عمدة القاري شرح صحيح البخاري

6 - (بابٌ: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكِبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ} (الدُّخان: 61)

وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا فِي النّسخ كلهَا، وَقد مر تَفْسِيرهَا عَن قريب.

5284 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيع عَنْ الأعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ خَمْسٌ قَدْ مَضَى اللِّزَامُ وَالرُّومُ وَالبُطْشَةُ وَالقَمَرُ والدُّخَانُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ ابْن مُوسَى الْمَذْكُور فِيمَا مضى، وَبَقِيَّة الرِّجَال تكَرر ذكرهم، وَالْمعْنَى أَيْضا قد تقدم، وَهَذَا يدل على أَن ابْن مَسْعُود يرى أَن الدُّخان قد وَقع، وَقد ذكرنَا عَن ابْن عمر وَغَيره أَنه لم يَقع بعد، وَقد روى عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: آيَة الدُّخان لم تمض بعد، يَأْخُذ الْمُؤمن كَهَيئَةِ الزُّكَام وينفخ الْكَافِر حَتَّى ينْفد، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي سريحَة رَفعه لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تروا عشر آيَات طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَالدُّخَان، وَالدَّابَّة الحَدِيث. قلت: أَبُو سريحَة الْغِفَارِيّ اسْمه حُذَيْفَة بن أسيد، كَانَ مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة بيعَة الرضْوَان، يعد فِي الْكُوفِيّين، روى عَنهُ أَبُو الطُّفَيْل وَالشعْبِيّ.

54 - ( {سُورَةُ ح م الجَاثِيَةِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة ح م الجاثية، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره الجاثية، فَقَط، وَفِي بعض النسح: وَمن سُورَة الجاثية، وَهِي مَكِّيَّة لَا خلاف فِيهَا، وَهِي أَلفَانِ وَمِائَة وَوَاحِد وَتسْعُونَ حرفا، وَأَرْبَعمِائَة وثمان وَثَمَانُونَ كلمة وَسبع وَثَلَاثُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)

ثبتَتْ الْبَسْمَلَة سِيمَا عِنْد أبي ذَر.
جَاثِيَةَ مُسْتَوفِزينَ عَلَى الرُّكَبِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَترى كل أمة جاثية} (الجاثية: 83) وفسرها بقوله: (مستوفزين على الركب) يُقَال: استوفز فِي قعدته إِذا قعد قعُودا منتصبا غير مطمئن من هول ذَلِك الْيَوْم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ نَسْتَنْسخُ نَكْتُبُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 92) أَي: نكتب عَمَلكُمْ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر نَسْتَنْسِخ بِلَا لفظ. قَالَ مُجَاهِد: وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد عَن عمر بن سعد عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَفِي التَّفْسِير: مَعْنَاهُ نأمر بالنسخ، وَعَن الْحسن: مَعْنَاهُ نَحْفَظ. وَعَن الضَّحَّاك: نثبت.
نَنْساكُمْ نَتْرُكُكُمْ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاليوم ننساكم كَمَا نسيتم} (الجاثية: 43) مَعْنَاهُ نترككم كَمَا تركْتُم، وَلم يكن تَركهم إلاّ فِي النَّار، وَهَذَا من إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم لِأَن من نسي فقد ترك من غير عكس.

1 - (بابٌ: {وَمَا يُهْلِكُنا إلاّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 42) الآيَةَ)

فِي بعض النّسخ: بَاب {وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر وَمَا لَهُم بذلك من علم أَن هم إِلَّا يظنون} وَله (وَمَا يُهْلِكنَا) أَي: وَمَا يفنينا الْأَمر الزَّمَان وَطول الدَّهْر.

6284 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعيد بن المُسَيَّبِ عنِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِيني ابنُ آدَمَ

(19/166)


يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأنَا بِيَدِي الأمْرُ أُقَلَّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن الْحميدِي أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن ابْن السَّرْح وَمُحَمّد بن الصَّباح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد.
قَوْله: (يوذيني ابْن آدم) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ يخاطبني من القَوْل بِمَا يتأذي من يجوز فِي حَقه التأذي، وَالله منزه عَن أَن يصير إِلَيْهِ الْأَذَى، وَإِنَّمَا هَذَا من التَّوَسُّع فِي الْكَلَام، وَالْمرَاد، أَن من وَقع ذَلِك مِنْهُ تعرض لسخط الله عز وَجل. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الْإِيذَاء إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَى الْغَيْر قولا أَو فعلا أثر فِيهِ أَو لم يُؤثر، وإيذاء الله عبارَة عَن فعل مَا يكرههُ وَلَا يرضى بِهِ، وَكَذَا إِيذَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يسب الدَّهْر) ، الدَّهْر فِي الأَصْل اسْم لمُدَّة الْعَالم وَعَلِيهِ قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} (الْإِنْسَان: 1) ثمَّ يعبر بِهِ عَن كل مُدَّة كَثِيرَة، وَهُوَ خلاف الزَّمَان فَإِنَّهُ يَقع على الْمدَّة القليلة والكثيرة، فَإِذا المُرَاد فِي الحَدِيث بالدهر مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار ومصرف الْأُمُور فيهمَا فَيَنْبَغِي أَن يُفَسر الأول بذلك كَأَنَّهُ قيل: تسب مُدبر الْأَمر ومقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، وَأَنا الْمُدبر والمقدر، فجَاء الِاتِّحَاد. قَوْله: {وَأَنا الدَّهْر} ، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَنا صَاحب الدَّهْر ومدبر الْأُمُور الَّتِي تنسبونها إِلَى الدَّهْر، فَإِذا سبّ ابْن آدم الدَّهْر من أجل أَنه فَاعل هَذِه الْأُمُور عَاد سبه إليّ لِأَنِّي فاعلها، وَإِنَّمَا الدَّهْر زمَان جعلته ظرفا لمواقع الْأُمُور، وَكَانَ من عَادَتهم إِذا أَصَابَهُم مَكْرُوه أضافوه إِلَى الدَّهْر، وَقَالُوا: وَمَا يُهْلِكنَا إلاَّ الدَّهْر وسبوه، فَقَالُوا: بؤسا للدهر، وتبا لَهُ إِذا كَانُوا لَا يعْرفُونَ للدهر خَالِقًا ويرونه أزليا أبديا، فَلذَلِك سموا بالدهرية، فَاعْلَم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن الدَّهْر مُحدث يقلبه بَين ليل ونهار لَا فعل لَهُ فِي خير وَشر، لكنه ظرف للحوادث الَّتِي الله تَعَالَى يحدثها وينشئها. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَنا الدَّهْر بِالرَّفْع، وَقيل بِالنّصب على الظّرْف. قلت: كَانَ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْفَهَانِي يرويهِ بِفَتْح الرَّاء من الدَّهْر مَنْصُوبَة على الظّرْف أَي: أَنا طول الدَّهْر بيَدي الْأَمر، وَكَانَ يَقُول: لَو كَانَ مضموم الرَّاء لصار من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَقَالَ القَاضِي: نَصبه بَعضهم على التَّخْصِيص، قَالَ: والظرف أصح وأصوب، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: يجوز النصب أَي: بِأَن الله بَاقٍ مُقيم أبدا لَا يَزُول.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا بَاطِل من وُجُوه: الأول: أَنه خلاف النَّقْل، فَإِن الْمُحدثين الْمُحَقِّقين لم يضبطوه إلاَّ بِالضَّمِّ، وَلم يكن ابْن دَاوُد من الْحفاظ وَلَا من عُلَمَاء النَّقْل. الثَّانِي: أَنه ورد بِأَلْفَاظ صِحَاح تبطل تَأْوِيله وَهِي: لَا تَقولُوا: يَا خيبة الدَّهْر، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر. أَخْرجَاهُ، وَلمُسلم: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر. الثَّالِث: تَأْوِيله يَقْتَضِي أَن يكون عِلّة النَّهْي لم تذكر لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَا تسبوا الدَّهْر. فَأَنا الدَّهْر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر وَأَنا أقلبه، وَمَعْلُوم أَنه يقلب كل شَيْء من خير وَشر، وتقلبه للأشياء لَا يمْنَع ذمها وَإِنَّمَا يتَوَجَّه الْأَذَى فِي قَوْله: (يُؤْذِينِي ابْن آدم) على مَا كَانَت عَلَيْهِ الْعَرَب إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة يسبون الدَّهْر، وَيَقُولُونَ: عِنْد ذكر موتاهم، أبادهم الدَّهْر، ينسبون ذَلِك إِلَيْهِ ويرونه الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء وَلَا يرونها من قَضَاء الله وَقدره. قلت: قَوْله: أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار، قرينَة قَوِيَّة دَالَّة على أَن الْمُضَاف فِي قَوْله: إِنَّا الدَّهْر. مَحْذُوف وَأَن أَصله خَالق الدَّهْر، لِأَن الدَّهْر فِي الأَصْل عبارَة عَن الزَّمَان مُطلقًا وَاللَّيْل وَالنَّهَار زمَان، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يُطلق على الله أَنه مُقَلِّب اللَّيْل وَالنَّهَار، بِكَسْر اللَّام، والدهر يكون مقلبا بِالْفَتْح، فَلَا يُقَال: الله الدَّهْر مُطلقًا. لِأَن المقلب غير المقلب فَافْهَم، وَقد تفردت بِهِ من (الفتوحات الربانية) وعَلى هَذَا لَا يجوز نِسْبَة الْأَفْعَال الممدوحة والمذمومة للدهر حَقِيقَة، فَمن اعْتقد ذَلِك فَلَا شكّ فِي كفره، وَأما من يجْرِي على لِسَانه من غير اعْتِمَاد صِحَّته فَلَيْسَ بِكَافِر وَلكنه تشبه بِأَهْل الْكفْر وارتكب مَا نَهَاهُ عَنهُ الشَّارِع فليتب وليستغفر.

64 - ( {سُورَةُ ح م الأحْقَافِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْأَحْقَاف، وَفِي بعض النّسخ ح م الأحخقاف، وَفِي بَعْضهَا: الْأَحْقَاف، وَفِي بَعْضهَا وَمن سُورَة الْأَحْقَاف، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس، هِيَ مَكِّيَّة وفيهَا آيتان مدنيتان {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ} وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} وَهِي أَلفَانِ وَخَمْسمِائة وَخَمْسَة وَتسْعُونَ حرفا وسِتمِائَة وَأَرْبع وَأَرْبَعُونَ كلمة وَخمْس وَثَلَاثُونَ آيَة. والأحقاف. قَالَ الْكسَائي: هِيَ مَا اسْتَدَارَ من الرمل، وَاحِدهَا حقف، وحقاف، مثل: دبغ ودباغ، وَلبس

(19/167)


ولباس، وَقيل: الحقاف جمع الحقف، والأحقاف جمع الْجمع، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَحْقَاف واديين عمان ومهرة، وَعَن مقَاتل: كَانَت منَازِل عَاد بِالْيمن فِي حَضرمَوْت فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: مهرَة تنْسب إِلَيْهَا الْجمال المهرية، وَكَانُوا أهل عمد سيارة فِي الرّبيع، فَإِذا أهاج الْعود رجعُوا إِلَى مَنَازِلهمْ وَكَانُوا من قَبيلَة أرم، وَعَن الضَّحَّاك الْأَحْقَاف جبل بِالشَّام، وَعَن مُجَاهِد هِيَ أرص حسمى وَعَن الْخَلِيل: هِيَ الرمال الْعِظَام.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت البسلة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجَاهِدُ تُفِيضُونَ تَقُولونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أعلم بِمَا تفيضون فِيهِ} (الْأَحْقَاف: 4) وَفَسرهُ بقوله: تَقولُونَ وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بِغَيْر قَوْله: قَالَ مُجَاهِد وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن مثله. (وَقَالَ بَعضهم أَثَره وأثره وأثرة وأثاره بَقِيَّة) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ائْتُونِي بِكِتَاب من قبل هَذَا أَو أثارة من علم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَفسّر بَعضهم هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة بِبَقِيَّة فَالْأول أَثَرَة بِفتْحَتَيْنِ، وَالثَّانِي: أَثَرَة بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَالثَّالِث: أثارة على وزن فعال بِالْفَتْح وَالتَّخْفِيف، وَفسّر أَبُو عُبَيْدَة. أَو أثارة من علم أَي: بَقِيَّة من علم. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: قِرَاءَة الْجُمْهُور أثاره، بِالْألف، وَعَن الْكَلْبِيّ: بَقِيَّة من علم بقيت عَلَيْكُم من عُلُوم الْأَوَّلين تَقول الْعَرَب: لهَذِهِ النَّاقة أثارة من سنّ، أَي: بَقِيَّة، وَعَن عِكْرِمَة وَمُقَاتِل رِوَايَة عَن الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، أصل الْكَلِمَة من الْأَثر وَهُوَ الرِّوَايَة. يُقَال: أثرت الحَدِيث أَثَره آثرا وإثارة، كالشجاعة والجلادة والصلابة فَأَنا آثره وَمِنْه قيل للْخَبَر أثر، وَعَن مُجَاهِد: مَعْنَاهُ رِوَايَة يؤثرونها مِمَّن كَانَ قبلهم، وَقيل: أثارة مِيرَاث من علم، وَقيل: مناظرة من علم لِأَن المناظرة فِي الْعلم مثيرة لمعانيه، وَقيل: اجْتِهَاد من علم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ بِدْعَا مِنَ الرُّسُلِ لَسْتُ بأوَّلِ الرُّسُلِ

أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} (الْأَحْقَاف: 9) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (لست بِأول الرُّسُل) روى هَذَا ابْن الْمُنْذر عَن عَلان عَن أبي صَالح عَن مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس وَفِي بعض النّسخ: مَا كنت بِأول الرُّسُل يُقَال: مَا هَذَا ببدع، أَي: ببديع.
وَقَالَ غَيْرُهُ أَرَأَيْتُمْ هاذِهِ الألِفُ إنَّمَا هِيَ تَوَعُّدٌ إنْ صَحَّ مَا تَدْعُونَ لَا يَسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَرَأَيْتُمْ بِرُؤْيَةِ العَيْنِ إنَّمَا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أبَلَغَكُمْ أنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله خَلَقُوا شَيْئا.
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس، هَذَا كُله لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ} (الْأَحْقَاف: 01) قَوْله: (أَرَأَيْتُم) مَعْنَاهُ أخبروني، كَذَلِك قَالَه الْمُفَسِّرُونَ: وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) قل يَا مُحَمَّد لهَؤُلَاء الْكفَّار، أَرَأَيْتُم أخبروني إِن كَانَ أَي: الْقُرْآن من عِنْد الله، وَقيل: إِن كَانَ مُحَمَّد من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله، وَجَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف. تَقْدِيره: إِن كَانَ هَذَا الْقُرْآن من عِنْد الله وكفرتم بِهِ ألستم ظالمين، وَيدل على هَذَا الْحَذف قَوْله: {أَن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} (الْمَائِدَة: 15) وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَشهد شَاهد هُوَ عبد الله بن سَلام شهد على نبوة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَآمن بِهِ، وَقيل: هُوَ مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ مَسْرُوق فِي هَذِه الْآيَة وَالله مَا نزلت فِي عبد الله بن سَلام. لِأَن ح م نزلت بِمَكَّة وَإِنَّمَا أسلم عبد الله بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا كَانَت مُحَاجَّة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِقَوْمِهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله: (هَذِه الْألف) أَشَارَ إِلَى أَن الْهمزَة الَّتِي فِي أول: رَأَيْتُمْ إِنَّمَا هِيَ توعد لكفار مَكَّة حَيْثُ ادعوا صِحَة مَا عبدوه من دون الله، وَإِن صَحَّ مَا يدعونَ فِي زعمهم فَلَا يسْتَحق أَن يعبد، لِأَنَّهُ مَخْلُوق، فَلَا يسْتَحق أَن يعبد إلاَّ الله الَّذِي خلق كل شَيْء. قَوْله: (وَلَيْسَ) فِي قَوْله أَرَادَ بِهِ أَن الرُّؤْيَة فِي قَوْله: أَرَأَيْتُم لَيست من رُؤْيَة الْعين الَّتِي هِيَ الإبصار، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا قَالَه من قَوْله: {أتعلمون أبلغكم} إِلَى آخِره.

(19/168)


1 - (بابٌ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أتَعِدَانِني أنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلتِ القُرُونُ مِنْ قبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هاذَا إلاَّ أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} (الْأَحْقَاف: 71)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالذي قَالَ} إِلَى آخِره إِنَّمَا سَاق الْآيَة إِلَى آخرهَا غير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُف لَكمَا أتعدانني أَن أخرج} إِلَى قَوْله: {أساطير الْأَوَّلين} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب: قَوْله: (وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ) ، إِلَى آخِره وَقيل: نزلت فِي عبد الله. وَقيل: فِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قبل إِسْلَامه وَكَانَ أَبَوَاهُ يَدعُونَهُ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ يَأْبَى ويسيء القَوْل ويخبرانه بِالْمَوْتِ والبعث، وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَت تنكر نُزُولهَا فِي عبد الرَّحْمَن، وَقَالَ الزّجاج: من قَالَ إِنَّهَا نزلت فِيهِ فَبَاطِل وَالتَّفْسِير الصَّحِيح أَنَّهَا نزلت فِي الْكَافِر الْعَاق لوَالِديهِ ذكره الواحدي وَابْن الْجَوْزِيّ. قَوْله: (أُف كلمة) ، كَرَاهَة يقْصد بِهِ إِظْهَار السخط وقبح الرَّد، وَقَرَأَ الْجُمْهُور بِكَسْر الْفَاء لَكِن نونها نَافِع وَحَفْص عَن عَاصِم، وَقَرَأَ ابْن كثير وَابْن عَامر وامب محيصين وَهِي رِوَايَة عَن عَاصِم بِفَتْح الفار بِغَيْر تَنْوِين. قَوْله: (أتعدانني) ، قِرَاءَة الْعَامَّة بنونين مخففتين، وروى هِشَام عَن أهل الشَّام بنُون وَاحِدَة مُشَدّدَة. قَوْله: (أَن أخرج) ، أَي: من قَبْرِي حَيا بعد فنائي وبلائي (وَقد خلت) مَضَت (الْقُرُون من قبل) وَلم يبْعَث مِنْهُم أحد (وهما يستغيثان الله) يستصرخان الله ويستغيثانه عَلَيْهِ ويقولان الغياث بِاللَّه مِنْك وَمن قَوْلك، ويقولان لَهُ (وَيلك آمن) أَي: صدق بِالْبَعْثِ، فَيَقُول هُوَ: (مَا هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين) والأساطير جمع أسطار وَهُوَ جمع سطر والسطر الْخط وَالْكِتَابَة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الأساطير الأباطيل وَهُوَ جمع أسطورة بِالضَّمِّ وإسطارة بِالْكَسْرِ.

7284 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بنِ مَاهِكَ قَالَ كَانَ مَرْوَانُ عَلَى الحِجاز اسْتَعْمَلَهُ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ فَجَعَلَ يَذْكُرُ يَزِيدَ بنَ مُعاوِيَةَ لِكَيْ يُبَايِعَ لَهُ بَعْدَ أبِيهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي بَكْرٍ شَيْئا فَقَالَ خُذُوهُ فَدَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَقَالَ مَرْوَانُ إنَّه هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ الله فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فَقَالَتْ عَائِشَةَ مِنْ وَرَاءِ الحِجابِ مَا أنْزَلَ الله فِينا شَيْئا مِنَ القُرْآنِ إلاَّ أنَّ الله أنْزَلَ عُذْرِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو عوَانَة اسْمه الوضاح، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس، ويوسف ابْن مَاهك منصرف وَغير منصرف وَهُوَ مُعرب وَمَعْنَاهُ: قمير، مصغر الْقَمَر.
قَوْله: (كَانَ مَرْوَان على الْحجاز) ، أَي: أَمِيرا على الْمَدِينَة من قبل مُعَاوِيَة. قَوْله: (فَجعل يذكر يزِيد بن مُعَاوِيَة) ، إِلَى آخِره، قد أوضحه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته بِلَفْظ: أَرَادَ مُعَاوِيَة أَن يسْتَخْلف يزِيد فَكتب إِلَى مَرْوَان وَكَانَ على الْمَدِينَة فَجمع النَّاس فخطبهم وَقَالَ إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد رأى رَأيا حسنا فِي يزِيد ودعا إِلَى بيعَة يزِيد، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: مَا هِيَ إلاَّ هِرَقْلِيَّة، أَن أَبَا بكر وَالله لم يَجْعَلهَا فِي أحد من وَلَده وَلَا من أهل بَلَده وَلَا من أهل بَيته، فَقَالَ مَرْوَان: أَلَسْت الَّذِي قَالَ الله فِيهِ: {وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُف لَكمَا} قَالَ: فسمعتها عَائِشَة، فَقَالَت: يَا مَرْوَان أَنْت الْقَائِل لعبد الرَّحْمَن كَذَا وَكَذَا، وَالله مَا أنزلت إلاَّ فِي فلَان بن فلَان الْفُلَانِيّ، وَفِي لفظ وَالله لَو شِئْت أَن أُسَمِّيهِ لسميت، وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن أَبَا مَرْوَان ومروان فِي صلبه، فمروان فضَض أَي: قِطْعَة من لعنة الله عز وَجل، فَنزل مَرْوَان مسرعا حَتَّى أَتَى بَاب عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَجعل يكلمها وتكلمه ثمَّ انْصَرف، وَفِي لفظ، فَقَالَت عَائِشَة: كذب وَالله مَا نزلت فِيهِ. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر شَيْئا) ، وَلم يبين مَا هَذَا الشَّيْء الَّذِي قَالَه عبد الرَّحْمَن لمروان، وأوضح ذَلِك الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته، فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن: مَا هِيَ إلاَّ هِرَقْلِيَّة، وَله من طَرِيق شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد فَقَالَ مَرْوَان: سنة أبي بكر وَعمر، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: سنة هِرقل. وَقَيْصَر. قَوْله: (فَقَالَ: خذوه) أَي: فَقَالَ مَرْوَان لأعوانه خُذُوا عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (فَدخل) أَي: عبد الرَّحْمَن بَيت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ملتجأ بهَا. قَوْله: (فَلم يقدروا) أَي: لم يقدروا على إِخْرَاجه من بَيت عَائِشَة إعظاما لعَائِشَة امْتَنعُوا

(19/169)


من الدُّخُول فِي بَيتهَا. قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان: إِن هَذَا الَّذِي) أَرَادَ بِهِ عبد الرَّحْمَن (أنزل الله فِيهِ) أَي: فِي حَقه: {وَالَّذِي قَالَ لوالدين أُف لَكمَا أتعدانني} (الْأَحْقَاف: 71) فأجابت عَائِشَة بقولِهَا: مَا أنزل الله فِينَا شَيْئا إِلَى آخِره. قَوْله: (إِن الله أنزل عُذْري) أَرَادَت بهَا الْآيَات الَّتِي نزلت فِي بَرَاءَة ساحة عَائِشَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَهِي: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك} (النُّور: 11) إِلَى آخِره. قَوْله: (فِينَا) أَرَادَت بِهِ بني أبي بكر لِأَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. نزل فِيهِ {ثَانِي اثْنَيْنِ} (التَّوْبَة: 04) وَقَوله: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه} (الْفَتْح: 92) وَقَوله: {وَالسَّابِقُونَ والأولون} وَفِي آي كَثِيرَة.

2 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضا مُسْتَقبلَ أوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هاذا عَارِضٌ مِمْطرنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذَابٌ ألِيمٌ} (الْأَحْقَاف: 42)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الخ. سَاقهَا غير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ} الْآيَة. قَوْله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أَي: فَلَمَّا رَأَوْا مَا يوعدون بِهِ وَكَانُوا قَالُوا: فائتنا بِمَا تعدنا، يَعْنِي: من الْعَذَاب إِن كنت من الصَّادِقين، وهم قوم هود، عَلَيْهِ السَّلَام، قَوْله: (عارضا) نصب على الْحَال، وَقيل: رَأَوْا عارضا وَهُوَ السَّحَاب سمي بذلك لِأَنَّهُ يعرض أَي يَبْدُو فِي عرض السَّمَاء. قَوْله: {مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ} صفة لقَوْله: عارضا، فَلَمَّا رَأَوْهُ اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَقَالُوا: هَذَا عَارض مُمْطِرنَا يمطر لنا فَقَالَ الله عز وَجل: {بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم} وريح مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: هُوَ ريح، وَكَانَت الرّيح الَّتِي تسمى الديور، وَكَانَت تحمل الْفسْطَاط وَتحمل الظعينة فترفعها حَتَّى كَأَنَّهَا جَرَادَة وَأما مَا كَانَ خَارِجا من مَوَاشِيهمْ ورحالهم تطير بهَا الرّيح بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مثل الريش، قَالَ ابْن عَبَّاس: فَدَخَلُوا بُيُوتهم وَأَغْلقُوا أَبْوَابهم فَجَاءَت الرّيح فَقلعت أَبْوَابهم وصرعتهم، وَأمر الله الرّيح فأمالت عَلَيْهِم الرمال فَكَانُوا تَحت الرمل سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما أَنِين. ثمَّ أَمر الله تَعَالَى الرّيح فَكشفت عَنْهُم الرمال، ثمَّ أمرهَا فاحتملتهم فرمت بهم فِي الْبَحْر، فَهُوَ الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {تدمر كل شَيْء} (الْأَحْقَاف: 52) مرت بِهِ من رجال عَاد وأموالها.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ عَارِضٌ السَّحابُ

أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} الْعَارِض السَّحَاب وَقد قُلْنَا: مَا سَبَب تَسْمِيَته بذلك.

8284 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسَى حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ أخْبرنا عَمْرٌ وأنَّ أبَا النّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ ابنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَاحِكا حَتَّى أُرَى مِنْهُ لَهَوَانِهِ إنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. حدَّثنا قَالَتْ وَكَانَ إذَا رَأَى غَيْما أوْ رِيحا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ يَا رَسُولَ الله إنَّ النَّاسَ إذَا رَأوا الغَيْمَ فَرِحُوا أنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ وَأرَاكَ إذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ مَا يُوؤْمِنُنِي أنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَا عُذِّبَ قَوْمُ عَادٍ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابِ: {فَقَالُوا هاذا عَارِضٌ ممْطِرُنا} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد كَذَا غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، حَدثنَا أَحْمد بن عِيسَى، كَذَا قَالَ أَبُو مَسْعُود وَخلف وعرفه ابْن السكن بِأَنَّهُ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ، وغلّط الْحَاكِم. قَول من قَالَ: إِنَّه ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ ابْن مَنْدَه كلما قَالَ البُخَارِيّ فِي (جَامعه) حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب، فَهُوَ ابْن صَالح، وَإِذا حدث عَن ابْن عِيسَى نسبه. قلت: لَعَلَّ الْكرْمَانِي اعْتمد على هَذَا حَيْثُ قَالَ: أَحْمد، أَي: ابْن صَالح الْمصْرِيّ، وَقَالَ فِي (رجال الصَّحِيحَيْنِ) أَحْمد غير مَنْسُوب يحدث عَن عبد الله ابْن وهب الْمصْرِيّ، حدث عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع من (الْجَامِع) .
وَاخْتلفُوا فِي أَحْمد هَذَا، فَقَالَ قوم: إِنَّه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّه أَحْمد بن صَالح أَو أَحْمد بن عِيسَى، وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَافِظ النَّيْسَابُورِي: أَحْمد عَن ابْن وهب هُوَ ابْن أخي ابْن وهب، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: لم يخرج البُخَارِيّ عَن أَحْمد بن صَالح وَعبد الرَّحْمَن شَيْئا فِي (الصَّحِيح) ، وَعَمْرو هُوَ ابْن الْحَارِث، وَأَبُو النَّضر، بِسُكُون الْمُعْجَمَة، سَالم، وَسليمَان بن يسَار. ضد الْيَمين، وَنصف هَذَا الْإِسْنَاد الْأَعْلَى مدنيون

(19/170)


والأدنى مصريون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن يحيى بن سُلَيْمَان وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِسْقَاء عَن هَارُون بن مَعْرُوف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن صَالح.
قَوْله: (لهوانه) ، بتحريك الْهَاء جمع لهاة وَهِي اللحمة الْمُتَعَلّقَة فِي أَعلَى الحنك وَيجمع أَيْضا على: لَهَا بِفَتْح اللَّام مَقْصُور. قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ يتبسم) ، قلت: روى أَنه ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، فِي التَّوْفِيق بَينهمَا. قلت: ظُهُور النواجذ الَّتِي هِيَ الْأَسْنَان الَّتِي فِي مقدم الْفَم أَو الأنياب لَا يسْتَلْزم ظُهُور اللهاة. قَوْله: (عرفت الْكَرَاهِيَة فِي وَجهه) ، وَهِي من أَفعَال الْقُلُوب الَّتِي لَا ترى، وَلكنه إِذا فَرح الْقلب تبلج الجبين، فَإِذا حزن أُرِيد بِالْوَجْهِ فعبرت عَن الشَّيْء الظَّاهِر فِي الْوَجْه بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُ ثَمَرَتهَا. قَوْله: (مَا يؤمنني) من آمن يُؤمن ويروى: مَا يؤمني، بِالْهَمْزَةِ وَتَشْديد النُّون. قَوْله: (عذب قوم عَاد) حَيْثُ أهلكوا يرِيح صَرْصَر. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النكرَة الْمُعَادَة هِيَ غير الأولى، وَهنا الْقَوْم الَّذين قَالُوا: هَذَا عَارض مُمْطِرنَا، هم بعينهم الَّذين عذبُوا بِالرِّيحِ فِيهَا عَذَاب أَلِيم قدمر كل شَيْء. قلت: تِلْكَ الْقَاعِدَة النحوية إِنَّمَا هِيَ فِي مَوضِع لَا يكون ثمَّة قرينَة على الِاتِّحَاد، أما إِذا كَانَت فَهِيَ بِعَينهَا الأولى لقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إلاه وَفِي الأَرْض إلاه} (الزخرف: 48) وَلَئِن سلمنَا وجوب الْمُغَايرَة مُطلقًا فَلَعَلَّ عادا قومان، قوم بالأحقاف، أَي فِي الرمال وهم أَصْحَاب الْعَارِض، وَقوم غَيرهم من الَّذين كذبُوا انْتهى. قلت: تمثيله بقوله: (هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إلاه وَفِي الأَرْض إلاه) غير مُطَابق لما قَالَه لِأَن فِيهِ الْمُغَايرَة ظَاهِرَة، لَكِن يحمل على معنى أَن كَونه معبودا فِي السَّمَاء غير كَونه معبودا فِي الأَرْض لِأَن إلاها بِمَعْنى مألوه بِمَعْنى معبود فَافْهَم.

74 - ( {سُورَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي بعض النّسخ: سور {الَّذين كفرُوا} (مُحَمَّد: 3) قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: ذكر عَن الحكم عَن السّديّ أَنه قَالَ: هِيَ مَكِّيَّة، ثمَّ وجدنَا عَامَّة من بلغنَا عَنْهُم تَفْسِير هَذِه السُّورَة مُجْمِعِينَ على أَنَّهَا مَدِينَة، وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّديّ: مَكِّيَّة، وَفِي تَفْسِير ابْن النَّقِيب: حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن قَوْله عز وَجل: {وكأين من قَرْيَة} (مُحَمَّد: 31) نزلت بعد حجَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين خرج من مَكَّة شرفها الله تَعَالَى، وَهِي أَلفَانِ وثلاثمائة وَتِسْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا، وَخَمْسمِائة وتسع وَثَلَاثُونَ كلمة، وثمان وَثَلَاثُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
كَذَا سُورَة مُحَمَّد بِسم الله الرحمان الرَّحِيم لأبي ذَر، وَلغيره {الَّذين كفرُوا} فَحسب.
أوْزَارَها آثَامَها حَتَّى لَا يَبْقَى إلاَّ مُسُلَمٌ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} (مُحَمَّد: 4) وَفسّر: (أَوزَارهَا) بقوله: (آثامها) فعلى تَفْسِيره الأوزار جمع وزر والآثام جمع أَثم، وَقَالَ ابْن التِّين: لم يقل هَذَا أحد غير البُخَارِيّ، وَالْمَعْرُوف أَن المُرَاد بأوزارها الأسلحة. قلت: فعلى هَذَا الأوزار جمع وزر الَّذِي هُوَ السِّلَاح، وَفِي (الْمغرب) الْوَزْن بِالْكَسْرِ الْحمل الثقيل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461) أَي: حملهَا من الْإِثْم وَقَوْلهمْ: وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا عبارَة عَن انْقِضَائِهَا لِأَن أَهلهَا يضعون أسلحتهم حِينَئِذٍ، وسمى السِّلَاح وزرا لِأَنَّهُ يثقل على لابسه قَالَ الْأَعْشَى:
(واعددت للحرب أَوزَارهَا ... رماحا طوَالًا وخيلاً طوَالًا)

وَهَذَا كُله يُقَوي كَلَام ابْن التِّين لَا مثل مَا قَالَه بَعضهم: إِن لكَلَام ابْن التِّين احْتِمَالا ويعضد كَلَام البُخَارِيّ مَا قَالَه الثَّعْلَبِيّ: آثامها وأجرامها، فيرتفع وَيَنْقَطِع الْحَرْب لِأَن الْحَرْب لَا يَخْلُو من الْإِثْم فِي أحد الْجَانِبَيْنِ والفريقين، ثمَّ قَالَ: وَقيل: حَتَّى تضع الْحَرْب آلتها وعدتها، وآلتهم وأسلحتهم فيمسكوا عَن الْحَرْب، وَالْحَرب الْقَوْم المحاربون كالركب، وَقيل: مَعْنَاهُ حَتَّى يضع الْقَوْم المحاربون أَوزَارهَا وآثامها بِأَن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله انْتهى. فَعرفت من هَذَا أَن لكل من كَلَام البُخَارِيّ. وَكَلَام ابْن التِّين وَجها.
عَرَّفَها بَيْنَها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} (مُحَمَّد: 6) وَفسّر: (عرفهَا) بقوله: (بَينهَا) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي بَين لَهُم مَنَازِلهمْ فِيهَا حَتَّى يهتدوا إِلَيْهَا ودرجاتهم الَّتِي قسم الله لَا يخطئون وَلَا يستدلون عَلَيْهَا أحدا كَأَنَّهُمْ سكانها مُنْذُ خلقُوا.

(19/171)


وَقَالَ مُجاهِدٌ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيُّهُمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} (مُحَمَّد: 11) وَفسّر: الْمولى بالولي، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد نَحوه، وَهَذَا لم يثبت لأبي ذَر.
عَزَمَ الأَمْرُ: جدَّ الأمْرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم} وَفَسرهُ بقوله: (جد الْأَمر) وَفِي بعض النّسخ. قَالَ مُجَاهِد: فَإِذا عزم الْأَمر، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن حجاج حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
فَلا تَهِنُوا لَا تَضْعُفُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون} (مُحَمَّد: 53) الْآيَة، وَفسّر قَوْله: (فَلَا تهنوا) بقوله: (لَا تضعفوا) وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد أَيْضا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أضْغَانَهُمْ حَسَدَهُمْ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن لن يخرج الله أضغانهم} (مُحَمَّد: 92) وَفسّر الأضغان بِالْحَسَدِ، وَهُوَ جمع ضغن وَهُوَ الحقد والحسد، وَالضَّمِير فِي: قُلُوبهم يرجع إِلَى الْمُنَافِقين.
آسِنِ مُتَغَيِّر

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنهَار من مَاء غير آسن} (مُحَمَّد: 51) أَي: غير متغير، وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر.

1 - (بابٌ: {وَتُقَطَّعُوا أرْحَامَكُمْ} (مُحَمَّد: 22)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَهَل عسيتم أَن توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم} وَقَرَأَ الْجُمْهُور، وتقطعوا بِالتَّشْدِيدِ من التقطيع، وَقَرَأَ يَعْقُوب بِالتَّخْفِيفِ من الْقطع.

0384 - حدَّثنا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدَّثنا سُلَيْمَانُ قَالَ حدَّثني مُعَاوِيَةُ بنُ أبِي مُزَرَّدٍ عَنْ سَعِيدِ ابنِ يَسارٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَلَقَ الله الخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قامتِ الرَّحِمُ فأخَذَتِ بِحَقْوِ الرَّحْمانِ فَقَالَ لَهُ مَهْ قَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِدَ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ قَالَ أَلا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ قَالت بَلَى يَا رَبِّ قَالَ فَذَاك..
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ إقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وبالخاء الْمُعْجَمَة بَينهمَا: الْكُوفِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَمُعَاوِيَة بن أبي مزرد، بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالدال الْمُهْملَة واسْمه عبد الرَّحْمَن بن يسَار أَخُو سعيد بن يسَار ضد الْيَمين، يروي مُعَاوِيَة عَن عَمه سعيد بن يسَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن إِسْمَاعِيل بن أويس، وَفِيه عَن إِبْرَاهِيم ابْن حَمْزَة، وَفِيه فِي الْأَدَب، عَن بشر بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن أبي حَاتِم.
قَوْله: (فَلَمَّا فرغ مِنْهُ) أَي: فَلَمَّا قَضَاهُ وأئمة. قَوْله: (قَامَت الرَّحِم) أَي الْقرْبَة مُشْتَقَّة من الرَّحْمَة وَهِي عرض جعلت فِي جسم فَلذَلِك قَامَت وتكلمت، وَقَالَ القَاضِي: يجوز أَن يكون المُرَاد قيام ملك من الْمَلَائِكَة وَتعلق بالعرش وَتكلم على لسانها بِهَذَا بِأَمْر الله تَعَالَى، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: الرَّحِم الَّتِي توصل وتقطع إِنَّمَا هِيَ معنى من الْمعَانِي والمعاني لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْقيام وَلَا الْكَلَام فَيكون المُرَاد تَعْظِيم شَأْنهَا وفضيلة وَأَصلهَا وَعظم إِثْم قاطعيها. قَوْله: (فَأخذت) ، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِلَا ذكره مَفْعُوله، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن، فَأخذت بحقو الرَّحْمَن، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: بحقوي الرَّحْمَن، بالتثنية. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: التَّثْنِيَة فِيهِ للتَّأْكِيد لِأَن الْأَخْذ باليدين آكِد فِي الاستجارة من الْأَخْذ بيد وَاحِدَة، والحقو بِالْفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وبالواو الْإِزَار والخصر ومشد الْإِزَار، وَقَالَ عِيَاض: الحقو معقد الْإِزَار وَهُوَ الْموضع الَّذِي يستجار بِهِ ويتحرم بِهِ على عَادَة الْعَرَب لِأَنَّهُ من أَحَق مَا يحامى عَنهُ وَيدْفَع كَمَا قَالُوا: نمنعه مِمَّا يمْنَع مِنْهُ أزرنا فاستعير ذَلِك مجَازًا للرحم فِي استعاذتها بِاللَّه من القطيعة، وَقَالَ

(19/172)


الطَّيِّبِيّ: هَذَا القَوْل مَبْنِيّ على الِاسْتِعَارَة التمثيلية كَأَنَّهُ شبه حَالَة الرَّحِم وَمَا هِيَ عَلَيْهِ من الافتقار إِلَى الصِّلَة والذب عَنْهَا بِحَال مستجير يَأْخُذ بحقو والمستجار بِهِ ثمَّ أسْند على سَبِيل الِاسْتِعَارَة التخييلية مَا هُوَ لَازم الْمُشبه بِهِ من الْقيام فَيكون قرينَة مَانِعَة من إِرَادَة الْحَقِيقَة. ثمَّ رشحت الِاسْتِعَارَة بالْقَوْل وَالْأَخْذ، وبلفظ الحقو فَهُوَ اسْتِعَارَة أُخْرَى. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ: مَه) أَي: فَقَالَ الرَّحْمَن للرحم، مَه أَي: اكفف، وَيُقَال: مَا تَقول؟ على الزّجر والاستفهام، وَهَاهُنَا إِن كَانَ على الزّجر فَبين، وَإِن كَانَ عل الِاسْتِفْهَام فَالْمُرَاد مِنْهُ الْأَمر بِإِظْهَار الْحَاجة دون الاستعلام، فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى. وَقَالَت النُّحَاة مَه اسْم فعل مَعْنَاهُ الزّجر أَي: اكفف وانزجر، وَقَالَ ابْن مَالك هِيَ هُنَا مَا الاستفهامية حذفت ألفها ووقف عَلَيْهَا بهاء السكت. قَوْله: (هَذَا مقَام العائذ) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ المعتصم بالشَّيْء المستجير بِهِ قَوْله: (هَذَا) إِشَارَة إِلَى الْمقَام، مَعْنَاهُ، قيامي هَذَا قيام العائذ بك، وَهَذَا أَيْضا مجَاز للمعنى الْمَعْقُول إِلَى الْمِثَال المحسوس الْمُعْتَاد بَينهم، ليَكُون أقرب إِلَى فهمهم، وَأمكن فِي نُفُوسهم. قَوْله: (أَن أصل من وصلك) وَحَقِيقَة الصِّلَة الْعَطف وَالرَّحْمَة وَهِي فضل الله على عباده لطفا بهم وَرَحمته إيَّاهُم، وَلَا خلاف أَن صلَة الرَّحِم وَاجِبَة فِي الْجُمْلَة وقطعها مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَالْأَحَادِيث فِي الْبَاب تشهد لذَلِك، وَلَكِن للصلة، دَرَجَات بَعْضهَا أرفع من بعض وَأَدْنَاهَا ترك المهاجرة وصلتها بالْكلَام وَلَو بِالسَّلَامِ، وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْقُدْرَة وَالْحَاجة. فَمِنْهَا: وَاجِب وَمِنْهَا مُسْتَحبّ وَلَو قصر عَمَّا قدر عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يُسمى واصلاً.
وَاخْتلف فِي الرَّحِم الَّتِي يجب صلتها. فَقيل: هِيَ كل رحم محرم بِحَيْثُ لَو كَانَ أَحدهمَا ذكرا وَالْآخر أُنْثَى حرمت مناكحتها، فعلى هَذَا لَا يجب فِي بني الأغمام وَبني الأخوال لجَوَاز الْجمع فِي النِّكَاح دون الْمَرْأَة وَأُخْتهَا وعمتها. وَقيل: بل هَذَا فِي كل ذِي رحم مِمَّن ينْطَلق عَلَيْهِ ذَلِك من ذَوي الْأَرْحَام فِي الْمَوَارِيث محرما كَانَ أَو غَيره. قَوْله: (قَالَ: فَذَاك) ، إِشَارَة إِلَى قَوْله: (أَلا ترْضينَ أَن أصل من وصلك وأقطع من قَطعك) ، أَي: ذَاك لَك كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة هَكَذَا.
قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره ظَاهره أَنه مَوْقُوف، وَيَأْتِي مَرْفُوعا فِي الطَّرِيق الَّذِي أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة عقيب هَذَا. قَوْله: (فَهَل عسيتم) قَرَأَهُ نَافِع بِكَسْر السِّين وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْح، وَقد حكى عبد الله بن الْمُغَفَّل أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرؤهَا بِكَسْر السِّين. قَوْله: (إِن توليتم) اخْتلف فِي مَعْنَاهُ فالأكثرون على أَنَّهَا من الْولَايَة وَالْمعْنَى: إِن وليتم الحكم، وَقيل: بِمَعْنى الْإِعْرَاض، وَالْمعْنَى: لَعَلَّكُمْ إِن أعرضتم عَن قبُول الْحق أَن يَقع مِنْكُم مَا ذكر، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَعَن الْمسيب بن شريك وَالْفراء (فَهَل عسيتم أَن توليتم) يَعْنِي: إِن وليتم أَمر النَّاس أَن تفسدوا فِي الأَرْض بالظلم نزلت فِي بني أُميَّة وَبني هَاشم. قَوْله: (وتقطعوا) قيل: من الْقطع، وَقيل: من التقطيع على التكثير لأجل الْأَرْحَام.

1384 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثنا حَاتِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثني عَمِّي أبُو الحُبابِ سَعِيدُ ابنُ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ بِهذا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور. أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة أبي إِسْحَاق الزبيرِي الْمَدِينِيّ عَن حَاتِم ابْن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي نزيل الْمَدِينَة عَن مُعَاوِيَة بن أبي مزرد الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق السَّابِق عَن عَمه أبي الْحباب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وبالياءين الموحدتين بَينهمَا ألف واسْمه سعيد بن يسَار الْمَذْكُور أَيْضا.
قَوْله: (بِهَذَا) يَعْنِي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور قبله وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق حَاتِم بِمَ إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور.

2384 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخْبَرَنَا عَبْدُ الله أخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ أبِي المُزَرِّدِ بِهَذَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} .
هَذَا طَرِيق آخر عَن بشر بن مُحَمَّد أبي مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ عَن عبد الله بن الْمُبَارك إِلَى آخِره. قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن.

84 - ( {سُورَةُ الفَتْحِ} )

أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة الْفَتْح، وَهِي مَدَنِيَّة، وَقيل: نزلت بَين الْحُدَيْبِيَة وَالْمَدينَة مُنْصَرفه من الْحُدَيْبِيَة أَو بكراع الغميم

(19/173)


وَالْفَتْح: صلح الْحُدَيْبِيَة، وَقيل: فتح مَكَّة وَهِي أَلفَانِ وَأَرْبَعمِائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثُونَ حرفا، وَخَمْسمِائة وَسِتُّونَ كلمة، وتسع وَعِشْرُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
قَالَ مُجاهِدٌ بُورا هَالِكِينَ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} وَفَسرهُ بقوله: (هالكين) أَي: فاسدين لَا تصلحون لشَيْء، وَهُوَ من: بَارك الْهَالِك من هلك بِنَاء وَمعنى، وَلذَلِك وصف بِهِ الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث، وَيجوز أَن يكون جمع: بائر كعائذ وعوذ. قَالَ النَّسَفِيّ: وَالْمعْنَى: وكنتم قوما فاسدين فِي أَنفسكُم وقلوبكم ونياتكم لَا خير فِيكُم وهالكين عِنْد الله مستحقين لسخطه وعقابه.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السَّحْنَةُ

فسر مُجَاهِد سِيمَاهُمْ بالسحنة وَقَالَ ابْن الْأَثِير: السحنة بشرة الْوَجْه وهيأته وحاله، وَهِي مَفْتُوحَة السِّين وَقد تكسر، وَيُقَال: السحناء أَيْضا بِالْمدِّ، وَقَيده الْأصيلِيّ وَابْن السكن بِفَتْحِهَا، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ الصَّوَاب عِنْد أهل اللُّغَة، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ القَاضِي عَن نصر بن عَليّ عَن بشر بن عمر عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن مُجَاهِد، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني والقابسي: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم: السَّجْدَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: المسحة.
وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ التَّوَاضُعُ

أَي: قَالَ مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير: سِيمَاهُمْ التَّوَاضُع، وروى ابْن أبي حَاتِم: نَا الْمُنْذر بن شَاذان، نَا يعلى حَدثنَا سُفْيَان نَا حميد بن قيس عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم) قَالَ: الْخُشُوع والتواضع، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم أَيْضا حَدثنَا أبي نَا عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي نَا حُسَيْن الْجعْفِيّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد فِي هَذِه الْآيَة. قَالَ: هُوَ الْخُشُوع، وَقَالَ عبد بن حميد: حَدثنَا عَمْرو بن سعد وَعبد الْملك بن عَمْرو وَقبيصَة عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} قَالَ: الْخُشُوع وحَدثني مُعَاوِيَة بن عَمْرو عَن زَائِدَة عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد: هُوَ الْخُشُوع. قلت: ينظر النَّاظر فِي الَّذِي علقه البُخَارِيّ.
شَطْأَهُ: فِرَاخَهُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كزرع أخرج شطأه} وَفَسرهُ بقوله: (فِرَاخه) وَهَكَذَا فسره الْأَخْفَش، يُقَال: اشطأ الزَّرْع إِذا أفرخ، وَعَن أنس: شطأه نَبَاته وَعَن السّديّ، هُوَ أَن يخرج مَعَه الطَّاقَة الْأُخْرَى، وَعَن الْكسَائي: طرفه.
فَاسْتَغْلَظَ غلظَ

غلظ، بِضَم اللَّام ويروى تغلظ أَي: قوي وتلاحق نَبَاته.
سُوقِهِ السَّاقُ حَامِلَةُ الشَّجَرَةِ

أَشَارَ بقوله: (سوقه) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَوَى على سوقه} أَي قَامَ على أُصُوله، والسوق بِالضَّمِّ جمع سَاق وَفَسرهُ بقوله: (السَّاق حامله الشَّجَرَة) وَهِي جذعه، وَهَكَذَا فسره الْجَوْهَرِي.
شَطْأَهُ شَطْءُ السُّنْبُلِ تُنْبِتُ الحَبَّةُ عَشْرا وَثَمَانِيا وَسَبْعا فَيَقْوَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَآزَرَهُ قَوَّاهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقُمْ عَلَى سَاقٍ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ خَرَجَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَوَّاهُ بِأصْحَابِهِ كَمَا قَوَّى الحَبَّةَ بِمَا يَنْبُتُ مِنْها.
قَوْله: (شطأه شطء السنبل) ، إِلَى آخِره، لَيْسَ بمذكور فِي بعض النّسخ وَلَا الشُّرَّاح تعرضوا لشرحه. قَوْله: {تنْبت} ، من الإنبات. قَوْله: (وثمانيا وَسبعا) ويروى: أَو ثمانيا أَو سبعا وَكلمَة: أَو للتنويع أَي: تنْبت الْحبَّة الْوَاحِدَة عشرَة سنابل، وَتارَة ثَمَان سنابل، وَتارَة سبع سنابل. قَالَ الله تَعَالَى: {كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل} (الْبَقَرَة: 162) قَوْله: (وَهُوَ مثل ضربه الله) إِلَى آخِره وَفِي التَّفْسِير وَهُوَ مثل ضربه الله تَعَالَى لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي: أَنهم يكونُونَ قَلِيلا ثمَّ يزدادون ويكثرون ويقوون، وَعَن قَتَادَة: مثل أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِنْجِيل مَكْتُوب أَنه سيخرج قوم يَنْبُتُونَ نَبَات الزَّرْع يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر. قَوْله: (إِذْ خرج) أَي: حِين خرج وَحده يحْتَمل أَن يكون المُرَاد حِين خرج على كفار مَكَّة وَحده يَدعُوهُم

(19/174)


إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه. ثمَّ قواه الله تَعَالَى بِإِسْلَام من أسلم مِنْهُم فِي مَكَّة، وَيحْتَمل أَن يكون حِين خرج من بَيته وَحده حِين اجْتمع الْكفَّار على أَذَاهُ ثمَّ رافقه أَبُو بكر ثمَّ لما دخل الْمَدِينَة قواه الْأَنْصَار.
وَيُقَالُ دَائِرَةُ السَّوْءِ كَقَوْلِكَ رَجُلُ السَّوْءِ وَدَائِرَةُ السَّوْءِ العَذَابُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَغَضب الله عَلَيْهِم} (الْفَتْح: 6) الْآيَة. وفسرها بقوله: {دَائِرَة السوء الْعَذَاب} وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَقيل: دَائِرَة الدمار والهلاك وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِفَتْح السِّين، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كثير بِالضَّمِّ.
تُعَزِّرُوهُ: يَنْصُرُوهُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وتعزروه وتوقروه} (الْفَتْح: 9) الْآيَة. وَفَسرهُ بقوله: (ينصروه) وَكَذَا روى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة نَحوه، وَقيل: مَعْنَاهُ يعينوه، وَعَن عِكْرِمَة، يُقَاتلُون مَعَه بِالسَّيْفِ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: بِإِسْنَادِهِ عَن جَابر بن عبد الله. قَالَ: لما نزلت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويعزروه، قَالَ لنا: مَاذَا كم؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: لينصروه ويوقروه ويعظموه ويفخموه، هُنَا وقف تَامّ.

1 - (بابٌ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} (الْفَتْح: 1)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْفَتْح فتح مَكَّة وَعَن مُجَاهِد والعوفي فتح خَيْبَر، وَعَن بَعضهم: فتح الرّوم، وَقيل: فتح الْإِسْلَام، وَعَن جَابر: مَا كُنَّا نعد فتح مَكَّة إلاَّ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَعَن بشر بن الْبَراء قَالَ: لما رَجعْنَا من غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة وَقد حيل بَيْننَا وَبَين نسكنا فَنحْن بَين الْحزن والكآبة. فَأنْزل الله عز وَجل: {إِنَّا فتحنا لَك} الْآيَة كلهَا.

3384 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أسْفَارِهِ وَعُمَرُ بنُ الخَطابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً فَسَأَلَهُ عُمَرُ ابنُ الخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجْبْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجْبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَالَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ نزَرْتَ رسولَ الله ثَلاثَ مَرَّاتٍ كلَّ ذالِكَ لَا يُجِيبُكَ قَالَ عُمَرُ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أمامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أنْ يُنْزَلَ فِيَّ القُرْآنُ فَمَا نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صَارِخا يَصْرُخُ بِي فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَجِئتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ صُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأسلم مولى عمر بن الْخطاب كَانَ من سبي الْيمن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أَبُو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة.
وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي: بَاب غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم هُنَا أَيْضا لبعد الْمسَافَة، فَنَقُول: هَذَا صورته صُورَة الْإِرْسَال لِأَن أسلم لم يدْرك زمَان هَذِه الْقِصَّة، لكنه مَحْمُول على أَنه سمع من عمر بِدَلِيل قَوْله فِي أثْنَاء الحَدِيث: (فحركت بَعِيري) وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ عَن مَالك عَن زيد عَن أَبِيه عَن عمر مُتَّصِلا بِمُحَمد بن خَالِد بن عَثْمَة وَأَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن غَزوَان وَإِسْحَاق الحنيني، وَيزِيد بن أبي حَكِيم وَمُحَمّد بن حَرْب الْمَكِّيّ، وَأما أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) فَرَوَوْه عَن مَالك مُرْسلا.
قَوْله: (فِي بعض أَسْفَاره) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا السّفر كَانَ لَيْلًا متصرفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحُدَيْبِيَة لَا أعلم بَين أهل الْعلم فِي ذَلِك خلافًا قَوْله: (ثكلت أم عمر) فِي رِوَايَة الْكشميهني، ثكلتك أم عمر، من الثكل وَهُوَ فقدان الْمَرْأَة وَلَدهَا، وَامْرَأَة ثاكل وثكلى وَرجل ثاكل وثكلان، وَكَأن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،

(19/175)


دَعَا على نَفسه حَيْثُ ألح على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَأَنَّهُ دَعَا على نَفسه بِالْمَوْتِ وَالْمَوْت يعم كل أحد فَإِذا الدُّعَاء عَلَيْهِ كلا دُعَاء، وَيجوز أَن يكون من الْأَلْفَاظ الَّتِي تجْرِي على أَلْسِنَة الْعَرَب وَلَا يُرَاد بهَا الدُّعَاء، كَقَوْلِهِم: تربت يداك وقاتلك الله. قَوْله: (نزرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بالنُّون وَتَخْفِيف الزاء وبالراء أَي: ألححت عَلَيْهِ وبالغت فِي السُّؤَال، ويروى بتَشْديد الزَّاي وَالتَّخْفِيف أشهر، وَقَالَ ابْن وهب: أكرهته أَي: أَتَيْته بِمَا يكره من سُؤَالِي فَأَرَادَ الْمُبَالغَة، والنزر الْقلَّة وَمِنْه الْبِئْر النزور الْقَلِيل المَاء. قَالَ أَبُو ذَر: سَأَلت من لقِيت من الْعلمَاء أَرْبَعِينَ سنة فَمَا أجابوا إلاَّ بِالتَّخْفِيفِ، وَكَذَا ذكره ثَعْلَب وَأهل اللُّغَة، وبالتشديد ضَبطهَا الْأصيلِيّ وَكَأَنَّهُ على الْمُبَالغَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: نزرت قللت كَلَامه أَو سَأَلته فِيمَا لَا يحب أَن يُجيب فِيهِ.
وَفِيه: أَن الْجَواب لَيْسَ لكل الْكَلَام بل السُّكُوت جَوَاب لبَعض الْكَلَام، وتكرير عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، السُّؤَال إِمَّا لكَونه ظن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسمعهُ وَإِمَّا لِأَنَّهُ الْأَمر الَّذِي كَانَ يسْأَل عَنهُ كَانَ مهما عِنْده، وَلَعَلَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَجَابَهُ بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا ترك إجَابَته أَولا لشغله بِمَا كَانَ فِيهِ من نزُول الْوَحْي. قَوْله: (فَمَا نشبت) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: فَمَا لَبِثت وَلَا تعلّقت بِشَيْء غير مَا ذكرت قَوْله: (لهي أحب إليّ) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا كَانَت أحب إِلَيْهِ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لما فِيهَا من مغْفرَة مَا تقدم وَمَا تَأَخّر، وَالْفَتْح والنصر وإتمام النِّعْمَة وَغَيرهَا من رِضَاء الله عز وَجل عَن أَصْحَاب الشَّجَرَة وَنَحْوهَا. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أطلق المفاضلة بَين الْمنزلَة الَّتِي أعطيها وَبَين مَا طلعت عَلَيْهَا الشَّمْس، وَمن شَرط المفاضلة اسْتِوَاء الشَّيْئَيْنِ فِي أصل الْمَعْنى ثمَّ يزِيد أَحدهمَا على الآخر. وَأجَاب ابْن بطال بِأَن مَعْنَاهُ أَنَّهَا أحب إِلَيْهِ من كل شَيْء لِأَنَّهُ لَا شَيْء إلاَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَأخْرج الْخَبَر عَن ذكر الشَّيْء بِذكر الدُّنْيَا إِذْ لَا شَيْء سواهَا إلاَّ الْآخِرَة وَأجَاب ابْن الْعَرَبِيّ بِمَا ملخصه أَن أفعل قد لَا يُرَاد فِيهِ المفاضلة كَقَوْلِه: {خير مُسْتَقر أَو أحسن مقيلاً} (الْفرْقَان: 42) وَلَا مفاضلة بَين الْجنَّة وَالنَّار، أَو الْخطاب وَقع على مَا اسْتَقر فِي أنفس أَكثر النَّاس فَإِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أَن الدُّنْيَا لَا شَيْء مثلهَا وَأَنَّهَا الْمَقْصُود فَأخْبر بِأَنَّهَا عِنْده خبر مِمَّا تظنون أَن لَا شَيْء أفضل مِنْهُ.

4384 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عنهُ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا} (الْفَتْح: 1) قَالَ الحُدَيْبِيَةُ.
غنْدر هَذَا لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره، وَقد مضى الحَدِيث فِي الْمَغَازِي بأتم مِنْهُ، وَأطلق على غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة الْفَتْح، بِاعْتِبَار أَنه كَانَ مُقَدّمَة الْفَتْح.

5384 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا مُعاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلِ قَالَ قَرَأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سِورَةَ الفَتْحِ فَرَجَعَ فِيهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَوْ شِئْتُ أنْ أحْكِيَ لَكُمْ قِرَاءَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَفَعَلْتُ.
عبد الله بن مُغفل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة الْبَصْرِيّ، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْمَغَازِي فِي: بَاب غَزْوَة الْفَتْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن شعيد عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فَرجع) ، من الترجيع وَهُوَ ترديد الصَّوْت فِي الْحلق كَقِرَاءَة أَصْحَاب الألحان، وَقيل: تقَارب ضروب الحركات فِي الصَّوْت، وَزعم بَعضهم أَن هَذَا كَانَ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فَجعلت النَّاقة تحركه فَحصل بِهِ الترجيع وَهُوَ مَحْمُول على إشباع الْمَدّ فِي مَوْضِعه وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حسن الصَّوْت إِذا قَرَأَ مد ووقف على الْحُرُوف، وَيُقَال: مَا بعث نَبِي إلاَّ حسن الصَّوْت، وَقَامَ الْإِجْمَاع على تَحْسِين الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ وترتيبها قَالَه القَاضِي.

2 - (بابٌ: {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطا مُسْتَقِيما} (الْفَتْح: 2)

لَيست هَذِه الْآيَة بمذكورة فِي أَكثر النّسخ. قَوْله: (ليغفر لَك الله) ، اللَّام فِيهِ لَام الْقسم، لما حذفت النُّون من فعله كسرت اللَّام وَنصب فعلهَا تَشْبِيها بلام كي، وَعَن الْحسن بن الْفضل: هُوَ مَرْدُود إِلَى قَوْله واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ليغفر لَك

(19/176)


الله، وَقَالَ ابْن جرير: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {إِذا جَاءَ نصر الله} (النَّصْر: 1) الْآيَة {ليغفر لَك الله مَا تقدم} (الْفَتْح: 2) الْآيَة من قبل الرسَالَة إِلَى وَقت نزُول هَذِه السُّورَة، وَعَن عَطاء الْخُرَاسَانِي: مَا تقدم من ذَنْب أَبَوَيْك آدم وحواء، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَمَا تَأَخّر من ذنُوب أمتك، وَقيل: مَا وَقع وَمَا يَقع مغْفُور على طَرِيق الْوَعْد، وَقيل: الْمَغْفِرَة سَبَب لِلْفَتْحِ، أَي: لمغفرتنا لَك فتحنا لَك. قَوْله: (وَيتم نعْمَته عَلَيْك) ، أَي: بِالنُّبُوَّةِ وَالْحكمَة. قَوْله: (ويهديك) ، أَي: يثبتك. وَقيل: يهدي بك.

7384 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَحْيَى أخْبَرَنَا حَيْوَةُ عَنْ أبِي الأسْوَدِ سَمِعَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هاذَا يَا رَسُولَ الله وَقَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أفَلا أحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدا شَكُورا فَلمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسا فَإذا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ.
الْحسن بن عبد الْعَزِيز أَبُو عَليّ الجذامي، مَاتَ بالعراق سنة تسع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الله بن يحيى الْمعَافِرِي، وحيوة بن شُرَيْح الْمصْرِيّ، وَأَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن النَّوْفَلِي الْمَعْرُوف بيتيم عُرْوَة بن الزبير.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي صَلَاة اللَّيْل، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تفطرت) ، أَي: انشقت، ويروى: تفطر. قَوْله: (فَلَمَّا كثر لَحْمه) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة من الْكَثْرَة، وَأنكر الدَّاودِيّ هَذِه اللَّفْظَة والْحَدِيث، فَلَمَّا بدن أَي: كبر، بِالْبَاء الْمُوَحدَة فَكَأَن الرَّاوِي تَأَوَّلَه على كَثْرَة اللَّحْم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لم يصفه أحد بالسمن، وَلَقَد مَاتَ وَمَا شبع من خبز الخمير فِي يَوْم مرَّتَيْنِ، وأحسب بعض الروَاة لما رأى بدن ظن كثر لَحْمه وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ بدن تبدينا. أَي: أسن قَالَه أَبُو عبيد.

3 - (بابٌ: {إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا} (الْفَتْح: 8)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} يَعْنِي: مُبينًا لِأَنَّهُ يبين الحكم. فَسمى شَاهدا لمشاهدته الْحَال والحقيقة فَكَأَنَّهُ النَّاظر بِمَا شَاهد وَيشْهد عَلَيْهِم أَيْضا بالتبليغ وبأعمالهم من طَاعَة ومعصية، وَيبين مَا أرسل بِهِ إِلَيْهِم، وَأَصله الْإِخْبَار بِمَا شوهد وَعَن قَتَادَة وَشَاهدا على أمته وعَلى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (وَمُبشرا) ، أَي: مبشرا بِالْجنَّةِ من أطاعه وَنَذِيرا من النَّار أَصله الْإِنْذَار وَهُوَ التحذير.

8384 - حدَّثنا عَبْدُ الله حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلالٍ بنِ أبِي هِلالٍ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ هاذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي القُرْآنِ: {يَا أيُّهَا النبيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا} قَالَ فِي التَّوْرَاةِ يَا أيُّها النبيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا حِرْزا

(19/177)


لِلأُمِّيِّينَ أنتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَلا سَخَّابٍ بِالأسْوَاقِ وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلاكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الملَّةَ العَوْجَاءَ بأنْ يَقُولُوا لَا إلاه إلاَّ الله فَيَفْتَحُ بِهَا أعْيُنا عُمْيا وَآذَانا صُمّا وَقُلُوبا غُلَفا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله كَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي رِوَايَة غير أبي ذَر، وَابْن السكن، وَوَقع فِي روايتهما عبد الله بن مسلمة وَأَبُو مَسْعُود تردد فِي عبد الله غير مَنْسُوب بَين أَن يكون عبد الله بن رَجَاء ضد الْخَوْف. أَو عبد الله بن صَالح كَاتب اللَّيْث، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: عِنْدِي أَنه عبد الله بن صَالح، وَرجحه الْمزي وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن عبد الله بن أبي سَلمَة دِينَار الْمَاجشون، وهلال بن أبي هِلَال، وَيُقَال: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة وَهُوَ هِلَال بن عَليّ الْمَدِينِيّ، سمع عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب كَرَاهَة السخب فِي السُّوق، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (حرْزا) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا زَاي أَي: حصنا للأميين وهم الْعَرَب. قَوْله: (لَيْسَ) ، فِيهِ الْتِفَات من الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة (والسخاب) على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ لُغَة فِي الصخاب بالصَّاد وَهُوَ العياط. قَوْله: (الْملَّة العوجاء) هِيَ مِلَّة الْكفْر قَوْله: (أعينا عميا) وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: أعين عمي، بِالْإِضَافَة، وَكَذَا الْكَلَام فِي الآذان والقلوب. (والغلف) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة جمع أغلف أَي: مغطى ومغشى، وَمِنْه غلاف السَّيْف.

4 - (بابٌ: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنينَ} (الْفَتْح: 4)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة} أَي: الرَّحْمَة والطمأنينة، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كل سكينَة فِي الْقُرْآن فَهِيَ الطُّمَأْنِينَة إلاَّ الَّتِي فِي الْبَقَرَة.

9384 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ البَرَاءِ رَضِي الله عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ وَفَرَسٌ لَهُ مَرْبُوطٌ فِي الدَّارِ فَجَعَلَ يَنْفِرُ فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئا وَجَعَلَ يَنْفِرُ فَلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تِلْكَ السَّكِينةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو إِسْحَاق اسْمه عَمْرو بن عبد الله، وَإِسْرَائِيل هَذَا يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (رجل) ، هُوَ أسيد بن حضير كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة أُخرى. وَكَانَ الَّذِي يقْرَأ سُورَة الْكَهْف وَفِيه فَنزلت الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ بأمثال المصابيح وَعند البُخَارِيّ مُعَلّقا من حَدِيث أبي سعيد، وَهُوَ مُسْند عِنْد النَّسَائِيّ أَن أسيدا بَيْنَمَا هُوَ يقْرَأ من اللَّيْل سُورَة الْبَقَرَة إِذْ جالت الْفرس فسكنت ثَلَاث مَرَّات فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَإِذا مثل الظلمَة فِيهَا أَمْثَال المصابيح، فَحدث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: وَمَا تَدْرِي مَا ذَاك؟ تِلْكَ الْمَلَائِكَة دنت لصوتك، وَلَو قَرَأت لأصبحت ينظر النَّاس إِلَيْهَا انْتهى وَزعم بعض الْعلمَاء أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ أَو يحْتَمل أَنه قَرَأَ كلتيهما هَذَا إِذا قُلْنَا بتساوي الرِّوَايَتَيْنِ، وَأما إِذا رجحنا الْمُتَّصِل على الْمُعَلق فَلَا يحْتَاج إِلَى جمع أَو أَن الرَّاوِي ذكر المهم وَهُوَ نزُول الْمَلَائِكَة وَهِي السكينَة.