عمدة القاري شرح صحيح البخاري

5 - (بابٌ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزْوَاجُكُمْ} (النِّسَاء: 12)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} وَلَيْسَ لفظ: بَاب، إِلَّا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي قَوْله تَعَالَى: {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} .

4578 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ عَنْ وَرْقَاءَ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عنْ عَطاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كانَ المالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ فَنَسَخَ الله مِنْ ذَلِكَ مَا أحَبَّ فَجَعَلَ لِلذكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُما السُّدُسَ وَالثلُثَ وَجَعَلَ لِلْمَرَأَةِ الثمَنَ والرُّبُعَ وِلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَللزَّوْج الشّطْر) ، أَي: شطر المَال. وَذَلِكَ عِنْد عدم الْوَلَد، وَمُحَمّد بن يُوسُف بن وَاقد الْفرْيَابِيّ وَلَيْسَ هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف البُخَارِيّ البيكندي، وورقاء تَأْنِيث الأورق ابْن عمر الْيَشْكُرِي، وَيُقَال الشَّيْبَانِيّ، أَصله من خوارزم، وَيُقَال: من الْكُوفَة سكن الْمَدَائِن، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد الله، وَأَبُو نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم، اسْمه يسارّ ضد الْيَمين وَعَطَاء هُوَ ابْن رَبَاح. والْحَدِيث قد مر فِي الْوَصَايَا فِي: بَاب لَا وَصِيَّة لوَارث، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

6 - (بابٌ: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَرْثُوا النِّسَاءَ كَرْها} (النِّسَاء: 19) الآيَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لكم} الْآيَة، وَهَذَا الْمِقْدَار بِلَفْظ: بَاب، فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره هَكَذَا: {لَا يحل لكم أَن ترثوا النِّسَاء كرها وَلَا تعضلوهن لتذهبوا بِبَعْض مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الْآيَة. تَمام الْآيَة: {إلاَّ أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة وعاشروهن

(18/167)


بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كرهتموهن فَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَيجْعَل الله فِيهِ خيرا كثيرا} وَأول الْآيَة: {يأيها الَّذين آمنُوا لَا يحل لكم أَن ترثوا} وَأَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (كرها) مصدر فِي مَوضِع الْحَال، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِضَم الْكَاف، وَمعنى العضل يَأْتِي عَن قريب. قَوْله: (بِفَاحِشَة) قَالَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: هِيَ الزِّنَى، يَعْنِي: إِذا زنت فَللزَّوْج أَن يسترجع الصَدَاق الَّذِي أَعْطَاهَا ويضاجرها حَتَّى تتْرك لَهُ، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَأَبُو قلَابَة وَالسُّديّ وَزيد بن أسلم وَسَعِيد بن أبي هِلَال. وَعَن ابْن عَبَّاس: الْفَاحِشَة المبينة النُّشُوز والعصيان، وَحكي ذَلِك أَيْضا عَن الضَّحَّاك وَعِكْرِمَة، وَاخْتَارَ ابْن جرير أَنه أَعم من الزِّنَى والنشوز وبذاء اللِّسَان وَغير ذَلِك.
ويُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لَا تَقْهَرُوهُنَّ
هَذَا وَصله أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ عَن أَبِيه. حَدثنَا أَبُو صَالح كَاتب اللَّيْث حَدثنِي مُعَاوِيَة بن صَالح عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني لَا تعضلوهن لَا تنهروهن من الِانْتِهَار، وَهِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ أَيْضا، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الرِّوَايَة وهم، وَالصَّوَاب مَا عِنْد الْجَمَاعَة. قلت: لَا يدْرِي مَا وَجه الصَّوَاب هُنَا وَمعنى الِانْتِهَار لَا يَخْلُو عَن معنى الْقَهْر على مَا لَا يخفى.
حِوُبا إثْما
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم أَنه كَانَ حوبا كَبِيرا} فسر حوبا بقوله: إِثْمًا وَوَصله ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد صَحِيح عَن دَاوُد بن هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ حوبا كَبِيرا} . قَالَ: إِثْمًا عَظِيما وَعَن مُجَاهِد وَالسُّديّ وَالْحسن وَقَتَادَة مثله، وَقَرَأَ الْحسن بِفَتْح الْحَاء وَالْجُمْهُور على الضَّم.
تَعُولُوا تَمِيلُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم ذَلِك أدنى أَن لَا تعولُوا} (النِّسَاء: 3) وَفسّر قَوْله: {أَن لَا تعولُوا} بِحَذْف: أَن بقوله: تميلوا، وَفَسرهُ جمَاعَة نَحوه، وأسنده ابْن الْمُنْذر فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس وَذكر نَحوه مَرْفُوعا وَقَالَ: أَن مَعْنَاهُ تجور وَاو فسره الشَّافِعِي بقوله: لَا يكثر عيالكم، وَأنْكرهُ الْمبرد، وَوجه إِنْكَاره أَنه لَو كَانَ مَعْنَاهُ نَحْو مَا قَالَه الشَّافِعِي لَكَانَ قَالَ: أَن لَا تعيلوا من أعال وَهُوَ من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَالَّذِي فِي الْآيَة من الثلاثي الْمُجَرّد.
نحْلَةً النَّحْلَةُ المَهْرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} (النِّسَاء: 4) وفسرها بقوله: الْمهْر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، (فالنحلة الْمهْر) بِالْفَاءِ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن كَانَ هَذَا التَّفْسِير من البُخَارِيّ فَفِيهِ نظر وَقد قيل فِيهِ غير ذَلِك، وَأقرب الْوُجُوه، أَن النحلة مَا يعطونه من غير عوض، ورد عَلَيْهِ بِأَن ابْن أبي حَاتِم والطبري قد رويا من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} قَالَ: النحلة الْمهْر، وَقَالَ: قَاتل وَقَتَادَة وَابْن جريج، نحلة أَي: فَرِيضَة مُسَمَّاة. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: النحلة فِي كَلَام الْعَرَب الْوَاجِب. تَقول لَا ينْكِحهَا إلاَّ بِشَيْء وَاجِب لَهَا، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لأحد بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينْكح امْرَأَة إلاَّ بِصَدَاق وَاجِب، وَلَا يَنْبَغِي أَن يكون تَسْمِيَة الصَدَاق كذبا بِغَيْر حق. قَوْله: (وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن) ، الْخطاب الناكحين. أَي: اعطوا النِّسَاء مهورهن، وَالصَّدقَات جمع صَدَقَة، بِفَتْح الصَّاد وَضم الدَّال. وَهِي لُغَة أهل الْحجاز وَتَمِيم تَقول: صَدَقَة، بِضَم الصَّاد وَسُكُون الدَّال فَإِذا جمعُوا يَقُولُونَ: صدقَات بِضَم الصَّاد وَسُكُون الدَّال ويضمها أَيْضا. مثل: ظلمات، وانتصاب نحلة على الْمصدر لِأَن النحلة الإيتاء بِمَعْنى الْإِعْطَاء أَو على الْحَال من المخاطبين أَي: آتوهم صدقاتهن ناحلين طيبي النُّفُوس بالإعطاء أَو من الصَّدقَات أَي: منحولة معطاة عَن طيب الْأَنْفس.

4579 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ حدَّثنا أسْباطُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ عنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ الشَّيْبَانِيُّ وَذَكَرَهُ أبُو الحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلا أظُنُّهُ ذَكَرَهُ إلاَّ عَن ابنِ عَبَّاسٍ {يَا أيُّهَا

(18/168)


الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (النِّسَاء: 19) قَالَ كَانُوا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أوْلِيَاؤُهُ أحَقَّ بَامْرَأَتِهِ إنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَها وَإنْ شَاؤُا زَوَّجُوهَا وَإنْ شَاؤُا لَمْ يُزَوِّجُوها فَهُمْ أحَقُّ بِهَا مِنْ أهْلِهَا فَنَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن الْمروزِي، وأسباط، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالياء الْمُوَحدَة: ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي الْكُوفِي قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ فِي أول سنة مِائَتَيْنِ وأدركه البُخَارِيّ بِالسِّنِّ وَعَن ابْن معِين. كَانَ يخطىء عَن سُفْيَان فَلذَلِك ذكره ابْن البرقي فِي الضُّعَفَاء، وَلَكِن قَالَ: كَانَ ثبتا فِيمَا يروي عَن الشيبانيُّ ومطرف، وَقَالَ الْعقيلِيّ، رُبمَا وهم فِي الشَّيْء وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، والشيباني، بالشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ سُلَيْمَان بن فَيْرُوز، وَأَبُو الْحسن اسْمه عَطاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اسْمه مهَاجر، مر فِي بَاب الْإِيرَاد بِالظّهْرِ. (قلت) : قَالَ البُخَارِيّ فِي بَاب الْإِيرَاد بِالظّهْرِ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا غنْدر قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن مهَاجر أبي الْحسن سمع زيد بن وهب الحَدِيث. وَظن الْكرْمَانِي أَنَّهُمَا وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْمَذْكُور فِي: بَاب الْإِيرَاد بِالظّهْرِ التَّيْمِيّ، وَالْمَذْكُور هُنَا السوَائِي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو الممدودة وَكسر الْهمزَة. نِسْبَة إِلَى بني سواهُ بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن بطن كَبِير.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِكْرَاه عَن الْحُسَيْن بن مَنْصُور. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن أَحْمد بن منيع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن حَرْب.
قَوْله: (أخبرنَا أَسْبَاط) ، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا. قَوْله: (وَذكره) ، أَي: الحَدِيث. قَوْله: (وَلَا أَظُنهُ) ، أَي: وَلَا أَحْسبهُ وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن للشيباني طَرِيقين. (أَحدهمَا) : مَوْصُول، وَهُوَ: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس (وَالْآخر) : مَشْكُوك فِي وَصله وَهُوَ عَن أبي الْحسن السوَائِي عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (قَالَ: كَانُوا) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا أَي: الْجَاهِلِيَّة. قَالَه السّديّ: وَقَالَ الضَّحَّاك: أَي: أهل الْمَدِينَة. قَوْله: (فهم) ويروى: وهم بِالْوَاو، وَقَوله: (فَنزلت هَذِه الْآيَة) ، يَعْنِي: الْآيَة الْمَذْكُورَة وَهِي قَوْله: (لَا يحل لكم أَن ترثوا النِّسَاء كرها) .

7 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} (النِّسَاء: 33) الآيَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى هَكَذَا فِي رِوَايَة غير أبي ذَر وَفِي رِوَايَة أبي ذَر سَاق إِلَى قَوْله: (شَهِيدا) بعد قَوْله: (وَالْأَقْرَبُونَ) الْآيَة. {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم أَن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا} قَوْله: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: وَلكُل شَيْء مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ من المَال جعلنَا موَالِي وراثا يلونه ويحرزونه أَو لكل قوم جعلناهم موَالِي نصيب. وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو صَالح وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم وَالسُّديّ وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حَيَّان وَغَيرهم فِي قَوْله: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} أَي: وَرَثَة. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس: أَي عصبَة، وَقَالَ ابْن جرير: وَمعنى قَوْله: {مِمَّا ترك الْولدَان وَالْأَقْرَبُونَ} مَا تَركه وَالِديهِ وأقربيه من الْمِيرَاث. قَوْله: (وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هَذَا مُبْتَدأ ضمن معنى الشَّرْط فَوَقع خَبره مَعَ الْفَاء، وَهُوَ معنى قَوْله: {فآتوهم نصِيبهم} وَذكر وُجُوهًا أخر فَمن أَرَادَ أَن يقف عَلَيْهَا فَليرْجع إِلَى تَفْسِيره، وَقَالَ ابْن كثير: أَي وَالَّذين تحالفتم بالأيمان الْمُؤَكّدَة أَنْتُم وهم فآتوهم نصِيبهم من الْمِيرَاث كَمَا وعدتموهم فِي الْأَيْمَان الْمُغَلَّظَة إِن الله كَانَ شَاهدا بَيْنكُم فِي تِلْكَ العهود والمعاقدات، وَقد كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام ثمَّ نسخ بعد ذَلِك، وَأمرُوا أَن يؤتوا لمن عاقدوا وَلَا ينشئوا بعد نزُول هَذِه الْآيَة معاقدة.
مَوَالِيَ أوْلِيَاءَ وَرَثَةَ
فسر لفظ موَالِي: فِي الْآيَة الَّتِي ترْجم بهَا بقوله: أَوْلِيَاء وَرَثَة وَقد تقدم عَن ابْن عَبَّاس أَنه فسره موَالِي بالورثة.
وَقَالَ مَعْمَرٌ أوْلِيَاءَ مَوَالِي أوْلِيَاءَ وَرَثَةَ
لَيْسَ هَذَا بموجود فِي بعض النّسخ. قَالَ الْكرْمَانِي: معمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد الصَّنْعَانِيّ، وَقَالَ بَعضهم: وَكنت أَظن أَنه

(18/169)


معمر بن رَاشد إِلَى أَن رَأَيْت الْكَلَام الْمَذْكُور فِي (الْمجَاز) لأبي عُبَيْدَة أَن اسْمه معمر بن الْمثنى وَلم أره عَن معمر بن رَاشد. (فَمَاتَ) عبد الرَّزَّاق أَيْضا يرْوى هَذَا عَن معمر بن رَاشد، وَلَا يلْزم من ذكر أبي عُبَيْدَة هَذَا فِي (الْمجَاز) أَي يكون الَّذِي ذكره البُخَارِيّ فِي هواياه، وَلَا يمْتَنع أَن يكون هَذَا مرويا عَن معمر بن جَمِيعًا. ثوله: (أَوْلِيَاء موَالِي) بِالْإِضَافَة نَحْو شجر الْأَرَاك، وَالْإِضَافَة فِيهِ للْبَيَان، وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاء وَرَثَة، وَحَاصِل الْكَلَام أَن أَوْلِيَاء الْمَيِّت الَّذين يلون مِيرَاثه ويجوزونه على نَوْعَيْنِ: ولي بالموالاة وَعقد الْوَلَاء وهم الَّذين عاقدت أَيْمَانكُم، وَولى بِالْإِرْثِ أَي الْقَرَابَة وهم الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ.
{وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أيْمانُكُمْ} هُوَ مَوْلَى اليَمِينِ وَهُوَ الحَلِيفُ
فسر لفظ {وَالَّذين عاقدت} الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الْمَذْكُور فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة بقوله: هُوَ مولى الْيَمين العاقدة بَين اثْنَيْنِ فَصَاعِدا والأيمان جمع يَمِين، وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْكفَالَة.
(وَالمَوْلَى أيْضا ابنُ العَمِّ وَالمَوْلَى المُنْعِمْ المُعْتِقْ وَالمَوْلَى المُعَتَقُ وَالمَوْلَى المَلِيكُ وَالمَوْلَى مَوْلًى فِي الدِّينِ) .
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لفظ الْمولى يَأْتِي لمعانٍ كَثِيرَة وَذكر مِنْهَا خَمْسَة معَان الأول: يُقَال لِابْنِ الْعم مولى، قَالَ الشَّاعِر:
مهلا بني عمنَا مهلا موالينا
الثَّانِي: الْمُنعم. أَي: الَّذِي ينعم على عَبده بِالْعِتْقِ وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ الْمولى الْأَعْلَى. الثَّالِث: الْمولى الْمُعْتق، بِفَتْح التَّاء، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ الْمولى الْأَسْفَل. الرَّابِع: يُقَال للمليك الْمولى لِأَنَّهُ يَلِي أُمُور النَّاس. الْخَامِس: الْمولى مولى فِي الدّين، وَمِمَّا لم يذكرهُ النَّاصِر والمحب وَالتَّابِع وَالْجَار والحليف والعقيد والصهر والمنعم عَلَيْهِ وَالْوَلِيّ والموازي، وَقَالَ الزّجاج: كل من يليك أَو والاك فَهُوَ مولى.

4580 - ح دَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّد حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عنْ إدْرِيسَ عَنْ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّفٍ عنْ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تعَالى عَنْهُمَا وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِي قَالَ وَرَثَةَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أيْمَانُكُمْ كَانَ المهاجِرُون لَمَا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحْمِهِ للأخُوَّةِ الَّتِي آخَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَهُم فَلَمَا نَزَلَتْ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ نُسِخَتْ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أيْمَانُكُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ وَيُوصِي لهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث بِعَيْنِه سندا ومتنا مضى فِي الْكَلِمَة فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. إِدْرِيس هُوَ ابْن يزِيد الأودي، وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث.
قَوْله: (فَلَمَّا نزلت {وَلكُل جعلنَا موَالِي} نسخت) ، هَكَذَا وَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة أَن نَاسخ مِيرَاث الحليف هَذِه الْآيَة، وَفِي رِوَايَة عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس أَن النّسخ بقوله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} وَبِه قَالَ الْحسن وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَقَالَ ابْن الْمسيب: كَانَ الرجل يتبنى الرجل فيتوارثان على ذَلِك. فسخ قَوْله: {والرفادة} بِكَسْر الرَّاء بالإعانة والإعطاء. قَوْله: (ويوصي لَهُ) ، أَي: للحليف لِأَنَّهُ مِيرَاثه لما نسخ جَازَت الْوَصِيَّة.
سَمِعَ أبُو أُسَامَةَ إدْرِيسَ وَسَمِعَ إدْرِيسُ طَلْحَةَ
لم يَقع هَذَا إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن كل وَاحِد من أبي أُسَامَة وَإِدْرِيس قد صرح بِالتَّحْدِيثِ فأسامة من إِدْرِيس، وَإِدْرِيس من طَلْحَة بن مصرف، وَصرح بذلك الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) فِي الحَدِيث ثمَّ قَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.

8 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّ الله لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (40) يَعْنِي زَنَةَ ذَرَّةٍ)

(18/170)


أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة} وَفسّر مِثْقَال ذرة بقوله: زنة ذرة، ومثقال الشَّيْء مِيزَانه من مثله، وَقَالَ الزّجاج، هُوَ مِثْقَال من الثّقل، وَقيل: لكل مَا يعْمل وزن ومثقال تمثيلاً لِأَن الصَّلَاة وَالصِّيَام والأعمال لَا وزن لَهَا، وَلَكِن النَّاس خوطبوا على مَا يَقع فِي قُلُوبهم بتمثيل مَا يدْرك بِأَبْصَارِهِمْ، وَقَالَ أَبُو مَنْصُور الجواليقي، يظنّ النَّاس أَن المثقال وزن الدُّنْيَا لَا غير، وَلَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا مِثْقَال كل شَيْء وَزنه وكل وزن يُسمى مِثْقَالا وَإِن كَانَ وزن ألف. قَالَ الشَّاعِر:
وكلا يُوفيه الجزا بمثقال
قَالَ الْهَرَوِيّ: أَي: يُوزن. قَوْله: (ذرة) ، الذّرة وَاحِدَة الذَّر وَهُوَ النَّمْل الْأَحْمَر الصَّغِير، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الذّرة فَقَالَ: إِن مائَة نملة وزن حَبَّة. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَقيل: إِن الذّرة لَا وزن لَهَا وَيُرَاد بهَا مَا يرى فِي شُعَاع الشَّمْس، وَزعم بعض الْحساب أَن زنة الشعيرة حَبَّة، وزنة الْحبَّة أَربع زرات وزنة الذّرة أَربع سمسمات، وزنة السمسمة أَربع خردلات، وزنة الخردلة أَربع وَرَقَات نخالة، وزنة الورقة من النخالة أَربع ذرات، فَعلمنَا من هَذَا أَن الذّرة أَرْبَعَة فِي أَرْبَعَة فَأَدْرَكنَا أَن الذّرة جُزْء من ألف وَأَرْبَعَة وَعشْرين حَبَّة، وَذَلِكَ أَن الْحبَّة ضربناها فِي أَربع ذرات جَاءَت سِتّ عشرَة سمسمة والست عشرَة ضربناها فِي أَربع جَاءَت مِائَتَيْنِ وست وَخمسين نخالة، فضربناها فِي أَربع جَاءَت ألفا وَعشْرين ذرة وَقيل: الذّرة رَأس النملة الْحَمْرَاء. وَقيل: الذّرة الخردلة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ. قَالَ يزِيد بن هَارُون: زَعَمُوا أَن الذّرة لَيْسَ لَهَا وزن، ويحكى أَن رجلا وضع خبْزًا حَتَّى علاهُ الذَّر مِقْدَار مَا ستره ثمَّ وَزنه فَلم يزدْ على مِقْدَار الْخبز شَيْئا وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه أَدخل يَده فِي التُّرَاب ثمَّ نفخ فِيهِ. وَقَالَ: كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ ذرة وَعَن قَتَادَة: كَانَ بعض الْعلمَاء يَقُول: لِأَن تفضل حسناتي وزن ذرة أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا جَمِيعًا. وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود يرفعهُ يَا رب لم يبْق لعبدك إلاَّ وزن ذرة، فَيَقُول عز وَجل، ضعفوها لَهُ وأدخلوه الْجنَّة.

4581 - ح دَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حدَّثنا أبُو عُمَرَ حَفْصُ بنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْد بنِ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنْهُ أنَّ أُناسا فِي زَمَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا يَا رَسُولَ الله هَلْ نَرَى رَبَّنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَال النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ ضَوْءٍ لَيْسَ فِيهَا سَحابٌ قَالُوا لَا قَالَ: وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البدْرِ ضَوْءٍ لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ قَالُوا لَا قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تُضارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أحَدِهِما إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ الله مِنَ الأصْنَامِ وَالأنْصَابِ إلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله بَرٌّ أوْ فَاجِرٌ وَغُبَّرَاتُ أهْلِ الكِتابِ فَيُدعَى اليَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْز ابنَ الله فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ الله مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَد فَمَاذا تَبْغُونَ فقالُوا عَطِشْنا رَبَّنا فَاسْقِنا فَيُشارُ أَلا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُها بَعْضا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يُدْعَى النَّصارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابنَ الله فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ الله مِنْ صَاحِبَةٍ وَلا وَلَدٍ فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَكَذَلِكَ مِثْلَ الأوَّلِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ إلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله مِنْ بِرٍ أوْ فَاجِرٍ أتاهُم رَبُّ العالَمِينَ فِي أَدْنَي صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رأوْهُ فِيها فَيُقالُ تَنْتَظِرُونَ تَتَّبَعُ كلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا فارَقْنا النَّاسَ فِي الدُّنْيا عَلَى أفْقَرِ مَا كُنَّا إلَيْهِم وَلَمْ نُصَاحِبْهُم وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ رَبَّنا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُ فَيَقُولُ أنَا

(18/171)


رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ لَا نُشْرِكُ بِالله شَيْئا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلَاثًا.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَفْهُوم من مَعْنَاهُ أَن الله تَعَالَى يحكم يَوْم الْقِيَامَة بَين عباده الْمُؤمنِينَ والكافرين بعدله الْعَظِيم وَلَا يظلم أحدا مِنْهُم مِثْقَال ذرة وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح ذكر وَجه الْمُطَابقَة وَلَا انصف فِي شرح هَذَا الحَدِيث، فَمنهمْ من علقه بِشَيْء لم يمض، وَمِنْهُم من علقه بالمستقبل يذكر فِيهِ، وَمِنْهُم من شرح بَعْضًا دون بعض، فَنَقُول بعون الله ولطفه. إِن شَيْخه فِيهِ مُحَمَّد ابْن عبد الْعَزِيز أَبُو عبد الله الرَّمْلِيّ يعرف بِابْن الوَاسِطِيّ لِأَن أَصله من وَاسِط وَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَلينه أَبُو زرْعَة، وَأَبُو حَاتِم، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي الِاعْتِصَام، وَحَفْص بن ميسرَة، ضد الميمنة، وَعَطَاء بن يسَار ضد الْيَمين، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن بكير، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن سُوَيْد بن سعيد وَغَيره.
قَوْله: (نعم) أَي: نعم ترَوْنَ ربكُم يَوْم الْقِيَامَة وَهَذِه الرُّؤْيَة غير الرُّؤْيَة الَّتِي هِيَ ثَوَاب للأولياء وكرامة لَهُم فِي الْجنَّة إِذْ هَذِه للتمييز بَين من عبد الله وَبَين من عبد غَيره، وَفِيه رد على أهل الْبدع من الْمُعْتَزلَة والخوارج وَبَعض المرجئة فِي قَوْلهم: إِن الله لَا يرَاهُ أحد من خلقه، وَأَن رُؤْيَته مستحيلة عقلا وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خطأ صَرِيح وَجَهل قَبِيح. وَقد تظاهرت أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ من سلف الْأمة على إِثْبَات رُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الآخر للْمُؤْمِنين. وَرَوَاهَا نَحْو من عشْرين صحابيا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْكَلَام فِيهِ مستقصًى فِي كتب الْكَلَام. وَأما رُؤْيَة الله فِي الدُّنْيَا فممكنة وَلَكِن الْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف من الْمُتَكَلِّمين. وَغَيرهم على أَنَّهَا لَا تقع فِي الدُّنْيَا، وَحكى الإِمَام الْقشيرِي فِي (رسَالَته) عَن الإِمَام أبي بكر بن فورك أَنه حُكيَ فِيهَا قَوْلَيْنِ للْإِمَام أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ: أَحدهمَا: وُقُوعهَا. وَالْآخر: أَنَّهَا لَا تقع قَوْله: (هَل تضَارونَ فِي ضَبطه رِوَايَات) الأولى: تضَارونَ بِضَم أَوله وَضم رائه من غير تَشْدِيد من الضير وَهُوَ الْمضرَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. قَالُوا: (لَا ضير) أَي: لَا ضَرَر، وَمَعْنَاهُ: هَل يلحقكم فِي رُؤْيَته ضير أَي: ضَرَر. الثَّانِيَة: هَل تضَارونَ بِفَتْح التَّاء وَتَشْديد الضَّاد وَالرَّاء من الضَّرَر. وَمَعْنَاهُ هَل تضَارونَ غَيْركُمْ فِي حَال الرُّؤْيَة بزحمة وَمُخَالفَة فِي رُؤْيَة غَيرهَا أَو لخفائه كَمَا يَفْعَلُونَ أول لَيْلَة من الشَّهْر، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَأَصله هَل تتضارون. أَي: تتزاحمون عِنْد رُؤْيَته حَتَّى يلحقكم الضَّرَر، ووزنه تتفاعلون، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ. الثَّالِثَة: تضَامون، بتَشْديد الْمِيم وَفتح أَوله: وَمَعْنَاهُ هَل تتضامون وتتوصلون إِلَى رُؤْيَته، وَأَصله من الانضمام. الرَّابِعَة: هَل تضَامون، بِضَم التَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم من الضيم، وَهُوَ الْمَشَقَّة والتعب، وَأورد الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة فِي غير هَذَا الْموضع. قَوْله: (بالظهيرة) ، وَهِي اشتداد حر الشَّمْس فِي نصف النَّهَار. وَلَا يُقَال ذَلِك فِي الشتَاء. قَوْله: (ضوء) ، بِالْجَرِّ بدل عَمَّا قبله فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَوْله: (إِلَّا كَمَا تضَارونَ) ، التَّشْبِيه إِنَّمَا وَقع فِي الوضوح وَزَوَال الشَّك وَالْمَشَقَّة وَالِاخْتِلَاف لَا فِي الْمُقَابلَة والجهة وَسَائِر الْأُمُور الَّتِي جرت الْعَادة بهَا عِنْد الرُّؤْيَة. قَوْله: (أذن مُؤذن) ، أَي: نَادَى منادٍ. قَوْله: (تتبع) ، بِالرَّفْع ويروى بِالْجَزْمِ بِتَقْدِير اللَّام كَمَا فِي قَوْله: تَعَالَى {قل لعبادي الَّذين يقيموا الصَّلَاة} قَوْله (من الْأَصْنَام والانصاب) والاصنام جمع صنم قَالَ ابْن الْأَثِير الصَّنَم اتخذ إلاها من دون الله، وَقيل: هُوَ مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة فَإِن لم يكن لَهُ جسم أَو صُورَة فَهُوَ وثن، والأنصاب جمع نصب، بِضَم الصَّاد وسكونها، وَهُوَ حجر كَانُوا ينصبونه فِي الْجَاهِلِيَّة ويتخذونه صنما يعبدونه، وَقيل: هُوَ حجر كَانُوا ينصبونه ويذبحون عَلَيْهِ فيحمر بِالدَّمِ. قَوْله: (برا وفاجرا) ، أَي: هُوَ برا وَهُوَ فَاجر، وَالْبر هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيرِ ويطيع ربه، يُقَال: فلَان يبر خالقه ويتبرره، أَي: يطيعه وَيجمع على أبرار، والبار يجمع على بررة، والفاجر المنبعث فِي الْمعاصِي والمحارم من فجر يفجر، من بَاب نصر ينصر فجورا قَوْله: (وغبرات أهل الْكتاب) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة بعْدهَا رَاء جمع غبر، وَهُوَ جمع غابر وَالْمعْنَى: بقايا أهل الْكتاب، من غبر الشَّيْء يغبر غبورا إِذا مكث وَبَقِي، والغابر هُوَ الْمَاضِي. قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ من الأضداد ثمَّ قَالَ: وَالْمَعْرُوف الْكثير أَن الغابر هُوَ الْبَاقِي. قَوْله: (فَيُقَال لَهُم: كَذبْتُمْ) ، قَالَ الْكرْمَانِي: التَّصْدِيق والتكذيب راجعان إِلَى الحكم الْموقع لَا إِلَى الحكم الْمشَار إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا قيل: زيد بن عمر وَجَاء فكذبته فقد أنْكرت الْمَجِيء لَا كَونه ابْن عَمْرو، وَأجَاب بقوله: نفي اللَّازِم هُوَ كَونه ابْن الله تَعَالَى ليلزم نفي الْمَلْزُوم وَهُوَ عبَادَة ابْن الله، أَو نقُول: الرُّجُوع الْمَذْكُور هُوَ مُقْتَضى الظَّاهِر وَقد يتَوَجَّه

(18/172)


بِحَسب الْمقَام إِلَيْهِمَا جَمِيعًا أَو إِلَى الْمشَار إِلَيْهِ فَقَط. قَوْله: (كَأَنَّهُ سراب يحطم بَعْضهَا بَعْضًا) أَي: بِكَسْر بَعْضهَا بَعْضًا، وَمِنْه سميت النَّار: الحطمة لِأَنَّهَا تحطم كل شَيْء أَي تكسره وَتَأْتِي عَلَيْهِ، والسراب هُوَ الَّذِي ترَاهُ نصف النَّهَار كَأَنَّهُ مَاء قَوْله: (أَتَاهُم) أَي: ظهر لَهُم، والإتيان مجَاز عَن الظُّهُور. وَقيل: الْإِتْيَان عبارَة عَن رُؤْيَتهمْ إِيَّاه، لِأَن الْعَادة أَن من غَابَ عَن غَيره لَا تمكنه رُؤْيَته إلاَّ بالإتيان، فَعبر بالإيتان هُنَا عَن الرُّؤْيَة مجَازًا وَقيل: فعل من أَفعَال الله تَعَالَى سَمَّاهُ إتيانا وَقيل المُرَاد بالإتيان إتْيَان بعض مَلَائكَته وَقَالَ عِيَاض: هَذَا الْوَجْه أشبه عِنْدِي فِي قَوْله: (فِي أدنى صُورَة) أَي: أقربها. قَالَ الْخطابِيّ: الصُّورَة الصّفة يُقَال: صُورَة هَذَا الْأَمر كَذَا أَي صفته، وَأطلق الصُّورَة على سَبِيل المشاكلة والمجانسة. قَوْله: (من الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا) ، أَي: من الصُّورَة الَّتِي عرفوه فِيهَا، والرؤية بِمَعْنى الْعلم لأَنهم لم يروه قبل ذَلِك، وَمَعْنَاهُ: يتجلى الله لَهُم بِالصّفةِ الَّتِي يعرفونه بهَا لِأَنَّهُ لَا يشبه شَيْئا من مخلوقاته فيعلمون أَنه رَبهم فَيَقُولُونَ: انت رَبنَا. قَوْله: (على أفقر مَا كُنَّا إِلَيْهِم) ، أَي: على أحْوج، يَعْنِي: لم نتبعهم فِي الدُّنْيَا مَعَ الِاحْتِيَاج إِلَيْهِم، فَفِي هَذَا الْيَوْم بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا) ، وَفَائِدَة قَوْلهم هَذَا مَعَ أَن يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ يَوْم التَّكْلِيف استلذاذا وافتخارا بِهِ وتذكارا بِسَبَب النِّعْمَة الَّتِي وجدوها.

9 - (بابٌ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هاؤُلاءِ شَهِيدا} (النِّسَاء: 41)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذا جِئْنَا} الْآيَة، أخبر الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة عَن هول يَوْم الْقِيَامَة وَشدَّة أمره وشأنه فَكيف يكون الْأَمر وَالْحَال يَوْم الْقِيَامَة حِين يَجِيء من كل أمة بِشَهِيد يَعْنِي الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فَكيف يصنع هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة من الْيَهُود وَغَيرهم إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد يشْهد عَلَيْهِم بِمَا فعلوا وَهُوَ نَبِيّهم كَقَوْلِه: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ} (الْمَائِدَة: 117) المكذبين {شَهِيدا} وَفِي (التَّلْوِيح) وَاخْتلف فِي الْمَعْنى بقوله: هَؤُلَاءِ من هم، فَعِنْدَ الزَّمَخْشَرِيّ: هم المكذبون، وَقَالَ مقَاتل: هم كفار أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي (تَفْسِير ابْن النَّقِيب) هم سَائِر أمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يشْهد عَلَيْهِم. وَالثَّانِي: أَنه يشْهد لَهُم، فعلى هَذَا يكون على: بِمَعْنى اللَّام، وَقيل: المُرَاد بهم أمة الْكفَّار، وَقيل: أَنهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقيل: هم كفار قُرَيْش دون غَيرهم، وَفِي الَّذِي يشْهد بِهِ أَقْوَال أَرْبَعَة: الأول: أَنه يشْهد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بلغ أمته، قَالَه ابْن مَسْعُود وَابْن جريج وَالسُّديّ وَمُقَاتِل. الثَّانِي: أَنه يشْهد بإيمَانهمْ، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة. الثَّالِث: إِنَّه يشْهد بأعمالهم. قَالَه مُجَاهِد وقادة. الرَّابِع: إِنَّه يشْهد لَهُم وَعَلَيْهِم، قَالَه الزّجاج.
المُخْتال والخَتَالُ وَاحِدٍ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالاً فخورا} والمختال المتكبر: أَي: يتخيل فِي صُورَة من هُوَ أعظم مِنْهُ كبرا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ التياه والجهول الَّذِي يتكبر عَن إكرام أَقَاربه وَأَصْحَابه. قَوْله: (وَأحد) ، يَعْنِي: فِي الْمَعْنى، وَفِيه نظر، لِأَن المختال من الْخُيَلَاء، والختال: بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من الختل وَهُوَ الخديعة فَلَا يُنَاسب معنى الْكبر، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: المختال وَالْخَال وَاحِد وَالْخَال وَاحِد وَالْخَال بِدُونِ التَّاء وَصوب هَذَا جمَاعَة، وَكَذَا فِي كَلَام أبي عُبَيْدَة. (فَإِن قلت) : مَا وَجه التصويب فِيهِ؟ فَكيف هُنَا بِمَعْنى وَاحِد؟ قلت: الْخَال يَأْتِي لمعان كَثِيرَة: (مِنْهَا) : معنى الْكبر لِأَن الْخَال بِمَعْنى الخائل وَهُوَ المتكبر، وَقَالَ بَعضهم: الْخَال يُطلق على معَان كَثِيرَة نظمها بَعضهم فِي قصيدة تبلغ نَحوا من الْعشْرين بَيْتا قلت: كتبت قصيدة فِي مُؤَلَّفِي (رونق الْمجَالِس) تنْسب إِلَى ثَعْلَب تبلغ هَذِه اللَّفْظَة فِيهَا نَحوا من أَرْبَعِينَ.
نَطْمِسَ وُجُوها نُسَوِّيها حَتَّى تَعُودَ كَأفْعَالِهِمْ طَمَسَ الكِتابَ مَحاهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {من قبل أَن

(18/173)


نطمس وُجُوهًا} وَفَسرهُ بقوله نسويها بقوله: (حَتَّى تعود كأفقائهم) وَأسْندَ الطَّبَرِيّ عَن قَتَادَة أَن المُرَاد أَن تعود الْأَوْجه فِي الأفقية، وَعَن قَتَادَة: تذْهب بالشفاه والأعين والحواجب فيردها أقفاء، وَقَالَ أبي بن كَعْب: هُوَ تَمْثِيل وَلَيْسَ المُرَاد حَقِيقَتهَا حسا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: نطمس مَنْصُوب على الْحِكَايَة من قَوْله: (من قبل أَن نطمس) وَأَشَارَ بقوله: طمس الْكتاب محاه إِلَى أَن الطمس يَجِيء بِمَعْنى المحو أَيْضا.
سَعِيرا وُقُودا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كفى بجهنم سعيرا} (النِّسَاء: 55) وَفسّر سعيرا بقوله: وقودا. لَو كَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه التفاسير لَيست لهَذِهِ الْآيَة وَكَأَنَّهَا من النساخ. قلت: هَذَا بعيد جدا لِأَن غَالب الْكتاب جهلة فَمن أَيْن لَهُم هَذِه التفاسير؟ وَبِأَيِّ وَجه يلحقون مثل هَذِه فِي مثل هَذَا الْكتاب الَّذِي لَا يحلق أساطين الْعلمَاء شاؤه؟ وَمن شَأْن النساخ التحريف والتصحيف والإسقاط وَلَيْسَ من دأبهم أَن يزِيدُوا فِي كتاب مُرَتّب منقح من عِنْدهم، وَلَو قَالَ: وَكَأَنَّهُ من بعض الروَاة المعتنين بالجامع لَكَانَ لَهُ وَجه، وَلَا يبعد أَن يكون هَذَا من نفس البُخَارِيّ من غير تفكر فِيهِ، فَإِن تنبه عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ مَا أدْرك إِلَى وضع هَذِه التفاسير فِي محلهَا ثمَّ استمرت على ذَلِك.

4582 - ح دَّثنا صَدْقَةُ أخْبرنا يَحْيَى عنْ سُفْيَانَ عنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عنْ عَبْدِ الله قَالَ يَحْيَى بَعْضُ الحَدِيثِ عَنْ عَمْرو بنِ مُرَّةَ قَالَ قَالَ لي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ اقْرَأ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أنْ أسُمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّساءِ حَتَّى بَلغْتُ (فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هاؤُلاءِ شَهيدا) قَالَ أمْسِك فَإذَا عَيْناهُ تَذْرِفانِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَصدقَة هُوَ ابْن الْفضل أَبُو الْفضل الْمروزِي، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبيدَة، بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عَمْرو السَّلمَانِي.
وَمن سُفْيَان إِلَى آخِره كلهم كوفيون، وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد وهم لِسُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم وَعبيدَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَعَمْرو بِفَتْح الْعين، ابْن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، الْجملِي بِفَتْح الْجِيم التَّابِعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَعَن عمر بن حَفْص وَعَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر وَغَيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري بِهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن سُوَيْد بن نصر بِهِ وَعَن غَيره.
قَوْله: (قَالَ يحيى) هُوَ الْقطَّان، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد ذكر البُخَارِيّ كَلَام يحيى للتقوية، وإلاّ فإسناد عَمْرو مَقْطُوع وَبَعض الحَدِيث مَجْهُول قلت: ظَاهره كَذَا، وَلكنه أوضحه فِي فَضَائِل الْقُرْآن فِي: بَاب الْبكاء عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عُبَيْدَة عَن عبد الله. قَالَ الْأَعْمَش: وَبَعض الحَدِيث حَدثنِي عَمْرو بن مرّة عَن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن أبي الضُّحَى عَن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اقْرَأ عليّ) الحَدِيث. قَوْله: (اقْرَأ عليّ) فِيهِ أَن الْقِرَاءَة من الْغَيْر أبلغ فِي التدبر والتفهم من قِرَاءَة الْإِنْسَان بِنَفسِهِ، وَفِيه فضل ظَاهر لعبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي (تَفْسِير عبد) لما قَرَأَ عبد الله هَذِه الْآيَة قَالَ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سره أَن يقْرَأ الْقُرْآن غضا كَمَا نزل فليقرأه على قِرَاءَة ابْن أم عبد) . قَوْله: (فَإِذا عَيناهُ) ، كلمة إِذا للمفاجأة. (وَعَيناهُ) مُبْتَدأ، وتذرفان، خَبره، أَي: عينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تطلقان دمعهما يُقَال: ذرف الدمع بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وذرفت الْعين دمعها. وَفِي بكاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وُجُوه: الأول: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: بكاؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة لِأَنَّهُ لَا بُد من أَدَاء الشَّهَادَة وَالْحكم على الْمَشْهُود عَلَيْهِ إِنَّمَا يكون يَقُول الشَّاهِد، فَلَمَّا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ الشَّاهِد وَهُوَ الشافع بَكَى على المفرطين مِنْهُم. الثَّانِي: أَنه بَكَى لعظم مَا تضمنته هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة من هول المطلع وَشدَّة الْأَمر إِذْ يُؤْتِي بالأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام، شُهَدَاء على أممهم بالتصديق والتكذيب. الثَّالِث: أَنه بَكَى فَرحا لقبُول شَهَادَة أمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْقِيَامَة وَقبُول تزكيته لَهُم فِي ذَلِك الْيَوْم الْعَظِيم.

(18/174)


10 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَرٍ أوْ جَاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ} (النِّسَاء: 43)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم مرضى} الْآيَة. قَوْله: (مرضى) ، جمع مَرِيض، وَأَرَادَ بِهِ مَرِيضا يضرّهُ المَاء كصاحب الجدري والجروح وَمن يتَضَرَّر بِاسْتِعْمَال المَاء هَذَا قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء إلاَّ مَا ذهب إِلَيْهِ عَطاء وَالْحسن أَنه لَا يتَيَمَّم مَعَ وجود المَاء احتجاجا بقوله تَعَالَى: {فَإِن لم تَجدوا مَاء} وَلم يُؤْخَذ بِهِ. قَوْله: (أَو على سفر) ، أَي: أَو كُنْتُم على سفر وَلَيْسَ السّفر شرطا لإباحة التَّيَمُّم، وَإِنَّمَا الشَّرْط عدم المَاء، وَإِنَّمَا ذكر السّفر لِأَن المَاء يعْدم فِيهِ غَالِبا. قَوْله: (أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط) ، وَهُوَ الْموضع المطمئن من الأَرْض، كَانُوا يتبرزون هُنَاكَ ليغيبوا عَن أعين النَّاس، فكنى عَن الْحَدث بمكانه، ثمَّ كثر الِاسْتِعْمَال حَتَّى صَار كالحقيقة، وَالْفِعْل مِنْهُ: غاط يغوط، مثل عَاد يعود.
صَعِيدٌ أوْجهَ الأَرْضِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} وَفسّر صَعِيدا بقوله: وَجه الأَرْض، ذكره أَبُو بكر بن الْمُنْذر عَن أبي عُبَيْدَة.
وَقَالَ جَابِرُ كَانَتِ الطَوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إلَيْها فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ وَفِي أسْلَمَ وَاحِدٌ وَفِي كُلِّ حَيِّ وَاحِدٌ كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمِ الشَّيْطَانُ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} (النِّسَاء: 60) . قَوْله: (كَانَت الطواغيت) ، هُوَ جمع طاغوت، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الطاغوت اسْم وَاحِد مؤنث، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد هُوَ عِنْدِي جمَاعَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الطاغوت يكون جمعا وواحدا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وطاغوت وَإِن كَانَ على وزن لاهوت، فَهُوَ مقلوب لِأَنَّهُ من طَغى ولاهوت غير مقلوب لِأَنَّهُ من لاه. لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الرغبوت والرهبوت انْتهى. قلت: أَصله طغبوت فَقدمت الْيَاء على الْغَيْن فَصَارَ طيغوت فقلبت الْيَاء ألفا لتحركهاوانفتاح مَا قبلهَا، والطاغوت والكاهن والشياطن وكل رَأس فِي الضلال فَهُوَ طاغوت. قَوْله: (فِي جُهَيْنَة وَاحِد) ، أَي: مُسَمّى بطاغوت، وجهينة قَبيلَة، وَكَذَلِكَ أسلم على وزن أفعل التَّفْصِيل. قَوْله: (كهان) ، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ أَي: الطواغيت الْمَذْكُورَة فِي الْقَبَائِل كهان، بِضَم الْكَاف، جمع كَاهِن ينزل عَلَيْهِم الشَّيْطَان فَيلقى إِلَيْهِم الْأَخْبَار، والكاهن هُوَ الَّذِي يتعاطى الْخَبَر عَن الكائنات فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان ويدعى معرفَة الْأَسْرَار، وَهَذَا الْأَثر ذكره ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن الْحسن بن الصَّباح: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الْكَرِيم حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن عقيل عَن أَبِيه عقيل بن معقل عَن وهب بن مُنَبّه. قَالَ: سَأَلت جَابر ابْن عبد الله عَن الطواغيت الحَدِيث بِزِيَادَة، وَفِي هِلَال وَاحِد.
وَقَالَ عُمَرُ الجِبْتُ السِّحْرُ وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَقَال عِكْرَمَةُ الجِبْتُ بِلِسانِ الحَبَشَةِ شَيْطَانٌ وَالطَاغُوتُ الكَاهِنُ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت} (النِّسَاء: 51) وَأثر عمر رَوَاهُ عبد بن حميد عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن حسان بن قَائِد عَن عمر، وَأثر عِكْرِمَة رَوَاهُ عبد أَيْضا عَن أبي الْوَلِيد عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر عَنهُ، وَاخْتَارَ الطَّبَرِيّ أَن المُرَاد بالجبت والطاغوت جنس مَا كَانَ يعبد من دون الله سَوَاء كَانَ صنما أَو شَيْطَانا أَو آدَمِيًّا، فَيدْخل فِيهِ السَّاحر والكاهن، وَأخرج الطَّبَرِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير. قَالَ: الجبت السَّاحر بِلِسَان الْحَبَشَة، والطاغوت الكاهن، وَهَذَا يدل على وُقُوع المعرب فِي الْقُرْآن. وَاخْتلف فِيهِ فَأنْكر الشَّافِعِي وَأَبُو عُبَيْدَة وُقُوع ذَلِك فِي الْقُرْآن وحملا مَا وجد من ذَلِك على توارد اللغتين، وَأَجَازَ ذَلِك قوم وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَاحْتج لذَلِك بِوُقُوع إسماء الْإِعْلَام فِيهِ كإبراهيم وَغَيره، فَلَا مَانع من وُقُوع إسماء الْأَجْنَاس فِيهِ أَيْضا وَقد وَقع فِي البُخَارِيّ جملَة من ذَلِك، وَقيل: مَا وَقع من ذَلِك فِي الْقُرْآن سَبْعَة وَعِشْرُونَ وَهِي (السلسبيل) و (كورت) وَبيع (روم) و (طُوبَى) و (سجيل) و (كافور) و (زنجبيل) و (ومشكاة) و (وسرادق) و (استبرق) و (صلوَات) و (سندس) و (طور) و (قَرَاطِيس) و (ربانيين) و (غساق) و (دِينَار) و (قسطاس) و (قسورة) و (اليم) و (ناشئة) و (كِفْلَيْنِ)

(18/175)


و (مقاليد) و (فردوس) و (تنور) .

4583 - ح دَّثنا مُحَمَّدٌ أخْبرنا عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنها قَالَتْ هَلَكَتْ قِلادَةٌ لأَسْمَاءَ فَبَعَثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَلَبِها رِجالاً فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضوءَ وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضوءٍ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى يَعْنِي آيَةَ التَّيَمُّمِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قَوْله هَذَا حَدثنِي مُحَمَّد أخبرنَا عَبدة، يشبه أَن يكون البيكندي لِأَنَّهُ ذكر رِوَايَته فِي (جَامعه) فِي غير مَوضِع قلت: البيكندي هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن سَلام بن الْفرج أَبُو عبد الله السّلمِيّ مَوْلَاهُم البُخَارِيّ البيكندي، سمع عَبدة بن سُلَيْمَان الْكلابِي وَمن مَشَايِخ البُخَارِيّ البيكندي أخرجه أَيْضا وَهُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، وَلم يذكر فِي (الْجَامِع) أَنه سمع عَبدة. والْحَدِيث مر فِي التَّيَمُّم فِي: بَاب إِذا لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

11 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ} (النِّسَاء: 59) ذَوِي الأمْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {أطِيعُوا الله} إِلَى آخِره هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَفِي رِوَايَة غَيره وَقع كَذَا أولي الْأَمر مِنْكُم ذَوي الْأَمر وَقَالَ الواحدي: نزلت هَذِه الْآيَة فِي عمار لما أَجَارَ على خَالِد فَنَهَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجير على أَمِير إلاَّ بِإِذْنِهِ. قَوْله: (ذَوي الْأَمر) تَفْسِير لقَوْله: (وأولي الْأَمر) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.

4584 - ح دَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخْبرنا حَجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَعْلَى بن مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا {أطِيعُوا الله وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوَلي الأمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الله بنِ حُذَافَةَ بنِ قَيْسِ بنِ عَدِيّ إذْ بَعَثَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَرِيَّةٍ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَصدقَة بن الْفضل أَبُو الْفضل الْمروزِي، وَقد تكَرر ذكره، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: صَدَقَة بن الْفضل، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن عَن الفريري عَن البُخَارِيّ. حَدثنَا ستنيد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَهُوَ لقب، واسْمه الْحُسَيْن بن دَاوُد أَبُو عَليّ المصِّيصِي من حفاظ الحَدِيث وَله تَفْسِير مَشْهُور، وَلَكِن ضعفه أَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، إِن كَانَ الْأَمر كَمَا ذكره ابْن السكن، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون البُخَارِيّ روى الحَدِيث عَنْهُمَا جَمِيعًا فاقتصر الْأَكْثَرُونَ على صَدَقَة بن الْفضل لاتفاقه، وَاقْتصر ابْن السكن على ذكر سنيد لكَونه صَاحب تَفْسِير، والْحَدِيث يتَعَلَّق بِهِ. قلت: كَلَام ابْن السكن أقرب لِأَن حجاج بن مُحَمَّد الَّذِي روى عَنهُ سنيد مصيصي أَيْضا وَإِن كَانَ أَصله ترمذيا لِأَنَّهُ سكن المصيصة، وحجاج، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن مُحَمَّد الْأَعْوَر يروي عَن عبد مَالك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، ويعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام مَقْصُورا ابْن مُسلم بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن زُهَيْر بن حَرْب وَهَارُون بن عبد الله، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن هَارُون بن عبد الله وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيعَة وَفِي السّير وَفِي التَّفْسِير عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي.
قَوْله: (وَأولى الْأَمر مِنْكُم) ، فِي تَفْسِيره أحد عشر قولا: الأول: الْأُمَرَاء، قَالَه ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن زيد وَالسُّديّ. الثَّانِي: أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَه عِكْرِمَة. الثَّالِث: جَمِيع الصَّحَابَة، قَالَ مُجَاهِد. الرَّابِع: الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة قَالَه أَبُو بكر الْوراق فِيمَا قَالَه الثَّعْلَبِيّ. الْخَامِس: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار، قَالَه عَطاء. السَّادِس: الصَّحَابَة والتابعون. السَّابِع: أَرْبَاب الْعقل الَّذين يسوسون أَمر النَّاس، قَالَه ابْن كيسَان. الثَّامِن: الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء، قَالَه جَابر بن عبد الله وَالْحسن وَأَبُو الْعَالِيَة. التَّاسِع: أُمَرَاء السَّرَايَا. قَالَه مَيْمُون بن مهْرَان وَمُقَاتِل والكلبي. الْعَاشِر: أهل الْعلم وَالْقُرْآن، قَالَه مُجَاهِد وَاخْتَارَهُ مَالك. الْحَادِي عشر: عَام فِي كل من ولي أَمر شَيْء، وَهُوَ الصَّحِيح، وإلي مَال البُخَارِيّ بقوله: (ذَوي الْأَمر) قَوْله: (نزلت فِي عبد الله بن حذافة) ، قد مرت تَرْجَمته

(18/176)


مَعَ قصَّته فِي الْمَغَازِي وَاعْترض الدَّاودِيّ فَقَالَ قَول ابْن عَبَّاس: (نزلت فِي عبد الله بن حذافة) وهم من غَيره لِأَن فِيهِ حمل الشَّيْء على ضِدّه لِأَن الَّذِي هُنَا خلاف مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُنَاكَ، وَهُوَ قَوْله إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف، وَكَانَ قد خرج على جَيش فَغَضب وَلَو قدنا نَارا. وَقَالَ: اقتحمونا فَامْتنعَ بَعضهم وهمَّ بعض أَن يفعل. قَالَ: فَإِن كَانَت الْآيَة نزلت قبل فَكيف يخْتَص عبد الله بن حذافة بِالطَّاعَةِ دون غَيره؟ وَإِن كَانَت نزلت بعد فَإِنَّمَا قيل لَهُم: إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف، وَمَا قيل لَهُم لمَ لَمْ تطيعوه؟ وَأجِيب عَن هَذَا بِأَن المُرَاد من قصَّة عبد الله بن حذافة قَوْله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَذَلِكَ لِأَن السّريَّة الَّتِي عَلَيْهَا عبد الله بن حذافة لما تنازعوا فِي امْتِثَال أَمرهم بِهِ من دُخُول النَّار وَتَركه كَانَ عَلَيْهِم أَن يردوه فِي ذَلِك إِلَى الله وَرَسُوله لقَوْله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء} أَي: فِي جَوَاز شَيْء وَعَدَمه. (فَردُّوهُ إِلَى الله وَرَسُوله) أَي: فَارْجِعُوا إِلَى الْكتاب وَالسّنة، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره من السّلف، وَهَذَا أَمر من الله عز وَجل بِأَن كل شَيْء تنَازع النَّاس فِيهِ من أصُول الدّين وفروعه أَن يردوا الْمُتَنَازع فِي ذَلِك إِلَى الْكتاب وَالسّنة. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} (الشورى: 10) فَمَا حكم بِهِ كتاب الله وَسنة رَسُول وَشهد لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الْحق فَمَاذَا بعد الْحق إلاَّ الضلال؟ .

12 - (بابٌ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النِّسَاء: 65)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} وَلم يُوجد لفظ بَاب إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَلَقَد أقسم الله تَعَالَى بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة المقدسة أَنه لَا يُؤمن من أحد حَتَّى يحكم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي جَمِيع الْأُمُور فَمَا حكم بِهِ فَهُوَ الْحق الَّذِي يجب الانقياد لَهُ ظَاهرا وَبَاطنا.

4585 - ح دَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ أخبرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ قَالَ خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَي شَرِيجٍ مِنَ الحَرَّةِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أرْسِلِ الماءَ إِلَى جَارِكَ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللهأنْ كَانَ ابنَ عَمَتِّكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الماءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الجَدْرِ ثُمَّ أرْسِلِ المَاءَ إلَى جَارِكَ وَاسْتَوْعَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِلزُّبَيْرِ حَقَهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ حِينَ أحْفَظَهُ الأنْصارِيُّ وَكَانَ أشَارَ عَلَيْهِمَا بأمْرٍ لَهُمَا فَيهِ سَعَةٌ قَالَ الزُّبَيْرُ فَمَا أحْسِبُ هاذِهِ الآيَاتِ إلاَّ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلا وَرَبّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنُهُمْ} .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الشّرْب فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب مُتَوَالِيَة: أَولهَا: بَاب كرى الْأَنْهَار. وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفِي.
قَوْله: (فِي شريج) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وبالجيم، وَهُوَ مسيل المَاء. قَوْله: (إِن كَانَ ابْن عَمَّتك) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا. وَالْجَزَاء مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: لَئِن كَانَ ابْن عَمَّتك حكمت لَهُ، وَكَانَ الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ابْن صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فتلَّون وَجهه) ، أَي: تغير وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَلَام الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (إِلَى الْجدر) ، بِفَتْح الْجِيم، وَهُوَ أصل الْحَائِط. قَوْله: (واستوعى) ، أَي: استوعب وَاسْتوْفى، وَهَذَا الْكَلَام لِلزهْرِيِّ ذكره إدراجا قَوْله: (حِين أحفظه) أَي: حِين أغضبهُ. وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة. قَوْله: (وَكَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا) أَي: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ على الزبير والأنصاري فِي أول الْأَمر بِأَمْر لَهما فِيهِ سَعَة. أَي: توسع على سَبِيل الْمُصَالحَة. فَلَمَّا لم يقبل الْأنْصَارِيّ الصُّلْح حكم للزبير بِمَا هُوَ حَقه فِيهِ.