عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 21 - (بابٌ قَوْلُهُ: {ولْيَضْرِبْنَ
بخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النُّور: 13)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَليَضْرِبن} وأوله:
{وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} ... الْآيَة، وَمعنى:
وَليَضْرِبن وليضعن خمرهن جمع خمار على جُيُوبهنَّ جمع جيب
وَأُرِيد بِهِ على صدورهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن
وقرطهن، وَذَلِكَ لِأَن جُيُوبهنَّ كَانَت وَاسِعَة تبدو
مِنْهَا نحورهن وصدروهن وَمَا حواليها، وَكن يسدلن الْخمر
من ورائهن فَتبقى مكشوفة فأمرن بِأَن يسدلنها من قدامهن
حَتَّى يغطينها.
8574 - وَقَالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ حدَّثنا أبي عنْ
يُونُسَ قَالَ ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ
رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ يَرْحَمُ الله نِسَاءَ
المُهاجِراتِ الأوَلَ لَمَّا أنْزَلَ الله: {ولْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهِنَّ
فاخْتَمَرْنَ بِها.
(انْظُر الحَدِيث 8574 طرفه فِي: 9574) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَذكره مُعَلّقا مَعَ أَن
أَحْمد بن شبيب من جملَة مَشَايِخ البُخَارِيّ، وشبيب،
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة
بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة بعْدهَا بَاء
مُوَحدَة: وَهُوَ ابْن سعيد يروي عَن يُونُس بن يزِيد عَن
مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَوصل هَذَا
الْمُعَلق ابْن الْمُنْذر، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
زيد الصَّائِغ عَن أَحْمد بن شبيب فَذكره، وَكَذَا أخرجه
أَبُو دَاوُد والطبري من طَرِيق قُرَّة بن عبد الرحمان عَن
الزُّهْرِيّ مثله.
قَوْله: (نسَاء الْمُهَاجِرَات) ، أَي: النِّسَاء
الْمُهَاجِرَات وَهُوَ نَحْو: شجر الْأَرَاك، أَي: شجر
هُوَ الْأَرَاك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من وَجه آخر:
النِّسَاء الْمُهَاجِرَات. قَوْله: (الأول) ، بِضَم
الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَاللَّام، أَي: السابقات من
الْمُهَاجِرَات. قَوْله: (مُرُوطهنَّ) ، جمع مرط بِكَسْر
الْمِيم وَهُوَ الْإِزَار، قَوْله: (فَاخْتَمَرْنَ بهَا)
أَي: غطين وجوههن بالمروط الَّتِي شققتها.
9574 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا إبْرَاهِيمُ بنُ
نافِعٍ عنِ الحَسَنِ بنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ
شَيْبَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا كانَتْ تَقُولُ
لمّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيةُ ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ أخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فشفقَّنَها مِنْ
قِبَلِ الحَوَاشِي فاخْتَمَرْنَ بِهَا.
.
(19/92)
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور
أخرجه عَن أبي نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن عَن
إِبْرَاهِيم بن نَافِع المَخْزُومِي الْمَكِّيّ عَن الْحسن
بن مُسلم بن يناق الْمَكِّيّ عَن صَفِيَّة بنت شيبَة بن
عُثْمَان القرشية المكية.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير أَيْضا عَن
مُحَمَّد بن حَاتِم عَن حَمَّاد عَن عبد الله عَن
إِبْرَاهِيم بن نَافِع إِلَى آخِره.
قَوْله: (أزرهن) ، بِضَم الْهمزَة جمع إِزَار، وَهِي
الملاءة بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف اللَّام وبالمد، وَهِي:
الملحفة فَإِن قلت: حَدِيث عَائِشَة يدل على أَن اللَّاتِي
شققْنَ أزرهن النِّسَاء الْمُهَاجِرَات، وَورد فِي حَدِيث
عَائِشَة أَيْضا أَن ذَلِك كَانَ فِي نسَاء الْأَنْصَار،
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم قلت: يُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن
نسَاء الْأَنْصَار بادرن إِلَى ذَلِك حِين نزُول الْآيَة
الْمَذْكُورَة، وَالله أعلم.
52 - (سورَةُ الفُرْقَانُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْفرْقَان، وَهُوَ
مصدر فرق بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا فصل بَينهمَا، وَسمي
الْقُرْآن بِهِ لفصله بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَقيل:
لِأَنَّهُ لم ينزل جملَة وَاحِدَة وَلَكِن مفروقاً
مَفْصُولًا بَين بعضه وَبَعض فِي الْإِنْزَال، قَالَ
تَعَالَى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس}
(الْإِسْرَاء: 601) الْآيَة، وَهِي مَكِّيَّة وَفِي آيَة
اخْتِلَاف وَهِي قَوْله عز وَجل: {إلاَّ من تَابَ وآمن
وَعَملا عملا صَالحا} (الْفرْقَان: 07) . وَقيل: فِيهَا
آيتان اخْتلف النَّاس فيهمَا، فَقيل: إنَّهُمَا مدنيتان،
وَقيل: مكيتان، وَقيل: إِحْدَاهمَا مَكِّيَّة وَالْأُخْرَى
مَدَنِيَّة، وهما قَوْله: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله
إل هَا آخر} الْآيَة وَقَوله إمن تَابَ وآمن (الْفرْقَان:
86) فَالَّذِي قَالَ إِن الأولى مَكِّيَّة وَهُوَ سعيد بن
جُبَير، وَهِي قَوْله: {وَالَّذين لَا يدعونَ} إِلَى
قَوْله: {مهاناً} . وَالثَّانيَِة مَدَنِيَّة وَهِي
قَوْله: {إلاَّ من تَابَ وآمن} إِلَى قَوْله: {وَكَانَ
الله غَفُورًا رحِيما} وَهِي سبع وَسَبْعُونَ آيَة،
وَثَمَانمِائَة وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ كلمة، وَثَلَاثَة
آلَاف وَسَبْعمائة وَثَمَانُونَ حرفا.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
ثبتَتْ عِنْد الْكل.
قَالَ ابنُ عَبّاسٍ: هَباءً مَنْثُوراً مَا تَسْفِي بِهِ
الرِّيحُ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي تَفْسِير: هباءً.
منثوراً. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقدمنَا إِلَى مَا
عمِلُوا من عمل فَجعلنَا هباء منثوراً} (الْفرْقَان: 32)
مَا تسفي بِهِ الرّيح أَي تذريه وترميه، وَوَصله ابْن
الْمُنْذر من حَدِيث عَطاء عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: مَا
تسفي بِهِ الرّيح وتثبته، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هباءً
منثوراً، أَي: بَاطِلا لَا ثَوَاب لَهُ لأَنهم لم يعملوه
لله، وَإِنَّمَا عملوه للشَّيْطَان. وَاخْتلف
الْمُفَسِّرُونَ فِي الهباء فَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة
وَالْحسن: هُوَ الَّذِي يرى فِي الكوى من شُعَاع الشَّمْس
كالغبار وَلَا يمس بِالْأَيْدِي وَلَا يرى فِي الظل،
وَقَالَ ابْن زيد: هُوَ الْغُبَار، وَقَالَ مقَاتل: هُوَ
مَا يسطع من حوافر الدَّوَابّ، وَيُقَال: الهباء جمع هباة،
والمنثور المتفرق.
مَدَّ الظِّلَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ
الشَّمْسِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ألم ترَ إِلَى رَبك
كَيفَ مد الظل} (الْفرْقَان: 54) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله:
(مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس) ،
وَإِنَّمَا جعله ممدوداً لِأَنَّهُ لَا شمس مَعَه، كَمَا
قَالَ فِي ظلّ الْجنَّة. {وظل مَمْدُود} (الْوَاقِعَة: 03)
، وبمثل مَا فسره رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ
بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وروى مثله أَيْضا عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن وَقَتَادَة.
ساكِناً دَائِماً. عَلَيْهِ دَلِيلاً طُلُوعُ الشَّمْسِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ لجعله
سَاكِنا ثمَّ جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا} . وَفسّر
سَاكِنا بقوله: (دَائِما) أَي: غير زائل، وَقيل: لاصقاً
بِأَصْل الْجِدَار غَيره منبسط، وَفسّر دَلِيلا بقوله:
(الشَّمْس) أَي طُلُوع الشَّمْس دَلِيل على حُصُول الظل،
وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: تدل على الظل الشَّمْس، يَعْنِي
لَوْلَا الشَّمْس مَا عرف الظل، وَلَوْلَا النُّور مَا
عرفت الظلمَة.
خِلْفَةً مَنْ فاتَهُ مِنَ اللّيْلِ عملٌ أدْرَكَهُ
بالنَّهارِ أوْ فاتَهُ بالنّهارِ أدْرَكَهُ باللّيْلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعل
اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة} (الْفرْقَان: 26) . الْآيَة،
وَفسّر (خلفة) بقوله: (من فَاتَهُ) إِلَى آخِره، وَأخرج
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن مثله، وَفِي
التَّفْسِير: وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: خلفة،
يَعْنِي عوضا وخلفاً يقوم واحدهما مَكَان صَاحبه، فَمن
فَاتَهُ عمله فِي أَحدهمَا قَضَاهُ فِي الآخر، وَعَن
مُجَاهِد: يَعْنِي جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا مُخَالفا
للْآخر فَجعل هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض، وَعَن ابْن زيد:
يَعْنِي إِذا جَاءَ أَحدهمَا ذهب الآخر، فهما يتعاقبان فِي
الظلام والضياء وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان.
(19/93)
وَقَالَ الحَسَنُ هَبْ لَنا مِنْ أزْواجِنا
فِي طاعَةِ الله وَمَا شَيْءٌ أقَرَّ لِعَيْنِ المُؤْمِنِ
أنْ يَري حَبِيبَهُ فِي طاعَةِ الله
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا
وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا}
(الْفرْقَان: 47) وَهَكَذَا أسْندهُ عَنهُ ابْن الْمُنْذر
من حَدِيث جرير عَنهُ، وَفِي التَّفْسِير: قُرَّة أعين
بِأَن نراهم مُؤمنين صالحين مُطِيعِينَ لَك، ووحد القرة
لِأَنَّهَا مصدر وَأَصلهَا من الْبرد لِأَن الْعين تتأذى
بِالْحرِّ وتستريح بالبرد.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ ثُبُوراً وَيْلاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{دعوا هُنَالك ثبوراً} (الْفرْقَان: 31) أَي: ويلاً وأسنده
ابْن الْمُنْذر عَنهُ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَلْحَة
عَنهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ والتَّسَعُّرُ
والاضْطِرَامُ التَّوَقدُ الشَّدِيدُ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس: وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة فِي
قَوْله تَعَالَى: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً}
(الْفرْقَان: 11) وَقَالَ: السعير مُذَكّر لِأَنَّهُ مَا
يسعر بِهِ النَّار، وَإِنَّمَا حكم بتذكيره إِمَّا من
حَيْثُ أَنه فعيل فَيصدق عَلَيْهِ أَنه مُذَكّر، وَإنَّهُ
مؤنث، وَقيل: الْمَشْهُور أَن السعير مؤنث، وَقَالَ
تَعَالَى: {إِذا رأتهم من مَكَان بعيد سمعُوا لَهَا تغيظاً
وزفيراً} (الْفرْقَان: 11) وَيُمكن أَن يُقَال: إِن
الضَّمِير يحْتَمل أَن يعود إِلَى الزَّبَانِيَة، أَشَارَ
إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: (والتسعر) إِلَى آخِره
يُرِيد بِهِ أَن معنى التسعر وَمعنى الاضطرام (التوقد
الشَّديد) .
تُمْلَى عَلَيْهِ أيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أمْلَيْتُ
وأمْلَلْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أساطير
الْأَوَّلين} (الْفرْقَان: 5) اكتتبها فَهِيَ تملى
عَلَيْهِ بكرَة وَأَصِيلا، وَفسّر: (تملى عَلَيْهِ) بقوله:
(تقْرَأ عَلَيْهِ) ، قَوْله: (وَقَالُوا) أَي: الْكفَّار،
(أساطير الْأَوَّلين) يَعْنِي: مَا سطره المتقدمون من
نَحْو أَحَادِيث رستم وإسفنديار، والأساطير جمع إسطار
وأسطورة كأحدوثة. قَوْله: اكتتبها: يَعْنِي أَمر بكتبها
لنَفسِهِ وَأَخذهَا، وَقيل: الْمَعْنى أكتتبها كَاتب لَهُ
لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيا لَا يكْتب بِيَدِهِ، وَذَلِكَ من
تَمام إعجازه. قَوْله: (من أمليت) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى
أَن تملى من أمليت من الْإِمْلَاء، وَأَشَارَ بقوله:
(أمللت) إِلَى أَن الإملال لُغَة فِي الْإِمْلَاء، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: أمليت الْكتاب أملي وأمللته أمله لُغَتَانِ
جيدتان جَاءَ بهما الْقُرْآن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليملل
الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} (الْبَقَرَة: 282) .
الرَّسُّ المَعْدِنُ جَمْعُهُ رِساسٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وعاداً وَثَمُود
وَأَصْحَاب الرس قروناً بَين ذَلِك كثيرا} (الْفرْقَان:
83) وَفسّر الرس بالمعدن، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة،
وَقَالَ الْخَلِيل: الرس كل بِئْر غير مطوية وَقَالَ
قَتَادَة: أَصْحَاب الأيكة وَأَصْحَاب الرس أمتان أرسل
الله إِلَيْهِمَا شعيباً فعذبوا بعذابين، قَالَ السّديّ:
الرس بِئْر بأنطاكية قتلوا فِيهَا حبيباً النجار فنسبوا
إِلَيْهَا، رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وروى
عِكْرِمَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: أَصْحَاب
الرس، قَالَ: بِئْر بِأَذربِيجَان.
مَا يَعْبَأ يُقالُ مَا عَبأْتُ بِهِ شَيْئاً لَا
يُعْتَدُّ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل مَا يعبأ بكم
رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} (الْفرْقَان: 77) الْآيَة. وَفسّر:
(مَا يعبأ) بقوله: (يُقَال) ، الخ. وَعَن أبي عُبَيْدَة:
يُقَال مَا عبأت بِهِ شَيْئا، أَي: لم أعده فوجوده
وَعَدَمه سَوَاء، وأصل هَذِه الْكَلِمَة تهيئة الشَّيْء،
يُقَال: عبيت الْجَيْش وعبأت الطّيب عبوا: إِذا هيأته.
غَرَاماً هَلاَكاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن عَذَابهَا كَانَ
غراماً} (الْفرْقَان: 56) وَفسّر الغرام بِالْهَلَاكِ،
وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَمِنْه قَوْلهم: رجل مغرم
بالحب.
وَقَالَ مُجاهِدٌ وعَتَوْا طَغَوْا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لقد استكبروا
فِي أنفسهم وعتوا عتواً كَبِيرا} (الْفرْقَان: 12)
وَقَالَ: يَعْنِي عتوا طغوا، أخرجه وَرْقَاء فِي
(تَفْسِيره) عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: عاتِيَةٍ عَتَتْ على الخُزَّانِ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة} (الحاقة: 6)
هَذِه فِي سُورَة الحاقة، ذكرهَا هُنَا اسْتِطْرَادًا
(19/94)
لقَوْله: وعتوا، قَوْله: (صَرْصَر) هُوَ
الشَّديد الصَّوْت، وَقيل: الرّيح الْبَارِدَة من الصر
فتحرق من شدَّة بردهَا. قَوْله: (عاتبة) ، شَدِيدَة العصف،
وَقَالَ سُفْيَان فِي تَفْسِير عَاتِيَة: عَتَتْ على
خزانها فَخرجت بِلَا كيل وَلَا وزن، والخزان، بِضَم
الْخَاء وَتَشْديد الزَّاي: جمع خَازِن، وَأُرِيد بِهِ
خزان الرّيح الَّذين لَا يرسلون شَيْئا من الرّيح إلاَّ
بِإِذن الله بِمِقْدَار مَعْلُوم، وَوَقع فِي هَذَا
التفاسير فِي النّسخ تَقْدِيم وَتَأْخِير وَزِيَادَة
ونقصان.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى
وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولائِكَ شَرٌّ مَكاناً
وأضَلُّ سَبِيلاً} (الْفرْقَان: 43)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يحشرون}
إِلَى آخِره، وَهَذَا الْمِقْدَار فِي رِوَايَة أبي ذَر،
وَفِي رِوَايَة غَيره سَاقه إِلَى قَوْله: {وأضل سَبِيلا}
. قَوْله: (الَّذين يحشرون) أَي: يسْحَبُونَ على وُجُوههم.
قَوْله: (أُولَئِكَ مَكَانا) أَي: منزلَة وَهِي النَّار.
قَوْله: (وأضل سَبِيلا) أَي: طَرِيقا، لِأَن طريقهم إِلَى
النَّار.
0674 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا يُونُسُ
بنُ مُحَمَّدٍ البَغْدَادِيُّ حدّثنا شَيْبانُ عَنْ
قَتادَةَ حَدثنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله عنهُ أنَّ
رَجُلاً قَالَ يَا نَبِيَّ الله يُحْشَرُ الكافِرُ عَلَى
وَجْهِهِ يَوْمَ القِيامَةِ قَالَ ألَيْسَ الَّذِي أمْشاهُ
عَلَى الرَّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيا قادِراً عَلَى أنْ
يَمْشِيهِ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ
قَتادَةُ بَلَى وعِزَّةِ رَبِّنا.
(انْظُر الحَدِيث 0674 طرفه فِي: 3256) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله بن مُحَمَّد
الْمَعْرُوف بالمسندي، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن عبد
الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن
زُهَيْر بن حَرْب وَعبد بن حَرْب وَعبد بن حميد. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن الْحُسَيْن بن مَنْصُور.
قَوْله: (قَالَ قَتَادَة) إِلَى آخِره زِيَادَة مَوْصُولَة
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، قَالَهَا قَتَادَة تَصْدِيقًا
لقَوْله: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ.
2 - (بابُ قولِهِ: {والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله
إلاهاً آخَرَ ولاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتي حَرَّمَ
الله إلاَّ بالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ومَنْ يَفْعَلْ
ذالِكَ يَلْقَ أثاماً} (الْفرْقَان: 86)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين} إِلَى
آخِره، وَهَذَا الْمِقْدَار هُوَ الْمَرْوِيّ فِي رِوَايَة
أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره إِلَى قَوْله: (أثاماً)
وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن نَاسا من أهل الشّرك قد قتلوا
فَأَكْثرُوا، وزنوا فَأَكْثرُوا ثمَّ أَتَوا مُحَمَّدًا
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: إِن الَّذِي تَقول
وتدعونا إِلَيْهِ لحسن لَو تخبرنا أَن لما عَمِلْنَاهُ
كَفَّارَة، فَنزلت: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إل
هَا آخر} ... الْآيَات، وَقيل: نزلت فِي وَحشِي غُلَام
ابْن مطعم.
1674 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا يَحْيَى يَحْيَى عَنْ
سُفْيانَ قَالَ حدّثني منْصُورٌ وسُلَيْمانُ عنْ أبي
وائِلٍ عَنْ أبي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ الله. قَالَ
حدّثني واصِلٌ عَنْ أبي وائِلٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي
الله عنهُ قَالَ سألْتُ أوْ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ الله أكْبَرُ قَالَ
أنْ تَجْعَلَ الله نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ
قَالَ ثُمَّ أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ
مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أيّ قَالَ أنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ
جارِكَ قَالَ وَنَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقاً
لِقَوْلِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {والَّذِينَ
لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاّ بالحَقِّ} ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد
الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ
ابْن الْمُعْتَمِر، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش وَأَبُو
وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَأَبُو ميسرَة ضد الميمنة
عَمْرو بن شُرَحْبِيل الْهَمدَانِي وَعبد الله هُوَ ابْن
مَسْعُود، وواصل هُوَ ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف من
الْحَيَاة، أَو من الْحِين منصرفاً وَغير منصرف الْكُوفِي.
والْحَدِيث
(19/95)
مضى فِي أَوَائِل تَفْسِير سُورَة
الْبَقَرَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن أبي
شيبَة حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن
عَمْرو بن شُرَحْبِيل عَن عبد الله، قَالَ: سَأَلت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكره مُخْتَصرا.
وَقَالَ: أعظم بدل أكبر.
قَوْله: (قَالَ وحَدثني) وأصل الْقَائِل هُوَ سُفْيَان
الثَّوْريّ، وَالْحَاصِل أَن الحَدِيث عِنْد سُفْيَان عَن
ثَلَاثَة أنفس: أما إثنان مِنْهُمَا فأدخلا فِيهِ بَين أبي
وَائِل وَعبد الله أَبَا ميسرَة، وَأما الثَّالِث وَهُوَ
وَاصل فأسقطه، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن
سُفْيَان عَن الثَّلَاثَة عَن أبي وَائِل عَن أبي ميسرَة
عَن عبد الله فعدوه وهما، وَالصَّوَاب إِسْقَاط أبي ميسرَة
من رِوَايَة وأصل. وَالله أعلم. قَوْله: (سَأَلت أَو
سُئِلَ) شكّ من الرَّاوِي، وَفِي رِوَايَة قلت: يَا رَسُول
الله. قَوْله: (أكبر) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: أعظم.
قَوْله: (ندا) ، بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الدَّال أَي:
نظيراً. قَوْله: (خشيَة أَن يطعم مَعَك) أَي: لأجل خشيَة،
إطعامه مَعَك. فَإِن قيل: لَو لم يُقيد بهَا لَكَانَ الحكم
كَذَلِك. وَأجِيب: بِأَن لَا اعْتِبَار لهَذَا الْمَفْهُوم
لِأَن شَرطه أَن لَا يخرج الْكَلَام مخرج الْغَالِب.
وَكَانَت عَادَتهم قتل الْأَوْلَاد لخشيتهم ذَلِك. قَوْله:
(بحليلة جَارك) ، أَي: بامرأته، والحليلة على وزن فعيلة،
أما من الْحل لِأَنَّهَا تحل لَهُ، وَإِمَّا من الْحُلُول
لِأَنَّهَا تحل مَعَه وَيحل مَعهَا. فَإِن قلت: الْقَتْل
وَالزِّنَا فِي الْآيَة مطلقان، وَفِي الحَدِيث مقيدان؟
قلت: لِأَنَّهُمَا بالقيد أعظم وأفحش، وَلَا مَانع من
الِاسْتِدْلَال لذَلِك بِالْآيَةِ.
2674 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبرنا هِشامُ بنُ
يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبرنِي
القاسِمُ بنُ أبي بَزَّةَ أنَّهُ سألَ سَعِيدَ بنَ
جُبَيْرٍ هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مِنْ
تَوْبَةٍ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ: {ولاَ يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاّ بالحَقِّ}
(الْفرْقَان: 86) فَقَالَ سعِيدٌ قَرَأْتُها عَلَى ابنِ
عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتَها عَلَيَّ فَقَالَ هاذِهِ
مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْها آيةٌ مَدَنِيَّةٌ الَّتِي فِي
سُورَةِ النِّساءِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَابْن جريج عبد الْملك،
وَالقَاسِم بن بزَّة، بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الزَّاي،
وَاسم أبي بزَّة نَافِع بن يسَار، وَيُقَال: يسَار إسم أبي
بزَّة، وَيُقَال: أَبُو بزَّة جد الْقَاسِم لَا أَبوهُ،
وَهُوَ مكي تَابِعِيّ ثِقَة، وَهُوَ وَالِد جد البزي
المقرىء، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن الْقَاسِم،
وَلَيْسَ للقاسم فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث
الْوَاحِد.
قَوْله: (فَقَالَ سعيد) ، أَي: سعيد بن جُبَير. قَوْله:
(فِي سُورَة النِّسَاء) ، هِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن
يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} (النِّسَاء:
39) وَلَيْسَ فِيهَا اسْتثِْنَاء التائب بِخِلَاف هَذِه
الْآيَة إِذْ قَالَ الله تَعَالَى فِيهَا: {إلاَّ من تَابَ
وآمن وَعمل عملا صَالحا فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم
حَسَنَات} (الْفرْقَان: 07) فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ ابْن
عَبَّاس لَا تَوْبَة للْقَاتِل، وَقَالَ الله عز وَجل:
{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا} (النُّور: 13) وَقَالَ: {إِن
الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده} (التَّوْبَة: 401)
وَأجْمع الْأَئِمَّة على وجوب التَّوْبَة. أُجِيب: بِأَن
ذَلِك مَحْمُول فِيهِ على الِاقْتِدَاء بِسنة الله فِي
التَّغْلِيظ وَالتَّشْدِيد، وإلاَّ فَكل ذَنْب قَابل
للتَّوْبَة، وناهيك بمحو الشّرك دَلِيلا.
3674 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ
حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ المُغِيرَةِ بنِ النعْمانِ عنْ
سَعِيدِ ابْن جُبَيْر قَالَ اخْتَلَفَ أهْلُ الكُوفَةِ فِي
قَتْلِ المُؤْمِنِ فَرَحَلْتُ فِيهِ إِلَى ابنِ عَبّاسٍ
فَقَالَ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَمْ يَنْسَخْها
شَيْءٌ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن سعيد بن جُبَير، وغندر بِضَم
الْغَيْن الْمُعْجَمَة مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد مر كثيرا
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي سُورَة النِّسَاء.
4674 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شَعْبَةُ حَدثنَا مَنْصُورٌ
عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ سألْتُ ابنَ عبّاسٍ
رَضِي الله عَنْهُمَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ قَالَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعٌ قَوْلِهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ: {لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ} قَالَ
كانَتْ هاذِهِ فِي الجاهِلِيَّةِ..
هَذَا أَيْضا عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس.
قَوْله: (كَانَت هَذِه) ، أَي قَوْله تَعَالَى: {لَا
يدعونَ مَعَ الله إل هَا آخر} قَوْله: (فِي
(19/96)
الْجَاهِلِيَّة) يَعْنِي: فِي حق أهل
الشّرك من أهل مَكَّة. وَأما الْآيَة الْأُخْرَى فَفِي حق
الرجل الَّذِي عرف الْإِسْلَام ثمَّ قتل مُؤمنا مُتَعَمدا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم لَا تَوْبَة لَهُ، وَهَذَا مَشْهُور
عَن ابْن عَبَّاس، وَقد حمل جُمْهُور السّلف وَجَمِيع أهل
السّنة مَا ورد من ذَلِك على التَّغْلِيظ والتهديد، وصححوا
تَوْبَة الْقَاتِل كَغَيْرِهِ.
3 - (بابُ قَوْلُهُ: {يُضاعَفْ لَهُ العذَابُ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً} (الْفرْقَان: 96)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يُضَاعف} الْآيَة.
قَوْله: (يُضَاعف) بدل من قَوْله: {يلق أثاماً}
(الْفرْقَان: 86) لِأَنَّهُمَا فِي معنى وَاحِد، وَمعنى:
{يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب} أَن الْمُشرك إِذا ارْتكب
الْمعاصِي مَعَ الشّرك يعذب على الشّرك وعَلى الْمعاصِي
جَمِيعًا، وَقَرَأَ عَاصِم: يُضَاعف، بِالرَّفْع على
تَفْسِير: يلق أثاماً، كَأَن قَائِلا يَقُول: مَا لَقِي
الأثام فَقيل: يُضَاعف الْعَذَاب، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالْجَزْمِ بَدَلا من قَوْله: (يلقَ) لِأَنَّهُ مجزوم على
الْجَزَاء، وَابْن كثير وَابْن عَامر يحذفان فَإِن الْألف
ويشددان الْعين. قَوْله: (ويخلد فِيهِ) أَي: فِي النَّار
(مهاناً) ذليلاً، وَقَرَأَ ابْن عَامر: يخلد بِالرَّفْع
على الِاسْتِئْنَاف وَالْبَاقُونَ بِالْجَزْمِ.
4 - (بابُ: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
فأُولائِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكانَ
الله غَفُوراً رَحِيماً} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله: {إلاّ من تَابَ} الْآيَة.
وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب.
6674 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخْبَرَنا أبِي عَنْ شُعْبَةَ
عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ أمَرَنِي
عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبْزَي أنْ أسْألَ ابنَ عَبَّاسٍ
عَنْ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً} (الْفرْقَان: 86) فَسَألْتُهُ فَقَالَ لَمْ
يَنْسَخْها شَيْءٌ وَعَنْ: {والَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ
الله إلِّهاً آخَرَ} قَالَ نَزَلَتْ فِي أهْلِ الشِّرْكِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن أَبْزَى، وعبدان هُوَ
ابْن عُثْمَان بن جبلة الْأَزْدِيّ الْمروزِي. وَحَاصِل
هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا سعيد بن جُبَير أَن
ابْن عَبَّاس يفرق بَين الْآيَتَيْنِ المذكورتين وَهُوَ
أَن قَوْله: (وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا) الْآيَة فِي حق
الْمُسلم الْعَارِف بالأمور الشَّرْعِيَّة، وَإِن قَوْله:
(إلاَّ من تَابَ) الْآيَة. فِي حق الْمُشرك، فَإِذا كَانَ
كَذَلِك فلاتوبة للْقَاتِل عِنْده، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ عَن قريب وَفِيمَا مضى.
5 - (بابُ: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} (الْفرْقَان: 77)
هَلَكَةً)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فقد كَذبْتُمْ
فَسَوف يكون لزاماً} وَقد فسره بقوله: (هلكة) . وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: اخْتلف فِي اللزام فَقيل:
(19/97)
يَوْم بدر قتل مِنْهُم سَبْعُونَ وَأسر
سَبْعُونَ، وَقيل: عَذَاب الْقَبْر، وَقَالَ ابْن جرير:
عذَابا دَائِما لَازِما وهلاكاً مستمراً.
7674 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غياثٍ حدَّثنا
الأعْمَشُ حَدثنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوق قَالَ عَبْدُ
الله خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ الدُّخانُ والقَمَرُ والرُّومُ
والبَطْشَةُ واللِّزَامُ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}
(الْفرْقَان: 77) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح
أَبُو الضُّحَى، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ.
قَوْله: (خمس) أَي: خَمْسَة عَلَامَات (قد مضين) ، أَي
وقعن. الأولى: الدُّخان. قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْم
تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} (الدُّخان: 01) .
الثَّانِيَة: الْقَمَر، قَالَ الله تَعَالَى: {اقْتَرَبت
السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} (الْقَمَر: 1) .
الثَّالِثَة: الرّوم، قَالَ الله تَعَالَى: {ألم غلبت
الرّوم} (الرّوم: 1) . الرَّابِعَة: البطشة. قَالَ الله
تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61)
وَهُوَ الْقَتْل الَّذِي وَقع يَوْم بدر. الْخَامِسَة:
للزام {فَسَوف يكون لزاماً} قيل: هُوَ الْقَحْط، وَقيل:
هُوَ التصاق الْقَتْلَى بَعضهم بِبَعْض فِي بدر، وَقيل:
هُوَ الْأسر فِيهِ، وَقد أسر سَبْعُونَ قرشياً فِيهِ.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الاسْتِسْقَاء.
62 - (سورَةُ الشُّعَرَاءِ)
أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة الشُّعَرَاء. مَكِّيَّة
كلهَا إِلَّا آيَة وَاحِدَة. {إلاَّ الَّذين آمنُوا
وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرا وانتصروا من
بَعْدَمَا ظلمُوا} (الشُّعَرَاء: 722) نزلت فِي حسان وَعبد
الله بن رَوَاحَة وَكَعب بن مَالك شعراء الْأَنْصَار،
وَقَالَ مقَاتل: فِيهَا من الْمدنِي آيتان: {وَالشعرَاء
يتبعهُم الْغَاوُونَ} (الشُّعَرَاء: 422) وَقَوله: {أَو لم
يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل}
(الشُّعَرَاء: 791) وَعند السخاوي: نزلت بعد سُورَة
الْوَاقِعَة، وَقبل سُورَة النَّمْل، وَهِي: مِائَتَان
وَسبع وَعِشْرُونَ آيَة، وَألف ومائتان وَسبع وَتسْعُونَ
كلمة، وَخَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة وإثنان وَأَرْبَعُونَ
حرفا.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
ثبتَتْ لأبي ذَر
وَقَالَ مُجاِدٌ تَعْبَثُونَ تَبْنُونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أتبنون بِكُل
ريع آيَة تعبثون} (الشُّعَرَاء: 821) وَفسّر تعبثون بقوله:
(تبنون) . وصصله الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي
نجيح عَنهُ فِي قَوْله: {أتبنون بِكُل ريع} قَالَ: بِكُل
فج (آيَة تعبثون) ، قَالَ: بنياناً. وَعَن ابْن عَبَّاس:
بِكُل ريع بِكُل شرف، عَن قَتَادَة وَالضَّحَّاك
وَمُقَاتِل والكلبي: طَرِيق، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن
عَبَّاس، وَعَن عِكْرِمَة: وَاد، وَعَن مقَاتل: كَانُوا
يسافرون وَلَا يَهْتَدُونَ إلاَّ بالنجوم فبنوا على الطّرق
أعلاماً طوَالًا عَبَثا ليهتدوا بهَا وَكَانُوا فِي غبة
مِنْهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَانُوا يبنون بروجاً
للحمامات يعبثون بهَا. والريع الْمُرْتَفع من الأَرْض
وَالْجمع ريعة بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْيَاء، وَأما
الأرياع فمفرده: ريعة، بِالْكَسْرِ والسكون.
هَضِيمٌ: يَتَفَتَّتُ إذَا مُسَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِي جنَّات وعيون
وزروع ونخل طلعها هضيم} (الشُّعَرَاء: 741 841) وَفسّر
هضيماً بقوله: (يتفتت إِذا مس) على صِيغَة الْمَجْهُول،
وَهَذَا قَول مُجَاهِد أَيْضا، وَقيل: هُوَ المنظم فِي
وعائه قبل أَن يظْهر.
مُسَحَّرِينَ: المَسْحُورِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا
أَنْت من المسحرين} (الشُّعَرَاء: 351 581) وَفَسرهُ
بقوله: (المسحورين) أَي: من سحر مرّة بعد مرّة من
المخلوقين المعللين بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، وَقَالَ
الْفراء: أَي أَنَّك تَأْكُل الطَّعَام وتشرب الشَّرَاب
وتسحر بِهِ، وَالْمعْنَى: لست بِملك إِنَّمَا أَنْت بشر
مثلهَا لَا تفضلنا فِي شَيْء. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل
من أكل فَهُوَ مسحر، وَذَلِكَ أَن لَهُ سحرًا، بِفَتْح
السِّين وَسُكُون الْحَاء، أَي: رئة، وَقيل: من السحر
بِالْكَسْرِ.
واللَّيْكَةُ والأيْكَةُ جَمْعُ أيْكَةٍ وَهْيَ جَمْعُ
شَجَرٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كذب أصحابُ الأيكة
الْمُرْسلين} (الشُّعَرَاء: 671) والليكة، بِفَتْح اللَّام
والأيكة بِفَتْح الْهمزَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: من قَرَأَ
أَصْحَاب الأيكة فَهِيَ الغيضة، وَمن قَرَأَ: ليكة، فَهِيَ
الْقرْيَة. وَقَالَ: الأيك الشّجر الْكثير الملتف
الْوَاحِدَة أيكة. قلت: قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَابْن
عَامر أَصْحَاب ليكة هُنَا، وَفِي (ص) بِغَيْر همزَة،
وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ فيهمَا. قَوْله: (جمع أيكة)
كَذَا فِي النّسخ وَهُوَ غير صَحِيح، وَالصَّوَاب أَن
يُقَال: والليكة والأيكة مُفْرد أيك، وَيُقَال: جمعهَا
أيك، وَالْعجب من بعض الشُّرَّاح حَيْثُ لم يذكر
(19/98)
هُنَا شَيْئا بل قَالَ: الْكَلَام الأول من
قَول مُجَاهِد، وَمن جمع أيكة ... الخ من كَلَام أبي
عُبَيْدَة، وحاشا من مُجَاهِد وَمن أبي عُبَيْدَة أَن
يَقُولَا الأيكة جمع أيكة. قَوْله: (وَهِي جمع شجر) ،
كَذَا للأكثرين، وَعند أبي ذَر: وَهِي جمع الشّجر، وَفِي
بعض النّسخ وَهِي جمَاعَة الشّجر، وعَلى كل التَّقْدِير:
هَذَا فِي نفس الْأَمر تَفْسِير غيضة الَّتِي يُفَسر بهَا
الأيكة، لِأَن الغيضة هِيَ جمَاعَة الشّجر، وَإِذا لم
يُفَسر الأيكة بالغيضة لَا يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام.
فَافْهَم فَإِنَّهُ مَوضِع التَّأَمُّل.
يَوْمِ الظُّلَّةِ أظْلاَلُ العَذَابِ إيَّاهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَخذهُم عَذَاب
يَوْم الظلة} وَفسّر (يَوْم الظلة) بقوله: (إظلال
الْعَذَاب إيَّاهُم) ، وَفِي التَّفْسِير معنى الظلة
هُنَا: السَّحَاب الَّتِي أظلتهم.
مَوْزُونٍ مَعْلُومٍ
هَذَا غير وَاقع فِي مَحَله فَإِنَّهُ فِي سُورَة الْحجر،
وَكَأَنَّهُ من جهل النَّاسِخ لعدم تَمْيِيزه، وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى: {وأنبتنا فِيهَا من كل شَيْء مَوْزُون}
(الْحجر: 91) .
كالطَّوْدِ الجَبَلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَكَانَ كل فرق
كالطود الْعَظِيم} (الشُّعَرَاء: 36) وَفسّر الطود
بِالْجَبَلِ، وَوَقع هَذَا لأبي ذَر مَنْسُوبا إِلَى ابْن
عَبَّاس، وَلغيره مَنْسُوبا إِلَى مُجَاهِد، وَفِي بعض
النّسخ: كالطود الْجَبَل.
الشِّرْذِمَةُ طائِفَةٌ قَلِيلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَؤُلَاءِ
لشرذمة قَلِيلُونَ} (الشُّعَرَاء: 45) وَفسّر الشرذمة
(بطَائفَة قَليلَة) ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أرسل
فِرْعَوْن فِي إِثْر مُوسَى لما خرج مَعَ بني إِسْرَائِيل
ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف ملك، مَعَ كل ملك ألف فَارس،
وَخرج فِرْعَوْن فِي الْكُرْسِيّ الْعَظِيم فَكَانَ فِيهِ
ألفا ألف فَارس. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنْهُمَا: أتبعه فِرْعَوْن فِي ألفي حصان سوى
الْإِنَاث وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
سِتّمائَة ألف من بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ فِرْعَوْن: إِن
هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ، فَكيف التَّوْفِيق بَين
الْكَلَامَيْنِ؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد ابْن
عَبَّاس: خَواص فِرْعَوْن الَّذين كَانُوا يلازمونه
لَيْلًا وَنَهَارًا، وَلم يذكر غَيرهم، على أَن الَّذِي
ذكره الثَّعْلَبِيّ لَا يَخْلُو عَن نظر، وَقد رُوِيَ عَن
عبد الله، قَالَ: كَانُوا سِتّمائَة ألف وَسبعين ألفا.
فِي السَّاجِدِينَ المُصَلِّينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي يراك حِين
تقوم وتقلبك فِي الساجدين} (الشُّعَرَاء: 812 912) وَفسّر
الساجدين بالمصلين، وَكَذَا فسره الْكَلْبِيّ، وَقَالَ:
الَّذِي يرى تصرفك مَعَ الْمُصَلِّين فِي أَرْكَان
الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة قَائِما وَقَاعِدا وراكعاً
وساجداً. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: هُوَ رِوَايَة عَن ابْن
عَبَّاس.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ كأنَّكُمْ
أَي قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وتتخذون
مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون} (الشُّعَرَاء: 921) إِن معنى:
لَعَلَّكُمْ كأنكم، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: كأنكم تخلدون،
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: {لَعَلَّكُمْ تخلدون} ، وَعَن
الواحدي: كل مَا فِي الْقُرْآن: لَعَلَّ، فَهُوَ
للتَّعْلِيل إلاَّ هَذَا الْحَرْف فَإِنَّهُ للتشبيه، قيل:
فِي الْحصْر نظر لِأَنَّهُ قد قيل مثل ذَلِك فِي قَوْله:
{لَعَلَّك باخع نَفسك} (الشُّعَرَاء: 3) .
الرِّيعُ الأيْفاعُ مِنَ الأرْضِ وَجَمْعُهُ رِيَعَةٌ
وأرْياع واحِدَ الرِّيَعَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أتبنون بِكُل ريع
آيَة تعبثون} (الشُّعَرَاء: 821) . وَقَالَ: (الرّيع
الأيفاع من الأَرْض) ، الأيفاع بِفَتْح الْهمزَة جمع يافع
وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع من الأَرْض، وَمِنْه يُقَال:
غُلَام يافع من أَيفع الْغُلَام أَي: ارْتَفع،
وَالصَّوَاب: اليفاع من الأَرْض بِفَتْح الْيَاء وَالْفَاء
وَهُوَ الْمُرْتَفع مِنْهَا، وَقد فسر الرّيع بِكَسْر
الرَّاء بقوله: الايفاع واليفاع من الأَرْض، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: يُقَال: غُلَام يافع ويفع ويفعة وغلمان
أيفاع ويفعة أَيْضا، وَقَالَ: والريع بِالْكَسْرِ
الْمُرْتَفع من الأَرْض، وَقَالَ عمَارَة: هُوَ الْجَبَل،
والريع أَيْضا: الطَّرِيق. قلت: وَكَذَا قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ، وَقيل: الْفَج بَين الجبلين، وَعَن
مُجَاهِد: الثَّنية الصَّغِيرَة وَعَن عِكْرِمَة وادٍ،
وَعَن ابْن عَبَّاس: بِكُل ريع يَعْنِي: بِكُل شرف، والريع
بِالْفَتْح النَّمَاء، وَمِنْه ريع الاملاك. قَوْله:
(وَجمعه) ، أَي: جمع الرّيع (ريعة) بِكَسْر الرَّاء وَفتح
الْيَاء
(19/99)
كقرد وقردة. قَوْله: (وأرياع وَاحِد
الريعة) ، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْيَاء، وَعند
جمَاعَة من الْمُفَسّرين: ريع وَاحِد وَجمعه أرياع وريعة
بِالتَّحْرِيكِ، وريع جمع أَيْضا واحده ريعة بِالسُّكُونِ:
كعهن وعهنة.
مَصانِعَ كلُّ بِناء فَهْوَ مَصْنَعَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتتخذون مصانع
لَعَلَّكُمْ تخلدون} (الشُّعَرَاء: 921) وَقَالَ: (كل
بِنَاء فَهُوَ مصنعة) وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة،
ومصنعة مُفْرد مصانع، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
قَتَادَة: المصانع الْقُصُور والحصون، وَقَالَ عبد
الرَّزَّاق: المصانع عندنَا بلغَة الْيمن الْقُصُور
العادية، وَقيل: المصانع بروج الْحمام.
فَرِهِينَ مَرِحِينَ فارِهِينَ بِمَعْناهُ ويُقالُ:
فارِهِينَ حاذِقِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتنحّون من الْجبَال
بُيُوتًا فارهين} (الشُّعَرَاء: 941) وَفَسرهُ بقوله:
مرحين، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، ومرحين جمع مرح صفة
مشبهة من مرح بِالْكَسْرِ مرحاً، والمرح شدَّة الْفَرح
والنشاط، وَعَن ابْن عَبَّاس: أشرين، وَعَن الضَّحَّاك:
كيسين، وَعَن قَتَادَة: معجبين بصنيعهم، وَعَن مُجَاهِد:
شرهين، وَعَن عِكْرِمَة: ناعمين، وَعَن السّديّ: متحيرين،
وَعَن ابْن زيد: أقوياء، وَعَن الْكسَائي: بطرين، وَعَن
الْأَخْفَش: فرحين، وَهَكَذَا هُوَ رِوَايَة أبي ذَر،
وَقَالَ بَعضهم: وَصَوَّبَهُ بَعضهم لقرب مخرج الْحَاء من
الْهَاء وَلَيْسَ بِشَيْء. قلت: أَرَادَ بالمصوب صَاحب
(التَّوْضِيح) ورده عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْء لِأَن الْهَاء
والحاء من حُرُوف الْحلق وَالْعرب تعاقب بَين الْحَاء
وَالْهَاء مثل مدحته ومدهته. قَوْله: (فارهين بِمَعْنَاهُ)
، أَي: بِمَعْنى: فرهين، من قَوْله الرجل فَهُوَ فاره.
قَوْله: (وَيُقَال: فارهين حاذقين) وَكَذَا رُوِيَ عَن عبد
الله بن شَدَّاد، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وقرىء فرهين
بِالْألف: فارهين، أَي: حاذرين بنحتها، وَقيل: متحيرين
لمواضع نحتها.
تَعْثَوْا هُوَ أشَدُّ الفَسادِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تعثوا فِي
الأَرْض مفسدين} (الشُّعَرَاء: 381) وَتَفْسِيره بأشد
الْفساد، تَفْسِير مصدر: تعثوا، لِأَنَّهُ من عثا فِي
الأَرْض يعثو: فسد، وَكَذَلِكَ عثى بِالْكَسْرِ يعثي،
فمصدر الأول عثواً ومصدر الثَّانِي عثى، فَافْهَم.
عاثَ يَعِيثُ عَيْثاً
أَرَادَ بِهَذَا أَن معنى: عاث، مثل معنى: عثى: أفسد
وَلَيْسَ مُرَاده أَن تعثوا مُشْتَقّ من عاث لِأَن تعثوا
معتل اللَّام نَاقص، وعاث معتل الْعين أجوف، وَمن لَهُ
أدنى ملكة من التصريف يفهم هَذَا.
الجِبِلَّةُ الخَلْق جُبِلَ خُلِقَ ومِنْهُ جُبُلاً
وجِبِلاً وجُبْلاً يَعْنِي الخَلْقَ قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {والجبلة
الْأَوَّلين} (الشُّعَرَاء: 481) وفسرها بالخلق. قَوْله:
(جبل على صِيغَة الْمَجْهُول) ، أَي: خلق مَجْهُول أَيْضا.
قَوْله: (وَمِنْه) ، أَي: وَمن هَذَا الْبَاب جبلا فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا كثيرا} (يس:
26) . وَفِيه قراءات شَتَّى ذكره البُخَارِيّ هُنَا
ثَلَاثَة: الأولى: جبلا: بِضَمَّتَيْنِ. الثَّانِيَة:
جبلا، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْبَاء. الثَّالِثَة: جبلا،
بِضَم الْجِيم وَالْبَاء وَتَشْديد اللَّام، وَالْحَاصِل
أَن قِرَاءَة نَافِع وَعَاصِم بكسرتين وَتَشْديد اللَّام.
وَقِرَاءَة أبي عَمْرو وَابْن عَامر بكسرتين وَتَخْفِيف
اللَّام، وَقَرَأَ الْأَعْمَش بكسرتين وَتَخْفِيف اللَّام،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَاللَّام خَفِيفَة،
وقرىء فِي الشواذ بِضَمَّتَيْنِ وبالتشديد وبكسرة وَسُكُون
وبكسرة وفتحة وبالتخفيف. قَوْله: (قَالَه ابْن عَبَّاس)
وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَلم يَقع عِنْد غَيره، وَقَالَ
بَعضهم: هَذَا أولى فَإِن هَذَا كُله كَلَام أبي
عُبَيْدَة، انْتهى. قلت: لَيْت شعري من أَيْن
الْأَوْلَوِيَّة، وَكَونه كَلَام أبي عُبَيْدَة لَا
يسْتَلْزم نفي كَونه من كَلَام ابْن عَبَّاس أَيْضا.
1 - (بابُ: {وَلَا يُخْزِني يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
(الشُّعَرَاء: 78)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَا تخزني يَوْم
يبعثون} وَلم يثبت لفظ بَاب إلاَّ يثبت لفظ بَاب إلاَّ فِي
رِوَايَة أبي ذَر وَحده. قَوْله: (يَوْم يبعثون) أَي:
الْعباد، وَقيل: يَوْم يبْعَث الضالون، وَأبي فيهم.
8674 - وَقَالَ إبْرَاهيمُ بنُ طَهْمانَ عنِ ابنِ أبي
ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ
أبِيهِ
(19/100)
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ عَنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يُري أباهُ يَوْمَ
القِيامَةِ عَلَيْهِ الغَبَرَةُ والقَتَرَةُ. الغَبَرَةُ
هِيَ القَتَرَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه وَالَّتِي
قبلهَا وَهِي قَوْله تَعَالَى: {واغفر لأبي أَنه كَانَ من
الضَّالّين} (الشُّعَرَاء: 68) فِي قصَّة سُؤال
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ورؤيته
أَبَاهُ على الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة، وَإِبْرَاهِيم بن
طهْمَان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء:
الْهَرَوِيّ أَبُو سعيد، سكن نيسابور ثمَّ سكن مَكَّة
وَمَات سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَهُوَ من رجال
الصَّحِيحَيْنِ، وَابْن أبي ذِئْب مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن ابْن أبي ذِئْب واسْمه هِشَام وَسَعِيد يروي
عَن أَبِيه عَن أبي سعيد واسْمه كيسَان الْمَدِينِيّ،
وَكَانَ يسكن عِنْد مَقْبرَة فنسب إِلَيْهَا.
والْحَدِيث مُعَلّق وَصله النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن
حَفْص بن عبد الله عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان
إِلَى آخر الحَدِيث.
قَوْله: (يرى) ، ويروى: رأى، قَوْله: (أَبَاهُ) ، هُوَ
آزر. قَوْله: (عَلَيْهِ الغبرة) جملَة حَالية بِلَا وَاو.
قَوْله: (والقترة) ، بِفَتْح الْقَاف وَالتَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَهِي سَواد كالدخان، وَهَذَا مقتبس
من قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهَا غبرة ترهقها قترة} (عبس:
04 14) ، أَي: تصيبها قترة، وَلَا يرى أوحش من اجْتِمَاع
الغبرة والسواد فِي الْوَجْه. قَوْله: (الغبرة) ،
مُبْتَدأ. وَقَوله: هِيَ الفترة جملَة خَبره، وَهَذَا من
كَلَام البُخَارِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة
النَّسَائِيّ، وَعَلِيهِ الغبرة والقترة، وَتَفْسِيره
هَكَذَا غير طائل على مَا لَا يخفى، يفهم بِالتَّأَمُّلِ.
9674 - حدَّثنا إسْماعِيلُ حَدثنَا أخِي عنِ ابنِ أبي
ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُريِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أباهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ
إنَّكَ وعَدْتَني أنْ لَا تُخْزِني يَوْم يُبْعَثُونَ
فَيَقُولُ الله إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى
الكافِرِينَ.
(انْظُر الحَدِيث 0533 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة بِلَا
وَاسِطَة أَبِيه، وَسَعِيد قد سمع عَن أَبِيه عَن أبي
هُرَيْرَة وَسمع أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَذَا لَا
يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي
أويس، واسْمه عبد الله يروي عَن أَخِيه عبد الحميد بن أبي
ذِئْب إِلَى آخِره ... والْحَدِيث قد مضى فِي أَحَادِيث
الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: (لَا تخزني) فَإِن قيل: إِذا أَدخل الله أَبَاهُ
فِي النَّار فقد أَخْزَاهُ لقَوْله: {إِنَّك من تدخل
النَّار فقد أخزيته} (آل عمرَان: 291) وخزي الْوَالِد خزي
الْوَلَد فَيلْزم الْخلف فِي الْوَعْد وَأَنه محَال،
وَأجِيب: لَو لم يدْخل النَّار لزم الْخلف فِي الْوَعيد،
وَهَذَا هُوَ المُرَاد بقوله: حرمت الْجنَّة على
الْكَافرين، وَيُجَاب أَيْضا بِأَن أَبَاهُ يمسخ إِلَى
صُورَة ذيخ، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة أَي: ضبع،
ويلقى فِي النَّار فَلَا خزي حَيْثُ لَا تبقى لَهُ صورته
الَّتِي هِيَ سَبَب الخزي، فَهُوَ عمل بالوعد والوعيد
كليهمَا، وَقيل: الْوَعْد مَشْرُوط بِالْإِيمَان كَمَا أَن
الاسْتِغْفَار لَهُ كَانَ عَن موعدة وعدها إِيَّاه،
فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ.
2 - (بابُ: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ واخْفِضْ
جَناحَكَ} (الشُّعَرَاء: 412 512) . ألِنْ جانِبَكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وأنذر} الْخطاب
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمرَاد بالأقربين:
بَنو عبد منَاف، وَقيل: بَنو عبد الْمطلب، وَكَانُوا
أَرْبَعِينَ رجلا، وَقيل: هم قُرَيْش وَبِه جزم ابْن
التِّين، والقربى فِي الْخمس: بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب
عِنْد الشَّافِعِي، قَوْله: (ألن جَانِبك) ، من الإلانة
وَهُوَ تَفْسِير قَوْله: واخفض جناحك، وَهَكَذَا فسره
الْمُفَسِّرُونَ.
0774 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غياثٍ حَدثنَا أبي
حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ حدّثني عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عَنْ
سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) صَعِدَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَى الصَّفا فَجَعَلَ يُنادِي يَا بَني
فِهْرٍ يَا بَني عَدِيّ لِبُطُونِ قُرَيْش حَتَّى اجْتعُوا
فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَخْرُجُ
أرْسَلَ رَسُولا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجاءَ أبُو لَهَبٍ
وقُرَيْشٌ
(19/101)
فَقَالَ أرَأيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ
أنَّ خَيْلاً بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ
أكنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنا
عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً قَالَ فإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ
بَيْنَ يَدَيّ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أبُو لَهَبٍ تَباً
لَكَ سائِرَ اليَوْمِ ألِهاذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ:
{تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبْ وَتَبَّ مَا أغْنَى عَنْهُ
مالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد: 1 2) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان،
وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء.
وَهَذَا الحَدِيث مُرْسل لِأَن ابْن عَبَّاس كَانَ حينئذٍ
إِمَّا لم يُولد أَو كَانَ طفْلا، وَبِه جزم
الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث بِهَذَا
الْإِسْنَاد بِعَيْنِه فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب
من انتسب إِلَى آبَائِهِ فِي الْإِسْلَام والجاهلية،
وَلَكِن الَّذِي هُنَا بأتم من ذَاك.
قَوْله: (أَرَأَيْتكُم) ، مَعْنَاهُ: أخبروني وَالْعرب
تَقول: أرأيتكما أَرَأَيْتكُم عِنْد الاستخبار بِمَعْنى:
أَخْبرنِي واخبراني وأخبروني، وتاؤها مَفْتُوحَة أبدا.
قَوْله: (أَن خيلاً) أَي: عسكراً. قَوْله: (مصدقي) ،
بتَشْديد الْيَاء وَأَصله: مُصدقين لي، فَلَمَّا أضيف
إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت النُّون وأدغمت يَاء
الْجمع فِي يَاء الْمُتَكَلّم. قَوْله: (نذيراً) أَي:
منذراً. قَوْله: (وَتب) وَفِي رِوَايَة أُسَامَة: وَقد تب،
وَزَاد: هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَش يومئذٍ، والتباب
الخسران والهلاك، تَقول مِنْهُ: تب تباباً وَتب يَدَاهُ.
وَقَوله: تَبًّا لَك، نصب على الْمصدر بإضمار فعل: أَي:
ألزمك الله هَلَاكًا وخسراناً. قَوْله: (سَائِر الْيَوْم)
أَي: فِي جَمِيع الْيَوْم، وَمِنْه: سَائِر النَّاس أَي
جَمِيعهم. قَوْله: (أَلِهَذَا) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام
على وَجه الْإِنْكَار.
1774 - حدَّثنا أَبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَني سَعِيدُ بنُ المسَيَّبِ
وأبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمان أنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حِينَ أنْزل الله: {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}
(الشُّعَرَاء: 412) قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أوْ
كَلِمَةً نَحْوَها اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ لَا أعْنِي
عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً يَا بَني عَبْدِ مَنافٍ لَا
أغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً يَا عبَّاسُ بنَ عَبْدِ
المُطَّلِبِ لَا أغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً وَيَا
صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً وَيَا فاطِمَةُ
بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلِينِي مَا
شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً.
(انْظُر الحَدِيث 3572 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَيْضا من مَرَاسِيل
أبي هُرَيْرَة لِأَن أَبَا هُرَيْرَة أسلم بِالْمَدِينَةِ
وَهَذِه الْقِصَّة وَقعت بِمَكَّة، وَأَبُو الْيَمَان
الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة
الْحِمصِي. والْحَدِيث مر بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد وَعين
هَذَا الْمَتْن فِي كتاب الْوَصَايَا فِي: بَاب هَل يدْخل
النِّسَاء والود فِي الْأَقَارِب؟ وَهَذَا تكْرَار صَرِيح
لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة غير اخْتِلَاف التَّرْجَمَة فيهمَا.
قَوْله: (أَو كلمة نَحْوهَا) شكّ من الرَّاوِي، أَي: أَو
نَحْو: (يَا معشر قُرَيْش) مثل قَوْله: يَا بنيفلانة،
كَمَا فِي الحَدِيث الْمَاضِي قَوْله: {اشْتَروا أَنفسكُم}
أَي: بِاعْتِبَار تَخْلِيصهَا من الْعَذَاب كَأَنَّهُ
قَالَ: أَسْلمُوا تسلموا من الْعَذَاب فَيكون ذَلِك كالشري
كَأَنَّهُمْ جعلُوا الطَّاعَة ثمن النجَاة، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: يَا معشر قُرَيْش أَنْقِذُوا أَنفسكُم من النَّار.
قَوْله: (يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) يجوز فِي: عمَّة، النصب وَالرَّفْع
بِاعْتِبَار اللَّفْظ وَالْمحل، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله:
(يَا فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
قَوْله: (لَا أُغني عَنْك) يُقَال: مَا يغنى عَنْك هَذَا
أَي: مَا ينفعك.
تابِعَهُ أصْبَغُ عنِ ابنِ وهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ
شِهابٍ
أَي تَابع أَبَا الْيَمَان فِي رِوَايَة أصبغ بن الْفرج
الْمصْرِيّ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن عبد الله بن وهب
عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ، وَقد مر وَجه الْمُتَابَعَة فِي كتاب
الْوَصَايَا، وَالْحكمَة فِي إنذار الْأَقْرَبين أَولا أَن
الْحجَّة إِذا قَامَت عَلَيْهِم تعدت إِلَى غَيرهم وَلَا
يبْقى لَهُم عِلّة فِي الِامْتِنَاع.
72 - (سورَةُ النَّمْلُ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة النَّمْل، ذكر
الْقُرْطُبِيّ وَغَيره أَنَّهَا مَكِّيَّة بِلَا خلاف،
وَعند السخاوي: نزلت قبل الْقَصَص وَبعد الْقَصَص
سُبْحَانَ، وَهِي ثَلَاثَة وَتسْعُونَ آيَة، وَألف
وَمِائَة وتسع وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَأَرْبَعَة آلَاف
وَسَبْعمائة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا.
(19/102)
ثَبت لفظ: سُورَة. والبسلمة لأبي ذَر
وَحده، وَثَبت للنسفي لَكِن بعد الْبَسْمَلَة.
والخَبْءُ مَا خَبَأْتَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلا يسجدوا لله
الَّذِي يخرج الخبء} (النَّمْل: 52) الْآيَة. وَفَسرهُ
بقوله: (مَا خبأت) وَعَن الْفراء يخرج الخبء أَي الْغَيْث
من السَّمَاء والنبات من الأَرْض. قَوْله: (والخبء)
بِالْوَاو فِي أَوله فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة
غَيره بِلَا وَاو، وَمثل هَذِه الْوَاو تسمى: وَاو
الاستفتاح، هَكَذَا سَمِعت من أساتذتي الْكِبَار.
لَا قِبَلَ لَا طاقَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إرجع إِلَيْهِم
فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا} (النَّمْل: 73)
الْآيَة، وَفَسرهُ بقوله: (لَا طَاقَة) لَهُم بهَا وَأخرج
الطَّبَرِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد مثله،
وَكَذَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة.
الصَّرْحُ كُلُّ مِلاَطٍ اتَّخَذَ مِنَ القَوَارِيرِ
والصَّرْحُ القَصْرُ وجَماعَتُهُ صُرُوحٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قيل لَهَا ادخلي
الصرح} (النَّمْل: 44) الْآيَة وَفسّر الصرح بقوله: (كل
ملاط) بِكَسْر الْمِيم فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الأصبلي بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَكَذَا فِي
رِوَايَة ابْن السكن، وَكَذَا بِخَط الدمياطي فِي نسخته
بِالْبَاء، وَقَالَ ابْن التِّين بِالْمِيم، وَقَالَ:
الملاط بِالْمِيم الْمَكْسُورَة الَّذِي يوضع بَين سافتي
الْبُنيان، وَقيل: الصخر، وَقيل: كل بِنَاء عَال مُنْفَرد،
وبالباء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة مَا تُكْسَى بِهِ
الأَرْض من حِجَارَة أَو رُخَام، وَقَالَ البُخَارِيّ: كل
ملاط اتخذ من الْقَوَارِير، وَكَذَا قَالَه أَبُو
عُبَيْدَة. قَوْله: (والصرح: الْقصر) هُوَ قَول أبي
عُبَيْدَة أَيْضا. قَوْله: (وجماعته) . والأصوب: وَجمعه
صروح.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيْمٌ سَرِيرٌ
كَرِيمٌ حُسْنُ الصَّنْعَةِ وغَالِي الثَّمَنِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{وَلها} أَي: ولبلقيس {عرش عَظِيم} (النَّمْل: 32)
يَعْنِي: سَرِير كريم وَصفه بِالْكَرمِ على سَبِيل
الْمجَاز على أَنه من خِيَار السرر وأنفسها، كَمَا فِي
قَوْله: {تَأْخُذ كرائم أَمْوَال النَّاس وَهِي خِيَارهَا
ونفائسها. قَوْله: (حسن الصَّنْعَة) } ، بِفَتْح الْحَاء
وَالسِّين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حسن الصَّنْعَة مُبْتَدأ
أَو خَبره مَحْذُوف أَي: لَهُ، وَهَذَا يدل على أَنه بِضَم
الْحَاء وَسُكُون السِّين. قَوْله: (غالي الثّمن) ، ويروى:
غلا الثّمن، وَهُوَ عطف على مَا قبله، وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: عرش عَظِيم ضخم حسن وَكَانَ مقدمه من ذهب
مفضض بالياقوت الْأَحْمَر والزمرد الْأَخْضَر ومؤخره من
فضَّة مكلل بألوان الْجَوَاهِر، وَله أَربع قَوَائِم
قَائِمَة من ياقوت أصفر وقائمة من زمرد أَخْضَر وقائمة من
در، وصفائح السرير من ذهب وَعَلِيهِ سَبْعَة أَبْيَات على
كل بَيت بَاب مغلق. وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ عرش بلقيس
ثَلَاثِينَ ذِرَاعا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَطوله فِي
الْهَوَاء ثَلَاثُونَ ذِرَاعا، وَعَن مقَاتل ثَمَانِينَ
ذِرَاعا فِي ثَمَانِينَ ذِرَاعا وَطوله فِي الْهَوَاء
ثَمَانُون ذِرَاعا مكلل بالجواهر.
يأتُونِي مسْلِمِينَ طائِعِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَيّكُم يأتيني
بِعَرْشِهَا قبل أَن يأتوني مُسلمين} (النَّمْل: 83)
وَفَسرهُ بقوله: (طائعين) وَهَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ
من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل:
معنى طائعين منقادين لأمر سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام،
وَلم يقل: مُطِيعِينَ، لِأَن أطاعه إِذا أجَاب أمره، وطاعه
إِذا انْقَادَ لَهُ، وَهَؤُلَاء أجابوا أمره.
رَدِفَ: اقْتَرَبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {عَسى أَن يكون
رَدِفَ لكم} (النَّمْل: 27) وَفسّر: (ردف) بقوله: (اقْترب)
، وَهَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
جامِدَةً قائِمَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَترى الْجبَال
تحسبها جامدة} (النَّمْل: 88) وفسرها بقوله: (قَائِمَة)
هَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ ابْن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
أوْزعْنِي اجْعَلْنِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رب أوزعني
أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ} (النَّمْل: 91)
الْآيَة، فسر قَوْله: (أوزعني) . بقوله: (اجْعَلنِي)
وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) :
أوزعني: إجعلني أزع شكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت
(19/103)
عَليّ وعَلى وَالِدي، وآلفه وارتبطه لَا
يَنْقَلِب عني حَتَّى لَا أَزَال شاكراً لَك.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: نَكِّرُوا غَيِّرُوا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي معنى قَوْله تَعَالَى: (نكروا
لَهَا عرشها: غيروا، أسْندهُ أَبُو مُحَمَّد من حَدِيث
ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: غيروه. وَأخرج ابْن
أبي حَاتِم من وَجه أخر صَحِيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: أَمر
بالعرش فَغير مَا كَانَ أَحْمَر جعل أَخْضَر، وَمَا كَانَ
أَخْضَر جعل أصفر غير كل شَيْء عَن حَاله.
وأوتِينا العِلْمَ يَقُولُهُ سُلَيْمانُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَت كَأَنَّهُ
هُوَ وأوتينا الْعلم من قبلهَا وَكُنَّا مُسلمين}
(النَّمْل: 24) وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن قَوْله:
(وأويتينا الْعلم) من قَول سُلَيْمَان، وَقَالَ الواحدي:
إِنَّه من قَول بلقيس، قَالَ بَعضهم، وَالْأول
الْمُعْتَمد. قلت: السِّيَاق والسباق يدلان على أَنه من
قَول بلقيس أَنه من قَول قالته مقرة بِصِحَّة نبوة
سُلَيْمَان.
الصَّرْحُ بِرْكَةُ ماءٍ ضَرَبَ سُلَيْمانُ قَوَارِيرَ
ألْبَسَها إيَّاهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قيل لَهَا ادخلي
الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة وكشفت عَن سَاقيهَا
قَالَ أَنه صرح ممرد من قَوَارِير} (النَّمْل: 44)
الْآيَة، وَفسّر (الصرح) الْمَذْكُور بقوله: (بركَة مَاء)
إِلَى آخِره، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن
أبي نجيح عَن مُجَاهِد مثله، ثمَّ قَالَ: وَكَانَت هلباء
شعراء، وَمن وَجه آخر عَن مُجَاهِد: كشفت بلقيس عَن
سَاقيهَا فَإِذا هما شعراوان، فَأمر سُلَيْمَان بالنورة
فصنعت. قَوْله: (قَوَارِير) ، جمع قَارُورَة وَهِي
الزّجاج، وَكَانَ سُلَيْمَان أَمر ببنائه وأجرى تَحْتَهُ
المَاء وَألقى فِيهِ كل شَيْء من دَوَاب الْبَحْر: السّمك
وَغَيره، ثمَّ وضع لَهُ سَرِير فِي صدرها فَجَلَسَ
عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَت بلقيس قيل لَهَا: أدخلي الصرح،
فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة وَهُوَ مُعظم المَاء، وَعَن
ابْن جريج: حسبته بحراً وكشفت عَن سَاقيهَا لتخوض إِلَى
سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَبَاقِي الْقِصَّة
مَشْهُور. قَوْله: (إِيَّاه) فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ:
إِيَّاهَا.
82 - (سورَةُ القَصَصِ)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْقَصَص، قَالَ أَبُو
الْعَبَّاس: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا آيَة نزلت
بِالْجُحْفَةِ وَهِي قَوْله: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك
الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} (الْقَصَص: 58) أَي: إِلَى
مَكَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِلَى الْمَوْت. وَعنهُ:
إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَعنهُ إِلَى بَيت الْمُقَدّس،
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ: إِلَى
الْجنَّة، وَهِي ثَمَان وَثَمَانُونَ آيَة، وَألف
وَأَرْبَعمِائَة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَخَمْسَة
آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف.
لم يثبت لفظ سُورَة والبسملة إِلَّا لأبي ذَر والنسفي.
يُقالُ: كلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلاّ وَجْهَه، إلاَّ مُلْكَهُ،
ويُقالُ: إلاّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي آخر سُورَة
الْقَصَص: {وَلَا تدعُ مَعَ الله إل هَا آخر لَا إل هـ
إلاَّ هُوَ كل شَيْء هَالك إلاَّ وَجهه لَهُ الحكم
وَإِلَيْهِ ترجعون} (الْقَصَص: 88) وَفسّر الْوَجْه
بِالْملكِ، وَكَذَا نقل الطَّبَرِيّ عَن بعض أهل
الْعَرَبيَّة، وَكَذَا ذكره الْفراء، وَعَن أبي عبيد إلاَّ
وَجهه: إلاَّ جلالة. قَوْله: (وَيُقَال)
إِلَى آخِره، قَالَ سُفْيَان: مَعْنَاهُ إلاَّ مَا أُرِيد
بِهِ رِضَاء الله والتقرب لَا الرِّيَاء وَوجه النَّاس.
وَقَالَ مُجاهِدٌ الأنْباءُ الحجَجُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فعميت
عَلَيْهِم الأنباء} (الْقَصَص: 66) أَن الأنباء هِيَ
الْحجَج، وَكَذَا ذكره الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي
نجيح عَنهُ.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّكَ لَا تَهْدِي منْ أحْبَبْتَ
ولاكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} (الْقَصَص: 65)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدى}
... الْآيَة. قَوْله: (لَا تهدي) ، خطاب للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (من أَحْبَبْت) ، هدايته، وَقيل:
لِقَرَابَتِهِ.
2774 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ عَنْ
أبِيهِ قَالَ لمّا حَضَرَتْ أَبَا طالِبٍ الوَفاةُ جاءَهُ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ
أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ الله بنَ أبي أميَّةَ بنِ
المُغِيَرةِ فَقَالَ أيْ عَمِّ قُلْ لَا إل هَ إلاّ الله
كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ الله فَقَالَ
(19/104)
أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ الله بنُ أبي
أُمَيَّةَ أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ
فَلَمْ يَزَلْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَعْرِضُها عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ المَقالَةِ
حَتَّى قَالَ أبُو طالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ عَلَى
مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ وَأبي أَن يَقُولَ لَا إل هَ
إلاَّ الله قَالَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أنْهَ عَنْكَ
فأنْزَلَ الله: {مَا كانَ لِلنبيِّ والذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمشْرِكِين} (التَّوْبَة: 311) وأنْزَلَ
الله فِي أبي طَالب فَقَالَ لِرَسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ
وَلاكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} (الْقَصَص: 65) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم
بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة. والْحَدِيث مر فِي
كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد
الْمَوْت: لَا إل هـ إلاَّ الله. قَالَ الْكرْمَانِي: قيل:
هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ على شَرط البُخَارِيّ إِذْ لم
يرو عَن الْمسيب إلاَّ ابْنه، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح)
: وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث من
مَرَاسِيل الصَّحَابَة لِأَن الْمسيب من مسلمة الْفَتْح
على قَول مُصعب، وعَلى قَول العسكري مِمَّن بَايع تَحت
الشَّجَرَة، فأياماً كَانَ فَلم يشْهد وَفَاة أبي طَالب
لِأَنَّهُ توفّي هُوَ وَخَدِيجَة، رَضِي الله عَنْهَا. فِي
أَيَّام مُتَقَارِبَة فِي عَام وَاحِد للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، نَحْو الْخمسين، ورد عَلَيْهِمَا بَعضهم
بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الْمسيب مُتَأَخِّرًا
إِسْلَامه أَن لَا يشْهد وَفَاة أبي طَالب كَمَا شَهِدَهَا
عبد الله بن أبي أُميَّة وَهُوَ يومئذٍ كَافِر ثمَّ أسلم
بعد ذَلِك. انْتهى. قلت: حُضُور عبد الله بن أبي أُميَّة
وَفَاة أبي طَالب وَهُوَ كَافِر ثَبت فِي: (الصَّحِيح)
وَلم يثبت حُضُور الْمسيب وَفَاة أبي طَالب وَهُوَ كَافِر
لَا فِي: (الصَّحِيح) وَلَا فِي غَيره، وبالاحتمال لَا يرد
على كَلَام بِغَيْر احْتِمَال، فَافْهَم.
قَالَ ابنُ عَبَّاس أُولي القُوَّةِ لَا يَرْفَعُها
العُصْبَةُ مِنَ الرِّجالِ. لَتَنُوءُ لَتُثْقِلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا أَن مفاتحه لتنوء بالعصبة
أولي الْقُوَّة} (الْقَصَص: 67)
الْآيَة. وَفسّر قَوْله: {أولي الْقُوَّة} بقوله: (لَا
يرفعها الْعصبَة من الرِّجَال) والعصبة مَا بَين الْعشْرَة
إِلَى خَمْسَة عشرَة قَالَه مُجَاهِد، وَعَن قَتَادَة: مَا
بَين الْعشْرَة إِلَى أَرْبَعِينَ، وَعَن أبي صَالح:
أَرْبَعُونَ رجلا وع ابْن عَبَّاس مَا بَين الثَّلَاثَة
إِلَى الْعشْرَة، وَقيل: سِتُّونَ، وَفسّر قَوْله: (لتنوء)
، بقوله: (لتثقل) ، وَقيل: لتميل، وَهَذَا إِلَى قَوْله:
يتشاورون، لم يثبت لأبي ذَر والأصيلي، وَثَبت لغَيْرِهِمَا
إِلَى قَوْله: ذكر مُوسَى.
فارِغاً إلاّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح فؤاد أم
مُوسَى فَارغًا} (الْقَصَص: 01) وَفسّر فَارغًا بقوله:
(إلاَّ من ذكر مُوسَى) وَفِي التَّفْسِير: أَي سَاهِيا
لاهياً من كل شَيْء إلاَّ من ذكر مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وهمه، قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين،
وَعَن الْكسَائي: فَارغًا أَي نَاسِيا، وَعَن أبي
عُبَيْدَة أَي: فَارغًا من الْحزن لعلمها بِأَنَّهُ لم
يغرق.
الفَرِحِينَ المَرِحِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تفرح إِن الله
لَا يحب الفرحين} (الْقَصَص: 67) وَفَسرهُ بقوله:
(المرحين) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
قُصِّيهِ اتبِعِي أثَرَهُ وَقَدْ يَكُونُ أنْ يَقُصَّ
الكَلاَمَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت لأخته قصيه
فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ} (الْقَصَص: 11)
أَي: قَالَت أم مُوسَى لأخت مُوسَى: قصيه، أَي: اتبعي
أَثَره، من قَوْلهم: قصصت آثَار الْقَوْم أَي: تبعتها.
قَوْله: (وَقد يكون)
إِلَى آخِره. أَرَادَ بِهِ أَن قصّ يكون أَيْضا من قصّ
الْكَلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {نَحن نقص عَلَيْك}
(الْقَصَص: 11) وَمِنْه: قصّ الرُّؤْيَا إِذا أخبر بهَا.
عَنْ جُنُبٍ عَنْ بُعْدٍ عَنْ جَنابَةٍ واحِدٌ وَعَنِ
اجْتِنابٍ أيْضاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فبصرت بِهِ عَن جنب
وهم لَا يَشْعُرُونَ} وَفسّر: (عَن جنب) بقوله: (عَن بعد)
أَي: بصرت أُخْت مُوسَى بمُوسَى أَي: أبصرته عَن بعد
وَالْحَال أَنهم لَا يَشْعُرُونَ لَا يعلمُونَ أَنَّهَا
أُخْت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَعَن ابْن عَبَّاس:
الْجنب
(19/105)
أَن يسمو بصر الْإِنْسَان إِلَى الشَّيْء
الْبعيد وَهُوَ إِلَى جنبه لَا يشْعر بِهِ، وَعَن
قَتَادَة: جعلت أُخْت مُوسَى تنظر إِلَيْهِ كَأَنَّهَا لَا
تريده. قَوْله: عَن جَنَابَة أَرَادَ بِهِ أَيْضا أَن معنى
عَن جَنَابَة: عَن بعد. قَوْله: (وَاحِد) أَي: معنى عَن
جَنَابَة: وَاحِد، وَكَذَلِكَ معنى: وَعَن اجْتِنَاب،
وَالْحَاصِل أَن كل ذَلِك بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ:
الْبعد، وَمِنْه: الْجنب. سمي بِهِ لِأَنَّهُ بعيد عَن
تِلَاوَة الْقُرْآن.
يَبْطِشُ: ويَبْطُشُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَرَادَ
أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} (الْقَصَص: 91)
وَبَين أَن فِيهِ لغتين إِحْدَاهمَا: يبطش، بِضَم الطَّاء،
والآخرى: يبطش، بِالْكَسْرِ.
يأْتَمِرُونَ: يَتَشَاوَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا مُوسَى
إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك} (الْقَصَص: 02) وَفسّر:
(يأتمرون) بقوله: (يتشاورون) وَقيل: مَعْنَاهُ يَأْمر
بَعضهم بَعْضًا، وَالْقَائِل لمُوسَى بذلك هوحزقيل مُؤمن
آل فِرْعَوْن وَكَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن، وَالْمَلَأ:
الْجَمَاعَة.
العُدْوَانُ والعَدَاءُ والتَّعَدِّي وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا عدوان عَليّ
وَالله على مَا نقُول وَكيل} (الْقَصَص: 82) وبيّنَ أَن
معنى هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة وَاحِد، وَهُوَ
التَّعَدِّي والتجاوز عَن الْحق، وَالْقَائِل بِهَذَا هُوَ
شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام، وقصته مَشْهُورَة.
آنَسَ: أبْصَرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى
الْأَجَل وَسَار بأَهْله آنس من جَانب الطّور نَارا}
(الْقَصَص: 92) وَفَسرهُ بقوله: (أبْصر) .
الجِذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الخَشَبِ لَيْسَ فِيها
لَهَبٌ: والشِّهابُ فِيهِ لَهَبٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو جذوة من النَّار
لَعَلَّكُمْ تصطلون} (الْقَصَص: 92) وَفسّر الجذوة بقوله:
(قِطْعَة) إِلَى آخِره، وَقَالَ مقَاتل وَقَتَادَة: الجذوة
الْعود الَّذِي احْتَرَقَ بعضه، وَجَمعهَا جذى، وَالْجِيم
فِي جذوة مُثَلّثَة وَهِي لُغَات وقرءات وَمعنى: يصطلون
تستدفئون. قَوْله: (والشهاب فِيهِ لَهب) ، أَشَارَ بِهِ
إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النَّمْل: {إِنِّي آنست
نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو آتيكم بشهاب قبس
لَعَلَّكُمْ تصطلون} (النَّمْل: 7) وَفسّر الشهَاب بِأَن
فِيهِ لهباً، قَالَ الْجَوْهَرِي: الشهَاب شعلة نَار
ساطعة، وَقَالَ: اللهب لَهب النَّار وَهُوَ لسانها، وكنى
أَبُو لَهب لجماله.
كأنَّها جانٌّ وهْيَ فِي آيَةٍ أُخْرَى كأنَّها حَيَّةٌ
حَيَّةٌ تَسْعَى والحَيَّاتُ أجْناسٌ الجانُّ والأفاعِي
والأساوِدُ
هَذَا ثَبت للنسفي، وَأَشَارَ بقوله: (كَأَنَّهَا) إِلَى
قَوْله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة: {وَأَن ألق عصاك
فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا}
(الْقَصَص: 13) قَوْله: (وَهِي فِي آيَة أُخْرَى)
{كَأَنَّهَا حَيَّة تسْعَى} (طه: 02) وَهُوَ فِي سُورَة
طه، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ: القها يَا مُوسَى
فألقاها فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} وَفِي الشُّعَرَاء:
{فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} (الْأَعْرَاف:
701 وَالشعرَاء: 23) وَلم يذكر البُخَارِيّ هَذَا مَعَ
أَنه دَاخل فِي قَوْله: (والحيات أَجنَاس) وَهِي جمع
حَيَّة وَهِي إسم جنس يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى
وَالصَّغِير وَالْكَبِير، وَذكر الله تَعَالَى فِي
الْقُرْآن الْحَيَّة والجان والثعبان، فالحية تَشْمَل
الجان والثعبان، وَكَانَت حَيَّة لَيْلَة المخاطبة
لِئَلَّا يخَاف مُوسَى علهي الصَّلَاة وَالسَّلَام،
مِنْهَا إِذا أَلْقَاهَا بَين يَدي فِرْعَوْن، وَعَن ابْن
عَبَّاس: صَارَت حَيَّة صفراء لَهَا عرف كعرف الْفرس،
وَجعلت تتورم حَتَّى صَارَت ثعباناً وَهِي أكبر مَا يكون
من الْحَيَّات فَلذَلِك قَالَ فِي مَوضِع آخر: {كَأَنَّهَا
جَان} وَهِي أَصْغَر الْحَيَّات وَفِي مَوضِع آخر: ثعبان،
وَهُوَ أعظمها، فالجان ابْتِدَاء حَالهَا والثعبان.
انْتِهَاء حَالهَا، وَكَانَ الجان فِي سرعَة فَلذَلِك
قَالَ: {فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان} وَيُقَال:
كَانَ مَا بَين لحيي الْحَيَّة أَرْبَعُونَ ذِرَاعا، وَعَن
ابْن عَبَّاس: لما انقلبت الْحَيَّة ثعباناً ذكرا صَار
يبتلع الصخر وَالْحجر. قَوْله: (والأفاعي) جمع أَفْعَى على
وزن أفعل، يُقَال: هَذِه أَفْعَى بِالتَّنْوِينِ،
والأفعوان ذكر الأفاعي. قَوْله: (والأساود) ، جمع أسود
وَهُوَ الْعَظِيم من الْحَيَّات وَفِيه سَواد، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الْجمع الأساود لِأَنَّهُ إسم، وَلَو كَانَ
صفة لجمع على فعل يَعْنِي لقَالَ: سود، يُقَال: أسود سالخ
غير مُضَاف لِأَنَّهُ يسلخ جلده كل عَام وَالْأُنْثَى:
أَسْوِدَة، وَلَا تُوصَف بسالخة.
رِدْءاً مُعِيناً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأخي هَارُون هُوَ
أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني}
(الْقَصَص: 43) وَفَسرهُ بقوله: (معينا) يُقَال: فلَان رده
فلَان إِذا كَانَ ينصره ويشد ظَهره، وَيُقَال: أردأت الرجل
أعنته.
(19/106)
عبيد الله ال ابنُ عَبَّاسٍ لِكَي
يُصَدِّقُنِي. وَقَالَ غيْرُهُ سَنَشُدُّ كُلَّما
عَزَّزْتَ شَيْئاً فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُداً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {ردأ يصدقني}
(الْقَصَص: 43) لكَي يصدقني، وَفِي التَّفْسِير: يصدقني
أَي: مُصدقا وَلَيْسَ الْغَرَض بتصديقه أَن يَقُول لَهُ:
صدقت، أَو يَقُول للنَّاس: صدق مُوسَى، وَإِنَّمَا هُوَ
أَن يلخس بِلِسَانِهِ الْحق أَو يبسط القَوْل فِيهِ،
ويجادل بِهِ الْكفَّار كَمَا يفعل الرجل المنطيق ذُو
الْمُعَارضَة. قَوْله: (قَالَ غَيره) ، أَي: غير ابْن
عَبَّاس فِي معنى قَول الله تَعَالَى: {سنشد عضدك بأخيك}
(الْقَصَص: 53) سنعينك. وَقيل: سنقويك بِهِ، وَشد العضدد
كِنَايَة عَن التقوية. قَوْله: (كلما عززت) ، من: عز فلَان
أَخَاهُ إِذا قوَّاه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فعززنا
بثالث} (يس: 241) يُخَفف ويشدد أَي: قوينا وشددنا.
مَقْبُوحِينَ: مُهْلَكِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم الْقِيَامَة
هم من المقبوحين} (الْقَصَص: 24) وَفَسرهُ بقوله: (مهلكين)
، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ غَيره: أَي من
المتعدين الملعونين من الْقبْح وَهُوَ الإبعاد. وَقَالَ
ابْن زيد: يُقَال: قبح الله فلَانا قبحاً وقبوحاً، أَي:
أبعده من كل خير، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي سَواد
الْوَجْه وزرقة الْعين، وعَلى هَذَا يكون بِمَعْنى
المقبحين.
وصَّلْنا: بَيَّنَّاه وأتْمَمْناهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد وصلنا لَهُم
القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون} (الْقَصَص: 15) وَفسّر:
وصلناه بقوله: (بَيناهُ) وَعَن السّديّ كَذَلِك، وَعَن
الْفراء: أتبعنا بعضه بَعْضًا فاتصل. قَوْله: (وأتممناه) ،
الضَّمِير الْمَنْسُوب فِيهِ فِي بَيناهُ يرجع إِلَى
القَوْل، الْمَعْنى: بَينا لكفار مَكَّة فِي الْقُرْآن من
خبر الْأُمَم الْمَاضِيَة كَيفَ عذبُوا بتكذيبهم.
يُحْياى: يُجْلَبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يجبى إِلَيْهِ
ثَمَرَات كل شَيْء} (الْقَصَص: 75) وَفسّر: يجبى بقوله:
(يجلب) وَقَرَأَ نَافِع: تجبى، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من
فَوق وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي:
إِلَى الْحرم، وَالْمعْنَى: يجلب وَيحمل من النواحي
ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا أَي: من عندنَا.
بَطِرَتْ: أشِرَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا من
قَرْيَة بطرت معيشتها} (الْقَصَص: 85) وَفسّر قَوْله:
(بطرت) ، بقوله: (أَشرت) ، أَي: طغت وبغت، وَقَالَ ابْن
فَارس: البطر تجَاوز الْحَد فِي المرح، وَقيل: هُوَ
الطغيان بِالنعْمَةِ.
فِي أُمِّها رَسُولا أُمُّ القُرَى مَكّةُ وَمَا حَوْلَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبك
مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا} (الْقَصَص:
95) ، الْآيَة. وَذكر أَن المُرَاد بِأم الْقرى مَكَّة
وَمَا حولهَا، سميت بذلك لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا.
{تُكِنُّ تُخْفِي أكْنَنْتُ الشَّيْءَ أخْفَيْتُهُ
وكَنَنْتُهُ أخفَيْتُهُ وأظْهَرْتُهُ}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك يعلم مَا تكن
صُدُورهمْ مَا يعلنون} (الْقَصَص: 96) وَفسّر: (تكن) ،
بقوله: (تخفي) وتكن، بِضَم التَّاء من أكننت الشَّيْء إِذا
أخفيته. قَوْله: (وكننته) من الثلاثي وَمَعْنَاهُ: خفيته
بِدُونِ الْهمزَة فِي أَوله أَي: أظهرته، وَهُوَ من
الأضداد، وَوَقع فِي الْأُصُول: أخفيته فِي
الْمَوْضِعَيْنِ بِالْهَمْزَةِ فِي أَوله وَلأبي ذَر
بِحَذْف الْألف فِي الثَّانِي وَكَذَا قَالَ ابْن فَارس
أخفيته سترته وخفيته أظهرته.
{وَيْكَأنَّ الله} مِثْلُ: {ألم تَرَ أَن الله يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} (الْقَصَص: 28)
يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح الَّذين
تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس يَقُولُونَ وي كَأَن الله يبسط
الرزق لمن يشار من عباده وَيقدر} وَهَذَا وَقع لغير أبي
ذَر، وَفسّر قَوْله: (وي كَأَن الله) بقوله: مثل: (ألم
تَرَ) إِلَى آخِره، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ وي، مفصولة عَن: كَأَن، وَهِي كلمة
تَنْبِيه على الْخَطَأ وَهُوَ مَذْهَب الْخَلِيل وسيبويه،
وَعند الْكُوفِيّين إِن: وَبِك بِمَعْنى: وَيلك، وَأَن
الْمَعْنى: ألم تعلم أَنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ، وَيجوز
أَن يكون الْكَاف كَاف الْخطاب مَضْمُومَة إِلَى وي،
وَأَنه بِمَعْنى: لِأَنَّهُ، وَالْكَلَام لبَيَان
الْمَقُول لأَجله هَذَا القَوْل أَو لِأَنَّهُ لَا يفلح
الْكَافِرُونَ. قَوْله: (وَيقدر) ، أَي: ويقتر. قَوْله:
(يُوسع عَلَيْهِ) ، يرجع إِلَى قَوْله: {يبسط الرزق}
وَقَوله: (يضيق عَلَيْهِ) يرجع إِلَى قَوْله: (وَيقدر) .
(19/107)
|