عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 13 - (بابٌ: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (النِّسَاء:
69)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِك} وأوله:
(وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك) الْآيَة. أَي: من
عمل بِمَا أمره الله وَرَسُوله وَترك
(18/177)
مَا نَهَاهُ الله عَنهُ وَرَسُوله
فَأُولَئِك يكونُونَ مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا، قَالَت: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنَّك
لأحب إليّ من نَفسِي وَأَهلي، وَإِنِّي لأَكُون فِي
الْبَيْت فَأَذْكرك فَمَا أَصْبِر حَتَّى آتِيك فَأنْظر
إِلَيْك، وَإِذا ذكرت موتك عرفت أَنَّك ترفع مَعَ
النَّبِيين، وَإِنِّي إِذا دخلت الْجنَّة خشيت أَن لَا
أَرَاك، فَلم يرد عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم شَيْئا حَتَّى نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بِهَذِهِ الْآيَة انْتهى. قلت: هَذَا الرجل
هُوَ ثَوْبَان، فَمَا ذكره الواحدي.
4586 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ حَوْشَبٍ
حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَتْ سَمِعْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَا مِنْ
نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ
أخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ
الَّذِينَ أنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِييِّنَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
(النِّسَاء: 69) فَعَلِمْتُ أنَّهُ خُيِّرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِبْرَاهِيم بن سعد يروي
عَن أَبِيه سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف
عَن عُرْوَة بن الزبير، وَمر الحَدِيث فِي: بَاب مرض
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووفاته، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن
سعد عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (بحة) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد
الْحَاء الْمُهْملَة، وَهِي غلظ فِي الصَّوْت وخشونة فِي
الْحلق. قَوْله: (خير) على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: خبر
بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَاخْتَارَ الْآخِرَة صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
14 - (بابُ قَوْلُهُ: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الله} إلَى {الظَّالِمِ أهْلُها} (النِّسَاء: 75)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لَا تقاتلون فِي
سَبِيل الله} إِلَى قَوْله: {الظَّالِم أَهلهَا} هَكَذَا
وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين:
{وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء} الْآيَة
وتمامها (والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا أخرجنَا من
هَذِه الْقرْيَة الظَّالِم أَهلهَا وَاجعَل لنا من لَدُنْك
وليا وَاجعَل لنا من لَدُنْك نَصِيرًا) قَوْله عز وَجل:
{وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله} تحريض
لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ على الْجِهَاد فِي سَبيله وعَلى
السَّعْي فِي استنقاذ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة من
الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان. قَوْله:
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) ، مَنْصُوب عطفا على (سَبِيل الله)
أَي: فِي سَبِيل الله وخالص الْمُسْتَضْعَفِينَ أَو
مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، يَعْنِي: واختص فِي سَبِيل
الله خلاص الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَالْمرَاد من الْقرْبَة
مَكَّة. قَوْله: (وَاجعَل لنا من لَدُنْك وليا) ، أَي: سخر
لنا من عنْدك وليا ناصرا.
(18/178)
4588 - ح دَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ
حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنِ ابنِ أبِي
مُلَيْكَةَ أنَّ ابنَ عَبَاسٍ تَلا {إلاَّ
المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّسَاءِ
وَالوِلْدَانِ} (النِّسَاء: 98) قَالَ كُنْتُ أنَا
وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ الله.
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب ضد الصُّلْح. عَن حَمَّاد بن زيد عَن
أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن عبد الله عَن عبيد الله بن
أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، واسْمه زُهَيْر الْأَحول
القَاضِي الْمَكِّيّ. قَوْله: (أَن ابْن عَبَّاس تَلا) ،
وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، عَن ابْن عَبَّاس أَنه
تَلا يَعْنِي: قَرَأَ. قَوْله: (إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ) ، إِلَى آخِره. قَوْله: (مِمَّن عذر
الله) أَي: مِمَّن جعلهم من المعذورين الْمُسْتَضْعَفِينَ.
وَيُذْكَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ حَصِرَت ضَاقَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير: حصرت. فِي قَوْله تَعَالَى:
{حصرت وهم صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) وَفَسرهُ بقوله:
(ضَاقَتْ) . وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي حَاتِم
فِي تَفْسِيره عَن حَدِيث عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس، وَحكى الْفراء عَن الْحسن أَنه قَرَأَ: (أحصرت
صُدُورهمْ) ، بِالرَّفْع وَقَالَ بَعضهم: على هَذَا خبر
بعد خبر. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف تَقْدِيره: أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ، أَي: ضيقَة
منقبضة وقرىء: حصرات، صدوهم، وحاصرت، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: وَجعله الْمبرد صفة الْمَحْذُوف. أَي:
أَو جاؤكم قوما حصرت صُدُورهمْ وروى ابْن أبي حَاتِم من
طَرِيق مُجَاهِد أَنَّهَا نزلت فِي هِلَال بن عُوَيْمِر
الْأَسْلَمِيّ، وَكَانَ بَينه وَبَين الْمُسلمين عهد وقصده
نَاس من قومه فكره أَن يُقَاتل الْمُسلمين وَكره أَن
يُقَاتل قومه، وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) وَهَؤُلَاء قوم
من المستثنين من الْأَمر بقتالهم، وهم الَّذين يجيئون
إِلَى المصاف وهم حصرت صُدُورهمْ مبغضين أَن
يُقَاتِلُوكُمْ وَلَا يهون عَلَيْهِم أَيْضا أَن يقاتلوهم
مَعكُمْ، بل هم لَا لكم وَلَا عَلَيْكُم.
تَلْوُوا ألْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تلووا
أَو تعرضوا} ، وَنقل هَذَا التَّفْسِير أَيْضا ابْن
عَبَّاس. قَالَ ابْن الْمُنْذر، حَدثنَا زَكَرِيَّا
حَدثنَا أَحْمد بن نصر حَدثنَا عبد الله بن صَالح حَدثنِي
مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس
بِلَفْظ: (وَأَن تلووا وتعرضوا) يَعْنِي: إِن تلووا
أَلْسِنَتكُم بِالشَّهَادَةِ أَو تعرضوا عَنْهَا، وَقَرَأَ
حَمْزَة وَابْن عَامر: وَإِن تلوا، بواو وَاحِدَة سَاكِنة
وَيكون على هَذَا من الْولَايَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة،
وَلَيْسَ للولاية هُنَا معنى، وَأجَاب الْفراء بِأَنَّهَا
بِمَعْنى اللبي كَقِرَاءَة الْجَمَاعَة إِلَّا أَن الْوَاو
المضمومة قلبت همزَة ثمَّ سهلت. وَقَالَ الْفَارِسِي:
إِنَّهَا على بَابهَا من الْولَايَة، وَالْمرَاد، وَإِن
وليتم إِقَامَة الشَّهَادَة.
وَقَالَ غَيْرُهُ المُرَاغَمُ المُهَاجَرُ رَاغَمْتُ
هَاجَرْتُ قَوْمِي
أَي: وَقَالَ غير ابْن عَبَّاس لفظ المراغم فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض
مراغما كثيرا وسعة} وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْغَيْر: أَبَا
عُبَيْدَة، فَإِن هَذَا لَفظه حَيْثُ قَالَ: المراغم
وَالْمُهَاجِر وَاحِد. تَقول: هَاجَرت قومِي وراغمت قومِي،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مراغما مُهَاجرا وطريقا يراغم
بسلوكه قومه أَي: يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم الذل
والهوان وَأَصله لصوق الْأنف بالرغام وَهُوَ التُّرَاب،
يُقَال: راغمت الرجل إِذا فارقته وَهُوَ يكره مفارقتك،
وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) المراغم مصدر تَقول الْعَرَب،
راغم فلَان قومه مراغما ومرغمة، وَقَالَ ابْن عَبَّاس
المراغم المتحول من أَرض إِلَى أَرض، وَكَذَا رُوِيَ عَن
الضَّحَّاك وَالربيع بن أنس وَالثَّوْري، وَقَالَ
مُجَاهِد: مراغما يَعْنِي متزحزحا عَمَّا يكره.
مَوْقُوتا مُؤَقَّتا وَقَتَهُ عَلَيْهِمِ
هَذَا لم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَهُوَ تَفْسِير أبي
عُبَيْدَة أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّلَاة
كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} قَوْله: (وقته)
أَي: وقته الله عَلَيْهِم. وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله:
(موقوتا) قَالَ مَفْرُوضًا.
(18/179)
15 - (بابٌ: {فَمَا لَكُمْ فِي
المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَالله أرْكَسَهُمِ بِما
كَسَبُوا} (النِّسَاء: 88)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لكم فِي
الْمُنَافِقين} إِلَى آخِره. أَي: مالكم اختلفتم فِي شَأْن
قوم نافقوا نفَاقًا ظَاهرا وتفرقتم فِيهِ فئتين أَي:
فرْقَتَيْن، وَمَا لكم تبينوا القَوْل بكفرهم؟ وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: فئتين، نصب على الْحَال كَقَوْلِك: مَالك
قَائِما. قَوْله: (وَالله أركسهم) أَي: ردهم فِي حكم
الْمُشْركين كَمَا كَانُوا بِمَا كسبوا من ارتدادهم
ولحوقهم بالمشركين. وَعَن قريب نذْكر من هَؤُلَاءِ
المُنَافِقُونَ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ بَدَّدَهُمْ
أَرَادَ إِن ابْن عَبَّاس فسر قَوْله تَعَالَى: {أركسهم}
بقوله بددهم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من
طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله:
{وَالله أركسهم بِمَا كسبوا} قَالَ: بددهم انْتهى. يُقَال:
بددهم تبديدا أَي: فرقهم ومزق شملهم، وَكَذَا بددت بدا.
وَعَن ابْن عَبَّاس أوقعهم، وَعَن قَتَادَة. أهلكهم.
فِئَةٌ جَمَاعَةٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فئتين، فِي الْآيَة
الْمَذْكُورَة تَثْنِيَة فِئَة قَوْله: (جمَاعَة) أَي:
مَعْنَاهَا جمَاعَة. وَكَذَا كل مَا ذكر فِي الْقُرْآن.
نَحْو قَوْله تَعَالَى: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت على
فِئَة كَثِيرَة} (الْبَقَرَة: 249) وَقَوله: {فِئَة تقَاتل
فِي سَبِيل الله} (آل عمرَان: 13) .
4589 - ح دَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ
وَعَبْدُ الرَّحْمانِ قَالَا حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ
عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ عَنْ زَيْدٍ بنِ
ثَابِتٍ رَضِيَ الله عَنْهُ فَمَا لَكُمْ فِي
المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ رَجَعَ ناسٌ مِنْ أصْحَابِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أُحُدٍ وَكَانَ
النَّاسُ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ فَرِيقٌ يَقُولُ
اقْتُلْهُمْ وَفَرِيقٌ يَقُولُ لَا فَنَزَلَتْ: {فَمَا
لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وَقَالَ إنَّهَا
طَيِّبَةُ تَنْفِي الخَبَثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ
الفِضةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وغندر، بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون، لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر،
وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن مهْدي، وعدي، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَكسر الدَّال، ابْن ثَابت التَّابِعِيّ،
وَعبد الله بن يزِيد الخطمي، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة، صَحَابِيّ صَغِير.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث، فِي
أَوَاخِر الْحَج عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي
الْمَغَازِي عَن أبي الْوَلِيد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (رَجَعَ نَاس) هم عبد الله بن أبي سلول وَمن تبعه.
وكذر ابْن إِسْحَاق فِي وقْعَة أحد أَن عبد الله بن أبي
سلول رَجَعَ يَوْمئِذٍ بِثلث الْجَيْش. وَرجع بثلاثمائة
وَبَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَبْعمِائة.
قَوْله: (طيبَة) بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ اسْم من أَسمَاء مَدِينَة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (الْخبث) ،
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة، وخبث
الْفضة وَالْحَدِيد مَا نقاه الْكِير، وَفِي رِوَايَة
الْحَمَوِيّ: خبث الْحَدِيد، وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَن ابْن
عَبَّاس: نزلت هَذِه الْآيَة فِي قوم كَانُوا بِمَكَّة قد
تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا يظاهرون الْمُشْركين،
فَخَرجُوا من مَكَّة يطْلبُونَ حَاجَة لَهُم. فَقَالُوا:
إِن لَقينَا أَصْحَاب مُحَمَّد فَلَيْسَ علينا مِنْهُم
بَأْس، وَإِن الْمُؤمنِينَ لما أخبروا أَنهم قد خَرجُوا من
مَكَّة. قَالَت فِئَة من الْمُؤمنِينَ اركبوا إِلَى
الخبثاء فاقتلوهم فَإِنَّهُم يظاهرون عَلَيْكُم عَدوكُمْ.
وَقَالَت فِئَة أُخرى من الْمُؤمنِينَ: سُبْحَانَ الله،
أَو كَمَا قَالُوا: أَتقْتلونَ قوما قد تكلمُوا بِمثل مَا
تكلمتم بِهِ من أجل أَنهم لم يهاجروا ويتركوا دِيَارهمْ
أتستحل دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ؟ فَكَانُوا كَذَلِك
فئتين وَالرَّسُول عِنْدهم لَا ينْهَى وَاحِدًا من
الْفَرِيقَيْنِ عَن شَيْء. فَنزلت: {فَمَا لكم فِي
الْمُنَافِقين فئتين} (النِّسَاء: 88) رَوَاهُ ابْن أبي
حَاتِم، وَقَالَ زيد بن أسلم عَن ابْن سعد ابْن معَاذ
أَنَّهَا نزلت فِي تقاول الْأَوْس والخزرج فِي شَأْن عبد
الله بن أبي حِين استعذر مِنْهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر فِي قَضِيَّة الْإِفْك،
وَهَذَا غَرِيب، وَقيل غير ذَلِك.
(18/180)
(بابٌ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ
الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ} (النِّسَاء: 83) أيْ
أفْشَوْهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَهُم}
إِلَى آخِره. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَإِذا جَاءَهُم قوم
من ضعفة الْمُسلمين الَّذين لم يكن فيهم خبْرَة
الْأَحْوَال وَلَا استنباط الْأُمُور، كَانُوا إِذا
بَلغهُمْ خبر عَن سَرَايَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من أَمن وسلامة أَو خوف وخلل إِذا عوابه، وَكَانَت
إذاعتهم مفْسدَة، وَلَو ردوا ذَلِك الْخَبَر إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى أولي الْأَمر وهم
كبراء الصَّحَابَة البصراء بالأمور وَالَّذين كَانُوا
يوقرون مِنْهُم (لعلمه الَّذين يستنبطونه) أَي: لعلم
تَدْبِير مَا أخبروا بِهِ الَّذين يستنبطونه أَي: يستخرجون
تَدْبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بِأُمُور الْحَرْب
ومكائدها. ثمَّ إِن تَفْسِير البُخَارِيّ. قَوْله: (أذاعوا
بِهِ) بقوله: أَي: (أفشوه) نَقله ابْن الْمُنْذر عَن ابْن
عَبَّاس. قَالَ: حَدثنَا زَكَرِيَّا حَدثنَا إِسْحَاق
قَرَأت على أبي قُرَّة فِي تَفْسِير عَن ابْن جريج: أذاعوا
بِهِ، أَي: أفشوه، أَي: أعلنوه، عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ
ابْن أبي حَاتِم، رُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَعَطَاء
الْخُرَاسَانِي وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك نَحوه.
يَسْتَنْبِطُونَهُ يَسْتَخْرِجُونَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة
المترجم بهَا. يستنبطونه، يستخرجونه من الاستنباط، يُقَال:
استنبط المَاء من الْبِئْر إِذا استخرجه.
حَسِيبا كَافِيا
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن لفظ حسيبا فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِن الله كَانَ على كل شَيْء حسيبا} (النِّسَاء: 86)
كَافِيا.
إلاَّ إِنَاثًا يَعْنِي الَمَوَاتَ حَجَرا أوْ مَدَرَا
وَمَا أشْبَهَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَن يدعونَ من دون
إلاَّ إِنَاثًا} (النِّسَاء: 117) وَفَسرهُ بقوله:
(يَعْنِي الْموَات) وَالْمرَاد بالموات ضد الْحَيَوَان،
وَلِهَذَا قَالَ: (حجرا أَو مدرا وَمَا أشبه ذَلِك) على
طَرِيق عطف الْبَيَان أَو الْبَدَل، وَيُقَال: المُرَاد
مِنْهُ اللات والعزى وَمَنَاة وَهِي أصنامهم، وَكَانُوا
يَقُولُونَ: هِيَ بَنَات الله تَعَالَى عَن ذَلِك، وَقَالَ
الْحسن: لم يكن حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب إلاَّ وَلَهُم
صنم يعبدونه يُسمى: أُنْثَى بني فلَان، وَهَذَا
التَّفْسِير الَّذِي ذكره مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة
نَحوه.
مَرِيدا مُتَمَرِّدا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَن يدعونَ إلاَّ
شَيْطَانا مرِيدا} وَفسّر قَوْله: (مرِيدا) بقوله:
(متمردا) وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة بِلَفْظِهِ. وروى
ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق قَتَادَة. قَالَ: متمردا على
مَعْصِيّة الله تَعَالَى، وَهَذَا لم يَقع إلاَّ للمستملي
وَحده.
فَليُبَتِّكُنَّ بَتَّكَهُ قَطَّعَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فليبتكن آذان
الْأَنْعَام} (النِّسَاء: 119) وَقَالَ: إِنَّه من بتكه،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَفَسرهُ بِقطعِهِ، بِالتَّشْدِيدِ
وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق
عَن معمر عَن قَتَادَة، كَانُوا يبتكون آذان الْأَنْعَام
لطواغيتهم.
قِيلاً وَقَوْلاً وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن أصدق من الله
قِيلاً} (النِّسَاء: 122) قَوْله: (قيلا وقولاً وَاحِد) ،
يَعْنِي: كِلَاهُمَا مصدران بِمَعْنى وَاحِد، وأصل قيلاً
قولا قلبت الْوَاو يَاء لوقوعها بعد الكسرة.
طبِعَ خُتِمَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {طبع
الله على قُلُوبهم} (النِّسَاء: 155) فسر طبع بقوله: ختم،
وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
16 - (بابٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ} (النِّسَاء: 93)
(18/181)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَمن يقتل مُؤمنا} (النِّسَاء: 93) الْآيَة. قَالَ
الواحدي عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: إِن مقيس بن صبَابَة
اللَّيْثِيّ وجد أَخَاهُ هِشَام بن صبَابَة قَتِيلا فِي
بني النجار، وَكَانَ مُسلما فَأتى مقيس رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَأرْسل مَعَه رَسُولا من
بني فهر إِلَى بني النجار يَأْمُرهُم إِن علمُوا قَاتله
يَدْفَعُوهُ إِلَى أَخِيه فيقتص مِنْهُ، وَإِن لم يعلمُوا
لَهُ قَاتلا أَن يدفعوا إِلَيْهِ الدِّيَة. فَقَالُوا:
سمعا وَطَاعَة. وَالله مَا نعلم لَهُ قَاتلا وَلَكنَّا
نُؤَدِّي إِلَيْهِ دِيَته، فَأَعْطوهُ مائَة من الْإِبِل
فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان فَقتل الفِهري، وَرجع إِلَى
مَكَّة كَافِرًا، فَنزلت فِيهِ هَذِه الْآيَة ثمَّ أهْدر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَمه يَوْم الْفَتْح،
فَقتل بأسياف الْمُسلمين بِالسوقِ. وَذكر مقَاتل أَن
الفِهري اسْمه: عَمْرو، قلت: قيس، بِفَتْح الْمِيم
وَكسرهَا وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين
مُهْملَة وصبابة، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَتَخْفِيف
الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى، وَقَالَ
أَبُو عمر: وَهِشَام بن صبَابَة أَخُو مقيس بن صبَابَة قتل
فِي غَزْوَة ذِي قرد مُسلما، وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ من
الْهِجْرَة أَصَابَهُ رجل من الْأَنْصَار من رَهْط عبَادَة
بن الصَّامِت وَهُوَ يرى أَنه من الْعَدو فقالته خطأ،
وَقَالَ الذَّهَبِيّ: هِشَام بن صبَابَة الْكِنَانِي
اللَّيْثِيّ أَخُو مقيس، أسلم وَوجد قَتِيلا فِي بني
النجار، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق وَغَيره قتل فِي غَزْوَة
الْمُريْسِيع قَتله أَنْصَارِي فَظَنهُ من الْعَدو.
4590 - ح دَّثنا آدَمُ بنُ إياسٍ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا
المُغِيرَةُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ سِمِعْتُ سَعِيدَ بن
جُبَيْرٍ قَالَ آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أهْلُ الكُوفَةِ
فَدَخَلْتُ فِيهَا إلَى ابنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ
عَنْهَا فَقَالَ نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلُ
مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ} هِيَ آخِرُ
مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والمغيرة، بِضَم الْمِيم
وَكسرهَا ابْن النُّعْمَان بِضَم النُّون النَّخعِيّ
الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي مُوسَى
وَبُنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفِتَن عَن أَحْمد
بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقصاص وَفِي
الْمُحَاربَة وَفِي التَّفْسِير عَن أَزْهَر بن جميل.
قَوْله: (آيَة اخْتلف فِيهَا أهل الْكُوفَة فَدخلت فِيهَا)
وَفِي تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان عَن غنْدر عَن شُعْبَة
بِلَفْظ: اخْتلف أهل الْكُوفَة فِي قتل الْمُؤمن، فَدخلت
فِيهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
فرحلت، بالراء والحاء الْمُهْملَة، وَهَذِه أصوب،
وَالْوَجْه فِي رِوَايَة، فَدخلت بِالدَّال وَالْخَاء
الْمُعْجَمَة أَن يقدر شَيْء تَقْدِيره، فَدخلت بعد رحلتي
إِلَى ابْن عَبَّاس، وَكلمَة إِلَى، يجوز أَن تكون
بِمَعْنى: عِنْد، وعَلى أصل بَابهَا وَالْمعْنَى: انْتهى
دخولي إِلَيْهِ. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي حكمهَا،
وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه الله فِي قَوْله: اخْتلف
فِيهَا أهل الْكُوفَة، ويروى: اخْتلف فِيهَا فُقَهَاء أهل
الْكُوفَة، جمع فَقِيه، قَالَ: وَلَفظ، فِيهَا حِينَئِذٍ
مُقَدّر قَوْله: (مُتَعَمدا) أَي: قَاصِدا قَتله بعمد،
وَصُورَة الْعمد أَن يقْتله بِالسَّيْفِ، أَو بِغَيْرِهِ
مِمَّا يفرق الْأَجْزَاء من الْآلَات الَّتِي يقْصد بهَا
الْقَتْل. وانتصابه على الْحَال. قَوْله: (فَجَزَاؤُهُ)
خبر قَوْله: (وَمن يقتل) وَدخلت الْفَاء لتضمن
الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط. قَوْله: (هِيَ آخر مَا نزل)
أَي: الْآيَة الْمَذْكُورَة آخر مَا نزل فِي هَذَا الْبَاب
(وَمَا نسخهَا شَيْء) أَي: من آخر مَا نزل وَذكر أَبُو
جَعْفَر النّحاس أَن للْعُلَمَاء فِي هَذِه الْآيَة
الْكَرِيمَة الْمَذْكُورَة أقوالاً الأول: لَا تَوْبَة
لَهُ، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَعبد
الله بن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن وَعبيد بن عُمَيْر وَالْحسن الْبَصْرِيّ
الضَّحَّاك. فَقَالُوا: الْآيَة محكمَة.
الثَّانِي: أَنه لَهُ تَوْبَة، قَالَه جمَاعَة من
الْعلمَاء، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس
وَزيد بن ثَابت.
الثَّالِث: أَن أمره إِلَى الله تَعَالَى تَابَ أَو لم
يتب، وَعَلِيهِ الْفُقَهَاء: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه
وَمُحَمّد بن إِدْرِيس يَقُوله فِي كثير من هَذَا إلاَّ
أَن يعْفُو الله تَعَالَى عَنهُ. أَو معنى هَذَا
الرَّابِع: قَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد الْمَعْنى
جَزَاؤُهُ إِن جازاه، وروى عَاصِم بن أبي النجُود عَن ابْن
جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: هُوَ جَزَاؤُهُ إِن
جازاه، وروى ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ فِي الْآيَة: (هُوَ
جَزَاؤُهُ إِن جازاه) .
وَذكر أَبُو عبد الله الْموصِلِي الْحَنْبَلِيّ فِي
كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى
أَن آيَة النِّسَاء مَنْسُوخَة. ثمَّ اخْتلفُوا فِي
النَّاسِخ. فَقَالَ بَعضهم: نسختها آيَة الْفرْقَان.
لِأَنَّهُ قَالَ: (إلاَّ من تَابَ) بعد ذكر الشّرك والزنى
وَالْقَتْل، وَقَالَ أَكْثَرهم: نسخت بقوله: {إِن الله لَا
يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء}
وَقد اخْتلف عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا فَروِيَ عَنهُ أَن
هَذِه الْآيَة نزلت فِي أهل الشّرك وَعنهُ نسختها الَّتِي
فِي النِّسَاء، وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْحصار فِي
كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) الْآيَتَانِ لم يتواردا على
حكم
(18/182)
وَاحِد لِأَن الَّتِي فِي الْفرْقَان نزلت
فِي الْكفَّار، وَالَّتِي فِي النِّسَاء نزلت فِيمَن عقل
الْإِيمَان وَدخل فِيهِ، فَلَا تعَارض بَينهمَا أَو
إِنَّمَا نزلت آيَة النِّسَاء فِيمَن قتل مُؤمنا مستحلاً
لقَتله مُتَعَمدا للتكذيب من غير جَهَالَة فتكذيبه كتكذيب
إِبْلِيس، وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس لَا تَوْبَة لَهُ
كَمَا لَا تَوْبَة لإبليس، وَكَيف يشكل حكم هَذِه الْآيَة
على عَالم قد بَينه الله عز وَجل غَايَة الْبَيَان،
وَأخْبر بِأَنَّهُ لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا
دون ذَلِك؟ انْتهى.
وَأما الَّذين قَالُوا: إِن هَذِه الْآيَة محكمَة
فَاخْتَلَفُوا فِي وَجه أَحْكَامهَا، فَذهب عِكْرِمَة
إِلَى أَن الْمَعْنى مستحلاً لقَتله فَيسْتَحق التخليد
لاستحلاله، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا لم يلْحقهَا نَاسخ
وَهِي بَاقِيَة على أَحْكَامهَا، وَقد روى عبد بن حميد
وَابْن وَكِيع قَالَا حَدثنَا جرير عَن يحيى الجابري عَن
سَالم بن أبي الْجَعْد قَالَ: (كُنَّا عِنْد ابْن عَبَّاس
بَعْدَمَا كف بَصَره، فَأَتَاهُ رجل فناداه: يَا عبد الله
بن عَبَّاس، مَا ترى فِي رجل قتل مُؤمنا مُتَعَمدا؟
فَقَالَ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا، وَغَضب الله
عَلَيْهِ، ولعنه وأعدَّ لَهُ عذَابا عَظِيما. قَالَ:
أَفَرَأَيْت إِن تَابَ وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ
ابْن عَبَّاس: ثكلته أمه وأنَّى لَهُ التَّوْبَة وَالْهدى؟
وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد سَمِعت نَبِيكُم صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: ثكلته أمه قَاتل مُؤمن مُتَعَمدا
جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة أَخذه بِيَمِينِهِ. أَو
بِشمَالِهِ تشخب أوداجه دَمًا قبل عرش الرَّحْمَن يلْزمه
قَاتله بِيَدِهِ الْأُخْرَى. يَقُول: سل هَذَا فيمَ قتلني؟
وأيم الَّذِي نفس عبد الله بِيَدِهِ لقد أنزلت هَذِه
الْآيَة فَمَا نسختها من آيَة حَتَّى قبض نَبِيكُم صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا نزل بعْدهَا من برهَان.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَت الْخَوَارِج والمعتزلة،
الْمُؤمن إِذا قتل مُؤمنا إِن هَذَا الْوَعيد لَاحق بِهِ،
وَقَالَت المرجئة: نزلت هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي
كَافِر قتل مُؤمنا، فَأَما مُؤمن قتل مُؤمنا فَلَا يدْخل
النَّار، وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب الحَدِيث: نزلت
فِي مُؤمن قتل مُؤمنا والوعيد عَلَيْهِ ثَابت، إلاَّ أَن
يَتُوب ويستغفر، وَقَالَت طَائِفَة: كل مُؤمن قتل مُؤمنا
فَهُوَ خَالِد فِي النَّار غير مؤبد وَيخرج مِنْهَا بشفاعة
الشافعين، وَعِنْدنَا. أَن الْمُؤمن إِذا قتل مُؤمنا لَا
يكفر بِفِعْلِهِ وَلَا يخرج بِهِ من الْإِيمَان إلاَّ أَن
يقْتله استحلالاً فَإِن أقيد بِمن قَتله فَذَلِك كَفَّارَة
لَهُ، وَإِن كَانَ تَائِبًا من ذَلِك وَلم يكن مقادا بِمن
قتل كَانَت التَّوْبَة أَيْضا كَفَّارَة لَهُ فَإِن خرج من
الدُّنْيَا بِلَا تَوْبَة وَلَا قَود فَأمره إِلَى الله
تَعَالَى، وَالْعَذَاب قد يكون نَارا وَقد يكون غَيرهَا
فِي الدُّنْيَا أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يعذبهم
الله بأيدكم} (التَّوْبَة: 14) يَعْنِي: بِالْقَتْلِ
والأسر.
وَيُجَاب عَن قَول الْخَوَارِج وَمن مَعَهم، بِأَن
المُرَاد من التخليد الْمكْث بطول الْمدَّة، أَلا ترى
إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك
الْخلد} (الْأَنْبِيَاء: 34) وَمن الْمَعْلُوم أَن
الدُّنْيَا تفنى، وَعَن قَول المرجئة بِأَن كلمة من فِي
الْآيَة عَامَّة، فَإِن قَالُوا: إِن الله لَا يغْضب إلاَّ
على كَافِر أَو خَارج من الْإِيمَان، فَالْجَوَاب: أَن
الْآيَة لَا توجب غَضبا عَلَيْهِ، لِأَن مَعْنَاهُ
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم وجزاؤه أَن يغْضب عَلَيْهِ ويلعنه،
مَا ذكر الله تَعَالَى من شَيْء وَجعله جَزَاء لشَيْء
فَلَيْسَ ذَلِك وَاجِبا. كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا
جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} (الْمَائِدَة:
33) وَرب محَارب لله وَرَسُوله لم يحل عَلَيْهِ شَيْء من
هَذِه الْمعَانِي حَتَّى فَارق الدُّنْيَا، وَإِن قَالُوا:
قَوْله تَعَالَى: {وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه}
(النِّسَاء: 93) من الْأَفْعَال الْمَاضِيَة، فَالْجَوَاب
أَنه قد يرد الْخطاب بِلَفْظ الْمَاضِي. وَالْمرَاد بِهِ
الْمُسْتَقْبل. كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور}
(الْكَهْف: 99) {وحشرناهم} (الْكَهْف: 47) وَقد يرد
الْمُسْتَقْبل بِمَعْنى الْمَاضِي كَقَوْلِه: {وَمَا نقموا
مِنْهُم إلاَّ أَن يُؤمنُوا بِاللَّه} (البروج: 8) أَي:
إلاَّ أَن آمنُوا. فَإِن قلت: رويت أَخْبَار بِأَن
الْقَاتِل لَا تَوْبَة لَهُ. قلت: إِن صحت فتأويلها إِذا
لم ير الْقَتْل ذَنبا وَلم يسْتَغْفر الله تَعَالَى
مِنْهُ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) . مَا رَوَاهُ أَبُو
الدَّرْدَاء، سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: كل ذَنْب عَسى الله أَن يغفره إلاَّ من مَاتَ
مُشْركًا، أَو مُؤمن قتل مُؤمنا مُتَعَمدا. وَلم يتب
وَقَالَ ابْن كثير فِي تَفْسِيره وَأما قَوْله مُعَاوِيَة
كل ذَنْب عَسى الله أَن يغفره الا الرجل يَمُوت كَافِر أَو
الرجل يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَعَسَى للترجي وَانْتِفَاء
الترجي فِي هَاتين الصُّورَتَيْنِ لَا يَنْفِي وُقُوع
ذَلِك فِي أَحدهمَا وَهُوَ الْقَتْل انْتهى. فَهَذَا كَمَا
رَأَيْت ذكره عَن مُعَاوِيَة. وَلم يذكر لفظ لم يتب. وأوله
بِهَذَا الْمَعْنى، وَالله أعلم، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على
صِحَة تَوْبَة الْقَاتِل عمدا وَكَيف لَا تصح تَوْبَته
وَتَصِح تَوْبَة الْكَافِر وتوبة من ارْتَدَّ عَن
الْإِسْلَام ثمَّ قتل الْمُؤمن عمدا ثمَّ رَجَعَ إِلَى
الْإِسْلَام؟ وَقَالَ عبد الله بن عمر: كُنَّا معشر
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نشك فِي
قَاتل الْمُؤمن وآكل مَال الْيَتِيم وَشَاهد الزُّور وقاطع
الرَّحِم، يَعْنِي: لَا نشك فِي الشَّهَادَة لَهُم
بالنَّار حَتَّى نزلت: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك
بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك} (النِّسَاء: 48، 116) فأمسكنا
عَن الشَّهَادَة لَهُم. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي الرجل
الَّذِي سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس
عَن قتل الْعمد، فكلهم قَالَ: هَل يَسْتَطِيع أَن يجِيبه؟
قلت: هَذَا على وَجه تَعْظِيم الْقَتْل والزجر، وَمَا أما
مُطَالبَة الْمَقْتُول
(18/183)
الْقَاتِل يَوْم الْقِيَامَة فَإِنَّهُ حق
من حُقُوق الْآدَمِيّين وَهُوَ لَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ
فَلَا بُد من أَدَائِهِ وإلاَّ فَلَا بُد من الْمُطَالبَة
يَوْم الْقِيَامَة، وَلَكِن لَا يلْزم من وُقُوع
الْمُطَالبَة المجازاة، وَقد يكون للْقَاتِل أَعمال
صَالِحَة تصرف إِلَى الْمَقْتُول أَو بَعْضهَا. ثمَّ يفضل
لَهُ أجر يدْخل بِهِ الْجنَّة، أَو يعوض الله الْمَقْتُول
من فَضله بِمَا يَشَاء من قُصُور الْجنَّة وَنَعِيمهَا
وَرفع دَرَجَته وَنَحْو ذَلِك، وَالله أعلم.
17 - (بابٌ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ
السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمنا} (النِّسَاء: 94)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقولُوا لمن
ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام} وأوله: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا
وَلَا تَقولُوا} الْآيَة قَوْله: (إِذا ضَرَبْتُمْ) أَي:
سِرْتُمْ قَوْله: (فَتَبَيَّنُوا) أَي: الْأَمر قبل
الْإِقْدَام عَلَيْهِ، وقرىء فتثبتوا من الثَّبَات وَترك
الاستعجال، أَي: قفوا حَتَّى تعرفوا الْمُؤمن من
الْكَافِر، وَيَجِيء الْآن تَفْسِير السّلم. قَوْله:
(مُؤمنا) قَرَأَ الْجُمْهُور بِضَم الْمِيم الأولى وَكسر
الثَّانِيَة. وَقَرَأَ عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة
وَأَبُو الْعَالِيَة وَيحيى بن معمر وَأَبُو جَعْفَر
بِفَتْح الْمِيم الثَّانِيَة وتشديدها، اسْم مفعول من
أمته.
السلْمُ والسَّلَمُ وَالسَّلامُ وَاحِدٌ
السّلم بِكَسْر السِّين وَسُكُون اللَّام، وَالسّلم
بِفَتْح السِّين. قَوْله: (وَاحِد) يَعْنِي فِي الْمَعْنى،
وَقِرَاءَة نَافِع وَحَمْزَة السّلم بِغَيْر ألف،
وَقِرَاءَة البَاقِينَ بثبوتها.
4591 - ح دَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدَّثنا
سفْيَانُ عَنْ عَمْروٍ عنْ عَطَاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ الله عَنْهُمَا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى
إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا قَالَ قَالَ ابنُ
عَبَّاسٍ كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لهُ فَلَحِقَهُ
المُسْلِمُونَ فَقَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ
وَأخَذُوا غُنَيْمَتَهُ فَأنْزَلَ الله فِي ذالِكَ إلَى
قَوْلِهِ عَرَض الحَيَاةِ الدُّنْيَا تِلْكَ الغُنَيْمَةُ
قَالَ قَرَأَ ابنُ عَبَاسٍ السلامَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ
الَّذِي يُقَال لَهُ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ
ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء
هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحُرُوف
عَن مُحَمَّد بن عِيسَى وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير
وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد.
قَوْله: (فِي غنيمَة) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح
النُّون تَصْغِير غنم، لِأَن الْغنم اسْم مؤنث مَوْضُوع
للْجِنْس، يَقع على الذُّكُور وعَلى الْإِنَاث فَإِذا
صغرتها ألحقتها الْهَاء فَقلت: غنيمَة، لِأَن أَسمَاء
الجموع الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا إِذا كَانَت
لغير الْآدَمِيّين فالتأنيث لَهَا لَازم، وَفِي رِوَايَة
أَحْمد وَمن طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: مر
رجل من بني سليم بِنَفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يَسُوق غنماله، فَسلم عَلَيْهِم
فَقَالُوا: مَا سلم علينا إلاَّ ليعوذ منا، فعمدوا
إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأتوا بغنمه إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزلت الْآيَة: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا
وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا}
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن عبد بن حميد عَن عبد
الْعَزِيز بن أبي رزمة عَن إِسْرَائِيل بِهِ.
وَفِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة اخْتِلَاف، فَذكر الواحدي
عَن سعيد بن جُبَير، أَن الْمِقْدَاد بن الْأسود خرج فِي
سَرِيَّة فَمروا بِرَجُل فِي غنيمَة لَهُ، فأردوا قَتله
فَقَالَ: لَا إلاه إلاَّ الله، فَقتله الْمِقْدَاد. وَعَن
ابْن أبي حَدْرَد، قَالَ: بعثنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي سَرِيَّة إِلَى أضم، قبل مخرجه إِلَى
مَكَّة، فَمر بِنَا عَامر بن الأضبط الْأَشْجَعِيّ فحيانا
بِتَحِيَّة الْإِسْلَام، فرعبنا مِنْهُ، فَحمل عَلَيْهِ
محلم بن جثامة لشَيْء كَانَ بَينه وَبَينه فِي
الْجَاهِلِيَّة فَقتله واستلبه، وانتهينا إِلَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَخْبَرنَاهُ بِخَبَرِهِ،
فَنزلت وَقَالَ الواحدي: وَذكر السّديّ أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث أُسَامَة بن زيد على
سَرِيَّة فلقي مرداس بن نهيك الضمرِي فقلته، وَكَانَ من
أهل فدك وَلم يسلم من قومه غَيره، فَقَالَ لَهُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هلا شققت عَن قلبه) ؟
فَنزلت وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا جرير
عَن ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر
(18/184)
قَالَ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، محلم بن جثامة مَعنا فَلَقِيَهُمْ عَامر بن الأضبط
الحَدِيث، إِلَى أَن قَالَ: فَرَمَاهُ بِسَهْم فَقتله،
فجَاء الْخَبَر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: فجَاء محلم فِي بردين
فَجَلَسَ بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ليَسْتَغْفِر لَهُ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لأستغفر الله لَك) ، فَقَامَ وَهُوَ يتلَقَّى دموع
ببرديه، فَمَا مَضَت لَهُ سَاعَة حَتَّى مَاتَ ودفنوه
ولفظته الأَرْض، فجاؤوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَذكرُوا لَهُ ذَلِك فَقَالَ: إِن الأَرْض تقبل من هُوَ
شَرّ من صَاحبكُم وَلَكِن الله أَرَادَ أَن يعظكم من
جريمتكم. ثمَّ طرحوه فِي جبل وألقوا عَلَيْهِ من
الْحِجَارَة، وَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله} (النِّسَاء: 94) الْآيَة.
وَقَالَ السُّهيْلي: ثمَّ مَاتَ محلم بإثر ذَلِك فَلم
تقبله الأَرْض مرَارًا. فألقي بَين جبلين. قَالَ: وَكَانَ
أَمِير السّريَّة أَبَا الدَّرْدَاء، وَقيل رجل اسْمه
فديك، وَقَالَ أَبُو عمر: مرداس بن نهيك الْفَزارِيّ.
فِيهِ نزلت: {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم
السَّلَام لست مُؤمنا} كَانَ يرْعَى غنما لَهُ، فهجمت
عَلَيْهِ سَرِيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وفيهَا أُسَامَة بن زيد وأميرها سَلمَة بن الْأَكْوَع،
فَلَقِيَهُ أُسَامَة فَألْقى إِلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ:
السَّلَام عَلَيْك يَا مُؤمن، فَحسب أُسَامَة أَنه ألْقى
إِلَيْهِ السَّلَام مُتَعَوِّذًا، فَقتله فَأنْزل الله
تَعَالَى فِيهِ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا} الْآيَة.
وَقَالَ أَبُو عمر: الِاخْتِلَاف فِي المُرَاد بِهَذِهِ
الْآيَة كثير مُضْطَرب فِيهِ جدا، قيل: نزلت فِي
الْمِقْدَاد، وَقيل: نزلت فِي أُسَامَة بن زيد، وَقيل: فِي
محلم بن جثامة، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت فِي سَرِيَّة
وَلم يسم أحدا، وَقيل: نزلت فِي غَالب اللَّيْثِيّ، وَقيل:
نزلت فِي رجل من بني اللَّيْث يُقَال لَهُ: فليت كَانَ على
السّريَّة، وَقيل: نزلت فِي أبي الدَّرْدَاء، وَهَذَا
اضْطِرَاب شَدِيد جدا. وَمَعْلُوم أَن قَتله كَانَ خطأ لَا
عمدا لِأَن قَاتله لم يصدقهُ فِي قَوْله: أَنا مُؤمن،
وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ رَحمَه الله،
فِي هَذِه الْآيَة حكم الله تَعَالَى بِصِحَّة إِسْلَام من
أظهر الْإِسْلَام وأمرنا بإجرائه على أَحْكَام الْمُسلمين
وَإِن كَانَ فِي الْغَيْب بِخِلَافِهِ، وَهَذَا مِمَّا
يحْتَج بِهِ على تَوْبَة الزنديق إِذا أظهر الْإِسْلَام
فَهُوَ مُسلم. قَالَ: وَاقْتضى ذَلِك أَيْضا أَن من قَالَ:
لَا إلاه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَو قَالَ أَنا مُسلم، يحكم لَهُ
بِالْإِسْلَامِ.
قَالَ قَرَأَ ابنُ عَبَّاسٍ السَّلامَ
أَي: قَالَ عَطاء الْمَذْكُور فِي الحَدِيث. قَرَأَ ابْن
عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى
إِلَيْكُم السَّلَام} وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور، وروى عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن يحيى بن عبيد
عَن مُحَمَّد عَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يقْرَأ
السَّلَام بِالْألف.
18 - (بابُ قَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ
المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله}
(النِّسَاء: 95)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي}
إِلَى آخِره وَهَذَا الْمِقْدَار الْمَذْكُور من الْآيَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بَاب (لَا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ) الْآيَة.
4592 - ح دَّثنا إسُمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ
حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ بنِ
كَيْسَانَ عنِ ابنِ شِهاب قَالَ حدَّثني سَهْلُ بنُ سَعْدٍ
السَّاعِدِيُّ أنَّهُ رَأى مَرْوَانَ بنَ الحَكَمِ فِي
المَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ إلَى جَنْبِهِ
فَأخْبَرَنَا أنَّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ أخْبَرَهُ أنَّ
رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمْلَى عَلَيْهِ
{لَا يَسْتَوِي
(18/185)
القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} و
{المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} فَجَاءَهُ ابنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّها عَلَيَّ قَالَ يَا رَسُولَ
الله وَالله لَوْ أسْتَطِيعُ الجِهادَ لَجَاهَدْتُ وَكَانَ
أعْمَى فَأنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى
خِفْتُ أنَّ تَرُضَّ فَخِذُي ثُمَّ سُرِّي عَنْهُ
فَأنْزَلَ الله غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة.
والْحَدِيث قد مر فِي الْجِهَاد فِي: بَاب قَول الله
تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ}
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله
عَن إِبْرَاهِيم بن سعد الزُّهْرِيّ عَن صَالح بن كيسَان
إِلَى آخِره.
وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ وَهُوَ
صَالح بن كيسَان فَإِنَّهُ تَابِعِيّ رأى عبد الله بن
عَمْرو أَنه يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ وَهُوَ يروي عَن سهل بن سعد وَهُوَ صَحَابِيّ،
قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن
التَّابِعِيّ لِأَن سهلاً صَحَابِيّ ومروان تَابِعِيّ،
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ. فِي هَذَا الحَدِيث رِوَايَة رجل
من الصَّحَابَة، وَهُوَ سهل بن سعد عَن رجل من التَّابِعين
وَهُوَ مَرْوَان بن الحكم، وَلم يسمع من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من عدم السماع
عدم الصُّحْبَة. وَقد ذكره ابْن عبد الْبر فِي الصَّحَابَة
انْتهى. قلت: وَلَو ذكره فِي كتاب (الِاسْتِيعَاب) فِي:
بَاب مَرْوَان، وَلكنه قَالَ: لم ير النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا
يعقل، وَقد ثَبت عَنهُ أَنه قَالَ لما طلب الْخلَافَة
فَذكرُوا لَهُ ابْن عمر، فَقَالَ: لَيْسَ ابْن عمر بأفقه
مني، وَلكنه أسنّ مني، وَكَانَت لَهُ صُحْبَة. فَهَذَا
اعْتِرَاف مِنْهُ بِعَدَمِ الصُّحْبَة.
قَوْله: (ابْن أم مَكْتُوم) ، واسْمه عبد الله، وَقيل:
عَمْرو، وَجَاء فِي رِوَايَة قبيصَة عَن زيد بن ثَابت،
(فجَاء عبد الله بن أم مَكْتُوم) ، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْبَراء (جَاءَ عَمْرو بن أم
مَكْتُوم) . وَاسم أَبِيه: زَائِدَة، وَأم مَكْتُوم أمه
وَاسْمهَا: عَاتِكَة. قَوْله: (وَهُوَ يملها) ، بِضَم
الْيَاء وَكسر الْمِيم وَتَشْديد اللَّام، وَأَصلهَا
يمللها كَمَا فِي قَوْله: {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق}
(الْبَقَرَة: 382) فنقلت كسرة اللَّام إِلَى الْمِيم
وأدغمت فِي اللَّام الثَّانِيَة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
وَفِي حَدِيث زيد أَنه أمْلى عَلَيْهِ {وَلَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} يُقَال: أمللت الْكتاب
وأمليته إِذا أَلقيته على الْكَاتِب ليكتبه. قَوْله: (أَن
ترض) ، بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ الدق.
قَوْله: (ثمَّ سري) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَكسر
الرَّاء الْمُشَدّدَة أَي: انْكَشَفَ عَنهُ. قَوْله: (غير
أولي الضَّرَر) ، وَهُوَ الْعَمى، وَاخْتلف الْقُرَّاء فِي
إِعْرَاب، غير، فَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو
وَعَاصِم بِالرَّفْع على الْبَدَل من الْقَاعِدُونَ،
وَقَرَأَ الْأَعْمَش بِالْجَرِّ على الصّفة للْمُؤْمِنين،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنّصب على الِاسْتِثْنَاء.
4593 - ح دَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ
أبِي إسْحاقَ عنِ البَرَاءِ رَضِي الله عنهُ قَالَ لَمَا
نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنينَ}
دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْدا
فَكَتَبَها فَجَاءَ ابنُ أُمِّ مَكّتُومٍ فَشَكَا
ضَرَارَتَهُ فَأَنْزَلَ الله {غَيْرَ أُولِي الضَرَرِ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو
بن عبد الله السبيعِي، والبراء بن عَازِب رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب قَول الله {لَا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن الْبَراء إِلَى
آخِره نَحْو قَوْله (عَن أبي اسحاق عَن الْبَراء) وَفِي
رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن ابي اسحاق
انه سمع الْبَراء أخرجه احْمَد عَنهُ وَوَقع فِي رِوَايَة
الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي سِنَان الشَّيْبَانِيّ عَن
أبي إِسْحَاق عَن زيد بن أَرقم، وَالْمَحْفُوظ عَن أبي
إِسْحَاق عَن الْبَراء فِي رِوَايَة الشَّيْخَيْنِ،
وَأَبُو سِنَان اسْمه: ضرار بن مرّة، وَهُوَ أَيْضا ثِقَة.
4594 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ عنْ إسْرَائِيلَ
عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ
لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ
أُوَلِي الضَّرَرِ قَال النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ادْعُوا فُلانا فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ
أوْ الكَتِفَ فَقَال اكْتُبْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} و {المُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله}
وَخَلْفَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ فَقَالَ يَا رَسُولِ اللهأنَا ضَرِيرٌ
فَنَزَلَتْ مكَانَها {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
المُؤْمِنينَ غَيْرَ أُوَلِي الضَرَرِ وَالمجاهدُونَ فِي
سَبِيلِ الله} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث الْبَراء أخرجه عَن مُحَمَّد
بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس عَن
جده أبي إِسْحَاق الْمَذْكُور فِيمَا قبله.
قَوْله: (فلَانا) ، هُوَ زيد بن ثَابت، وَقد صرح بِهِ فِي
الرِّوَايَة الْمَاضِيَة. قَوْله: (أَو الْكَتف) ، شكّ من
الرَّاوِي وَكَانُوا يَكْتُبُونَ على الألواح والأكتاف.
قَوْله: (وَخلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ابْن أم
مَكْتُوم) مَعْنَاهُ: جلس خلف
(18/186)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو
بِالْعَكْسِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الحَدِيث الأول: مشْعر
بِأَن ابْن أم مَكْتُوم جَاءَ حَالَة الإملال،
وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ جَاءَ بعد الْكِتَابَة.
وَالثَّالِث: بِأَنَّهُ كَانَ جَالِسا خلف النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أجَاب بقوله: لَا مُنَافَاة
إِذْ معنى كتبهَا، كتب بعض الْآيَة، وَهُوَ نَحْو: {لَا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} مثلا. وَأما
جَاءَ يَعْنِي قَوْله: وَأما حَقِيقَة، وَالْمرَاد جَاءَ
وَجلسَ خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو
بِالْعَكْسِ، وَإِمَّا مجَاز عَن تكلم وَدخل فِي الْبَحْث.
قَوْله: (فَنزلت مَكَانهَا) أَي: فِي مَكَان الْكِتَابَة،
وَالْمَقْصُود نزلت فِي تِلْكَ الْحَالة (لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر) وَقَالَ
ابْن التِّين: يُقَال: إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام،
هَبَط وَرجع قبل أَن يجِف الْقَلَم.
4595 - ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخبرَنا هِشامٌ
أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ ح وحَدثني إسْحَاقُ
أخبرَنا عَبْدُ الرَّزَاقِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ أخبرَني
عَبْدُ الكَرِيمِ أنَّ مَقْسَما مَوْلى عَبْدِ الله بن
الحارِثِ أخبرَهُ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله
عَنْهُمَا أخْبَرَهُ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
المُؤْمِنِينَ} عَنْ بَدْرٍ والخَارِجُونَ إلَى بَدْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. غير أَن سَبَب النُّزُول
هُنَا خلاف سَبَب النُّزُول فِي الْأَحَادِيث
الْمَذْكُورَة. فَإِن قلت: مَا وَجه التَّوْفِيق بَين
السببين؟ قلت: الْقُرْآن إِذا نزل فِي الشَّيْء يسْتَعْمل
فِي معنى ذَلِك الشَّيْء وَأخرجه من طَرِيقين. الأول: عَن
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء عَن هِشَام بن
يُوسُف عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
الثَّانِي: عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الرَّزَّاق
بن همام عَن ابْن جريج عَن عبد الْكَرِيم بن مَالك
الْجَزرِي، بِالْجِيم وَالزَّاي وَالرَّاء، عَن مقسم،
بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَفتح السِّين
الْمُهْملَة مولى عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل بن عبد
الْمطلب، لِأَبِيهِ ولجده صُحْبَة، وَله رُؤْيَة، وَكَانَ
يلقب بببه بياءين موحدتين مفتوحتين الثَّانِيَة مُشَدّدَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ:
حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي قَالَ:
حَدثنَا الْحجَّاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج قَالَ:
أَخْبرنِي عبد الْكَرِيم سمع مقسمًا مولى عبد الله بن
الْحَارِث يحدث عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: {لَا
يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي
الضَّرَر} عَن بدر والخارجون إِلَى بدر. وَقَالَ عبد الله
بن جحش وَابْن أم مَكْتُوم: إِنَّا أعميان يَا رَسُول
الله! فَهَل لنا رخصَة؟ فَنزلت: {لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أُولي الضَّرَر} {وَفضل
الله الْمُجَاهدين على القاعدين ... دَرَجه} فَهَؤُلَاءِ
الْقَاعِدُونَ غير أُولي الضَّرَر {فضل الله الْمُجَاهدين
على القاعدين أجرا عَظِيما} دَرَجَات مِنْهُ على القاعدين
من الْمُؤمنِينَ غير أولى الضَّرَر. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث
حسن غَرِيب من هَذَا من الْوَجْه حَدِيث ابْن عَبَّاس.
قَوْله: (عبد الله بن جحش) ، قيل: أَبُو أَحْمد بن جحش،
كَمَا ذكره الطَّبَرِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق الْحجَّاج
نَحْو مَا أخرجه التِّرْمِذِيّ وَذَلِكَ لِأَن عبد الله بن
جحش هُوَ أَخُو أبي أَحْمد بن جحش وَاسم أبي أَحْمد عبد
بِدُونِ إِضَافَة، وَهُوَ مَشْهُور بكنيته وَأَيْضًا إِن
عبد الله بن جحش لم ينْقل أَن لَهُ عذرا إِنَّمَا
الْمَعْذُور أَخُوهُ أَبُو أَحْمد بن جحش، وَذكره
الثَّعْلَبِيّ عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن
عَبَّاس أَنه ابْن جحش وَلَيْسَ بالأسدي، وَكَانَ أعمى،
وَأَنه جَاءَ هُوَ وَابْن أم مَكْتُوم فذكرا رغبتهما فِي
الْجِهَاد مَعَ ضررهما، فَنزلت: {غير أُولي الضَّرَر}
فَجعل لَهما من الْأجر مَا للمجاهدين.
19 - (بابٌ: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفْاهُمُ المَلائِكَةُ
ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا
كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا ألَمْ تَكُنْ
أرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها} (النِّسَاء: 97)
الآيَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين توفيهم
الْمَلَائِكَة} الْآيَة، وَلَيْسَ عِنْد جَمِيع الروَاة
لفظ: بَاب إلاَّ أَنه وَقع فِي بعض النّسخ وَعند
الْأَكْثَرين: {وَأَن الَّذين توفيهم الْمَلَائِكَة} إِلَى
قَوْله: {فتهاجروا فِيهَا} كَمَا هُوَ هُنَا كَذَلِك،
وَعند أبي ذَر إِلَى {فيمَ كُنْتُم} الْآيَة. وَقَالَ
الواحدي: نزلت هَذِه الْآيَة فِي نَاس من أهل مَكَّة
تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ وَلم يهاجروا، وأظهروا الْإِيمَان
وأسرُّوا النِّفَاق، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر خَرجُوا
مَعَ الْمُشْركين إِلَى حَرْب الْمُسلمين فَقتلُوا فَضربت
الْمَلَائِكَة وُجُوههم وأدبارهم. وَقَالَ مقَاتل: كَانُوا
نَفرا
(18/187)
أَسْلمُوا بِمَكَّة مِنْهُم: الْوَلِيد بن
الْمُغيرَة وَقيس بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَأَبُو قيس
بن الْفَاكِه بن الْمُغيرَة والوليد بن عتبَة بن ربيعَة
وَعَمْرو بن أُميَّة بن سُفْيَان بن أُميَّة بن عبد شمس
والْعَلَاء بن أُميَّة بن خلف ثمَّ إِنَّهُم أَقَامُوا عَن
الْهِجْرَة وَخَرجُوا مَعَ الْمُشْركين إِلَى بدر، قَلما
رَأَوْا قلَّة الْمُؤمنِينَ شكوا إِلَى سيدنَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا غر هَؤُلَاءِ دينهم
وَكَانَ بَعضهم نَافق بِمَكَّة، فَلَمَّا قتلوا ببدر
قَالَت لَهُم الْمَلَائِكَة وَهُوَ ملك الْمَوْت وَحده
فيمَ كُنْتُم؟ يَقُول: فِي أَي شَيْء كُنْتُم؟ قَالُوا:
كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض يَعْنِي: كُنَّا مقهورين
بِأَرْض مَكَّة لَا نطيق أَن نظهر الْإِيمَان، فَقَالَ ملك
الْمَوْت: ألم تكون أَرض وَاسِعَة؟ يَعْنِي الْمَدِينَة،
فتهاجروا فِيهَا؟ يَعْنِي: إِلَيْهَا قَوْله: (إِن الَّذين
توفيهم الْمَلَائِكَة) ذكر فِي (تَفْسِير ابْن النَّقِيب)
التوفي هُنَا بِمَعْنى قبض الرّوح، وَقَالَ الْحسن: هُوَ
الْحَشْر إِلَى النَّار، وَالْمَلَائِكَة هُنَا ملك
الْمَوْت وأعوانه وهم سِتَّة: ثَلَاثَة لأرواح
الْمُؤمنِينَ، وَثَلَاثَة لأرواح الْكَافرين، وظلم النَّفس
هُنَا ترك الْهِجْرَة وخروجهم مَعَ قَومهمْ إِلَى بدر،
وَقيل: ظلمُوا أنفسهم برجوعهم إِلَى الْكفْر، وَقيل:
ظلمُوا أنفسهم بِالشَّكِّ الَّذِي حصل فِي قُلُوبهم حِين
رَأَوْا قلَّة الْمُسلمين، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ:
الْمَلَائِكَة هُنَا ملك الْمَوْت وَحده لِأَنَّهُ مُجمل
يحْتَمل أَن يُرَاد هُوَ وَيحْتَمل غَيره فِي قُلُوبهم
حِين رَأَوْا قلَّة الْمُسلمين، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ:
الْمَلَائِكَة هُنَا ملك الْمَوْت وَحده، لِأَنَّهُ مُجمل
يحْتَمل أَن يُرَاد هُوَ وَيحْتَمل غَيره فَحمل الْمُجْمل
على الْمُفَسّر، وَهُوَ قَول تَعَالَى: {قل يتوفاكم ملك
الْمَوْت} (النِّسَاء: 97) وَجمع كَقَوْلِه تَعَالَى:
{إِنَّا نَحن نحيي ونميت} (ق: 43) وَالله تَعَالَى وَاحِد.
قَوْله: (ظالمي أنفسهم) نصب على الْحَال. قَوْله:
(قَالُوا: فيمَ كُنْتُم) ؟ سُؤال توبيخ وتفريع أَي:
أَكُنْتُم فِي أَصْحَاب مُحَمَّد أم كُنْتُم مُشْرِكين؟
قَوْله: (كُنَّا مستضعفين) ، أَي: كُنَّا لَا نقدر على
الْخُرُوج من الْبَلَد وَلَا الذّهاب فِي الأَرْض. قَوْله:
(فِي الأَرْض) أَرَادوا بهَا مَكَّة، وَالْأَرْض اسْم لبلد
الرجل وموضعه. قَوْله: (قَالُوا) أَي: الْمَلَائِكَة (ألم
تكن أَرض الله وَاسِعَة) ؟ محاججة الْمَلَائِكَة. قَوْله:
(فتهاجروا فِيهَا) أَي: إِلَيْهَا. أَي: الْمَدِينَة مَعَ
الْمُسلمين؟ .
4596 - ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ المُقْرِىءُ
حدَّثنا حَيْوَةُ وَغَيْرُهُ قَالا حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ
عَبْدِ الرَّحْمانِ أبُو الأسْوَدِ قَالَ قُطِعَ عَلَى
أهْلِ المَدِينَةِ بَعْثٌ فَاكْتُتِبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ
عِكْرَمَةَ مَوْلَى ابنِ عباسٍ فأخْبَرْتُهُ فَنَهانِي
عَنْ ذَلِكَ أشَدَّ النَّهْيِ ثُمَّ قَالَ أخْبَرَنِي
ابْنُ عَبَّاسٍ أنَّ نَاسا مِنَ المُسْلِمِينَ كانُوا مَعَ
المُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ عَلَى
رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأتِي السَّهمُ
فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أحَدَهُمْ فَيقْتُلُهُ أوْ
يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأنْزَلَ الله {إنَّ الَّذِينَ
تَوَفاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنْفُسِهِمْ} .
الْآيَة.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن يزِيد من
الزِّيَادَة المقرىء من الإفراء، وحيوة، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن شُرَيْح،
بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وبحاء مُهْملَة يكنى بِأبي زرْعَة
التجِيبِي، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر
الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالياء
الْمُوَحدَة.
قَوْله: (وَغَيره) أَي: حَدثنِي غير حَيْوَة وَهُوَ عبد
الله بن لَهِيعَة الْمصْرِيّ وَأَبُو الْأسود ضد
الْأَبْيَض، الْأَسدي الْمدنِي.
والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن
عبد الله بن يزِيد الْمَذْكُور. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
التَّفْسِير عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم عَن المقرىء عَن حَيْوَة بِهِ، وَرِوَايَة
ابْن لَهِيعَة أخرجهَا الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي حَاتِم
رَوَاهُ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، أَن عبد الله بن
وهب أَخْبرنِي ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود فَذكره.
قَوْله: (قطع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بعث)
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة
وبالتاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ الْجَيْش، وَالْمعْنَى أَنهم
ألزموا بِإِخْرَاج جَيش لقِتَال أهل الشَّام، وَكَانَ
ذَلِك فِي خلَافَة عبد الله بن الزبير على مَكَّة. قَوْله:
(فاكتتبت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الاكتتاب، وَهُوَ
من بَاب الافتعال. قَوْله: (أَن نَاسا من الْمُسلمين) ،
وهم الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ عَن مقَاتل عَن قريب. قَوْله:
(يكثرون) من التكثير. قَوْله: (فَيُصِيب) عطف على قَوْله:
(يَأْتِي السهْم) وَكَانَ غَرَض عِكْرِمَة من نَهْيه أَبَا
الْأسود أَن الله تَعَالَى ذمهم بتكثير سوادهم مَعَ أَنهم
كَانُوا لَا يُرِيدُونَ بقلوبهم موافقتهم، فَكَذَلِك أَنْت
لِأَنَّك تكْثر سَواد هَذَا الْجَيْش الْمَأْمُور بذهابهم
لقِتَال أهل الشَّام وَلَا تُرِيدُ موافقتهم لأَنهم لَا
يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله. قَوْله: (فَأنْزل الله
تَعَالَى) هَكَذَا جَاءَ هُنَا فِي سَبَب نزُول هَذِه
الْآيَة، وَقد ذكرنَا عَن قريب وُجُوهًا أُخْرَى فِي ذَلِك
مَعَ تَفْسِير الْآيَة.
(18/188)
رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ أبِي الأسْوَدِ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور اللَّيْث بن سعد عَن أبي
الْأسود الْمَذْكُور، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن
أَحْمد بن مَنْصُور الرَّمَادِي. قَالَ: حَدثنَا أَبُو
صَالح. قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث عَن أبي الْأسود،
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط، وَقَالَ: وَلم
يروه عَن أبي الْأسود إلاَّ اللَّيْث وَابْن لَهِيعَة
انْتهى، وَرِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق حَيْوَة بن
شُرَيْح ترد عَلَيْهِ. |