عمدة القاري شرح صحيح البخاري

20 - (بابُ: {إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (النِّسَاء: 98)

فِي بعض النّسخ: بَاب {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الْآيَة. فَإِن صَحَّ هَذَا عَن أحد من رُوَاة البُخَارِيّ فالتقدير: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الْآيَة وَهَذَا الِاسْتِثْنَاء من أهل الْوَعيد، الْمَذْكُور قبله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} (النِّسَاء: 97) وَهَذَا عذر من الله تَعَالَى لهَؤُلَاء فِي ترك الْهِجْرَة، وَذَلِكَ لأَنهم لَا يقدرُونَ على التَّخَلُّص من أَيدي الْمُشْركين، وَلَو قدرُوا مَا عرفُوا يسلكون الطَّرِيق وَهُوَ معنى قَوْله: {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} وَقَالَ عِكْرِمَة: فِي قَوْله: {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} يَعْنِي: نهوضا إِلَى الْمَدِينَة، وَقَالَ السّديّ: يَعْنِي مَالا. وَقَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي طَرِيقا.

21 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّا غَفُورا} (النِّسَاء: 99)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِك} الْآيَة. كَذَا وَقع فِي كثير من النّسخ على لفظ الْقُرْآن، وَوَقع بِلَفْظ: فَعَسَى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَالصَّوَاب مَا وَقع بِلَفْظ الْقُرْآن، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم، الْآيَة وَوَقع فِي جمع بعض من عاصرناه مِمَّن تصدى لشرح البُخَارِيّ، وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما، وَهُوَ أَيْضا غير صَوَاب على مَا لَا يخفى. قَوْله: (فَأُولَئِك) ، إِشَارَة إِلَى قوم أَسْلمُوا وَلَكِن تباطؤا فِي الْهِجْرَة، وَهَذَا بِخِلَاف قَوْله: (فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم) قَوْله: (عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم) ، يَعْنِي: لَا يستقصي عَلَيْهِم فِي المحاسبة، وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) أَي: يتَجَاوَز عَنْهُم ترك الْهِجْرَة، وَعَسَى من الله مُوجبَة، وَفِي (تَفْسِير ابْن الْجَوْزِيّ) قَالَ مُجَاهِد: هم قوم أَسْلمُوا وثبتوا على الْإِسْلَام وَلم يكن لَهُم عجلة فِي الْهِجْرَة، فعذرهم الله تَعَالَى بقوله: {عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم} .

4598 - ح دَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ بَيْنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي العِشاءَ إذْ قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمْدِهِ ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أنْ يَسْجُدَ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بنَ أبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بنَ هِشامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْها سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الَّذين عذرهمْ الله فِي الْآيَة المترجم بهَا هم المستضعفون، وَقد دَعَا لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث، ودعا على من عوقهم عَن الْهِجْرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى بن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الاسْتِسْقَاء فِي: با دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن أخرجه من حَدِيث أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وطأتك) الْوَطْأَة الدوسة والضغطة. يَعْنِي: الأخذة

(18/189)


الشَّدِيدَة. قَوْله: (اجْعَلْهَا سِنِين) ، أَي: اجْعَل وطأتك أعواما مُجْدِبَة كَسِنِي يُوسُف، وَهِي الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي كِتَابه: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد} (يُوسُف: 48) أَي: سبع سِنِين فِيهَا قحط وجدب. وَقَوله: (سِنِين) جمع سنة وَهِي الجدب، يُقَال: أخذتهم السّنة إِذا أجدبوا وأقحطوا، وَهِي من الْأَسْمَاء الْغَالِبَة نَحْو: الدَّابَّة فِي الْفرس، وَالْمَال فِي الْإِبِل، وأصل السّنة: سنهة، بِوَزْن: جبهة، فحذفت لامها ونقلت حركتها إِلَى النُّون، وَقيل: أَصْلهَا سنوة بِالْوَاو فحذفت، وَتجمع على: سنهات، فَإِذا جمعتها جمع الصِّحَّة كسرت السِّين، فَقلت: سنُون وسنين، وَبَعْضهمْ يضمها، وَمِنْهُم من يَقُول: سنُون على كل حَال فِي الرّفْع وَالنّصب والجر، وَتجْعَل الْإِعْرَاب على النُّون الْأَخِيرَة فَإِذا أضفتها على الأول حذفت نون الْجمع للإضافة، وعَلى الثَّانِي لَا تحذفها فَتَقول: سني زيد وسنين زيد.

22 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ كانَ بِكُمْ أَذَى مِنْ مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ} (النِّسَاء: 102)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم} وَلَيْسَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لفظ: بَاب، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر} الْآيَة وَقبل قَوْله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم} أول الْآيَة قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة} إِلَى قَوْله: {وَلَا جنَاح} وَتَمام الْآيَة بعد قَوْله أسلحتكم {وخذوا حذركُمْ إِن الله أعد للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا} وَهَذِه الْآيَة الطَّوِيلَة نزلت فِي صَلَاة الْخَوْف، وأنواعها كَثِيرَة، وَمحل ذكرهَا فِي الْفُرُوع، وَسبب نُزُولهَا مَا ذكره ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ: سَأَلَ قوم من بني النجار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله! إِنَّا نضرب فِي الأَرْض، فَكيف نصلي؟ فَأنْزل الله عز وَجل أَولا: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} (النِّسَاء: 101) الحَدِيث. ثمَّ بَين صفتهَا بقوله: {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة} إِلَى قَوْله: {عذَابا مهينا} . قَوْله: (وَلَا جنَاح عَلَيْكُم) أَي: لَا إِثْم عَلَيْكُم (إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر) أَي: بِسَبَب مَا يبلكم من مطر أَو يضعفكم من جِهَة مرض. قَوْله: (أَن تضعوا) أَي: تضعوا. أَي: بِوَضْع الأسلحة لثقلها، وَأمرهمْ مَعَ ذَلِك بِأخذ الحذر لِئَلَّا يغفلوا فيهجم عَلَيْهِم الْعَدو.

4599 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أبُو الحَسَنِ أخبرنَا حَجَّاجٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أخْبَرَنِي يَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمَا {إنْ كانَ بِكُمْ أَذَى مِنْ مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ كَانَ جَرِيحا.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وحجاج هُوَ ابْن مُحَمَّد الْأَعْوَر أَصله مدنِي سكن المصيصة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج، ويعلى، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة. وَفتح اللَّام مَقْصُورا. ابْن مسلمُ بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن الْخَلِيل العباسي، ابْن مُحَمَّد، وَلم يقل كَانَ جريحا.
قَوْله: (عَن ابْن عَبَّاس: إِن كَانَ بكم) يَعْنِي: ذكر ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى} قَالَ: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَانَ جريحا فَنزلت الْآيَة فِيهِ، وفاعل: قَالَ: هُوَ ابْن عَبَّاس، وَقَوله: عبد الرَّحْمَن، مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: كَانَ جريحا. وَالْجُمْلَة مقول ابْن عَبَّاس، وَلَا قَول فِيهِ لعبد الرَّحْمَن، وَقد غمض أَكثر الشُّرَّاح أَعينهم فِي هَذَا الْموضع، وَفِيمَا ذكرنَا كِفَايَة وَللَّه الْحَمد.

23 - (بابٌ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتَامَى النِّساء} (النِّسَاء: 127)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {ويستفتونك فِي النِّسَاء قل الله يفتيكم} الَّذِي ذكر هُنَا إِلَى قَوْله: (فِي يتامى النِّسَاء) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَته عَن غير الْمُسْتَمْلِي. ذكر لفظ بَاب، وَلَيْسَ لغيره لفظ: بَاب.
قَوْله: (ويستفتونك) أَي: يطْلبُونَ مِنْك الْفَتْوَى فِي النِّسَاء. أَي: فِي أَمر النِّسَاء، والفتيا وَالْفَتْوَى بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ جَوَاب الْحَادِثَة، وَقيل: تَبْيِين الْمُشكل من الْكَلَام، وَأَصله من فتي

(18/190)


وَهُوَ الشَّاب الْقوي، فالمفتي يُقَوي كَلَامه فِيمَا أشكل فِيهِ فَيصير فتيا قَوِيا. قَوْله: {قل الله يفتيكم فِيهِنَّ} (النِّسَاء: 127) ، أَي: فِي توريثهن، وَكَانَت الْعَرَب لَا تورث النِّسَاء وَالصبيان. قَوْله: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب) ، أُرِيد بِهِ مَا ذكر قبل هَذِه الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فأنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 3) الْآيَة. وَالَّذِي كتب فِي النِّسَاء هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فِي يتامى النِّسَاء الرتي لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ} الْآيَة.

24 - (بَاب: {وَإنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلَها نُشُوزا أوْ إعْراضا} (النِّسَاء: 128)

كَذَا وَقع عِنْد جَمِيع الروَاة بِغَيْر ذكر لفظ: بَاب، وَوَقع فِي بعض النّسخ، فَالظَّاهِر أَنه من بعض النّسخ. قَوْله: (وَإِن امْرَأَة خَافت) أَي: إِن خَافت امْرَأَة من بَعْلهَا أَي: من زَوجهَا. قَوْله: (نُشُوزًا) وَهُوَ الترفع عَنْهَا وَمنع النَّفَقَة وَترك الْمَوَدَّة الَّتِي بَين الرجل وَالْمَرْأَة وإيذاؤها بسب أَو ضرب أَو نَحْو ذَلِك، قَوْله: (وإعراضا) أَي: وخافت إعْرَاضًا، وَهُوَ أَن يعرض عَنْهَا بِأَن يقل محادثتها ومؤانستها وَذَلِكَ لبَعض الْأَسْبَاب من طعن فِي سنّ أَو سيء فِي خلق أَو خلق أَو دمامة أَو ملال أَو طموح عين إِلَى أُخْرَى أَو غير ذَلِك، وَجَوَابه قَوْله: (فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصالحا بَينهمَا صلحا) وَالصُّلْح بَينهمَا أَن يتصالحا على أَن تطيب لَهُ نفسا عَن الْقِسْمَة أَو عَن بَعْضهَا كَمَا فعلت سَوْدَة بنت زَمعَة حِين كرهت أَن يفارقها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعرفت مَكَان عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْده، فَوهبت لَهَا يَوْمهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء: (تصالحا) وتصالحا، بِمَعْنى يتصالحا ويصطلحا. ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى: {وَالصُّلْح خير} أَي: من الْفِرَاق.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ شِقاقٌ تَفَاسُدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} (النِّسَاء: 35) أَي: بَين الزَّوْجَيْنِ، وَذكر عَن ابْن عَبَّاس بِالتَّعْلِيقِ أَنه فسر الشقاق الْمَذْكُور فِي الْآيَة بالمفاسد، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: الشقاق الْعَدَاوَة لِأَن كلاًّ من المتعاديين فِي شقّ خلاف صَاحبه، وَكَانَ مَوضِع ذكر هَذَا فِيمَا قبل، على مَا لَا يخفى.
وَأَحْضِرَتِ الأَنْفَسُ الشُحِّ هَوَاهُ فِي الشَيْءِ يَحْرِصُ عَلَيْهِ كَالمُعَلَقَةِ لَا هِيَ أيْمٌ وَلا ذَاتَ زَوْجٍ.
أَشَارَ بقوله: (وأحضرت الْأَنْفس الشُّح) إِلَى أَنه هُوَ الْمَذْكُور بعد قَوْله تَعَالَى: {الصُّلْح خبر} ثمَّ فسره بقوله: هَوَاهُ، فِي الشَّيْء يحرص عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَرْوِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق مُعَاوِيَة بن صَالح عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة وَيُقَال: الشُّح الْبُخْل مَعَ الْحِرْص، وَقيل: الإفراط فِي الْحِرْص. قَوْله: (كالمعلقة) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فنذروها كالمعلقة} (النِّسَاء: 29) أَي: كَالْمَرْأَةِ الْمُعَلقَة

(18/191)


ثمَّ فسره بقوله: (لَا هِيَ أيم) الأيم، بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة. وَهِي امْرَأَة لَا زوج لَهَا بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا وَيُقَال أَيْضا رجل أيم، وَوصل هَذَا ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق يزِيد النَّحْوِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فتذروها كالمعلقة} (النِّسَاء: 129) قَالَ: لَا هِيَ أيم وَلَا ذَات زوج.
نُشُوزا بُغْضا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا} وَفَسرهُ بقوله: (بغضا) وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم، من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ فِيهِ: يَعْنِي بغضا. وَقَالَ الْفراء: النُّشُوز يكون من قبل الْمَرْأَة وَالرجل، وَهُوَ هُنَا من قبل الرجل.

4601 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أخْبَرنا عَبْدُ الله أخبرنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا وَإن امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا قَالَتِ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ المَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْها يُرِيدُ أنْ يُفَارِقَها فَتَقُولُ أجْعَلُكَ مِنْ شأنِي فِي حِلت فَنَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ فِي ذَلِك.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَعُرْوَة وَابْن الزبير بن الْعَوام.
والْحَدِيث مضى فِي الصُّلْح عَن مُحَمَّد وَلم ينْسبهُ عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَفِيه أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
قَوْله: (لَيْسَ بمستكثر مِنْهَا) أَي: من الْمَرْأَة فِي الْمحبَّة والمعاشرة والملازمة. قَوْله: (يُرِيد) أَي: الرجل. قَوْله: (فَتَقول) أَي: الْمَرْأَة. قَوْله: (من شأني) أَي: مِمَّا يتَعَلَّق بأَمْري من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالصَّدَاق تَجْعَلهُ فِي حل ليفارقها. قَوْله: (فَنزلت الْآيَة) أَي: الْمَذْكُورَة، وَزَاد أَبُو ذَر عَن غير الْمُسْتَمْلِي: (وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا) الْآيَة. وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نزلت فِي الْمَرْأَة تكون عِنْد الرجل تكره مُفَارقَته فيصطلحان على أَن يجيئها كل ثَلَاثَة أَيَّام أَو أَرْبَعَة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأطول مِنْهُ، وروى الْحَاكِم من طَرِيق ابْن الْمسيب عَن رَافع بن خديج أَنه كَانَت تَحْتَهُ امْرَأَة فَتزَوج عَلَيْهَا شَابة فآثر الْبكر عَلَيْهَا فنازعته وَطَلقهَا، ثمَّ قَالَ لَهَا: إِن شِئْت رَاجَعتك وَصَبَرت. فَقَالَت: راجعني، فَرَاجعهَا ثمَّ لم تصبر فَطلقهَا. قَالَ: فَذَلِك الصُّلْح الَّذِي بلغنَا أَن الله تَعَالَى أنزل فِيهِ هَذِه الْآيَة، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: خشيت سَوْدَة أَن يطلقهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله: لَا تُطَلِّقنِي وَاجعَل يومي لعَائِشَة، فَفعل وَنزلت هَذِه الْآيَة. وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الدغولي فِي أول مُعْجَمه، حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا الدستوَائي حَدثنَا الْقَاسِم بن أبي بردة. قَالَ: بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سَوْدَة بنت زَمعَة بِطَلَاقِهَا، فَلَمَّا أَتَاهَا جَلَست لَهُ على طَرِيق عَائِشَة، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَت لَهُ: أنْشدك بِالَّذِي أنزل عَلَيْك كِتَابه واصطفاك على خلقه لما راجعتني، فَإِنِّي قد كَبرت وَلَا حَاجَة لي فِي الرِّجَال، ابْعَثْ مَعَ نِسَائِك يَوْم الْقِيَامَة، فَرَاجعهَا، فَقَالَت: إِنِّي قد جعلت يومي وليلتي لحبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: هَذَا غَرِيب ومرسل.

25 - (بابٌ: {إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النِّسَاء: 145)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَلَيْسَ لغير أبي ذَر لَفْظَة: بَاب. قَوْله: {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة جَزَاء على كفرهم الغليظ. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَاصِم عَن ذكوات أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} قَالَ: فِي توابيت ترتج عَلَيْهِم كَذَا رَوَاهُ ابْن جرير عَن وَكِيع عَن يحيى ابْن يمَان عَن سُفْيَان بِهِ، وَيُقَال: النَّار دركات كَمَا أَن الْجنَّة دَرَجَات، والدرك بِفَتْح الرَّاء وإسكانها لُغَتَانِ، وَقَرَأَ حَمْزَة بِالسُّكُونِ. وَاخْتَارَ الزّجاج الْفَتْح، قَالَ: وَعَلِيهِ المحدثون، والدركات للنار والدرجات للجنة، وَالنَّار سَبْعَة أطباق فَوق طبق، وَيُقَال معنى: فِي الدَّرك الْأَسْفَل، أَسْفَل درج جَهَنَّم، وَعبارَة مقَاتل يَعْنِي: الهاوية.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أسْفَلِ النَّارِ

(18/192)


هَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: الدَّرك الْأَسْفَل النَّار، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يجْعَلُونَ فِي توابيت من حَدِيد تغلق عَلَيْهِم، وَرُوِيَ من نَار تطبق عَلَيْهِم، وَعَن إِسْرَائِيل: الدَّرك الْأَسْفَل بيُوت لَهَا أَبْوَاب تطبق عَلَيْهَا فتوقد من تَحْتهم وَمن فَوْقهم.
نَفَقَا سَرَبا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله عز وَجل: {إِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا} (الْأَنْعَام: 35) وَهَذَا فِي سُورَة الْأَنْعَام وَلَا مُنَاسبَة لذكره هُنَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: غَرَضه بَيَان اشتقاق الْمُنَافِقين، وَفِيه نظر لَا يخفى. قَوْله: (سربا) أَي: فِي الأَرْض، وَهُوَ صفة نفقا، ونفقا مَنْصُوب بقوله: أَن تبتغي، وَفِي (الْمغرب) السرب بِالْفَتْح الطَّرِيق، وَيُقَال: السرب الْبَيْت فِي الأَرْض، وَيُقَال للْمَاء الَّذِي يسيل من الْقرْبَة: سرب، والسرب المسلك وَلَا يُقَال: نفق إلاَّ إِذا كَانَ لَهُ منفذ.

4602 - ح دَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عَنْ الأسْوَدِ قَالَ كُنّا فِي حَلْقَةِ عَبْدِ الله فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفاقُ عَلَى قَومٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ قَالَ الأسوَدُ سُبْحَانَ الله إنَّ الله يَقُولُ: {إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النِّسَاء: 145) فَتَبَسَّمَ عَبْدُ الله وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِ فَقَامَ عَبْدُ الله فَتَفَرَّقَ أصْحابُهُ فَرَمَانِي بالحَصا فَجِئْتُهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ لَقَدْ أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرا مِنْكُمْ ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ الله عَلَيْهِمْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن خَاله الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَحُذَيْفَة هُوَ ابْن الْيَمَان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عَليّ وَغَيره.
قَوْله: (لقد أنزل النِّفَاق على قوم خير مِنْكُم) ، أَي: ابتلوا بِهِ، وَأما الْخَيْرِيَّة فلأنهم كَانُوا طبقَة الصَّحَابَة فهم خير منطبقة التَّابِعين، لَكِن الله ابْتَلَاهُم فَارْتَدُّوا ونافقوا فَذَهَبت الْخَيْرِيَّة عَنْهُم، وَمِنْهُم من تَابَ فَعَادَت إِلَيْهِ الْخَيْرِيَّة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَقْصُود حُذَيْفَة أَن جمَاعَة من الْمُنَافِقين صلحوا واستقاموا فَكَانُوا خيرا من أُولَئِكَ التَّابِعين لمَكَان الصُّحْبَة وَالصَّلَاح كمجمع وَيزِيد بن حَارِثَة بن عَامر كَانَا منافقين فصلحت حَالهمَا واستقامت، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْحَدِيثِ إِلَى تقلب الْقُلُوب، وَقَالَ ابْن التِّين: كَانَ حُذَيْفَة حذرهم أَن ينْزع مِنْهُم الْإِيمَان لِأَن الْأَعْمَال بالخواتيم. قَوْله: (قَالَ الْأسود) ، هُوَ الرَّاوِي (سُبْحَانَ الله تَعَجبا) من كَلَام حُذَيْفَة. قَوْله: (فَتَبَسَّمَ عبد الله) ، أَي: ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. إِنَّمَا كَانَ تبسمه تَعَجبا بحذيفة وَبِمَا قَامَ بِهِ من قَول الْحق وَمَا حذر مِنْهُ. قَوْله: (فَرَمَانِي) ، أَي: قَالَ الْأسود رماني حُذَيْفَة بن الْيَمَان يستدعيه إِلَيْهِ. قَوْله: (قَالَ فَجِئْته) ، أَي: فَجئْت إِلَى حُذَيْفَة. فَقَالَ: (عجبت من ضحكه) أَي: من ضحك عبد الله بن مَسْعُود، يَعْنِي من اقْتِصَاره على الضحك، وَالْحَال أَنه قد عرف مَا قلته من الْحق. قَوْله: (لقد أنزل النِّفَاق) ، أَي: لقد أنزل الله النِّفَاق على قوم: هَذَا يدل على أَن النِّفَاق وَالْكفْر وَالْإِيمَان وَالْإِخْلَاص بِخلق الله تَعَالَى وَتَقْدِيره وإرادته وَلَا يخرج شَيْء من إِرَادَته، وَالْمُنَافِق من أبطن الْكفْر وَأظْهر الْإِسْلَام، وَيُقَال: النِّفَاق إِظْهَار خلاف مَا بطن، مَأْخُوذ من النافقاء وَهُوَ الْموضع الَّذِي يدْخل مِنْهُ اليربوع، فَإِذا طلبه الصياد مِنْهُ خرج من القاصعاء، فَيُشبه الْمُنَافِق بِهِ لِخُرُوجِهِ من الْإِيمَان، وَسمي الْفَاسِق منافقا تَغْلِيظًا، كَمَا يُسمى كَافِرًا فِي قَوْله: من ترك الصَّلَاة فقد كفر، قَوْله: (ثمَّ تَابُوا فَتَابَ الله عَلَيْهِم) أَي: ثمَّ رجعُوا عَن النِّفَاق فتابوا فَتَابَ الله عَلَيْهِم.
(وَيُسْتَفَاد مِنْهُ) قبُول تَوْبَة الزنديق وصحتها على مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَمن هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِذا أتيت بزنديق فاستتبه. فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ الَّذين تَابُوا أصلحوا واعتصموا بِاللَّه وأخلصو دينهم لله فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ} (النِّسَاء: 146) الْآيَة تدل على صِحَة تَوْبَة الزنديق وقبولها. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَوْله: {فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ} وَلم يقل: فَأُولَئِك هم الْمُؤْمِنُونَ، حاد عَن كَلَامهم تَغْلِيظًا عَلَيْهِم.

(18/193)


26 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنّا أوْحَيْنَا إلَيْكَ} إلَى قَوْل {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} (النِّسَاء: 163)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى إِلَى آخِره، وَلم يذكر لفظ: بَاب، إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَذكر الْمَذْكُور إِلَى {وَسليمَان} فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت إِلَى (نوح والنبيين من بعده) وَتَمام الْآيَة. (إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُد زبورا) قَوْله: (أَنا أَوْحَينَا إِلَيْك) ، أَي: إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك يَا مُحَمَّد كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح، وَقدم نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ أول أَنْبيَاء الشَّرَائِع وأكبرهم سنا وَلِأَنَّهُ لم يُبَالغ أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، فِي الدعْوَة مثل مَا بَالغ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَجعله الله ثَانِي الْمُصْطَفى فِي موضِعين من كِتَابه، فَقَالَ: {ومنك وَمن نوح} (الْأَحْزَاب: 7) وَفِي هَذِه الْآيَة، وَهُوَ أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ ذكر جَمِيع الْأَنْبِيَاء. بقوله: {والنبيين من بعده} وَخص مِنْهُم جمَاعَة بِالذكر صَرِيحًا تَشْرِيفًا لَهُم. ثمَّ قَالَ: {والأسباط} وهم أَوْلَاد يَعْقُوب و {عِيسَى وَأَيوب} وَقدم عِيسَى على من قبله لِأَن الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب، وَفِي تَخْصِيصه أَيْضا رد على الْيَهُود. قَوْله: (زبورا) وَهُوَ اسْم الْكتاب الَّذِي أنزل الله تَعَالَى على دَاوُد.

4603 - ح دَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ سُفْيَانَ قَالَ حدَّثني الأعْمَشُ عَنْ أبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ الله عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا يَنْبَغي لأحَدٍ أنْ يَقُولَ أَنا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {يُونُس} وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل هُوَ شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين} (الصافات: 139) بِهَذَا الْإِسْنَاد. قَوْله: (مَا يَنْبَغِي لأحد) وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (مَا يَنْبَغِي لعبد) . قَوْله: (أَنا) قَالَ الْكرْمَانِي: أَنا أَي: العَبْد أَو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: إِن كَانَ المُرَاد من لفظ: أَنا هُوَ العَبْد فَمَعْنَاه أَن العَبْد الْقَائِل بِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول: أَنا خير من يُونُس، وَإِن كَانَ المُرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون الْمَعْنى: قَالَ ذَلِك تواضعا وهضما للنَّفس. قَوْله: (مَتى) ، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الْمُثَنَّاة من فَوق مَقْصُورا وَالصَّحِيح أَنه اسْم أَبِيه.

4604 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سنانٍ حدَّثنا فُلَيْحٌ حدَّثنا هِلالٌ عنْ عَطاءٍ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ قَالَ أَنا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث الَّذِي مضى قبله. وَمُحَمّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف نون أُخْرَى، وفليح، بِضَم الْفَاء: ابْن سُلَيْمَان، وهلال بن عَليّ، وَعَطَاء بن يسَار ضد الْيَمين.
قَوْله: (من قَالَ) إِلَى آخِره، قَالَ الدَّاودِيّ: يُرِيد لَا يَقُول أحد ذَلِك. وَلَو أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه لَكَانَ نَهْيه قبل أَن يعلم أَنه خير الْبشر، فَيَقُول: كذب من قَالَ مَا لم يعلم.

27 - (بابٌ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدُ وَلهُ أُختٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (النِّسَاء: 176)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يستفتونك} إِلَى آخِره. وَلم يذكر لفظ: بَاب إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر قَوْله: {يستفتونك} . أَي: يطْلبُونَ مِنْك الْفَتْوَى، تَقْدِيره يستفتونك فِي الْكَلَالَة، فَحذف لفظ. الْكَلَالَة لدلَالَة لفظ الْكَلَالَة الْمَذْكُور عَلَيْهِ. قَوْله: (إِن امْرُؤ هلك) أَي: أهلك امْرُؤ فَلفظ هلك، الْمَذْكُور دلّ على الْمَحْذُوف أَي: مَاتَ. قَوْله: (لَيْسَ لَهُ ولد) مَرْفُوع محلا لِأَنَّهُ صفة لامرىء وَلَيْسَ هُوَ مَنْصُوبًا على الْحَال وَهُوَ تَفْسِير الْكَلَالَة، وَاخْتلف فِي اشتقاقها. فَقيل: اشْتقت من الإكليل لِأَنَّهُ مُحِيط بِالرَّأْسِ من جوانبه دون أَعْلَاهُ وأسفله، فَلَمَّا أحَاط بِهِ النّسَب من جوانبه سمى كَلَالَة، والوالدان والمولودون محيطون بِهِ من أَعْلَاهُ

(18/194)


وأسفله. وَقيل: مُشْتَقّ من كل يكل، يُقَال: كلت الرَّحِم: إِذا تَبَاعَدت وَطَالَ انتسابها. وَمِنْه كل فِي مَشْيه إِذا انْقَطع لبعد الْمسَافَة. وَقَالَ الْمُنْذر: وَاخْتلف فِي مُسَمّى الْكَلَالَة، فَقيل: إِنَّه اسْم للْوَرَثَة من غير الْوَالِدين والمولودين. قَالَ غير وَاحِد. وَقيل: هُوَ اسْم للْمَيت، قَالَه السّديّ، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: سمي الْمَيِّت الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد كَلَالَة، وَيُسمى وَارثه كَلَالَة، وَقيل: هُوَ المَال الْمَوْرُوث، قَالَه عَطاء وَغَيره، وَقيل: الْفَرِيضَة، وَقيل: المَال وَالْوَرَثَة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد هم بَنو الْعم، وَمن أشبههم، وَقيل: هم الْعَصَبَات كلهم وَإِن بعدوا. قَوْله: (وَله أُخْت) أَي: من أَبِيه وَأمه. أَو من أَبِيه. لِأَن ذكر أَوْلَاد الْأُم قد سبق فِي أول السُّورَة. قَوْله: (فلهَا نصف مَا ترك) هَذَا بَيَان فَرضهَا عِنْد الِانْفِرَاد. قَوْله: (وَهُوَ يَرِثهَا) يَعْنِي: أَخُوهَا يَرِثهَا يَعْنِي: يسْتَغْرق مِيرَاث الْأُخْت إِذا لم يكن لَهَا ولد وَلَا وَالِد، وَهَذَا فِي الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ، أَو الْأَب. قَوْله: (إِن لم يكن لَهَا ولد) أَي: ابْن لِأَن الابْن يسْقط الْأَخ دون الْبِنْت.
وَأما سَبَب نزُول الْآيَة الْمَذْكُورَة فَمَا رُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَرِيق مَكَّة عَام حجَّة الْوَدَاع: إِن لي أُخْتا فكم آخذ من مِيرَاثهَا؟ فَنزلت: {يستفتونك قل الله يفتيكم} (النِّسَاء: 176) الْآيَة قَالَه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَسْكَر المالقي وَقيل أَنَّهَا آخر مَا نزل من الْقُرْآن، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) .
وَالكَلالَةُ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أبٌ أوْ ابنٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير الْكَلَالَة، وَهَذَا قَول أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ، وَقد ذكرنَا فِيهِ أقوالاً أخر عَن قريب. قَوْله: (وَهُوَ) أَي: لفظ الْكَلَالَة مصدر من قَوْلهم، تكلله النّسَب. قَالَ بَعضهم: هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة. قلت: فِيهِ نظر لِأَن تكلل على وزن تفعل ومصدره تفعل، وَهُوَ لَيْسَ بمصدر بل هُوَ اسْم، وَقد ذكرنَا فِيهِ وُجُوهًا أخر عَن قريب، وَمعنى تكلله النّسَب تطرفه، كَأَنَّهُ أَخذ طَرفَيْهِ من جِهَة الْوَالِد وَالْولد وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمَا أحد.

4605 - ح دَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزِلَتْ بَرَاءَةٌ وَآخِرُ آيَةِ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فيهمَا عَن بنْدَار وَغَيره، قيل: تقدم فِي سُورَة الْبَقَرَة أَن آخر آيَة نزلت هِيَ آيَة الرِّبَا. وَأجِيب: بِأَن الرَّاوِي هُنَا الْبَراء بن عَازِب، وَالَّذِي هُنَاكَ قَول ابْن عَبَّاس. قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب مقنع، بلَى إِن قيل: إِن هَذَا آخر آيَة نزلت فِي أَحْكَام الرِّبَا فَلهُ وَجه غير بعيد.

لم تذكر التَّسْمِيَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَقَد أحسن من ذكرهَا.