عمدة القاري شرح صحيح البخاري

5 - (بابٌ {وإذْ قُلْنا ادْخُلُوا هاذِهِ القَرْيَةَ فكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدَا وادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وقُولُوا حِطَّة تَغْفِرْ لكُمْ خَطاياكُمْ وَسنَزِيدُ المُحْسِنِينَ} (الْبَقَرَة: 58)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قُلْنَا} الْآيَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْنَا} وَفِي بَعْضهَا لَيْسَ فِيهَا لفظ: بَاب، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب: {وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم} ، الْآيَة كَذَا وجد فِي رِوَايَة غَيره إِلَى قَوْله: (الْمُحْسِنِينَ) . قَوْله: (وَإِذ قُلْنَا) ، يَعْنِي: اذكر، وَهُوَ الْعَامِل فِي: إِذْ، وَفِي الْأَعْرَاف: {وَإِذ قيل لَهُم} (الْأَعْرَاف: 161) ، قَوْله: (ادخُلُوا) ، قَالَ فِي الْأَعْرَاف: اسكنوا وَكَانَ هَذَا الْأَمر أَمر تَكْلِيف. قَوْله: (هَذِه الْقرْيَة) ، أَي: بَيت الْمُقَدّس، وَقيل: أرِيحَا من قرى الشَّام. قَوْله: (فَكُلُوا) ، وَفِي الْأَعْرَاف بِالْوَاو، قَوْله: (رغداً) أَي: وَاسِعًا كثيرا، وَقيل: الرغد سَعَة الْمَعيشَة، وَقيل: الرغد الهنيء، وَعَن مُجَاهِد: الرغد الَّذِي لَا حِسَاب فِيهِ. قَوْله: (وادخلوا الْبَاب) أَي: بَاب الْقرْيَة، وَقيل: بَاب الْقبَّة الَّتِي كَانُوا يصلونَ إِلَيْهَا. قَوْله: (سجدا) . أَي: ركعا لتعذر الْحمل على حَقِيقَته، فَيكون الْمَعْنى: خاضعين خاشعين، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (حطة) ، أَي: أَمرك حطة، يَعْنِي: شَأْنك حط الذُّنُوب ومغفرتها، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الأَصْل النصب، يَعْنِي: حط عَنَّا ذنوبنا، وَقَرَأَ ابْن أبني عبلة بِالنّصب على الأَصْل. قَوْله: (وسنزيد الْمُحْسِنِينَ) ، يَعْنِي: من كَانَ مِنْكُم محسناً انت تِلْكَ الْكَلِمَة لَهُ سَببا فِي زِيَادَة ثَوَابه، وَمن كَانَ مسيئاً كَانَت لَهُ تَوْبَة ومغفرة.

4479 - ح دَّثني مُحَمَّدٌ حدّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ مَهْدِيّ عنِ ابنِ المُبارَكِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قِيلَ لِبَني إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا البابَ سُجَّداً وقُولُوا حِطَّةٌ فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أسْتاهِهِمْ فَبَدَّلُوا وقالؤا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ. (انْظُر الحَدِيث 3403 وطرفه) .

مطابقته لِلْآيَةِ ظَاهِرَة. وَمُحَمّد الَّذِي ذكره بِغَيْر نِسْبَة، قَالَ الغساني: الْأَشْبَه أَنه ابْن بشار، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة، وَابْن الْمثنى ضد الْفَرد وَقَالَ ابْن السكن: هُوَ ابْن سَلام، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن يحيى الْهُذلِيّ لِأَنَّهُ يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي أَيْضا، وَابْن الْمُبَارك هُوَ عبد الله. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي بَاب مُجَرّد بعد حَدِيث الْخضر مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بِبَعْضِه مُسْندًا.

6 - (بَاب: منْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ جَبْرومِيكَ وسَرَافِ عَبْدٌ إيلْ الله)

وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب من كَانَ. قَوْله: (جِبْرِيل) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء: وَهُوَ من جِبْرَائِيل. قَوْله: (وميك) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا كَاف مَفْتُوحَة: وَهُوَ من مِيكَائِيل. قَوْله: (وسراف) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالفاء الْمَكْسُورَة بعد الْألف: هُوَ من إسْرَافيل. قَوْله: (عبد) ، أَي: معنى هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة: عبد. قَوْله: (إيل) ، بِكَسْر الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا لَام. قَوْله: (الله) ، أَي: معنى لفظ: إيل الله. وَالْحَاصِل أَن معنى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل: عبد الله، قَالَه عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَاصِم عَنهُ، قَالَ جِبْرِيل عبد الله، وَمِيكَائِيل عبد الله، إيل: الله، وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: كل إسم فِيهِ: إيل، فَهُوَ الله، وَيُقَال: إيل الله بالعبرانية، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن الْحُسَيْن، قَالَ: إسم جِبْرِيل عبد الله، وَمِيكَائِيل عبيد الله، يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ، وإسرافيل عبد الرَّحْمَن، وكل إسم فِيهِ إيل، فَهُوَ عبد الله، وَذكر عكس هَذَا وَهُوَ: أَن إيل مَعْنَاهُ: عبد، وَمعنى مَا قبله إسم لله. وَله وَجه، وَهُوَ أَن الإسم الْمُضَاف فِي لُغَة غير الْعَرَب غَالِبا يتَقَدَّم

(18/89)


فِيهِ الْمُضَاف إِلَيْهِ على الْمُضَاف، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قرىء جبرئيل بِوَزْن قفشليل، وجبرئل بِحَذْف الْيَاء، وَجِبْرِيل بِحَذْف الْهمزَة، وَجِبْرِيل بِوَزْن قنديل، وجبرايل بلام شَدِيدَة، وجبرائيل بِوَزْن جبراعيل، وجبرائل بِوَزْن جبراعل، وَمنع الصّرْف فِيهِ للتعريف والعجمة. قَالَ: وقرىء ميكال بِوَزْن قِنْطَار، وَمِيكَائِيل كميكاعيل، وميكائل كميكاعل ومكئل كميعل وميكئل كميكعل وميكئيل كميكعيل، وَقَالَ ابْن جني: الْعَرَب إِذا نطقت بالأعجمي خلطت فِيهِ.

7 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أوْ نَنْسَاها} (الْبَقَرَة: 106)

أَي: هَذَا بَاب قَوْله تَعَالَى: {مَا ننسخ} وقرىء: مَا تنسخ، بتاء الخاب، (وَمَا ننسخ) ، بِضَم النُّون الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَكسر السِّين، والنسخ فِي الْآيَة إِزَالَتهَا بإبدال أُخْرَى مَكَانهَا. قَوْله: (أَو ننساها) بِفَتْح النُّون الأولى من النسي وَهُوَ التَّأْخِير لَا إِلَى بدل، وقرىء ننسها، بِضَم النُّون الأولى وَكسر السِّين: من الإنساء، وَهُوَ أَن يذهب بحفظها من الْقُلُوب، وقرىء: وننسها، بِضَم النُّون الأولى وَفتح

(18/90)


الثَّانِيَة وَكسر السِّين الْمُشَدّدَة، وقرىء: وتنسها، بِفَتْح التَّاء للخطاب وَسُكُون النُّون، وقرىء: وتنسها، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَانَت الْيَهُود طعنوا فِي النّسخ فَقَالُوا: أَفلا ترَوْنَ إِلَى مُحَمَّد؟ يَأْمر أَصْحَابه بِأَمْر ثمَّ ينهاهم عَنهُ وَيَأْمُرهُمْ بِخِلَافِهِ، وَيَقُول الْيَوْم قولا وَيرجع عَنهُ غَدا؟ فَنزلت {مَا ننسخ} (الْبَقَرَة: 106) الخ.

4481 - ح دَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ حدَّثنا يَحْيَى حَدثنَا سُفْيانُ عنْ حَبِيبٍ عنْ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ قَالَ عَمرُ رضيَ الله عنهُ أقْرَأُنا أُبَيٌّ وأقْضانا عَلِيٌّ وإنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أبَيّ وذَاكَ أنَّ أبَيًّا يَقُولُ لاَ أدَعُ شَيْئاً سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نَنْسَاها.

مطابقته لِلْآيَةِ ظَاهِرَة. وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وحبِيب، هُوَ ابْن أبي ثَابت واسْمه قيس بن دِينَار الْكُوفِي.
وَهَذَا حَدِيث مَوْقُوف وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَغَيره من طَرِيق أبي قلَابَة عَن أنس مَرْفُوعا. وَفِيه ذكر جمَاعَة، وأوله: أرْحم أمتِي أَبُو بكر، وَفِيه: وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كَعْب الحَدِيث، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ غَيره: وَالصَّوَاب إرْسَاله.
قَوْله: (وأقضانا عَليّ) ، أَي: أعلمنَا بِالْقضَاءِ عَليّ بن أبي طَالب، وَقد رُوِيَ هَذَا أَيْضا مَرْفُوعا عَن أنس وَلَفظه: أقضى أمتِي عَليّ بن أبي طَالب، رَوَاهُ الْبَغَوِيّ قَوْله: (وَإِنَّا لندع من قَول أبي) ، أَي: لنترك، وَفِي رِوَايَة صَدَقَة: من لحن أبي، أَي: من لغته، وَفِي رِوَايَة ابْن خَلاد وَإِنَّا لنترك كثيرا من قِرَاءَة أبي، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى قَول عَمْرو: إِنَّا لندع. قَوْله: (أَن أَبَيَا يَقُول) ، أَي: أَن أَبَيَا يَقُول: (لَا أدع شَيْئا) أَي: لَا أترك شَيْئا (سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَكَانَ لَا يَقُول أبي بنسخ شَيْء من الْقُرْآن، فَرد عمر رَضِي الله عَنهُ ذَلِك بقوله: وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة} فَإِنَّهُ يدل على ثُبُوت النّسخ فِي الْبَعْض، وَهَذِه الْجُمْلَة، وَإِن كَانَت شَرْطِيَّة، إلاَّ أَنَّهَا لَا تدل على وُقُوع الشَّرْط، فالسياق هُنَا يدل عَلَيْهِ لِأَنَّهَا نزلت بعد وُقُوعه وإنكارهم عَلَيْهِ، وَيمْنَع عدم دلالتها فِي مثل هَذَا لِأَنَّهَا لَيست شَرْطِيَّة مَحْضَة.

8 - (بابٌ: {وقالُوا اتَّخَذَ الله ولَداً سُبْحانَهُ} (الْبَقَرَة: 116)

أَي: هَذَا بَاب: {قَالُوا} بِالْوَاو قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَقَرَأَ ابْن عَامر: قَالُوا، بِحَذْف الْوَاو، وَاتَّفَقُوا على أَن الْآيَة نزلت فِيمَن زعم أَن لله ولدا من يهود خَيْبَر ونصارى نَجْرَان، وَمن قَالَ من مُشْركي الْعَرَب: الْمَلَائِكَة بَنَات الله، فَرد الله تَعَالَى عَلَيْهِم.

4482 - ح دَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنْ عبْدِ الله بن أبي حُسَيْنٍ حَدثنَا نافِعُ بنُ جُبَيْرٍ عنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ الله كَذَّ بَني ابنُ آدَمَ ولَمْ يَكُنْ لهُ ذَاكَ وشَتَمَني ولَمْ يَكُنْ لهُ ذالِكَ فأمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أقْدِرُ أنْ أُعيدَهُ كَمَا كانَ وأمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي ولَدٌ فَسُبْحانِي أنْ أتخِذ صاحِبَةً أوْ ولَداً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَعبد الله هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي حُسَيْن الْقرشِي النَّوْفَلِي الْمَكِّيّ، وَنَافِع بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مطعم بن عدي بن نَوْفَل بن عبد منَاف الْقرشِي الْمدنِي.
والْحَدِيث من أَفْرَاده. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَسلف فِي بَدْء الْخلق، قلت: مَا سلف فِي بَدْء الْخلق إلاَّ عَن أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة الْأَعْرَج. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويروي: قَالَ: قَالَ الله أرَاهُ يَقُول الله شَتَمَنِي ابْن آدمِ الحَدِيث، وَهَذَا من الْأَحَادِيث القدسية. قَوْله: (كَذبَنِي) من التَّكْذِيب وَهُوَ نِسْبَة الْمُتَكَلّم إِلَى أَن خَبره خلاف الْوَاقِع. قَوْله: (ذَلِك) أَي: التَّكْذِيب. قَوْله: (وَشَتَمَنِي) ، من الشتم وَهُوَ توصيف الشَّخْص بِمَا هُوَ أزراً وأنقص فِيهِ، وَإِثْبَات الْوَلَد لَهُ كَذَلِك لِأَن الْوَلَد إِنَّمَا يكون عَن وَالِدَة

(18/91)


تحمله ثمَّ تضعه، ويستلزم ذَلِك سبق النِّكَاح، والناكح يَسْتَدْعِي باعثاً لَهُ على ذَلِك، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منزع عَن جَمِيع ذَلِك. قَوْله: (فسبحاني) ، لفظ: سُبْحَانَ، مُضَاف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم يَعْنِي: أنزه نَفسِي (أَن أَتَّخِذ) بِأَن اتخذو: وَأَن، مَصْدَرِيَّة أَي: من اتِّخَاذ الصاحبة أَي: الزَّوْجَة وَالْولد.

9 - (بابٌ قَوْلُهُ: {واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (الْبَقَرَة: 125)

أَي: هَذَا بَاب، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} قَوْله: (واتخذو) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، أَمر للْجَمَاعَة على إِرَادَة القَوْل، أَي: وَقُلْنَا اتَّخذُوا مِنْهُ مَوضِع صَلَاة، وَهَكَذَا هُوَ عِنْد الْجُمْهُور، وقرىء: وَاتَّخذُوا، بِفَتْح الْخَاء: جملَة فعلية مَاضِيَة، وَهِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامر، أَي: وَاتخذ النَّاس من مَكَان إِبْرَاهِيم، عطف على قَوْله: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا وَاتَّخذُوا} الْآيَة، ومقام إِبْرَاهِيم هُوَ الْحجر الَّذِي عَلَيْهِ أثر قَدَمَيْهِ، وَعَن عَطاء، مقَام إِبْرَاهِيم عَرَفَة والمزدلفة والجمار لِأَنَّهُ قَامَ فِي هَذِه الْمَوَاضِع ودعا فِيهَا. قَوْله: (مصلى) ، أَي: مَوضِع صَلَاة تصلونَ فِيهِ، وَهُوَ على وَجه الِاخْتِيَار والاستحباب دون الْوُجُوب، وَقيل: مصلى، أَي: مدعى.
مَثابَةً يَثُوبُونَ يَرْجِعُونَ
هُوَ فِي قَوْله: {وَإِذا جعلنَا الْبَيْت مثابة} يَعْنِي: مرجعاً للنَّاس من الْحجَّاج والعمار يتفرقون عَنهُ ثمَّ يثوبون إِلَيْهِ، والمثابة: الْموضع الَّذِي يرجع إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى، من ثاب ثوبا وثوبانا رَجَعَ بعد ذَهَابه، وَأَصله: مثوبة، نقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا ثمَّ قلبت ألفا لتحركها فِي الأَصْل وانفتاح مَا قبلهَا، وَنقل بَعضهم عَن أبي عُبَيْدَة: أَن مثوبة، مصدر يثوبون. قلت: لَيْسَ بمصدر بل هُوَ إسم للمصدر، وَيجوز أَن يكون مصدرا ميمياً.

(18/92)