أَنه لم يكن من الْجِنّ نَبِي قطّ وَلَا
رَسُول، وَلم تكن الرُّسُل إلاَّ من الْإِنْس، وَنقل هَذَا
عَن ابْن عَبَّاس وَابْن جريج وَمُجاهد والكلبي وَأبي عبيد
والواحدي، وَذكر إِسْحَاق بن بشر فِي (الْمُبْتَدَأ) : عَن
ابْن عَبَّاس أَن الْجِنّ قتلوا نَبيا لَهُم قبل آدم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اسْمه يُوسُف، وَأَن الله
تَعَالَى بعث إِلَيْهِم رَسُولا وَأمرهمْ بِطَاعَتِهِ.
وَمن ذهب إِلَى قَول الضَّحَّاك يسْتَدلّ أَيْضا بقوله
تَعَالَى: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل
مِنْكُم ... } (الْأَنْعَام: 031) . الْآيَة.
النَّوْع الْعَاشِر: فِي بَيَان فِرَقِ الْجِنّ قد أخبر
الله تَعَالَى عَن الْجِنّ أَنهم قَالُوا: {وَأَنا منَّا
الصالحون ومنَّا دون ذَلِك كُنَّا طرائق قدداً} (الْجِنّ:
11) . أَي: مَذَاهِب شَتَّى مُسلمُونَ ويهود، وَكَانَ جن
نَصِيبين يهوداً. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي (كتاب
النَّاسِخ والمنسوخ) : حَدثنَا مطلب بن زِيَاد عَن
السّديّ، قَالَ: فِي الْجِنّ قدرية ومرجئة وشيعة، وَحكى
السّديّ أَيْضا عَن أشياخه أَن فِي الْجِنّ الْمُؤمن
وَالْكَافِر والمعتزلة والجهمية وَجَمِيع الْفرق.
فَوَائِد: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الشَّيَاطِين
أَوْلَاد إِبْلِيس لَا يموتون إلاَّ مَعَه، وَالْجِنّ
يموتون قبله. وَقَالَ إِسْحَاق: قَالَ أَبُو روق عَن
عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما خلق الله شوما
أَبَا الْجِنّ، وَهُوَ الَّذِي خلق من مارج من نَار،
فَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى: تمنَّ. فَقَالَ: أتمنَّى أَن
نَرى وَلَا نُرى، وَأَن نغيب فِي الثرى، وَأَن يصير كهلنا
شَابًّا. فَأعْطِي ذَلِك، فهم يَرون وَلَا يُرون، وَإِذا
مَاتُوا غَيَّبُوا فِي الثرى وَلَا يَمُوت كهلهم حَتَّى
يعود شَابًّا، يَعْنِي: مثل الصَّبِي ثمَّ يرد إِلَى أرذل
الْعُمر. وَسُئِلَ أَبُو الْبَقَاء العكبري الْحَنْبَلِيّ
عَن الْجِنّ: (هَل تصح الصَّلَاة خَلفهم؟ قَالَ: نعم،
لأَنهم مكلفون، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل
إِلَيْهِم.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ ألَمْ
يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}
إِلَى قَوْلِهِ {عَمَّا يَعْمَلُون} (الْأَنْعَام: 031) .
اللَّام فِي: لقَوْله، للتَّعْلِيل للتَّرْجَمَة لأجل
الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَجه الِاسْتِدْلَال إِن قَوْله
تَعَالَى: ينذرونكم، يدل على الْعقَاب، وَقَوله: {وَلكُل
دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} (الْأَنْعَام: 231، والأحقاف:
91) . يدل على الثَّوَاب، وَتَمام الْآيَة.
بَخْساً نَقْصاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يُؤمن
بربه فَلَا يخَاف بخساً} (الْجِنّ: 31) . فسر البخس بقوله:
(نقصا) قَالَ الْفراء: البخس: النَّقْص، والرهق: الظُّلم،
فدلت الْآيَة أَن من يكفر يخَاف، وَالْخَوْف يدل على كَون
الْجِنّ مكلفين لِأَن الْآيَة فيهم.
وقالَ مُجَاهِدٌ {وجعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ
نَسَباً} (الصافات: 851) . قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ
المَلاَئِكَةُ بَناتُ الله وأُمَّهَاتُهُمْ بَناتُ
سَرَوَاتِ الجِنِّ قَالَ الله: {ولَقَدْ عَلِمْتُ
الجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصافات: 851) .
ستُحْضَرُ لِلْحِسابِ {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} (ي س: 57) .
عِنْد الحِسَابِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تعال: {وَجعلُوا
بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} أَن كفار قُرَيْش قَالُوا:
إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله وَأُمَّهَات الْمَلَائِكَة
هن بَنَات سروات الْجِنّ أَي: ساداتهم، والسروات جمع سراة
جمع سري وَهُوَ نَادِر شَاذ، لِأَن فعلات لَا يجمع على
فعلة، كَذَا قَالَه صَاحب (التَّوْضِيح) ، وَلَيْسَ
كَذَلِك، وَالصَّوَاب مَا قَالَه الْجَوْهَرِي: السرو سخاء
فِي مُرُوءَة، يُقَال: سرا يسرو سري بِالْكَسْرِ يسري
سرواً فيهمَا، وسرو يسرو سراوة، أَي: صَار سرياً، وَجمع
السّري: سراة، وَهُوَ جمع عَزِيز أَن يجمع فعيل على فعلة،
وَلَا يعرف غَيره، وَجمع السراة سراوات، وَأثر مُجَاهِد
الْمُعَلق أخرجه ابْن جرير من حَدِيث ابْن أبي نجيح عَنهُ
بِزِيَادَة، فَقَالَ أَبُو بكر: فَمن أمهاتهن؟ فَقَالُوا:
بَنَات سروات الْجِنّ، يحسبون أَنهم خلقُوا مِمَّا خلق
مِنْهُ إِبْلِيس، لَعنه الله. انْتهى. وَوَقع هَهُنَا
أمهاتهن، وَالصَّوَاب: أمهاتهم، مثل مَا وَقع فِي رِوَايَة
البُخَارِيّ. قَوْله قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد علمت
الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون} (الصافات: 851) . وَقَبله:
{وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} (الصافات: 851) .
أَي: جعل مشركو مَكَّة بَينه أَي: بَين الله وَبَين
الْجنَّة نسبا، وَهُوَ زعمهم أَن الْمَلَائِكَة بَنَات
الله سموا الْمَلَائِكَة جنَّة لاجتنانهم عَن الْأَبْصَار،
وَالْمعْنَى: جعلُوا بِمَا قَالُوهُ نِسْبَة بَين الله
وَبَين الْمَلَائِكَة، وأثبتوا بذلك جنسية جَامِعَة لله
وللملائكة تعال الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا، وَقَالَ
الْكَلْبِيّ: قَالُوا لعنهم الله بل تزوج من الْجِنّ فَخرج
مِنْهَا الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُم: الْجِنّ، وَمِنْهُم
إِبْلِيس هم بَنَات الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك، وَقَالَ
الْحسن: أشركوا الشَّيْطَان فِي عبَادَة الله فَهُوَ
النّسَب الَّذِي
(15/185)
جَعَلُوهُ. قَوْله: {وَلَقَد علمت الْجنَّة
إِنَّهُم} (الصافات: 851) . أَي: إِن قائلي هَذَا القَوْل
{لمحضرون} (الصافات: 851) . فِي النَّار، وَإِذا فسرت
الْجنَّة بالشياطين يجوز أَن يكون الضَّمِير فِي:
إِنَّهُم، للشياطين، وَالْمعْنَى: وَلَقَد علمت
الشَّيَاطِين إِنَّهُم لمحضرون يَعْنِي: أَن الله يحضرهم
فِي النَّار ويعذبهم. قَوْله: {جند محضرون} (ي س: 57) .
هَذَا فِي آخر سُورَة يس، وَلَا تعلق لَهُ بالجن، لَكِن
ذكر لمناسبة الْإِحْضَار لِلْحسابِ، وَأول الْآيَة
{وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ لَا
يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم وهم لَهُم جند محضرون} (ي س: 57) .
أَشَارَ الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة إِلَى زِيَادَة
ضلالهم ونهايتها، فَإِنَّهُ كَانَ الْوَاجِب عَلَيْهِم
عبَادَة الله شكرا لأنعمه فكفروها، وَأَقْبلُوا على
عبَادَة من لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ لَعَلَّهُم
ينْصرُونَ، أَي: ليمنعهم من عَذَاب الله، وَلَا يكون ذَلِك
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم، أَي: خَابَ أملهم، وَالْأَمر
على خلاف مَا توهموا وتوقعوا، وهم لَهُم جند محضرون
لعذابهم لأَنهم مَعَ أوثانهم فِي النَّار، فَلَا يدْفع
بَعضهم عَن بعض النَّار لأَنهم يجْعَلُونَ وقود النَّار.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُقَال: لفظ: آلِهَة،
فِي الْآيَة متناول للجن لأَنهم أَيْضا اتخذوهم معابيد،
وَالله أعلم. قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى وَجه
مُنَاسبَة ذكر قَوْله: {جند محضرون} (يَس: 57) . هَهُنَا
بِمَا ذكره هُوَ، وَقَالَ بَعضهم: وَقع فِي رِوَايَة
الْكشميهني: (جند محْضر) ، بِالْإِفْرَادِ. قلت:
الصَّوَاب: محضرون، لِأَن الْقُرْآن هَكَذَا.
31 - (بابُ قَوْلِ الله جَلَّ وعَزَّ: {وإذْ صَرَفْنَا
إلَيْكَ نَفَرَاً مِنَ الجِنِّ} إِلَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ
فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (الْأَحْقَاف: 92 23) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذ صرفنَا} (الْأَحْقَاف: 92 23) . فَعَن قريب نذْكر
تَفْسِير: صرفنَا، وَتَمام الْآيَة وَمَا بعْدهَا إِلَى
قَوْله: {أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين} (الْأَحْقَاف: 92 23)
. هُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَمِعُون الْقُرْآن فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا فَلَمَّا قضى ولوا إِلَى
قَومهمْ منذرين قَالُوا يَا قَومنَا إِنَّا سمعنَا كتابا
أنزل من بعد مُوسَى مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ يهدي إِلَى
الْحق وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم يَا قَومنَا أجِيبُوا
دَاعِي الله وآمنوا بِهِ يغْفر لكم من ذنوبكم ويُجِركم من
عَذَاب أَلِيم وَمن لَا يجب دَاعِي الله فَلَيْسَ بمعجز
فِي الأَرْض وَلَيْسَ لَهُ من دونه أَوْلِيَاء أُولَئِكَ
فِي ضلال مُبين} (الْأَحْقَاف: 92 23) . وَإِنَّمَا ذكر
بعض هَذِه الْآيَة ثمَّ قَالَ إِلَى قَوْله أُولَئِكَ فِي
ضلال مُبين إِشَارَة إِلَى أُمُوره الأول فِيهِ دلَالَة
على وجود الْجِنّ. الثَّانِي: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن فِي
الْجِنّ مُؤمنين. الثَّالِث: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن
الْمُؤمنِينَ مِنْهُم لَهُم الثَّوَاب والكافرين مِنْهُم
عَلَيْهِم الْعقَاب. قَوْله: (وَإِذ صرفنَا) ، الْعَامِل
فِي: وَإِذ، مَحْذُوف تَقْدِيره: وَاذْكُر حِين صرفنَا
إِلَيْك، وَنَذْكُر معنى: صرفنَا، حِين ذكره البُخَارِيّ
عَن قريب، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما بَين الله تَعَالَى
أَن الْإِنْس مِنْهُم من آمن وَمِنْهُم من كفر، بَين أَن
الْجِنّ أَيْضا مِنْهُم من آمن وَمِنْهُم من كفر، وَأَن
مؤمنهم معرض للثَّواب وَأَن كافرهم معرض للعقاب. قَوْله:
(نَفرا) مفعول: صرفنَا، والنفر دون الْعشْرَة، وملاقاة
هَؤُلَاءِ الْجِنّ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حِين انْصَرف من الطَّائِف رَاجعا إِلَى مَكَّة حِين يئس
من خبر ثَقِيف، حَتَّى إِذا كَانَ بنخلة قَامَ من جَوف
اللَّيْل يُصَلِّي، فَمر بِهِ نفر من جن أهل نَصِيبين،
وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن الْجِنّ كَانَت تسْتَرق السّمع،
فَلَمَّا
(15/186)
حرست السَّمَاء وَرَجَمُوا بِالشُّهُبِ،
قَالَ إِبْلِيس: إِن هَذَا الَّذِي حدث فِي السَّمَاء
لشَيْء حدث فِي الأَرْض. فَبعث سَرَايَا ليعرف الْخَبَر
فَكَانَ أول بعث ركب من أهل نَصِيبين، وهم أَشْرَاف
الْجِنّ وساداتهم، فبعثهم إِلَى تهَامَة فاندفعوا حَتَّى
بلغُوا وَادي نَخْلَة فوجدوا رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي صَلَاة الْغَدَاة وَيَتْلُو
الْقُرْآن. فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: أَنْصتُوا
يَعْنِي: اصغوا إِلَى قِرَاءَته. قَوْله: (فَلَمَّا قضى)
أَي: فَلَمَّا فرغ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من تِلَاوَته،
ولوا أَي: رجعُوا إِلَى قَومهمْ منذرين، أَي: محذرين
عَذَاب الله إِن لم يُؤمنُوا. قَوْله: (قَالُوا: يَا
قَومنَا) يَعْنِي: قَالُوا لَهُم إِنَّا سمعنَا كتابا أنزل
من بعد مُوسَى، ذهب بَعضهم إِلَى أَنهم كَانُوا يهود،
وَلِهَذَا قَالُوا: من بعد مُوسَى، وَعَن ابْن عَبَّاس:
كَانَت الْجِنّ لم تسمع بِأَمْر عِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك قَالُوا: من بعده مُوسَى.
قَوْله: (مُصدقا) صفة لقَوْله: كتابا، يَعْنِي: مُصدقا لما
بَين يَدَيْهِ من الْكتب. قَوْله: (يهدي إِلَى الْحق) ،
صفة للْكتاب بعد صفة، وَكَذَلِكَ قَوْله: إِلَى طَرِيق
مُسْتَقِيم، قَوْله: (قُولُوا) ، يَعْنِي: قَالُوا لقومهم
أجِيبُوا دَاعِي الله، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَوْله: (ويُجِرْكُم من عَذَاب أَلِيم) أَي: من
عَذَاب النَّار، وَقَالُوا أَيْضا: وَمن لَا يجب دَاعِي
الله، أَي: الرَّسُول، وَلم يُؤمن بِهِ. قَوْله: (فَلَيْسَ
بمعجز فِي الأَرْض) أَي: لَا يُنجي مِنْهُ مهرب وَلَا
يسْبق قَضَاءَهُ سَابق. قَوْله: (أَوْلِيَاء) أَي: أنصار
يمنعونه مِنْهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس أَن هَؤُلَاءِ الْجِنّ
كَانُوا سَبْعَة من جن نَصِيبين فجعلهم رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، رسلًا إِلَى قَومهمْ، وَقيل: كَانُوا
تِسْعَة، وَقيل: كَانُوا اثْنَي عشر ألفا. وَالسورَة
الَّتِي كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يقْرؤهَا سُورَة {إقرأ باسم رَبك} (العلق: 1) . وَذكر ابْن
دُرَيْد من أَسمَاء هَؤُلَاءِ الْجِنّ خَمْسَة، وهم: سامر
ومامر ومنسى وماسي والأحقب، وَذكر ابْن سَلام فِي
(تَفْسِيره) عَن ابْن مَسْعُود: وَمِنْهُم: عَمْرو ابْن
جَابر، وَذكر ابْن أبي الدُّنْيَا: زَوْبَعَة، وَمِنْهُم:
سرق، وَفِي (تَفْسِير عبد بن حميد) : كَانُوا من نِينَوَى،
وأتوه بنخلة وَقيل: بشعب الْحجُون.
مَصْرِفاً مَعْدِلاً
أَشَارَ بِهِ إلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلم يَجدوا
عَنْهَا مصرفاً} (الْكَهْف: 35) . وَفَسرهُ بقوله: معدلاً،
وَبِه فسر أَبُو عُبَيْدَة.
صَرَفْنا أيْ وجَّهْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة من
قَوْله: {وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ}
(الْأَحْقَاف: 92) . وَفسّر: صرفنَا، بقوله: وجهنا، وَقيل:
مَعْنَاهُ أملنا إِلَيْك، وَقيل: أَقبلنَا بهم نَحْوك،
وَقيل ألجأناهم، وَقيل: وفقناهم بصرفنا إيَّاهُم عَن
بِلَادهمْ إِلَيْك، وَالله أعلم.
41 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالى {وبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ} (الْبَقَرَة: 461) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {وَبث
فِيهَا من كل دَابَّة} (الْبَقَرَة: 461) .
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الحَيَّةُ الذَّكَرُ
مِنْهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا هِيَ
ثعبان مُبين} (الْأَعْرَاف: 701، وَالشعرَاء: 23) .
وَهَذَا التَّعْلِيق أخرجه الطَّبَرِيّ فِي (تَفْسِيره) من
حَدِيث شهر ابْن حَوْشَب عَنهُ، حَيْثُ قَالَ فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} (الْأَعْرَاف: 701،
وَالشعرَاء: 23) . وَفسّر الثعبان بِأَنَّهُ الْحَيَّة
الذّكر، وَقيد بقوله: الذّكر، لِأَن لفظ الْحَيَّة يَقع
على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَلَيْسَت التَّاء فِيهِ
للتأنيث، وَإِنَّمَا هِيَ كتاء تَمْرَة ودجاجة، وَقد
رُوِيَ عَن الْعَرَب: رَأَيْت حَيا على حَيَّة، أَي: ذكرا
على أُنْثَى.
يُقَالُ: الحَيَّاتُ أجْنَاسٌ الجِنَّانُ والأفَاعِي
والأساوِدُ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ:
الْجنان أَجنَاس، وَقَالَ عِيَاض: وَالصَّوَاب هُوَ الأول،
والجنان، بِكَسْر الْجِيم وَتَشْديد النُّون وَبعد الْألف
نون أَيْضا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْجنان تكون فِي
الْبيُوت وَاحِدهَا جَان وَهُوَ الدَّقِيق الْخَفِيف،
والجان: الشَّيْطَان أَيْضا. قَوْله: (والأفاعي) جمع
أَفْعَى، وَهُوَ ضرب من الْحَيَّات، وَأهل الْحجاز
يَقُولُونَ: أفعو، وَجَاء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: لَا
بَأْس بقتل الأفعو، أَرَادَ: الأفعى، وقلب ألفها واواً فِي
الْوَقْف، وَمِنْهُم من يقلب الْألف يَاء فِي الْوَقْف،
وَبَعْضهمْ
(15/187)
يشدد الْوَاو وَالْيَاء وهمزته زَائِدَة،
والأفوعان، بِالضَّمِّ: ذكر الأفاعي، وكنية الأفعى أَبُو
حَيَّان، وَأَبُو يحيى لِأَنَّهُ يعِيش ألف سنة وَهُوَ
الشجاع الْأسود الَّذِي يواثب الْإِنْسَان، وَمن صفة
الأفعى إِذا فقئت عينهَا عَادَتْ وَلَا تغمض حدقتها
الْبَتَّةَ. قَوْله: (والأساود) جمع الْأسود، وَهُوَ
الْعَظِيم من الْحَيَّات، وَفِيه سَواد، وَيُقَال: هُوَ
أَخبث الْحَيَّات، وَيُقَال لَهُ: أسود سالخ لِأَنَّهُ
يسلخ جلده كل عَام، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ) : عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (أعوذ بِاللَّه
من أَسد وأسود) ، وَقيل: الْأسود: حَيَّة رقشاء دقيقة
الْعُنُق عريضة الرَّأْس، وَرُبمَا كَانَ ذَا قرنين.
وَقَالَ ابْن خالويه: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب أَسمَاء
الْجنان وصفاتها إلاَّ مَا أذكرهُ. وعد لَهَا نَحوا من
سبعين إسماً مِنْهَا: الشجاع الأرقم الْأسود الأفعى الأبتر
الأعيرج الأصلة الصل الجان الْجنان والجرارة والرتيلاء،
وَذكر الجاحظ أَيْضا أَنْوَاعهَا، مِنْهَا: المكللة
الرَّأْس، طولهَا شبران أَو ثَلَاثَة إِن حَاذَى جحرها
طَائِر سقط وَلَا يحس بهَا حَيَوَان إلاَّ هرب فَإِن قرب
مِنْهَا حدر وَلم يَتَحَرَّك وَتقتل بصفيرها، وَمن وَقع
عَلَيْهِ نظرها مَاتَ، وَمن نهشته ذاب فِي الْحَال، وَمَات
كل من قرب من ذَلِك الْمَيِّت من الْحَيَوَان، فَإِن
مَسهَا بعصا هلك بِوَاسِطَة الْعَصَا، وَقيل: إِن رجلا
طَعنهَا بِرُمْح فَمَاتَ هُوَ ودابته فِي سَاعَة وَاحِدَة
قَالَ: وَهَذَا الْجِنْس كثير بِبِلَاد التّرْك.
آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فِي مِلْكِهِ وسُلْطَانِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من
دَابَّة إلاَّ هُوَ آخذ بناصيتها} (هود: 65) . أَي: فِي
ملكه وسلطانه، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: فِي قَبضته
وَملكه وسلطانه، وَخص الناصية بِالذكر على عَادَة الْعَرَب
فِي ذَلِك تَقول: نَاصِيَة فلَان فِي يَد فلَان، إِذا
كَانَ فِي طَاعَته، وَمن ثمَّة كَانُوا يجزون نَاصِيَة
الْأَسير إِذا أَطْلقُوهُ.
يُقَالُ صافَّاتٍ بُسْطٌ أجْنِحَتَهُنَّ يَقْبِضْنَ
يَضْرِبْنَ بِأجْنِحَتِهِنَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يرَوا
إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن} (الْملك: 91) . أَي:
باسطات أجنحتهن ضاربات بهَا، وروى ابْن أبي حَاتِم من
طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى:
{صافات} قَالَ: بسط أجنحتهن.
7923 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا هِشَامُ
بنُ يُوسُف حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سالِمٍ
عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّهُ سَمِعَ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ علَى المِنْبَرِ
يَقُولُ اقْتُلُوا الحَيَّاتِ واقْتُلُوا ذَا
الطُّفْيَتَيْنِ والأبْتَرَ فإنَّهُمَا يَطْمِسَانِ
البَصَرَ ويَسْقِطَانِ الحَبَلَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ذَا الطفيتين من جملَة
مَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الدَّابَّة، وَعبد الله بن
مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي، والْحَدِيث أخرجه
مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (ذَا الطفيتين) ، بِضَم الطَّاء وَسُكُون الْفَاء:
هُوَ ضرب من الْحَيَّات فِي ظَهره خطان أبيضان، والطفية
أَصْلهَا خوص الْمقل، فَشبه الْخط الَّذِي على ظهر هَذِه
الْحَيَّة بِهِ، وَرُبمَا قيل: لهَذِهِ الْحَيَّة، طفية
على معنى: ذَات طفية، وَقد يُسمى الشَّيْء باسم مَا
يجاوره، وَقيل: هما نقطان، حَكَاهُ القَاضِي، قَالَ
الْخَلِيل: وَهِي حَيَّة خبيثة. قَوْله: (والأبتر) هُوَ
مَقْطُوع الذَّنب. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: هُوَ
أَزْرَق اللَّوْن لَا تنظر إِلَيْهِ حَامِل إلاَّ أَلْقَت،
وَقيل: الأبتر الْحَيَّة القصيرة الذَّنب. قَالَ
الدَّاودِيّ: هُوَ الأفعى الَّتِي تكون قدر شبر أَو أَكثر
قَلِيلا. قَوْله: (يطمسان الْبَصَر) ، يمحوان نوره، وَفِي
رِوَايَة ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عمر: وَيذْهب الْبَصَر،
وَفِي حَدِيث عَائِشَة: فَإِنَّهُ يلْتَمس الْبَصَر.
قَوْله: (ويسقطان الْحَبل) ، ويروى (يستسقطان) بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ
الْجَنِين، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي مليكَة الَّتِي تَأتي
بعد أَحَادِيث: فَإِنَّهُ يسْقط الْوَلَد، وَفِي رِوَايَة
عَن عَائِشَة ستأتي بعد أَحَادِيث: وتصيب الْحَبل، وَفِي
رِوَايَة أُخْرَى عَنْهَا: تذْهب الْحَبل، وَالْكل
بِمَعْنى وَاحِد، وَإِنَّمَا أَمر بقتلها لِأَن الْجِنّ.
لَا تتمثل بهَا، وَلِهَذَا أَدخل البُخَارِيّ حَدِيث ابْن
عمر فِي الْبَاب وَنهى عَن قتل ذَوَات الْبيُوت، لِأَن
الْجِنّ تتمثل بهَا، قَالَه الدَّاودِيّ.
(قَالَ عبد الله فَبينا أَنا أطارد حَيَّة لأقتلها فناداني
أَبُو لبَابَة لَا تقتلها فَقلت إِن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أَمر بقتل الْحَيَّات
قَالَ إِنَّه نهى بعد ذَلِك عَن ذَوَات الْبيُوت وَهِي
العوامر)
(15/188)
أَي قَالَ عبد الله بن عمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قَوْله " أطارد حَيَّة " أَي أطلبها
وأتبعها لأقتلها أَي لِأَن أقتلها قَوْله " فناداني أَبُو
لبَابَة " بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة
الأولى واسْمه رِفَاعَة بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف
الْفَاء على الْأَصَح ابْن عبد الْمُنْذر الأوسي النَّقِيب
قَالَه الْكرْمَانِي وَفِي التَّوْضِيح اسْمه بشير بِفَتْح
الْبَاء وَكسر الشين الْمُعْجَمَة ابْن عبد الْمُنْذر بن
رِفَاعَة بن زنبور بن أُميَّة بن زيد بن مَالك بن عَوْف بن
عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن أَوْس رده رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الروحاء حِين خرج
إِلَى بدر وَاسْتَعْملهُ على الْمَدِينَة وَضرب لَهُ
بِسَهْم وأجره وَتُوفِّي بعد قتل عُثْمَان رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ وَأَخُوهُ مُبشر بن عبد الْمُنْذر شهد
بَدْرًا وَقتل بهَا وأخوهما رِفَاعَة بن عبد الْمُنْذر شهد
الْعقبَة وبدرا وَقتل بِأحد وَلَيْسَ لَهُ عقب ذَلِك كُله
ابْن سعد فِي الطَّبَقَات وَقَالَ أَبُو عمر بشير بن عبد
الْمُنْذر أَبُو لبَابَة الْأنْصَارِيّ غلبت عَلَيْهِ
كنيته وَاخْتلف فِي اسْمه فَقيل رِفَاعَة بن عبد الْمُنْذر
كَذَا قَالَه مُوسَى بن عقبَة عَن ابْن شهَاب وَكَذَا
قَالَ ابْن هِشَام وَخَلِيفَة وَقَالَ أَحْمد بن زُهَيْر
سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين يَقُولَانِ
أَبُو لبَابَة اسْمه رِفَاعَة بن عبد الْمُنْذر وَقَالَ
ابْن إِسْحَق كَانَ نَقِيبًا شهد الْعقبَة وَشهد بَدْرًا
وَزعم قوم أَنه والْحَارث بن حَاطِب خرجا مَعَ رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بدر فرجعهما
وَأمر أَبَا لبَابَة على الْمَدِينَة وَضرب لَهُ بِسَهْم
مَعَ أَصْحَاب بدر قَالَ ابْن هِشَام ردهما من الروحاء
وَقَالَ أَبُو عمر قد اسْتخْلف رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا لبَابَة على
الْمَدِينَة أَيْضا حِين خرج إِلَى غَزْوَة السويق وَشهد
مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أحدا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد وَكَانَت مَعَه راية بني
عَمْرو بن عَوْف فِي غَزْوَة الْفَتْح مَاتَ فِي خلَافَة
عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (قلت) لَيْسَ لَهُ فِي
الصَّحِيح إِلَّا هَذَا الحَدِيث قَوْله " قَالَ إِنَّه
نهى بعد ذَلِك " أَي قَالَ أَبُو لبَابَة أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى بعد أمره بقتل
الْحَيَّات عَن قتل ذَوَات الْبيُوت أَي الساكنات فِيهَا
وَيُقَال لَهَا الْجنان وَهِي حيات طوال بيض قَلما تضر
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن ابْن الْمُبَارك
أَنَّهَا الْحَيَّة الَّتِي تكون كَأَنَّهَا فضَّة وَلَا
تلتوي فِي مشيتهَا قَوْله " وَهِي العوامر " قيل أَنه من
كَلَام الزُّهْرِيّ مدرج فِي الْخَبَر وَقد بَينه معمر فِي
رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ فساق الحَدِيث وَقَالَ فِي
آخِره وَقَالَ وَهِي العوامر سميت بهَا لطول عمرها وَقَالَ
الْجَوْهَرِي عمار الْبيُوت سكانها من الْجِنّ وَقيل سميت
بهَا لطول لبثهن فِي الْبيُوت مَأْخُوذ من الْعُمر
بِالْفَتْح وَهُوَ طول الْبَقَاء وروى مُسلم من حَدِيث أبي
سعيد مَرْفُوعا أَن لهَذِهِ الْبيُوت عوامر فَإِذا
رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فَخَرجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا
فَإِن ذهب وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ وَمعنى فَخَرجُوا
عَلَيْهِ أَن يُقَال لَهُ أَنْت فِي حرج أَي ضيق إِن
لَبِثت عندنَا أَو ظَهرت لنا أَو عدت إِلَيْنَا وَمعنى
ثَلَاثًا أَي ثَلَاث مَرَّات وَقيل ثَلَاثَة أَيَّام وَإِن
كَانَت فِي الصحارى والأودية تقتل من غير إيذان لعُمُوم
قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خمس من
الفواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم فَذكر مِنْهُنَّ
الْحَيَّة وَجَاء فِي حَدِيث آخر " من تركهن مَخَافَة شرهن
فَلَيْسَ منا " ثمَّ اعْلَم أَن ظَاهر الحَدِيث
التَّعْمِيم فِي الْبيُوت وَعَن مَالك تَخْصِيصه ببيوت أهل
الْمَدِينَة وَقيل يخْتَص ببيوت المدن دون غَيرهَا
(وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر فرآني أَبُو لبَابَة أَو
زيد بن الْخطاب) عبد الرَّزَّاق بن همام الصَّنْعَانِيّ
وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد أَرَادَ بِهَذَا أَن معمرا روى
الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد على الشَّك
فِي اسْم الَّذِي لَقِي عبد الله بن عمر أَبُو لبَابَة أَو
زيد بن الْخطاب هُوَ أَخُو عمر بن الْخطاب لِأَبِيهِ وَله
فِي الصَّحِيح هَذَا الحَدِيث اسْتشْهد بِالْيَمَامَةِ
وَرِوَايَة عبد الرَّزَّاق هَذِه رَوَاهَا مُسلم وَلم يسق
لَفظهَا وَسَاقه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيقه
(وَتَابعه يُونُس وَابْن عُيَيْنَة وَإِسْحَاق الْكَلْبِيّ
والزبيدي) أَي تَابع معمرا يُونُس بن يزِيد على الشَّك فِي
اسْم الَّذِي لَقِي عبد الله بن عمر هَل هُوَ أَبُو
لبَابَة أَو زيد بن الْخطاب وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا
مُسلم وَلم يسق لَفظهَا وَسَاقه أَبُو عوَانَة قَوْله "
وَابْن عُيَيْنَة " أَي تَابع معمرا أَيْضا فِي الشَّك
سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا
مُسلم وَقَالَ حَدثنِي عَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد
حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم
عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " اقْتُلُوا الْحَيَّات وَذَات الطفيتين
والأبتر فَإِنَّهُمَا يستسقطان الْحَبل ويلتمسان الْبَصَر
" قَالَ فَكَانَ ابْن عمر يقتل كل حَيَّة وجدهَا
فَأَبْصَرَهُ أَبُو لبَابَة بن عبد الْمُنْذر أَو زيد بن
الْخطاب وَهُوَ يطارد حَيَّة فَقَالَ إِنَّه قد نهي عَن
ذَوَات الْبيُوت قَوْله " وَإِسْحَاق الْكَلْبِيّ أَي
تَابع معمرا أَيْضا فِي الشَّك إِسْحَاق بن يحيى
الْكَلْبِيّ الْحِمصِي قَوْله " والزبيدي " أَي تَابع
معمرا أَيْضا فِي الشَّك مُحَمَّد بن الْوَلِيد
(15/189)
الزبيدِيّ بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال
الْمُهْملَة الْحِمصِي وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا
مُسلم وَقَالَ حَدثنَا حَاجِب بن الْوَلِيد حَدثنَا
مُحَمَّد بن حَرْب عَن الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ
أَخْبرنِي سَالم بن عبد الله عَن ابْن عمر قَالَ سَمِعت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَأْمر بقتل الْكلاب يَقُول اقْتُلُوا الْحَيَّات
وَالْكلاب واقتلوا ذَا الطفيتين والأبتر فَإِنَّهُمَا
يلتمسان الْبَصَر " الحَدِيث وَفِيه بَينا أَنا أطارد
حَيَّة يَوْمًا من ذَوَات الْبيُوت مر بِي زيد بن الْخطاب
أَو أَبُو لبَابَة إِلَى آخِره
(وَقَالَ صَالح وَابْن أبي حَفْصَة وَابْن مجمع عَن
الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر رَآنِي أَبُو لبَابَة
وَزيد بن الْخطاب) صَالح هُوَ ابْن كيسَان الْهُذلِيّ
وَابْن أبي حَفْصَة اسْمه مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة وَاسم
أبي حَفْصَة ميسرَة الْبَصْرِيّ وَابْن مجمع بِضَم الْمِيم
وَفتح الْجِيم وَكسر الْمِيم وَقيل بِفَتْحِهَا وَهُوَ
إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن مجمع بن يزِيد بن حَارِثَة
بن عَامر بن مجمع بن العطاف بن ضبيعة بن زيد بن مَالك بن
عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن أَوْس الْأنْصَارِيّ
الْمدنِي وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة رووا الحَدِيث عَن
الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر
وَفِي روايتهم رَآنِي أَبُو لبَابَة وَزيد بن الْخطاب بواو
الْجمع بِلَا شكّ أما تَعْلِيق صَالح فوصله مُسلم من
حَدِيثه عَن أبي صَالح عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا
الْإِسْنَاد وَأَشَارَ بِهِ إِلَى الْإِسْنَاد الَّذِي
قبله ثمَّ قَالَ غير أَن صَالحا قَالَ حَتَّى رَآنِي أَبُو
لبَابَة بن عبد الْمُنْذر وَزيد بن الْخطاب فَقَالَا أَنه
قد نهي عَن ذَوَات الْبيُوت. وَأما تَعْلِيق ابْن أبي
حَفْصَة فوصله أَبُو أَحْمد بن عدي. وَأما تَعْلِيق ابْن
مجمع فوصله الْبَغَوِيّ وَابْن السكن فِي كتاب الصَّحَابَة
وَالله أعلم
(بَاب خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن خير مَال الْمُسلم غنم
وَهُوَ اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور
وعَلى الْإِنَاث وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِذا صغرتها
ألحقتها الْهَاء فَقلت غنيمَة لِأَن أَسمَاء الجموع
الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا إِذا كَانَت لغير
الْآدَمِيّين فالتأنيث فِيهَا لَازم قَوْله " شعف الْجبَال
" بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة
وبالفاء جمع شعفة وشعفة كل شَيْء أَعْلَاهُ وَيجمع على
شعاف أَيْضا وَالْمرَاد بِهِ هُنَا رَأس الْجبَال
102 - (حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس قَالَ حَدثنِي
مَالك عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن
بن أبي صعصعة عَن أَبِيه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي
الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُوشك أَن يكون خير مَال الرجل غنم
يتبع بهَا شعف الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من
الْفِتَن) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد
ذكرُوا غير مرّة والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي
بَاب من الدّين الْفِرَار من الْفِتَن فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره
نَحوه وَقَالَ الْكرْمَانِي روى بِنصب خير وَرفع غنم
وبرفعهما وبرفع الْخَيْر وَنصب الْغنم وَلم يذكر وَجه
ذَلِك فوجهه أَن فِي الأول نصب لِأَنَّهُ خبر يكون مقدما
وَرفع غنم لِأَنَّهُ اسْمه وَفِي الثَّانِي يكون تَامَّة
وَفِي الثَّالِث رفع خير لِأَنَّهُ اسْم يكون وَنصب غنم
لِأَنَّهُ خَبره قَوْله " ومواقع الْقطر " أَي الْمَطَر
يَعْنِي الأودية والصحارى وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوْفِي هُنَاكَ
103 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك
عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ رَأس الْكفْر نَحْو الْمشرق وَالْفَخْر
وَالْخُيَلَاء فِي أهل الْخَيل وَالْإِبِل والفدادين من
أهل الْوَبر والسكينة فِي أهل الْغنم)
(15/190)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فِي
الْغنم وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن
ذكْوَان والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى
عَن مَالك قَوْله " رَأس الْكفْر نَحْو الْمشرق " وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني " قبل الْمشرق " بِكَسْر الْقَاف
وَفتح الْبَاء أَي من جِهَته يُرِيد أَنه كَانَ فِي عَهده
حِين قَالَ ذَلِك وَفِيه إِشَارَة إِلَى شدَّة كفر
الْمَجُوس لِأَن مملكة الْفرس وَمن أطاعهم من الْعَرَب
كَانَت من جِهَة الْمشرق بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَدِينَة
وَكَانُوا فِي غَايَة الْقُوَّة وَالْكَثْرَة والتجبر
حَتَّى أَن ملكهم مزق كتاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والدجال أَيْضا يَأْتِي من الْمشرق
من قَرْيَة تسمى رستاباذ فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ وَمن
شدَّة أَكثر أهل الْمشرق كفرا وطغيانا أَنهم كَانُوا
يعْبدُونَ النَّار وَأَن نارهم مَا انطفأت ألف سنة وَكَانَ
الَّذين يخدمونها وهم السَّدَنَة خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف
رجل قَوْله " وَالْفَخْر " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
مَشْهُور وَمِنْه إعجاب النَّفس قَوْله " وَالْخُيَلَاء "
بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف
مُخَفّفَة وبالمد الْكبر واحتقار غَيره قَوْله " والفدادين
" قَالَ الْخطابِيّ الفدادون يُفَسر على وَجْهَيْن أَن
يكون جمعا للفداد وَهُوَ الشَّديد الصَّوْت من الفديد
وَذَلِكَ من دأب أَصْحَاب الْإِبِل إِذا رويته بتَشْديد
الدَّال من فد إِذا رفع صَوته وَالْوَجْه الآخر أَنه جمع
الفدان وَهُوَ آلَة الْحَرْث وَذَلِكَ إِذا رويته
بِالتَّخْفِيفِ يُرِيد أهل الْحَرْث وَقَالَ الْقَزاز
الفدادون بتَشْديد الدَّال جمع فداد وَهُوَ من بلغت إبِله
مِائَتَيْنِ وألفا إِلَى أَكثر وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة
نَحوه وهم المكثرون من الْإِبِل جُفَاة وَأهل خُيَلَاء
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس هم الجمالون والرعيان والبقارون
والحمالون وَقَالَ الْأَصْمَعِي هم الَّذين تعلو
أَصْوَاتهم فِي حروثهم وَأَمْوَالهمْ ومواشيهم قَالَ
والفديد الصَّوْت الشَّديد وَقَالَ أَبُو عَمْرو
الشَّيْبَانِيّ هُوَ بِالتَّخْفِيفِ جمع فداد
بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ عبارَة عَن الْبَقَرَة الَّتِي يحرث
عَلَيْهَا وَأَهْلهَا أهل جفَاء لبعدهم حَكَاهُ أَبُو
عُبَيْدَة وَأنكر عَلَيْهِ وعَلى هَذَا المُرَاد بذلك
أَصْحَابهَا بِحَذْف مُضَاف وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أما
الحَدِيث فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا رِوَايَة التَّشْدِيد
وَهُوَ الصَّحِيح على مَا قَالَه الْأَصْمَعِي وَغَيره
وَقَالَ ابْن فَارس فِي الحَدِيث الْجفَاء وَالْقَسْوَة
فِي الْفَدادِين قَالَ يُرِيد أَصْحَاب الحروث والمواشي
قَالَ فديدهم أَصْوَاتهم وجلبتهم وَقَالَ الْخطابِيّ
إِنَّمَا ذمّ هَؤُلَاءِ لاشتغالهم بمعالجة مَا هم عَلَيْهِ
عَن أُمُور دينهم وتلهيهم عَن أَمر الْآخِرَة وَتَكون
مِنْهَا قساوة الْقلب وَنَحْوهَا قَوْله " من أهل الْوَبر
" بِفَتْح الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة هُوَ بَيَان
الْفَدادِين وَالْمرَاد مِنْهُ ضد أهل الْمدر فَهُوَ
كِنَايَة عَن سكان الصحارى قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن
أُرِيد الْوَجْه الأول من الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي اللَّذين
ذكرهمَا الْخطابِيّ فَهُوَ تَعْمِيم بعد تَخْصِيص
وَاسْتشْكل بَعضهم ذكر الْوَبر بعد ذكر الْخَيل وَقَالَ
لِأَن الْخَيل لَا وبر لَهَا وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا
إِشْكَال فِيهِ لِأَن قَوْله من أهل الْوَبر بَيَان
الْفَدادِين كَمَا ذَكرْنَاهُ قَوْله " والسكينة فِي
الْغنم " أَي السّكُون والطمأنينة وَالْوَقار والتواضع
وَقَالَ ابْن خالويه السكينَة مصدر سكن سكينَة وَلَيْسَ
فِي المصادر لَهُ شَبيه إِلَّا قَوْلهم عَلَيْهِ ضريبة أَي
خراج مَعْلُوم
103 - (حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن
إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنِي قيس عَن عقبَة بن عَمْرو أبي
مَسْعُود قَالَ أَشَارَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن فَقَالَ
الْإِيمَان يمَان هُنَا أَلا إِن الْقَسْوَة وَغلظ
الْقُلُوب فِي الْفَدادِين عِنْد أصُول أَذْنَاب الْإِبِل
حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان فِي ربيعَة وَمُضر) هَذَا
الحَدِيث وَمَا بعده من الْأَحَادِيث الَّتِي لَيْسَ
بَينهَا وَبَين التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة مُطَابقَة
وَلَا مُنَاسبَة وَإِنَّمَا كَانَ اللَّائِق أَن تكون
هَذِه التَّرْجَمَة لحَدِيث ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة
فَقَط لِأَن فيهمَا ذكر الْغنم والبقية كَانَ يَنْبَغِي
أَن تكون فِي التَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ بَاب قَوْله
تَعَالَى {وَبث فِيهَا من كل دَابَّة} لوُجُود
الْمُطَابقَة فِيهَا قيل وَلِهَذَا سَقَطت هَذِه
التَّرْجَمَة من رِوَايَة النَّسَفِيّ وَلم يذكرهَا أَيْضا
الْإِسْمَاعِيلِيّ (ذكر رجال الحَدِيث) يحيى هُوَ ابْن
سعيد الْقطَّان وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد وَقيس بن أبي
حَازِم البَجلِيّ وَعقبَة بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ البدري
وكنيته أَبُو مَسْعُود والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن ابْن الْمثنى عَن يحيى وَفِي
مَنَاقِب
(15/191)
قُرَيْش عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي
الْمَغَازِي عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن أبي بكر عَن أبي أُسَامَة وَعَن مُحَمَّد
بن عبد الله بن نمير وَعَن أبي كريب وَعَن يحيى بن حبيب
(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَشَارَ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن "
لِأَنَّهُ كَانَ بتبوك وَقَالَ هَذَا القَوْل وَأَشَارَ
إِلَى نَاحيَة الْيمن وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدينَة
يَوْمئِذٍ بَينه وَبَين الْيمن وَقيل قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا القَوْل وَكَانَ
بِالْمَدِينَةِ لِأَن كَونهَا هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ
وعَلى هَذَا تكون الْإِشَارَة إِلَى سِيَاق أهل الْيمن
وَقَالَ النَّوَوِيّ أَشَارَ إِلَى الْيمن وَهُوَ يُرِيد
مَكَّة وَالْمَدينَة ونسبهما إِلَى الْيمن لِكَوْنِهِمَا
من ناحيته قَوْله " الْإِيمَان يمَان " إِنَّمَا قَالَ
ذَلِك لِأَن الْإِيمَان بَدَأَ من مَكَّة وَهِي من تهَامَة
وتهامة من أَرض الْيمن وَلِهَذَا يُقَال الْكَعْبَة
اليمانية وَقيل إِنَّمَا قَالَ هَذَا القَوْل للْأَنْصَار
لأَنهم يمانون وهم نصروا الْإِيمَان وَالْمُؤمنِينَ وآووهم
فنسب الْإِيمَان إِلَيْهِم وَهَذَا غَرِيب وَأغْرب مِنْهُ
قَول الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ أَنه إِشَارَة إِلَى أويس
الْقَرنِي وَقيل سَبَب الثَّنَاء على أهل الْيمن إسراعهم
إِلَى الْإِيمَان وَحسن قبولهم للبشرى حِين لم يقبلهَا
بَنو تَمِيم وَفِي رِوَايَة أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين
قلوبا وأرق أَفْئِدَة يُرِيد بلين الْقُلُوب سرعَة خلوص
الْإِيمَان فِي قُلُوبهم وَيُقَال الْفُؤَاد غشاء الْقلب
وَالْقلب جثته وسويداؤه فَإِذا رق الغشاء أسْرع نُفُوذ
الشَّيْء إِلَى مَا وَرَاءه وَقَالَ أَبُو عبيد إِنَّمَا
بَدَأَ الْإِيمَان من مَكَّة لِأَنَّهَا مولده ومبعثه ثمَّ
هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَيُقَال أَن مَكَّة من أَرض
تهَامَة وتهامة من أَرض الْيمن وَلِهَذَا سمى مَكَّة وَمَا
وَليهَا من أَرض الْيمن تهائم فمكة على هَذَا يَمَانِية
فَإِن قلت الْإِيمَان يمَان مُبْتَدأ وَخبر فَكيف يَصح حمل
الْيَمَان عَلَيْهِ قلت أَصله الْإِيمَان يماني بياء
النِّسْبَة فحذفوا الْيَاء للتَّخْفِيف كَمَا قَالُوا
تهامون وأشعرون وسعدون قَوْله " أَلا إِن الْقَسْوَة وَغلظ
الْقُلُوب " قَالَ السُّهيْلي إنَّهُمَا لمسمى وَاحِد
كَقَوْلِه " إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله " البث
هُوَ الْحزن وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ الْقَسْوَة يُرَاد بهَا
أَن تِلْكَ الْقُلُوب لَا تلين وَلَا تخشع لموعظة وغلظها
عدم فهمها وَقد مضى تَفْسِير الْفَدادِين قَوْله " عِنْد
أصُول أَذْنَاب الْإِبِل " أَي أَنهم يبعدون عَن
الْأَنْصَار فيجهلون معالم دينهم قَالَه الدَّاودِيّ
قَوْله " حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان " أَي جانبا رَأسه
وَقَالَ الْخطابِيّ ضرب الْمثل بقرني الشَّيْطَان فِيمَا
لَا يحمد من الْأُمُور وَالْمرَاد بذلك اخْتِصَاص الْمشرق
بمزيد تسلط من الشَّيْطَان وَمن الْكفْر قَوْله " فِي
ربيعَة وَمُضر " يتَعَلَّق بقوله فِي الْفَدادِين أَي
المصوتين عِنْد أَذْنَاب الْإِبِل وَهُوَ فِي جِهَة
الْمشرق حَيْثُ هُوَ مسكن هَاتين القبيلتين ربيعَة وَمُضر
قَالَ الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يكون فِي ربيعَة وَمُضر
بَدَلا من الْفَدادِين وَعبر عَن الْمشرق بقوله حَيْثُ
يطلع قرنا الشَّيْطَان وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان ينْتَصب
فِي محاذاة مطلع الشَّمْس حَتَّى إِذا طلعت كَانَت بَين
قَرْني رَأسه أَي جانبيه فَتَقَع السَّجْدَة حِين تسْجد
عَبدة الشَّمْس لَهَا
104 - (حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن
جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا سَمِعْتُمْ صياح الديكة فاسألوا
الله من فَضله فَإِنَّهَا رَأَتْ ملكا وَإِذا سَمِعْتُمْ
نهيق الْحمار فتعوذوا بِاللَّه من الشَّيْطَان فَإِنَّهُ
رأى شَيْطَانا) جَعْفَر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل بن
حَسَنَة الْقرشِي من أهل مصر يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن
هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة وَهَذَا الحَدِيث
أخرجه الْأَئِمَّة الْخَمْسَة عَن شيخ وَاحِد وَهُوَ
قُتَيْبَة بن سعيد فَالْبُخَارِي هُنَا عَن قُتَيْبَة عَن
اللَّيْث بن سعد وَمُسلم عَنهُ فِي الدَّعْوَات وَأَبُو
دَاوُد عَنهُ فِي الْأَدَب وَالتِّرْمِذِيّ عَنهُ فِي
الدَّعْوَات وَالنَّسَائِيّ عَنهُ فِي التَّفْسِير وَفِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة الْكل عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث
قَوْله " الديكة " بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَفتح
الْيَاء آخر الْحُرُوف جمع ديك وَيجمع فِي الْقلَّة على
أدياك وَفِي الْكَثْرَة على ديوك وديكة وَأَرْض مداكة
ومديكة كَثِيرَة الديوك وَقَالَ ابْن سَيّده الديك ذكر
الدَّجَاج وَعَن الدَّاودِيّ وَقد يُسمى الديك دجَاجَة
والدجاجة تقع على الذّكر وَالْأُنْثَى قَوْله " فَإِنَّهَا
رَأَتْ ملكا " بِفَتْح اللَّام فَلذَلِك أَمر بِالدُّعَاءِ
عِنْد صياحها لتؤمن الْمَلَائِكَة على ذَلِك وَتَسْتَغْفِر
لَهُ وَتشهد لَهُ بالتضرع وَالْإِخْلَاص فيوافق
الدَّعْوَات فَتَقَع الْإِجَابَة وَمِنْهَا يُؤْخَذ
اسْتِحْبَاب الدُّعَاء عِنْد حُضُور الصَّالِحين وَفِي
صَحِيح ابْن حبَان " لَا تسبوا الديك فَإِنَّهُ يَدْعُو
إِلَى الصَّلَاة "
(15/192)
وَفِي رِوَايَة الْبَزَّار صرخَ ديك قريب
من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَقَالَ رجل اللَّهُمَّ العنه فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَه كلا إِنَّه يَدْعُو
إِلَى الصَّلَاة " وللديك خاصية لَيست لغيره من معرفَة
الْوَقْت الليلي فَإِنَّهُ يقسط أصواته فِيهَا تقسيطا لَا
يكَاد يخطأ ويوالي صياحه قبل الْفجْر وَبعده سَوَاء طَال
اللَّيْل أَو قصر وَفِيه دلَالَة أَن الله تَعَالَى جعل
للديك إدراكا وَكَذَلِكَ جعل للحمير وَإِن كل نوع من
الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين مَوْجُود قطعا قَوْله " نهيق
الْحمار " وَهُوَ صَوته الْمُنكر وَإِنَّمَا أَمر بالتعوذ
عِنْده لحضور الشَّيْطَان فيخاف من شَره فيتعوذ مِنْهُ
وروى أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي ترغيبه من حَدِيث
أبي رَافع قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا ينهق الْحمار حَتَّى يرى
شَيْطَانا أَو يمثل لَهُ شَيْطَان فَإِذا كَانَ كَذَلِك
فاذكروا الله تَعَالَى وصلوا عَليّ " (فَائِدَة) قَالَ
الدَّاودِيّ يَنْبَغِي أَن يتَعَلَّم من الديك خَمْسَة
أَشْيَاء حسن الصَّوْت. وَالْقِيَام بِالسحرِ. والسخاء.
والغيرة. وَكَثْرَة النِّكَاح
105 - (حَدثنَا إِسْحَق قَالَ أخبرنَا روح قَالَ أخبرنَا
ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي عَطاء سمع جَابر بن عبد الله
رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا كَانَ جنح اللَّيْل
أَو أمسيتم فكفوا صِبْيَانكُمْ فَإِن الشَّيَاطِين
تَنْتَشِر حِينَئِذٍ فَإِذا ذهب سَاعَة من اللَّيْل فحلوهم
وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب واذْكُرُوا اسْم الله فَإِن
الشَّيْطَان لَا يفتح بَابا مغلقا قَالَ وَأَخْبرنِي
عَمْرو بن دِينَار سمع جَابر بن عبد الله نَحْو مَا
أَخْبرنِي عَطاء وَلم يذكر واذْكُرُوا اسْم الله) إِسْحَاق
هَذَا هُوَ ابْن رَاهَوَيْه كَمَا عِنْد أبي نعيم وَقَالَ
الْكرْمَانِي هُوَ إِسْحَاق بن مَنْصُور (قلت) هُوَ ابْن
مَنْصُور بن كوسج أَبُو يَعْقُوب الْمروزِي وَقد حدث كل من
إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَإِسْحَاق بن مَنْصُور عَن روح بن
عبَادَة فَيحْتَمل أَن يكون إِسْحَق هَذَا الَّذِي ذكره
مُجَردا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَو يكون إِسْحَق بن
مَنْصُور وَالظَّاهِر أَنه إِسْحَق بن مَنْصُور لِأَن
البُخَارِيّ قَالَ فِي بَاب ذكر الْجِنّ وَتَفْسِير
الْبَقَرَة والرقاق حَدثنَا إِسْحَق حَدثنَا روح وَحدث فِي
الصَّلَاة فِي موضِعين وَفِي الْأَشْرِبَة فِي غير مَوضِع
عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن روح وَحدث فِي تَفْسِير
سُورَة الْأَحْزَاب وَسورَة (ص) عَن إِسْحَق بن
إِبْرَاهِيم عَن روح وَهُوَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن
جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَعَطَاء
هُوَ ابْن أبي رَبَاح والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي بَاب
صفة إِبْلِيس من وَجه آخر فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن يحيى بن
جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن ابْن
جريج إِلَى آخِره وَبَين متنيهما مُغَايرَة بِزِيَادَة
ونقصان وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ قَوْله " قَالَ
وَأَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار " أَي قَالَ ابْن جريج
وَأَخْبرنِي عَمْرو بن دِينَار بِهَذَا الحَدِيث عَن جَابر
بن عبد الله وَلم يذكر فِيهِ واذْكُرُوا اسْم الله كَمَا
ذكر عَطاء فِي رِوَايَته عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ
106 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا وهيب عَن
خَالِد عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ
عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ فقدت أمة من بني إِسْرَائِيل وَلَا يدرى مَا فعلت
وَإِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا الفأر إِذا وضع لَهَا ألبان
الْإِبِل لم تشرب وَإِذا وضع لَهَا ألبان الشَّاء شربت
فَحدثت كَعْبًا فَقَالَ أَنْت سَمِعت النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُوله قلت نعم قَالَ لي
مرَارًا فَقلت أفأقرأ التَّوْرَاة) وهيب بِالتَّصْغِيرِ
هُوَ ابْن خَالِد وخَالِد هُوَ الْحذاء وَمُحَمّد هُوَ
ابْن سِيرِين وَهَؤُلَاء كلهم بصريون والْحَدِيث أخرجه
مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم
وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن عبد الله الْأَزْدِيّ
قَوْله " فقدت أمة " أَي طَائِفَة مِنْهُم فقدوا لَا يدرى
مَا وَقع لَهُم قَوْله " وَإِنِّي لَا أَرَاهَا " أَي لَا
أظنها مسخها الله إِلَّا الفأر وَهُوَ جمع فَأْرَة قَوْله
" إِذا وضع لَهَا إِلَى قَوْله شربت " دَلِيل على أَن
الَّتِي مسخت هِيَ الفأر أَن بني إِسْرَائِيل لم يَكُونُوا
يشربون ألبان الْإِبِل والفأر أَيْضا لَا يضْربهَا وَقَالَ
(15/193)
التِّرْمِذِيّ فِي تَفْسِير سُورَة يُوسُف
بِإِسْنَادِهِ قَالَ الْيَهُود لرَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبرنَا عَمَّا حرم
إِسْرَائِيل على نَفسه قَالَ اشْتَكَى عرق النِّسَاء فَلم
يجد شَيْئا يلائمه إِلَّا لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا
فَلذَلِك حرمهما قَالُوا صدقت قَوْله الشَّاء جمع شَاة
قَوْله فَحدثت كَعْبًا وَهُوَ كَعْب بن ماتع بِكَسْر
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمَشْهُور بكعب
الْأَحْبَار قَالَ الْكرْمَانِي أسلم فِي خلَافَة الصّديق
وَمَات فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قلت كَعْب بن ماتع الْحِمْيَرِي أَبُو إِسْحَاق
من آل ذِي رعين وَيُقَال من ذِي الكلاع ثمَّ من بني ميتم
وَهُوَ من مسلمة أهل الْكتاب أدْرك النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأسلم فِي خلَافَة عمر بن
الْخطاب وَيُقَال فِي خلَافَة أبي بكر وَيُقَال أدْرك
الْجَاهِلِيَّة وروى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا وَقَالَ ابْن سعد وَكَانَ
على دين يهود فَأسلم وَقدم الْمَدِينَة ثمَّ خرج إِلَى
الشَّام فسكن حمص حَتَّى توفّي بهَا سنة ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَوْله " يَقُول " جملَة حَالية أَي يَقُول النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " قَالَ لي
مرَارًا " يَعْنِي قَالَ كَعْب مرَارًا أَنْت سَمِعت
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله "
قلت " الْقَائِل هُوَ أَبُو هُرَيْرَة أفأقرأ التَّوْرَاة
الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار وَفِيه
تَعْرِيض لكعب الْأَحْبَار بِأَنَّهُ كَانَ على دين
الْيَهُود قبل الْإِسْلَام وَالْحَاصِل أَن أَبَا
هُرَيْرَة قَالَ أَنا أَقرَأ التَّوْرَاة حَتَّى أنقل
مِنْهَا وَلَا أَقُول إِلَّا من السماع عَن رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي سكُوت كَعْب
عَن الرَّد على أبي هُرَيْرَة دَلِيل على تورعه وروى مُسلم
فَقَالَ حَدثنِي أَبُو كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء قَالَ
حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن مُحَمَّد عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ الْفَأْرَة مسخ وَآيَة ذَلِك أَنه يوضع
بَين يَديهَا لبن الْغنم فتشربه وَيُوضَع بَين يَديهَا لبن
الْإِبِل فَلَا تذوقه قَالَ لَهُ كَعْب أسمعت هَذَا من
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
أفأنزلت على التَّوْرَاة انْتهى فَدلَّ هَذَا صَرِيحًا على
أَن الْفَأْرَة مسخ وَلم يكن قبل ذَلِك وَكَذَا كل
حَيَوَان قيل فِيهِ أَنه مسخ وَأَن مَا كَانَ مِنْهَا بعد
المسخ توالد مِنْهَا فَإِن قلت جَاءَ فِي حَدِيث أبي سعيد
قَالَ وَذكر عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - القردة والخنازير فَقَالَ إِن الله تَعَالَى
لم يَجْعَل لمسخ نَسْلًا وَلَا عقبا وَقد كَانَت القردة
والخنازير قبل ذَلِك قلت أَبُو هُرَيْرَة وَكَعب لم
يبلغهما هَذَا الحَدِيث فَدلَّ على أَن المسوخ كَانَت قبل
مَا وَقع من ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة أَنا
أَظن أَن القردة والخنازير هِيَ المسوخ بِأَعْيَانِهَا
توالدت إِلَّا أَن يَصح هَذَا الحَدِيث وَأَرَادَ بِهِ
حَدِيث أبي سعيد الْمَذْكُور وَهُوَ صَحِيح وَالظَّاهِر
أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
الَّذِي قَالَه أَولا ثمَّ أعلم بعد بِمَا رَوَاهُ أَبُو
سعيد وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - لَا أَرَاهَا إِلَّا الفأر فَكَأَنَّهُ كَانَ يظنّ
ذَلِك ثمَّ أعلم بِأَنَّهَا لَيست هِيَ هِيَ - (قلت) ،
الْقَائِل هُوَ أَبُو هُرَيْرَة: (افأقرأ التَّوْرَاة؟)
الْهمزَة للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار.
وَفِيه: تَعْرِيض لكعب الْأَحْبَار بِأَنَّهُ كَانَ على
دين الْيَهُود قبل الْإِسْلَام، وَالْحَاصِل أَن أَبَا
هُرَيْرَة قَالَ: أَنا أَقرَأ التَّوْرَاة حَتَّى أنقل
مِنْهَا، وَلَا أَقُول إلاَّ من السماع عَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي سكُوت كَعْب عَن الرَّد
على أبي هُرَيْرَة دَلِيل على تورعه، وروى مُسلم فَقَالَ:
حَدثنِي أَبُو كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء، قَالَ: حَدثنَا
أَبُو أُسَامَة عَن هِشَام عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة
قَالَ: الفارة مسخ، وَآيَة ذَلِك أَنه يوضع بَين يَديهَا
لبن الْغنم فتشربه وَيُوضَع بَين يَديهَا لبن الْإِبِل
فَلَا تذوقه. قَالَ لَهُ كَعْب: أسمعت هَذَا من رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أفأنزلت عَليّ
التَّوْرَاة؟ انْتهى. فَدلَّ هَذَا صَرِيحًا على أَن
الْفَأْرَة مسخ، وَلم يكن قبل ذَلِك، وَكَذَا كل حَيَوَان
قيل فِيهِ إِنَّه مسخ، وَإِن مَا كَانَ مِنْهَا بعد المسخ
توالد مِنْهَا. فَإِن قلت: جَاءَ فِي حَدِيث أبي سعيد،
قَالَ: وَذكر عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
القردة والخنازير، فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل
لمسخ نَسْلًا وَلَا عقباً، وَقد كَانَت القردة والخنازير
قبل ذَلِك. قلت: أَبُو هُرَيْرَة وَكَعب لم يبلغهما هَذَا
الحَدِيث، فَدلَّ على أَن المسوخ كَانَت قبل مَا وَقع من
ذَلِك، وَلِهَذَا قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَنا أَظن أَن
القردة والخنازير هِيَ المسوخ بِأَعْيَانِهَا توالدت إلاَّ
أَن يَصح هَذَا الحَدِيث، وَأَرَادَ بِهِ حَدِيث أبي سعيد
الْمَذْكُور، وَهُوَ صَحِيح، وَالظَّاهِر أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الَّذِي قَالَه أَولا ثمَّ أعلم بعد
بِمَا رَوَاهُ أَبُو سعيد، وَلِهَذَا قَالَ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لَا أَرَاهَا إلاَّ الفأر، فَكَأَنَّهُ
كَانَ يظنّ ذَلِك، ثمَّ أعلم بِأَنَّهَا لَيست هِيَ هِيَ.
6033 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ عنِ ابنِ وَهْبٍ
قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ
يُحَدَّثُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْوَزَغِ
الفُوَيْسِقُ ولَمْ أسْمَعْهُ أمَرَ بِقَتْلِهِ وزَعَمَ
سَعْدُ بنُ أبِي وَقَّاصٍ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أمرَ بِقَتْلِهِ. .
ابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد،
وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم. والْحَدِيث مضى فِي
كتاب الْحَج فِي: بَاب مَا يقتل الْمحرم من الدَّوَابّ،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن
مَالك عَن ابْن شهَاب. . إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَلم أسمعهُ أَمر بقتْله) ، قَول عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ ابْن التِّين: لَا حجَّة
فِيهِ، إِذْ لَا يلْزم من عدم سماعهَا عدم الْوُقُوع وَقد
حفظه غَيرهَا. وَقد جَاءَ عَن عَائِشَة من وَجه آخر عِنْد
أَحْمد: أَنه كَانَ فِي بَيتهَا رمح مَوْضُوع، فَسُئِلت،
فَقَالَت: نقْتل بِهِ الوزغ، فَإِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لما ألقِي فِي النَّار وَلم يكن فِي الأَرْض
دَابَّة إلاَّ أطفأت عَنهُ النَّار إلاَّ الوزغ،
فَإِنَّهَا كَانَت تنفخ عَلَيْهِ النَّار، فَأمر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقتلها. قَوْله: (وَزعم سعد بن
أبي وَقاص) ، قَائِل ذَلِك فِي الظَّاهِر عُرْوَة، وَزعم
بِمَعْنى: قَالَ، وَيحْتَمل أَن يكون عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، هَذَا أقرب من حيثية مَا يَقْتَضِيهِ
التَّرْكِيب.
7033 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخْبَرَنَا ابنُ
عُيَيْنَةَ حدَّثنا عَبْدُ الحَمِيدِ بنُ جُبَيْرِ بنِ
شَيْبَةَ عنْ سعيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّ أمَّ شَرِيكٍ
أخْبَرَتْهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أمَرَهَا بِقَتْلِ الأوْزَاغِ. (الحَدِيث 7033 طرفه فِي:
9533) .
(15/194)
صَدَقَة بن الْفضل، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ
سُفْيَان، وَأم شريك اسْمهَا غزيَّة، بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَفتح الزَّاي مصغر وَقيل: غزيلة، وَهِي
عامرية قرشية، وَقيل: أنصارية، وَقيل: دوسية.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن عبيد
الله بن مُوسَى وَابْن سَلام، وَأخرجه مُسلم فِي
الْحَيَوَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد
وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عمر، أربعتهم عَن
ابْن عُيَيْنَة وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَعَن
مُحَمَّد بن أَحْمد وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن
يزِيد بن الْعَزِيز، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّيْد عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة.
8033 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا أبُو
أُسَامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ النَّبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ فإنَّهُ
يَطْمِسُ البَصَر ويُصِيبُ الحَبَلَ.
أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. قَوْله: (قَالَ
النَّبِي) ، ويروى: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَقد مضى عَن قريب عَن ابْن عمر نَحْو هَذَا
الحَدِيث.
تابَعَهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ أخبرنَا أسَامَةُ
أَي: تَابع أَبَا سَلمَة حَمَّاد بن سَلمَة فِي رِوَايَته
إِيَّاه عَن هِشَام، وَقد وصل أَحْمد هَذِه الْمُتَابَعَة
عَن عَفَّان عَنهُ.
9033 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ
قَالَ حدَّثني أبِي عنْ عائِشَةَ قالَتْ أمَرَ النَّبِيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَتْلِ الأبْتَرِ وقالَ إنَّهُ
يُصِيبُ البَصَرَ ويُذْهِبُ الحَبَلَ. (انْظُر الحَدِيث
8033) .
يحيى هُوَ الْقطَّان، وَهِشَام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة
عَن عَائِشَة، وَقد مر تَفْسِير الأبتر عَن قريب.
2133 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا جَرِيرُ
بنُ حَازِمٍ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَر
(15/195)
َ أنَّهُ كانَ يَقْتُلُ الحَيَّاتِ
فَحَدَّثَهُ أبُو لُبَابَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ قَتْلِ جِنَّانِ البُيُوتِ
فأمْسَكَ عَنْهَا. (انْظُر الحَدِيث 8923)
مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فَليُرَاجع.
61 - (بابٌ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ
فِي الحَرَمِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ خمس من الدَّوَابّ، وَهُوَ جمع
دَابَّة من دب على الأَرْض يدب دبيباً، وكل ماشٍ على
الأَرْض دَابَّة، ودبيب، وَالدَّابَّة الَّتِي تركب، ودابة
الأَرْض أحد أَشْرَاط السَّاعَة. قَوْله: خمس) ، مَرْفُوع
بلابتداء، وفواسق صفته، وَقَوله: يقتلن، خَبره على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي الْحرم) ، يعلم مِنْهُ أَن
جَوَاز قَتلهَا فِي غير الْحَرَام بِالطَّرِيقِ الأولى.
4133 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ
حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْريِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا عنِ النَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ
فِي الحَرَمِ الفأرَةُ والعَقْرَبُ والحُدَيَّا
والْغُرَابُ والْكَلْبُ العَقُورُ. (انْظُر الحَدِيث 9281)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب
الْحَج فِي: بَاب مَا يقتل الْمحرم من الدَّوَابّ، وَمر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (والحديا) ، بِضَم الْحَاء وَفتح الدَّال
وَتَشْديد الْيَاء مَقْصُورَة: وَهُوَ تَصْغِير حدأة على
وزن عنبة وَقِيَاسه: الحدية، فزيد فِيهِ الْألف للإشباع،
وَقد أنكر بَعضهم صِيغَة التصغير، وَلَا وَجه لإنكاره لما
ذكرنَا من وَجه ذَلِك، أَو يُقَال: إِنَّه مَوْضُوع على
صِيغَة التصغير، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الحدأة مِثَال
عنبة، وَجَمعهَا: حدا، مثل عِنَب، وَلَا يُقَال: حدأة،
وَوَقع فِي حَدِيث ابْن عمر الْآتِي: الحدأة.
5133 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ أخْبَرَنا
مالِكٌ عَن عَبْدِ الله بنِ دِينار عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسوُلَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ مَنْ
قَتَلَهُنَّ وهْوَ مُحْرِمٌ فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِ
الْعَقْرَبُ والفَأْرَةُ والكَلْبُ العَقُورُ والغُرَابُ
والْحِدْأةُ. (انْظُر الحَدِيث 6281) .
قد مر فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب مَا يقتل الْمحرم من
الدَّوَابّ، حَدِيث ابْن عمر أخرجه عبد الله بن يُوسُف عَن
مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (خمس من الدَّوَابّ لَيْسَ فِي
قتلهن على الْمحرم جنَاح) .
6133 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ
زَيْدٍ عنْ كَثِيرٍ عنْ عَطاءٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عنهُما رَفَعَهُ قَالَ خَمِّرُوا
الآنِيَةَ وأوْكُوا الأسْقِيَةَ وأجِيفُوا الأبْوابَ
وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ العِشَاءِ فإنَّ
لِلْجِنِّ انْتِشَاراً وخَطْفَةً وَاطفِؤُوا المَصَابِيحَ
عِنْدَ الرُّقَادِ فإنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا
اجْتَرَّتِ الفَتِيلَةَ فأحْرَقَتْ أهْلَ الْبَيْتِ. .
قد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب صفة إِبْلِيس عَن قريب.
قَوْله: (رَفعه) أَي: إِلَى رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون بالواسطة أَو
بِدُونِهَا، وَأَن يكون الرّفْع مُقَارنًا لرِوَايَة
الحَدِيث أَولا، فَأَشَارَ إِلَيْهِ. (وَكثير) ضد
الْقَلِيل ابْن شنظير، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة
وَسُكُون النُّون وَكسر الظَّاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: أَبُو قُرَّة
الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَقَالَ ابْن معِين فِيهِ:
لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ الْحَاكِم: مُرَاده بذلك أَنه
لَيْسَ لَهُ من الحَدِيث مَا يشْتَغل بِهِ، وَقد قَالَ
فِيهِ بن معِين مرّة: صَالح، وَكَذَا قَالَ أَحْمد،
وَقَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَن تكون أَحَادِيثه
مُسْتَقِيمَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا
الحَدِيث.
قَوْله (خمروا) من التخمير بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ
التغطية قَوْله (أوكوا) من الإيكاء أَي شدوها بالوكاء
وَهُوَ الْخَيط
قَوْله: (وأجيفوا) ، بِالْجِيم
(15/196)
وَالْفَاء من الإجافة، يُقَال: أجفت
الْبَاب، أَي: رَددته. وَقَالَ الْقَزاز: تَقول جفأت
الْبَاب أغلقته، وَقَالَ ابْن التِّين: لم أر من ذكره
هَكَذَا غَيره، وَفِيه نظر، فَإِن أجيفوا لامه فَاء، وجفأت
لامه همزَة. قلت: معنى جفأت، مَهْمُوز اللَّام: فرغت،
يُقَال: جفأت الْقدر إِذا فرغته. وَفِي حَدِيث جُبَير:
أَنه حرم الْحمر الْأَهْلِيَّة فجفؤا الْقُدُور: أَي
فرغوها وقلبوها، وروى: فأجفئوا، قَالَ ابْن الْأَثِير:
وَهِي لُغَة فِيهِ قَليلَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جفأت
الْقدر إِذا كفأتها أَو أملتها فَصَبَبْت مَا فِيهَا،
وَلَا تقل: أجفأتها، وَأما الَّذِي فِي حَدِيث: فأجفأوا
قدورهم بِمَا فِيهَا، فَهِيَ لُغَة مَجْهُولَة. انْتهى،
وَالَّذِي فِي الحَدِيث ذكره ابْن الْأَثِير فِي: بَاب
أجوف معتل الْعين بِالْوَاو، ثمَّ قَالَ: وَفِي حَدِيث
الْحَج أَنه دخل الْبَيْت وأجاف الْبَاب أَي: رده
عَلَيْهِ، وَمِنْه الحَدِيث: (أجيفوا أبوابكم) أَي:
ردوهَا. قَوْله: (وأكفتوا) بِهَمْزَة الْوَصْل أَي: ضمُّوا
صِبْيَانكُمْ عِنْد الْعشَاء وامنعوهم من الْحَرَكَة فِي
ذَلِك الْوَقْت، من كفت الشَّيْء أكفته كفتاً من بَاب ضرب
يضْرب إِذا ضممته إِلَى نَفسك. قَوْله: (عِنْد الْعشَاء) ،
ويروى: (عِنْد الْمسَاء) ، وَفِي الرِّوَايَة
الْمُتَقَدّمَة: (إِذا جنح اللَّيْل أَو إِذا أمسيتم فكفوا
صِبْيَانكُمْ) . قَوْله: (وخطفة) ، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وبالفاء:
وَهُوَ استلاب الشَّيْء وَأَخذه بِسُرْعَة، يُقَال: خطف
الشَّيْء يخطفه من بَاب علم، وَكَذَا اختطفه يختطفه،
وَيُقَال فِيهِ: خطف يخطف من بَاب ضرب يضْرب، وَهُوَ
قَلِيل. قَوْله: (عِنْد الرقاد) ، أَي: عِنْد النّوم.
قَوْله: (فَإِن الفويسقة) أَي: الْفَأْرَة. قَوْله:
(اجْتَرَّتْ) ، بِالْجِيم وَتَشْديد الرَّاء، وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: رُبمَا جرت، وَبَقِيَّة
الْكَلَام فِيهِ مرت فِي: بَاب صفة الشَّيْطَان.
قالَ ابنُ جُرَيْجٍ وحَبِيبٌ عنْ عَطَاءٍ فإنَّ
للشَّيْطَانِ
أَي: قَالَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وحبِيب بن
أبي قريبَة أَبُو مُحَمَّد الْمعلم الْبَصْرِيّ، أَرَادَ
أَنَّهُمَا رويا هَذَا الحَدِيث عَن عَطاء بن أبي رَبَاح،
كَمَا فِي رِوَايَة ابْن شنظير، إلاَّ أَنَّهُمَا قَالَا:
فَإِن للشَّيْطَان، بدل قَول كثير بن شنظير: فَإِن للجن،
والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن يُقَال: لَا
مَحْذُور فِي القَوْل بانتشار الصِّنْفَيْنِ، وَقيل: هما
حَقِيقَة وَاحِدَة يَخْتَلِفَانِ بِالصِّفَاتِ.
أما تَعْلِيق ابْن جريج فقد وَصله البُخَارِيّ فِي أول
هَذَا الْبَاب. وَأما تَعْلِيق حبيب فقد وَصله أَحْمد
وَأَبُو يعلى من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن حبيب
الْمَذْكُور.
7133 - حدَّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ الله قالَ أخْبَرنا
يَحُيىَ بنُ آدَمَ عنْ إسْرَائِيلَ عنْ مَنْصُورٍ عنْ
إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله قالَ كُنَّا
مَعَ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غارٍ
فَنَزَلَتْ وَالمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنَّا لَنَتَلَقَّاهَا
من فِيهِ إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا
فابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَها فسَبَقَتْنا فَدَخَلَتْ
جُحْرَهَا فَقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وُقِيَتْ شَرَّكُم كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا. .
عَبدة ضد الْحرَّة ابْن عبد الله أَبُو سهل الصفار
الْخُزَاعِيّ الْبَصْرِيّ، وَيحيى بن آدم بن سُلَيْمَان
الْقرشِي المَخْزُومِي الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ،
وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي،
وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ،
وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ عَم الْأسود بن يزِيد وَعم أم
إِبْرَاهِيم، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن
مَحْمُود بن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان عَن يحيى بن آدم بِهِ، وَقد مر فِي كتاب الْحَج
فِي: بَاب مَا يقتل الْمحرم من الدَّوَابّ فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن
إِبْرَاهِيم. .
قَوْله: (وقيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من: وقى يقي
وقاية. إِذا حفظ. فَإِن قلت: كَانَ قَتلهمْ لَهَا خيرا
لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ. قلت: هُوَ شَرّ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهَا، والخيور والشرور من الْأُمُور الإضافية.
وعَنْ إسْرَائِيلَ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ
عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله مِثْلَهُ قالَ وإنَّا
لنَتَلَقَّاهَا مَنْ فِيهِ رَطْبَةً
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن إِسْرَائِيل الْمَذْكُور، كَمَا
روى الحَدِيث عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم، فَكَذَلِك
رَوَاهُ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن
(15/197)
إِبْرَاهِيم، وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ أَنه
من رِوَايَة إِبْرَاهِيم. قَوْله: (من فِيهِ) أَي: من
فَمه. قَوْله: (رطبَة) ، أَي: غضة طرية فِي أول مَا
تَلَاهَا، ووصفت التِّلَاوَة بالرطوبة لسهواتها، وَيحْتَمل
أَن يكون المُرَاد من الرُّطُوبَة رُطُوبَة، فَمه،
يَعْنِي: أَنهم أخذوها عَنهُ قبل أَن يجِف رِيقه من
تلاوتها، كَذَا قَالَه الشُّرَّاح. قلت: هَذَا كِنَايَة
عَن سرعَة أَخذهم على الْفَوْر حِين سَمِعُوهُ، وَهُوَ
يقْرَأ من غير تَأْخِير وَلَا توانٍ.
وتابَعَهُ أبُو عَوَانَةَ عنْ مُغِيرَةَ
أَي: تَابع إِسْرَائِيل أَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي
فِي رِوَايَته عَن الْمُغيرَة بن مقسم عَن إِبْرَاهِيم،
ومتابعة أبي عوَانَة تَأتي فِي تَفْسِير المرسلات.
وَقالَ حَفْصٌ وأبُو مُعَاوِيَةَ وسُلَيْمَانُ بنُ قَرْمٍ
عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ عَبْدِ
الله
حَفْص هُوَ ابْن غياث، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد
الضَّرِير، وَسليمَان بن قرم، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون
الرَّاء وَفِي آخِره مِيم: الضَّبِّيّ، وَالْأَعْمَش
سُلَيْمَان، أَرَادَ أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة خالفوا
إِسْرَائِيل فَجعلُوا الْأسود بن يزِيد بدل عَلْقَمَة بن
قيس. أما رِوَايَة حَفْص فوصلها البُخَارِيّ فِي الْحَج،
وَأما رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة فوصلها مُسلم من حَدِيث أبي
مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود
عَن عبد الله، قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي غَار) وَأما رِوَايَة سُلَيْمَان بن
قرم فعلى الْفتُوح.
8133 - حدَّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيٍّ قالَ أخْبرَنا عَبْدُ
الأعْلى قالَ حدَّثَنا عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنْ
نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ دَخَلَتِ
امْرَأةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فلَمْ
تُطْعِمْها ولَمْ تَدَعْهَا تأكُلُ مِنْ خَشاشِ الأرْضِ. .
نصر بن عَليّ بن نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي الْأَزْدِيّ
الْبَصْرِيّ، طلبه المستعين للْقَضَاء، ثمَّ جاؤا بعهدة
الْقَضَاء فَقَالَ: أخروها إِلَى الْعشي، فَلَمَّا خرج
إِلَى صَلَاة الظّهْر عاودوه، وَقَالَ: سألتكم إِلَى
الْعشي وَعَسَى أَن يَكْفِي الله. قَالُوا: ثمَّ دخل إِلَى
منزله فصلى رَكْعَتَيْنِ وَسجد، وَسَأَلَ الله أَن يقبضهُ
إِلَيْهِ فَمَاتَ وَهُوَ ساجد، رَحمَه الله تَعَالَى، سنة
خمس وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الشّرْب فِي: بَاب فضل سقِِي
المَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل عَن
مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (امْرَأَة) لم يدر اسْمهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة:
أَنَّهَا حميرية سَوْدَاء طَوِيلَة، وَفِي رِوَايَة
أُخْرَى: امْرَأَة من بني إِسْرَائِيل تعذب فِي النَّار،
وَفِي أُخْرَى لم يقل: من بني إِسْرَائِيل، وَلَا تنَافِي
بَينهمَا، لِأَن طَائِفَة من حمير كَانُوا من بني
إِسْرَائِيل. وَفِي (التَّوْضِيح) : يجوز أَن تكون هَذِه
الْمَرْأَة كَافِرَة، لَكِن ظَاهر الحَدِيث إسْلَامهَا،
وعذبت على إصرارها على ذَلِك وَلَيْسَ فِي الحَدِيث
تخليدها، وروى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ
أَصْبَهَان) : أَنَّهَا كَانَت كَافِرَة، وَكَذَلِكَ
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث والنشور عَن عَائِشَة،
فَيكون من جملَة اسْتِحْقَاقهَا النَّار حبس الْهِرَّة،
وَعَن القَاضِي: فِيهِ احْتِمَال. قَوْله: (فِي هرة) ،
كلمة: فِي، للتَّعْلِيل، أَي: لأجل هرة، وَفِي رِوَايَة
مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة من جراء هرة، بِفَتْح الْجِيم
وَتَشْديد الرَّاء بِالْقصرِ وَالْمدّ. أَي: من أجل هرة،
والهرة أُنْثَى، والهر والسنور الذّكر، وَيجمع على: هررة
كقرد وقردة، والهرة على هرر كقربة وَقرب. قَوْله: (من
خشَاش الأَرْض) بِفَتْح الْخَاء وَكسرهَا وَضمّهَا وبالشين
المعجمتين وَفِي الحشرات.
وَفِيه: جَوَاز اتِّخَاذ الْهِرَّة ورباطها إِذا لم يهمل
إطعامها وسقيها، وَيلْحق بهَا غَيرهَا مِمَّا فِي
مَعْنَاهَا، وَإِنَّمَا يجب إطعامها على من حَبسهَا،
قَالَه الْقُرْطُبِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: وجوب
نَفَقَة الْحَيَوَان على مَالِكه، قَالَ بَعضهم: فِيهِ
نظر، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَر أَنَّهَا ملكتها. قلت:
فِي قَوْله: هرة لَهَا، يدل على مَا قَالَه النَّوَوِيّ،
وَيدل أَيْضا على أَن الْهِرَّة تملك، خلافًا لهَذَا
الْقَائِل، فَإِنَّهُ قَالَ: الْهِرَّة لَا تملك، لِأَن
اللَّام فِي: هرة لَهَا، تدل على التَّمْلِيك، وَيرد على
هَذَا الْقَائِل.
وقالَ وحدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِثْلَهُ
أَي: قَالَ عبد الْأَعْلَى: حَدثنَا عبيد الله بن عمر عَن
سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثل الحَدِيث الْمَذْكُور،
(15/198)
وَأخرجه مُسلم هَكَذَا، وَقَالَ: حَدثنِي
نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي حَدثنَا عبد الْأَعْلَى عَن
عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن سعيد
المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِمثل مَعْنَاهُ.
71 - (بابٌ إذَا وقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أحَدِكُمْ
فَلْيَغْمِسْهُ فإنَّ فِي إحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي
الأخْرَى شِفَاءً)
(15/199)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وَقع
الذُّبَاب ... إِلَى آخِره، وَترْجم هَذَا الْبَاب بِنَصّ
الحَدِيث الَّذِي سَاقه فِي هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا
وَقع هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن بعض شُيُوخه، وَحذف
عِنْد البَاقِينَ، وحذفه أولى، لِأَن الْأَحَادِيث الَّتِي
تَأتي بعد هَذَا الحَدِيث لَا تعلق لَهَا بذلك وَلَا
مُطَابقَة بَينهَا وَبَين هَذِه التَّرْجَمَة، كَمَا
ترَاهُ.
0233 - حدَّثنا خَالِدُ بنُ مَخْلَد حدَّثنا سُلَيْمَانُ
بنُ بِلاَلٍ قَالَ حدَّثني عُتْبَةُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ
أخْبَرَني عُبَيْدُ بنُ حُنَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا وقَعَ الذُّبَابُ
فِي شَرَابِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ
فإنَّ فِي إحْدَى جَناحَيْهِ دَاءً والأُخْرَى شِفَاءً.
(الحَدِيث 0233 طرفه فِي: 2875) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِنَّهُ لَا فرق
بَينهمَا، غير أَنه لم يذكر فِي التَّرْجَمَة لفظ (ثمَّ
لينزعه) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: خَالِد بن مخلد، بِفَتْح
الْمِيم واللاَّم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي
آخِره دَال: أَبُو الْهَيْثَم البَجلِيّ الْكُوفِي.
الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب الْقرشِي
التَّيْمِيّ. الثَّالِث: عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة: ابْن مُسلم مولى بني تَمِيم الْمَدِينِيّ.
الرَّابِع: عبيد بن حنين، كِلَاهُمَا بِالتَّصْغِيرِ، و:
حنين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون الأولى:
أَبُو عبد الله مولى زيد بن الْخطاب الْقرشِي الْعَدوي.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن
جَعْفَر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ، قَالَ: حَدثنَا
سُوَيْد بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا مُسلم بن خَالِد عَن
عتبَة بن مُسلم عَن عبيد بن حنين عَن أبي هُرَيْرَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِذا وَقع
الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه فِيهِ ثمَّ ليطرحه،
فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء وَفِي الآخر شِفَاء) . وَأخرجه
عَن أبي سعيد أَيْضا، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي
شيبَة حَدثنَا يزِيد بن هَارُون عَن ابْن أبي ذِئْب عَن
سعيد بن خَالِد عَن أبي سَلمَة، قَالَ: حَدثنِي أَبُو
سعيد: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
(أحد جناحي الذُّبَاب سم وَالْآخر شِفَاء، فَإِذا وَقع فِي
الطَّعَام فامقلوه فِيهِ فَإِنَّهُ يقدم السم وَيُؤَخر
الشِّفَاء) . وَأخرجه النَّسَائِيّ مُخْتَصرا، وروى
الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن
سُلَيْمَان نَحوه، وَمن حَدِيث أنس بِإِسْنَاد ضَعِيف،
وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث المَقْبُري عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم فليغمسه،
فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء وَالْآخر شِفَاء، وَإنَّهُ يتقى
بجناحه الَّذِي فِيهِ الدَّاء فيغمسه كُله) . ويروى:
فليغمسه كُله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا وَقع الذُّبَاب) الذُّبَاب
جمع ذُبَابَة، قَالَه ابْن التِّين وَفِي (الْمُنْتَهى) :
الذب بِالضَّمِّ الذُّبَاب، وَجمع الذُّبَاب: ذبان، وَلَا
تقل: ذبانة، وَالْجمع الْقَلِيل: أذبة، كغراب وأغربة
وغربان، وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري: الذُّبَاب وَاحِد
وَالْجمع ذبان، والعامة تَقول: ذبانة للْوَاحِد والذبان
للْجمع، وَهُوَ خطأ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي:
تَقول: هَذَا ذُبَاب للْوَاحِد وذبابان فِي التَّثْنِيَة،
وَلَا يُقَال ذُبَابَة وَلَا ذبانة، وَقَالَ ابْن سَيّده
فِي (الْمُحكم) : لَا يُقَال: ذُبَابَة، إِلَّا أَن أَبَا
عُبَيْدَة رَوَاهُ عَن الْأَحْمَر، وَالصَّوَاب ذُبَاب،
وَفِي التَّنْزِيل: {وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا}
(الْحَج: 37) . فسروه بِالْوَاحِدِ، وَحكى سِيبَوَيْهٍ عَن
الْعَرَب: ذب، فِي جمع ذُبَاب، وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
الذُّبَاب مَعْرُوف، الْوَاحِدَة ذُبَابَة، وَلَا تقل:
ذبانة، وَجمع الْقلَّة: أذبة، وَالْكَثْرَة: ذبان. وَقَالَ
أَبُو عبيد: أَرض مذبة، ذَات ذُبَاب. وَقَالَ الْفراء:
أراض مذبوبة، كَمَا يُقَال: موحوشة من الْوَحْش، والمذبة
مَا يذب بِهِ الذُّبَاب، وَقَالَ الجاحظ: عمر الذُّبَاب
أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهُوَ فِي النَّار، وَلَيْسَ تعذيباً
لَهُ، وَإِنَّمَا يعذب بِهِ أهل النَّار لوُقُوعه
عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ لَا شَيْء أضرّ على المكلوم من
وُقُوعه على كَلمه. قَوْله: (فِي شراب أحدكُم) ، الشَّرَاب
هُنَا يدْخل فِيهِ كل الْمَائِعَات، قَالَ تَعَالَى: {يخرج
من بطونها شراب} (النَّحْل: 96) . قلت: قد ذكرنَا آنِفا
أَن فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: إِذا وَقع الذُّبَاب فِي
إِنَاء أحدكُم، والإناء يكون فِيهِ كل شَيْء من المأكولات
والمشروبات. قَوْله: (فليغمسه) ، من غمسه فِي المَاء إِذا
غطه فِيهِ وَأدْخلهُ، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: فامقلوه
فِيهِ، من الْمقل بِالْقَافِ وَهُوَ الغمس. قَالَ أَبُو
عبيد: أَي اغمسوه فِي الطَّعَام أَو الشَّرَاب ليخرج
الشِّفَاء كَمَا أخرج الدَّاء، وَذَلِكَ بإلهام الله
تَعَالَى، وَفِي (الْمغرب) : فِي الحَدِيث: إِذا وَقع
الذُّبَاب فِي طَعَام أحدكُم فامقلوه، فَإِن فِي أحد
جناحيه سما وَفِي الآخر شِفَاء، هَكَذَا فِي الْأُصُول،
وَأما: فامقلوه، ثمَّ انقلوه فمصنوع. قلت: فِي
(15/200)
غَالب كتب أَصْحَابنَا وَقع مثل مَا قَالَ،
وَالصَّحِيح: فامقلوه فِيهِ، فَإِنَّهُ يقدم السم وَيُؤَخر
الشِّفَاء، كَمَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه وَغَيره،
وَلَيْسَ فِيهِ: ثمَّ انقلوه، نعم، فِي رِوَايَة
البُخَارِيّ: لم لينزعه، وَهُوَ يُؤَدِّي معنى: فانقلوه.
قَوْله: (فَإِن فِي إِحْدَى جناحيه) ، الجناج حَقِيقَة
للطائر، وَإِذا اسْتعْمل فِي غَيره يكون بطرِيق
الِاسْتِعَارَة، قَالَ الله تَعَالَى: {واخفض لَهما جنَاح
الذل} (الْإِسْرَاء: 42) . وَفِي غَالب النّسخ: فَإِن فِي
أحد جناحيه دَاء وَالْآخر شِفَاء، بتذكير: أحد، وَوجه
تأنيثها بِاعْتِبَار أَن جنَاح الطَّائِر يَده، والتأنيث
بِاعْتِبَار الْيَد. قَوْله: (وَالْأُخْرَى شِفَاء) ،
الثَّابِت فِي كثير من النّسخ، وَفِي الْأُخْرَى،
بِإِعَادَة حرف الْجَرّ، وَتركهَا يدل على جَوَاز الْعَطف
على عاملين، وَهُوَ رَأْي الْأَخْفَش والكوفيين،
فَحِينَئِذٍ تكون: الْأُخْرَى، مجروراً عطفا على: فِي
إِحْدَى، وَيكون نصب: شِفَاء، مثل نصب: دَاء، وَالْعَامِل
فِي: إِحْدَى، حرف الْجَرّ الَّذِي هُوَ لفظ: فِي،
وَالْعَامِل فِي: دَاء، كلمة: إِن، فقد شركت الْوَاو فِي
الْعَطف على العاملين اللَّذين هما: فِي وان، وسيبويه لَا
يجوّز ذَلِك، يُؤَيّدهُ رِوَايَة إِثْبَات حرف الْجَرّ فِي
قَوْله: وَفِي الْأُخْرَى، وَقيل: يرْوى شِفَاء،
بِالرَّفْع، فعلى هَذَا يخرج الْكَلَام عَن الْعَطف على
عاملين، وَلكنه على هَذَا يحْتَاج إِلَى حذف مُضَاف
تَقْدِيره: ذُو شِفَاء، لِأَن لفظ الآخر أَو الْأُخْرَى
يكون مُبْتَدأ، وشفاء خَبره، وَلعدم صِحَة الْحمل يقدر
الْمُضَاف، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد المالقي فِي (جَامعه) :
ذُبَاب النَّاس يتَوَلَّد من الزبل، فَإِن أَخذ الذُّبَاب
الْكَبِير وَقطعت رؤوسها وَيحك بجسدها الشعرة الَّتِي فِي
الأجفان حكاً شَدِيدا فَإِنَّهُ يُبرئهُ، وَإِن سحق
الذُّبَاب بصفرة الْبيض سحقاً نَاعِمًا وضمدت بهَا الْعين
الَّتِي فِيهَا اللَّحْم الْأَحْمَر من دَاخل فَإِنَّهُ
يسكن فِي سَاعَته، وَإِن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن
وَجَعه. انْتهى. قَالَ الْخطابِيّ مَا ملخصه: قَالَ بعض
الجهلة المعاندين: كَيفَ يجْتَمع الدَّاء والشفاء فِي
جناحي الذُّبَاب؟ وَكَيف تعلم الذُّبَاب ذَلِك من نَفسهَا
حَتَّى تقدم الدَّاء وتؤخر الدَّوَاء؟ وَمَا أَدَّاهَا
إِلَى ذَلِك؟ ورد عَلَيْهِم: بِأَن عَامَّة الْحَيَوَان
جمعت فِيهَا بَين الْحَرَارَة والبرودة والرطوبة واليبوسة
فِي أَشْيَاء متضادة إِذا تلاقت تفاسدت لَوْلَا تأليف الله
لَهَا، وَالَّذِي ألهم النحلة وَشبههَا من الْحَيَوَان
إِلَى بِنَاء الْبيُوت وادخار الْقُوت هُوَ الملهم للذباب
مَا ترَاهُ فِي الْكتاب.
1233 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ حدَّثنا إسْحَاقُ
الأزْرَقُ حَدَّثنَا عَوْفٌ عنِ الحَسَنِ وابنِ سِيرِينَ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسُولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ غُفِرَ لإمْرَأةٍ
مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ
قَالَ كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ فنَزَعَتْ خُفَّهَا
فأوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ
فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ. (الحَدِيث 1233 طرفه فِي: 7643)
.
لَا تتأتى الْمُطَابقَة هُنَا إلاَّ بَينه وَبَين
التَّرْجَمَة الْمُتَقَدّمَة، وَلَيْسَ لَهُ مُطَابقَة
بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أصلا، وَقد ذكرنَا: أَن هَذِه
التَّرْجَمَة سَاقِطَة عِنْد غير أبي ذَر وَالْحسن بن
الصَّباح، بتَشْديد الْبَاء الْبَزَّار أَبُو عَليّ
الوَاسِطِيّ، وَإِسْحَاق بن يُوسُف الْأَزْرَق
الوَاسِطِيّ، وعَوْف الْمَشْهُور بالأعرابي، وَالْحسن
الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِيمَان عَن
أَحْمد بن عبد الله المنجوفي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن سَلام. وَفِي
الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن بشار، وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث سلف فِي الشّرْب من حَدِيث
أبي هُرَيْرَة: أَن رجلا فعل ذَلِك، وَكَذَا ذكره فِي
الطَّهَارَة فِي: بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر
الْإِنْسَان، فلعلهما قضيتان. قلت: هَذَا الحَدِيث فِي
الْمَرْأَة المومسة، وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَان فِي
الْبَابَيْنِ الْمَذْكُورين فِي الرجل، روى كليهمَا أَبُو
صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وكل مِنْهُمَا حَدِيث مُسْتَقل
بِذَاتِهِ، فَلَا وَجه لقَوْله: هَذَا الحَدِيث سلف، وَلَا
لقَوْله: لعلهما قضيتان، بل هما قضيتان قطعا، فَإِن
نَظرنَا إِلَى الظَّاهِر فَهِيَ ثَلَاث قضايا.
قَوْله: (مومسة) ، أَي: زَانِيَة وَيجمع على: مومسات
وميامس وموامس، وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: مياميس،
وَلَا يَصح إلاَّ على إشباع الكسرة لتصير: يَاء، وَقد
اخْتلف فِي أصل هَذِه اللَّفْظَة، فبعضهم يَجعله من
الْهمزَة، وَبَعْضهمْ يَجعله من الْوَاو، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: كل مِنْهُمَا تكلّف لَهُ اشتقاقاً فِيهِ بُعْد،
فذكرناها فِي حرف الْمِيم لظَاهِر لَفظهَا، ولاختلافهم فِي
أَصْلهَا. قلت: قَالَ فِي بَاب الْمِيم: مومس، ثمَّ ذكر
مَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ ابْن قرقول: المياميس والمومسات:
المجاهرات بِالْفُجُورِ، والواحدة مومسة، وَذكره أَصْحَاب
الْعَرَبيَّة فِي
(15/201)
الْوَاو وَالْمِيم وَالسِّين، وَرَوَاهُ
ابْن الْوَلِيد عَن ابْن السماك: المآميس، بِالْهَمْزَةِ
فَإِن صَحَّ بِالْهَمْز فَهُوَ من مأس الرجل إِذا لم
يلْتَفت إِلَى موعظة، ومأس بَين الْقَوْم أفسد. انْتهى.
قلت: إِذا كَانَ لفظ: مومسة، من مأس، يَأْتِي إسم
الْفَاعِل الْمُؤَنَّث: مائسة، وَلَا يَأْتِي من هَذَا
الْبَاب: مومسة، وَالَّذِي يظْهر لي أَنه من: مومس، مثل:
وسوس، وَالْفَاعِل مِنْهُ للمذكر مومس، وللمؤنث مومسة.
قَوْله: (ركي) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْكَاف وَتَشْديد
الْيَاء: هُوَ الْبِئْر، وَيجمع على: ركايا. قَوْله:
(بذلك) ، أَي: بِسَبَب مَا فعلت من السَّقْي.
وَفِيه: دَلِيل على قبُول عمل المرتكب للكبائر من
الْمُسلمين، وَأَن الله تَعَالَى يتَجَاوَز عَن
الْكَبِيرَة بِالْعَمَلِ الْيَسِير من الْخَيْر تفضلاً
مِنْهُ.
2233 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْتُهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ كمَا أنَّكَ
هَهُنَا قالَ أخبرَنِي عُبَيْدُ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
عنْ أبِي طَلْحَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَدْخُلُ
المَلائِكَةُ بَيْتاً فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ. .
عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ،
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن عبد الله، وَأَبُو
طَلْحَة زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، والْحَدِيث مضى عَن
قريب فِي: بَاب إِذا قَالَ أحدكُم: آمين، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ: عَن ابْن مقَاتل عَن عبد الله عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره. قَوْله: (كَمَا أَنَّك هَهُنَا)
، يَعْنِي: كَمَا لَا شكّ فِي كونك فِي هَذَا الْمَكَان،
كَذَلِك لَا شكّ فِي حفظي لَهُ.
3233 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرَنا
مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُما أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أمَرَ بِقَتْلِ الكِلاَبِ.
الحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْبيُوع عَن يحيى بن
يحيى عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن
قُتَيْبَة عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن
سُوَيْد بن سعيد عَن مَالك، وَأخذ مَالك وَأَصْحَابه
وَكثير من الْعلمَاء جَوَاز قتل الْكلاب إلاَّ مَا
اسْتثْنِي مِنْهَا، وَلم يرَوا الْأَمر بقتل مَا عدا
الْمُسْتَثْنى مَنْسُوخا، بل محكماً. وَقَالَ الْإِجْمَاع
على قتل الْعَقُور مِنْهَا، وَاخْتلفُوا فِي قتل مَا لَا
ضَرَر فِيهِ، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَمر الشَّارِع
أَولا بقتلها كلهَا، ثمَّ نسخ ذَلِك وَنهى عَن قَتلهَا
إلاَّ الْأسود البهيم، ثمَّ اسْتَقر الشَّرْع على النَّهْي
عَن قتل جَمِيعهَا إلاَّ الْأسود، لحَدِيث عبد الله بن
مُغفل الْمُزنِيّ: لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم
لأمرت بقتلها، رَوَاهُ أَصْحَاب (السّنَن) الْأَرْبَعَة.
وَمعنى: البهيم، شَيْطَان بعيد عَن الْمَنَافِع قريب من
الْمضرَّة، وَهَذِه أُمُور لَا تدْرك بِنَظَر، وَلَا يُوصل
إِلَيْهَا بِقِيَاس، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى مَا جَاءَ
عَن الشَّارِع، وَقد روى ابْن عبد الْبر عَن ابْن عَبَّاس:
أَن الْكلاب من الْجِنّ، وَهِي ضعفة الْجِنّ، وَفِي لفظ:
السود مِنْهَا جن، والبقع مِنْهَا جن، وَقَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: هم سفلَة الْجِنّ وضعفاؤهم، وَقَالَ ابْن
عديس: يُقَال: كلب جني، وَرُوِيَ عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم
أَنَّهُمَا يكرهان صيد الْكَلْب الْأسود البهيم،
وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقَالُوا:
لَا يحل الصَّيْد إِذا قَتله، وَعند أبي حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ: يحل. وَقَالَ أَبُو عمر: الَّذِي تختاره
أَن لَا يقتل مِنْهَا شَيْء إِذا لم يضر، لنَهْيه أَن
يتَّخذ فِيهِ روح غَرضا، وَلِحَدِيث: الَّذِي سقى
الْكَلْب، وَلقَوْله: فِي كل كبد حر أجر، وَترك قَتلهَا
فِي كل الْأَمْصَار، وفيهَا الْعلمَاء وَمن لَا يسامح فِي
شَيْء من الْمُنكر والمعاصي الظَّاهِرَة، وَمَا علمت
فَقِيها من فُقَهَاء الْمُسلمين جعل اتِّخَاذ الْكلاب
جرحة، وَلَا رد قاضٍ شَهَادَة متخذها، وَمذهب الشَّافِعِي
تَحْرِيم اقتناء الْكَلْب لغير حَاجَة.
وَقَالَ أَبُو عمر: فِي الْأَمر بقتل الْكلاب دلَالَة على
عدم أكلهَا، ألاَ ترى إِلَى الَّذِي جَاءَ عَن عمر
وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي ذبح
الْحمام وَقتل الْكلاب؟ وَفِيه: دلَالَة على افْتِرَاق حكم
مَا يُؤْكَل وَمَا لَا يُؤْكَل، لِأَنَّهُ مَا جَازَ ذبحه
وَأكله لم يجز الْأَمر بقتْله، وَمن ذهب إِلَى الْأسود
مِنْهَا بِأَنَّهُ شَيْطَان فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الله
تَعَالَى قد سمى من غلب عَلَيْهِ الشَّرّ من الْإِنْس
شَيْطَانا، وَلم يجب بذلك قَتله، وَقد جَاءَ مَرْفُوعا:
فِي الْحمام شَيْطَان يتبع شَيْطَانه، وَلَيْسَ فِي ذَلِك
مَا يدل على أَنَّهُمَا مسخا من الْجِنّ، وَلَا أَن
الْحَمَامَة مسخت من الْجِنّ، وَلَا أَن ذَلِك وَاجِب
قَتله، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي حَدِيث سقِِي
الْكَلْب: يحْتَمل أَن يكون قبل النَّهْي عَن قَتلهَا
وَيحْتَمل بعْدهَا، فَإِن كَانَ الأول فَلَيْسَ بناسخ
لَهُ، لِأَنَّهُ لما أَمر بقتل الْكلاب لم يَأْمر إلاَّ
بقتل كلاب الْمَدِينَة لَا بقتل كلاب الْبَوَادِي،
(15/202)
وَهُوَ الَّذِي نسخ، وكلاب الْبَوَادِي لم
يرد فِيهَا قتل وَلَا نسخ، وَظَاهر الحَدِيث يدل عَلَيْهِ،
وَلِأَنَّهُ لَو وَجب قَتله لما وَجب سقيه، وَلَا يجمع
عَلَيْهِ حر الْعَطش وَالْمَوْت، كَمَا لَا يفعل بالكافر
العَاصِي، فَكيف بالكلب الَّذِي لم يعْص؟ وَفِي الحَدِيث
الصَّحِيح أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أَمر بقتل
يهود شكوا الْعَطش، فَقَالَ: لَا تجمعُوا عَلَيْهِم حر
السَّيْف والعطش، فسُقُوا ثمَّ قُتِلوا.
4233 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
هَمَّامٌ عنْ يَحْيَى قَالَ حدَّثني أبُو سلَمَةَ أنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ حدَّثَهُ قالَ
قالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أمْسَكَ
كَلْبَاً يَنْقُصْ مِنْ عَمَلِهِ كلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ
إلاَّ كَلْبَ حَرْثٍ أوْ كَلْبَ ماشِيَةٍ. (انْظُر
الحَدِيث 2232) .
يحيى هُوَ ابْن أبي كثير، والْحَدِيث مر فِي كتاب
الْمُزَارعَة فِي: بَاب اقتناء الْكَلْب للحرث، وَمر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَقد ذكرنَا أَن القيراط لَهُ
أصل لمقدار مَعْلُوم عِنْد الله تَعَالَى، وَالْمرَاد نقص
جُزْء من أَجزَاء عمله. وَأما التَّوْفِيق بَين قِيرَاط
فِي هَذَا الحَدِيث، وَبَين قيراطين فِي رِوَايَة أُخْرَى
فباعتبار التَّغْلِيظ فِي القيراطين لما لم ينْتَه
النَّاس، أَو بِاعْتِبَار كَثْرَة الْأَذَى من الْكَلْب
وقلته، أَو باخْتلَاف الْمَوَاضِع فالقيراطان فِي
الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة لزِيَادَة فَضلهَا، والقيراط
فِي غَيرهَا، أَو القيراطان فِي الْمَدِينَة والقيراط فِي
الْبَوَادِي، وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ: اخْتلفُوا فِي
المُرَاد بِمَا ينقص مِنْهُ، فَقيل: ينقص مِمَّا مضى من
عمله، وَقيل: من مستقبله. وَاخْتلفُوا فِي مَحل نقصانها،
فَقيل: قِيرَاط من عمل النَّهَار، وقيراط من عمل اللَّيْل،
وَقيل: قِيرَاط من عمل الْفَرْض وقيراط من النَّفْل،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أقرب مَا قيل فِي ذَلِك قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن جَمِيع مَا عمله من عمل ينقص لمن اتخذ مَا
نهى عَنهُ من الْكلاب، بِإِزَاءِ كل يَوْم يمسِكهُ جزآن من
أَجزَاء ذَلِك الْعَمَل، وَقيل: من عمل ذَلِك الْيَوْم
الَّذِي يمسِكهُ فِيهِ. الثَّانِي: يحط من عمله عملان، أَو
من عمل يَوْم إِمْسَاكه، عُقُوبَة لَهُ على مَا اقتحم من
النَّهْي. قَوْله: (إلاَّ كلب حرث) وَهُوَ الزَّرْع،
والماشية اسْم يَقع على جَمِيع الْإِبِل وَالْبَقر
وَالْغنم، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي الْغنم.
5233 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا
سُلَيْمَانُ قَالَ أخبَرَنِي يَزِيدُ بنُ خُصَيْفَةَ قالَ
أخْبَرَنِي السَّائِبُ بنُ يَزِيدَ سَمِعَ سُفْيَانَ بنَ
أبِي زُهَيْرٍ الشَّنْئيَّ أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنِ اقْتَنَى كلْباً لَا
يُغْنى عنْهُ زَرْعاً وَلا ضَرْعاً نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ
كُلَّ يَوْمٍ قيرَاطٌ فَقَالَ السَّائِبُ أنْتَ سَمِعْتَ
هَذَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
إيْ ورَبِّ هَذِهِ القِبْلَةِ. (انْظُر الحَدِيث 3232) .
الحَدِيث مر فِي كتاب الْمُزَارعَة فِي: بَاب اقتناء
الْكَلْب للزِّرَاعَة. وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال أَبُو
أَيُّوب، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن خصيفَة، بِضَم
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، وَقد مر فِيمَا مضى،
والسائب من السيب ابْن يزِيد من الزِّيَادَة مر فِي
الْوضُوء (والشنئي) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وبالنون
والهمزة: نِسْبَة إِلَى شنُوءَة.
قَوْله: (أَي:) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء حرف:
جَوَاب بِمَعْنى: نعم، فَيكون لتصديق الْخَبَر والإعلام
المستخبر ولوعد الطَّالِب، وَزعم ابْن الْحَاجِب أَنَّهَا
إِنَّمَا تقع بعد الِاسْتِفْهَام، وَاتفقَ الْجَمِيع على
أَنَّهَا لَا تقع إلاَّ قبل الْقسم، كَمَا وَقع هُنَا قبل
قَوْله: (وَرب هَذِه الْقبْلَة) وَقَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: لَا تعلق لبَعض هَذِه الْأَحَادِيث بترجمة
الْبَاب؟ قلت: هَذَا آخر كتاب البدء، فَذكر فِيهِ مَا ثَبت
عِنْده مِمَّا يتَعَلَّق بالمخلوقات، وَذكر صَاحب
(التَّوْضِيح) أَن ذكر أَحَادِيث الْكَلْب هُنَا لما أُتِي
عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره: أَنَّهَا من الْجِنّ، والترجمة
قريبَة من الْجِنّ. انْتهى. قلت: أما مَا ذكره
الْكرْمَانِي فبعيد جدا، لِأَنَّهُ لَا تعلق لَهَا أصلا
بالترجمة، وَكَونهَا مِمَّا يتَعَلَّق بالمخلوقات لَا
يَقْتَضِي الْمُنَاسبَة لذكرها فِي هَذِه التَّرْجَمَة،
وَهَذَا بعيد جدا، وَأما مَا ذكره صَاحب (التَّوْضِيح)
فأبعد مِنْهُ جدا، لِأَن كَونهَا من الْجِنّ يَقْتَضِي
ذكرهَا فِي: بَاب الْجِنّ، وَكَيف يكون قرب هَذِه من: بَاب
ذكر الْجِنّ، وَبَينه وَبَين التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة
ثَلَاثَة أَبْوَاب؟ وبمثل هَذَا لَا تقع الْمُطَابقَة.
وَالْجَوَاب الموجه مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ: أَن هَذِه
التَّرْجَمَة، وَهِي قَوْله: بَاب إِذا وَقع الذُّبَاب
(15/203)
فِي شراب أحدكُم ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بموجود عِنْد
الْأَكْثَرين من الروَاة، فَحِينَئِذٍ تقع الْمُطَابقَة
بَين هَذِه الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة فِي
هَذَا الْبَاب وَبَين التَّرْجَمَة السَّابِقَة عَلَيْهِ،
وَهِي قَوْله: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَبث فِيهَا من
كل دَابَّة} (الْبَقَرَة: 461) . وَقَوله: (بَاب خير مَال
الْمُسلم) ، و: بَاب (خمس من الدَّوَابّ) داخلان فِي: بَاب
قَول الله تَعَالَى: {وَبث فِيهَا من كل دَابَّة}
(الْبَقَرَة: 461) . فَإِن قلت: فعلى هَذَا حَدِيث
الذُّبَاب لَا يبْقى لَهُ شَيْء من الْمُطَابقَة لشَيْء من
الْأَبْوَاب؟ قلت: قيل: مطابقته لقَوْله: بَاب إِذا وَقع
الذُّبَاب، ظَاهِرَة جدا، لَكِن يتَوَجَّه الْجَواب فِي
ذَلِك، على من لَا يرى وجود هَذَا الْبَاب، وَأما أَبُو
ذَر الَّذِي روى عَن مشايخه وجود هَذَا الْبَاب، فقد
قَالُوا: لم يَقع هَذَا إلاَّ فِي آخر الْأَبْوَاب
الْمُتَقَدّمَة كلهَا، فَإِن صَحَّ هَذَا أَنه وَقع فِي
آخر الْأَبْوَاب كلهَا بَابا مُسْتقِلّا، فَلَا كَلَام
فِيهِ، فَإِنَّهُ بَاب مترجم بِشَيْء يُطَابق حَدِيثه
إِيَّاه، وَالله أعلم. |