عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 17 - (بابُ قَوْلِهِ: {لَقَدْ تَابَ الله
عَلَى النبيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ
تَزيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التَّوْبَة: 117)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله: {لقد تَابَ} الْآيَة. وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر، هَكَذَا سَاق إِلَى قَوْله:
{اتَّبعُوهُ} الْآيَة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِي قَوْله:
{تَابَ الله على النَّبِي} كَقَوْلِه: {وليغفر لَك الله
مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} (الْفَتْح: 2)
{فَاسْتَغْفر لذنبك} (غَافِر: 255) وَهُوَ بعث
للْمُؤْمِنين على التَّوْبَة وَأَنه مَا من مُؤمن إِلَّا
وَهُوَ يحْتَاج إِلَى التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار، حَتَّى
النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَقيل: تَابَ الله عَن
إِذْنه لِلْمُنَافِقين فِي التَّخَلُّف عَنهُ. وَقيل: معنى
التَّوْبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
مِفْتَاح كَلَام لِأَنَّهُ لما كَانَ سَبَب تَوْبَة
التائبين ذكر مَعَهم كَقَوْلِه: {فَإِن لله خَمْسَة
وَلِلرَّسُولِ} (مُحَمَّد: 19) قَوْله: (فِي سَاعَة
الْعسرَة) أَي: الشدَّة وضيق الْحَال. قَالَ جَابر: عسرة
الظّهْر وعسرة الزَّاد وعسرة المَال، وَقَالَ مُجَاهِد
وَغَيره: نزلت هَذِه الْآيَة فِي غَزْو تَبُوك وَذَلِكَ
أَنهم خَرجُوا إِلَيْهَا فِي شدَّة الْحر فِي سنة مجدية
وعسر من الزَّاد وَالْمَاء، وَقَالَ: قَتَادَة: ذكر لنا
أَن رجلَيْنِ كَانَا يشقان التَّمْر بَينهمَا وَكَانَ
النَّفر يتناولون الثَّمَرَة بَينهم يمصها هَذَا ثمَّ يشرب
عَلَيْهَا ثمَّ يمصها هَذَا ثمَّ يشرب عَلَيْهَا فَتَابَ
الله عَلَيْهِم وأقفلهم من غزوتهم. قَوْله: (من بَعْدَمَا
كَاد تزِيغ) ، أَي: تميل (قُلُوب فريق مِنْهُم) عَن الْحق
ونشك فِي دين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالَّذِي نالهم من الْمَشَقَّة والشدة. قَوْله: (ثمَّ
تَابَ عَلَيْهِم) ، أَي: رزقهم الله الْإِنَابَة إِلَيْهِ
وَالرُّجُوع إِلَى الثَّبَات على دينه إِنَّه أَي: إِن
الله (بهم رؤوف رَحِيم) .
4676 - ح دَّثنا أحْمَدُ بنُ صَالُحٍ قَالَ حدَّثني ابنُ
وَهْبٍ قَالَ أخْبَرَنِي يُونُسُ قَالَ أحْمَدُ وَحدَّثنا
عَنْبَسَةُ حدَّثنا يُونُسُ عَنِ ابنِ شهابٍ قَالَ
أخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ كَعْبٍ قَالَ
أخْبَرَنِي عَبْدُ الله بنُ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ
مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بنَ
مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي
أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى الله وَرَسُولِهِ
فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أمْسِكْ بَعْضَ
مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ثمَّ تَابَ
عَلَيْهِم) وَأحمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ روى
عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ وَعَن عَنْبَسَة بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة ابْن خَالِد بن أخي
يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي يروي عَن عَمه يُونُس عَن
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عبد
الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه
عبد الله بن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ، سمع أَبَا
كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا طرف من حَدِيث
طَوِيل فِي قصَّة كَعْب بن مَالك مضى فِي كتاب
الْمَغَازِي، وَهَذَا الْقدر الَّذِي اختصر عَلَيْهِ فِي
كتاب الْوَصَايَا. قَوْله: (وَكَانَ قَائِد كَعْب) ، أَي:
كَانَ عبد الله قَائِد أَبِيه من بَين أبنائه حِين عمي
كَعْب وأبناؤه ثَلَاثَة، عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَعبيد
الله، وَكلهمْ رووا عَن أَبِيهِم كَعْب بن مَالك.
(18/277)
18 - (بَابٌ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الأرْضُ بِمَا رحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ
وَظَنُوا أنْ لَا مَلْجَأ مِنَ الله إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمِ} (التَّوْبَة: 118)
لم يذكر هُنَا لفط بَاب، وَالْآيَة الْمَذْكُورَة
بِتَمَامِهَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر إِلَى قَوْله: (بِمَا رَحبَتْ) الْآيَة. قَوْله:
(وعَلى الثَّلَاثَة) ، أَي: وَتَابَ الله على الثَّلَاثَة،
وهم كَعْب بن مَالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أُميَّة.
قَوْله: (خلفوا) أَي: عَن الْغَزْو، وقرىء: خلفوا، بِفَتْح
الْخَاء وَاللَّام المخففة. أَي: خلفوا المغازين
بِالْمَدِينَةِ وفسدوا من الخالفة وخلوف الْفَم، وَقَرَأَ
جَعْفَر الصَّادِق: خالفوا وَقَرَأَ الْأَعْمَش: وعَلى
الثَّلَاثَة الْمُخلفين. قَوْله: (بِمَا رَحبَتْ) أَي:
برحبها أَي: بسعتها وَهُوَ مثل للحيرة فِي أَمرهم
كَأَنَّهُمْ لَا يَجدونَ فِيهَا مَكَانا يقرونَ فِيهَا
قلقا وجزعا مِمَّا هم فِيهِ. قَوْله: (أنفسهم) أَي:
قُلُوبهم لَا يَسعهَا أنس وَلَا سرُور. قَوْله: (وظنوا)
أَي: علمُوا أَن لَا ملْجأ من سخط الله إلاَّ إِلَى الله
بالاستغفار قَوْله: (ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم) أَي: ثمَّ
رَجَعَ عَلَيْهِم بِالْقبُولِ وَالرَّحْمَة كرة بعد
أُخْرَى. (ليتوبوا) أَي: ليستقيموا على تَوْبَتهمْ ويثبتوا
وليتوبوا أَيْضا فِي الْمُسْتَقْبل إِن حصلت مِنْهُم
خَطِيئَة.
4677 - ح دَّثني مُحَمَّدٌ حدَّثنا أحْمَدُ بنُ أبِي
شُعَيْبٍ حدَّثنا مُوسَى بنُ أعْيَنَ حدَّثنا إسْحَاقُ
ابنُ رَاشِدٍ أنَّ الزُّهْرِي حدَّثَهُ قَالَ أخْبَرَنِي
عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله بنِ كَعْبٍ بنِ
مَالِكٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أبِي كَعْبَ بنَ
مَالِكٍ وَهُوَ أحَدُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ
عَلَيْهِمْ أنَّهُ لَمْ يَتَخَلَفْ عَنْ رَسُولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غَيْرَ
غَزْوَتَيْنِ غَزْوَةِ العُسْرَةِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ قَالَ
فَأجْمَعْتُ صِدْقَ رَسِولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ضُحًى وَكَانَ قَلَمَا يَقْدَمُ مِنْ سَفَرٍ سَافَرَهُ
إلاَّ ضُحًى وَكَانَ يَبْدَأُ بِالمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ
رَكْعَتَيْنِ وَنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَنْ كَلاَمِي وَكَلامِ صَاحِبَيَّ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ
كَلامِ أحَدٍ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ غَيْرنا فَاجْتَنَبَ
النَّاسُ كَلامَنَا فَلَبْثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طالَ
عَلَيَّ الأمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِنْ أنْ
أمُوتَ فَلا يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أوْ يَمُوتَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأكُونَ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ فَلا
يُكَلِّمُنِي أحَدٌ مِنْهُمْ وَلا يُصَلِّي عَلَيَّ
فَأنْزَلَ الله تَوْبَتَنَا عَلَى نِبِيِّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ
اللَّيْلِ وَرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ
أُمِّ سَلَمَةِ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةٍ فِي
شأنِي مَعْنِيَّةً فِي أمْرِي فَقَالَ رَسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أُمُّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى
كَعْبٍ قَالَتْ أفَلا أُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُبَشِّرُهُ
قَالَ إذَا يَحْطِمَكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ
النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ حَتَّى إذَا صَلَّى رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاةَ الفَجْرِ آذَنَ
بِتَوْبَةِ الله عَلَيْنَا وَكَانَ إذَا اسْتَبْشَرَ
اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ
القَمَرِ وَكُنَّا أيُّها الثَّلاثَةُ الَّذِينَ خُلِفُوا
عَنِ الأمْرِ الَّذِي قُبِلَ مِنْ هاؤُلاءِ الَّذِينَ
اعْتَذَرُوا حِينَ أنْزَلَ الله لَنَا التَّوْبَةَ فَلمَّا
ذُكِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنَ المُتَخَلِّفِينَ وَاعْتَذَرُوا بِالْبَاطِلِ
ذُكِرُوا بِشَرّ مَا ذُكِرَ بِهِ أحَدٌ قَالَ الله
سُبْحَانَهُ: {يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ
إلَيْهِمْ قُلّ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ
قَدْ نَبَّأنا الله مِنْ أخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله
عَمَلَكُمْ وَرَسُولِهِ} (التَّوْبَة: 94) الآيَةَ.
(18/278)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد
شيخ البُخَارِيّ مُخْتَلف فِيهِ، فَقَالَ الْحَاكِم: هُوَ
مُحَمَّد بن النَّضر النَّيْسَابُورِي وَقد مر فِي
تَفْسِير سُورَة الْأَنْفَال، وَقَالَ مرّة: هُوَ مُحَمَّد
بن إِبْرَاهِيم البوشنجي، وَقَالَ أَبُو عَليّ الغساني:
هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَأحمد ابْن أبي شُعَيْب
هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن مُسلم وَأَبُو شُعَيْب كنية
مُسلم لَا كنية عبد الله وكنية أَحْمد أَبُو الْحسن، وَقد
وَقع فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن السكن، حَدثنِي أَحْمد بن
أبي شُعَيْب، بِلَا ذكر مُحَمَّد، وَالْأول هُوَ قَول
الْأَكْثَرين، وَإِن كَانَ أَحْمد بن أبي شُعَيْب من
مشايخه، وَهُوَ ثِقَة بِاتِّفَاق، وَلَيْسَ لَهُ فِي
البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، ومُوسَى بن أعين، بِفَتْح
الْهمزَة وَالْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة بَينهمَا الْجَزرِي، بِالْجِيم وَالزَّاي
وَالرَّاء، وَقد مر فِي الصَّوْم، وَإِسْحَاق بن رَاشد
الْجَزرِي أَيْضا وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من قصَّة كَعْب بن مَالك. وَقد
تقدّمت بكمالها فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَة تَبُوك.
قَوْله: (تيب) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف، مَجْهُول تَابَ تَوْبَة. قَوْله:
(غَزْوَة الْعسرَة) ، ضد اليسرة، وَهِي غَزْوَة تَبُوك.
قَوْله: (فأجمعت) أَي: عزمت قَوْله: (صَاحِبي) وهما
مرَارَة بن الرّبيع وهلال بن أُميَّة. قَوْله: (أهم) من:
أهمني الْأَمر إِذا أقلقك وأحزنك. قَوْله: (وَلَا
يُصَلِّي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَفِي وَرَايَة
الْكشميهني: وَلَا يسلم، وَحكى عِيَاض أَنه وَقع لبَعض
الروَاة. فَلَا يكلمني أحد مِنْهُم وَلَا يسلمني. واستبعده
لِأَن الْمَعْرُوف أَن السَّلَام إِنَّمَا يتَعَدَّى بِحرف
الْجَرّ، وَقد وَجهه بَعضهم بِأَن يكون اتبَاعا أَو يرجع
إِلَى قَول من فسر السَّلَام، بأنت مُسلم مني. قلت: هَذَا
تَوْجِيه لَا طائل تَحْتَهُ. قَوْله: (وَرَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد أم سَلمَة) ، الْوَاو فِيهِ
للْحَال. وَأم سَلمَة هِنْد. قَوْله: (معنية) ، بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر النُّون
وبالياء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة من الاعتناء، وَهَذِه
رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
مُعينَة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْعين وَسُكُون الْيَاء
وَفتح النُّون من الْإِعَانَة، وَلَيْسَت بمشتقة من العون.
كَمَا قَالَه بَعضهم: قَوْله: (إِذا يحطمكم) من الخطم
وَهُوَ الدوس، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي
والكشميهني: إِذا يخطفكم، بِالْحَاء الْمُعْجَمَة وبالفاء
من الخطف وَهُوَ مجَاز عَن الازدحام. قَوْله: (آذز) أَي:
اعْلَم. قَوْله: (كذبُوا) بتَخْفِيف الذَّال وَرَسُول الله
بِالنّصب لِأَن كذب يتَعَدَّى بِدُونِ الصِّلَة. قَوْله:
(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُم) يَعْنِي: الْمُنَافِقين إِذا
رجعُوا إِلَى الْمَدِينَة يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُم إِذا
رجعتم إِلَيْهِم. قَوْله: (لن نؤمن لكم) أَي: لن نصدقكم.
قَوْله: (قد نبأنا الله) أَي: قد أخبرنَا الله من سرائركم
وَمَا تخفى صدوركم وسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله فِيمَا
بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عَلَيْهِ وتردون بعد
الْمَوْت إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم
فيخبركم بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ فِي السِّرّ
وَالْعَلَانِيَة ويجزيكم عَلَيْهَا.
19 - (بابٌ قَوْلُهُ: {يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا الله وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التَّوْبَة:
119)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا} الْآيَة، وَهَذِه الْآيَة عقيب قَوْله: {وعَلى
الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} (التَّوْبَة: 118) الْآيَة،
وَلما جرى على هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من الضّيق وَالْكرب
وهجر الْمُسلمين إيَّاهُم نَحوا من خمسين لَيْلَة فصبروا
على ذَلِك واستكانوا لأمر الله فرج الله عَنْهُم بِسَبَب
صدقهم جَمِيع ذَلِك وَتَابَ عَلَيْهِم، وَكَانَ عَاقِبَة
صدقهم وتقواهم نجاة لَهُم وَخيرا، وأعقب ذَلِك بقوله: {يَا
أَيهَا الَّذين آمنُوا} الْآيَة. قَوْله: (اتَّقوا الله)
أَي: خافوه. قَوْله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين)
يَعْنِي: إلزموا الصدْق تَكُونُوا مَعَ أَهله وتنجوا من
المهالك وَيجْعَل لكم فرجا من أُمُوركُم ومخرجاً.
4678 - ح دَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ
عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابْن شِهابٍ عَن عبدِ الرَّحْمانِ ابْن
عبْدِ الله بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ عبدَ لله بنَ
كَعْبِ بنِ مالِكٍ وكانَ قائِدَ كَعْبِ بنِ مالِكٍ قَالَ
سَمِعْتُ كَعْبَ بنَ مالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلّفَ عنْ
قِصّةِ تَبُوكَ فَوَالله مَا أعْلَمُ أحَداً أبْلاَهُ الله
فِي صِدْقِ الحَدِيثِ أحْسَنَ مِمَّا أبْلاَنِي مَا
تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذالِكَ لرَسُولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمِي هاذَا كَذَّباً
وأنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ عَلَى رسُولِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَقَدْ تابَ الله عَلَى النبيِّ
والمُهاجِرين إِلَى
(18/279)
قَوْلِهِ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من حَيْثُ إِن الله فرج عَن
كَعْب وَتَابَ عَلَيْهِ بِحسن صدقه كَمَا فِي متن
الحَدِيث، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَأمر
الْمُؤمنِينَ بالتقوى والصدق. وَرِجَال إِسْنَاده قد
ذكرُوا عَن قريب وَفِيمَا قبله غير مرّة، والْحَدِيث
قِطْعَة من حَدِيث كَعْب الطَّوِيل، وتكلمنا فِيهِ فِيمَا
مضى.
20 - (بابٌ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جاءَكُمْ رسُولٌ مِنْ
أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ} (التَّوْبَة:
128)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لقد جَاءَكُم}
الْآيَة، كَذَا ثَبت إِلَى آخر الْآيَة فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: (مَا
عنتم) وَقد من الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة على
الْمُؤمنِينَ بِمَا أرسل إِلَيْهِم رَسُولا من أنفسهم أَي:
من جنسهم وعَلى لغتهم، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: {رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا
مِنْهُم} (الْبَقَرَة: 129) وقرى: من أَنفسكُم، من النفاسة
أَي: من أشرفكم وأفضلكم، وَقيل: هِيَ قِرَاءَة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفَاطِمَة وَعَائِشَة رَضِي
الله عَنْهُمَا. قَوْله: (عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم) أَي:
يعز عَلَيْهِ مَا يشق عَلَيْكُم، وَلِهَذَا جَاءَ فِي
الحَدِيث: بعثت بالحنفية السمحة، وعنتم من الْعَنَت وَهُوَ
الْمَشَقَّة، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أَصله
التَّشْدِيد، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْإِثْم، وَقَالَ ابْن
أبي عرُوبَة: الضلال، وَقيل: الْهَلَاك. وَحَاصِل
الْمَعْنى: يعز عَلَيْهِ أَن تدْخلُوا النَّار، وجمعت
هَذِه الْآيَة سِتّ صِفَات لسيدنا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: الرسَالَة والنفاسة والعزة وحرصه على
إِيصَال الْخيرَات إِلَى أمته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
والرأفة وَالرَّحْمَة. قَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل: لم
يجمع الله لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء إسمين من أَسْمَائِهِ
إلاَّ لسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ
قَالَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} وَقَالَ عز وَجل:
{إِن الله بِالنَّاسِ لرؤوف رَحِيم} (الْبَقَرَة: 143
وَالْحج: 65) .
مِنَ الرَّأفَةِ
يَعْنِي: رؤوف من الرأفة وَهِي الحنو والعطف وَهِي أَشد
الرَّحْمَة، وَلم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر.
4679 - ح دَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرَنا شُعَيبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني ابنُ السَّبّاقِ أنَّ زَيْدَ
ابنَ ثابِتِ الأنْصارِيَّ رَضِي الله عنهُ وكانَ مِمَّنْ
يَكْتُبُ الوَحْيَ قَالَ أرْسَلَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ
مَقْتَلَ أهْلِ اليَمامَةِ وعِنْدَهُ عُمَرُ فَقال أبُو
بَكْرٍ إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إنَّ القَتْلَ قَدِ
اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمامَةِ بِالنَّاسِ وإنِّي أخْشَى
أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ فِي المَوَاطِن
فيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ إلاَّ أنْ تَجْمَعُوهُ
وإنِّي لأَرَي أنْ تَجْمَعَ القُرْآنَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أفْعَلُ شَيْئاً لَم يَفْعَلْهُ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عُمَرُ هُوَ
وَالله خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ
حَتَّى شَرَحَ الله لذالِكَ صَدْرِي ورَأيْتُ الَّذِي رَأي
عُمَرُ قَالَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ وعُمَرُ عِنْدَهُ جالِسٌ
لَا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أبُو بَكْر إنَّكَ رجُلٌ شابٌّ
عاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُك كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لرسُولِ
الله الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَتَّبَعِ القُرْآنَ
فاجْمَعْهُ فَوَالله لوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ
الجِبالِ مَا كانَ أثْقَلَ عَلَيَّ مِمّا أمَرَنِي بِهِ
مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ قلْتُ كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئاً
لَمْ يَفْعَلْهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
أبُو بَكْرٍ هُوَ وَالله خَيْرٌ فلمْ أزَلْ أرَاجِعُهُ
حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ الله لَهُ
صَدْرَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ
القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ الرِّقاعِ والأكْتافِ والعُسُب
وصُدُورِ الرِّجالِ حَتَّى وجَدْتُ مِنْ سُورَة التوْبَةِ
آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ لَمْ أجِدْهُما
مَعَ أحَدٍ غيْرِهِ {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
(18/280)
علَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}
(التَّوْبَة: 128) إِلَى آخِرِها وكانَتِ الصُّحُفُ الَّتي
جُمِعَ فِيها القُرْآنُ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ حَتَّى
تَوَفَّاهُ الله ثمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاه الله
ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا.
.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {لقد جَاءَكُم رَسُول}
إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن
نَافِع، وَابْن السباق، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ عبيد حجازي.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن
بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن
الْهَيْثَم بن أَيُّوب.
قَوْله: (مقتل أهل الْيَمَامَة) ، أَي: أَيَّام مقاتلة
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، مُسَيْلمَة الْكذَّاب
الَّذِي ادّعى النُّبُوَّة وَكَانَ مقتلهم سنة إِحْدَى
عشرَة من الْهِجْرَة، واليمامة بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم مَدِينَة بِالْيمن وَسميت
باسم المصلوبة على بَابهَا وَهِي الَّتِي كَانَت تبصر من
مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وتعرف بالزرقاء لزرقة عينهَا
وَاسْمهَا عنزة، وَقَالَ الْبكْرِيّ: كَانَ إسم
الْيَمَامَة فِي الْجَاهِلِيَّة: جو، بِفَتْح الْجِيم
وَتَشْديد الْوَاو حَتَّى سَمَّاهَا الْملك الْحِمْيَرِي
لما قتل الْمَرْأَة الَّتِي تسمى الْيَمَامَة باسمها،
وَقَالَ الْملك الْحِمْيَرِي:
(وَقُلْنَا فسموا الْيَمَامَة باسمها ... وسرنا وَقُلْنَا
لَا نُرِيد الْإِقَامَة)
وَزعم عِيَاض أَنَّهَا تسمى أَيْضا: الْعرُوض، بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة، وَقَالَ الْبكْرِيّ: الْعرُوض إسم
لمَكَّة وَالْمَدينَة مَعْرُوف. قَوْله: (قد استحر) ، أَي:
اشْتَدَّ وَكثر على وزن استفعل من الْحر، وَذَلِكَ أَن
الْمَكْرُوه يُضَاف إِلَى الْحر والمحبوب يُضَاف إِلَى
الْبرد وَمِنْه الْمثل: تولى حارها من تولى قارها، وَقتل
بهَا من الْمُسلمين ألف وَمِائَة، وَقيل: ألف
وَأَرْبَعمِائَة مِنْهُم سَبْعُونَ جمعُوا الْقُرْآن.
قَوْله: (فِي المواطن) أَي: الْمَوَاضِع الَّتِي سيغزو
فِيهَا الْمُسلمُونَ وَيقتل نَاس من الْقُرَّاء فَيذْهب
كثير من الْقُرْآن. قَوْله: (كَيفَ أفعل شَيْئا لم
يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا كَلَام من يُؤثر الِاتِّبَاع
ويخشى الابتداع، وَإِنَّمَا لم يجمعه رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ بمعرض أَن ينْسَخ مِنْهُ
أَو يُزَاد فِيهِ، فَلَو جمعه لكتب وَكَانَ الَّذِي عِنْده
نُقْصَان يُنكر على من عِنْده الزِّيَادَة، فَلَمَّا أَمن
هَذَا الْأَمر بِمَوْتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمعه
أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، وَلم يصنع عُثْمَان فِي
الْقُرْآن شَيْئا، وَإِنَّمَا أَخذ الصُّحُف الَّتِي
وَضعهَا عِنْد حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا. وَأمر زيد بن
ثَابت وَعبد الله بن الزبير وَعبد الله بن الْحَارِث بن
هِشَام وَسَعِيد بن الْعَاصِ وَأبي بن كَعْب فِي إثني عشر
رجلا من قُرَيْش وَالْأَنْصَار فَكتب مِنْهَا مصاحف وسيرها
إِلَى الْأَمْصَار لِأَن حُذَيْفَة أخبرهُ بالاختلاف فِي
ذَلِك، فَلَمَّا توفيت حَفْصَة أَخذ مَرْوَان بن الحكم
تِلْكَ الصُّحُف فغسلها، وَقَالَ: أخْشَى أَن يُخَالف بعض
الْقُرْآن بَعْضًا، وَفِي لفظ: أَخَاف أَن يكون فِيهِ
شَيْء يُخَالف مَا نسخ عُثْمَان، وَإِنَّمَا فعل عُثْمَان
هَذَا وَلم يَفْعَله الصّديق رَضِي الله عَنهُ، لِأَن
غَرَض أبي بكر كَانَ جمع الْقُرْآن بِجَمِيعِ حُرُوفه
ووجوهه الَّتِي نزل بهَا وَهِي على لُغَة قُرَيْش
وَغَيرهَا، وَكَانَ غَرَض عُثْمَان تَجْرِيد لُغَة قُرَيْش
من تِلْكَ الْقرَاءَات، وَقد جَاءَ ذَلِك مُصَرحًا بِهِ
فِي قَول عُثْمَان لهَؤُلَاء الْكتاب، فَجمع أَبُو بكر غير
جمع عُثْمَان، فَإِن قيل: فَمَا قصد عُثْمَان بإحضار
الصُّحُف وَقد كَانَ زيد وَمن أضيف إِلَيْهِ حفظوه؟ . قيل:
الْغَرَض بذلك سد بَاب الْمقَالة وَأَن يزْعم أَن فِي
الصُّحُف قُرْآنًا لم يكْتب وَلِئَلَّا يرى إِنْسَان
فِيمَا كتبوه شَيْئا مِمَّا لم يقْرَأ بِهِ فينكره، فالصحف
شاهدة بِجَمِيعِ مَا كتبوه. قَوْله: (هُوَ وَالله خير) ،
يحْتَمل أَن يكون لفظ: خير، أفعل التَّفْضِيل. فَإِن قلت:
كَيفَ ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هُوَ
خير؟ قلت: هَذَا خير فِي هَذَا الزَّمَان وَكَانَ تَركه
خيرا فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعدم تَمام
النُّزُول وَاحْتِمَال النّسخ كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ عَن
قريب. قَوْله: (إِنَّك رجل شَاب) ، يُخَاطب بِهِ أَبُو بكر
زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا قَالَ:
شَاب، لِأَن عمره كَانَ إِحْدَى عشرَة سنة حِين قدم رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وخطاب أبي بكر
إِيَّاه بذلك فِي خِلَافَته، فَإِذا اعْتبرت هَذَا يكون
عمره حئنذٍ مَا دون خمس وَعشْرين سنة، وَهِي أَيَّام
الشَّبَاب. قَوْله: (لَا تتهمك) ، دلّ على عدم اتهامه
بِهِ. قَوْله: (كنت تكْتب الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، وكتابته الْوَحْي تدل على أَمَانَته
الْغَايَة، وَكَيف وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة وَمن
أَصْحَاب الْفَتْوَى؟ قَوْله: (فتتبع) أَمر، و (الْقُرْآن)
مَنْصُوب. قَوْله: (فوَاللَّه لَو كلفني) ، من كَلَام زيد،
يحلف بِاللَّه أَن أَبَا بكر لَو كلفه كَذَا وَكَذَا.
قَوْله: (مَا كَانَ أثقل) جَوَاب: لَو قَوْله: (فتتبعت
الْقُرْآن) ، قيل: إِن زيدا كَانَ جَامعا
(18/281)
لِلْقُرْآنِ فَمَا معنى هَذَا التتبع
والطلب لشَيْء إِنَّمَا هُوَ ليحفظه ويعلمه، أُجِيب: أَنه
كَانَ يتتبع وجوهه وقراءاته وَيسْأل عَنْهُمَا غَيره ليحيط
بالأحرف السَّبْعَة الَّتِي نزل بهَا الْكتاب الْعَزِيز،
وَيعلم الْقرَاءَات الَّتِي هِيَ غير قِرَاءَته. قَوْله:
(أجمعه) حَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة المنتظرة. قَوْله:
(من الرّقاع) ، بِكَسْر الرَّاء: جمع رقْعَة يكون من ورق
وَمن جلد وَنَحْوهمَا. قَوْله: (والأكتاف) ، جمع كتف
وَهُوَ عظم عريض يكون فِي أصل كتف الْحَيَوَان ينشف
وَيكْتب فِيهِ. قَوْله: (والعسب) ، بِضَم الْعين وَالسِّين
الْمُهْمَلَتَيْنِ: جَمِيع عسيب وَهُوَ جريد النّخل العريض
مِنْهُ وَكَانُوا يكشطون خوصها ويتخذونها عَصا وَكَانُوا
يَكْتُبُونَ فِي طرفها العريض، وَقَالَ ابْن فَارس: عسيب
النّخل كالقضبان لغيره، وَذكر فِي التَّفْسِير: اللخاف،
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَهِي حِجَارَة بيض رقاق
وَاحِدهَا لخفة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: فِيهَا عرض ودقة،
وَقيل: الخزف. قَوْله: (مَعَ خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ) ،
وَهُوَ خُزَيْمَة بن ثَابت بن الْفَاكِه الْأنْصَارِيّ
الخطمي ذُو الشَّهَادَتَيْنِ، شهد صفّين مَعَ عَليّ رَضِي
الله عَنهُ، وَقتل يومئذٍ سنة سبع وَثَلَاثِينَ. قَوْله:
(لم أجدهما مَعَ أحد غير خُزَيْمَة) ، فَإِن قيل: كَيفَ
ألحق هَاتين الْآيَتَيْنِ بِالْقُرْآنِ وَشَرطه أَن يثبت
بالتواتر؟ قيل لَهُ: مَعْنَاهُ: لم أجدهما مكتوبتين عِنْد
غَيره، أَو المُرَاد: لم أجدهما محفوظتين، وَوَجهه أَن
الْمَقْصُود من التَّوَاتُر إِفَادَة الْيَقِين،
وَالْخَبَر الْوَاحِد المحفوف بالقرائن يُفِيد أَيْضا
الْيَقِين، وَكَانَ هَهُنَا قَرَائِن مثل كَونهمَا
مكتوبتين وَنَحْوهمَا وَأَن مثله لَا يقدر فِي مثله بِمحضر
الصَّحَابَة أَن يَقُول إلاَّ حَقًا وصدقاً. قلت: إِن
خُزَيْمَة أذكرهم مَا نسوه وَلِهَذَا قَالَ زيد: وجدتهما
مَعَ خُزَيْمَة، يَعْنِي مكتوبتين وَلم يقل: عرفني
أَنَّهُمَا من الْقُرْآن، مَعَ تَصْرِيح زيد بِأَنَّهُ
سمعهما من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو نقُول:
ثَبت أَن خُزَيْمَة شَهَادَته بشهادتين فَإِذا شهد فِي
هَذَا وَحده كَانَ كَافِيا. قَوْله: (لقد جَاءَكُم) إِلَى
آخر بَيَان الْآيَتَيْنِ.
تابَعَهُ عُثْمانُ بنُ عُمَرَ واللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ
ابنِ شِهابٍ
أَي: تَابع شعيباً فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ عُثْمَان
بن عمر بن فَارس الْبَصْرِيّ الْعَبْدي وَاللَّيْث بن سعيد
الْبَصْرِيّ كِلَاهُمَا عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي
عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وروى
مُتَابعَة عُثْمَان أَبُو بكر عبد الله بن سُلَيْمَان بن
الْأَشْعَث عَن مُحَمَّد ابْن يحيى عَن عُثْمَان بن عمر
عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ فَذكره، وَأما مُتَابعَة
اللَّيْث عَن يُونُس فرواها البُخَارِيّ فِي فَضَائِل
الْقُرْآن وَفِي التَّوْحِيد.
وَقَالَ اللّيْثُ: حدَّثني عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خالِدٍ
عنِ ابنِ شِهابٍ وَقَالَ مَعَ أبي خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اللَّيْث رَحمَه الله، لَهُ
فِيهِ شيخ آخر عَن ابْن شهَاب، وَأَنه رَوَاهُ عَنهُ
بِإِسْنَادِهِ الْمَذْكُور وَلكنه خَالف فِي قَوْله: مَعَ
خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ: (أبي خُزَيْمَة)
وَرِوَايَة اللَّيْث هَذِه وَصلهَا أَبُو الْقَاسِم
الْبَغَوِيّ فِي (مُعْجم الصَّحَابَة) من طَرِيق أبي صَالح
كَاتب اللَّيْث عَنهُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو الْفرج: قَوْله:
أَبُو خُزَيْمَة، وهمٌ ورد عَلَيْهِ بِصِحَّة الطَّرِيق
إِلَيْهِ ولاحتمال أَن يَكُونَا سمعاها كِلَاهُمَا. قلت:
أَبُو خُزَيْمَة هَذَا هُوَ ابْن أَوْس بن زيد بن أَصْرَم
بن ثَعْلَبَة بن غنم بن مَالك بن النجار، شهد بَدْرًا
وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد وَتُوفِّي فِي خلَافَة
عُثْمَان وَهُوَ أَخُو مَسْعُود بن أَوْس، وَقَالَ أَبُو
عمر: قَالَ ابْن شهَاب عَن عبيدا السباق عَن زيد بن ثَابت:
وجدت آخر التَّوْبَة مَعَ أبي خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ.
وَقَالَ مُوساى عنْ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا ابنُ شِهابٍ مَعَ
أبي خُزَيْمَةَ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
أَي: قَالَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم بن سعد
عَن ابْن شهَاب، قَالَ: مَعَ أبي خُزَيْمَة، وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن،
وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ
البُخَارِيّ مُسْندًا فِي كتاب الْأَحْكَام فِي (صَحِيحه)
.
وتابَعَهُ يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِيهِ
أَي: تَابع مُوسَى فِي رِوَايَته عَن إِبْرَاهِيم بن
يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور عَن أَبِيه
إِبْرَاهِيم، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة فِي أبي خُزَيْمَة
أَبُو بكر بن أبي دَاوُد فِي كتاب (الْمَصَاحِف) من
طَرِيقه.
(18/282)
وَقَالَ أَبُو ثابِتٍ حَدثنَا إبْرَاهِيمُ
وَقَالَ مَعَ خُزَيْمَةَ أوْ مَعَ أبي خُزَيْمَةَ
أَبُو ثَابت مُحَمَّد بن عبيد الله الْمدنِي يروي عَن
إِبْرَاهِيم بن سعد، وَشك فِي رِوَايَته حَيْثُ قَالَ:
مَعَ خُزَيْمَة، أَو مَعَ أبي خُزَيْمَة، وَكَذَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام بِالشَّكِّ، وَالْحَاصِل
هُنَا أَن أَصْحَاب إِبْرَاهِيم بن سعد اخْتلفُوا، فَقَالَ
بَعضهم: مَعَ أبي خُزَيْمَة، وَقَالَ بَعضهم: مَعَ
خُزَيْمَة، وَشك بَعضهم. وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَن
آيَة التَّوْبَة مَعَ أبي خُزَيْمَة، وَآيَة الْأَحْزَاب
مَعَ خُزَيْمَة.
ابْتَدَأَ بالبسملة تبركاً عِنْد شُرُوعه فِي تَفْسِير
سُورَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام.
سُورَةُ يُونُسَ
أَي: هَذَا شُرُوع فِي تَفْسِير بعض مَا فِي سُورَة
يُونُس، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر الْبَسْمَلَة بعد. قَوْله:
(سُورَة يُونُس) . قَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي (مقامات
التَّنْزِيل) هِيَ مَكِّيَّة، وفيهَا آيَة ذكر الْكَلْبِيّ
أَنَّهَا مَدَنِيَّة {لَهُم الْبُشْرَى فِي الحيوة
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} (يُونُس: 64) ، وَمَا بلغنَا
أَن فِيهَا مدنياً غير هَذِه الْآيَة، وَفِي (تَفْسِير
ابْن النَّقِيب) عَن الْكَلْبِيّ: مَكِّيَّة إِلَّا
قَوْله: {وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن
بِهِ} (يُونُس: 40) ، فَإِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ،
وَقَالَ مقَاتل: كلهَا مَكِّيَّة غير آيَتَيْنِ: {فَإِن
كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسأل الَّذين يقرؤون
الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من
الممترين وَلَا تكونن من الَّذين كذبُوا بآيَات الله
فَتكون من الخاسرين} (يُونُس: 94 95) هَاتَانِ الْآيَتَانِ
مدنيتان، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن
عَبَّاس: فِيهَا رِوَايَتَانِ (الأولى) وَهِي
الْمَشْهُورَة عَنهُ: هِيَ مَكِّيَّة، (الثَّانِيَة) :
مَدَنِيَّة، وَهِي مائَة وتسع آيَات، وَسَبْعَة آلَاف
وَخَمْسمِائة وَسَبْعَة وَسِتُّونَ حرفا، وَألف
وَثَمَانمِائَة وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ كلمة.
1 - (بَاب: وَقَالَ ابنُ عَبَّاس فاخْتَلَطَ فَنَبَتَ
بالمَاءِ مِنْ كلِّ لَوْنٍ)
فِي: بعض النّسخ: بَاب وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأَشَارَ
بِهِ إِلَى قَوْله: {إِنَّمَا مثل الحيوة الدُّنْيَا كَمَا
أنزلنَا من السَّمَاء فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض}
(يُونُس: 24) وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن جرير من
طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله:
{إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَا أَنزَلْنَاهُ من
السَّمَاء فاختلط} فنبت بِالْمَاءِ كل لون مِمَّا يَأْكُل
النَّاس كالحنطة وَالشعِير وَسَائِر حبوب الأَرْض، وأسنده
أَيْضا ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث عَليّ بن أبي طَلْحَة
عَنهُ.
{وقالُوا اتَّخَذَ الله ولَداً سُبْحانَهُ هُوَ الغَنِيُّ}
(يُونُس: 68)
هَذِه الْآيَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة لم تذكر فِي
رِوَايَة أبي ذَر، وَثبتت لغيره خَالِيَة عَن الحَدِيث.
قَوْله: {وَقَالُوا} أَي: أهل مَكَّة (اتخذ الله ولدا)
فَقَالُوا الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَقَالَت الْيَهُود:
عُزَيْر ابْن الله، وَقَالَت النَّصَارَى: المسيخ ابْن
الله. قَوْله: (سُبْحَانَهُ) تَنْزِيه لَهُ عَن اتِّخَاذ
الْوَلَد، وتعجب بِهِ من كلمتهم الحمقاء. قَوْله: (هُوَ
الْغَنِيّ) عَن الصاحبة وَالْولد.
وَقَالَ زَيْدُ بنُ أسْلَمَ أنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ
مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ مُجَاهِدٌ
خَيْرٌ
زيد بنُ أسلم أَبُو أُسَامَة مولى عمر بن الْخطاب، وَقد
فسر: (قدم صدق) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَبشر الَّذين
آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق} (يُونُس: 2) بِأَنَّهُ مُحَمَّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَبُو
جَعْفَر بن جرير من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَنهُ، وَعَن
ابْن عَبَّاس: منزل صدق، وَقيل: الْقدَم: الْعَمَل
الصَّالح، وَعَن الرّبيع بن أنس: ثَوَاب صدق، وَعَن
السّديّ: قدم يقدمُونَ عَلَيْهِ عِنْد رَبهم. قَوْله:
(وَقَالَ مُجَاهِد: خير) يَعْنِي: قدم صدق هُوَ خير،
أسْندهُ أَبُو مُحَمَّد البستي من حَدِيث ابْن أبي نجيح
عَنهُ، ثمَّ روى عَنهُ أَيْضا صلَاتهم وتسبيحهم وصومهم،
وَرجح ابْن جرير قَول مُجَاهِد لقَوْل الْعَرَب: لفُلَان
قدم صدقٍ فِي كَذَا، إِذا قدم فِيهِ خيرا، وَقدم شرٍ فِي
كَذَا إِذا قدم فِيهِ شرا، وَذكر عِيَاض أَنه وَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر: وَقَالَ مُجَاهِد بن جبر، وَهُوَ خطأ.
قلت: جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة:
اسْم وَالِد
(18/283)
مُجَاهِد، وَوجه كَونه خطأ أَنه لَو كَانَ
ابْن جبر لخلا الْكَلَام عَن ذكر القَوْل الْمَنْسُوب
إِلَى مُجَاهِد فِي تَفْسِير الْقدَم، وَيرد بِهَذَا
أَيْضا مَا ذكره ابْن التِّين أَنَّهَا وَقعت كَذَلِك فِي
نُسْخَة أبي الْحسن الْقَابِسِيّ.
يُقالُ تِلْكَ آياتٌ يَعْني هاذِه أعْلاَمُ القُرْآنِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {آلر تِلْكَ إيات
الْكتاب الْحَكِيم} (يُونُس: 1) وَأَرَادَ أَن: تِلْكَ،
هُنَا بِمَعْنى: هَذِه، على أَن معنى: تِلْكَ آيَات
الْكتاب: هَذِه أَعْلَام الْقُرْآن وَعلم من هَذِه أَن إسم
الْإِشَارَة للْغَائِب قد يسْتَعْمل للحاضر لنكتة يعرفهَا
من لَهُ يَد فِي الْعَرَبيَّة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
تِلْكَ إِشَارَة إِلَى مَا تضمنته السُّورَة من الْآيَات
وَالْكتاب السُّورَة، والحكيم ذُو الْحِكْمَة لاشْتِمَاله
عَلَيْهَا ونطقه بهَا.
ومِثْلُهُ: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وجَرَيْنَ
بِهِمْ} (يُونُس: 22) المَعْنى بِكُمْ
أَي: مثل الْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: {تِلْكَ آيَات}
يَعْنِي: هَذِه أَعْلَام الْقُرْآن. قَوْله: (حَتَّى إِذا
كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم) ، وَجه الْمُمَاثلَة
بَينهمَا هُوَ أَن: تِلْكَ، بِمَعْنى: هَذِه، فَكَذَلِك
قَوْله: بهم، بِمَعْنى: بكم، حَيْثُ صرف الْكَلَام عَن
الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة، كَمَا أَن فِي الأول صرف إسم
الْإِشَارَة عَن الْغَائِب إِلَى الْحَاضِر، والنكتة فِي
الثَّانِي للْمُبَالَغَة كَأَنَّهُ يذكر حَالهم لغَيرهم،
وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح خرج من حق هَذَا الْموضع، بل
مِنْهُم من لم يذكرهُ أصلا، كَمَا أَن أَبَا ذَر لم يذكرهُ
فِي رِوَايَته.
دَعْوَاهُمْ دُعاؤُهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {دَعوَاهُم فِيهَا
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} (يُونُس: 10) وَفسّر الدَّعْوَى
بِالدُّعَاءِ. قَوْله: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، تَفْسِير
دَعوَاهُم، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
أُحِيطَ بِهِمْ دَنَوْا مِنَ الهَلَكَةِ أحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وظنوا أَنهم أحيط
بهم} (الْبَقَرَة: 81) وَفَسرهُ بقوله: دنوا من الهلكة،
أَي: قربوا من الْهَلَاك، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة،
يُقَال: فلَان قد أحيط بِهِ، أَي: أَنه لهالك. قَوْله:
دنواً يجوز أَن يكون بِضَم الدَّال وَالنُّون على صِيغَة
الْمَجْهُول، وَأَصله: دنيوا انقلت ضمة الْيَاء إِلَى
النُّون فحذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ على وزن: فعوا.
قَوْله: {أحاطت بِهِ خطيئته} أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله
تَعَالَى: {بلَى من كسب سَيِّئَة وأحاطت بِهِ خطيئته}
(الْكَهْف: 42) يَعْنِي: استولت عَلَيْهِ خطيئته كَمَا
يُحِيط الْعَدو، وَقيل: مَعْنَاهُ سدت عَلَيْهِ خطيئته
مسالك النجَاة، وَقيل: مَعْنَاهُ أهلكته كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {وأحيط بثمره} (يُونُس: 90) وَقَرَأَ أهل
الْمَدِينَة: خطيئاته، بِالْجمعِ.
فاتَّبَعَهُمْ واتْبَعَهُمْ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وجاوزنا ببني
إِسْرَائِيل الْبَحْر فاتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده}
وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن: اتبعهم، بِكَسْر الْهمزَة
وَتَشْديد التَّاء من الِاتِّبَاع بتَشْديد التَّاء، وَأَن
أتبعهم بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون التَّاء من الإتباع
بِسُكُون التَّاء وَاحِد فِي الْمَعْنى والوصل وَالْقطع،
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ لحقهم، وَقيل:
بِالتَّشْدِيدِ فِي الْأَمر: اقْتدى بِهِ، وَأتبعهُ
بِالْهَمْزَةِ: تلاه، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الأول:
أدْركهُ ولحقه، وَالثَّانِي: اتبع أَثَره وأدركه، وَكَذَا
قَالَه أَبُو زيد، وَبِالثَّانِي قَرَأَ الْحسن.
عَدْواً مِنَ العُدْوَانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فاتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده
بغياً وعدواً} وَفَسرهُ بقوله: عُدْوانًا، وَكَذَا فسره
أَبُو عُبَيْدَة، وبغياً وعدواً منصوبان على المصدرية أَو
على الْحَال أَو على التَّعْلِيل أَي: لأجل الْبَغي
والعدوان، وَقَرَأَ الْحسن: عدوا، بِضَم الْعين وَتَشْديد
يَد الْوَاو.
وَقَالَ مُجاهدٌ يُعَجِّلُ الله لِلنّاس الشَّرَّ
اسْتِعْجالَهُمْ بالخَيْرِ قَوْلُ الإنْسانِ لِوَلَدِهِ
ومالِهِ إذَا غَضِبَ {اللَّهُمَّ لَا تُباركْ فِيهِ
والْعَنْهُ. لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ لَأُهْلِكَ مَنْ
دُعِيَ عَلَيْهِ ولَأماتَهُ} .
(18/284)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ}
(يُونُس: 11) . نزلت هَذِه الْآيَة فِي النَّضر بن
الْحَارِث حَيْثُ قَالَ: أللهم إِن كَانَ هَذَا هُوَ
الْحق، والتعجيل تَقْدِيم الشَّيْء قبل وقته، والاستعجال
طلب العجلة، وَالْمعْنَى: لَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ
إِذا دَعوه على أنفسهم عِنْد الْغَضَب وعَلى أَهْليهمْ
وَأَمْوَالهمْ كَمَا يعجل لَهُم الْخَيْر لهلكوا. قَوْله:
(وَقَالَ مُجَاهِد) تَعْلِيق وَصله ابْن أبي حَاتِم عَن
حجاج بن حَمْزَة حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن
أبي نجيح عَن مُجَاهِد، فَذكره. قَوْله: (يعجل الله) فِي
مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء بِتَقْدِير مَحْذُوف فِيهِ
وَهُوَ إخْبَاره تَعَالَى بقوله: {وَلَو يعجل الله للنَّاس
الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ} . قَوْله: (قَول
الْإِنْسَان) خبر الْمُبْتَدَأ الْمُقدر. قَوْله: (لقضى
إِلَيْهِم أَجلهم) ، جَوَاب: لَو قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
مَعْنَاهُ لأميتوا وأهلكوا، وَهُوَ معنى قَوْله: (لأهْلك
من دعى عَلَيْهِ وأماته) ، أَي: لأهْلك الله من دعى
عَلَيْهِ، وَيجوز فِيهِ صِيغَة الْمَعْلُوم والمجهول.
قَوْله: ولأماته عطف على قَوْله: لأهلكه، وَاللَّام فيهمَا
للابتداء.
{لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى} مِثْلُها حُسْنَى
{وزِيادَةٌ ورِضْوَانٌ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {للَّذين أَحْسنُوا
الْحسنى وَزِيَادَة وَلَا يرهق وُجُوههم قتر} (يُونُس: 26)
. الْآيَة، وَالَّذِي ذكره قَول مُجَاهِد وَصله عبد بن
حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَن
ابْن عَبَّاس: قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو
زرْعَة حَدثنَا منْجَاب بن الْحَارِث أخبرنَا بشر عَن أبي
روق عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، قَوْله: {للَّذين
أَحْسنُوا الْحسنى} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: المثوبة،
وَقَالَ غَيره: الْحسنى قَول لَا إل هـ إلاَّ الله.
قَوْله: (مثلهَا حسنى) أَي: مثل تِلْكَ الْحسنى حسنى
أُخْرَى مثلهَا تفضلاً وكرماً، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{ويزيدهم من فَضله} (النِّسَاء: 173) وَفسّر الزِّيَادَة
بقوله: {مغْفرَة ورضوان} (فاطر: 30، الشورى: 26) ، وَعَن
الْحسن: أَن الزِّيَادَة التَّضْعِيف، وَعَن عَليّ:
الزِّيَادَة غرفَة من لُؤْلُؤ وَاحِدَة لَهَا أَرْبَعَة
أَبْوَاب، أخرجه الطَّبَرِيّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ النّظَرُ إِلَى وجْهِهِ
هَذَا لم يثبت إلاَّ لأبي ذَر وَأبي الْوَقْت خَاصَّة
وَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بِالْغَيْر فِيمَا أَظن
قَتَادَة، وَقَالَ صَاحب (التشريح) : يَعْنِي غير
مُجَاهِد، قلت: الأصوب هَذَا الْمَذْكُور فِيمَا قبله قَول
مُجَاهِد فَيكون هَذَا قَول غَيره، وَالَّذِي اعْتمد
عَلَيْهِ بَعضهم فِيمَا قَالَه على مَا أخرج الطَّبَرِيّ
من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، قَالَ:
الْحسنى هِيَ جنَّة، وَالزِّيَادَة النّظر إِلَى وَجه
الرَّحْمَن، وذالا يدل على مَا اعْتَمدهُ على مَا لَا
يخفى.
الْكِبْرِيَاءُ المُلْكُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله: {وَتَكون لَكمَا
الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين}
(يُونُس: 78) وَتَفْسِير: الْكِبْرِيَاء، بِالْملكِ قَول
مُجَاهِد، قَالَ مُحَمَّد: حَدثنَا حجاج حَدثنَا شَبابَة
عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَفِي رِوَايَة
عَنهُ الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض الْعَظِيمَة، وَأول
الْآيَة. (قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء) أَي: قَالَ
فِرْعَوْن وَقَومه لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، أجئتنا
لتلفتنا أَي: لتصرفنا. عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَائِنَا؟
يعنون عبَادَة الْأَصْنَام. وَتَكون لَكمَا الْخطاب
لمُوسَى وَهَارُون. قَوْله: (فِي الأَرْض) أَي: فِي أَرض
مصر. قَوْله: (بمؤمنين) أَي: بمصدقين لَكمَا فِيمَا جئتما
بِهِ.
2 - (بابٌ: {جَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ البَحْرَ
فَأتْبَعُهُمْ فِرْعَوْنِ وَجُنُودُهُ بَغْيا وَعَدْوا
حَتَّى إذَا أدُرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنَّهُ لَا
إلاهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ
وَأنَا مِنَ المُسْلِمِينَ} (يُونُس: 90)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وجاوزنا} الْآيَة.
وَلَيْسَ عِنْد أَكثر الروَاة لفظ بَاب: وَكلهمْ ساقوا
هَذِه الْآيَة إِلَى قَوْله: من الْمُسلمين. قَوْله:
(وجاوزنا) ، أَي: قَطعنَا بهم الْبَحْر، وقرىء: وجوزنا.
وَالْبَحْر هُوَ القلزم بِضَم الْقَاف وَهُوَ بَين مصر
وَمَكَّة، وَحكى ابْن السَّمْعَانِيّ بِفَتْح الْقَاف
وكنيته أَبُو خَالِد، وَفِي (الْمُشْتَرك) القلزم بليدَة
بساحل بَحر الْيمن من جِهَة مصر وَمن أَعمال مصر ينْسب
الْبَحْر إِلَيْهَا، فَيُقَال: بَحر القلزم، وبالقرب
مِنْهَا غرق فِرْعَوْن، وَاسم فِرْعَوْن هَذَا الْوَلِيد
بن مُصعب بن الريان أَبُو مرّة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ:
(18/285)
أَبُو الْعَبَّاس من بني عمليق بن لاوذ بن
أرم بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام. وَذكر عبد
الرَّحْمَن عَن عَمه أبي زرْعَة. حَدثنَا عَمْرو بن
حَمَّاد حَدثنَا أَسْبَاط عَن السّديّ. قَالَ: خرج مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام، فِي سِتّمائَة ألف وَعشْرين ألف
مقَاتل لَا يعدون فيهم ابْن عشر سِنِين لصغره وَلَا ابْن
سِتِّينَ لكبره. قَوْله: (فاتبعهم) ، يَعْنِي: فلحقهم،
يُقَال: تَبعته حَتَّى اتبعته، وتبعهم فِرْعَوْن وعَلى
مقدمته هامان فِي ألف ألف وسِتمِائَة ألف، وَفِيهِمْ مائَة
ألف حصان أدهم لَيْسَ فِيهَا أنثي، وَقَالَ ابْن
مرْدَوَيْه بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا.
كَانَ مَعَ فِرْعَوْن سَبْعُونَ قائدا. مَعَ كل قَائِد
سَبْعُونَ ألفا. قَوْله: (بغيا وعدوا) ، منصوبان على
الْحَال. قَوْله: (حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق) ، أَي:
حَتَّى إِذا أدْرك فِرْعَوْن الْغَرق، وَكَانَ يَوْم
عَاشُورَاء. قَوْله: (قَالَ آمَنت إِلَى آخِره) ، كرر
الْإِيمَان ثَلَاث مَرَّات حرصا على الْقبُول فَلم
يَنْفَعهُ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ فِي حَالَة الِاضْطِرَار،
وَلَو كَانَ قَالَهَا مرّة وَاحِدَة فِي حَالَة
الِاخْتِيَار لقبل ذَلِك مِنْهُ.
نُنْجِيكَ نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الأرْضِ وَهُوَ
النَّشَزُ المَكَانُ المُرْتَفِعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاليوم ننجيك ببدنك
لتَكون لمن خَلفك آيَة} وَفسّر (ننجيك) بقوله: (نلقيك)
إِلَى آخِره، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن: ننجيك مُشْتَقّ
من: النجوة: لَا من النجَاة الَّتِي بِمَعْنى السَّلامَة،
وَفسّر النجوة بقوله: هُوَ النشز، بِفَتْح النُّون والشين
الْمُعْجَمَة وبالزاي، وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: ننجيك، بِالتَّشْدِيدِ
وَالتَّخْفِيف مَعْنَاهُ: نبعدك مِمَّا وَقع فِيهِ قَوْمك
من قَعْر الْبَحْر، وَقيل: نلقيك بنجوة من الأَرْض، وقرىء:
ننجيك، بِالْحَاء الْمُهْملَة، مَعْنَاهُ: نلقيك
بِنَاحِيَة مِمَّا تلِي الْبَحْر، وَذَلِكَ أَنه طرح بعد
الْغَرق بِجَانِب الْبَحْر. انْتهى. وَسبب ذَلِك أَن
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه لما خَرجُوا من
الْبَحْر قَالُوا: من بَقِي فِي الْمَدَائِن من قوم
فِرْعَوْن مَا غرق فِرْعَوْن وَإِنَّمَا هُوَ وَأَصْحَابه
يصيدون فِي جزائر الْبَحْر، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى
الْبَحْر: أَن لفظ فِرْعَوْن عُريَانا فَأَلْقَاهُ على
نجوة من الأَرْض على سَاحل الْبَحْر، قَالَ مقَاتل: قَالَ
بَنو إِسْرَائِيل: إِن القبط لم يفرقُوا فَأوحى الله إِلَى
الْبَحْر فطفا بهم على وَجهه، فنظروا فِرْعَوْن على
المَاء، فَمن ذَلِك الْيَوْم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة تطفو
الغرقى على المَاء، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {ولتكون لمن
خَلفك آيَة} يَعْنِي: لمن بعْدك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة،
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَت بَنو إِسْرَائِيل لما
أخْبرهُم مُوسَى بِهَلَاك القبط.: مَا مَاتَ فِرْعَوْن
وَلَا يَمُوت أبدا فَأمر الله تَعَالَى الْبَحْر فَألْقى
فِرْعَوْن على السَّاحِل أَحْمَر قَصِيرا كَأَنَّهُ ثَوْر،
فَرَآهُ بَنو إِسْرَائِيل فَمن ذَلِك الْوَقْت لَا يقبل
الْبَحْر مَيتا أبدا. فَإِن قيل: فقد ذكر أَن نوحًا،
عَلَيْهِ السَّلَام. لما أرسل الْغُرَاب لينْظر لَهُ
الأَرْض رأى جيف الغرقى فلهى بهَا عَن حَاجَة نوح عَلَيْهِ
السَّلَام، فَالْجَوَاب: أَن المَاء كَانَ قد نصب فَلهَذَا
رأى الْجِيَف، وَهنا إِنَّمَا هُوَ مَعَ وجود المَاء
واستقراره. قَوْله: (ببدنك) ، أَي: بجسدك. قَالَه
مُجَاهِد، وَقيل: المُرَاد بِالْبدنِ الدرْع الَّذِي كَانَ
عَلَيْهِ، وَقيل: كَانَت لَهُ درع من ذهب يعرف بهَا،
وَقَرَأَ أَبُو حنيفَة بأبدانك. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
يَعْنِي ببدنك كُله وافيا بأجزائه أَو يُرَاد بدروعك
كَأَنَّهُ كَانَ مظَاهر بَينهَا.
11 - ( {سُورَةُ هُودٍ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي تَفْسِير بعض سُورَة هود، قَالَ أَبُو
الْعَبَّاس فِي (المقامات) فِيهَا آيَة مَدَنِيَّة وَقَالَ
بَعضهم: آيتان. قَالَ السّديّ:
(18/286)
قَالَ ابْن عَبَّاس: سُورَة هود مَكِّيَّة
غير قَوْله: {أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} (هود: 114)
الْآيَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: عَن ابْن عَبَّاس: هِيَ
مَكِّيَّة مُطلقًا، وَبِه قَالَ الْحسن وَعِكْرِمَة
وَمُجاهد وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة، وَعنهُ: هِيَ
مَكِّيَّة إلاَّ آيَة وَاحِدَة وَهِي: {فلعلك تَارِك بعض
مَا يُوحى إِلَيْك} (هود: 12) رَوَاهُ عَنهُ عَليّ بن أبي
طَلْحَة، وَقَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة إلاَّ آيَتَيْنِ:
{أقِم الصَّلَاة} الْآيَة. {وَأُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ}
(هود: 17) نزلت فِي ابْن سَلام وَأَصْحَابه. وَهِي سَبْعَة
آلَاف وَخَمْسمِائة وَسَبْعَة وَسِتُّونَ حرفا. وَألف
وَتِسْعمِائَة وَخمْس عشرَة كلمة، وَمِائَة وَثَلَاث
وَعِشْرُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ عَصِيبٌ شَدِيدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا يَوْم عصيب}
(هود: 77) وَفَسرهُ بقوله: شَدِيد، وَوَصله ابْن أبي
حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: فِي قَوْله: {هَذَا يَوْم عصيب} شَدِيد الْقَائِل
بِهَذَا لوط، عَلَيْهِ السَّلَام، حِين جَاءَتْهُ
الْمَلَائِكَة فِي صُورَة غلْمَان جرد بهم منزله وَحسب
أَنهم أنَاس، فخاف عَلَيْهِم من قومه وَلم يعلم بذلك أحد
فَخرجت امْرَأَته فَأخْبرت بهم قَومهَا. فَقَالَ: {هَذَا
يَوْم عصيب} أَي: شَدِيد عليّ وقصته مَشْهُورَة.
لَا جَرَمَ بَلَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم أَنهم فِي
الْآخِرَة هم الأخسرون} (هود: 22) وَفَسرهُ بقوله: بل
قَالَ بَعضهم: وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن
أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: لَا جرم إِن
الله يعلم قَالَ: أَي: بلَى أَن الله يعلم. قلت: الَّذِي
ذكره البُخَارِيّ فِي هَذِه السُّورَة. أَعنِي سُورَة هود.
الَّذِي نَقله لَيْسَ فِي سُورَة هود، وَإِنَّمَا هُوَ فِي
سُورَة النَّحْل، وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر مَا فِي
سُورَة هود لِأَنَّهُ فِي صدد تَفْسِير سُورَة هود وَإِن
كَانَ الْمَعْنى فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاء، وَالْعم أَن
الْفراء قَالَ: لَا جرم، كلمة كَانَت فِي الأَصْل
بِمَنْزِلَة لَا بُد وَلَا محَالة، فجرت على ذَلِك
وَكَثُرت حَتَّى تحولت إِلَى معنى الْقسم وَصَارَت
بِمَنْزِلَة حَقًا، فَلذَلِك يُجَاب عَنهُ بَالَام، كَمَا
يُجَاب بهَا عَن الْقسم. أَلا تَرَاهم يَقُولُونَ: لَا جرم
لآتينك، وَيُقَال: جرم، فعل عِنْد الْبَصرِيين وَاسم عِنْد
الْكُوفِيّين، فَإِذا كَانَ اسْما يكون بِمَعْنى حَقًا
وَمعنى الْآيَة. حَقًا إِنَّهُم فِي الْآخِرَة هم
الأخسرون، وعَلى قَول الْبَصرِيين لَا رد لقَوْل
الْكفَّار: وجرم مَعْنَاهُ عِنْدهم كسب. أَي: كسب كفرهم
الخسارة فِي الْآخِرَة.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَحَاقَ نَزَلَ يَحِيقُ يَنْزِلُ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس: معنى حاق فِي قَوْله: {وحاق
بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} (هود: 8) نزل بهم وأصابهم.
قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا ذكر: يَحِيق إِشَارَة
إِلَى أَنه من فعل يفعل بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي
وَكسرهَا فِي الْمُضَارع.
يؤسٌ فَعُولٌ مِنْ يَئِسْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقنا
الْإِنْسَان منَّا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه
ليؤوس كفور} (هود: 9) وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن وَزنه
فعول، من صِيغ الْمُبَالغَة وَأَنه مُشْتَقّ من يئست من
الْيَأْس وَهُوَ انقاطع الرَّجَاء، وَفِي قَوْله: من يئست،
تساهل لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْيَأْس كَمَا تَقْتَضِيه
الْقَوَاعِد الصرفية.
وَقَالَ مُجاهِدٌ تَبْتَئِسْ تَحْزَنْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن مُجَاهدًا فسر قَوْله: تبتئس: تحزن
فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا نبتئس بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ} (هود: 36) وَالْخطاب لنوح، عَلَيْهِ
السَّلَام، وَوصل هَذَا الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد.
يَثْنُونَ صُدُروَهُمْ شَك وَامْتِرَاءٌ فِي الحَقِّ
لِيسْتَخْفُوا مِنْهُ مِنَ الله إنْ اسْتَطَاعُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنهم يثنون
صُدُورهمْ ليستخفوا مِنْهُ} (هود: 5) الْآيَة. وَهُوَ
تَفْسِير مُجَاهِد أَيْضا فَأَنَّهُ قَالَ: يثنون
صُدُورهمْ شكا وامتراءا فِي الْحق. قَوْله: (يثنون
صُدُورهمْ) من الثني ويعبر بِهِ عَن الشَّك فِي الْحق
والإعراض عَنهُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
(18/287)
يزورَّون عَن الْحق وينحرفون عَنهُ لِأَن
من أقبل على الشَّيْء استقبله بصدره وَمن أزورّ عَنهُ
وانحرف ثنى عَنهُ صَدره وطوى عَنهُ كشحه. وَيُقَال: هَذِه
نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق وَكَانَ حُلْو الْكَلَام
المنظر يلقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يحب
وينطوي لَهُ على مَا يكره، وَقيل: نزلت فِي بعض
الْمُنَافِقين، وَقيل: فِي بعض الْمُشْركين كَانَ النَّبِي
عَلَيْهِ السَّلَام، إِذا مر عَلَيْهِ يثني صَدره ويطأطىء
رَأسه كَيْلا يرَاهُ، فَأخْبر الله تَعَالَى نبيه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمَا ينطوي عَلَيْهِ
صُدُورهمْ، ويثنون يكتمون مَا فِيهَا من الْعَدَاوَة.
قَوْله: (ليستخفوا مِنْهُ) أَي: من الله. وَقيل: من
الرَّسُول، وَهُوَ من الْقُرْآن. وَقَوله: {إِن
اسْتَطَاعُوا} لَيْسَ من الْقُرْآن، والتفاسير
الْمَذْكُورَة إِلَى هُنَا وَقعت فِي رِوَايَة أبي ذَر،
وَعند غَيره وَقعت مؤخرة وَالله أعلم وَيَأْتِي الْكَلَام
فِيهِ عَن قريب مستقصى.
وَقَالَ أبُو مَيْسَرَةً الأوَّاه الرَّحِيمُ
بِالحَبَشِيَّةِ
لم يَقع هَذَا هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَقد تقدم فِي
تَرْجَمَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، وَأَبُو ميسرَة ضد
الميمنة واسْمه عَمْرو بن شُرَحْبِيل الْهَمدَانِي
التَّابِعِيّ الْكُوفِي، روى عَنهُ مثل الشّعبِيّ وَأَبُو
إِسْحَاق السبيعِي، وَأَشَارَ بقوله الأواه إِلَى قَوْله:
{إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} (هود: 75) .
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ بَادِي الرَّأْي مَا ظَهَرَ لَنَا
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله
تَعَالَى: {هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي} الْآيَة. وَفسّر
قَوْله: بَادِي الرَّأْي: بقوله: مَا ظهر لنا، وَهَذَا
التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن الْعَبَّاس بن
الْوَلِيد بن مزِيد أَخْبرنِي مُحَمَّد بن شُعَيْب
أَخْبرنِي عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الجُودِيُّ جَبَلٌ بِالجَزِيرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {واستوت على الجودي}
(هود: 44) أَي: اسْتَوَت سفينة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، على الجودي، وَهُوَ جبل بالجزيرة، تشامخت
الْجبَال يَوْمئِذٍ وتطاولت وتواضع الجودي لله عز وَجل،
فَلم يغرق، فأرسيت عَلَيْهِ السَّفِينَة. وَقيل: إِن
الجودي جبل بالموصل، وَقيل: بآمدوهما من الجزيرة، وَقَالَ:
أكْرم الله عز وَجل، ثَلَاثَة جبال بِثَلَاثَة أَنْبيَاء
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، حراء بِمُحَمد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: والجودي بِنوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَالطور بمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام.
وَقَالَ الحَسَنُ: إنَّكَ لأنْتَ الحَلِيمُ
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} (هود: 87) فِي قصَّة
شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: إِنَّمَا
قَالَ قومه ذَلِك استهزاءً بِهِ. وَهَذَا التَّعْلِيق
رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن الْمُنْذر بن شَاذان عَن
زَكَرِيَّا بن عدي عَن أبي مليح عَن الْحسن.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أقْلِعِي أمْسِكِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقيل يَا أَرض
ابلعي ماءك وَيَا سَمَاء اقلعي} (هود: 40) رَوَاهُ أَبُو
مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن أبي صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَفَارَ التَّنُّورُ نَبَعَ المَاءُ: عَصِيبٌ شَدِيدٌ لَا
جَرَمَ بَلَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَ
أمرنَا وفار التَّنور} (هود: 40) وَهَذَا أَيْضا رَوَاهُ
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فار) ،
من الْفَوْر وَهُوَ الغليان، والفوارة مَا يفور من الْقدر،
وَقَالَ ابْن دُرَيْد: التَّنور اسْم فَارسي مُعرب لَا
تعرف لَهُ الْعَرَب اسْما غَيره، فَلذَلِك جَاءَ فِي
التَّنْزِيل لأَنهم خوطبوا بِمَا عرفوه: وَاخْتلفُوا فِي
مَوْضِعه. فَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ ذَلِك فِي نَاحيَة
الْكُوفَة، وَقَالَ: اتخذ نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة
السَّلَام، السَّفِينَة فِي جَوف مَسْجِد الْكُوفَة
وَكَانَ التَّنور على يَمِين الدَّاخِل مِمَّا يَلِي كشدة،
وَبِه قَالَ
(18/288)
عَليّ وزر بن حُبَيْش، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ تنور آدم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِنَّمَا كَانَ
بِالشَّام بِموضع يُقَال لَهُ: عين وردة، وَعَن عِكْرِمَة،
كَانَ التَّنور بِالْهِنْدِ.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ وَجْهُ الأرْضِ
أَي: قَالَ عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، التَّنور اسْم
لوجه الأَرْض، وَذكروا فِيهِ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا:
هَذَا. وَالثَّانِي: اسْم لأعلى وَجه الأَرْض.
وَالثَّالِث: تنوير الصُّبْح من قَوْلهم: نور الصُّبْح
تنويرا. وَالرَّابِع: طُلُوع الشَّمْس. وَالْخَامِس: هُوَ
الْموضع الَّذِي اجْتمع فِيهِ مَاء السَّفِينَة فَإِذا فار
مِنْهُ المَاء كَانَ ذَلِك عَلامَة لنوح، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لركوب السَّفِينَة، وَالسَّادِس:
مَا ذكره البُخَارِيّ. |