عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 6 - (بابٌ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ونَرِثُهُ مَا يَقُولُ ويأتِينا فَرْدَا} (مَرْيَم: 08)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {ونرثه} ، أَي: نرث
الْعَاصِ بن وَائِل مَا يَقُول من المَال وَالْولد ويأتينا
يَوْم الْقِيَامَة فَردا أَي: بِلَا مَال وَلَا ولد،
وَقَالَ النَّسَفِيّ: مَعْنَاهُ لَا ننسى قَوْله هَذَا
وَلَا نلغيه بل نثبته فِي صَحِيفَته لنضرب بِهِ وَجهه فِي
الْموقف ونعيره بِهِ ويأتينا على فقره ومسكنته فَردا من
المَال وَالْولد.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الجِبالُ هَدًّا هدْماً
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي
قَوْله عز وَجل: {وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدًّا}
(مَرْيَم: 09) هدماً يَعْنِي: فسر الهد بالهدم، وروى هَذَا
التَّعْلِيق الْحَنْظَلِي عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن
مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس،
وَعَن مقَاتل: هداً كسراً، وَعَن أبي عُبَيْدَة: سقوطاً.
5374 - حدَّثنا يَحْيَى حدّثنا وكِيعٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ
أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ
رَجُلاً قَيْناً وكانَ لِي عَلَى العَاصي بنِ وائلِ دَيْنٌ
فأتَيْتُهُ أتَقاضاهُ فَقَالَ لِي لَا أقْضِيكَ حَتَّى
تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ قَالَ قُلْتِ لَنْ أكْفُرَ بِهِ
حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ قَالَ وإنِّي لِمَبْعُوثٌ
منْ بَعْدِ المَوْتِ فَسَوْفَ أقْضِيكَ إِذا رَجَعْتُ
إِلَى مالٍ وَوَلَدٍ قَالَ فَنَزَلَتْ أفَرَأيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لأُتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً
أطْلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ
العَذَابِ مدًّا ونَرِثُهُ مَا يَقُولُ ويأتِينا فَرْداً..
هَذَا طَرِيق رَابِع فِي الحَدِيث الْمَذْكُور ومطابقته
للتَّرْجَمَة. أخرجه عَن يحيى هُوَ ابْن مُوسَى بن عبد ربه
أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، يُقَال
لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق. وَهُوَ من أَفْرَاده.
02 - (بابٌ سورَةُ طهَ)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، أَي: هَذَا بَاب فِي
تَفْسِير بعض سُورَة طه، قَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا،
وَكَذَا ذكره ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله
عَنْهُم، فِيمَا ذكره ابْن مرْدَوَيْه وَفِي (مقامات
التَّنْزِيل) مَكِّيَّة كلهَا لم يعرف فِيهَا اخْتِلَاف
إلاّ مَا ذكر عَن الْكَلْبِيّ فِي رِوَايَة أبي بكر أَنه
قَالَ: {وَمن آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار لَعَلَّك
ترْضى} (طه: 031) نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَهِي فِي أَوْقَات
الصَّلَوَات. وَهِي مائَة وَخمْس وَثَلَاثُونَ آيَة. وَألف
وثلاثمائة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَخَمْسَة آلَاف
ومائتان وإثنان وَأَرْبَعُونَ حرفا.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
قَالَ ابْن جُبَير: بالنبطية طاه يَا رجل.
أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير: معنى طه بالنبطية: يَا رجل،
والنبطية منسوبة إِلَى النبط، بِفَتْح النُّون وَالْبَاء
الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة: قوم ينزلون البطائح بَين
العراقين وَكَثِيرًا يسْتَعْمل وَيُرَاد بِهِ الزراعون،
وَالْمَذْكُور هُوَ رِوَايَة: قوم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر
والنسفي:
(19/55)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ
عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك بالنبطية طه، أَي: يَا رجل،
وَتَعْلِيق عِكْرِمَة وَصله ابْن أبي حَاتِم من رِوَايَة
حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله: طه،
أَي: يَا طه يَا رجل، وَتَعْلِيق الضَّحَّاك وَصله
الطَّبَرِيّ من طَرِيق قُرَّة بن خَالِد عَن الضَّحَّاك بن
مُزَاحم فِي قَوْله: طه، قَالَ: يار رجل بالنبطية. انْتهى.
وتمثل قَول ابْن جُبَير، روى عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن
وَعَطَاء وَأبي مَالك وَمُجاهد وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن
كَعْب وَالسُّديّ وعطبة وَابْن أَبْزَى، وَفِي: (تَفْسِير
مقَاتل) : طه يَا رجل بالسُّرْيَانيَّة، وَقَالَ
الْكَلْبِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، نزلت بلغَة على يَا رجل،
وَعند ابْن مرْدَوَيْه بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس:
يس بالحبشية يَا إِنْسَان، وطه بالنبطية يَا رجل، وَقيل:
معنى طه يَا إِنْسَان، وَقيل: هِيَ حُرُوف مقطعَة لمعان،
قَالَ الوَاسِطِيّ: أَرَادَ بهَا: يَا طَاهِر يَا هادي،
وَعَن أبي حَاتِم: طه استفتاح سُورَة، وَقيل هُوَ قسم أقسم
الله بِهِ وَهِي من أَسمَاء الله عز وَجل، وَقيل: هُوَ من
الوطي وَالْهَاء كِنَايَة عَن الأَرْض أَي: اعْتمد على
الأَرْض بقدمك وَلَا تتعصب نَفسك بالاعتماد على قدم
وَاحِدَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا نزلنَا عَلَيْك
الْقُرْآن لتشقى} (طه: 2) نزلت الْآيَة فِيمَا كَانَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يتكلفه من السهر والتعب وَقيام
اللَّيْل، وَقَالَ اللَّيْث: بلغنَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما سمع كَلَام الرب تَعَالَى
استقرءه الْخَوْف حَتَّى قَامَ على أَصَابِع قَدَمَيْهِ
خوفًا. فَقَالَ عز وَجل: طه، أَي: اطمئن، قَالَ
الْأَزْهَرِي: لَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ: طَأْهَا، أَي: طأ
الأَرْض بقدمك، وَهِي مَهْمُوزَة، وَفِي (الْمعَانِي)
للفراء: هُوَ حرف هجاء، وحَدثني قيس قَالَ: حَدثنِي عَاصِم
عَن زر، قَالَ: قَرَأَ رجل على ابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ: طَأْهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله: طه، فَقَالَ
الرجل: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن أَلَيْسَ إِنَّمَا أَمر
أَن يطَأ قدمه؟ قَالَ: فَقَالَ عبد الله: طه، هَكَذَا
أَقْرَأَنيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَزَاد فِي (تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه) كَذَا نزل بهَا
جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِكَسْر الطَّاء
وَالْهَاء، قَالَ: وَكَانَ بعض الْقُرَّاء يقطعهَا،
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: طاه، قَالَ الزّجاج:
يقْرَأ طه بِفَتْح الطَّاء وَالْهَاء، وطه بكسرهما، وطه
بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الْهَاء، وطه بِفَتْح الطَّاء
وَكسر الْهَاء.
قَالَ ابنُ جُبَيْرٍ والضَّحَّاكُ بالنَّبَطِيَّةِ طهَ يَا
رَجُلُ: وَقَالَ مُجاهِدٌ ألْقَى صَنَعَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا مُوسَى
إِمَّا أَن تلقي وَأما أَن نَكُون أول من ألْقى} (طه: 56)
أَي: صنع، وَقد مر هَذَا فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم السَّلَام، وَكَذَلِكَ يَأْتِي لفظ: ألْقى، فِي
قَوْله: {فَكَذَلِك ألْقى السامري} (طه: 78) وَفسّر
هُنَاكَ أَيْضا بقوله: صنع، والمفسرون فسروا كليهمَا فِي
الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي.
يُقالُ كلُّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أوْ فيهِ
تَمْتَمَةٌ أوْ فأفَاةٌ فَهْيَ عُقْدَةٌ
أَشَارَ بذلك إِلَى تَفْسِير: عقدَة، فِي قَوْله تَعَالَى:
{واحلل عقدَة من لساني} (طه: 72) وَفسّر الْعقْدَة بِمَا
ذكره، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُرِيد مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، أطلق عَن لساني الْعقْدَة الَّتِي
فِيهِ حَتَّى يفهموا كَلَامي والتمتمة التَّرَدُّد
بِالتَّاءِ فِي الْكَلَام، والفأفأة التَّرَدُّد
بِالْفَاءِ.
أزْرِي ظَهْرِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَارُون أخي أشدد
بِهِ أزري} (طه: 03 13) فسر الأزر بِالظّهْرِ، وَفِي
التَّفْسِير: ألازر الْقُوَّة وَالظّهْر، يُقَال: أزردت
فلَانا على الْأَمر، قويته عَلَيْهِ، وَكنت لَهُ فِيهِ
ظهرا.
فَيَسْحَتَكُمْ: يُهْلِكَكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تفتروا على الله
كذبا فيسحتكم بِعَذَاب} (طه: 16)
الْآيَة. وَفسّر: (يسحتكم) بقوله: (يهلككم) ، وَفِي
التَّفْسِير: أَي يستأصلكم، يُقَال: سحته الله وأسحته أَي:
استأصله وأهلكه، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص
عَن عَاصِم بِضَم الْيَاء وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْح لِأَن
فِيهِ لغتين بِمَعْنى وَاحِد.
المُثْلَى تأنِيثُ الأمْثَلِ يَقُولُ بدِينكُمْ يُقال خُذِ
المُثْلَى خُذِ الأمثَل
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويذهبا بطريقتكم
المثلى} (طه: 36) وَقَالَ: (المثلى تَأْنِيث الأمثل)
يَعْنِي: يذهب بدينكم. وَقد أخبر الله تَعَالَى عَن
فِرْعَوْن أَنه قَالَ: إِن مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا
السَّلَام، يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما
وَفسّر قَوْله (وَيذْهب بطريقتكم المثلى) ذَهَبا بطريقتكم
المثلى يَعْنِي: بدينكم، وَهَكَذَا فسره الْكسَائي أَيْضا
قَوْله: يُقَال: خُذ المثلى، أَي: خُذ الطَّرِيقَة المثلى،
أَي: الفضلى، وَخذ
(19/56)
الأمثل، أَي: الْأَفْضَل، يُقَال: فلَان
أمثل قومه أَي: أفضلهم.
ثُمَّ ائْتُوا صَفاً يُقالُ: هَلْ أتَيْتَ الصَّفَّ
اليَوْمَ يعْني المُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فَأَجْمعُوا كيدكم
ثمَّ ائْتُوا صفا} (طه: 46) وَأَشَارَ بقوله يُقَال إِلَى
آخِره، أَن معنى صفا مصلى ومجتمعاً. وَكَذَا قَالَ أَبُو
عُبَيْدَة، وَعَن مقَاتل الْكَلْبِيّ: مَعْنَاهُ جمعا،
حَاصِل الْمَعْنى أَن فِرْعَوْن يَقُول لِقَوْمِهِ:
أَجمعُوا كيدكم أَي: مكركم وسحركم، ثمَّ ائْتُوا صفا
يَعْنِي مصلى وَهُوَ مجمع النَّاس، وَحكي عَن بعض الْعَرَب
الفصحاء: مَا اسْتَطَعْت أَن آتِي الصَّفّ أمس، أَي:
الْمصلى.
فأوْجَسَ أضْمَرَ خَوْفاً فَذَهَبَتِ الوَاوُ منْ خِيفَةً
لِكَسْرَةِ الخاءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فأوجس فِي نَفسه
خيفة مُوسَى} (طه: 76) وَفسّر أوجس بقوله: أضمر. قَوْله:
(خوفًا) أَي: لأجل الْخَوْف، وَقَالَ مقَاتل: إِنَّمَا
خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن صنع
الْقَوْم مثل صنعه أَن يشكوا فِيهِ فَلَا يتبعوه ويشك من
تَابعه فِيهِ. قَوْله: (فَذَهَبت الْوَاو)
إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: وَمثل هَذَا لَا يَلِيق
بِحَال هَذَا الْكتاب أَن يذكر فِيهِ. قلت: إِنَّمَا قَالَ
هَذَا الْكَلَام لِأَنَّهُ مُخَالف لما قَالَه أهل الصّرْف
على مَا لَا يخفى.
فِي جُذُوعِ أيْ عَلَى جُذُوعِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي
جُذُوع النّخل} (طه: 17) وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن كلمة:
فِي، بِمَعْنى: على، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم
سلّم يَسْتَمِعُون فِيهِ} (الطّور: 83) أَي: عَلَيْهِ.
خطْبُكَ بالُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فَمَا خَطبك
يَا سامري} (طه: 59) وَفَسرهُ بقوله: (بالك) . وَفِي
التَّفْسِير، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
للسامري: فَمَا خَطبك؟ أَي: فَمَا أَمرك وشأنك الَّذِي
دعَاك وحملك على مَا صنعت؟
مِساسَ مَصْدَرُ ماسَّهُ مِساساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فَاذْهَبْ فَإِن لَك
فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس} (طه: 79) الْآيَة وَلم
يذكر مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: مساس، مصدر ماسه يماسه
مماسة ومساساً، وَالْمعْنَى: أَن مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للسامري: إذهب من بَيْننَا
فَإِن لَك فِي الْحَيَاة، أَي: مَا دمت حَيا أَن تَقول:
لَا مساس. أَي: لَا أمس وَلَا أمس، فعاقبه الله فِي
الدُّنْيَا بعقوبة لَا شَيْء أَشد وأوحش مِنْهَا، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ منع من مُخَالطَة النَّاس منعا كلياً حرم
عَلَيْهِم ملاقاته ومكالمته.
لَنَنْسِفَنَّهُ لَنَذْرِيَنَّهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لنحرقنه ثمَّ
لننسفنه فِي اليم نسفاً} (طه: 79) وَفسّر: (لننسفنه)
بقوله: (لنذرينه) من التذرية، وَفِي التَّفْسِير: أَن
مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَخذ الْعجل فذبحه
فَسَالَ مِنْهُ الدَّم لِأَنَّهُ كَانَ قد صَار لَحْمًا
ودماً ثمَّ أحرقه ثمَّ ذراه فِي اليم أَي: فِي الْبَحْر.
قاعاً يَعْلُوهُ الماءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فيذرها قاعاً
صفصفاً} (طه: 601) وَفسّر القاع بِأَنَّهُ يعلوه المَاء،
وَهُوَ كَذَلِك لِأَن القاع مَا يعلوه المَاء، والصفصف
المستوي، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن قَتَادَة:
القاع الصفصف الأَرْض المستوية، وَقَالَ الْفراء: القاع
مَا انبسط من الأَرْض وَيكون فِيهِ السراب نصف النَّهَار،
والصفصف الأملس الَّذِي لَا نَبَات فِيهِ.
والصَّفْصَفُ المُسْتَوِي منَ الأرْضِ
قد مر الْكَلَام فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير: الصفصف المستوي
كَأَنَّهَا من استوائها على صفة وَاحِدَة، وَقيل: هِيَ
الَّتِي لَا أثر للجبال فِيهَا.
وَقَالَ مُجاهِدٌ أوْزاراً أثقالاً
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم} (طه: 78)
أَي: أثقالاً، وَهُوَ جمع وزر وَيُرَاد بِهِ الْعقُوبَة
الثَّقِيلَة، سَمَّاهَا وزراً تَشْبِيها فِي ثقلهَا على
المعاقب وصعوبة احتمالها بِالْحملِ الَّذِي يقْدَح
الْحَامِل ويفضض ظَهره، أَو لِأَنَّهَا جَزَاء الْوزر.
وَهُوَ الْإِثْم.
منْ زِينَةِ القَوْمِ الحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعارُوا مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ
(19/57)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم} (طه: 78)
وَفسّر زِينَة الْقَوْم بقوله: الْحلِيّ الَّذِي استعاروا،
أَي: اسْتعَار بَنو إِسْرَائِيل من الْحلِيّ الَّذِي هُوَ
من آل فِرْعَوْن، يَعْنِي: من قومه، وأسنده أَبُو مُحَمَّد
الرَّازِيّ من حَدِيث ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَفِي
بعض النّسخ: وَقَالَ مُجَاهِد: من زِينَة الْقَوْم إِلَى
آخِره.
فَقَذَفناها فألْقَيْناها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فقذفناها فَكَذَلِك
ألْقى السامري} (طه: 78) وَفسّر قَوْله: (فقذفناها) بقوله:
(فألقيناها) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: فجمعناها
ودفعناها إِلَى السامري فألقاها فِي النَّار لترجع أَنْت
فترى فِيهِ رَأْيك، وَفِي بعض النّسخ: فقذفتها فألقيتها.
ألْقَى صَنَعَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَكَذَلِك ألْقى
السامري} وَفسّر: (ألْقى) بقوله: (صنع) وَفِي التَّفْسِير:
{فَكَذَلِك ألْقى السامري} أَي: ألْقى مَا مَعَه،
مَعْنَاهُ: كَمَا ألقينا.
فَنَسِيَ مُوسى هُمْ يَقُولونَهُ أخْطَأ الرَّبَّ. لَا
يَرْجَعُ إلَيْهِمْ قَوْلاً العِجْلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَذَا إل هكم إل هـ
مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ ألاَّ يرجع إِلَيْهِم قولا}
(طه: 98) قَوْله: (هم يَقُولُونَهُ) ، أَي: السامري وَمن
تبعه يَقُولُونَ: فنسي مُوسَى ربه، أَي: أَخطَأ حَيْثُ لم
يُخْبِركُمْ أَن هَذَا إلهه، وَقيل: قَالُوا: فنسي مُوسَى
الطَّرِيق إِلَى ربه، وَقيل: نسي مُوسَى إل هه عنْدكُمْ
وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر. قَوْله: (لَا يرجع إِلَيْهِم
قولا) ، يَعْنِي: لَا يكلمهم الْعجل وَلَا يُجِيبهُمْ.
هَمْساً حِسُّ الأقْدَامِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وخشعت الْأَصْوَات
للرحمن فَلَا تسمع إلاَّ همساً} (طه: 801) وَفَسرهُ بقوله:
(حس الْأَقْدَام) ، وَكَذَا فسره الثَّعْلَبِيّ، أَي:
وَطْء الْأَقْدَام ونقلها إِلَى الْمَحْشَر، وَكَذَا فسر
قَتَادَة وَعِكْرِمَة، وَأَصله: الصَّوْت الْخَفي، يُقَال:
هَمس فلَان لحديثه إِذا أسره وأخفاه.
حَشَرْتَني أعْماى عنْ حُجَّتي. وقَدْ كُنْتُ بَصيراً فِي
الدُّنْيا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب لم حشرتني
أعمى وَقد كنت بَصيرًا} (طه: 521) وَفَسرهُ بقوله: أَي:
(عَن حجتي)
إِلَى آخِره، وَفِي التَّفْسِير، قَوْله: أعمى، قَالَ ابْن
عَبَّاس: أعمى الْبَصَر، وَقَالَ مُجَاهِد: أعمى عَن
الْحجَّة.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ أمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً:
أعْضَلُهُمْ
أَي قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي معنى قَوْله
تَعَالَى: {إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة} (طه: 401) أَي:
أفضلهم، وَفَسرهُ الطَّبَرِيّ بقوله: أوفاهم عقلا، رَوَاهُ
عَن سعيد بن جُبَير.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ هَضْماً لَا يُظْلَمُ فيُهْضَمُ مِنْ
حَسَناتِهِ
أَي قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي معنى قَوْله تَعَالَى:
{فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضماً} (طه: 211) يظلم فيهضم أَي:
فينقص من حَسَنَاته وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وأصل الهضم
النَّقْص وَالْكَسْر، يُقَال: هضمت لَك من حَقك أَي حططت،
وهضم الطَّعَام.
عِوَجاً: وادِياً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا ترى فِيهَا
عوجا} (طه: 701) وَفَسرهُ بقوله: (وَاديا) ، وَعَن ابْن
عَبَّاس: العوج الأودية، وَعَن مُجَاهِد: العوج الانخفاض.
ولاَ أمْتاً رَابِيَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا ترى فِيهَا عوجا
وَلَا أمتاً} وَفسّر الأمت بالرابية، وَعَن ابْن عَبَّاس:
الأمت الروابي، وَعَن مُجَاهِد: الِارْتفَاع، وَعَن ابْن
زيد: الأمت التَّفَاوُت، وَعَن يمَان: الأمت الشقوق فِي
الأَرْض.
سِيرَتَها حالَتَها الأولَى
(19/58)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{سنعيدها سيرتها الأولى} وَفَسرهُ بقوله: (حالتها الأولى)
أَي: هيئتها الأولى، وَهِي كَمَا كَانَ عَصا، وَذَلِكَ أَن
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، لما أَمر بإلقاء عَصَاهُ
فألقاها فَصَارَت حَيَّة تسْعَى قَالَ الله تَعَالَى:
{خُذْهَا وَلَا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} (طه: 12) .
النُّهَى التُّقَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك
لآيَات لأولي النهى} (طه: 45) وَفسّر: (النهى) بقوله:
(التقى) . وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ ذَوُو التقى،
وَعَن الضَّحَّاك: هم الَّذين ينتهون عَمَّا حرم الله
عَلَيْهِم، وَعَن قَتَادَة: هم ذَوُو الْوَرع، وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: ذَوُو الْعُقُول وَاحِدهَا نهيا، سميت بذلك
لِأَنَّهَا تنهي صَاحبهَا عَن القبائح والفضائح وارتكاب
الْمَحْظُورَات والمحرمات.
ضَنْكاً الشَّقاءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن أعرض عَن ذكري
فَإِن لَهُ معيشة ضنكاً} وَفسّر: الضنك بالشقاء، وَرَوَاهُ
ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ الثَّعْلَبِيّ، ضنكاً ضيقا، يُقَال: منزل
ضنك وعيش ضنك يَسْتَوِي فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى
وَالْوَاحد والاثنان وَالْجمع، وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الضنك عَذَاب الْقَبْر،
وَعَن الْحسن: الزقوم والغسلين والضريع، وَعَن عِكْرِمَة:
الْحَرَام، وَعَن الضَّحَّاك: الْكسْب الْخَبيث، وَيُقَال:
الضنك مُعرب وَأَصله، التنك، وَهُوَ فِي اللُّغَة
الفارسية: الضّيق.
هَوَى شَقِيَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن يحلل عَلَيْهِ
غَضَبي فقد هوى} (طه: 18) وَفَسرهُ بقوله: (شقي) ، وَقيل:
هلك وتردي فِي النَّار.
المُقَدَّسِ المُبارَكِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك بالوادي
الْمُقَدّس طوى} (طه: 21) ، وَفَسرهُ بقوله (الْمُبَارك) .
طُوًى: إسْمُ الوادِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الْمُقَدّس طوى}
وَفَسرهُ بالوادي، وَعَن الضَّحَّاك: وَاد عميق مستدير مثل
المطوى فِي استدارته، وَقيل: هُوَ اللَّيْل، يُقَال:
أَتَيْتُك طوى من اللَّيْل، وَقيل: طويت عَلَيْهِ الْبركَة
طياً.
بِمِلْكِنا بأمْرِنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا مَا أخلفنا
موعدك بملكنا} (طه: 78) وَفَسرهُ بقوله: (بأمرنا) هَذَا
على كسر الْمِيم وَعَلَيْهَا أَكثر الْقُرَّاء، وَمن
قَرَأَ بِالْفَتْح فَهُوَ الْمصدر الْحَقِيقِيّ، وَمن
قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاه: بقدرتنا وسلطاننا، وَسقط
هَذَا لأبي ذَر.
مَكاناً سِوًى مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا نخلفه نَحن
وَلَا أَنْت مَكَانا سوى} (طه: 85) قَوْله: (منصف بَينهم)
أَي: مَكَانا بَينهم تستوي فِيهِ مسافته على
الْفَرِيقَيْنِ، وقرىء بِضَم السِّين وَهَذَا أَيْضا سقط
لأبي ذَر.
يَبَساً يابِساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرب لَهُم
طَرِيقا فِي الْبَحْر يبساً} (طه: 77) وَفَسرهُ بقوله:
(يَابسا) ، وَفِي التَّفْسِير: أَي يَابسا لَيْسَ فِيهِ
مَاء وَلَا طين.
عَلَى قَدَرٍ عَلَى مَوْعَدٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جِئْت على قدر
يَا مُوسَى} (طه: 04) وَفَسرهُ بقوله: على موعد على الْقدر
الَّذِي قدر لَك أَنَّك تَجِيء، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن
كيسَان: على رَأس أَرْبَعِينَ سنة، وَهُوَ الْقدر الَّذِي
يُوحى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاء.
لَا تَنِيا: لَا تَضْعُفَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنيا فِي ذكري
إذهبا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} (طه: 24 34) وَفَسرهُ
بقوله: (لَا تضعفا) وَهَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَعَن
السّديّ: لَا تفتروا، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب: لَا تقصرا،
وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: لَا تهنا، وَأَصله من ونى
يني ونياً، قَالَ الْجَوْهَرِي: الونى الضعْف والفتور
والكلال والإعياء، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {واصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي} (طه: 14)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {واصطنعتك لنَفْسي}
أَي: اخْتَرْتُك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة والنبوة.
(19/59)
6374 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ
حَدثنَا مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُونٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ
سِيرِينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنْ رسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْتَقَى آدَمُ ومُوسَى فَقَالَ
مُوسَى لآدَمَ أنْتَ الَّذِي أشْقَيْتَ النّاسَ
وأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَالَ لَهُ آدَمُ أنْتَ
الَّذِي اصْطَفاكَ الله بِرِسالَتِهِ واصْطَفاكَ
لِنَفْسِهِ وأنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ
قَالَ فَوَجَدْتَها كُتِبَ عَليَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي
قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى: واليَمُّ البَحْرُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَنْت الَّذِي
اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنَفسِهِ) تفهم
بِالتَّأَمُّلِ، والصلت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة
وَسُكُون اللَّام وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الخاركي، بِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَة وَالرَّاء: الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من
أَفْرَاده.
والْحَدِيث من أَفْرَاده أَيْضا من هَذَا الْوَجْه،
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَبُو هِلَال
الرَّاسِبِي عَن أبي هُرَيْرَة فَوَقفهُ، وَكَانَ كثيرا
مَا يتوقى رَفعه، وَلما رَوَاهُ هدبة عَن مهْدي رَفعه مرّة
ثمَّ رَجَعَ عَن رَفعه فَوَقفهُ، وَمضى هَذَا الحَدِيث
أَيْضا فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب وَفَاة مُوسَى،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله
عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد
الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره،
وَسَيَأْتِي أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث
أبي سعيد. وَأخرجه مُسلم بِأَلْفَاظ: مِنْهَا: فَقَالَ
مُوسَى يَا آدم أَنْت أَبونَا، أخرجتنا من الْجنَّة،
مِنْهَا: قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة. وَمِنْهَا:
أَنْت الَّذِي أغويت النَّاس وأخرجتهم من الْجنَّة.
وَمِنْهَا: هَل وجدت فِيهَا؟ يَعْنِي: فِي التَّوْرَاة
وَعصى آدم ربه فغوى؟ قَالَ: نعم.
قَوْله: (التقى آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام) ،
وَفِي لفظ ابْن مرْدَوَيْه: فَلَقِيَهُ مُوسَى فَقَالَ
لَهُ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: احْتج آدم ومُوسَى
عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَفِي حَدِيث عمر بن الْخطاب،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن
مُوسَى قَالَ: يَا رب أرنا أَبَانَا الَّذِي أخرجنَا
وَنَفسه من الْجنَّة! فَأرَاهُ آدم عَلَيْهِ السَّلَام،
فَقَالَ: أَنْت أَبونَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَنْت الَّذِي
نفخ الله فِيك من روحه وأسجد لَك مَلَائكَته؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: فَمَا حملك على أَن أخرجتنا من الْجنَّة؟ فَقَالَ
لَهُ آدم: من أَنْت؟ قَالَ: مُوسَى، قَالَ: نَبِي بني
إِسْرَائِيل الَّذِي كلمك الله من غير رَسُول من خلقه؟
قَالَ: نعم، قَالَ أما وجدت أَن ذَلِك كَانَ فِي كتاب الله
قبل أَن أخلق؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَفِيمَ تلومني فِي
شَيْء سبق من الله فِيهِ الْقَضَاء؟ قيل: فَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك: فحج آدم
مُوسَى. فَإِن قلت: التقاؤهما فِي أَيْن كَانَ؟ أَكَانَ
بالأرواح فَقَط أَو بالأرواح والأجسام؟ قلت: قَالَ
الْقَابِسِيّ: الْتَقت أرواحهما فِي السَّمَاء، وَقيل:
يجوز أَن يكون ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ عِيَاض:
يجوز أَن يحمل على ظَاهره وأنهما اجْتمعَا بأشخاصهما، وَقد
ثَبت فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اجْتمع بالأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي
السَّمَوَات وَفِي بَيت الْمُقَدّس وَصلى بهم، فَلَا
يبعدان الله عز وَجل، أحياهم كَمَا أحيى الشُّهَدَاء،
وَيحْتَمل أَن يكون جرى ذَلِك فِي حَيَاة مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لحَدِيث عمر: أرنا أَبَانَا ...
وَقد مر الْآن. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يجوز أَن يكون
المُرَاد شرح حَال بِضَرْب مثل: لَو اجْتمعَا لقالا فَإِن
قلت: مَا وَجه اخْتِصَاص مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بِهَذَا دون غَيره من الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: لِأَنَّهُ أول من
جَاءَ بالتكاليف. قَوْله: (أَنْت الَّذِي أشقيت النَّاس) ؟
من الشقاوة، وَهِي ضد السَّعَادَة، وَفِي لفظ لمُسلم: يَا
آدم أَنْت أَبونَا خيبتنا أَي: أوقعتنا فِي الخيبة وَهِي
الحرمان والخسران، وَقد خَابَ يخيب ويخوب مَعْنَاهُ: كنت
سَبَب خيبتنا، وَفِيه جَوَاز إِطْلَاق نِسْبَة الشَّيْء
عَليّ من تسبب فِيهِ. قَوْله: (من الْجنَّة) ، المُرَاد
بِالْجنَّةِ الَّتِي أخرج مِنْهَا آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، جنَّة الْخلد وجنة الفردوس الَّتِي هِيَ دَار
الْجَزَاء فِي الْآخِرَة، وجنة الفردوس وَغَيرهَا الَّتِي
هِيَ دَار الْبَقَاء، وَهِي كَانَت مَوْجُودَة قبل آدم
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ مَذْهَب أهل
الْحق. قَوْله: (اصطفاك الله) أَي: أخصك الله بذلك،
وَيُقَال: جعلك خَالِصا صافياً عَن شَائِبَة مَا لَا
يَلِيق بك، وَفِيه تلميح إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكلم
الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) قَوْله: (وَأنزل
عَلَيْك التَّوْرَاة) فِيهَا تبيان كل شَيْء من
الْإِخْبَار بالغيوب والقصص والحلال وَالْحرَام والمواعظ
وَغير ذَلِك. قَوْله: (فَوَجَدتهَا) ويروى: فَوَجَدته،
الضَّمِير بالتأنيث والتذكير يرجع إِلَى التَّوْرَاة
بالتأنيث بِاعْتِبَار اللَّفْظ، والتذكير بِاعْتِبَار
الْمَعْنى، وَهُوَ الْكتاب. قَوْله: (كتب عَليّ) لَيْسَ
المُرَاد أَنه ألزمهُ إِيَّاه وأوجبه عَلَيْهِ، فَلم يكن
لَهُ فِي تنَاول الشَّجَرَة
(19/60)
كسب وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا الْمَعْنى:
أَن الله أثْبته فِي أم الْكتاب قبل كَونه، وَحكم بِأَن
ذَلِك كَائِن لَا محَالة لعلمه السَّابِق، فَهَل يجوز أَن
يصدر عني خلاف علم الله؟ فَكيف تغفل عَن الْعلم السَّابِق
وتذكر الْكسْب الَّذِي هُوَ السَّبَب وتنسى الأَصْل
الَّذِي هُوَ الْقدر؟ قَوْله: (فحج آدم مُوسَى عَلَيْهِمَا
السَّلَام) ، هَكَذَا الرِّوَايَة بِرَفْع آدم على
الفاعلية فِي جَمِيع كتب الحَدِيث بِاتِّفَاق الناقلين
والرواة والشراح، أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ وَظهر عَلَيْهِ
بهَا، ومُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَال فِي
لومه إِلَى الْكسْب وآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
مَال إِلَى الْقدر، وَكِلَاهُمَا حق لَا يبطل أَحدهمَا
صَاحبه وَمَتى قضي للقدر على الْكسْب أخرج إِلَى مَذْهَب
الْقَدَرِيَّة، أَو للكسب على الْقدر أخرج إِلَى مَذْهَب
الجبرية، وَإِنَّمَا وَقعت الْغَلَبَة لآدَم عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه
لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقاً فِيمَا قضى عَلَيْهِ إلاَّ
أَن يَأْذَن الشَّرْع بلومه فَيكون الشَّرْع هُوَ اللائم.
الثَّانِي: أَن الْفِعْل اجْتمع فِيهِ الْقدر وَالْكَسْب،
وَالتَّوْبَة تمحو أثر الْكسْب، فَلَمَّا تيب عَلَيْهِ لم
يبْق إلاَّ الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ لوم.
قَوْله: (واليم الْبَحْر) ، إِنَّمَا أورد هَذَا فِي آخر
الحَدِيث إِشَارَة إِلَى تَفْسِير مَا وَقع فِي كتاب الله
تَعَالَى من قَوْله: {فاقذفيه فِي اليم} (طه: 93) وَفسّر
بِأَن المُرَاد من اليم هُوَ الْبَحْر، وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: اليم نهر النّيل، قيل: وَمَوْضِع ذكر هَذَا
فِي الْبَاب الْآتِي وَذكره هُنَا لَيْسَ بموجه. قلت:
المُرَاد باليم فِي الْبَاب الْآتِي هُوَ بَحر القلزم
وَالَّذِي ذكره هُنَا هُوَ النّيل أطلق عَلَيْهِ الْبَحْر
لتبحره أَيَّام الزِّيَادَة، وَالله أعلم.
2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وأوْحَيْنا إِلَى مُوسَى أنْ أسْرِ
بِعِبادِي فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً
لَا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى فأتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اليَمِّ مَا
غَشِيَهُمْ وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (طه:
77 97)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد أَوْحَينَا}
وَالْقُرْآن هَكَذَا وَوَقع هُنَا: وأوحينا، بِدُونِ لفظ:
لقد، وَقد وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر مثل مَا فِي
الْقُرْآن. قَوْله: (أَن أسر بعبادي) أَي: أسر بهم فِي
اللَّيْل من أَرض مصر. قَوْله: (يبساً) أَي: يَابسا لَيْسَ
فِيهِ مَاء وَلَا طين. قَوْله: (لَا تخَاف) أَي: من
فِرْعَوْن خَلفك. قَوْله: (دركاً) ، أَي: إدراكاً مِنْهُم.
قَوْله: (وَلَا تخشى) أَي: غرقاً من الْبَحْر أمامك.
قَوْله: (فاتبعهم) ، أَي: فلحقهم فِرْعَوْن بجُنُوده.
قَوْله: (فغشيهم) ، أَي: أَصَابَهُم. قَوْله: (وَمَا هدى)
أَي: وَمَا هدَاهُم إِلَى مراشدهم.
7374 - حدَّثني يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا رَوْحٌ
حدَّثنا شُعْبَةُ حَدثنَا أبُو بِشْرٍ عنْ سعِيدِ بنِ
جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ
لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
المدِينَةَ واليَهُودُ تَصُومُ عاشُورَاءَ فَسألَهُمْ
فقالُوا هاذا اليَوْمُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى
فِرْعَوْنَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نَحْنُ أوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، يُمكن أَخذهَا من مَضْمُون
التَّرْجَمَة، وروح، بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة،
وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون
الْمُعْجَمَة: جَعْفَر بن أبي وحشية. والْحَدِيث قد مضى
فِي كتاب الصّيام فِي: بَاب صِيَام عَاشُورَاء، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب
عَن عبد الله بن سعيد بن جُبَير عَن أَبِيه عَن ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ، وَالله أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ
فَتَشْقَى} (طه: 711)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَا يخرجنكما}
أَي: الشَّيْطَان، وَالْخطاب لآدَم وحواء عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَوْله: (فتشقى) ، أَي: فتتعب
وَيكون عيشك من كد يَمِينك بعرق جبينك، وَعَن سعيد بن
جُبَير: أهبط إِلَى آدم ثَوْر وأحمر فَكَانَ يحرث عَلَيْهِ
وَيمْسَح الْعرق من جَبينه، فَهُوَ الشَّقَاء الَّذِي
قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقه أَن يَقُول: فتشقيا} ،
وَلَكِن غلب الْمُذكر رُجُوعا بِهِ إِلَى آدم عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن تَعبه أَكثر، وَقيل: لأجل
رُؤُوس الْآي.
8374 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ حَدثنَا أيُّوبُ بنُ
النّجَّارِ عنْ يَحْيَى بن أبي كَثِيرٍ عنْ أبي سَلَمَةَ
(19/61)
ابْن عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ حاجَّ مُوسأ آدمَ فَقَالَ لَهُ أنْتَ الَّذِي
أخْرَجْتَ الناسَ مِنَ الجَنَّةِ بِذَنْبِكَ
وأشْقَيْتَهُمْ قَالَ قَالَ آدَمُ يَا مُوسَى أنْتَ الذِي
اصْطَفَاكَ الله بِرِسالَتِهِ وبكَلاَمِهِ أتَلُومُنِي
عَلَى أمْرٍ كَتَبَهُ الله عَليَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَني
أوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبل هَذَا
الْبَاب، ومطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تَأْخُذ من
قَوْله: (وأشقيتهم) .
وَأَيوب بن النجار، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْجِيم
وبالراء أَبُو إِسْمَاعِيل الْحَنَفِيّ اليمامي. قَوْله:
(أَو قدره) ، شكّ من الرَّاوِي، وَعند مُسلم: (أتلومني على
أَمر قدره على قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة) وَقَالَ
النَّوَوِيّ: المُرَاد بالتقدير هُنَا الْكِتَابَة فِي
اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَو فِي صحف التَّوْرَاة وألواحها،
أَي: كتبه على قبل خلقي بِأَرْبَعِينَ سنة، وَقد صرح
بِهَذَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بعد هَذِه وَهُوَ قَوْله:
قَالَ: بكم وجدت الله كتب التَّوْرَاة قبل أَن أخلق؟ قَالَ
مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ سنة، قَالَ: أتلومني على أَن عملت
عملا كتبه الله عَليّ قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة؟
فَهَذِهِ الرِّوَايَة مصرحة بِبَيَان المُرَاد بالتقدير
وَلَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ حَقِيقَة الْقدر. فَإِن علم
الله وَمَا قدره على عباده وأراده من خلقه أزلي لَا أول
لَهُ (فَإِن قلت) : مَا الْمَعْنى بالتحديد الْمَذْكُور
وَجَاء فِي الحَدِيث أَن الله قدر الْمَقَادِير قبل أَن
يخلق الْخلق بِخَمْسِينَ ألف سنة؟ قلت: المعلومات كلهَا قد
أحَاط بهَا الْعلم الْقَدِيم قبل وجود كل مَخْلُوق وَلكنه
كتبهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ زَمَانا دون زمَان
فَجَائِز أَن يكون كتب مَا يجْرِي لآدَم قبل خلقه
بِأَرْبَعِينَ سنة إِشَارَة إِلَى مُدَّة لبثه طيناً،
فَإِنَّهُ بَقِي كَذَلِك أَرْبَعِينَ سنة، فَكَأَنَّهُ
يَقُول: كتب على مَا جرى مُنْذُ سواني طيناً قبل أَن ينْفخ
فيّ الرّوح وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
12 - (سورَةُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السّلاَمُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْأَنْبِيَاء،
وَقَالَ ابْن مرْدَوَيْه: عَن عبد الله بن الزبير وَعبد
الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم: أَنَّهَا نزلت
بِمَكَّة، وَكَذَا قَالَ مقَاتل. وَفِي (مقامات
التَّنْزِيل) : اخْتلفُوا فِي آيَة مِنْهَا وَهِي قَوْله:
{أَفلا يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها}
(الْأَنْبِيَاء: 44) ، قَالَ: بِالْقَتْلِ والسبي، وَعَن
عَطاء: بِمَوْت الْفُقَهَاء وَخيَار أَهلهَا، وَعَن
مُجَاهِد: بِمَوْت أَهلهَا، وَعَن الشّعبِيّ: بِنَقص
الْأَنْفس والثمرات، وَعَن السخاوي أَنَّهَا نزلت بعد
سُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقبل
سُورَة الْفَتْح، وَهِي مائَة واثنتا عشرَة آيَة
وَأَرْبَعَة وَثَمَانمِائَة وَتسْعُونَ حرفا، وَألف
وَمِائَة وثمان وَسِتُّونَ كلمة.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
9374 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حدَّثنا غُنْدَرٌ
حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ
الرَّحْمانِ ابنَ يَزِيدَ عنْ عَبْدِ الله قَالَ بَنِي
إسْرَائِيلَ والكَهْفُ ومَرْيَمُ وطهَ والأنْبِياءُ هُنَّ
مِنَ العِتاقِ الأوَّلِ وهُنَّ مِنْ تِلاَدِي.
(انْظُر الحَدِيث 8074 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث مضى فِي تَفْسِير بني إِسْرَائِيل
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة عَن أبي
إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن عبد الله بن
مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
(بني إِسْرَائِيل) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سُورَة بني
إِسْرَائِيل. قَوْله: (والكهف) يجوز فِيهِ الرّفْع والجر،
أما الرّفْع فعلى تَقْدِير أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف
تَقْدِيره: وَالثَّانِي الْكَهْف، وَأما الْجَرّ فعلى
الْعَطف على لفظ: بني إِسْرَائِيل، لِأَنَّهُ مجرور
بِالْإِضَافَة التقديرية، وعَلى هَذَا الْكَلَام فِي
الْبَاقِي. وَالْعتاق، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة: جمع
عَتيق وَهُوَ مَا بلغ الْغَايَة فِي الْجَوْدَة، والتلاد
بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق مَا كَانَ قَدِيما
والأولية بِاعْتِبَار النُّزُول لِأَنَّهَا مكيات
وَأَنَّهَا أول مَا حفظهَا من الْقُرْآن، وَوجه تَفْضِيل
هَذِه السُّور لما تضمن ذكر الْقَصَص وأخباراً أَجله
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
وَقَالَ قَتادَةُ جُذَاذاً قَطَّعَهُنَّ
(19/62)
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير:
(جذاذاً) فِي قَوْله عز وَجل: {فجعلهم جذاذاً إلاَّ
كَبِيرا} (الْأَنْبِيَاء: 85) قطعهن، رَوَاهُ الْحَنْظَلِي
عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن الْعَبَّاس بن الْوَلِيد عَن
يزِيد بن زُرَيْع عَن قَتَادَة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ:
جذاذاً أَي: كسروا قطعا، جمع جذيذ كخفاف جمع خَفِيف،
وَقَرَأَ الْكسَائي بِكَسْر الْجِيم وَالْبَاقُونَ
بِالضَّمِّ، وبالضم يَقع على الْوَاحِد والاثنين وَالْجمع
والمذكر والمؤنث.
وَقَالَ الحَسَنُ فِي فَلَكٍ مِثْلٍ مِثْلِ فَلْكَةِ
المِغْزَلِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي تَفْسِير: فلك، فِي
قَوْله تَعَالَى: {كل فِي فلك يسبحون} (الْأَنْبِيَاء: 33)
مثل فلكة المغزل، وَرَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن
الْحسن، وَعَن مُجَاهِد: كَهَيئَةِ حَدِيدَة الرَّحَى،
وَعَن الضَّحَّاك: فلكها مجْراهَا وَسُرْعَة سَيرهَا،
وَقيل: الْفلك موج مكفوف تجْرِي الْقَمَر وَالشَّمْس
فِيهِ، وَقيل: الْفلك السَّمَاء الَّذِي فِيهِ تِلْكَ
الْكَوَاكِب.
يَسْبَحُونَ يَدُورُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كل فِي فلك يسبحون}
وَفَسرهُ بقوله: (يدورون) وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من
طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: يسبحون
يدورون حوله، وَقيل: يجرونَ، وَجعل الضَّمِير وَاو
الْعُقَلَاء للوصف بفعلهم.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ نَفَشَتْ رَعَتْ لَيْلاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم} (الْأَنْبِيَاء: 87) إِن
معنى نفشت رعت لَيْلًا، وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق
ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول أهل
اللُّغَة: نفشت إِذا رعت لَيْلًا بِلَا رَاع، وَإِذا رعت
نَهَارا بِلَا رَاع أهملت، وَعند ابْن مرْدَوَيْه: كَانَ
كرماً أينع. قَوْله: لَيْلًا، لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة
أبي ذَر.
يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولاهم منا يصحبون}
(الْأَنْبِيَاء: 34) وَفَسرهُ بقوله: (يمْنَعُونَ) وَوَصله
ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: يمْنَعُونَ، وَعَن مُجَاهِد: ولاهم منا
ينْصرُونَ ويحفظون، وَعَن قَتَادَة: لَا يصحبون من الله
بِخَير.
أُمَّتُكمْ أمَّةً واحِدَةً قَالَ دِينُكُمْ دِينٌ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذِه أمتكُم
أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاعبدون} وَفسّر الْأمة
بِالدّينِ، وَعَن قَتَادَة، قَالَ: إِن هَذِه أمتكُم، أَي:
دينكُمْ. قَوْله: قَالَ: (دينكُمْ) أَي قَالَ ابْن
عَبَّاس: وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ: قَالَ، وَنصب: أمتكُم،
على الْقطع.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ حَصَبُ حَطَبُ بالحَبَشِيَّةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا
تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} (الْأَنْبِيَاء: 89)
وَقَالَ عِكْرِمَة: الحصب هُوَ الْحَطب بلغَة الْحَبَش،
وَلَيْسَ هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعَن ابْن عَبَّاس:
يَعْنِي الْأَصْنَام وقود جَهَنَّم، وَقَرَأَ بِالطَّاءِ،
وَكَذَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، وَقيل: الحصب فِي لُغَة أهل
الْيمن الْحَطب، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا أَنه قَرَأَهَا
بالضاد الساقطة المنقوطة وَهُوَ مَا هيجت بِهِ النَّار.
وَقَالَ غَيْرُهُ أحَسُّوا تَوَقَّعُوهُ مِنْ أحْسَسْتُ
أَي: قَالَ غير عِكْرِمَة فِي معنى: (أحسوا) فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَلَمَّا أحسوا بأسنا إِذا هم مِنْهَا يركضون}
(الْأَنْبِيَاء: 21) قَالَ: مَعْنَاهُ توقعوه، أَي
الْعَذَاب، وَفِي التَّفْسِير أَي: لما رَأَوْا عذابنا
إِذا هم مِنْهَا، أَي: من الْقرْيَة يركضون أَي: يخرجُون
مُسْرِعين، والركض فِي الأَصْل ضرب الدَّابَّة بِالرجلِ،
وَقيل للسقي. قَالَ معمر: مَوضِع، قَالَ غير عِكْرِمَة
وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن
الْمثنى. قَوْله: (من أحسست) يَعْنِي أحسوا مُشْتَقّ من
أحسست من الإحساس وَهُوَ فِي الأَصْل الْعلم بالحواس وَهِي
مشاعر الْإِنْسَان كَالْعَيْنِ وَالْأُذن وَالْأنف
وَاللِّسَان وَالْيَد، وَمن هَذَا قَالَ بعض الْمُفَسّرين:
يَعْنِي فَلَمَّا أحسوا أَي فَلَمَّا أدركوا بحواسهم شدَّة
عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة لم يشكوا فِيهَا إِذا هم
مِنْهَا يركضون أَي يهربون سرَاعًا.
خامِدِينَ هَامِدِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى جعلناهم
حصيداً خامدين} (الْأَنْبِيَاء: 51) وَفَسرهُ بقوله:
(هامدين) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، يُقَال: همدت
النَّار تمهد هموداً، أَي: طفيت وَذَهَبت الْبَتَّةَ،
والهمدة السكتة وهمد الثَّوْب يهمد هموداً أَي: بلَى وأهمد
فِي الْمَكَان أَقَامَ، وأهمد فِي السّير أسْرع، وَهَذَا
الْحَرْف من الأضداد وَأَرْض هامدة لَا نَبَات بهَا ونبات
هامد يَابِس، وَفِي التَّفْسِير معنى خامدين ميتين.
(19/63)
حَصِيدٌ مُسْتَأصَلٌ يَقَعُ عَلَى
الوَاحِدِ والاثْنَيْنِ والجَمِيع
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى جعلناهم
حصيداً} (الْأَنْبِيَاء: 51) وَفسّر الحصيد بقوله:
(مستأصل) وَهُوَ من الاستئصال، وَهُوَ قلع الشَّيْء من
أَصله. قَوْله: (يَقع) أَي: لفظ حصيد يَسْتَوِي فِيهِ
الْوَاحِد والاثنان وَالْجمع من الذُّكُور وَالْإِنَاث.
لاَ يَسْتَحْسِرُونَ لاَ يَعْيُونَ ومِنْهُ حَسِيرٌ
وحَسَرْتُ بَعِيرِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ
عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون} (الْأَنْبِيَاء: 91)
وَفَسرهُ بقوله: (لَا يعيون) بِفَتْح الْيَاء كَذَا وَقع
فِي رِوَايَة أبي ذَر، ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين،
وَقَالَ: الصَّوَاب الضَّم من الإعياء. قلت: لَا وَجه
للرَّدّ عَلَيْهِ بل الصَّوَاب الْفَتْح لِأَن معنى: لَا
يعيون، بِالْفَتْح لَا يعجزون، وَقيل: لَا ينقطعون وَمِنْه
الحسير وَهُوَ الْمُنْقَطع الْوَاقِف عياً وكلالاً
والإعياء يكون من الْغَيْر. قَوْله: (وحسرت بَعِيري) أَي:
أعييته.
عَمِيقٌ بَعِيدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {من كل فج عميق}
(الْحَج: 72) وَفسّر العميق بالبعيد وَلَكِن هَذَا فِي
سُورَة الْحَج، وَاعْتذر عَنهُ بَعضهم بِمَا ملخصه أَنه
ذكر فِي هَذِه السُّورَة فجاجاً وَذكر الْفَج
اسْتِطْرَادًا. قلت: فِيهِ مَا فِيهِ بل الظَّاهِر أَنه من
غَيره.
نُكِسُوا رُدُّوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {نكسوا على رؤوسهم}
(الْأَنْبِيَاء: 56) . وَفَسرهُ بقوله: ردوا، على صِيغَة
الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَعَن أبي عُبَيْدَة، أَي:
قلبوا وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: نكسوا متحيرين وَعَلمُوا أَن
الْأَصْنَام لَا تنطق وَلَا تبطش، يُقَال: نكسته قلبته
فَجعلت أَسْفَله أَعْلَاهُ، وانتكس انْقَلب، وَقيل:
انتكسوا عَن كَونهم مجادلين لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلَام.
صَنْعَةَ لَبُوسٍ الدُّرُوعُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعلمناه صَنْعَة
لبوس لَكِن لتحصنكم من بأسكم} (الْأَنْبِيَاء: 08) وَفسّر:
(صَنْعَة لبوس: بالدروع) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: اللبوس
السِّلَاح كُله من درع إِلَى رمح، وروى عبد الرَّزَّاق عَن
معمر عَن قَتَادَة: اللبوس الدروع كَانَت صَفَائِح، وَأول
من سردها وحلقها دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: اللبوس عِنْد الْعَرَب السِّلَاح كُله
درعاً كَانَ أَو جوشناً أَو سَيْفا أَو رمحاً، وَإِنَّمَا
عَنى الله تَعَالَى بِهِ فِي هَذَا الْموضع الدرْع، وَهُوَ
بِمَعْنى الملبوس كالحلوب وَالرُّكُوب.
تَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ اخْتَلَفُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتقطعوا أَمرهم
بَينهم كل إِلَيْنَا رَاجِعُون} (الْأَنْبِيَاء: 39)
وَفَسرهُ بقوله: اخْتلفُوا، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة،
وَزَاد: وَتَفَرَّقُوا، وَفِي التَّفْسِير: أَي اخْتلفُوا
فِي الدّين وصاروا فِيهِ فرقا وأحزاباً، فقد قَالَ عز
وَجل: {كل إِلَيْنَا رَاجِعُون} فيجزيهم بأعمالهم،
وَيُقَال: اخْتلفُوا فصاروا يهود ونصارى ومجوس ومشركين.
الحَسِيسُ والحِسُّ والجرْسُ والهمْسُ واحِدٌ وهْوَ مِنَ
الصَّوْتِ الخَفِيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ
حَسِيسهَا} (الْأَنْبِيَاء: 201) قَوْله: (الحسيس) ،
مُبْتَدأ وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وَخَبره: (وَاحِد) .
قَوْله: (الْخَفي) مَرْفُوع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ
الَّذِي هُوَ قَوْله: (وَهُوَ) ، وَكلمَة: من،
بَيَانِيَّة. وَفِي التَّفْسِير: لَا يسمع أهل الْجنَّة
حسيس النَّار أَي صَوتهَا إِذا نزلُوا مَنَازِلهمْ من
الْجنَّة. قَوْله: (والجرس) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا
وَسُكُون الرَّاء وَهَذَا كُله لم يثبت فِي رِوَايَة أبي
ذَر.
آذَنّاكَ أعْلَمْناكَ آذَنْتُكُمْ إذَا أعْلَمْتَهُ فأنْتَ
وهْوَ عَلى سَواء لَمْ تَغْدِرْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا آذناك مَا
منا من شَهِيد} (فصلت: 74) وَفَسرهُ بقوله: (أعلمناك)
وَلَكِن هَذَا لَيْسَ فِي هَذِه السُّورَة بل هُوَ فِي
سُورَة حم فصلت وَإِنَّمَا ذكره اسْتِطْرَادًا لمناسبة.
قَوْله: (آذنتكم) ، فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا
فَقل آذنتكم على سَوَاء} (الْأَنْبِيَاء: 901) وَقد فسره
بقوله: (إِذا أعلمته)
إِلَى آخِره. قَوْله: (على سَوَاء) ، مستوين فِي
الْإِعْلَام بِهِ ظَاهِرين بذلك فَلَا غدر وَلَا خداع
لأحد.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: لَعَلَّكُمْ تُسْألُونَ تُفْهَمُونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تركضوا
وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم لَعَلَّكُمْ
تسْأَلُون} (الْأَنْبِيَاء: 31) قَالَ: أَي: (تفهمون) ،
وَقَالَ الْحَنْظَلِي: حَدثنَا حجاج عَن شَبابَة عَن
وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: وَلَفظه تفقهون،
وَكَذَا هُوَ عِنْد ابْن الْمُنْذر.
(19/64)
ارْتَضَى رَضِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا بَين
أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى وهم
من خَشيته مشفقون} (الْأَنْبِيَاء: 82) وَفسّر: ارتضى
بقوله: (رَضِي) قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي بقول لَا إِلَه
إلاَّ الله، وَقَالَ مُجَاهِد: لمن رَضِي عَنهُ.
التَّماثِيلُ الأصنامُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِه التماثيل
الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون} (الْأَنْبِيَاء: 25) وَفسّر
التماثيل بالأصنام، وَهُوَ جمع تِمْثَال وَهُوَ إسم
للشَّيْء الْمَصْنُوع شَبِيها بِخلق من خلق الله تَعَالَى،
وَأَصله من مثلت الشَّيْء بالشَّيْء إِذا شبهته بِهِ.
السِّجلُّ الصَّحِيفَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نطوي
السَّمَاء كطي السّجل للكتب} (الْأَنْبِيَاء: 401) وَفسّر
السّجل بالصحيفة، أَي: الْمَكْتُوب، وَقيل: السّجل إسم
مَخْصُوص كَانَ يكْتب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق
عَمْرو بن مَالك عَن أبي الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل:
هُوَ ملك يطوي الصُّحُف، وَبِه قَالَ السّديّ أَيْضا،
وَاللَّام فِي قَوْله: (للكتب) بِمَعْنى: على، يَعْنِي:
كطي الصَّحِيفَة على مكتوبها.
2 - {كَمَا بَدَأنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وعْداً
عَلَيْنا إنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} (الْأَنْبِيَاء: 401)
وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَوْله: {كَمَا بدأنا أول خلق
نعيده وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعلين} قَوْله: (كَمَا
بدأنا) أَي: كَمَا بدأناهم فِي بطُون أمهاتهم حُفَاة
عُرَاة غرلًا كَذَلِك نعيدهم يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل:
كَمَا بدأناه من المَاء نعيده من التُّرَاب، وَنصب: وَعدا،
على الْمصدر أَي: وعدناه وَعدا علينا. قَوْله: (فاعلين) ،
يَعْنِي: الْإِعَادَة والبعث.
0474 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بن حَرْبٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ
المُغِيَرةِ بن النُّعْمانِ شَيْخِ مِنَ النَّخَعِ عنْ
سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابْن عَبَّاسٍ رضيَ الله
عَنْهُمَا قَالَ خَطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: {إنكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى الله حُفاةً عُرَاةً
غُزْلاً كَمَا بَدأنا أوَّلَ خلْقٍ نُعِيدُهُ وعْداً
عَلَيْنا إنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} ثُمَّ إنَّ أوَّلَ مَنْ
يُكْسَي يَوْمَ القِيامَةِ إبْرَاهِيمُ إلاَّ إنَّهُ
يُجاءُ بِرِجالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ
الشِّمالِ فأقُولُ يَا رَبِّ أصْحابي فَيُقالُ لَا تَدْرِي
مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ فأقُولُ كَما قَالَ العَبْدُ
الصَّالِحُ: {وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ
فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {شَهِيدٌ} (الْمَائِدَة: 711)
فيُقالُ إنَّ هاؤُلاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى
أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فارَقْتَهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَوْله: (من النخع) ،
بِفَتْح الْخَاء وَالنُّون الْمُعْجَمَة وبالعين
الْمُهْملَة: وَهِي قَبيلَة كَبِيرَة من مذْحج، وَاسم
النخع جسر بن عَمْرو بن عِلّة بن جلد بن أدد، وَقيل لَهُ:
النخع، لِأَنَّهُ انتخع عَن قومه، أَي: بعد عَنْهُم،
ونزلوا فِي الْإِسْلَام الْكُوفَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قَوْله
تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء:
521) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن
سُفْيَان عَن الْمُغيرَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (غرلًا) ، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: جمع أغرل
وَهُوَ الأقلف. قَوْله: (إِلَّا أَنه) أَي: لَكِن إِن
الشَّأْن. قَوْله: (ذَات الشمَال) ، أَي: جِهَة النَّار.
قَوْله: (مرتدين) ، لم يرد بهم الرِّدَّة عَن الْإِسْلَام
بل التَّخَلُّف عَن الْحُقُوق الْوَاجِبَة وَلم يرْتَد
بِحَمْد الله أحد من الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ارْتَدَّ قوم
من جُفَاة الْأَعْرَاب الداخلين فِي الْإِسْلَام رَغْبَة
أَو رهبة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى،
وَالله أعلم.
22 - (سورَةُ الحَجِّ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْحَج، وَذكر ابْن
مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله
عَنْهُم: أَنَّهُمَا قَالَا: نزلت سُورَة الْحَج
بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ مقَاتل: بَعْضهَا مكي أَيْضا،
وَعَن قَتَادَة: إِنَّهَا مَكِّيَّة، وَعنهُ: مَدَنِيَّة
غير أَربع آيَات، وَعَن عَطاء: إلاَّ ثَلَاث آيَات
مِنْهَا. قَوْله: {هَذَانِ خصمان} (الْحَج: 91) وَقَالَ
هبة بن سَلامَة: هِيَ من أَعَاجِيب سور الْقُرْآن لِأَن
فِيهَا. مكياً ومدنياً وسفرياً وحضرياً وحربياً وسلمياً
وليلياً ونهارياً وناسخاً ومنسوخاً وَهِي خَمْسَة آلَاف
وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ حرفا، وَألف ومائتان
(19/65)
وَإِحْدَى وَتسْعُونَ كلمة، وثمان
وَتسْعُونَ آيَة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة للْكُلّ.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ المُخْبِتينَ المُطْمَئِنِّينَ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَبشر المخبتين} (الْحَج: 43) أَي: (المطمئنين) كَذَا
ذكره ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن جريج عَن
مُجَاهِد، وَقيل: المطمئنين بِأَمْر الله، وَقيل:
المطيعين، وَقيل: المتواضعين، وَقيل: الخاشعين وَهُوَ من
الإخبات والخبت بِفَتْح أَوله المطمئن من الأَرْض.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس فِي: {إذَا تَمَنَّى ألْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الْحَج: 25) إذَا حَدَّثَ
ألْقَى الشَّيْطانُ فِي حَدِيثِهِ فَيُبْطِلُ الله مَا
يُلْقِي الشَّيْطانُ ويُحْكِم آياتِهِ.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَا
أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إلاَّ إِذا تمنى
ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} ... الْآيَة، وَهَذَا
التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ عَن
أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة عَن عَليّ
بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَقد تكلم الْمُفَسِّرُونَ فِي
هَذِه الْآيَة أَشْيَاء كَثِيرَة، وَالْأَحْسَن مِنْهَا
مَا قَالَه أَبُو الْحسن بن عَليّ الطَّبَرِيّ: لَيْسَ
هَذَا التَّمَنِّي من الْقُرْآن وَالْوَحي فِي شَيْء
وَإِنَّمَا هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
كَانَ إِذا صفرت يَده من المَال وَرَأى مَا بِأَصْحَابِهِ
من سوء الْحَال تمنى الدُّنْيَا بِقَلْبِه ووسوسة
الشَّيْطَان، وَأحسن من هَذَا أَيْضا مَا قَالَه بَعضهم:
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرتل الْقُرْآن
فارتصده الشَّيْطَان فِي سكتة من السكتات ونطق بِتِلْكَ
الْكَلِمَات محاكياً نغمته بِحَيْثُ سَمعه من دنا إِلَيْهِ
فظنها من قَوْله وأشاعها. قلت: تِلْكَ الْكَلِمَات هِيَ
مَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم والطبري وَابْن الْمُنْذر من
طرق عَن شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِمَكَّة النَّجْم فَلَمَّا بلغ: {أَفَرَأَيْتُم
اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} (النَّجْم:
91) ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه.
(تِلْكَ الغرانيق العلى ... وَإِن شفاعتهن لترتجى)
فَقَالَ الْمُشْركُونَ: مَا ذكر آلِهَتنَا بِخَير قبل
الْيَوْم فَسجدَ وسجدوا، فَنزلت هَذِه الْآيَة وَرُوِيَ
هَذَا أَيْضا من طرق كَثِيرَة، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ:
ذكر الطَّبَرِيّ فِي ذَلِك رِوَايَات كَثِيرَة بَاطِلَة
لَا أصل لَهَا، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا الحَدِيث لم يُخرجهُ
أحد من أهل الصِّحَّة وَلَا رَوَاهُ ثِقَة بِسَنَد سليم
مُتَّصِل مَعَ ضعف نقلته واضطراب رواياته وَانْقِطَاع
إِسْنَاده، وَكَذَا من تكلم بِهَذِهِ الْقِصَّة من
التَّابِعين والمفسرين لم يسندها أحد مِنْهُم وَلَا
رَفعهَا إِلَى صَاحبه، وَأكْثر الطّرق عَنْهُم فِي ذَلِك
ضَعِيفَة. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الَّذِي ذكره ابْن
الْعَرَبِيّ وعياض لَا يمْضِي على الْقَوَاعِد، فَإِن
الطّرق إِذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذَلِك على أَن لَهَا
أصلا. انْتهى.
قلت: الَّذِي ذكرَاهُ هُوَ اللَّائِق بجلالة قدر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قد قَامَت الْحجَّة
وَاجْتمعت الْأمة على عصمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ونزاهته عَن مثل هَذِه الرذيلة، وحاشاه عَن أَن يجْرِي على
قلبه أَو لِسَانه شَيْء من ذَلِك لَا عمدا وَلَا سَهوا.
أَو يكون للشَّيْطَان عَلَيْهِ سَبِيل أَو أَن يتقول على
الله عز وَجل لَا عمدا وَلَا سَهوا. وَالنَّظَر وَالْعرْف
أَيْضا يحيلان ذَلِك وَلَو وَقع لارتد كثير مِمَّن أسلم،
وَلم ينْقل ذَلِك وَلَا كَانَ يخفى على من كَانَ
بِحَضْرَتِهِ من الْمُسلمين. قَوْله: (من رَسُول وَلَا
نَبِي) الرَّسُول هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْوَحْي عيَانًا
وشفاهاً، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي تكون نبوته إلهاماً أَو
كلَاما، فَكل رَسُول نَبِي بِغَيْر عكس. قَوْله: (إِذا
تمنى) أَي: إِذا أحب واشتهى، وَحدثت بِهِ نَفسه مِمَّا لم
يُؤمر بِهِ. قَوْله: (فِي أمْنِيته) ، أَي: مُرَاده،
وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أَي فِي قِرَاءَته، فَأخْبر
الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَن سنته فِي رسله إِذا
قَالُوا قولا زَاد الشَّيْطَان فِيهِ من قبل نَفسه،
فَهَذَا نَص فِي أَن الشَّيْطَان زَاده فِي قَول النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَه.
ويُقالُ أُمْنيَّتُهُ قِرَاءَتُهُ إلاّ أمانِيَّ
يَقْرَؤُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ
هُوَ قَول الْفراء فَإِنَّهُ قَالَ: معنى قَوْله: (إِلَّا
إِذا تمنى) ، إلاَّ إِذا تلى قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى كتاب الله أول لَيْلَة ... تمني دَاوُد الزبُور على
رسل)
(19/66)
قَوْله: (إِلَّا أماني) ، إِشَارَة إِلَى
قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ
الْكتاب إِلَّا أماني} (الْبَقَرَة: 87) أوردهُ
اسْتِشْهَادًا بِأَن: تمنى، بِمَعْنى تَلا، لِأَن معنى
قَوْله: إِلَّا أماني إلاَّ مَا يقرأون.
{وَقَالَ مُجاهِدٌ مَشِيدٌ بالقَصَّةِ} أَي قَالَ مُجَاهِد
فِي قَوْله تَعَالَى: {وبئر معطلة وَقصر مشيد} (الْحَج:
54) إِن مَعْنَاهُ: قصر مشيد، يَعْنِي: مَعْمُول بالشيد،
بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: وَهُوَ الجص، بِكَسْر
الْجِيم وَفتحهَا. وَهُوَ الكلس. وَفِي (الْمغرب) : الجص
تعريب كج، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: شاده يشيده جصصه.
وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وربيع: قصر مشيد أَي
طَوِيل، وَعَن الضَّحَّاك: إِن هَذِه الْبِئْر إِنَّمَا
كَانَت بحضرموت فِي بَلْدَة يُقَال لَهَا حاضورا، وَذَلِكَ
أَن أَرْبَعَة آلَاف نفر مِمَّن آمن بِصَالح عَلَيْهِ
السَّلَام، لما نَجوا من الْعَذَاب أَتَوا حَضرمَوْت
وَمَعَهُمْ صَالح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَلَمَّا حَضَرُوهُ مَاتَ صَالح فسميت حَضرمَوْت لِأَن
صَالحا لما مَاتَ بنوا حاضورا وقعدوا على هَذِه الْبِئْر
وَأمرُوا عَلَيْهِم رجلا يُقَال لَهُ جلهس بن جلاس بن
سُوَيْد وَجعلُوا وزيره سخاريب ابْن سوَاده فأقاموا دهراً
وتناسلوا حَتَّى نموا وكثروا ثمَّ عبدُوا الْأَصْنَام
وَكَفرُوا بِاللَّه تَعَالَى، فَأرْسل الله إِلَيْهِم
نَبيا يُقَال لَهُ حَنْظَلَة ابْن صَفْوَان كَانَ جمالاً
فيهم فَقَتَلُوهُ فِي السُّوق فأهلكهم الله تَعَالَى وعطلت
بئرهم وَخَربَتْ قصورهم.
وَقَالَ غَيْرُهُ يَسْطُونَ يَفْرُطُونَ من السَّطْوَةِ
ويُقالُ يَسْطُونَ يَبْطِشُونَ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {يكادون
يسطون بالذين يَتلون عَلَيْهِم} (الْحَج: 27) إِن معنى
قَوْله: (يسطون: يفرطون) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة من
فرط يفرط فرطا من بَاب نصر ينصر، أَي: قصر وضيع حَتَّى
مَاتَ وفرط عَلَيْهِ إِذا عجل وَعدا، وفرط إِذا سبق.
قَوْله: (من السطوة) أَي: اشتقاقه من السطوة، يُقَال:
سَطَا ععليه وسطا بِهِ إِذا تنَاوله بالبطش والعنف والشدة،
أَي: يكادون يقعون بِمُحَمد وَأَصْحَابه من شدَّة الغيظ
ويبسطون إِلَيْهِم أَيْديهم بالسوء. قَوْله: (وَيُقَال) ،
هُوَ قَول الْفراء فَإِنَّهُ كَانَ مشركو قُرَيْش إِذا
سمعُوا الْمُسلم يَتْلُو الْقُرْآن كَادُوا يبطشون بِهِ،
وَكَذَا روى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: يسطون، فَقَالَ:
يبطشون.
وهُدُوا إِلَى الطّيِّبِ مِنَ القَوْل أُلْهِمُوا إِلَى
القُرْآن
هَذَا فِي وصف أهل الْجنَّة، وَفسّر الطّيب من القَوْل
بقوله: (ألهموا إِلَى الْقُرْآن) هَكَذَا فسره السّديّ.
قَوْله: (وَعَن ابْن عَبَّاس يُرِيد لَا إل هـ إلاَّ الله
وَالْحَمْد لله) وَزَاد ابْن زيد: (وَالله أكبر) . قَوْله:
(ألهموا) فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: (إِلَى الْقُرْآن)
وَلم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَا بُد مِنْهُ
لِأَن ذكر شَيْء من الْقُرْآن من غير تَفْسِيره لَا طائل
تَحْتَهُ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ بِسَبَبٍ بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ
البَيْتِ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي
تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء
ثمَّ ليقطع} (الْحَج: 51) وَفَسرهُ بقوله: (بِحَبل إِلَى
سقف الْبَيْت) هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر
عَن عبد الله بن الْوَلِيد عَن سُفْيَان عَن التَّمِيمِي
عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: فليمدد بِحَبل إِلَى سَمَاء
بَيته فليختنق بِهِ، وَرَوَاهُ عبد بن حميد من طَرِيق أبي
إِسْحَاق عَن التَّمِيمِي عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: من
كَانَ يظنّ أَن لن ينصر الله مُحَمَّدًا فليمدد بِسَبَب
إِلَى سَمَاء بَيته فليختنق بِهِ.
تَذْهَلُ تُشْغَلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تذهل كل
مُرْضِعَة} (الْحَج: 2) وَفسّر: (تذهل) بقوله: (تشتغل)
قَالَ الثَّعْلَبِيّ: كَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَعَن
الضَّحَّاك، تسلوا، يُقَال: ذهلت عَن كَذَا، أَي: تركته.
1474 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا
الأعْمَشُ حَدثنَا أبُو صالِحٍ عَنْ أبي سَعِيدٍ
الخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَا آدَمُ
يَقُولُ لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ فينادِي بِصَوْتٍ
إنَّ الله يأمُرُكَ أنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ
بَعْثاً إِلَى النّارِ قَالَ يَا ربِّ
(19/67)
وَمَا بَعْثُ النارِ قَالَ مِنْ كُلِّ
ألْفٍ أرَاهُ قَالَ تَسْعَمائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ
فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الحامِلُ حَمْلَها ويَشِيبُ الوَلِيدُ:
{وتَرَى النّاسَ سُكارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ولاكِنَّ
عَذابَ الله شَدِيدٌ} (الْحَج: 1) فَشَقَّ ذالِكَ عَلَى
النّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وِجُوهُهُمْ فَقَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ يأجُوج ومَأْجُوجَ
تِسِعْمَائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ ومِنْكُمْ واحِدٌ
ثُمَّ أنْتُمْ فِي النّاسِ كالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي
جَنْبِ الثَّوْرِ الأبْيَضِ أوْ كالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ
فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ وإنِّي لأرْجُو أنَ
تكونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنا ثُمَّ قَالَ
ثُلُثَ أهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنا ثُمَّ قَالَ شَطْرَ
أهْلِ الجَنّةِ فَكَبَّرْنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة وَهِي فِي سُورَة الْحَج ظَاهِرَة.
وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان. والْحَدِيث مضى فِي
أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قصَّة يَأْجُوج
وَمَأْجُوج، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رَبنَا) ، أَي: يَا رَبنَا. قَوْله: (فينادي) ،
على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (بعثاً) . بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مَبْعُوثًا أَي: أخرج من النَّاس
الَّذين هم أهل النَّار وابعثهم إِلَيْهَا. قَوْله:
(أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة، قَوْله: (أَو كالشعرة) ، كلمة،
أَو، هُنَا يحْتَمل التنويع من رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَالشَّكّ من الرَّاوِي (فكبرنا) أَي:
فعظمنا ذَلِك أَو قُلْنَا: الله أكبر، سُرُورًا بِهَذِهِ
الْبشَارَة. قَوْله: (شطر أهل الْجنَّة) ، أَي: نصفهَا.
1 - (بابٌ وتَرَى النَّاسَ سُكارَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَترى النَّاس
سكارى} الْآيَة وَلم تُوجد هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ فِي
رِوَايَة أبي ذَر وَحده.
قَالَ أبُو أُسامَةَ عنِ الأعْمَشِ: {تَرَى النّاسَ
سُكارَى وَمَا هُمْ بِسُكارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}
وَقَالَ: مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمائَةٍ وتِسْعَةً
وتِسْعِينَ.
أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة يروي عَن سُلَيْمَان
الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد
وصل البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق فِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج، عَن
إِسْحَاق بن نصر عَن أبي أُسَامَة إِلَى آخِره.
وَقَالَ جَرِيرٌ وعِيسَى بنُ يُونُسَ وأبُو مُعاوِيَةَ
سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى
أَرَادَ أَن هَؤُلَاءِ رَوَوْهُ عَن الْأَعْمَش
بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه لكِنهمْ خالفوه فِي لفظ: سكارى،
لأَنهم رَوَوْهُ بِلَفْظ: سكرى، بِالْإِفْرَادِ دون
الْجمع، أما قَول جرير بن الحميد فوصله البُخَارِيّ فِي
الرقَاق فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {إِن زَلْزَلَة
السَّاعَة شَيْء عَظِيم} عَن يُوسُف بن مُوسَى عَن جرير
عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد إِلَى آخِره،
وَأما قَول عِيسَى بن يُونُس فوصله إِسْحَاق ابْن
رَاهَوَيْه عَنهُ كَذَلِك فِي مُسْنده بِلَفْظ
الْإِفْرَاد، وَأما قَول أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم
فوصله مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن أبي
مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَلَكِن اخْتلف
فِيهِ على أبي مُعَاوِيَة، فَفِي رِوَايَة مُسلم بِلَفْظ
الْجمع، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه عَنهُ بِلَفْظ
الْإِفْرَاد، فَافْهَم.
2
- (بابٌ: {ومِن النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ
فإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ على وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا
والآخِرَةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ
البَعِيد} (الْحَج: 11 21) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله عز وَجل: {وَمن النَّاس}
... الْآيَة. قَالَ الواحدي: روى عَطِيَّة عَن أبي سعيد
قَالَ: أسلم رجل من الْيَهُود فَذهب بَصَره وَمَاله فتشاءم
بِالْإِسْلَامِ، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَقَالَ: أَقلنِي. قَالَ: إِن الْإِسْلَام لَا يُقَال
وَالْإِسْلَام يسْكب الرِّجَال كَمَا تسكب النَّار خبث
الْحَدِيد، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَسَيَأْتِي عَن ابْن
عَبَّاس وَجه آخر.
قَوْله: (على حرف) ، أَي: طرف وَاحِد وجانب فِي الدّين لَا
يدْخل فِيهِ على الثَّبَات والتمكين، والحرف مُنْتَهى
الْجِسْم، وَعَن مُجَاهِد: على شكّ، وَعَن الْحسن:
(19/68)
هُوَ الْمُنَافِق يعبد بِلِسَانِهِ دون
قلبه. قَوْله: (خيرا) ، أَي: صِحَة فِي جِسْمه وسعة فِي
معيشته. قَوْله: (اطْمَأَن بِهِ) ، أَي: أَي: رَضِي بِهِ
وَأقَام عَلَيْهِ. قَوْله: (فتْنَة) ، أَي: بلَاء فِي
جِسْمه وضيقاً فِي معيشته. قَوْله: (انْقَلب على وَجهه)
ارْتَدَّ فَرجع إِلَى وَجهه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ من
الْكفْر. قَوْله: (الخسران الْمُبين) ، أَي: الضلال
الظَّاهِر. قَوْله: (الضلال الْبعيد) ، أَي: ذهب عَن الْحق
ذَهَابًا بَعيدا.
شَكّ أتْرَافْناهُمْ وسَّعْناهُمْ
قَوْله: (شكّ) تَفْسِير قَوْله: حرف، وَلم يُوجد ذَلِك
إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
هَذِه من السُّورَة الَّتِي تَلِيهَا، وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلأ من قومه الَّذين كفرُوا وكذبوا
بلقاء الْآخِرَة واتر فناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا}
(الْمُؤْمِنُونَ: 33) وَلم يكن مَوْضِعه هُنَا.
2474 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ الحَارِثِ حَدثنَا يَحْيَى
بنُ أبي بُكَيْرٍ حَدثنَا إسْرَائِيلُ عنْ أبي حَصِينٍ عنْ
سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
عَنْهُمَا قَالَ ومِنَ الناسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى
حَرْفٍ قَالَ كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ فإنْ
وَلَدَتِ امْرَأتُهُ غُلاَماً ونُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ
هَذَا دِينٌ صالحٌ وإنْ لمْ تَلِدِ امْرَأتُهُ ولَمْ
تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ هاذَا دِينُ سَوْءٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِبْرَاهِيم بن
الْحَارِث الْكرْمَانِي سكن بَغْدَاد روى عَنهُ
البُخَارِيّ حديثين أَحدهمَا هُنَا وَالْآخر فِي
الْوَصَايَا، وَيحيى بن أبي بكير، وَاسم أبي بكير قيس
الْكُوفِي قَاضِي كرمان، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي
إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء
وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: واسْمه عُثْمَان بن
عَاصِم الْأَسدي. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (كَانَ الرجل يقدم الْمَدِينَة) ، وَفِي رِوَايَة
لِابْنِ مرْدَوَيْه: كَانَ أحدهم إِذا قدم الْمَدِينَة،
وَفِي رِوَايَة جَعْفَر بن أبي الْمُغيرَة عَن سعيد بن
جُبَير: كَانَ نَاس من الْأَعْرَاب يأْتونَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يسلمُونَ. قَوْله: (ونتجت خيلة) ،
بِضَم النُّون على صِيغَة الْمَجْهُول، يُقَال: نتجت
النَّاقة فَهِيَ منتوجة مثل نفست الْمَرْأَة فَهِيَ
منفوسة، فَإِذا أردْت أَنَّهَا حَاضَت قلت: نفست، بِفَتْح
النُّون، ونتجها أَهلهَا، وَمِنْهُم من حكى الضَّم فِي
نفست فِي الثَّانِي وَالْفَتْح فِي الأول، وَزَاد
الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: وَصَحَّ جِسْمه. أخرجه ابْن
أبي حَاتِم. قَوْله: (قَالَ هَذَا دين صَالح) وَفِي
رِوَايَة الْحسن. قَالَ: لنعم الدّين هَذَا، وَفِي
رِوَايَة جَعْفَر، قَالُوا: إِن ديننَا هَذَا لصالح
فَتمسكُوا بِهِ. قَوْله: (قَالَ هَذَا دين سوء) يجوز
بِالصّفةِ وبالإضافة وَفِي رِوَايَة جَعْفَر: وَإِن وجدوا
عَام جَدب وقحط وولاد سوء قَالُوا مَا فِي ديننَا هَذَا
خير، وَفِي رِوَايَة الْعَوْفِيّ: وَإِن أَصَابَهُ وجع
الْمَدِينَة وَولدت امْرَأَته جَارِيَة وتأخرت عَنهُ
الصَّدَقَة أَتَاهُ الشَّيْطَان فَقَالَ: وَالله مَا أصبت
على دينك هَذَا إِلَّا شرا، وَفِي رِوَايَة الْحسن: فَإِن
سقم جِسْمه وحبست عَنهُ الصَّدَقَة وأصابته الْحَاجة
قَالَ: وَالله لَيْسَ الدّين هَذَا، مَا زلت أتعرف
النُّقْصَان فِي جسمي وَمَالِي، وَالله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أعلم.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ} (الْحَج: 91)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هَذَانِ خصمان} ...
الْآيَة، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، والخصمان
تَثْنِيَة خصم وَهُوَ يُطلق على الْوَاحِد وَغَيره،
وَيُقَال: الْخصم إسم شَبيه بِالْمَصْدَرِ فَلذَلِك قَالَ:
اخْتَصَمُوا، والخصم من تقع مِنْهُ الْمُخَاصمَة.
3474 - حدَّثنا حَجّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا هُشَيْمٌ
أخْبَرَنا أبُوا هاشِمٍ عنْ أبي مِجْلَزٍ عنْ قَيْسِ بنِ
عُبادٍ عنْ أبي ذَرٍّ رَضِي الله عنهُ أنّهُ كانَ يُقْسِمُ
فِيها إنَّ هاذِهِ الآيَةَ: {هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا
فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وصاحِبَيْهِ
وعُتْبَةَ وصاحِبَيْهِ يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ.
(انْظُر الحَدِيث 6693 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وهشيم بِالتَّصْغِيرِ ابْن
بشير كَذَلِك، وَأَبُو هَاشم يحيى بن دِينَار الرماني
بِضَم الرَّاء، وَأَبُو مجلز، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون
الْجِيم وَفتح اللَّام وبالزاي: اسْمه لَاحق بن حميدي
السدودي، وَقيس بن عباد، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف الْبَاء الْوحدَة: الْبَصْرِيّ، وَأَبُو ذَر
اسْمه جُنْدُب بن جُنَادَة، والْحَدِيث قد مر فِي كتاب
الْمَغَازِي فِي: بَاب قتل أبي جهل.
قَوْله: (كَانَ
(19/69)
يقسم فِيهَا) ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
أبي ذَر عَن الْكشميهني، قيل: هُوَ تَصْحِيف وَالصَّوَاب
رِوَايَة الْأَكْثَرين: يقسم قسما. قَوْله: (فِي رَبهم) .
أَي: فِي دينه وَأمره. قَوْله: (فِي حَمْزَة وصاحبيه) ،
هما: عَليّ وَعبيدَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب. قَوْله:
(وَعتبَة) ، هُوَ ابْن ربيعَة وصاحباه: أَخُوهُ شيبَة
والوليد بن عتبَة الْمَذْكُور.
رَواهُ سُفْيانُ عنْ أبي هاشِمٍ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور بِإِسْنَادِهِ وَمَتنه
سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي هَاشم الْمَذْكُور، وَقد
تقدّمت رِوَايَته مَوْصُولَة فِي غَزْوَة بدر.
وَقَالَ عُثْمانُ عنْ جَرِيرٍ عنْ مَنْصُور عنْ أبي هاشِمٍ
عنْ أبي مِجْلَزٍ قَوْلَهُ
أَي: قَالَ عثان بن أبي شيبَة شيخ البُخَارِيّ عَن جرير بن
عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبي هَاشم
الْمَذْكُور عَن أبي مجلز الْمَذْكُور (قَوْله:) أَي:
مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
4474 - حدَّثنا حَجّاجُ بنُ منْهالٍ حَدثنَا مُعْتَمِرُ
بنُ سُلَيْمانَ قَالَ سَمِعْتُ أبي قَالَ حَدثنَا أبُو
مِجْلَزٍ عنْ قَيْسِ بنِ عُبادٍ عنْ علِيِّ بنِ أبي طالِبٍ
رَضِي الله عنهُ قَالَ أَنا أوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ
يَدَي الرَّحْمانِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 5693 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث قد مر فِي
الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن عبد الله الرقاشِي عَن
مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه.
قَالَ قَيْسٌ وفِيهِمْ نَزَلَتْ: {هاذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الْحَج: 91) قَالَ هُمُ
الَّذِينَ بارَزُوا يَوْمَ بَدْر عَلِيٌّ وحَمْزَةُ
وعُبَيْدَةُ وشَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ وعُتْبَةُ بنُ
رَبِيعَةَ وَالوَلِيدُ بنُ عُتْبَةَ.
أَي: قَالَ قيس بن عباد الْمَذْكُور. قَوْله: (عَليّ
وَحَمْزَة وَعبيدَة) ، أَي: عَليّ بن أبي طَالب وَحَمْزَة
بن عبد الْمطلب وَعبيدَة بن الْحَارِث هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَة الْمُسلمُونَ أقَارِب بعض لأولئك الْكفَّار
وهم شيبَة ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: روى الطَّبَرِيّ من
طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا نزلت فِي
أهل الْكتاب وَالْمُسْلِمين وَمن طَرِيق الْحسن قَالَ: هم
الْكفَّار والمؤمنون، وَمن طَرِيق مُجَاهِد: هُوَ اختصام
الْمُؤمن وَالْكَافِر فِي الْبَعْث. قلت: الْآيَة إِذا
نزلت فِي سَبَب فِي الْأَسْبَاب لَا يمْتَنع أَن تكون
عَامَّة فِي نَظِير ذَلِك السَّبَب، وَالله تَعَالَى أعلم.
32 - (سورَةُ المُؤْمِنِينَ)
أَي: هَذَا تَفْسِير فِي بعض سُورَة الْمُؤمنِينَ، قَالَ:
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة كلهَا، وَهِي مائَة
وثمان عشرَة آيَة، وَأَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف
وحرفان، وَألف وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعُونَ كلمة.
(بشم الله الرحمؤن الرَّحِيم)
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر.
(بَاب)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب قَالَ ابنُ
عُيَيْنَةَ سَبْعَ طَرَائِقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا
فَوْقكُم سبع طرائق} (الْمُؤْمِنُونَ: 71) وَفَسرهُ
سُفْيَان بن عُيَيْنَة بقوله: (سبع سموات) ، وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: إِنَّمَا قيل لَهَا طرائق لِأَن بَعضهنَّ
فَوق بعض فَكل سَمَاء مِنْهُنَّ طَريقَة، وَالْعرب تسمي كل
شَيْء فَوق شَيْء طَريقَة، وَقيل: لِأَنَّهَا طرائق
الْمَلَائِكَة.
لَها سابِقُونَ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ}
(الْمُؤْمِنُونَ: 16) قَوْله: لَهَا، بِمَعْنى: إِلَيْهَا،
وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: سبقت لَهُم من الله
السَّعَادَة فَلذَلِك سارعوا فِي الْخيرَات، وَهَذَا ثَبت
لغير أبي ذَر.
قُلُوبُهُمْ وَجِلَةُ خائِفِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ
مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون}
(الْمُؤْمِنُونَ: 06) وَفسّر: (وَجلة) بقوله: (خَائِفين) ،
وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن
ابْن عَبَّاس، فِيهِ قَالَ: يعْملُونَ خَائِفين، أَي: أَن
لَا يتَقَبَّل مِنْهُم مَا عملوه، وَعَن عَائِشَة رَضِي
الله
(19/70)
عَنْهَا، قَالَت: يَا رَسُول الله، فِي
قَوْله تَعَالَى: {قُلُوبهم وَجلة} (الْمُؤْمِنُونَ: 06)
هُوَ الرجل يَزْنِي وَيسْرق وَهُوَ مَعَ ذَلِك يخَاف الله؟
قَالَ: لَا بل هُوَ الرجل يَصُوم وَيُصلي، وَهُوَ مَعَ
ذَلِك يخَاف الله، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَأحمد وَابْن
مَاجَه، وَصَححهُ الْحَاكِم.
قَالَ ابنُ عبّاسٍ هَيْهاتَ هَيْهاتَ بعِيدٌ بَعِيدٌ
فسر ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {هَيْهَات هَيْهَات لما
توعدون} (الْمُؤْمِنُونَ: 63) بقوله: (بعيد بعيد)
وَرَوَاهُ هَكَذَا الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَرَأَ السَّبْعَة بِفَتْح
التَّاء فيهمَا فِي الْوَصْل وبإسكانها فِي الْوَقْف،
وَيُقَال: من وقف على هَيْهَات وقف بِالْهَاءِ.
فاسْألِ الْعادِّينَ قَالَ المَلائِكَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لبثنا
يَوْمًا أَو بعض يَوْم فاسأل العادين} (الْمُؤْمِنُونَ:
311) وَفسّر العادين بقوله: (قَالَ: الْمَلَائِكَة)
وَلَيْسَ فَاعل قَالَ ابْن عَبَّاس، كَمَا يذهب إِلَيْهِ
الْوَهم من حَيْثُ مَجِيء قَالَ ابْن عَبَّاس قبل هَذَا،
بل الْفَاعِل مُجَاهِد لِأَنَّهُ صرح بذلك فِي رِوَايَة
أبي ذَر والنسفي فَقيل: قَالَ مُجَاهِد فاسأل العادين ...
إِلَى آخِره، وَذكر الثَّعْلَبِيّ الْمَلَائِكَة إِمَّا
الْحفظَة وَإِمَّا الْحساب، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد
السِّين، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة فِي
قَوْله: العادين، قَالَ: الحُساب.
تَنْكُصُونَ تَسْتَأْخِرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وكنتم على أعقابكم
تنكصون} (الْمُؤْمِنُونَ: 66) وَفَسرهُ بقوله: (تستأخرون)
وَكَذَا ذكره الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد وَقيل: أَي ترجعون
الْقَهْقَرَى، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ عِنْد النَّسَفِيّ.
لَناكِبُونَ لَعادِلُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الَّذين لَا
يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون}
(الْمُؤْمِنُونَ: 47) وَفَسرهُ بقوله: (لعادلون) وَكَذَا
روى عَن ابْن عَبَّاس، يُقَال: نكب إِذا مَال وَأعْرض،
وَمِنْه الرّيح النكباء، وَهَذَا ثَبت فِي رِوَايَة أبي
ذَر.
كالِحُونَ عابِسُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تلفح وُجُوههم
النَّار وهم فِيهَا كَالِحُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 401)
وَفَسرهُ بقوله: (عابسون) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن
ابْن عَبَّاس وَيُقَال: الكلوح أَن تتقلص الشفتان عَن
الْأَسْنَان حَتَّى تبدو الْأَسْنَان، وَعَن أبي سعيد
الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {تلفح وُجُوههم النَّار} ...
الْآيَة، قَالَ: تَشْوِيه النَّار فتتقلص شفته الْعليا
حَتَّى تبلغ وسط رَأسه وَتَسْتَرْخِي شفته السُّفْلى
حَتَّى تبلغ سرته.
وَقَالَ غيْرُهُ منْ سُلالَةٍ الوَلَدُ والنُّطْفَةُ
السُّلاَلَةُ
لم يثبت قَوْله: (وَقَالَ غَيره) إلاَّ فِي رِوَايَة أبي
ذَر، أَي: قَالَ غير مُجَاهِد، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة:
فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا
الْإِنْسَان من سلالة} (الْمُؤْمِنُونَ: 21) السلالة
الْوَلَد والنطفة السلالة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: من
سلالة استل من الأَرْض، قَالَه قَتَادَة وَمُجاهد وَابْن
عَبَّاس، وَالْعرب تسمي نُطْفَة الرجل وَولده: سليلة
وسلالة لِأَنَّهُمَا مسلولان مِنْهُ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يَصح تَفْسِير السلالة
بِالْوَلَدِ إِذْ لَيْسَ الْإِنْسَان من الْوَلَد بل
الْأَمر بِالْعَكْسِ؟ قلت: لَيْسَ الْوَلَد تَفْسِيرا
لَهَا بل الْوَلَد مُبْتَدأ وَخَبره السلالة، يَعْنِي:
السلالة مَا يستل من الشَّيْء كَالْوَلَدِ والنطفة.
والجِنّةُ والجُنُونُ واحدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ بِهِ
جنَّة} (الْمُؤْمِنُونَ: 07) أَي: جُنُون، وَكِلَاهُمَا
بِمَعْنى وَاحِد.
والغُثاءُ الزَّبَدُ وَمَا ارْتَفَعَ عَن المَاء
يُنْتَفَعُ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {فجعلناهم غثاء}
(الْمُؤْمِنُونَ: 14) وَفَسرهُ بقوله: (الزّبد)
إِلَى آخِره، وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة.
قَالَ: الغثاء الشَّيْء الْبَالِي.
42 - (سُورَةُ النُّور)
أَي: هَذَا فِي بَيَان تَفْسِير بعض سُورَة النُّور، قَالَ
أَبُو الْعَبَّاس وَمُقَاتِل وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس
فِي آخَرين: مَدَنِيَّة كلهَا لم يذكر فِيهَا اخْتِلَاف،
وَهِي أَربع وَسِتُّونَ آيَة، وَألف وثلاثمائة وست عشرَة
كلمة، وَخَمْسَة آلَاف وسِتمِائَة وَثَمَانُونَ حرفا.
(19/71)
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
مِنْ خِلاَلِهِ مِنْ بَيْنِ أضْعافِ السَّحابِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فترى الودق يخرج من
خلاله} (النُّور: 34) وَفَسرهُ بقوله: (من بَين أَضْعَاف
السَّحَاب) ، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. والخلال جمع
خلل وَهُوَ الْوسط، وَيُقَال: الْخلَل مَوضِع الْمَطَر،
والودق الْمَطَر.
سَنا بَرْقِهِ الضِّياءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يكَاد سنا برقه يذهب
بالأبصار} (النُّور: 34) من شدَّة ضوئه وبرقه.
مُذْعِنِينَ يُقالُ لِلْمُسْتَخْذِي مُذْعِنٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكن لَهُم
الْحق يَأْتُوا إِلَيْهِ مذعنين} (النُّور: 94) وَأَشَارَ
بقوله: (يُقَال) : ... إِلَى آخِره: أَن معنى: مذعنين،
مستخذين من استخذى بِالْخَاءِ والذال المعجمتين أَي: خضع،
قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال خذت
النَّاقة تخذي أسرعت مثل وخذت وخوذت كُله بِمَعْنى وَاحِد،
وَقَالَ أَيْضا: خذا الشَّيْء يخذو وخذواً: استرخي، وخذي
بِالْكَسْرِ مثله، وَأما المذعن فَمن الإذعان وَهُوَ
الْإِسْرَاع، قَالَ الزّجاج: يُقَال أذعن لي بحقي أَي:
طاوعني لما كنت ألتمس مِنْهُ وَصَارَ يسْرع إِلَيْهِ.
أشْتاتاً وشَتَّى وشَتاتٌ وشَتٌّ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم
جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتاً} (النُّور: 16)
قَوْله: (أشتاتاً) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء
بِتَقْدِير قَوْله: (أشتاتاً) ، وَقَوله: (وشتى وشتات وشت)
عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَاحِد) خبر الْمُبْتَدَأ،
والأشتات جمع شت والشت مُفْرد، وَمعنى أشتاتاً:
مُتَفَرّقين.
وَقَالَ ابْنُ عبّاسٍ سُورَةٌ أنْزَلْناها بَيّنَّاها
كَذَا وَقع وَقَالَ عِيَاض كَذَا فِي النّسخ وَالصَّوَاب:
أنزلناها وفرضناها بيناها، فَقَوله: (بيناها) تَفْسِير:
فرضناها، وَيُؤَيّد قَول عِيَاض مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ
من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي
قَوْله: فرضناها، يَقُول: بيناها.
وَقَالَ غَيْرُهُ سمِّيَ القُرْآنُ لِجماعهِ السُّوَرِ
وسُمِّيَتِ السُّورَةُ لِأَنَّهَا مَقْطُوعَةٌ مِنَ
الأخْرَى فَلَمّا قُرِنَ بَعْضُها إِلَى بَعْضٍ سُمِّيَ
قُرْآناً.
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة.
قَوْله: (لجَماعَة السُّور) ، قَالَ الْكرْمَانِي: السُّور
بِالنّصب بِأَن يكون مفعول الْجِمَاع بِمَعْنى الْجمع
مصدرا وَهُوَ بِكَسْر الْجِيم وهاء الضَّمِير، وبالجر
بِأَن يكون مُضَافا إِلَيْهِ، وَالْجَمَاعَة بِمَعْنى
الْجمع ضد الْمُفْرد وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم وتاء
التَّأْنِيث. قَوْله: (وَسميت السُّور) ، وَهِي
الطَّائِفَة من الْقُرْآن محدودة. وَأما من السُّورَة
الَّتِي هِيَ الرُّتْبَة لِأَن السُّور بِمَنْزِلَة
الْمنَازل والمراتب، وَأما من السؤر الَّتِي هِيَ
الْبَقِيَّة من الشَّيْء فقلبت همزتها واواً لِأَنَّهَا
قِطْعَة من الْقُرْآن.
وَقَالَ سَعْدُ بنُ عِيَاضٍ الثُّمالِيُّ. المِشْكَاة
الكُوَّةُ بِلِسانِ الحَبَشَةِ
سعد بن عِيَاض من التَّابِعين من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود،
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: حَدِيثه مُرْسل وَلَا يَصح لَهُ
صُحْبَة، والثمالي، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَتَخْفِيف الْمِيم: نِسْبَة إِلَى ثمالة فِي الأزد وَفِي
ألهان وَفِي تَمِيم، وَالَّذِي فِي الأزد ثمالة هُوَ عَوْف
بن أسلم بن كَعْب، وَالَّذِي فِي ألهان ثمالة بن ألهان،
وَالَّذِي فِي تَمِيم ثمالة وَهُوَ عبد الله بن حرَام بن
مجاشع بن دارم. قَوْله: (الْمشكاة الكوة) ، بِفَتْح
الْكَاف وَضمّهَا، وَقَالَ الواحدي: وَهِي عِنْد الْجَمِيع
غير نَافِذَة، وَقيل: الْمشكاة الَّتِي يعلق بهَا
الْقنْدِيل يدْخل فِيهَا الفتيلة، وَقيل: الْمشكاة
الْوِعَاء من أَدَم يبرد فِيهَا المَاء، وَعَن مُجَاهِد:
هِيَ الْقنْدِيل، وَقَالَ ابْن كَعْب: الْمشكاة صَدره
والمصباح الْإِيمَان وَالْقُرْآن والزجاجة قلبه، والشجرة
الْمُبَارَكَة الْإِخْلَاص.
وقَوْلُهُ تَعالى: {إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ}
(الْقِيَامَة: 71) تألِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بعْضٍ: {فإذَا
قرَأناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذا جَمَعْناهُ
وألْفْناهُ فاتّبِعْ قُرْآنَهُ أيْ مَا جُمِعَ فِيهِ
فاعْمَلْ بِمَا أمَرَكَ وانْتَهِ عَمّا نِهاكَ الله:
ويُقالُ لَيْس
(19/72)
لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ أيْ تألِيفٌ وسُمِّيَ الفُرْقانَ
لأنّهُ يفرق بيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ ويُقال لِلمَرْأةِ
مَا قَرَأتْ بِسَلاً قَطُّ أَي لمْ تَجْمَعْ فِي بَطْنها
ولَداً.
هَذَا كُله ظَاهر ومقصوده بَيَان أَن الْقُرْآن مُشْتَقّ
من قَرَأَ بِمَعْنى جمع لَا من قَرَأَ بِمَعْنى تَلا،
قَوْله: (بسلاً) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح
اللَّام مَقْصُورا. وَهِي الْجلْدَة الرقيقة الَّتِي يكون
فِيهَا الْوَلَد.
{وَقَالَ فرَّضْناها أنْزَلْنا فِيها فَرَائِضَ
مُخْتَلِفَةً ومَنْ قَرَأ فَرَضْنَاها يَقُولُ فَرَضْنا
عَلَيْكُمْ وعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ}
فرضناها بتَشْديد الرَّاء مَعْنَاهُ: أنزلنَا فِيهَا
فَرَائض مُخْتَلفَة وأوجبناها عَلَيْكُم وعَلى من بعدكم
إِلَى قيام السَّاعَة، وَهَذِه قِرَاءَة ابْن كثير وَأبي
عَمْرو، وَقِرَاءَة البَاقِينَ: فرضناها، بِالتَّخْفِيفِ
أَي: جعلناها وَاجِبَة مَقْطُوعًا بهَا، وَهُوَ معنى
قَوْله: (وَمن قَرَأَ فرضناها) يَعْنِي بِالتَّخْفِيفِ من
الْفَرْض وَهُوَ الْقطع. قَوْله: (وعَلى من بعدكم) أَي:
على الَّذين يأْتونَ بعدكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ مُجااهِدٌ: {أَو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ
يَظْهَرُوا} (النُّور: 13) : لَمْ يَدْرُوا لَما بِهِمْ
مِنَ الصِّغَرِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {أَو الطِّفْل
الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء} (النُّور: 13)
وَفَسرهُ بقوله: (لم يدروا لما بهم) أَي: لأجل مَا بهم من
الصغر، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن
مُجَاهِد: لم يدروا مَا هِيَ من الصغر قبل الْحلم، وَفِي
رِوَايَة النَّسَفِيّ: وَقَالَ مُجَاهِد: لَا يهمه إلاَّ
بَطْنه وَلَا يخَاف على النِّسَاء أَو الطِّفْل الَّذين لم
يظهروا إِلَى آخِره، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الطِّفْل يكون
وَاحِدًا وجمعاً.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ غَيْرِ أولي الإِرْبَةِ مَنْ لَيْسَ
لَهُ إرْبٌ
هَذَا ثَبت للنسفي، أَي: قَالَ عَامر بن شرَاحِيل
الشّعبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو التَّابِعين غير أولي
الإربة من الرِّجَال} (النُّور: 13) وَفسّر: {غير أولي
الإربة} بقوله: (من لَيْسَ لَهُ إرب) بِكَسْر الْهمزَة أَي
حَاجَة من الرِّجَال، وهم الَّذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل
طَعَامكُمْ وَلَا حَاجَة لَهُم فِي النِّسَاء وَلَا
يشتهونهن.
وَقَالَ مُجاهِدٌ لاَ يُهمُّهُ إلاّ بَطْنُهُ وَلَا يُخافُ
عَلَى النِّساءِ وَقَالَ طاوُسٌ هُوَ الأحْمَقُ الَّذِي
لَا حاجةَ لَهُ فِي النِّساءِ
أَي: {غير أولى الإربة} هُوَ الأحمق إِلَى آخِره، وَوَصله
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه
بِمثلِهِ، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل هَذَا
التَّابِع هُوَ الأحمق الَّذِي لَا تشتهيه الْمَرْأَة
وَلَا يغار عَلَيْهِ الرجل، وَقيل: هُوَ الأبلة الَّذِي
يُرِيد الطَّعَام وَلَا يُرِيد النِّسَاء، وَقيل: الْعنين،
وَقيل: الشَّيْخ الفاني، وَقيل: الْمَجْبُوب، وَقَالَ
الزّجاج: غير صفة للتابعين. |