عمدة القاري شرح صحيح البخاري

7 - (بابٌ: {قل ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولاَ تَحْوِيلاً} (الْإِسْرَاء: 65)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {قل ادعوا الَّذين} الْآيَة، كَذَا سيق فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه} الْآيَة. قَوْله: (زعمتم من دونه) أَي: زعمتم أَنَّهَا آلِهَة من دون الله. قَوْله: (فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم) قيل: هُوَ مَا أَصَابَهُم من الْقَحْط سبع سِنِين. قَوْله: (وَلَا تحويلاً) أَي: وَلَا يملكُونَ تحويلاً عَلَيْكُم إِلَى غَيْركُمْ.

4174 - حدَّثني عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حَدثنَا يَحْيَى حدَّثنا سُفْيانُ حَدثنِي سُلَيْمانُ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ أبي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله {إِلَى ربِّهِمِ الوَسِيلَةَ} (الْإِسْرَاء: 75) قَالَ كانَ ناسٌ مِنَ الإنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسا مِنَ الجِنِّ فأسْلَمَ

(19/28)


الجِنُّ وَتَمَسَّكَ هاؤُلاَءِ بِدِينِهِمْ زَادَ الأشْجَعِي عَنْ سُفْيانَ عَنِ الأعْمَشِ: {قلِ ادْعُو الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} (الْإِسْرَاء: 65) .
(انْظُر الحَدِيث: 4174 طرفه فِي: 5174) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي زِيَادَة الْأَشْجَعِيّ. وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَأَبُو معمر هُوَ عبد الله بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هُنَا عَن بشر بن خَالِد. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن بشر بن خَالِد بِهِ وَعَن غَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عَليّ بِهِ وَعَن غَيره.
قَوْله: {إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} (الْإِسْرَاء: 75) فِيهِ حذف تَقْدِيره: عَن عبد الله، قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} قَالَ: كَانَ نَاس من الْإِنْس إِلَى آخِره، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، غير أَن فِي قَوْله: كَانَ نفر من الْإِنْس يعْبدُونَ نَفرا من الْجِنّ فَأسلم النَّفر من الْجِنّ واستمسك الْإِنْس بعبادتهم، فَنزلت: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} انْتهى. وَالْمرَاد بالوسيلة الْقرْبَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: النَّاس هم الْإِنْس ضد الْجِنّ قَالَ تَعَالَى: {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ} (الْأَنْعَام: 211) فَكيف قَالَ: نَاسا من الْإِنْس وناساً من الْجِنّ؟ قلت: المُرَاد من لفظ: نَاس، طَائِفَة، وَالنَّاس قد يكون من الْإِنْس وَالْجِنّ. قلت: فِي كَلَامه الأول نظر، وَالْوَجْه كَلَامه الثَّانِي، وَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِي: وَالنَّاس قد يكون الْإِنْس وَمن الْجِنّ وَأَصله أنَاس فَخفف. انْتهى قَوْله: (وَتمسك هَؤُلَاءِ بدينهم) أَي: اسْتمرّ الْإِنْس الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ على عبَادَة الْجِنّ، وَالْجِنّ لَا يرضون بذلك لكَوْنهم أَسْلمُوا وهم الَّذين صَارُوا {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} . قَوْله: (زَاد الْأَشْجَعِيّ) هُوَ عبيد الله بن عبيد الرَّحْمَن بِالتَّصْغِيرِ فيهمَا الْكُوفِي مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، أَرَادَ أَنه زَاد فِي رِوَايَته عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وروى ابْن مرْدَوَيْه هَذِه الزِّيَادَة عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الْجَبَّار بن الْعلَا عَن يحيى حَدثنَا سُفْيَان فَذكره بِزِيَادَة. قَوْله: (فَأسلم الْجِنّ) من غير أَن يعلم الإنسيون، فَنزلت: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ} انْتهى. قلت: حَاصِل الْكَلَام أَن طَرِيق يحيى عَن سُفْيَان ابْن عبد الله لما قَرَأَ: {إِلَى ربه الْوَسِيلَة} قَالَ: كَانَ نَاس ... وَطَرِيق الْأَشْجَعِيّ عَن سُفْيَان أَنه زَاد فِي الْقِرَاءَة، وَقَرَأَ: {ادعو الَّذين زعمتم} أَيْضا إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: كَانَ نَاس.

8 - (بابٌ: {أُولائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} الآيةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ} الْآيَة. قَوْله: {يدعونَ} مَفْعُوله مَحْذُوف تَقْدِيره: أُولَئِكَ الَّذين يَدعُونَهُمْ آلِهَة يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة، أَي: الزلفة والقربة أَيهمْ أقرب. وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَأكْثر الْعلمَاء هم: عِيسَى وَأمه وعزير وَالْمَلَائِكَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم.

5174 - حدَّثنا بِشحر بنُ خالِدٍ أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عنْ أبي مَعْمَرٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عنهُ فِي هاذِهِ الآيةِ: {الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} قَالَ: ناسٌ مِنَ الجِنِّ يُعْبَدُونَ فأسْلَمُوا.
(انْظُر الحَدِيث 4174) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبله أوردهُ مُخْتَصرا عَن بشر بن خَالِد إِلَى آخِره. قَوْله: (يعْبدُونَ) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالله أعلم.

9 - (بابٌ: {وَمَا جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً لِلناسِ} (الْإِسْرَاء: 06)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك} الْآيَة، وَهُوَ مَا أرِي لَيْلَة الْإِسْرَاء من الْعَجَائِب والآيات. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الرُّؤْيَة يقل اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، والرؤيا يكثر اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، وَيجوز اسْتِعْمَال كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنيين. قَوْله: (إلاَّ فتْنَة) أَي: إلاَّ بلَاء للنَّاس حَيْثُ اتخذوه سخرياً.

6174 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ عَمْروٍ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي

(19/29)


الله عَنهُ: {وَمَا جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (الْإِسْرَاء: 06) قَالَ هِيَ رُؤْيا عَيْنٍ أُرِيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ أسْرِيَ بِهِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
(انْظُر الحَدِيث 8883 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْقدر وَفِي الْبَعْث عَن الْحميدِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور.
قَوْله: (هِيَ رُؤْيا عين) ، وَزَاد سعيد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان فِي آخر الحَدِيث: وَلَيْسَت رُؤْيا مَنَام. قَوْله: (أريها) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء من الإراءة. قَوْله: (والشجرة الملعونة) ، بِالنّصب عطف على الرُّؤْيَا، تَقْدِيره: وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن، إلاَّ فتْنَة للنَّاس، وَكَانَت فتنتهم فِي الرُّؤْيَا أَن جمَاعَة ارتدا، وَقَالُوا: كَيفَ يسرى بِهِ إِلَى بَيت الْقُدس فِي لَيْلَة وَاحِدَة؟ وَقيل: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني أُميَّة ينزون على منبره نزو القردة فسَاء ذَلِك، فَمَا استجمع ضَاحِكا حَتَّى مَاتَ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا} الْآيَة، وَكَانَت فتنتهم فِي الشَّجَرَة الملعونة أَن أَبَا جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة قَالَ، لما نزلت هَذِه الْآيَة: لَيْسَ من كذب ابْن أبي كَبْشَة أَنه يتوعدكم بِنَار تحرق الْحِجَارَة ثمَّ يزْعم أَنه تنْبت فِيهَا شَجَرَة وَأَنْتُم تعلمُونَ أَن النَّار تحرق الشَّجَرَة، وروى ابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الرَّزَّاق عَن أَبِيه عَن مينا، مولى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت لمروان: أشهد أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول لَك ولأبيك ولجدك: إِنَّكُم الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: أَن الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن الحكم بن أبي الْعَاصِ وَولده. قَوْله: {شَجَرَة الزقوم} (الصافات: 26) ، على وزن فعول من الزقم وَهُوَ اللقم الشَّديد وَالشرب المفرط، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: هِيَ شَجَرَة غبراء مرّة قبيحة الرؤوس، وَقَالَ ثَعْلَب: الزقوم كل طَعَام يقتل والزقمة الطَّاعُون، وَفِي (غرر التِّبْيَان) : هِيَ شَجَرَة الكشوت تلتوي على الشّجر فتجففه، وَقيل: هِيَ الشَّيْطَان، وَقيل: أَبُو جهل، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، لما ذكر الله عز وَجل الزقوم فِي الْقُرْآن، قَالَ أَبُو جهل: هَل تَدْرُونَ مَا الزقوم؟ هُوَ التَّمْر بالزبد، أما وَالله لَئِن أمكننا الله مِنْهَا لتزقمناها تزقماً، فَنزلت: {والشجرة الملعونة} (الْإِسْرَاء: 06) فِي الْقُرْآن. وَعَن مقَاتل: قَالَ عبد الله بن الزبعري: إِن الزقوم بِلِسَان البربر الزّبد، فَقَالَ أَبُو جهل: يَا جَارِيَة ائتنا تَمرا وزبداً، وَقَالَ لقريش: تزقموا من هَذَا الزقوم، وَقَالَ ابْن سَيّده: لما نزلت آيَة الزقوم لم يعرفهُ قُرَيْش، فَقَالَ أَبُو جهل: إِن هَذَا لَيْسَ ينْبت ببلادنا فَمَا مِنْكُم من يعرفهُ؟ فَقَالَ رجل قدم عَلَيْهِم من إفريقية: إِن الزقوم بلغَة أهل إفريقية الزّبد بِالتَّمْرِ. فَإِن قلت: فَأَيْنَ ذكرت فِي الْقُرْآن لعنها؟ قلت: قد لعن آكلها وَالْعرب تَقول لكل طَعَام مَكْرُوه مَلْعُون، وَوصف الله تَعَالَى شَجَرَة الزقوم فِي سُورَة الصافات فَقَالَ: {أَنَّهَا شَجَرَة تخرج فِي أصل الْجَحِيم} (الصافات: 46) الْآيَات ... أَي: خلقت من النَّار وعذب بهَا.

01 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} (الْإِسْرَاء: 87)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن قُرْآن الْفجْر} أَي: صَلَاة الْفجْر، سميت الصَّلَاة قُرْآنًا لِأَنَّهَا لَا تجوز إلاَّ بقرآن، وَقيل: يَعْنِي قِرَاءَة الْفجْر، أَي: مَا يقْرَأ بِهِ فِي صَلَاة الْفجْر. قَوْله: (كَانَ مشهوداً) أَي: تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار ينزل هَؤُلَاءِ ويصعد هَؤُلَاءِ فَهُوَ آخر ديوَان اللَّيْل وَأول ديوَان النَّهَار، وروى ابْن مرْدَوَيْه بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {أَن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهوداً} قَالَ: يشهده الله وملائكة اللَّيْل وَالنَّهَار، وَفِي لفظ: فِي ثَلَاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل يفتح الله الذّكر الَّذِي لم يره أحد غَيره فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت، ثمَّ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة ينزل إِلَى عدن فَيَقُول: طُوبَى لمن دَخلك، ثمَّ ينزل فِي السَّاعَة الثَّالِثَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، فَيَقُول: هَل من مُسْتَغْفِر فَاغْفِر لَهُ؟ هَل من دَاع فَأُجِيبَهُ؟ حَتَّى يُصَلِّي الْفجْر، وَذَلِكَ قَوْله: {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهوداً} يَقُول: يشهده الله وَمَلَائِكَته وملائكة اللَّيْل وملائكة النَّهَار.
قَالَ مُجاهِدٌ صَلاَةَ الفَجْرِ

(19/30)


أَي: قُرْآن الْفجْر صَلَاة الْفجْر، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى: حَدثنَا أَبُو بكر حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.

7174 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبَرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سَلَمَةَ وابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَضْلُ صَلاَةِ الجَمِيعِ عَلَى صَلاَةِ الوَاحِدِ خَمْسٌ وعِشْرُونَ دَرَجَةً وتَجْتَمِعُ مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهار فِي صَلاةِ الصُّبْحِ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ اقْرَؤوا إنْ شِئْتُمْ: {وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً} (الْإِسْرَاء: 87) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب فضل صَلَاة الْفجْر فِي الْجَمَاعَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.

11 - (بابُ قَوْلِهِ: {عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} (الْإِسْرَاء: 97)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {عَسى أَن يَبْعَثك} الْآيَة ... اعْلَم أَن كلمة عِيسَى وَلَعَلَّ، من الله واجبتان لِأَنَّهُ لَيْسَ من صِفَات الله الْغرُور، وَالْمقَام الْمَحْمُود هُوَ الْمقَام الَّذِي يشفع فِيهِ لأمته يحمده فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَرَأَ: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} قَالَ: يدنيني فيقعدني مَعَه على الْعَرْش، وَقَالَ ابْن نجويه: يجلسني مَعَه على السرير، وذكرهما الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره.

8174 - حدَّثني إسْماعَيلُ بنُ أبانَ حَدثنَا أبُو الأحْوَصِ عنْ آدَمَ بنِ عَلِيّ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَصِيرَونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثاً كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّها يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ حَتَّى تَنْتَهِي الشَّفاعَةُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذالِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ الله المَقامَ المَحْمُودَ.
(انْظُر الحَدِيث 5741) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْمَاعِيل بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون منصرفاً وَغير منصرف: أَبُو إِسْحَاق الْوراق الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، توفّي بِالْكُوفَةِ سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو الْأَحْوَص هُوَ سَلام بن سليم، وآدَم بن عَليّ الْعجلِيّ الْبكْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن الْعَبَّاس بن عبد الله.
قَوْله: (جثا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: جثا، بِضَم الْجِيم وَفتح الْمُثَلَّثَة مَقْصُورا، أَي: جماعات وَاحِدهَا جثوَة وكل شَيْء جمعته من تُرَاب نَحوه فَهُوَ جثوَة. قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ عَن ابْن الخشاب: جثى، بِالتَّشْدِيدِ وَالضَّم جمع جاث، كغاز وغزى، وجثى مُخَفّفَة جمع جثوَة وَلَا معنى لَهُ هَهُنَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: ويروى: جثى، بتَشْديد الثَّاء جمع جاث أَي: جلس على رُكْبَتَيْهِ، وَفِي: (المغيث) : يجوز أَيْضا فتح الْجِيم وَكسرهَا كالعصى والعصي، قَوْله: (الشَّفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) زَاد فِي الرِّوَايَة الْمُتَعَلّقَة فِي الزَّكَاة: فَيشفع ليقضي بَين الْخلق.

9174 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَيَّاش حَدثنَا شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هاذِهِ الدَّعْوَةِ التامةِ والصّلاَةِ القائِمَةِ آتِ مُحَمَّدَ الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ وابْعَثْهُ مَقاماً مَحْمُوداً الّذي وعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيامَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 416) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مقَاما مَحْمُودًا) وَعلي بن عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْأَلْهَانِي الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي

(19/31)


حَمْزَة الْحِمصِي، وَابْن الْمُنْكَدر. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الدُّعَاء عِنْد النداء، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
رَواهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ الله عَن أبيهِ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور حَمْزَة بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا الْمُعَلق رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي مُعَاوِيَة الرَّازِيّ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ حَدثنَا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عبد الله بن أبي جَعْفَر قَالَ: سَمِعت حَمْزَة بن عبد الله، قَالَ: سَمِعت أبي فَذكره وَالله أعلم.

21 - (بابٌ: {وقُلْ جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً} (الْإِسْرَاء: 18)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقل جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل} ... الْآيَة، أَي: قل يَا مُحَمَّد جَاءَ الْحق أَي الْإِسْلَام وزهق الْبَاطِل أَي الشّرك، وَقيل: الْحق دين الرَّحْمَن وَالْبَاطِل الْأَوْثَان، وَعَن ابْن جريج: الْحق الْجِهَاد وَالْبَاطِل الْقِتَال. قَوْله: (زهوقاً) أَي: ذَاهِبًا وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ الْآن.
يَزْهَقُ يَهْلِكُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله: (زهوقاً) أَي: هَالكا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وتزهق أنفسهم وهم كَارِهُون} (التَّوْبَة: 58) أَي: تخرج وتهلك، وَيُقَال: زهق مَا عنْدك أَي ذهب كُله، وزهق السهْم إِذا جَاوز الْغَرَض، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ: أخبرنَا الطَّبَرَانِيّ فِيمَا كتب إِلَى أخبرنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن قَتَادَة: زهق الْبَاطِل هلك، فَإِن قلت: كَيفَ قُلْتُمْ: زهق، بِمَعْنى هلك وَالْبَاطِل مَوْجُود مَعْمُول بِهِ عِنْد أَهله؟ قلت: المُرَاد بِبُطْلَانِهِ وهلكته وضوح عينه فَيكون هَالكا عِنْد المتدبر النَّاظر.

0274 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ ابنِ أبي نجِيحٍ عنْ مُجاهِدٍ عنْ أبي مَعْمَرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكّةَ وحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِيءُ الباطِلُ وَمَا يُعِيدُ.
(انْظُر الحَدِيث 8742 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير نسبته إِلَى أحد أجداده حميد، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد الله وَاسم أبي نجيح يسَار ضد الْيَمين وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا ابْن أبي نجيح وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين واسْمه عبد الله بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ الْكُوفِي، وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد لَطِيفَة، وَهِي أَن ثَلَاثَة من الروَاة فِيهِ إسم كل مِنْهُم عبد الله، وَكلهمْ ذكرُوا بِغَيْر اسْمه، وَعبد الله الرَّابِع هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث مضى فِي غَزْوَة الْفَتْح، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة) ، أَرَادَ بِهِ عَام الْفَتْح. (وحول الْبَيْت) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (نصب) بِضَمَّتَيْنِ، وَهِي الْأَصْنَام، قَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : نصب بِالرَّفْع صفة لقَوْله: سِتُّونَ وَثَلَاث مائَة، وَقَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع للْأَكْثَر نصب بِغَيْر ألف، وَالْأَوْجه نَصبه على التَّمْيِيز إِذْ لَو كَانَ مَرْفُوعا لَكَانَ صفة وَالْوَاحد لَا يَقع صفة للْجمع. قلت: أَخذ هَذَا من كَلَام ابْن التِّين، وَالْحق هُنَا أَن النصب وَاحِد الأنصاب. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: النصب مَا نصب فعبد من دون الله، وَكَذَلِكَ النصب بِالضَّمِّ وَاحِد الأنصاب، وَفِي دَعْوَى الأوجهية نظر لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَّجه إِذا جَاءَت الرِّوَايَة بِالنّصب على التَّمْيِيز وَلَيْسَت الرِّوَايَة إلاَّ بِالرَّفْع، فحينئذٍ الْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال: إِن النصب مَا نصب، أَعم من أَن يكون وَاحِدًا أَو جمعا، وَأَيْضًا هُوَ فِي الأَصْل مصدر نصبت الشَّيْء إِذا أقمته فَيتَنَاوَل عُمُوم الشَّيْء. قَوْله: (يطعنها) بِضَم الْعين، قَوْله: (بِعُود فِي يَده) أَي: بِعُود كَائِن فِي يَده. قَوْله: (وَيَقُول) عطف على يطعن، وَيجوز أَن يكون الْوَاو للْحَال، وَفِي كسر الْأَصْنَام دلَالَة على كسر مَا فِي مَعْنَاهَا من العيدان والمزامير الَّتِي لَا معنى لَهَا إلاَّ اللَّهْو بهَا عَن ذكر الله، عز وَجل، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي معنى الْأَصْنَام الصُّور المتخذة من المدرو الْخشب وشبههما

(19/32)


وَلَا يجوز بيع شَيْء مِنْهُ إلاَّ الْأَصْنَام الَّتِي تكون من ذهب أَو فضَّة أَو خشب أَو حَدِيد أَو رصاص إِذا غيرت وَصَارَت قطعا، وَقَالَ الْمُهلب: مَا كسر من آلَات الْبَاطِل وَكَانَ فِيهَا بعد كسرهَا مَنْفَعَة فصاحبها أولى بهَا مَكْسُورَة أَلا يرى أَن الإِمَام حرقها بالنَّار على معنى التَّشْدِيد والعقوبة فِي المَال؟ وَقد هم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحرق دور من تخلف عَن صَلَاة الْجَمَاعَة؟ وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.

31 - (بابٌ: {ويَسْألُونَكَ عنِ الرُّوحِ} )

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ويسألونك عَن الرّوح} (الْإِسْرَاء: 58) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْأَكْثَر على أَن الَّذِي سَأَلُوهُ عَنهُ هُوَ حَقِيقَة الرّوح فَأخْبر أَنه من أَمر الله أَي: مِمَّا اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ. وَعَن أبي بُرَيْدَة: مضى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يعلم الرّوح، وَعَن ابْن عَبَّاس: قَالَت الْيَهُود للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أخبرنَا عَن الرّوح؟ وَكَيف يعذب؟ وَإِنَّمَا هِيَ من الله، وَلم يكن نزل عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء فَلم يحر إِلَيْهِم جَوَابا، فَجَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذِهِ الْآيَة. وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هُوَ النَّفس الدَّاخِل من الْخَارِج، قَالَ: وَقيل: هُوَ جسم لطيف يُشَارك الْأَجْسَام الظَّاهِرَة والأعضاء الظَّاهِرَة، وَقَالَ بَعضهم: لَا يعلمهَا إلاَّ الله تَعَالَى، وَقَالَ الْجُمْهُور: هِيَ مَعْلُومَة، وَقيل: هِيَ الدَّم، وَقيل: هِيَ نور من نور الله وحياة من حَيَاته، وَقيل: هِيَ أَمر من أَمر الله عز وَجل، أخْفى حَقِيقَتهَا وَعلمهَا على الْخلق. وَقيل: هِيَ روحانية خلقت من الملكوت فَإِذا صفت رجعت إِلَى الملكوت، وَقيل: الرّوح روحان روح اللاهوتية وروح الناسوتية، وَقيل: الرّوح نورية وروحانية وملكوتية إِذا كَانَت صَافِيَة، وَقيل: الرّوح لاهوتية، وَالنَّفس أرضية طينية نارية، وَقيل: الرّوح استنشاق الْهَوَاء، وَقَالَت عَامَّة الْمُعْتَزلَة: إِنَّهَا عرض، وَأغْرب ابْن الراوندي، فَقَالَ: إِنَّهَا جسم لطيف يسكن الْبدن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْمُخْتَار أَنه جسم لطيف تُوجد بِهِ الْحَيَاة، وَقيل: الْأَرْوَاح على صور الْخلق لَهَا أيد وأرجل وَسمع وبصر.
ثمَّ أعلم أَن أَرْوَاح الْخلق كلهَا مخلوقة وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والأثر، وَاخْتلفُوا: هَل تَمُوت بِمَوْت الْأَبدَان والأنفس أَو لَا تَمُوت؟ فَقَالَت طَائِفَة: لَا تَمُوت وَلَا تبلى، وَقَالَ بَعضهم: تَمُوت وَلَا تبلى وتبلى الْأَبدَان، وَقيل: الْأَرْوَاح تعذب كَمَا تعذب الْأَجْسَام، وَقَالَ بَعضهم: تعذب الْأَرْوَاح والأبدان جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ تنعم، وَقَالَ بَعضهم: الْأَرْوَاح تبْعَث يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهَا من حكم السَّمَاء وَلَا تبْعَث الْأَبدَان لِأَنَّهَا من الأَرْض خلقت، وَهَذَا مُخَالف للْكتاب والأثر وأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَقَالَ بَعضهم: نبعث الْأَرْوَاح يَوْم الْقِيَامَة وينشىء الله عز وَجل لَهَا أجساماً من الْجنَّة، وَهَذَا أَيْضا مُخَالف لما ذكرنَا، وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي الرّوح وَالنَّفس، فَقَالَ أهل الْأَثر: الرّوح غير النَّفس، وقوام النَّفس بِالروحِ، وَالنَّفس تُرِيدُ الدُّنْيَا وَالروح تَدْعُو إِلَى الْآخِرَة وتؤثرها، وَقد جعل الْهوى تبعا للنَّفس والشيطان مَعَ النَّفس والهوى، وَالْملك مَعَ الْعقل وَالروح، وَقيل: الْأَرْوَاح تتناسخ وتنتقل من جسم إِلَى جسم، وَهَذَا فَاسد، وَهُوَ شَرّ الْأَقَاوِيل وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الرّوح المسؤول عَنهُ فِي الْآيَة: مَا هُوَ؟ فَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: هُوَ ملك من الْمَلَائِكَة لَهُ سَبْعُونَ ألف رَأس، فِي كل رَأس سَبْعُونَ ألف وَجه، لكل وَجه مِنْهَا سَبْعُونَ ألف فَم، فِي كل فَم سَبْعُونَ ألف لِسَان لكل لِسَان مِنْهَا سَبْعُونَ ألف لُغَة، يسبح الله تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَات كلهَا، يخلق من كل تَسْبِيحَة ملك يطير مَعَ الْمَلَائِكَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: الرّوح ضرب من الْمَلَائِكَة خلق الله صورهم على صور بني آدم لَهُم أيد وأرجل ورؤوس، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَأبي صَالح وَالْأَعْمَش، وَذكر أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، مَوْقُوفا عَلَيْهِ، قَالَ: الرّوح ملك عَظِيم أعظم من السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال وَالْمَلَائِكَة، وَهُوَ فِي السَّمَاء الرَّابِعَة يسبح كل يَوْم إثني عشر ألف تَسْبِيحَة، يخلق من كل تَسْبِيحَة ملك يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة صفا وَاحِدًا وَحده الْمَلَائِكَة بأسرهم يجيئون صفا وَقيل: المُرَاد بِهِ بَنو آدم، قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَقَتَادَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الَّذِي ينزل لَيْلَة الْقدر زعيم الْمَلَائِكَة وَبِيَدِهِ لِوَاء طوله ألف عَام، فيغرزه على ظهر الْكَعْبَة، وَلَو أذن الله لَهُ أَن يلتقم السَّمَوَات وَالْأَرْض لفعل.
وَعَن سعيد بن جُبَير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الرّوح، وَمن عَظمته لَو أَرَادَ أَن يبلع السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرضين السَّبع وَمن فيهمَا لقْمَة وَاحِدَة لفعل، صُورَة خلقه على صُورَة الْمَلَائِكَة، وَصُورَة وَجهه على صُورَة وَجه الْآدَمِيّين، فَيقوم يَوْم الْقِيَامَة عَن يَمِين الْعَرْش وَالْمَلَائِكَة مَعَه فِي صفة، وَهُوَ أقرب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى الْيَوْم عِنْد الْحجب السّبْعين، وَهُوَ مِمَّن يشفع لأهل التَّوْحِيد، وَلَوْلَا أَن

(19/33)


بَينه وَبَين الْمَلَائِكَة سترا من نور لاحترق أهل السَّمَوَات من نوره، وَقَالَ قوم هُوَ الْمركب فِي الْخلق الَّذِي بفقده فناؤهم وهم وبوجوده بقاؤهم، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِالروحِ الْقُرْآن، وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين قَالُوا: يَا مُحَمَّد من أَتَاك بِهَذَا الْقُرْآن؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَبَين أَنه من عِنْده.

1274 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِياثٍ حدَّثنا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ حدّثني إبْراهِيمُ عنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنا أَنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَرْثٍ وهْوَ مُتَّكِىءٌ عَلَى عَصِيبٍ إذْ مرَّ اليَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عنِ الرُّوحِ فَقَالَ مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيءٍ تَكْرَهُونَهُ فقالُوا سَلُوهُ فَسألُوهُ عنِ الرُّوحِ فَأمْسَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئاً فَعَلِمْتُ أنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ فَقُمْتُ مَقامِي فَلَمَّا نَزَلَ الوحْيُ قَالَ: {ويَسْألُونَكَ عنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً} (الْإِسْرَاء: 58) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن قيس النَّخعِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْعلم عَن قيس بن حَفْص، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن يحيى عَن وَكِيع وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عمر بن حَفْص وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حشرم بِهِ.
قَوْله: (بَينا أَنا) . قد مر غير مرّة أَن: بَين، زيدت فِيهِ الْألف ويضاف إِلَى جملَة وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب وَهُوَ قَوْله: (إِذْ مر الْيَهُود) . قَوْله: (فِي حرث) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء والثاء الْمُثَلَّثَة، وَوَقع فِي كتاب الْعلم من وَجه آخر فِي: خرب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ: كَانَ فِي نخل، وَزَاد فِي رِوَايَة الْعلم: بِالْمَدِينَةِ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه عَن الْأَعْمَش: فِي حرث الْأَنْصَار. قَوْله: (وَهُوَ متكىء) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، ويروى: وَهُوَ يتَوَكَّأ، أَي: يعْتَمد. قَوْله: (عسيب) ، بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ الجريدة الَّتِي لَا خوص فِيهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن حبَان: وَمَعَهُ جَرِيدَة. قَوْله: (الْيَهُود) ، بِالرَّفْع على الفاعلية، وَوَقع فِي بَقِيَّة رِوَايَات البُخَارِيّ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن: إِذْ مر بِنَفر من الْيَهُود، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن الْأَعْمَش: إِذْ مَرَرْنَا على يهود، وَالْيَهُود تَارَة بِالْألف وَتارَة يجرد عَنْهَا وَهُوَ جمع يَهُودِيّ. قَوْله: (مَا رابكم إِلَيْهِ) ، كَذَا بِصِيغَة الْفِعْل الْمَاضِي فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من الريب، وَيُقَال: رابه كَذَا، وأرا بِهِ كَذَا، بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده بِهَمْزَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة: من الرأب، وَهُوَ الْإِصْلَاح، فَيُقَال فِيهِ: رأب بَين الْقَوْم إِذا أصلح بَينهم، وَقَالَ الْخطابِيّ: الصَّوَاب مَا أربكم؟ بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء، أَي: مَا حَاجَتكُمْ؟ قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: مَا رَأْيكُمْ، أَي: فكركم. قَوْله: (لَا يستقبلكم بِشَيْء) ، بِالرَّفْع، وَقَالَ بَعضهم: وَيجوز السّكُون وَالنّصب قلت: السّكُون ظَاهر لِأَنَّهُ يكون فِي صُورَة النَّهْي، وَأما النصب فَلَيْسَ لَهُ وَجه، وَفِي رِوَايَة الْعلم: لَا يَجِيء فِيهِ بِشَيْء تكرهونه، وَفِي الِاعْتِصَام: لَا يسمعكم مَا تكرهونه. قَوْله: (سلوه) أَصله: سَأَلُوهُ، وَفِي رِوَايَة التَّوْحِيد لنسألنه وَاللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف. قَوْله: (فَسَأَلُوهُ عَن الرّوح) ، ويروى: فِي التَّوْحِيد، فَقَامَ رجل مِنْهُم فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِم مَا الرّوح وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ، فَقَالُوا: أخبرنَا عَن الرّوح. قَوْله: (فَلم يرد عَلَيْهِم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَلم يرد عَلَيْهِ بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (فَعلمت أَنه يُوحى إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة: فَظَنَنْت أَنه يُوحى إِلَيْهِ، وَفِي الِاعْتِصَام: فَقلت: إِنَّه يُوحى إِلَيْهِ. قَوْله: (فَقُمْت مقَامي) ، وَفِي رِوَايَة الِاعْتِصَام: فتأخرت عَنهُ. قَوْله: (فَلَمَّا نزل الْوَحْي) ، وَفِي رِوَايَة الِاعْتِصَام: حَتَّى صعد الْوَحْي، وَفِي رِوَايَة الْعلم: فَقُمْت فَلَمَّا انجلى. قَوْله: (من أَمر رَبِّي) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: يحْتَمل أَن يكون جَوَابا، وَأَن الرّوح من أَمر الله تَعَالَى، يَعْنِي: من جملَة أَمر الله، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: أَن الله اخْتصَّ بِعِلْمِهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَمَا أُوتِيتُمْ) ، كَذَا للكشميهني هُنَا، وَكَذَا: الْهم، فِي الِاعْتِصَام،

(19/34)


ولغير الْكشميهني هُنَا {وَمَا أُوتُوا} وَكَذَا لَهُم فِي الْعلم. قَوْله: (إلاَّ قَلِيلا) ، الِاسْتِثْنَاء من الْعلم أَي: إِلَّا علما قَلِيلا. أَو من الْإِعْطَاء، أَي إلاَّ إِعْطَاء قَلِيلا، أَو من ضمير الْمُخَاطب أَو الْغَائِب على الْقِرَاءَتَيْن، أَي: إلاَّ قَلِيلا مِنْكُم أَو مِنْهُم.

41 - (بابٌ: {ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخافِتْ بِها} (الْإِسْرَاء: 011)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا تجْهر} الْآيَة، وَلَيْسَ لغير أبي ذَر لفظ: بَاب، وَفِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا ذكره البُخَارِيّ، وَيَأْتِي الْآن. الثَّانِي: عَن سعيد بن جُبَير: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجْهر بِقِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، فَقَالَت قُرَيْش: لَا تجْهر بِالْقِرَاءَةِ فتؤذي آلِهَتنَا، فنهجو رَبك، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة. الثَّالِث: قَالَ الواحدي: كَانَ الْأَعرَابِي يجْهر فَيَقُول التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات، يرفع بهَا صَوته، فَنزلت هَذِه الْآيَة. الرَّابِع: قَالَ عبد الله بن شَدَّاد: كَانَت أَعْرَاب بني تَمِيم إِذا سلم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. من صلَاته قَالُوا: اللَّهُمَّ ارزقنا مَالا وَولدا، ويجهرون، فَنزلت هَذِه الْآيَة. الْخَامِس: عَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه عَنهُ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي الدُّعَاء، وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِيهِ.

3274 - حدَّثني طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ حدّثنا زَائِدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ أُنْزِلَ ذالِكَ فِي الدُّعاءِ.
(طلق بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون اللَّام وَالْقَاف: ابْن غَنَّام، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: أَبُو مُحَمَّد النَّخعِيّ الْكُوفِي، من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، وَرِوَايَته عَنهُ فِي هَذَا الْكتاب قَليلَة، مَاتَ فِي رَجَب سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وزائدة هُوَ ابْن قدامَة هُوَ هِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. والْحَدِيث من إِفْرَاده.
قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى قَوْله: {وَلَا تجْهر بصلاتك} قَوْله: فِي الدُّعَاء، أما من إِرَادَة مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ أَو إِرَادَة الْجُزْء لِأَن الدُّعَاء جُزْء من الصَّلَاة، وَقيل: سمت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، الصَّلَاة دُعَاء لِأَنَّهَا فِي الأَصْل دُعَاء، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس مثل مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث أَشْعَث عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلَا تجْهر بصلاتك} فِي الدُّعَاء، وروى أَيْضا بِسَنَد صَحِيح إِلَى دراج عَن أَنْصَارِي لَهُ صُحْبَة: أَن رَسُول الله

(19/35)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي الدُّعَاء، وَمن حَدِيث ابْن إِبْرَاهِيم الهجري عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي هُرَيْرَة: {وَلَا تجْهر بصلاتك} (الْإِسْرَاء: 011) نزلت فِي الدُّعَاء وَالْمَسْأَلَة، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.

(سُورَةُ الكَهْفِ)
أَي: هَذَا فِي بَيَان بعض تَفْسِير سُورَة الْكَهْف، ذكر ابْن مرديه أَن ابْن عَبَّاس، وَعبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنْهُم، قَالَا: إِنَّهَا مَكِّيَّة، وَعَن الْقُرْطُبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: مَكِّيَّة إلاَّ قَوْله: {واصبر نَفسك} (الْكَهْف: 82) فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَفِي: {مقامات التَّنْزِيل} : فِيهَا ثَلَاث آيَات مدنيات: قَوْله: {واصبر نَفسك} ، وَقَوله: {ويسألونك عَن ذِي القرنين} (الْكَهْف: 38) ، وَهِي سِتَّة آلَاف وثلاثمائة وَسِتُّونَ حرفا، وَألف وَخَمْسمِائة وَسبع وَسَبْعُونَ كلمة، وَمِائَة وَعشر آيَات.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}

ثبتَتْ الْبَسْمَلَة للأكثرين إلاَّ لأبي ذَر فَإِنَّهَا لم تثبت.
وَقَالَ مُجاهِدٌ تَقْرِضُهُمْ تَتْرُكُهُمْ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: (وَإِذا غربت تقرضهم ذَات الشمَال) (الْكَهْف: 71) وَفسّر مُجَاهِد: (تقرضهم) بقوله: (تتركهم) هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج بن حَمْزَة: حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، فَذكره. وَعَن ابْن عَبَّاس: تقرضهم تَدعهُمْ، وَعَن مقَاتل: تتجاوزهم أصل الْقَرْض الْقطع.
{وكانَ لَهُ ثُمُرٌ ذَهَبٌ وفِضَّةٌ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وفجرنا خلالهما نَهرا وَكَانَ لَهُ ثَمَر} (الْكَهْف: 33) الْآيَة، وَفسّر الثَّمر، بِضَم الثَّاء: بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَهَذَا من تَتِمَّة قَول مُجَاهِد، وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن جريج عَنهُ. وَأخرج الْفراء من وَجه آخر عَن مُجَاهِد، قَالَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآن ثَمَر بِالضَّمِّ فَهُوَ المَال، وَمَا كَانَ بِالْفَتْح فَهُوَ النَّبَات.
{وَقَالَ غَيْرُهُ جَماعَةُ الثَّمَر}
قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ عَنى بِهِ قَتَادَة. قلت: الَّذِي قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) جمَاعَة هُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (جمَاعَة) أَي: جُمُعَة، أَي جمع الثَّمر، بِالْفَتْح الثَّمر بِضَمَّتَيْنِ، وَقيل: إِن الثَّمَرَة تجمع على ثمار، وَالثِّمَار تجمع على ثَمَر، فَيكون الثَّمر جمع الْجمع.
{باخِعٌ مُهْلِكٌ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فلعلك باخع نَفسك على آثَارهم} (الْكَهْف: 6) الْآيَة. وَفسّر باخع، بقوله: مهلك، وَبِه فسر أَبُو عُبَيْدَة.
{أسَفاً نَدَماً}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث أسفا} (الْكَهْف: 6) ، وَفسّر: أسفا بقوله: (ندماً) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن قَتَادَة: أسفا حزنا، وَأَرَادَ بِالْحَدِيثِ الْقُرْآن.
{الكَهْفُ الفَتْحُ فِي الجَبَلِ} أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم حسبت أَن أَصْحَاب الْكَهْف والرقيم} (الْكَهْف: 9) وَفسّر (الْكَهْف) بقوله: (الْفَتْح فِي الْجَبَل) ، وَيُقَال: الْكَهْف الْغَار فِي الْجَبَل.
{والرَّقيمُ الكِتابُ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ}

اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الرقيم، فَقيل: هُوَ الطاق فِي الْجَبَل، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ وَاد بَين أَيْلَة وَعُسْفَان، وأيلة دون فلسطين وَهُوَ الْوَادي الَّذِي فِيهِ أَصْحَاب الْكَهْف، وَقَالَ كَعْب: هُوَ قريتهم، فعلى هَذَا التَّأْوِيل من رقمة الْوَادي، وَهُوَ مَوضِع المَاء مِنْهُ، وَعَن سعيد بن جُبَير: الرقيم لوح من حِجَارَة، وَقيل: من رصاص كتبُوا فِيهِ أَسمَاء أَصْحَاب الْكَهْف وقصصهم ثمَّ وضعوه على بَاب الْكَهْف، فعلى هَذَا الرقيم بِمَعْنى المرقوم، أَي: الْمَكْتُوب، والرقم الْخط والعلامة، والرقم الْكِتَابَة.
{رَبَطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ ألْهَمْناهُمْ صَبْراً}

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وربطنا على قُلُوبهم إِذْ قَامُوا} وَفسّر: ربطنا قَوْله: ألهمناهم صبرا. وَفِي التَّفْسِير: شددنا على قُلُوبهم بِالصبرِ وألهمناهم ذَلِك وقويناهم بِنور الْإِيمَان حَتَّى صَبَرُوا على هجران دَار قَومهمْ وفراق مَا كَانُوا فِيهِ من خفض الْعَيْش.

(19/36)


{لَوْلاَ أنْ رَبَطْنا عَلَى قَلْبِها}

هَذَا فِي تَفْسِير سشورة الْقَصَص، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا لتَكون من الْمُؤمنِينَ} (الْقَصَص: 01) ذكره هُنَا اسْتِطْرَادًا لِأَنَّهُ من مَادَّة: ربطنا على قُلُوبهم، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة: لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا بِالْإِيمَان.
{شَطَطاً: إفْرَاطاً}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لن نَدْعُو من دونه إل هَا لقد قُلْنَا إِذا شططا} (الْكَهْف: 41) ، وَفسّر: (شططاً) بقوله: (إفراطاً) وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُقَاتِل: جوراً وَعَن قَتَادَة: كذبا وأصل الشطط مُجَاوزَة الْقدر والإفراط.
الوَصِيدُ الفِناءُ جَمْعُهُ وصائِدُ ووُصُدُ ويُقالُ الوَصِيدُ البابُ مُؤْصَدَة مُطْبَقَةٌ آصَدَ البابَ وأوْصَدَ.

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكلبهم باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} (الْكَهْف: 81) وَفَسرهُ (بالفناء) بِكَسْر الْفَاء وَهُوَ سَعَة أَمَام الْبيُوت، وَقيل: مَا امْتَدَّ من جوانبها. قَوْله: (وَيُقَال الوصيد الْبَاب) ، وَرُوِيَ كَذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَهُ السّديّ أَيْضا، وَعَن عَطاء: الوصيد عتبَة الْبَاب. قَوْله: (مؤصدة: مطبقة) ذكره اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} (الْهمزَة: 8) يَعْنِي: إِن النَّار عَلَيْهِم أَي على الْكَافرين مؤصدة، أَي مطبقة، قَالَه الْكَلْبِيّ، واشتقاقه من آصد يوصد أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (آصد الْبَاب) بِمد الْهمزَة أَي: أطبقه، وَكَذَلِكَ (أوصد) .
{بَعَثْناهُمْ أحْيَيْناهُمْ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ بعثناهم لنعلم أَي الحزبين أحصى لما لَبِثُوا أمداً} (الْكَهْف: 21) وَإِلَى قَوْله تَعَالَى أَيْضا: {وَكَذَلِكَ بعثناهم ليتساءلوا} (الْكَهْف: 91) الْآيَة، وَفِي التَّفْسِير قَوْله: (ثمَّ بعثناهم) يَعْنِي: من نومهم، وَذَلِكَ حِين تنَازع الْمُسلمُونَ الْأَولونَ أَصْحَاب الْكَهْف والمسلمون الْآخرُونَ الَّذين أَسْلمُوا حِين رَأَوْا أَصْحَاب الْكَهْف فِي قدر مُدَّة لبثهم فِي الْكَهْف، فَقَالَ الْمُسلمُونَ الْأَولونَ: مَكَثُوا فِي الْكَهْف ثَلَاثمِائَة وتسع سِنِين، وَقَالَ الْمُسلمُونَ الْآخرُونَ: بل مَكَثُوا كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الْآخرُونَ: الله أعلم بِمَا لَبِثُوا، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ بعثناهم لنعلم} قَوْله: (أحصى) أَي: أحفظ فِي الْعد. قَوْله: (لما لَبِثُوا) أَي: لما مَكَثُوا فِي كهفهم نياماً. قَوْله: (أمداً) أَي: غَايَة، وَعَن مُجَاهِد عددا، وَكَذَلِكَ بعثناهم يَعْنِي: كَمَا امتناهم فِي الْكَهْف ومنعناهم من الْوُصُول إِلَيْهِم وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزَّمَان وثيابهم من العفن، كَذَلِك بعثناهم من النومة الَّتِي تشبه الْمَوْت.
أزْكَى أكْثَرُ ويُقالُ أحَلُّ ويُقالُ أكثَرُ رَيْعاً: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أكْلَها

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلْينْظر أَيهَا أزكى طَعَاما} (الْكَهْف: 91) وَفسّر أزكى بقوله: أَكثر، وَكَذَا فسره عِكْرِمَة، وَأَصله من الزَّكَاة وَهِي الزِّيَادَة والنماء. قَوْله: (وَيُقَال: أحل) ، أَي: أحل ذَبِيحَة، قَالَه ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير لِأَن عامتهم كَانُوا مجوساً وَفِيه قوم مُؤمنُونَ يخفون إِيمَانهم. قَوْله: (وَيُقَال: أَكثر ريعاً) أَي: معنى أزكى أَكثر ريعاً، والريع الزِّيَادَة والنماء على الأَصْل، قَالَه ابْن الْأَثِير. قَوْله: (وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أكلهَا) أَي: أزكى أكلهَا، أَي: أطيب أكلهَا، والمعاني الْمَذْكُورَة مُتَقَارِبَة.
ولَمْ تَظْلِمْ لَمْ تَنْقُصْ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلتا الجنتين آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا} (الْكَهْف: 33) وَفسّر قَوْله: (لم تظلم) بقوله: (لم تنقص) وَهَذَا من تَفْسِير ابْن عَبَّاس رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حَدثنَا هِشَام بن يُوسُف عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ سَعِيدٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ الرَّقِيمُ اللَّوْحُ مِنْ رصاصٍ كَتَبَ عامِلُهُمْ أسْماءَهُمْ ثمَّ طَرَحَهُ فِي خِزانَتِهِ

لَا يُوجد هَذَا فِي كثير من النّسخ وَمَعَ هَذَا لَو كَانَ ذكر عِنْد قَوْله: (والرقيم) الْكتاب مرقوم مَكْتُوب من الرقم لَكَانَ أوجه وَأقرب، وَسَعِيد هُوَ ابْن جُبَير، وروى هَذَا التَّعْلِيق ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ عَن أبي عبيد: حَدثنَا سُفْيَان بن حُسَيْن عَن يعلى بن مُسلم عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ إِن الْفتية طلبُوا فَلم يجدوهم، فَرفع ذَلِك إِلَى الْملك فَقَالَ: لَيَكُونن لهَؤُلَاء شَأْن، فدعى بلوح من رصاص فَكتب أَسْمَاءَهُم فِيهِ وَطَرحه فِي خزانته، قَالَ: فالرقيم هُوَ اللَّوْح الَّذِي كتبُوا فِيهِ.

(19/37)


{فَضرب الله على آذانهم فَنَامُوا} هَذِه إشاءة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فضربنا على آذانهم فِي الْكَهْف سِنِين عددا} (الْكَهْف: 11) هَذَا من فصيحات الْقُرْآن الَّتِي أقرَّت الْعَرَب بالقصور عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ، وَمَعْنَاهُ: أنمناهم وسلطنا عَلَيْهِم النّوم، كَمَا يُقَال: ضرب الله فلَانا بالفالج، أَي: ابتلاه بِهِ وأرسله عَلَيْهِ، وَقيل: مَعْنَاهُ حجبناهم عَن السّمع وسددها نُفُوذ الصَّوْت إِلَى مسامعهم، وَهَذَا وصف الْأَمْوَات والنيام.
وَقَالَ غَيْرُهُ وألَتْ تَثِلُ تَنْجُو: وَقَالَ مُجاهِدٌ مَوْئلاً مَحْرِزاً

أَي: وَقَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {بل لَهُم موعد لن يَجدوا من دونه موئلاً} (الْكَهْف: 85) أَرَادَ أَن لفظ موئلاً مُشْتَقّ من: (وألت تئل) من بَاب فعل يفعل بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي وَكسرهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وَمعنى: (تئل تنجو) وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وأل إِلَيْهِ يئل وَألا ووؤلاً على فعول، أَي: لَجأ، والموئل الملجأ. قَوْله: (وَقَالَ مُجَاهِد موئلاً محرزا) يَعْنِي مَعْنَاهُ: محرزا، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ ملْجأ وَرجح ابْن قُتَيْبَة هَذَا الْمَعْنى.
لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً لاَ يَعْقِلُونَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} وَفسّر قَوْله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا) بقوله: (لَا يعْقلُونَ) وَفِي التَّفْسِير وصف الله الْكَافرين بقوله: الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء. أَي: غشاء وغفلة عَن ذكري، أَي: عَن الْإِيمَان وَالْقُرْآن لَا يَسْتَطِيعُونَ أَي: لَا يُطِيقُونَ أَن يسمعوا كتاب الله عز وَجل ويتدبرونه ويؤمنون بِهِ لغَلَبَة الشَّقَاء عَلَيْهِم، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.

1 - (بابُ قوْلِهِ عَزّ وجَلَّ: {وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الْكَهْف: 45)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلاً} أَي: خُصُومَة فِي الْبَاطِل، نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث وَكَانَ جداله فِي الْقُرْآن، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل: فِي أبي بن خلف وَكَانَ جداله فِي الْبَعْث.

4274 - حدَّثنا عليُّ بن عبْدِ الله حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بن سَعْدٍ حدَّثنا أبي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَني عليُّ بنُ حُسَيْنٍ أنَّ حُسَيْنَ بنَ علِيّ أخبرَهُ عنْ عليّ رَضِي الله عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَرَقَهُ وفاطِمَةَ قَالَ ألاَ تُصَلِّيانِ.
هَذَا الحَدِيث ذكره هُنَا مُخْتَصرا. وَقد مضى بأتم مِنْهُ فِي الصَّلَاة فِي: بَاب تحريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قيام اللَّيْل، وَفِي آخِره: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلاً} وَهَذَا هُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة وَإِن لم يذكر صَرِيحًا.
وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَدِينِيّ، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعلي بن حُسَيْن هُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، سمع أَبَاهُ وَمضى الْكَلَام فِي الحَدِيث هُنَاكَ، قَوْله: (طرقه) أَي: أَتَاهُ لَيْلًا.
رَجْماً بالغَيْبِ لَمْ يَسْتَبِنْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ خَمْسَة سادسهم كلبهم رجماً بِالْغَيْبِ} (الْكَهْف: 22) وَفَسرهُ بقوله: (لم يستبن) وَقيل: قذفا بِالظَّنِّ من غير يَقِين وَهَذَا لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ أمره فرطا} (الْكَهْف: 82) نزلت فِي عُيَيْنَة بن حُصَيْن بن بدر الْفَزارِيّ قبل أَن يسلم، قَالَه ابْن جريج، وَفسّر قَوْله: فرطا بقوله: ندماً وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد فِي قَوْله: (فرطا) أَي: ندامة، وَعَن أبي عُبَيْدَة تضييعاً وإسرافاً، وَعَن مُجَاهِد: ضيَاعًا، وَعَن السّديّ إهلاكاً.
سُرَادِقُها

(19/38)


مِثْلُ السُّرَادِقِ والحُجْرَةِ الَّتي تُطِيفُ بالْفَساطِيطِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا اعتدنا للظالمين نَارا أحَاط بهم سرادقها} (الْكَهْف: 92) وَالضَّمِير فِي سرادقها يرجع إِلَى النَّار، وَالْمعْنَى أَن سرادق النَّار مثل السرادق، والحجرة الَّتِي تطيف أَي تحيط بالفساطيط وَهُوَ جمع فسطاط وَهِي الْخَيْمَة الْعَظِيمَة، والسرادق هُوَ الَّذِي يمد فَوق صحن الدَّار ويطيف بِهِ ويقاربه. وَفِي التَّفْسِير عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: سرادق النَّار أَربع جدر كتف كل وَاحِدَة مسيرَة أَرْبَعِينَ سنة. وَعَن ابْن عَبَّاس: السرادق حَائِط من نَار، وَعَن الْكَلْبِيّ: هُوَ عنق يخرج من النَّار فيحيط بالكفار كالحظيرة، وَعَن القتبي: السرادق الْحُجْرَة الَّتِي تكون حول الْفسْطَاط، وَهُوَ هُنَا دُخان مُحِيط بالكفار يَوْم الْقِيَامَة.
يُحاوِرُهُ مِنَ المُحاوَرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَر فَقَالَ لصَاحبه وَهُوَ يحاوره} (الْكَهْف: 43) الْآيَة قَوْله: (من المحاورة) يَعْنِي: لفظ (يحاوره) مُشْتَقّ من المحاورة وَهِي الْمُرَاجَعَة، وَفِي التَّفْسِير: يحاوره، أَي: يجاوبه.
لاكِنّا هُوَ الله رَبِّي أيْ لَكِنْ أَنا هُوَ الله رَبِّي ثُمَّ حَذَفَ الألِفَ وأدْغَمَ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الأخْرَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لكنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلَا أشرك بربي أحدا} (الْكَهْف: 83) هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ تصرف عَامَّة النَّحْوِيين، وَهُوَ حذف همزَة، أَنا طلبا للخفة لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله وإدغام إِحْدَى النونين فِي الْأُخْرَى، وَعَن الْكسَائي: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازه، لَكِن هُوَ الله رَبِّي.
{وفَجَّرْنا خلالَهُما نَهَراً يَقُولُ بَيْنَهُما}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلتا الجنتين آتت أكلهَا وَلم تظلم مِنْهُ شَيْئا وفجرنا خلالهما نَهرا وَكَانَ لَهُ ثَمَر} (الْكَهْف: 33 43) الْآيَة، وَفسّر قَوْله: (خلالهما) بقوله: (بَينهمَا) وَفِي التَّفْسِير: وفجرنا خلالهما، يَعْنِي: شققنا وسطهما نَهرا، وَفِي بعض النّسخ: وَقع هَذَا مقدما، وَثَبت لأبي ذَر.
زَلَقاً لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَتُصْبِح صَعِيدا زلقاً} (الْكَهْف: 04) وَفَسرهُ بقوله: لَا تثبت فِيهِ قدم. وَفِي التَّفْسِير {صَعِيدا زلقاً} يَعْنِي: صَعِيدا أملس لَا نَبَات عَلَيْهِ، وَعَن مُجَاهِد: رملاً هائلاً وتراباً.
هُنالِكَ الوَلايَةُ مَصْدَرُ الوَلِيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ منتصراً هُنَالك الْولَايَة لله الْحق} الْآيَة. قَوْله: (الْولَايَة) ، بِفَتْح الْوَاو فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْولَايَة بِالْفَتْح النُّصْرَة، والتولي، وبالكسر: السُّلْطَان وَالْملك، وَقد قرىء بهما. قَوْله: (مصدر الْوَلِيّ) ، ويروى: مصدر ولي بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر مصدر ولي الْمولى. وَلَاء وَالْأول هُوَ الأصوب. قَوْله: (هُنَالك) أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي التَّفْسِير: هُنَالك يتولون الله تَعَالَى ويتبرؤون مِمَّا كَانُوا يعبدونه.
عُقُباً عاقِبَةٌ وعقبى وعُقْبَةٌ واحِدٌ وهْيَ الآخِرَةُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ خير ثَوابًا وَخير عقباً} (الْكَهْف: 44) وَفسّر بقوله: (عَاقِبَة) ، ثمَّ قَالَ: (الْعَاقِبَة وعقبى وَعقبَة) بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: هَذَا عقب أَمر كَذَا وعقباه وعاقبته، أَي: آخِره، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: عَاقِبَة كل شَيْء آخِره.
قِبِلاً وقُبُلاً وقَبَلاً اسْتِئْنافاً

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب قُبُلاً} (الْكَهْف: 55) وقبلاً وقبلاً. الأول: بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء، الثَّانِي: بِضَمَّتَيْنِ، وَالثَّالِث: بِفتْحَتَيْنِ، وَفسّر ذَلِك كُله بقوله: استئنافاً يَعْنِي اسْتِقْبَالًا، وَفِي التَّفْسِير: أَي عيَانًا، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ السَّيْف يَوْم بدر، وَقَالَ مقَاتل: فَجْأَة، وَمن قَرَأَ بِضَمَّتَيْنِ أَرَادَ أَصْنَاف الْعَذَاب.
لِيُدْحِضُوا لِيُزِيلوا الدَّحَضُ الزَّلَقُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويجادل الَّذين كفرُوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق} (الْكَهْف: 65) وَفسّر: ليدحضوا بقوله: (ليزيلوا) من الدخض وَهُوَ الزلق، يُقَال: دحضت رجله إِذا زلقت، وَعَن السّديّ: مَعْنَاهُ ليفسدوا، وَقيل: ليبطلوا بِهِ الْحق.

(19/39)


2 - (بابٌ: {وإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتاهُ لَا أبْرَحُ حَتَّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضَى حُقُباً} (الْكَهْف: 06) زَماناً وجَمْعُهُ أحْقابٌ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى} أَي: أذكر حِين قَالَ مُوسَى، هُوَ ابْن عمرَان (لفتاه) أَي: لصَاحبه يُوشَع بن نون، قيل: كَانَ مَعَه فِي سَفَره، وَقيل: فتاه عَبده ومملوكه. قَوْله: (لَا أَبْرَح) أَي: لَا أَزَال أَسِير (حَتَّى أبلغ مجمع الْبَحْرين) بَحر فَارس وَالروم مِمَّا يَلِي الْمشرق، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب: بطبخه، وَعَن أبي بن كَعْب. بأفريقية، وَقيل: هما بَحر الْأُرْدُن والقلزم، وَعَن ابْن الْمُبَارك: قَالَ بَعضهم: بَحر أرمينية، وَعَن السّديّ: هما الْكر والرش حَيْثُ يصبَّانِ فِي الْبَحْر. قَوْله: (أَو أمضى حقباً) . أَي: أمضى زَمَانا طَويلا، وَعَن قَتَادَة: الحقب الزَّمَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: الحقب الدَّهْر، وَعَن سعيد بن جُبَير: الحقب الْحِين، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: إِنَّه ثَمَانُون سنة، وَعَن مُجَاهِد سَبْعُونَ سنة. (وَجمعه) أَي: وَجمع الحقب (أحقاب) .

5274 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيانُ حَدثنَا عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قَالَ أخْبَرَني سعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ إنَّ نَوْفاً البَكالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى صاحِبَ الخَضِيرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صاحِبَ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ ابنُ عبّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ الله حَدثنِي أُبيُّ بنُ كَعْبٍ أنّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ مُوسَى قامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أيُّ النّاسِ أعْلَمُ فَقَالَ أَنا فَعَتَبَ الله عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ فأوْحَى الله إلَيْهِ إنَّ لِي عَبْداً بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تأخُذُ مَعَكَ حُوتاً فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُما فَقَدْتَ الحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ فأخَذَ حُوتاً فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ فتاهُ يُوشَعَ بنِ نُونٍ حَتّى إِذا أتَيا الصَّخْرَةَ وضَعا رُؤُوسَهُما فَناما واضْطَرَبَ الحُوتُ فِي المِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي البَحْر فاتخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً وأمْسَكَ الله عنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صاحِبُهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ فانْطَلَقا بَقِيَّةَ يَوْمِهِما ولَيْلَتِهِما حَتَّى إِذا كانَ مِنَ الغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتاهُ آتِنا غَدَاءَنا لَقَدْ لقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قَالَ ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جاوَزَ المَكانَ الّذي أمَرَ الله بِهِ فَقَالَ لهُ فَتاهُ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسانِيهُ إلاَّ الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَباً قَالَ فكانَ لِلْحُوتِ سَرَباً ولِمُوسَى ولِفَتاهُ عَجَباً فَقَالَ مُوسَى ذالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فارْتَدَّا عَلَى آثارِهِما قَصَصاً: قَالَ رَجعَا يَقُصّانِ آثارَهُما حَتَّى انْتَهَيْنا إِلَى الصخْرَةِ فإذَا رجُلٌ مُسَجَّى ثَوْباً فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى فَقَالَ الخَضِرُ وأنَّى بأرْضِكَ السّلاَمُ قَالَ أَنا مُوسَى قَالَ مُوسَى بَني إسْرائِيلَ قَالَ نَعَمْ أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَداً قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمِ مِنْ عِلْمِ الله عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أنْتَ وأنْتَ عَلَى عِلْمِ مِنْ عِلْمِ الله عَلَّمَكَ الله لَا أعْلَمُهُ فَقَالَ مُوسَى سَتَجِدُني إنْ شاءَ الله صابِراً وَلَا أعْصِي لَكَ أمْراً فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ فإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فانْطَلَقا يَمْشِيانِ عَلَى ساحِلِ البَحْرِ فَمَرَّتْ سفِينَةٌ فكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الخَضرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمّا رَكِبا فِي

(19/40)


السّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأ إلاّ والخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحاً مِنْ ألْواحِ السّفِينَةِ بالْقَدُومِ فَقَالَ لهُ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلونا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَها لتُغْرِقَ أهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً قَالَ ألَمْ أقُلْ إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْراً: قَالَ وَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْياناً قَالَ وجاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حرْف السّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي البَحْرِ نَقْرَةً فقالَ لَهُ الخَضِرُ مَا عِلْمي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله إلاّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هاذا العُصْفُورِ مِنْ هاذا البَحْرِ ثُمَّ خَرَجا مِنَ السَّفِينَةِ فبَيْناهُما يَمْشِيانِ عَلَى السَّاحِلِ إذْ أبْصَرَ الخَضِرُ غُلاَماً يلْعَبُ مَعَ الغِلْمانِ فأخَذَ الخَضِرُ رَأسَهُ بِيَدِهِ فاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى أقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ ألَمْ أقل لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً قَالَ وهاذا أشدُّ مِنَ الأُولى قَالَ إنْ سألْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فانْطَلَقا حَتَّى إِذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها بأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدَاراً يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ قَالَ مائِلٌ فقامَ الخَضِرُ فأقامَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ أتَيْناهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونا وَلَمْ يُضَيِّفُونا لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً قَالَ هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ إلَى قَوْلِهِ ذالِكَ تأوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً: فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدِدْنا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ الله عَلَيْنا مِنْ خَبَرِهِما: قَالَ سعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ فكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَكَانَ أمامَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصْباً وكانَ يَقْرَأ وأمّا الغُلاَمُ فَكانَ كافِراً وكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يُوضح مَا فِيهَا. والْحميدِي هُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ: أَي النَّاس أعلم؟ فيكل الْعلم إِلَى الله عز وَجل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله ابْن مُحَمَّد المسندي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو إِلَى آخِره.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي أَكثر من عشر مَوَاضِع قد مر بَيَانه فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَفِي: بَاب مَا يسْتَحبّ للْعَالم كَمَا يَنْبَغِي، مستقصى، وَنَذْكُر هَهُنَا بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة على الطَّالِب سِيمَا عِنْد قلَّة الْكتب.
فَقَوله: (إِن نَوْفًا) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو وبالفاء، (والبكالي) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْكَاف، وَيُقَال أَيْضا بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الْكَاف، قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه نظر. قَوْله: (كذب عَدو الله) ، هَذَا تَغْلِيظ من ابْن عَبَّاس وَلَا سِيمَا كَانَ فِي حَالَة الْغَضَب وإلاَّ فَهُوَ مُؤمن مُسلم حسن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام. قَوْله: (إِذْ لم يرد) ، كلمة: إِذْ، للتَّعْلِيل. انْتهى. قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الزنبيل. قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم أَي: فَهُوَ هُنَاكَ. قَوْله: (حَتَّى إِذا أَتَيَا الصَّخْرَة الَّتِي دون نهر الزَّيْت) ، قَالَه معقل بن زِيَاد، وَقيل: الصَّخْرَة هِيَ الَّتِي عِنْد مجمع الْبَحْرين، وَكَانَ أتياها لَيْلًا فَنَامَا. قَوْله: (واضطرب الْحُوت) ، أَي: تحرّك فِي المكتل، وَكَانَ الْحُوت مالحاً وَخرج من المكتل فَسقط فِي الْبَحْر، وَيُقَال: كَانَ فِي أصل الصَّخْرَة عين يُقَال لَهَا عين الْحَيَاة لَا يُصِيب من مَائِهَا شَيْء إلاَّ حييّ، فَأصَاب الْحُوت من مَاء تِلْكَ الْعين فَتحَرك وانسلَّ من المكتل فَدخل الْبَحْر، وروى ابْن مرْدَوَيْه هَذَا، وَفِي لفظ: فقطرت من ذَلِك المَاء على الْحُوت قَطْرَة فَعَاشَ وَخرج من المكتل فَسقط فِي الْبَحْر. قَوْله: (سربا) أَي: مسلكاً ومذهباً يسرب وَيذْهب فِيهِ، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: روى أبي بن كَعْب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: انجاب المَاء على مَسْلَك الْحُوت فَصَارَ كوَّة لم يلتئم، فَدخل مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الكوة على إِثْر الْحُوت فَإِذا هُوَ بالخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام

(19/41)


قَوْله: (على جرية المَاء) أَي: جَرَيَانه (فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق) ، أَي: مثل عقد الْبناء، وَعَن الْكَلْبِيّ تَوَضَّأ يُوشَع من عين الْحَيَاة فانتضح على الْحُوت المالح فِي المكتل من ذَلِك المَاء فَعَاشَ، ثمَّ وثب فِي المَاء فَجعل يضْرب بِذَنبِهِ فَلَا يضْرب بِذَنبِهِ شَيْئا فِي المَاء وَهُوَ ذَاهِب إلاَّ يبس. قَوْله: (غداءنا) ، أَي: طعامنا وزادنا. قَوْله: (نصبا) أَي: شدَّة وتعباً، وَذَلِكَ أَنه ألْقى على مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْجُوع بَعْدَمَا جَاوز الصَّخْرَة ليتذكر الْحُوت وَيرجع إِلَى مَوضِع، مطلبه. قَوْله: (نبغي) أَي: نطلب، انْتهى. قَوْله: (فارتدا) ، أَي: رجعا على آثارهما الَّتِي جَاءَ مِنْهَا. قَوْله: (قصصا) أَي: يقصان الْأَثر ويتبعانه. قَوْله: (مسجى) ، أَي: مغطى، قَوْله: (فَقَالَ الْخضر) ، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الضَّاد وسكونها مَعَ فتح الْخَاء وَكسرهَا، وَلَقَد ذكرنَا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء سَبَب تَسْمِيَته بالخضر، واسْمه: بليا: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، مَقْصُورا. قَوْله: (وأنَّى بأرضك السَّلَام؟) ، أَي: من أَيْن؟ قَوْله: (رشدا) . أَي: علما ذَا رشد أرشد بِهِ فِي ديني، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: (رشدا) قرىء يَعْنِي: فِي الْقُرْآن، بِفتْحَتَيْنِ وبضمة وَسُكُون. قَوْله: (إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا) (الْكَهْف: 76) أَي: لن تصبر على صنعي فيثقل عَلَيْك الصَّبْر عَن الْإِنْكَار أَو السُّؤَال. قَوْله: (فَلَا تَسْأَلنِي عَن شَيْء) ، أَي: شَيْء أعلمهُ مِمَّا تنكره. قَوْله: (ذكرا) ، أَي: حَتَّى ابتدىء بِذكرِهِ لَك وَأبين لَك شَأْنه. قَوْله: (بِغَيْر نول) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو أَي: بِغَيْر أُجْرَة. قَوْله: (لم يفجأ) ، يُقَال: فجأه الْأَمر فجاءة بِضَم الْفَاء وبالمد: إِذا أَتَاهُ بَغْتَة من غير توقع. قَوْله: (أمرا) بِكَسْر الْهمزَة أَي مُنْكرا، وَعَن القتبي: عجبا، وَالْأَمر، فِي كَلَام الْعَرَب الداهية قَوْله: {ألم أقل لَك إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا} أَي: تحقق مَا قلت لَك، قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {لَا تؤاخذني بِمَا نسيت} أَي: لَا تؤاخذني بِالنِّسْيَانِ. قَوْله: {لَا ترهقني من أَمْرِي عسراً} أَي: لَا تعنفني بِمَا تركت من وصيتك وَلَا تطردني عَنْك، وَقيل: لَا تضيق عَليّ أَمْرِي مَعَك وصحبتي إياك. قَوْله: (إلاَّ مثل مَا نقص هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر) ، هَذَا التَّشْبِيه لبَيَان الْقلَّة والحقارة فَقَط، وَقيل: معنى نقص أَخذ. قَوْله: (وَهَذَا أَشد من الأولى) أَي: أوكد من الأولى حَيْثُ زَاد كلمة: لَك. قَوْله: (غُلَاما) ، اسْمه خوش بود، وَقيل: جيسور، وَاسم أَبِيه: ملاس، وَاسم أمه: رَحمَه، وَكَانَ ظريفاً وضيء الْوَجْه. قَوْله: (فاقتلعه) ، أَي: فاقتلع الخصر رَأس الْغُلَام فَقتله، وَقيل: أضجعه فذبحه بالسكين، وَعَن الضَّحَّاك: كَانَ غُلَاما يعْمل الْفساد ويتأذى مِنْهُ أَبَوَاهُ، وَعَن الْكَلْبِيّ: كَانَ يقطع الطَّرِيق وَيَأْخُذ الْمَتَاع ويلجأ إِلَى أَبَوَيْهِ فيحلفان دونه، فَأَخذه الْخضر فصرعه وَنزع رَأسه من جسده، وَقيل: رفسه بِرجلِهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ غُلَاما لم يبلغ الْحِنْث. قَوْله: (زاكية) ، أَي: ظَاهِرَة، وَقيل: مسلمة، وَعَن الْكسَائي: الزاكية والزكية لُغَتَانِ، وَعَن أبي عَمْرو: الزاكية الَّتِي لم تذنب، والزكية الَّتِي أذنبت ثمَّ تابت، قَوْله: (نكرا) ، أَي: مُنْكرا، وَعَن قَتَادَة وَابْن كيسَان: النكر أَشد وَأعظم من الْأَمر. قَوْله: (فَلَا تُصَاحِبنِي) ، يَعْنِي: فارقني. قَوْله: (عذرا) ، يَعْنِي: فِي فراقي. قَوْله: (أهل قَرْيَة) هِيَ أنطاكية، وَعَن ابْن سِيرِين: الأيلة، وَهِي أبعد أَرض من الْخَيْر، قَوْله: (يُضَيِّفُوهُمَا) ، أَي: ينزلوهما منزلَة الأضياف. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي الْقرْيَة، قَوْله: (جداراً) ، قَالَ وهب: كَانَ طوله فِي السَّمَاء مائَة ذِرَاع. قَوْله: (يُرِيد أَن ينْقض) ، هَذَا مجَاز لِأَن الْجِدَار لَا إِرَادَة لَهُ، وَمَعْنَاهُ قَرُبَ ودنا من ذَلِك. قَوْله: (أَن ينْقض) ، أَي: أَن يسْقط وينهدم، وَمِنْه انقضاض الْكَوَاكِب وزوالها عَن أماكنها، وَقيل: يَنْقَطِع وينصدع. قَوْله: (فأقامه) أَي: سواهُ. قَوْله: (أجرا) ، أَي: أُجْرَة وَجعلا، وَقيل: قرىء: وضيافة، وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت فِي كتاب الْعلم، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.