عمدة القاري شرح صحيح البخاري

65 - (كِتابُ تَفْسيرِ القُرْآنِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر هَكَذَا: كتاب تَفْسِير الْقُرْآن، وَعند غير أبي ذَر الْبَسْمَلَة مؤخرة عَن التَّرْجَمَة، وَالتَّفْسِير مصدر من فسر من بَاب التفعيل وَمَعْنَاهُ اللّغَوِيّ: الْبَيَان، يُقَال: فسَرت الشَّيْء بِالتَّخْفِيفِ وفسَّرته بِالتَّشْدِيدِ: إِذا بَينته، وَمَعْنَاهُ الإصطلاحي: التَّفْسِير هُوَ التكشيف عَن مدلولات نظم الْقُرْآن.
الرَّحْمانِ الرَّحِيمُ اسْمانِ منَ الرَّحْمَةِ: الرَّحِيمُ والرَّاحِمُ بِمَعْنى واحِدٍ كالْعَلِيمِ والعالِم
قَوْله: (من الرَّحْمَة) أَي: مشتقان من الرَّحْمَة، وَهِي فِي اللُّغَة: الحنو والعطف، وَفِي حق الله تَعَالَى مجَاز عَن إنعامه على عباده وَعَن ابْن عَبَّاس: الرَّحْمَن الرَّحِيم إسماه رقيقان أَحدهمَا أرق من الآخر، فالرحمن الرَّقِيق والرحيم العاطف على خلقه بالرزق، وَقيل: الرَّحْمَن لجَمِيع الْخلق، والرحيم للْمُؤْمِنين، وَقيل: رَحْمَن الدُّنْيَا وَرَحِيم الْآخِرَة، وَعَن ابْن الْمُبَارك: الرَّحْمَن إِذا سُئِلَ أعْطى، والرحيم إِذا لم يسْأَل يغْضب، وَعَن الْمبرد: الرَّحْمَن عبراني والرحيم عَرَبِيّ. قلت: فِي العبراني بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (الرَّحِيم والراحم بِمَعْنى وَاحِد) ، فِيهِ نظر، لِأَن الرَّحِيم إِن كَانَ صِيغَة مُبَالغَة فيزيد مَعْنَاهُ على معنى الراحم، وَإِن كَانَ صفة مشبهة فَيدل على الثُّبُوت، بِخِلَاف الراحم فَإِنَّهُ يدل على الْحُدُوث، وَأجِيب بِأَن مَا قَالَه بِالنّظرِ إِلَى أصل الْمَعْنى دون الزِّيَادَة.

1 - (بابُ مَا جاءَ فِي فاتِحَةِ الكِتابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي فَاتِحَة الْكتاب من الْفضل أَو من التَّفْسِير أَو أَعم من ذَلِك، إعلم أَن لسورة الْفَاتِحَة ثَلَاثَة عشر إسماً. الأول: فَاتِحَة الْكتاب، لِأَنَّهُ يفْتَتح بهَا فِي الْمَصَاحِف والتعليم، وَقيل: لِأَنَّهَا أول سُورَة نزلت من السَّمَاء. الثَّانِي: أم الْقُرْآن على مَا يَجِيء. الثَّالِث: الْكَنْز. وَالرَّابِع: الوافية، سميت بهَا لِأَنَّهَا لَا تقبل التنصف فِي رَكْعَة. وَالْخَامِس: سُورَة الْحَمد، لِأَنَّهُ أَولهَا: الْحَمد. وَالسَّادِس: سُورَة الصَّلَاة. وَالسَّابِع: السَّبع المثاني. وَالثَّامِن: الشِّفَاء والشافية، وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ

(18/79)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَاتِحَة الْكتاب شِفَاء من كل سم. وَالتَّاسِع: الكافية لِأَنَّهَا تَكْفِي عَن غَيرهَا. والعاشر: الأساس لِأَنَّهَا أول سُورَة الْقُرْآن فَهِيَ كالأساس. وَالْحَادِي عشر: السُّؤَال لِأَن فِيهَا سُؤال العَبْد من ربه. وَالثَّانِي عشر: الشُّكْر، لِأَنَّهَا ثَنَاء على الله تَعَالَى. وَالثَّالِث عشر: سُورَة الدُّعَاء لاشتمالها على قَوْله: (اهدنا الصِّرَاط) .
وسُمِّيَتْ أمَّ الكِتاب أنَّهُ يُبْدَأ بِكِتابَتِها فِي المَصاحِفِ ويُبْدَأ بِقِراءَتِها فِي الصَّلاَةِ
أَي: وَسميت سُورَة الْفَاتِحَة أم الْكتاب وَذَلِكَ بِالنّظرِ إِلَى أَن الْأُم مبدأ الْوَلَد، وَقيل: سميت بهَا لاشتمالها على الْمعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآن من الثَّنَاء على الله تَعَالَى والتعبد بِالْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد، وَقيل: لِأَن فِيهَا ذكر الذَّات وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال. وَلَيْسَ فِي الْوُجُود سَوَاء. وَقيل: لاشتمالها على ذكر المبدأ والمعاش والمعاد، وَسميت: أم الْقُرْآن لِأَن الْأُم فِي اللُّغَة الأَصْل، سميت بِهِ لِأَنَّهَا لَا تحْتَمل شَيْئا مِمَّا فِيهِ النّسخ والتبديل، بل آياتها كلهَا محكمَة فَصَارَت أصلا، وَقيل: سميت أم الْقُرْآن لِأَنَّهَا تؤم غَيرهَا كَالرّجلِ يؤم غَيره فيتقدم عَلَيْهِ.
والدِّينُ الجَزَاءُ فِي الخَيْرِ والشَّرِّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَقَالَ مُجاهِدٌ بالدِّينِ بالحِسَابِ مَدِينِينَ مُحاسَبِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير الدّين فِي قَوْله: {مَالك يَوْم الدّين} وَهُوَ كَلَام أبي عُبَيْدَة حَيْثُ قَالَ: الدّين الْجَزَاء والحساب، يُقَال فِي الْمثل: كَمَا تدين تجازي، أَي كَمَا تفعل تجازى بِهِ، وَرُوِيَ هَذَا حَدِيثا مُرْسلا، رَوَاهُ بعد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرُوِيَ أَيْضا بِهَذَا الْإِسْنَاد عَن أبي قلَابَة عَن أبي الدَّرْدَاء مَوْقُوفا، وَأَبُو قلَابَة: عبد الله بن زيد لم يدْرك أَبَا الدَّرْدَاء. قَوْله: (وَقَالَ مُجَاهِد: بِالدّينِ بِالْحِسَابِ) . هُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي يكذب بِالدّينِ} (الماعون: 1) وَوَصله عبد بن حميد فِي التَّفْسِير من طَرِيق مَنْصُور عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {كلا بل تكذبون بِالدّينِ} (الانفطار: 9) ، قَالَ: الْحساب وَالدّين يَأْتِي لمعان كَثِيرَة: (الْعَادة) (وَالْعَمَل) (الحكم) (وَالْحَال) (وَالْحق) (وَالطَّاعَة) (والقهر) (وَالْملَّة) (والشريعة) (والورع) (والسياسة) ، قَوْله: (مدينين محاسبين) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فلولا أَن كُنْتُم غير مدينين} (الْوَاقِعَة: 86) وَفسّر مدينين بقوله: محاسبين، بِفَتْح السِّين.

4474 - ح دَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ قَالَ حدَّثني خُبَيْبُ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ حَفْصِ ابنِ عاصِمٍ عنْ أبي سَعِيدِ بن المُعَلى قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ فدَعانِي رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ أُجِبْهُ فقلْتُ يَا رسولَ الله إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي فَقال ألَمْ يَقُلِ الله اسْتَجِيبُوا لله ولِلرَّسُولِ إذَا دَعاكُمْ ثُمَّ قَالَ ألاَ أُعَلِّمَنَّكَ سورَةً هِيَ أعْظَمُ السُّوَر فِي القُرْآن قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أرادَ أنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لهُ ألمْ نَقُلْ لأُعَلِّمَنَّكَ سورَةً هِيَ أعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ قَالَ الحَمْدُ لله رَبِّ الْعالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أوتِيتُهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وخبيب، بِضَم الْخَاء العجمة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن بن خبيب بن يسَاف، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف السِّين الْمُهْملَة: أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ الخزرجي الْمدنِي، وَحَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وَأَبُو سعيد، بِفَتْح السِّين وَكسر الْعين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن الْمُعَلَّى، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين وَاللَّام الْمُشَدّدَة على لفظ إسم مفعول من التعلية، وَاخْتلف فِي إسم أبي سعيد هَذَا فَقيل: اسْمه رَافع، وَقيل: الْحَارِث، وَقيل: أَوْس، وَقَالَ أَبُو عمر: من قَالَ هُوَ رَافع بن الْمُعَلَّى فقد أَخطَأ لِأَن رَافع بن الْمُعَلَّى قتل ببدر، وَأَصَح مَا قيل الله أعلم فِي اسْمه: الْحَارِث بن نفيع بن الْمُعَلَّى بن لوذان بن حَارِثَة بن زيد بن ثَعْلَبَة من بني زُرَيْق الْأنْصَارِيّ الزرقي توفّي سنة أَربع وَسبعين وَهُوَ ابْن أَربع وَسبعين، وَقَالَ أَبُو عمر أَيْضا: لَا يعرف فِي الصَّحَابَة إلاَّ بحديثين: أَحدهمَا: عَن شُعْبَة عَن خبيب بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخر مَا ذكر هُنَا، وَالْآخر: عِنْد اللَّيْث بن سعد وَهُوَ حَدِيث طَوِيل، وأوله:

(18/80)


كُنَّا نغدو إِلَى السُّوق على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَقيل: نسب الْغَزالِيّ وَالْفَخْر الرَّازِيّ وتبعهما الْبَيْضَاوِيّ هَذَا الحَدِيث إِلَى أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَهُوَ وهم، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو سعيد بن الْمُعَلَّى، وَقَالَ بَعضهم: وروى الْوَاقِدِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي رِوَايَة عَن أبي سعيد بن الْمُعَلَّى عَن أبي بن كَعْب وَلَيْسَ كَذَلِك، وَالَّذِي هُنَا هُوَ الصَّحِيح، وَشَيخ الْوَاقِدِيّ هُنَا مَجْهُول أَيْضا وَهُوَ مُحَمَّد بن معَاذ، وَقَالَ أَيْضا: الْوَاقِدِيّ شَدِيد الضعْف إِذا انْفَرد فَكيف إِذا خَالف؟ قلت: ذكر الْحَافِظ الْمزي هَذَا وَلم يتَعَرَّض إِلَى شَيْء من ذَلِك، وَمن الْعجب أَن الْوَاقِدِيّ أحد مَشَايِخ إِمَامه الشَّافِعِي ويحط عَلَيْهِ هَذَا الْحَط وَهُوَ، وَإِن كَانَ ضعفه بَعضهم، فقد وَثَّقَهُ آخَرُونَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: الْوَاقِدِيّ أَمِين النَّاس على أهل الْإِسْلَام، وَعَن مُصعب بن الزبير: ثِقَة مَأْمُون، وَكَذَا وَثَّقَهُ أَبُو عبيد وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن الْمُبَارك وَآخَرُونَ.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَعَن بنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عبيد الله بن معَاذ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن بنْدَار. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي ثَوَاب التَّسْبِيح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) ، أَي: فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلم أجبه) ، لِأَنَّهُ ظن أَن الْخطاب لمن هُوَ خَارج عَن الصَّلَاة. قَوْله: (ألم يقل الله اسْتجِيبُوا لله وَالرَّسُول إِذا دعَاكُمْ) هَذَا خَاص بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَلا أعلمنك) كلمة: إلاَّ للحث والتحضيض على مَا يَقُوله الْقَائِل فِي مثل هَذَا الْموضع، وأعلمنك، بنُون التَّأْكِيد الْمُشَدّدَة. قَوْله: (أعظم سُورَة فِي الْقُرْآن) قَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون أعظم بِمَعْنى عَظِيم، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ أَن ثَوَابهَا أعظم من غَيرهَا، وَاسْتدلَّ بِهِ على جَوَاز تَفْضِيل بعض الْقُرْآن على بعض، وَقد منع ذَلِك الْأَشْعَرِيّ وَجَمَاعَة لِأَن الْمَفْضُول نَاقص عَن دَرَجَة الْأَفْضَل، وأسماه الله وَصِفَاته وَكَلَامه لَا نقص فِيهَا، وَأجِيب عَن هَذَا بِأَن الْأَفْضَلِيَّة من حَيْثُ الثَّوَاب والنفع للمتعبدين لَا من حَيْثُ الْمَعْنى وَالصّفة، فَإِن قلت: يُؤَيّد التَّفْضِيل قَوْله تَعَالَى: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} (الْبَقَرَة: 106) قلت: الْخَيْرِيَّة فِي الْمَنْفَعَة والرفق لِعِبَادِهِ لَا من حَيْثُ الذَّات. قَوْله: (قَالَ: الْحَمد لله رب الْعَالمين) ، هَذَا صَرِيح فِي الدّلَالَة على أَن الْبَسْمَلَة لَيست من الْفَاتِحَة. قَوْله: (هِيَ السَّبع المثاني) ، أما السَّبع فَلِأَنَّهَا سبع آيَات بِلَا خلاف إِلَّا أَن مِنْهُم من عد: أَنْعَمت عَلَيْهِم دون التَّسْمِيَة، وَمِنْهُم من مذْهبه على الْعَكْس، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، قلت: الأول قَول الْحَنَفِيَّة، وَالْعَكْس قَول الشَّافِعِيَّة، فَإِنَّهُم يعدون التَّسْمِيَة من الْفَاتِحَة وَلَا يعدون: أَنْعَمت عَلَيْهِم آيَة، وَلكُل فريق حجج وبراهين عرفت فِي موضعهَا، وَإِمَّا تَسْمِيَتهَا بالمثاني فَلِأَنَّهَا تثني فِي كل رَكْعَة، وَقيل: المثاني من التَّثْنِيَة وَهِي التكرير لِأَن الْفَاتِحَة تكَرر قرَاءَتهَا فِي الصَّلَاة، أَو من الثَّنَاء لاشتمالها على مَا هُوَ ثَنَاء على الله تَعَالَى، وَفِيه نظر، والمثاني: جمع مثنى الَّذِي هُوَ معدول عَن اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَافْهَم. وروى ابْن عَبَّاس: أَن السَّبع المثاني هِيَ السَّبع الطوَال: (الْبَقَرَة) و (آل عمرَان) و (النِّسَاء) و (الْمَائِدَة) و (الْأَنْعَام) و (الْأَعْرَاف) و (يُونُس) وَكَذَا رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير، وَكَذَا ذكره الْحَاكِم، وَقَالَ: الْكَهْف، بدل: يُونُس، وَذكر الدَّاودِيّ عَن غَيره: أَنَّهَا من (الْبَقَرَة) إِلَى (بَرَاءَة) قَالَ: وَقيل: هِيَ السَّبع الَّتِي تلِي هَذِه السَّبع، وَقيل: السَّبع الْفَاتِحَة، والمثاني الْقُرْآن، وَقَالَ الْخطابِيّ: يَعْنِي بالعظيم عَظِيم المثوبة على قرَاءَتهَا وَذَلِكَ لما تجمع هَذِه السُّورَة من الثَّنَاء وَالدُّعَاء وَالسُّؤَال، وَالْوَاو فِي: وَالْقُرْآن الْعَظِيم، لَيست وَاو الْعَطف الْمُوجبَة للفصل بَين الشَّيْئَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ الْوَاو الَّتِي تَجِيء بِمَعْنى التَّخْصِيص كَقَوْلِه: {وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل} (الْبَقَرَة: 98) ، وَكَقَوْلِه: {فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 68) وَقَالَ الْكرْمَانِي الْمَشْهُور بَين النُّحَاة أَن هَذِه الْوَاو للْجمع بَين الوصفين، فمعني: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} أَي: مَا يُقَال لَهُ: السَّبع المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم، وَمَا يُوصف بهما انْتهى. قلت: قَول الْخطابِيّ: إِن هَذِه الْوَاو وَلَيْسَت للْعَطْف خلاف مَا قَالَه النُّحَاة وَغَيرهم، وَهَذَا من عطف الْعَام على الْخَاص، وَقد مثل هُوَ أَيْضا بقوله: {فَاكِهَة ونخل ورمان} (الْحجر: 87) وَهَذَا يرد كَلَامه على مَا لَا يخفى، وَكَون الْعَطف عطف الْعَام على الْخَاص أَو بِالْعَكْسِ لَا يخرج الْوَاو عَن العطفية.

2 - (بابُ غَيْرِ المَغْصُوبِ عَلَيْهِمْ ولاَ الضَّالِّينَ)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر قَوْله تَعَالَى: {غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} ، وَلَا وَجه لذكر لفظ: بَاب هُنَا، وَلَا ذكره حَدِيث الْبَاب هَهُنَا مناسباً لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بالتفسير، وَإِنَّمَا مَحَله أَن يذكر فِي فضل الْقُرْآن.

(18/81)


4475 - ح دَّثنا عبْدُ الله بنُ يوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمّيَ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أَن رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا قَالَ الإمامُ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولاَ الضَّالِّينَ فقُولُوا آمِينَ فمنْ وافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات. والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب جهر الإِمَام بآمين، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

2 - (سورَةُ البَقَرَةِ)

أَي: هَذَا بَيَان مَا فِي سُورَة الْبَقَرَة من التَّفْسِير، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، أَي: السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَالسورَة فِي اللُّغَة وَاحِد السُّور وَهِي كل منزلَة من الْبناء، وَمِنْه: سور الْقُرْآن لِأَنَّهَا منزلَة بعد منزلَة مَقْطُوعَة عَن الْأُخْرَى، وَالْجمع: بِفَتْح الْوَاو، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَيجوز أَن يجمع على سورات وسورات، وَسورَة الْبَقَرَة مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ الْقشيرِي: إلاَّ آيَة وَاحِدَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} (الْبَقَرَة: 281) فَإِنَّهَا نزلت يَوْم النَّحْر فِي حجَّة الْوَدَاع بمنى، وَهِي خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف حرف وَخَمْسمِائة حرف، وَسِتَّة آلَاف وَمِائَة وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ كلمة، ومائتان وست وَثَمَانُونَ آيَة فِي الْعدَد الْكُوفِي، وَهُوَ عدد عَليّ رَضِي الله عَنهُ، وَفِي عدد أهل الْبَصْرَة: مِائَتَان وَثَمَانُونَ وَسبع آيَات، وَفِي عدد أهل الشَّام: مِائَتَان وَثَمَانُونَ وَأَرْبع آيَات، وَفِي عدد أهل مَكَّة: مِائَتَان وَثَمَانُونَ وَخمْس آيَات، وَهِي أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ فِي قَول، وَقيل لَهَا: فسطاط الْقُرْآن، فِيهَا خَمْسَة عشر مثلا، وَخَمْسمِائة حِكْمَة، وفيهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ رَحْمَة.

1 - (بابُ قوْلِ الله تَعَالَى: {وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها} (الْبَقَرَة: 31)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} (الْبَقَرَة: 31) هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره سقط لفظ: بَاب قَول الله.

4476 - ح دَّثنا مُسْلِمُ بنُ إِبْرَاهِيمَ حدّثنا هِشَامٌ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لي خَلِيفَةُ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ حَدثنَا سعِيدٌ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يجْتَمِعُ المُؤمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فيَقُولون لَو اسْتَشْفَعْنا إِلَى رَبِّنا فَيأتُونَ آدَمَ فيَقُولُونَ أنْتَ أبُو النّاس خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ وأسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وعَلَّمَكَ أسْماءَ كلِّ شَيْءٍ فاشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنا مِنْ مكانِنا هاذا فيَقُولُ لَسْتُ هُناكُمْ ويَذْكُرُ ذَنْبَهُ فيسْتَحِي ائْتُوا نُوحاً فإنَّهُ أوَّلُ رَسولٍ بَعَثَهُ الله إلَى أهْلِ الأرْضِ فيَأتُونَهُ فيَقُولُ لَسْتُ هُناكُمْ ويَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فيَسْتَحِي فيَقُولُ ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمانِ فَيأتُونَهُ فيَقُولُ لَسْتُ هُناكُمْ ائْتُوا موساى عَبْداً كلّمَهُ الله وأعْطاهُ التَّوْرَاةَ فيأتُونَهُ فيَقُولُ لَسْتُ هُناكُمْ ويَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ فيَسْتَحي مِنْ رَبِّهِ فَيَقُولُ ائْتُوا عِيسَى عبْدَ الله ورسُولَهُ وكَلِمَةَ الله ورُوحَهُ فيَقُولُ لَسْتُ هُناكُمْ ائْتُوا محَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبْداً غَفَرَ الله لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأخَّرَ فيَأتُوني فأنْطَلِقُ حَتَّى أسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ فإِذا رَأيْتُ رَبِّي وقَعْتُ ساجِداً فَيَدَعُني مَا شاءَ الله ثُمَّ يُقالُ

(18/82)


ارْفَعْ رَأْسك وسَلْ تُعْطَهْ وقُلْ يُسْمَعْ واشْفَعْ تُشفَعْ فأرْفَعْ رَأسِي فأحْمَدُهُ بتَحْمِيدٍ يُعلِّمُنِيهِ ثُمَّ أشْفعُ فيَحُد لِي حَدا فأُدْخِلُهُمُ الْجنَّة ثُمَّ أعُودُ إليْهِ فإِذَا رَأيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ثُمَّ أشْفَعُ فيَحُدُّ لِي حَدًّا فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ثُمَّ أعُودُ الثَّالِثَةَ ثُمَّ أعودُ الرَّابِعَةَ فأقُولُ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إلاَّ مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ قَالَ أبُوا عبْدِ الله إلاَّ مَنْ حبَسَهُ القُرْآنُ يَعْنِي قَوْلَ الله تَعالى خالِدِينَ فِيهَا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وعلمك أَسمَاء كل شَيْء) وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ القصاب الْبَصْرِيّ عَن هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة عَن أنس. وَالثَّانِي: عَن خَليفَة بن خياط عَن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع عَن سعيد بن أبي عرُوبَة الْبَصْرِيّ عَن قَتَادَة عَن أنس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب التَّوْحِيد فِي قَول الله تَعَالَى: {لما خلقت بيَدي} (ص: 75) عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام عَن قَتَادَة عَن أنس الخ بِطُولِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أبي الْأَشْعَث. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن نصر بن عَليّ.
قَوْله: (وَقَالَ لي خَليفَة) فِي الطَّرِيق الثَّانِي هُوَ على سَبِيل المذاكرة، وَقيل: هُوَ بِمَنْزِلَة التحديث على رأى من رَآهُ، وَقيل: روى البُخَارِيّ عَن خَليفَة هَذَا فِي عشرَة مَوَاضِع مَقْرُونا ومنفرداً، وَالْغَالِب أَنه إِذا أفرده ذكره بِصِيغَة: قَالَ لي. قَوْله: (وعلمك أَسمَاء كل شَيْء) ، أَي: كل شَيْء من سَائِر الْأَشْيَاء حَتَّى الْقَصعَة والقصيعة، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: علمه أَسمَاء مَعْدُودَة، وَفِيه أَرْبَعَة أَقْوَال: الأول: أَنه علمه أَسمَاء الْمَلَائِكَة. الثَّانِي: أَنه علمه أَسمَاء الْأَجْنَاس دون أَنْوَاعهَا كَقَوْلِك: وَملك. الثَّالِث: أَنه علمه أَسمَاء مَا خلق الله فِي الأَرْض من الدو اب والهوام وَالطير. الرَّابِع: أَنه علمه أَسمَاء ذُريَّته. فَإِن قلت: هَل التَّعْلِيم مَقْصُور على الإسم دون الْمَعْنى أَو عَلَيْهِمَا؟ قلت: فِيهِ قَولَانِ. قَوْله: (حَتَّى يُرِيحنَا) ، بِضَم الْيَاء وبالراء: من الإراحة، وَقيل: بالزاي، يَعْنِي: يذهبنا ويبعدنا عَن هَذَا الْمَكَان، وَهُوَ موقف العرصات عِنْد الْفَزع الْأَكْبَر. قَوْله: (لست هُنَاكُم) ، يَعْنِي: لم يخبر أَن لَهُ ذَلِك، وَهنا، للقريب، وَالْكَاف، للخطاب. قَوْله: (وَيذكر ذَنبه) ، وَهُوَ قرْبَان الشَّجَرَة وَالْأكل مِنْهَا. قَوْله: (فَإِنَّهُ أول رَسُول) أَي فَإِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، أول رَسُول من الرُّسُل الَّذين أرسلهم الله. فَإِن قلت: آدم هُوَ أول الرُّسُل؟ قلت: مَعْنَاهُ: أول رَسُول أرْسلهُ الله بعد الطوفان، وَقيل: آدم كَانَ نَبيا لَا رَسُولا، وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ أول رَسُول أرْسلهُ الله بالإنذار لأولاده والإرشاد لَهُم. قَوْله: (وَيذكر سُؤَاله ربه مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم) وَهُوَ قَوْله: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} (نوح: 26) . قَوْله: (قتل النَّفس) هُوَ قَتله القبطي، قَوْله: (وَكلمَة الله وروحه) قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} (النِّسَاء: 171) قيل لَهُ: كلمة الله، لِأَنَّهُ وجد بِكَلِمَة: كن، وروح الله بقوله: {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} (الْأَنْبِيَاء: 91) والحصول الرّوح فِيمَن أَحَي من الْمَوْتَى، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ كلمة الله لِأَنَّهُ قد وجد بِأَمْر الله وكلمته من غير وَاسِطَة أَب ونطفة، وروح الله لِأَنَّهُ ذُو روح وجد من غير جُزْء من ذِي روح كالنطفة الْمُنْفَصِلَة من الْأَب الْحَيّ، وَإِنَّمَا اخترع اختراعاً من عِنْد الله تَعَالَى. قَوْله: (حَتَّى اسْتَأْذن على رَبِّي) ، وَفِي رِوَايَة: فِي دَاره، فَمَعْنَاه: دَاره الَّتِي خلقهَا الْعِبَادَة، كَمَا قيل: بَيت الله للكعبة والمساجد. قَوْله: (تشفع) على صِيغَة الْمَجْهُول بتَشْديد الْفَاء، أَي تقبل شفاعتك. قَوْله: (فيحدلي حدا) ، أَي: يعين لي قوما. قَوْله: (إلاَّ من حَبسه الْقُرْآن) ، أَي: إلاَّ من حكم عَلَيْهِ الْقُرْآن بِالْحَبْسِ وَالْخُلُود فِي النَّار قَالَ تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا} ، أَي الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ معنى قَوْله: (وَوَجَب عَلَيْهِ الخلود) ، أَي: فِي النَّار. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن معنى قَوْله: (حَبسه الْقُرْآن هُوَ قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا} فَإِن قلت: فِي هَذَا الحَدِيث: إِنَّهُم يخرجُون من النَّار بشفاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة: فَأمر الْمَلَائِكَة أَن يخرجُوا قوما من النَّار. قلت: لَا مُنَافَاة فِيهِ لأَنهم قد يؤمرون أَن يخرجوهم بشفاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

2 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب، كَذَا وَقع بِلَا تَرْجَمَة فِي رِوَايَة الْكل.
قَالَ مُجاهِدٌ إلَى شياطِينِهِمْ أصْحابِهِمْ مِنَ المُنافِقِينَ والمُشْرِكِينَ

(18/83)


أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم} (الْبَقَرَة: 14) وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة قَالَ: إِلَى إخْوَانهمْ من الْمُشْركين ورؤوسهم، وَمعنى: خلوا رجعُوا، وَيجوز أَن يكون من الْخلْوَة يُقَال: خلوت بِهِ وخلوت مَعَه وخلوت إِلَيْهِ وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد، والشيطان المتمرد العاتي من الْجِنّ وَالْإِنْس وَمن كل شَيْء، واشتقاقه من: شطن، أَي: بعد عَن الْخَيْر، وَقيل: من شاط يشيط إِذا التهب وَاحْتَرَقَ، فعلى الأول النُّون أَصْلِيَّة، وعَلى الثَّانِي زَائِدَة.
مُحِيطٌ بالكافِرِينَ: الله جامِعُهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى آخر قَوْله تَعَالَى: {أَو كصيب من السَّمَاء فِيهِ ظلمات ورعد وبرق يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق حذر الْمَوْت وَالله مُحِيط بالكافرين} . وَفَسرهُ بقوله: (الله جامعهم) وَهَذَا وَصله عبد بن حميد بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور عَن مُجَاهِد، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وإحاطة الله بالكافرين مجَاز، وَالْمعْنَى أَنهم لَا يفوتونه كَمَا لَا يفوت المحاط بِهِ الْمُحِيط حَقِيقَة، وَهَذِه الْجُمْلَة اعْتِرَاض لَا مَحل لَهَا. انْتهى. قلت: هِيَ جملَة إسمية، فالجملة لَا يكون لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب إلاَّ إِذا وَقعت فِي موقع الْمُفْرد، وَمعنى قَوْله: مجَاز، اسْتِعَارَة تمثيلية شبه حَاله تَعَالَى مَعَ الْكفَّار فِي أَنهم لَا يفوتونه وَلَا محيص لَهُم من عَذَابه بِحَال الْمُحِيط بالشَّيْء لِأَنَّهُ لَا يفوتهُ المحاط.
صبْغَةٌ دِينٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الصبغة الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {صبغة الله} (الْبَقَرَة: 138) مفسرة: بِالدّينِ، وَكَذَا فَسرهَا مُجَاهِد، رَوَاهُ عَنهُ عبد بن حميد من طَرِيق مَنْصُور عَنهُ قَالَ: صبغة الله، أَي: دين الله، وَرُوِيَ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ، قَالَ: صبغة الله أَي: فطْرَة الله.
عَلَى الخَاشِعِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَقًّا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَول الله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا الْكَبِيرَة إلاَّ على الخاشعين} (الْبَقَرَة: 45) ثمَّ فسر الخاشعين بقوله: (على الْمُؤمنِينَ حَقًا) وَوَصله عبد بن حميد عَن شَبابَة بالسند الْمَذْكُور عَن مُجَاهِد، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي الْعَالِيَة قَالَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ على الخاشعين} (الْبَقَرَة: 45) يَعْنِي: الْخَائِفِينَ، وَمن طَرِيق مقَاتل بن حبَان، قَالَ: يَعْنِي بِهِ المتواضعين.
قَالَ مُجاهِدٌ بقُوَّةٍ يَعْمَلُ بِمَا فِيهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة} (الْبَقَرَة: 63 93) ثمَّ فسر الْقُوَّة بقوله: (يعْمل بِمَا فِيهِ) ، وَعَن أبي الْعَالِيَة: الْقُوَّة الطَّاعَة، وَعَن قَتَادَة وَالسُّديّ: الْقُوَّة الْجد وَالِاجْتِهَاد.
وَقَالَ أَبُو الْعالِيَةِ مَرَضٌ شَكٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} ثمَّ حكى عَن أبي الْعَالِيَة أَنه قَالَ: مرض شكّ، وَوصل هَذَا ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن أبي الْعَالِيَة، واسْمه: رفيع بن مهْرَان الريَاحي.
وَمَا خَلْفَها عِبْرَةٌ لِمَنْ بَقِيَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فجعلناها نكالاً لما بَين يَديهَا وَمَا خلفهَا وموعظة لِلْمُتقين} (الْبَقَرَة: 66) ثمَّ فسر قَوْله: {وَمَا خلفهَا} بقوله: (عِبْرَة لمن بَقِي) وَمعنى الْآيَة: فجعلناها، أَي: المسخة الَّتِي تفهم من قَوْله قبل هَذَا: {فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ فجعلناها نكالا} أَي: عِبْرَة، تنكل من اعْتبر بهَا، أَي: تَمنعهُ، وَمِنْه النكل وَهُوَ الْقَيْد. قَوْله: {لما بَين يَديهَا} (الْبَقَرَة: 65) أَي: لما قبلهَا. قَوْله: {وَمَا خلفهَا} (الْبَقَرَة: 66) أَي، وَمَا بعْدهَا من الْأُمَم والقرون، وَفسّر البُخَارِيّ قَوْله: (وَمَا خلفهَا) بقوله: (عِبْرَة لمن بَقِي) بعدهمْ من النَّاس، وَكَذَا فسره أَبُو الْعَالِيَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي جَعْفَر عَنهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَقيل: نكالاً عُقُوبَة منكلة لما بَين يَديهَا لأجل مَا تقدمها من الذُّنُوب وَمَا تَأَخّر مِنْهَا.
لَا شِيَةَ لَا بَياضَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول تثير الأَرْض وَلَا تَسْقِي الْحَرْث مسلمة لَا شية فِيهَا} ثمَّ فسر قَوْله: (لَا شية) ، بقوله (لَا بَيَاض) وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: لَا شية فِيهَا: لَا لمْعَة فِي بقيتها من لون آخر سوى الصُّفْرَة، فَهِيَ صفراء كلهَا حَتَّى قرنها وظلفها،

(18/84)


والشية فِي الأَصْل مصدر وشاه وشياً وشيه إِذا خلط بلونه لون آخر قلت: أصل شية، وشي حذفت الْوَاو مِنْهُ ثمَّ عوض عَنْهَا التَّاء كَمَا فِي عدَّة.
وَقَالَ غيْرُهُ
أَي: غير أبي الْعَالِيَة، وَهُوَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام، وَأَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى، وَأَرَادَ بِهَذَا: أَن تَفْسِير الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة إِلَى هُنَا من قَول أبي الْعَالِيَة الْمَذْكُور، وَالَّذِي بعْدهَا من قَول غَيره.
يَسُومُونَكُمْ: يُولُونَكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يسومونكم سوء الْعَذَاب} (الْبَقَرَة: 49) ، ثمَّ فسر قَوْله: {يسومونكم} (الْأَعْرَاف: 141) بقوله: {يولونكم} (إِبْرَاهِيم: 6) بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى يسومونكم يوردونكم أَو يذيقونكم أَو يولونكم، وَقيل: مَعْنَاهُ يصرفونكم فِي الْعَذَاب مرّة كَذَا وَمرَّة كَذَا، كَمَا يفعل فِي الْإِبِل السَّائِمَة.
الولايَةُ مَفْتُوحَةُ مَصْدَرُ الوَلاءِ وهْيَ الرُّبُوبِيَّةُ وَإذَا كُسِرَتِ الواوُ فَهِيَ الإِمارَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك الْولَايَة لله الْحق} (الْكَهْف: 44) قَوْله: (مَفْتُوحَة) أَي: حَال كَونهَا مَفْتُوحَة، الْوَاو مصدر الْوَلَاء، وَهِي الربوبية، وَمن أَسمَاء الله تَعَالَى: الْوَالِي، وَهُوَ مَالك الْأَشْيَاء جَمِيعهَا المنصرف فِيهَا، وَمن أَسْمَائِهِ: الْوَلِيّ لأمور الْعَالم وَالْخَلَائِق الْقَائِم بهَا. قَوْله: (وَإِذا كسرت الْوَاو) أَي: الْوَاو الَّتِي فِي: الْولَايَة، فَتكون بِمَعْنى: الْإِمَارَة، بسكر الْهمزَة، وَهَذَا كَلَام أبي عُبَيْدَة حَيْثُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك الْولَايَة لله الْحق} ، الْولَايَة بِالْفَتْح مصدر الْوَلِيّ، وبالكسر مصدر وليت الْعَمَل وَالْأَمر تليه.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الحُبُوبُ الَّتي تُؤْكَلُ كلُّها فومٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَادع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها وفومها} (الْبَقَرَة: 61) وَحكى عَن الْبَعْض وَأَرَادَ بِهِ عَطاء وَقَتَادَة: الْحُبُوب الَّتِي تُؤْكَل كلهَا فوم، بِالْفَاءِ، وَهَكَذَا حَكَاهُ الْفراء عَنْهُمَا فِي: (مَعَاني الْقُرْآن) حَيْثُ قَالَ: كل حب يختبز، وروى ابْن جرير الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طرق عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَغَيرهمَا: أَن الفوم الْحِنْطَة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: البقل مَا أنبتته الأَرْض من الْخضر، وَالْمرَاد بِهِ أطايب الْبُقُول الَّتِي يأكلها النَّاس: كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها والفوم الْحِنْطَة، وَمِنْه: فوموا لنا، أَي: اخبزوا، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَطَلْحَة وَالْأَعْمَش: الثوم، بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَبِه فسره سعيد بن جُبَير وَغَيره.
وَقَالَ قَتادَةُ فَباؤُوا فانْقَلَبُوا
أَي: قَالَ قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي فِي تَفْسِير. قَوْله: {فباؤوا بغضب من الله} أَي: فانقلبوا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فباؤوا، من قَوْلك: بَاء فلَان بفلان إِذا كَانَ حَقِيقا بِأَن يقتل بِهِ لمساواته لَهُ ومكافأته، أَي: صَارُوا أحقاء بغضبه، وَقَالَ الزّجاج: البوء التَّسْوِيَة، بقوله: باؤوا، أَي: اسْتَوَى عَلَيْهِم غضب الله، وَيُقَال: البوء الرُّجُوع أَي: رجعُوا وَانْصَرفُوا بذلك، وَهُوَ قريب من تَفْسِير قَتَادَة.
وَقَالَ غيْرُهُ يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ
أَي: وَقَالَ غير قَتَادَة، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة إِن معنى قَوْله: تَعَالَى: {وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا} (الْبَقَرَة: 89) يَعْنِي: يستنصرون، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: يستظهرون، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلما جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين} قَوْله: {وَلما جَاءَهُم} أَي: الْيَهُود {كتاب من عِنْد الله} وَهُوَ الْقُرْآن الَّذِي أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مُصدق لما مَعَهم} يَعْنِي: من التَّوْرَاة، قَوْله: (وَكَانُوا أَي الْيَهُود: من قبل، أَي: من قبل مجيبي الْقُرْآن على لِسَان هَذَا الرَّسُول يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من الْمُشْركين إِذا قاتلوهم، فَيَقُولُونَ: إِنَّه سيبعث نَبِي فِي آخر الزَّمَان نقتلكم مَعَه قتل عَاد) . قَوْله: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا} يَعْنِي: فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأوه وعرفوه {كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: عَلَيْهِم، وضعا للظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، وَاللَّام للْعهد، وَيجوز أَن يكون للْجِنْس. ويدخلوا فِيهِ دُخُولا أولياً.
شَرَوْا باعُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم} (الْبَقَرَة: 102) ثمَّ فسره بقوله: (باعوا) وَكَذَا أخرجه ابْن أبي

(18/85)


حَاتِم من طَرِيق السّديّ.
راعِنا مِنَ الرُّعُونَةِ إذَا أَرَادوا أنْ يُحَمِّقُوا إنْساناً قالُوا رَاعِنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَقولُوا رَاعنا قُولُوا أنظرنا} الْآيَة نهى الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ أَن يشتبهوا بالكافرين فِي مقالهم وفعالهم، وَذَلِكَ أَن الْيَهُود كَانُوا يعانون من الْكَلَام مَا فِيهِ تورية لما يقصدونه من التنقص، فَإِذا أَرَادوا أَن يَقُولُوا: إسمع لنا، يَقُولُونَ: رَاعنا، ويورون بالرعونة الحماقة، وَمِنْهَا: الراعن وَهُوَ الأحمق، والأرعن عَن مُبَالغَة فِيهِ فَنهى الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ عَن مشابهة الْكَفَّارَة قولا وفعلاً، فَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَقولُوا رَاعنا} الْآيَة، وروى أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم، وَقَرَأَ عبد الله بن مَسْعُود: عوناً، وَقَرَأَ الْحسن: رَاعنا، بِالتَّنْوِينِ من الرعن وَهُوَ الحماقة أَي: لَا تَقولُوا قولا رَاعنا مَنْسُوبا إِلَى الرعن. بِمَعْنى: رعينا. وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِلَا تَنْوِين على أَنه فعل أَمر من المراعاة، وَالَّذِي قَالَه البُخَارِيّ يمشي على قِرَاءَة الْحسن.
لَا تَجْزِي لَا تُغْنِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} (الْبَقَرَة: 48) وَفَسرهُ بقوله: {لَا تغني} (الْبَقَرَة: 123) وَكَذَلِكَ فسره أَبُو عُبَيْدَة، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق السّديّ، قَالَ: لَا تغني نفس مُؤمنَة عَن نفس كَافِرَة من الْمَنْفَعَة شَيْئا.
خُطُوَاتٍ مِن الخَطْوِ والمَعْنَى آثارُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} (الْبَقَرَة: 168 208) وَقَالَ: خطوَات من الخطو والخطو مصدر خطا يخطو خطواً، والخطوة بِالضَّمِّ بَعْدَمَا بَين الْقَدَمَيْنِ فِي الْمَشْي، وبالفتح الْمرة، وَجمع الخطوة فِي الْكَثْرَة: خطى، وَفِي الْقلَّة: خطوَات، بِتَثْلِيث الطَّاء، وَفسّر خطوَات الشَّيْطَان بقوله: {آثاره} (الْأَنْعَام: 142) .

3 - (بَاب: قوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لله أنْدَاداً وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَة: 22)

ذكر هَذِه الْآيَة تَوْطِئَة للْحَدِيث الَّذِي ذكره بعْدهَا، وَلما خَاطب الله عز وَجل أَولا النَّاس من الْمُؤمنِينَ وَالْكَفَّارَة وَالْمُنَافِقِينَ بقوله: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم} (الْبَقَرَة: 21) إِلَى قَوْله: {فَلَا تجْعَلُوا} أَي: وحدوا ربكُم الَّذِي من صِفَاته مَا ذكر، خَاطب الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ بقوله: {فَلَا تجْعَلُوا الله أنداداً} وَهُوَ جمع: ند بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الدَّال وَهُوَ النظير قَوْله: {وَأَنْتُم تعلمُونَ} جملَة حَالية، أَي: وَالْحَال أَنكُمْ تعلمُونَ أَن الله تَعَالَى منزه عَن الأنداد والأضداد والأشباه.
وَمن أول الْبَاب إِلَى هُنَا سقط جَمِيعه من رِوَايَة السَّرخسِيّ وَلِهَذَا إِلَّا يُوجد فِي كثير من النّسخ، وَيُوجد بعضه فِي بعض.

4477 - ح دَّثني عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حدّثنا جَرِيرٌ عنْ منْصُورٍ عَنْ أبي وائِلٍ عنْ عَمْروِ بنِ شُرْحَبِيلَ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ سألتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ الله قَالَ أنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وهْوَ خلَقَكَ قُلْتُ إنَّ ذَالِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثمَّ أيّ قَالَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخافُ أنْ يطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثمَّ أيّ قَالَ أنْ تُزَانِيَ حَلَيلَةَ جارِكَ.

ذكر هَذَا الحَدِيث مناسباً لِلْآيَةِ الَّتِي قبله. وَعُثْمَان هُوَ أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأَبُو بكر اسْمه عبد الله، وَاسم أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان، وَهُوَ جدهما، وأبوهما مُحَمَّد بن أبي شيبَة وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هُنَا عَن مُسَدّد، وَأخرجه فِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن كثير وَفِي الْمُحَاربين عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عُثْمَان بن إِسْحَاق. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ وَفِيه وَفِي الرَّجْم عَن قُتَيْبَة وَفِي الْمُحَاربَة عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (أَن تجْعَل لله ندا) قدمه لِأَنَّهُ أعظم الذُّنُوب، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 13) ثمَّ ثناه

(18/86)


بِالْقَتْلِ لِأَن عِنْد الشَّافِعِيَّة أكبر الْكَبَائِر بعد الشّرك الْقَتْل ثمَّ ثلثه بِالزِّنَا، لِأَنَّهُ سَبَب لاختلاط الْأَنْسَاب لَا سِيمَا مَعَ حَلِيلَة الْجَار، لِأَن الْجَار يتَوَقَّع من جَاره الذب عَنهُ وَعَن حريمه فَإِذا قَابل هَذَا بالذب عَنهُ كَانَ من أقبح الْأَشْيَاء. قَوْله: (ثمَّ أَي؟) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَي: هَهُنَا مشدد منون، كَذَا سمعته من أبي مُحَمَّد بن الخشاب، قَالَ: لَا يجوز إلاَّ تنوينه لِأَنَّهُ إسم مُعرب غير مُضَاف. قَوْله: (وَأَن تقتل ولدك) فِيهِ ذمّ شَدِيد للبخيل لِأَن بخله أَدَّاهُ إِلَى قتل وَلَده مَخَافَة أَن يَأْكُل مَعَه. قَوْله: (تخَاف) ، فِي مَوضِع الْحَال. قَوْله: (أَن تُزَانِي) من بَاب المفاعلة من الزِّنَا مَعْنَاهُ: أَن تَزني بِرِضَاهَا، وَلأَجل هَذَا ذكره من بَاب المفاعلة. قَوْله: (حَلِيلَة) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة: الزَّوْجَة، سميت بذلك لكَونهَا تحل لَهُ فَهِيَ حَلِيلَة بِمَعْنى محلّة لكَونهَا تحل مَعَه بِضَم الْحَاء، وَقيل: لِأَن كلا مِنْهُمَا يحل أزرة الآخر، وَهِي أَيْضا: عرسه وظعينته وربضه وطلعته وحنته وبيته وقعيدته وشاعته وبعلته وضبينته وجارته وفرشه وَزَوجته وعشيرته وَأَهله.

4 - (بَاب: وقَوْلُهُ تَعَالى: {وظَللْنا علَيْكُمُ الغَمامَ وأنْزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَمَا ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الْبَقَرَة: 57) وَقَالَ مجاهِدٌ المَنُّ صَمْغَةٌ والسَّلْوَى الطيْرُ.)

ذكر هَذِه الْآيَة وَلم يذكر شَيْئا من تَفْسِيرهَا غير مَا ذكره من قَول مُجَاهِد، وَلما ذكر الله تَعَالَى مَا دفع عَن قوم مُوسَى من النقم الْمَذْكُورَة قبل هَذِه الْآيَة، ذكرهم هُنَا بِمَا أَسْبغ عَلَيْهِم من النعم، فَقَالَ: (وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام) وَهُوَ جمع غمامة، سمي بذلك لِأَنَّهُ يغم السَّمَاء أَي يواريها ويسترها، وَهُوَ السَّحَاب الْأَبْيَض ظللوا بِهِ فِي التيه ليقيهم حر الشَّمْس، وَعَن مُجَاهِد: لَيْسَ من زِيّ مثل هَذَا السَّحَاب بل أحسن مِنْهُ وَأطيب وأبهى منْظرًا، وَذكر سنيد فِي تَفْسِيره: عَن حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: غمام أبرد من هَذَا وَأطيب، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي الله فِيهِ فِي قَوْله: {هَل ينظرُونَ إلاَّ أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} (الْبَقَرَة: 210) وَهُوَ الَّذِي جَاءَت فِيهِ الْمَلَائِكَة يَوْم بدر. قَوْله: (وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى) وَفسّر مُجَاهِد: الْمَنّ، بقوله صمغة، والسلوى، بالطير، رَوَاهُ عَنهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَعَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ الْمَنّ ينزل عَلَيْهِم على الْأَشْجَار فيغدون إِلَيْهِ ويأكلون مِنْهُ مَا شاؤوا، وَقَالَ عِكْرِمَة: شَيْء يشبه الرب الغليظ، وَعَن السّديّ: إِنَّه الترنجبين، وَقَالَ الرّبيع بن أنس: الْمَنّ شراب كَانَ ينزل عَلَيْهِم مثل الْعَسَل فيمزجونه بِالْمَاءِ ثمَّ يشربونه، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: هُوَ خبز الرقَاق مثل الذّرة أَو مثل النقي، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن الشّعبِيّ، قَالَ: عسلكم هَذَا جُزْء من سبعين جُزْءا من الْمَنّ، وَكَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: إِنَّه الْعَسَل.
وَاخْتلفت عِبَارَات الْمُفَسّرين فِي (الْمَنّ) وَلكنهَا مُتَقَارِبَة فَمنهمْ من فسره بِالطَّعَامِ، وَمِنْهُم من فسره بِالشرابِ، وَالظَّاهِر وَالله أعلم أَن كل مَا امتن الله بِهِ عَلَيْهِم من طَعَام أَو شراب وَغير ذَلِك مِمَّا لَيْسَ لَهُم فِيهِ عمل وَلَا كد، فالمن الْمَشْهُور إِن أكل وَحده كَانَ طَعَاما، وَإِن مزج مَعَ المَاء كَانَ شرابًا طيبا وَإِن ركب مَعَ غَيره صَار نوعا آخر. وَأما (السلوى) فَكَذَلِك اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة: عَن أبي عَبَّاس: السلوى طَائِر شَبيه السمان يأكلوه مِنْهُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَالشعْبِيّ وَالضَّحَّاك وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَالربيع بن أنس، وَعَن وهب: هُوَ طير سمين مثل الْحَمَامَة يَأْتِيهم فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ من سبت إِلَى سبت، وَعَن عِكْرِمَة: طير أكبر من العصفور، وَقَالَ ابْن عَطِيَّة: السلوى طير بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين، وَقد غلط الْهُذلِيّ فِي قَوْله: إِنَّه الْعَسَل، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: دَعْوَى الْإِجْمَاع لَا يَصح لِأَن المؤرخ أحد عُلَمَاء اللُّغَة وَالتَّفْسِير قَالَ: إِنَّه الْعَسَل، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: السلوى الْعَسَل، قَالُوا: والسلوى جمع بِلَفْظ الْوَاحِد أَيْضا، كَمَا يُقَال: سماني للْوَاحِد وَالْجمع، وَقَالَ الْخَلِيل: واحده سلوة، وَقَالَ الْكسَائي: السلوى وَاحِد وَجمعه سلاوي. قَوْله: (كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم) أَمر إِبَاحَة وإرشاد وامتنان. قَوْله: (وَمَا ظلمونا) الْآيَة، يَعْنِي: أمرناهم بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وَأَن يعبدوا فخالفوا وَكفر لظلموا أنفسهم. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فظلموا بِأَن كفرُوا هَذِه النعم.

4478 - ح دَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عبْدِ المَلِكِ عنْ عَمْروِ بن حُرَيْثٍ عَن سعِيدٍ

(18/87)


بنِ زَيْدٍ رَضِي الله عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الكَمْأةُ مِن المَنِّ وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ.

قَالَ الْخطابِيّ: لَا وَجه لإدخال هَذَا الحَدِيث هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ المُرَاد من الكمأة فِي الحَدِيث أَنَّهَا نوع من الْمَنّ الْمنزل على بني إِسْرَائِيل، فَإِن ذَلِك شَيْء كَانَ يسْقط عَلَيْهِم كالترنجبين، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنَّهَا شَجَرَة تنْبت بِنَفسِهَا من غير استنبات وَلَا مؤونة، ورد عَلَيْهِ: بِأَن فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر فِي هَذَا الْبَاب من الْمَنّ الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَبِهَذَا تظهر الْمُنَاسبَة فِي ذكره هُنَا، وَكَأن الْخطابِيّ لم يطلع على رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك، فَلذَلِك قَالَ ذَلِك.
وَأَبُو نعيم: بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ هُنَا، وَإِن كَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يروي أَيْضا عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، لِأَن الْغَالِب إِذا أطلق: سُفْيَان عَن عبد الْملك، يكون الثَّوْريّ، وَكَذَا ذكره أَبُو مَسْعُود لما ذكر هَذَا الحَدِيث، وَعَمْرو بن حُرَيْث الْقرشِي المَخْزُومِي وَله صُحْبَة، وَسَعِيد بن زيد ابْن عَمْرو بن نفَيْل الْعَدوي أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن غَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن أبي كريب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْوَلِيمَة عَن يحيى بن حبيب وَغَيره وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح.
قَوْله: (الكمأة) ، بِفَتْح الْكَاف وَإِسْكَان الْمِيم وَفتح الْهمزَة: وَاحِدهَا كمء، وَعَكسه. تَمْرَة وتمر، وَهُوَ من النَّوَادِر، وَقَالَ ابْن سَيّده: جمع الكمء أكمؤه وكمأة، هَذَا قَول أهل اللُّغَة، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَيست الكمأة بِجمع، كمء، لِأَن فعلة لَيْسَ مِمَّا يكسر على فعل، وَإِنَّمَا هُوَ إسم الْجمع، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: كمأة وَاحِدَة وكمأتان وكماء. وَعَن أبي زيد: أَن الكمأة تكون وَاحِدَة وجمعاً. وَفِي (الْجَامِع) : الْجمع الْقَلِيل أكمؤة على أفعل، وَالْجمع الْكثير: كَمَاء، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : الصَّحِيح من هَذَا كُله مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ، وَذكر عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ أَن الكمأة جدرى الأَرْض وَتسَمى بَنَات الرَّعْد، لِأَنَّهَا تكْثر بكثرته وتنفطر عَنْهَا الأَرْض، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: أول اجتناثها سُقُوط الْجَبْهَة، وَهِي تتطاول إِلَى أَن يَتَحَرَّك الْحر، وكمأة السهل بَيْضَاء رخوة، وَالَّتِي بالآكام سَوْدَاء جَيِّدَة، وَقيل: الكمأة هِيَ الَّتِي إِلَى الغبرة والسواد. وَفِي (الْجَامِع) : تخرج بِبَعْض الأَرْض، وَقَالَ ابْن خالويه فِي كِتَابه: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب من أَسمَاء الكمء إلاَّ الَّذِي أعرفك: الذعلوق والبرنيق والمغرود والفقع والجب وَبَنَات أوبر وَالْعقل والقعيل، بِتَقْدِيم الْقَاف على الْعين، والجباة. يُقَال: كمأت الأَرْض أخرجت كماءها، وأجبأت أخرجت جباءها وَهِي الكمأة الْحَمْرَاء، والبدأة يُقَال بدئت الأَرْض بِكَسْر الدَّال، وَعَن أبي حنيفَة: الفردة والفراد وعصاقل وقرحان والخماميس، وَلم أسمع لَهَا بِوَاحِد، قَالَه الْفراء: وَعند الْقَزاز: العرجون ضرب من الكمأة قدر شبر أَو دون ذَلِك وَهُوَ طيب مَا دَامَ غضاً، وَالْجمع العراجين، وَالْفطر قَالَ ابْن سيدة: هُوَ ضرب من الكمأة. قَوْله: (من الْمَنّ) ، ظَاهره أَن الكمأة من نفس الْمَنّ، وَأَبُو هُرَيْرَة أَخذ بِظَاهِرِهِ على مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث قَتَادَة، قَالَ: حدثت أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: أخذت ثَلَاثَة أكمؤ أَو خَمْسَة أَو سبعا فعصرتهن وَجعلت ماءهن فِي قَارُورَة وكحلت بِهِ جَارِيَة فبرئت، وَقَالَ ابْن خالويه: يعصر مَاؤُهَا ويخلط بِهِ أدوية ثمَّ يكتحل بِهِ، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الصَّحِيح أَنه ينْتَفع بصورتها فِي حَال وبإضافتها فِي أُخْرَى. وَفِي (الْجَامِع) لِابْنِ بيطار: هِيَ أصل مستدير لَا ورق وَلَا سَاق لَهَا ولونها إِلَى الْحمرَة مائل تُؤْخَذ فِي الرّبيع وتؤكل نِيَّة ومطبوخة، والغذاء الْمُتَوَلد مِنْهَا أغْلظ من الْمُتَوَلد من القرع وَلَيْسَت بردي، الكيموس، وَهِي فِي الْمعدة الحارة جَيِّدَة لِأَنَّهَا بَارِدَة رطبَة فِي الدرجَة الثَّانِيَة، وأجودها أَشدّهَا تلذذاً وملاساً، وأميلها إِلَى الْبيَاض، والمتخلخلة الرخوة رَدِيئَة جدا، وماؤها يجلو الْبَصَر كحلاً، وَهِي من أصلح أدوية الْعين، وَإِذا رتب بهَا الإثمد واكتحل بِهِ قوى الأجفان، وَزَاد فِي الرّوح الباصرة قُوَّة وحدة، وَيدْفَع عَنْهَا نزُول المَاء. وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ: أَن الْأَطِبَّاء يَقُولُونَ: إِن أكل الكمأة يجلو الْبَصَر، وَقيل: تُؤْخَذ فتشق وتوضع على الْجَمْرَة حَتَّى يغلي مَاؤُهَا ثمَّ يُؤْخَذ ميل فَيصير فِي ذَلِك الشق وَهُوَ فاتر فيكتحل بِهِ، وَلَا يَجْعَل الْميل فِي مَائِهَا وَهِي بَارِدَة يابسة، وَقيل: أَرَادَ المَاء الَّذِي تنْبت بِهِ وَهُوَ أول مطر ينزل إِلَى الأَرْض فتربى بِهِ الأكحال، وَقيل: إِن كَانَ فِي الْعين حرارة فماؤها وَحده شِفَاء، وَإِن كَانَ لغير ذَلِك فيركب مَعَ غَيره. وَقَالَ ابْن التِّين: قيل: أَرَادَ أَنَّهَا تَنْفَع من تَأْخُذهُ الْعين الَّتِي هِيَ النظرة، وَذَلِكَ أَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: وماؤها شِفَاء من الْعين، قَالَ: وَقيل: يُرِيد من دَاء الْعين، فَحذف الْمُضَاف، وَقَالَ الْخطابِيّ فِي قَوْله: (والكمأة من الْمَنّ) ، مَا ملخصه: أَنه لم يرد بِهِ أَنَّهَا من الْمَنّ الَّذِي أنزل على مُوسَى

(18/88)


بني إِسْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن الْمَرْوِيّ أَنه شَيْء كَانَ يسْقط عَلَيْهِم كالترنجبين، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي أول الحَدِيث، وَالْجَوَاب عَنهُ أَيْضا: وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ كَثِيرُونَ: شبهها بالمن الَّذِي أنزل عَلَيْهِم حَقِيقَة، عملا بِظَاهِر اللَّفْظ، وَقيل: معنى قَوْله: (الكمأة من الْمَنّ) يَعْنِي: مِمَّا من الله على عباده بهَا بإنعامه ذَلِك عَلَيْهِم.