عمدة القاري شرح صحيح البخاري

5 - (بابُ قَوْلِهِ: {إذْ يُبَايِعُوكَ تَحْتَ الشَّجَرَة} (الْفَتْح: 81)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (إِذْ يُبَايعُونَك) تَحت الشَّجَرَة وأوله: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك} هِيَ بيعَة الرضْوَان سميت بذلك لقَوْله: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ} والشجرة كَانَت سَمُرَة، وَقيل: سِدْرَة وَرُوِيَ أَنَّهَا عميت عَلَيْهِم من قَابل فَلم يدروا أَيْن ذهبت، وَقيل: كَانَت بفج نَحْو مَكَّة. وَقَالَ نَافِع: ثمَّ كَانَ النَّاس بعد يأتونها فيصلون تحتهَا فَبلغ ذَلِك عمر، رَضِي

(19/178)


الله تَعَالَى عَنهُ، فَأمر بقطعها والمبايعون كَانُوا ألفا وَخَمْسمِائة وَخَمْسَة وَعشْرين. وَقيل ألفا وَأَرْبَعمِائَة على مَا يَأْتِي الْآن، وَقيل: ألفا وثلاثمائة.

0484 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْروٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا يَوْمَ الحُدَيْبِيَّةِ ألْفا وَأرْبَعَمِائَةٍ..
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعمر وَهُوَ ابْن دِينَار وَجَابِر بن عبد الله وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة.

336 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة قَالَ سَمِعت عقبَة بن صهْبَان عَن عبد الله بن مُغفل الْمُزنِيّ إِنِّي مِمَّن شهد الشَّجَرَة نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْخذف وَعَن عقبَة بن صهْبَان قَالَ سَمِعت عبد الله بن الْمُغَفَّل الْمُزنِيّ فِي الْبَوْل فِي المغتسل) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله إِنِّي مِمَّن شهد الشَّجَرَة وَأما الحَدِيث الْمَوْقُوف وَالْمَرْفُوع فَلَا تعلق لَهما بتفسير هَذِه الْآيَة وَلَا بِهَذِهِ السُّورَة وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ كَذَا للأكثرين وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي عَليّ بن سَلمَة اللبقي بِفَتْح اللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْقَاف النَّيْسَابُورِي وَبِه جزم الكلاباذي وشبابة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى وَكَذَا الثَّانِيَة بعد الْألف ابْن سوار بِالسِّين الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَعقبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن صهْبَان بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وبالباء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف نون الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن مُغفل بالغين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء مضى عَن قريب وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن آدم وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن أبي مُوسَى وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن حَفْص بن عمر وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّيْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن بنْدَار عَن غنْدر وَهَذَا حَدِيث مَرْفُوع قَوْله وَعَن عقبَة بن صهْبَان إِلَى آخِره مَوْقُوف وَإِنَّمَا أوردهُ لبَيَان التَّصْرِيح بِسَمَاع عقبَة بن صهْبَان عَن عبد الله بن مُغفل وَهَذَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة عَن الْحسن عَن عبد الله بن مُغفل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يَبُول الرجل فِي مستحمه وَقَالَ إِن عَامَّة الوسواس مِنْهُ وَهَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ أخرجه فِي الطَّهَارَة عَن عَليّ بن حجر وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل والحلواني وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى قَوْله " نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْخذف " وَلَفظ نهى أَو أَمر أَو زجر من الصَّحَابِيّ مَحْمُول على الرّفْع عِنْد الجماهير قَوْله " عَن الْخذف " بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبالفاء هُوَ رميك حَصَاة أَو نواتا تأخذها بَين سبابتيك أَو بَين إبهامك وسبابتك وَقَالَ ابْن فَارس خذفت الْحَصَاة إِذا رميتها بَين إصبعيك وَقَالَ ابْن الْأَثِير أَن تتَّخذ مخذفة من خشب ثمَّ ترمي بهَا الْحَصَاة بَين إبهاميك والسبابة وَيُقَال الْخذف بِالْمُعْجَمَةِ بالحصى والحذف بِالْمُهْمَلَةِ بالعصى قَوْله " فِي الْبَوْل فِي المغتسل " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي ذَر عَن السَّرخسِيّ زِيَادَة وَهِي قَوْله يَأْخُذ مِنْهُ الوسواس وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ الأولى النَّهْي عَن الْخذف لكَونه لَا ينْكَأ عدوا وَلَا يقتل الصَّيْد وَلَكِن يفقأ الْعين وَيكسر السن وَهَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم وَلِأَنَّهُ لَا مصلحَة فِيهِ وَيخَاف مفسدته ويلتحق بِهِ كل مَا شاكله فِي هَذَا وَفِيه أَن مَا كَانَ فِيهِ مصلحَة أَو حَاجَة فِي قتال الْعَدو أَو تَحْصِيل الصَّيْد فَهُوَ جَائِز وَمن ذَلِك رمي الطُّيُور الْكِبَار بالبندق إِذا كَانَ لَا يَقْتُلهَا غَالِبا بل تدْرك حَيَّة فَهُوَ جَائِز قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة النَّهْي عَن الْبَوْل فِي المغتسل قَالَ الْخطابِيّ إِنَّمَا نهى عَن مغتسل يكون جددا صلبا وَلم يكن لَهُ مَسْلَك ينفذ مِنْهُ الْبَوْل ويروى عَن عَطاء إِذا كَانَ يسيل فَلَا بَأْس وَعَن ابْن الْمُبَارك قد وسع فِي الْبَوْل فِي المغتسل إِذا جرى فِيهِ المَاء وَقَالَ بِهِ أَحْمد فِي رِوَايَة وَاخْتَارَهُ غير وَاحِد من أَصْحَابه وروى الثَّوْريّ عَمَّن سمع عَن ابْن مَالك يَقُول إِنَّمَا كره مَخَافَة اللمم وَعَن أَفْلح بن حميد رَأَيْت الْقَاسِم بن مُحَمَّد يَبُول فِي مغتسله وَفِي كتاب ابْن مَاجَه عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي قَالَ إِنَّمَا هَذَا فِي الحفيرة فَأَما الْيَوْم فمغتسلاتهم بجص وصاروج يَعْنِي النورة وأخلاطها والقير

(19/179)


فَإِذا بَال وَأرْسل عَلَيْهِ المَاء فَلَا بَأْس وَمِمَّنْ كره الْبَوْل فِي المغتسل عبد الله بن مَسْعُود وَزَاد أَن الْكِنْدِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَبكر بن عبد الله الْمُزنِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة وَعَن أبي بكرَة لَا يبولن أحدكُم فِي مغتسله وَعَن عبد الله بن يزِيد الْأنْصَارِيّ لَا تبل فِي مغتسلك وَعَن عمرَان بن حُصَيْن من بَال فِي مغتسله لم يطهر وَعَن لَيْث بن أبي سليم عَن عَطاء عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت مَا طهر الله رجلا يَبُول فِي مغتسله وَرخّص فِيهِ ابْن سِيرِين وَآخَرُونَ -
3484 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيدِ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ ثَابِتِ بنِ الضَّحَاكِ رَضِيَ الله عَنهُ وَكَانَ مِنْ أصْحابِ الشَّجَرَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن الْوَلِيد بن عبد الحميد البشري، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة وبالراء الْبَصْرِيّ، وخَالِد هُوَ ابْن مهْرَان الْحذاء الْبَصْرِيّ، وَأَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد، وثابت بن الضَّحَّاك بن خَليفَة بن ثَعْلَبَة بن عدي الأشْهَلِي مَاتَ فِي فتْنَة ابْن الزبير.

4484 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ إسْحَاقَ السُّلَمِيُّ حدَّثنا يَعْلَى حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ سِياهٍ عنْ حَبِيبِ بنِ أبِي ثَابِتٍ قَالَ أتَيْتُ أبَا وَائِلٍ أسْأَلُهُ فَقَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فَقَال رَجُلٌ ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَدْعَوْنَ إلَى كِتابِ الله فَقَالَ عَلِيٌّ نَعَمْ فَقَالَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ اتَّهِمُوا أنْفُسَكُمْ فَلَقَدْ رَأيْتُنا يَوْمَ الحُدَيْبِيَّةِ يَعْنِي الصَّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالمُشْرِكِينَ وَلَوْ نَرَى قِتالاً لَقَاتَلْنا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ ألَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمَ عَلَى البَاطِلِ ألَيْسَ قَتْلانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَفِيمَ أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِيننا وَنَرْجِعُ وَلَمْ يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا فَقَالَ يَا ابنَ الخَطَّابِ إنِّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَنِي الله أبَدا فَرَجَعَ مُتَغَيِّظا فَلَمْ يَعْتَبِرْ حَتَّى جَاءَ أبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أبَا بَكْرٍ ألَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ قَالَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ إنَّهُ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَنْ يُضَيِّعهُ الله أبَدا فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه فِي قَضِيَّة الْحُدَيْبِيَة وَأحمد بن إِسْحَاق بن الْحصين بن جَابر بن جندل أَبُو إِسْحَاق السّلمِيّ بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام السرماري نِسْبَة إِلَى سرمارة قَرْيَة من قرى بخاري، ويعلى بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالقصر ابْن عبيد، وَعبد الْعَزِيز بن سياه، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالهاء بعد الْألف، لفظ فَارسي. وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْأسود، وَهُوَ منصرف، وحبِيب بن أبي ثَابت واسْمه قيس بن دِينَار الْكُوفِي، وَأَبُو وَائِل بِالْهَمْز بعد الْألف اسْمه شَقِيق بن سَلمَة.
والْحَدِيث مر فِي بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد مطولا جدا وَفِيه قَضِيَّة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَضِيَّة سهل بن حنيف مَضَت مختصرة فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة وَذكره البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِزْيَة والاعتصام وَفِي الْمَغَازِي وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
قَوْله: (بصفين) ، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَالْفَاء الْمُشَدّدَة: بقْعَة بِقرب الْفُرَات كَانَت بهَا وقْعَة بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَهُوَ غير منصرف. قَوْله: (فَقَالَ رجل: ألم تَرَ إِلَى الَّذين يدعونَ إِلَى كتاب الله} ، وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) الرِّوَايَة هُنَا بِفَتْح الْيَاء من: يدعونَ، وَضم الْعين وَكَانَ هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ من أَصْحَاب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يرد التِّلَاوَة وسَاق الْكرْمَانِي الْآيَة. {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يدعونَ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {معرضون} (الحجرات: 9) ثمَّ قَالَ: فَقَالَ الرجل مقتبسا مِنْهُ ذَلِك وغرضه إِمَّا أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابه: {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغى} فيمَ يدعونَ إِلَى الْقِتَال وهم لَا يُقَاتلُون.
قَوْله: (فَقَالَ عَليّ: نعم) ، زَاد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: أَنا أولى بذلك. أَي: بالإجابة إِذا دعيت إِلَى الْعَمَل بِكِتَاب الله لأنني واثق بِأَن الْحق بيَدي. قَوْله: (فَقَالَ سهل بن حنيف: اتهموا أَنفسكُم) ، ويروى: رَأْيكُمْ يُرِيد أَن الْإِنْسَان قد يرى رَأيا وَالصَّوَاب غَيره، وَالْمعْنَى: لَا تعملوا بآرائكم، يَعْنِي: مضى النَّاس إِلَى الصُّلْح بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة وَذَلِكَ أَن سهلاً ظهر لَهُ من

(19/180)


أَصْحَاب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَرَاهَة التَّحْكِيم وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَانَ سهل يتهم بالتقصير فِي الْقِتَال. فَقَالَ: اتهموا أَنفسكُم فَإِنِّي لَا أقصر وَمَا كنت مقصرا وَقت الْحَاجة. كَمَا فِي يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فَإِنِّي رَأَيْت نَفسِي يَوْمئِذٍ بِحَيْثُ لَو قدرت مُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلت قتالاً عَظِيما. لَكِن الْيَوْم لَا نرى الْمصلحَة فِي الْقِتَال بل التَّوَقُّف أولى لمصَالح الْمُسلمين، وَأما الْإِنْكَار على التَّحْكِيم أفليس ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى؟ فَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نعم، المنكرون هم الَّذين عدلوا عَن كتاب الله لِأَن الْمُجْتَهد لما رأى أَن ظَنّه أدّى إِلَى جَوَاز التَّحْكِيم فَهُوَ حكم الله، وَقَالَ سهل: اتهموا أَنفسكُم فِي الْإِنْكَار لأَنا أَيْضا كُنَّا كارهين لترك الْقِتَال يَوْم الْحُدَيْبِيَة وقهرنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصُّلْح. وَقد أعقب خيرا عَظِيما قَوْله: {وَلَقَد رَأَيْتنَا} أَي: وَلَقَد رَأَيْت أَنْفُسنَا. قَوْله: (وَلَو نرى) بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ غَيره. قَوْله: (أعطي) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الطَّاء ويروى: نعطي، بالنُّون. قَوْله: (الدنية) بِكَسْر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف أَي: الْخصْلَة الدنية وَهِي الْمُصَالحَة بِهَذِهِ الشُّرُوط الَّتِي تدل على الْعَجز، والضعف. قَوْله: (فَلم يصبر حَتَّى جَاءَ أَبَا بكر) قَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ بِمَحْفُوظ إِنَّمَا كلم أَبَا بكر أَولا ثمَّ كلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

94 - ( {سُورَةُ الحُجُرَاتِ} )

أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة الحجرات، وَفِي بَعْص النّسخ: الحجرات، بِدُونِ لفظ: سُورَة، وَهِي رِوَايَة غير أبي ذَر، وَرِوَايَة أبي ذَر: سُورَة الحجرات: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة، كلهَا مَا بلغنَا فِيهَا اخْتِلَاف، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد المجادلة وَقبل التَّحْرِيم، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَسِتَّة وَسَبْعُونَ حرفا. وثلاثمائة وَثَلَاث وَأَرْبَعُونَ كلمة. وثمان عشرَة آيَة. وَقَالَ الزّجاج: يقْرَأ الحجرات بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَيجوز فِي اللُّغَة التسكين وَلَا أعلم أحدا قَرَأَهُ وَهِي جمع الْحجر وَالْحجر جمع حجرَة وَهُوَ جمع الْجمع، وَالْمرَاد بيُوت أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر لَيْسَ إلاَّ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ لَا تُقْدِّمُوا لَا تَفتَانوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى يَقْضِي الله عَلَى لِسَانِهِ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} (الحجرات: 1) وَفسّر قَوْله: {لَا تفتاتوا} أَي: لَا تسبقوا من الإفتيات وَهُوَ افتعال من الْفَوْت وَهُوَ السَّبق إِلَى الشَّيْء دون ائتمار من يؤتمر، ومادته فَاء وواء وتاء مثناة من فَوق، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اخْتلف فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا} الْآيَة. فَعَن ابْن عَبَّاس. لَا تَقولُوا خلاف الْكتاب وَالسّنة. وَعنهُ: لَا تتكلموا بَين يَدي كَلَامه، وَعَن جَابر وَالْحسن: لَا تذبحوا قبل أَن يذبح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَمرهمْ أَن يُعِيدُوا الذّبْح، وَعَن عَائِشَة: لَا تَصُومُوا قبل أَن يَصُوم نَبِيكُم، وَعَن عبد الله بن الزبير، قَالَ: قدم وَفد من بني تَمِيم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة، وَقَالَ عمر: أَمر الْأَقْرَع بن حَابِس، وَقَالَ أَبُو بكر: مَا أردْت إلاَّ خلافي، وَقَالَ عمر: مَا أردْت خِلافك. فارتفعت أصواتهما فَأنْزل الله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} الْآيَة، وَعَن الضَّحَّاك: يَعْنِي فِي الْقِتَال وَشَرَائِع الدّين يَقُول: لَا تقضوا أمرا دون الله وَرَسُوله، وَعَن الْكَلْبِيّ: لَا تسبقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول وَلَا فعل حَتَّى يكون هُوَ يَأْمُركُمْ، وَعَن ابْن زيد: لَا تقطعوا أمرا دون الله وَرَسُوله وَلَا تَمْشُوا بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لَا تقدمُوا) ، بِضَم التَّاء وَتَشْديد الدَّال الْمَكْسُورَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قدمه وأقدمه منقولان بتنقيل الحشو والهمزة من قدمة إِذا تقدمه وَحذف مَفْعُوله ليتناول كل مَا يَقع فِي النَّفس مِمَّا يقدم، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه قَرَأَ بِفَتْح التَّاء وَالدَّال وَقَرَأَ: لَا تقدمُوا، بِفَتْح التَّاء وَتَشْديد الدَّال بِحَذْف إِحْدَى التَّاءَيْنِ من تتقدموا.
امْتَحَنَ أخْلَصَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى} (الحجرات: 3) وَفَسرهُ بقوله: أخْلص، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة. قَالَ: أخْلص الله قُلُوبهم فِيمَا أحب.
تَنَابَزُوا يَدْعَى بِالكَفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) بِمَا حَاصله من مصدره، وَهُوَ التَّنَابُز، وَهُوَ أَن يدعى الرجل بالْكفْر بعد الْإِسْلَام، وَحَاصِله مَا قَالَه مُجَاهِد: لَا تَدْعُو الرجل بالْكفْر وَهُوَ مُسلم، وَعَن عِكْرِمَة: هُوَ قَول الرجل للرجل: فَاسق

(19/181)


يَا مُنَافِق يَا كَافِر، وَسبب نُزُوله مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك، قَالَ: فِينَا نزلت هَذِه الْآيَة فِي بني سَلمَة قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَمَا منا رجل إلاَّ لَهُ إسمان أَو ثَلَاثَة. فَكَانَ إِذا دَعَا الرجل الرجل قُلْنَا: يَا رَسُول إِنَّه يغْضب من هَذَا فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) .
يَلِتْكُمْ يَنْقُصْكُمْ ألَتْنا: نَقَصْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم} (الحجرات: 41) وَفسّر: (يلتكم) بقوله: (ينقصكم) وَهُوَ من لات يليت ليتا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لاته عَن وَجهه يليته ويلوته ليتا أَي: حَبسه عَن وَجهه وَصَرفه، وَكَذَلِكَ ألاته عَن وَجهه فعل وأفعل بِمَعْنى: وَيُقَال أَيْضا: مَا ألاته من عمله شَيْئا. أَي: مَا انقصه. مثل ألته. قَوْله: (ألتنا: نقصنا) ، هَذَا فِي سُورَة الطّور ذكره هُنَا اسْتِطْرَادًا.

1 - (بابٌ: {لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيِّ} (الحجرات: 2) الآيَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل} إِلَى آخر الْآيَة. وَحَدِيث الْبَاب يُفَسر الْآيَة وَيبين سَبَب نُزُولهَا.
تشْعُرُونَ تَعْلَمُونَ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُم لَا تشعرون} (الحجرات: 2) وَفَسرهُ بقوله: تعلمُونَ، وَكَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ. قَوْله: (وَمِنْه الشَّاعِر) ، أَرَادَ بِهِ من جِهَة الِاشْتِقَاق، يُقَال: شَعرت بالشَّيْء اشعر بِهِ شعرًا. أَي: فطنت لَهُ، وَمِنْه سمي الشَّاعِر لفطنته فَافْهَم.

5484 - حدَّثنا يَسَرَةُ بنُ صَفْوَانَ بنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ حدَّثنا نافِعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ قَالَ كَادَ الخَيْرَانِ يَهْلِكَانِ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ الله عَنْهُمَا رَفَعا أصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ فأشارَ أحدُهُما بالأُقْرَعِ بنِ حابِسٍ أخِي بَنِي مُجاشِعٍ وَأشارَ الآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِ لَا أحْفَظُ اسْمَهُ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ مَا أرَدْتَ إلاّ خِلافِي قَالَ مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتِهُما فِي ذَلِكَ فَأنْزَلَ الله: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ} الآيَةَ.
قَالَ ابنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَ هاذِهِ الآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ ذالِكَ عَنْ أبِيهِ يَعْنِي أبَا بَكْرٍ رَضِيَ الله عنهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وبسرة، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة وَالرَّاء ابْن صَفْوَان بن جميل، بِالْجِيم ضد الْقَبِيح. الملخمي بِسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة الدِّمَشْقِي، وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَابْن أبي مليكَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم واسْمه زُهَيْر. وَكَانَ عبد الله قَاضِي مَكَّة على عهد ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الحَدِيث لَيْسَ من الثلاثيات لِأَن عبد الله تَابِعِيّ وَهُوَ من الْمَرَاسِيل، وَقيل: صورته صُورَة الْإِرْسَال لَكِن ظهر فِي آخِره ابْن أبي مليكَة حمله عَن عبد الله بن الزبير، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بعده التَّصْرِيح بذلك، وَقد مضى الحَدِيث فِي وَفد بني تَمِيم من وَجه آخر.
قَوْله: (كَاد الخيران يهلكان) ، بالنُّون. قَوْله: (أَبَا بكر) ، بِالنّصب خبر: كَانَ، وَعمر، عطف عَلَيْهِ كَذَا لأبي ذَر وَفِي رِوَايَة بِحَذْف النُّون: يهلكا بِلَا ناصب وَلَا جازم وَهِي لُغَة، وَالْأَصْل: يهلكان، بالنُّون، (والخيران) بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة أَي: الفاعلان للخير الْكثير يهلكان، وَفِي (التَّوْضِيح) . وَيجوز بِالْمُهْمَلَةِ أَيْضا. قلت: أَرَادَ الْخَبَر بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ الْعَالم، وَيجوز فِي الْخَبَر الْفَتْح وَالْكَسْر. قَالَه ابْن الْأَثِير. قَوْله: (حِين قدم عَلَيْهِ ركب بني تَمِيم) ، كَانَ قدومهم سنة تسع من الْهِجْرَة، والركب أَصْحَاب الْإِبِل فِي السّفر. قَوْله: (فَأَشَارَ أَحدهمَا بالأقرع بن حَابِس) ، فِيهِ حذف تَقْدِيره: سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤمر عَلَيْهِم أحدا فَأَشَارَ أَحدهمَا هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُؤمر

(19/182)


الْأَقْرَع بن حَابِس، والأقرع لقبه واسْمه فراس بن حَابِس بن عقال، بِالْكَسْرِ وَتَخْفِيف الْقَاف: ابْن مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم التَّمِيمِي الدَّارمِيّ، وَكَانَت وَفَاة الْأَقْرَع فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (بِرَجُل آخر) ، وَهُوَ الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة بن عدس بن يزِيد بن عبد الله بن دارم التَّمِيمِي الدَّارمِيّ، قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ يُقَال لَهُ تيار الْفُرَات لجوده. قَوْله: (مَا أردْت إِلَّا خلافي) أَي لَيْسَ مقصودك إِلَّا مُخَالفَة قولي. قَوْله: (قَالَ ابْن الزبير) أَي عبد الله بن الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (يسمع) ، بِضَم الْيَاء من الأسماع، وَلَا شكّ أَن رفع الصَّوْت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوق صَوته حرَام بِهَذِهِ الْآيَة. فَإِن قلت: ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَن عمر اسْتَأْذن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْده نسَاء من قُرَيْش يكلمنه عالية أصواتهن. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك قبل النَّهْي أَو يكون علو الصَّوْت كَانَ بالهيئة الاجتماعية لَا بانفراد كل مِنْهُنَّ. قَوْله: (عَن أَبِيه يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أطلق الْأَب على الْجد مجَازًا، لِأَن أَبَا بكر أَبُو أم عبد الله، وَهِي أَسمَاء بنت أبي بكر، وَقَالَ بَعضهم: قَالَ مغلطاي: يحْتَمل أَنه أَرَادَ بذلك أَبَا بكر عبد الله بن الزبير، أَو أَبَا بكر عبد الله بن أبي مليكَة. فَإِن لَهُ ذكرا فِي الصَّحَابَة عِنْد ابْن أبي عمر وَأبي نعيم، وَهَذَا بعيد عَن الصَّوَاب، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَأغْرب بعض الشُّرَّاح ثمَّ ذكر مَا ذكره بَعضهم. قلت: لَا يشك فِي بعده عَن الصَّوَاب، وَلَكِن يُؤَاخذ بَعضهم بقوله، قَالَ مغلطاي، فَذكره هَكَذَا يشْعر بالتحقير، وَكَذَلِكَ صَاحب (التَّلْوِيح) يَقُول: وَأغْرب بعض الشُّرَّاح، مَعَ أَنه شَيْخه وَلم يشرع الَّذِي جمعه إلاَّ من كتاب شَيْخه هَذَا وَلم يذكر من خَارج إلاَّ شَيْئا يَسِيرا.

6484 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا أزْهَر بنُ سَعْدٍ أخْبَرَنا ابنُ عَوْن قَالَ أنْبَأَنِي مُوسَى بنُ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِي الله عنهُ أنَّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم افْتَقَدَ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله أنَا أعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأتاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسا فِي بَيْتِهِ مُنَكَّسا رَأسَهُ فَقَالَ لهُ مَا شَأنُكَ فَقَالَ شَر كانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَأتَى الرَّجُلُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبَرَهُ أنَّهُ قَالَ كَذَا وَكذا فَقَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إلَيْهِ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إنَّكَ لَسْتَ مِنْ أهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أهْلِ الجنةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يرفع صَوته فَوق صَوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَمر هَذَا الحَدِيث فِي عَلَامَات النُّبُوَّة بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن، وَهَذَا مُكَرر صَرِيحًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة إلاَّ ذكره فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَابْن عون هُوَ عبد الله، ومُوسَى هُوَ ابْن أنس بن مَالك قَاضِي الْبَصْرَة، يروي عَن أَبِيه.
قَوْله: (فَقَالَ رجل) هُوَ سعيد بن معَاذ. قَوْله: أَنا أعلم لَك علمه الْقيَاس أَن يَقُول: أَنا أعلم لَك حَاله لَا علمه، لَكِن قَوْله: مصدر مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول أَي: أعلم لِأَجلِك علما يتَعَلَّق بِهِ. قَوْله: (لكنك من أهل الْجنَّة) ، صَرِيح فِي أَنه من أهل الْجنَّة وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين الْعشْرَة المبشرة لِأَن مفهموم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ. فَلَا يَنْفِي الزَّائِد أَو الْمَقْصُود من الْعشْرَة الَّذين قَالَ فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ: بشرت بِالْجنَّةِ، أَو المبشرون بدفعة وَاحِدَة، فِي مجْلِس وَاحِد، وَلَا بُد من التَّأْوِيل إِذْ بِالْإِجْمَاع أَزوَاج الرَّسُول وَفَاطِمَة والحسنان وَنَحْوهم من أهل الْجنَّة.

2 - (بابٌ: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (الحجرات: 4)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن الَّذين} الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ (إِن الَّذين يُنَادُونَك يَعْنِي أَعْرَاب تَمِيم نادوا يَا مُحَمَّد أخرج إِلَيْنَا فَإِن مَدْحنَا زين وذمنا شين، وَقَالَ قَتَادَة: وَعَن زيد بن أَرقم: جَاءَ نَاس من الْعَرَب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بَعضهم لبَعض: انْطَلقُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرجل فَإِن يكن نَبيا نَكُنْ أسعد النَّاس، وَإِن يكن ملكا نعش فِي جنابه، فجاؤوا إِلَى حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعلُوا يُنَادُونَهُ: يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُنَادُونَك} الآيَةَ.

(19/183)


7484 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا حَجَّاجٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أخْبَرَنِي ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُمْ أنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أبُو بَكْرٍ أمْرِ القَعْقَاعَ بنَ مَعْبَدٍ وَقَالَ عُمَرُ بَلْ أمْرِ الأقْرَعَ بنَ حَابِسٍ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ مَا أرَدْتَ إلَى أوْ إلاَّ خِلافِي فَقَالَ عُمَرُ مَا أرَدْتُ خِلافَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذالِكَ: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} (الْحجر: 1) حَتَّى انْقَضَتِ الآيَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (قدم ركب من بني تَمِيم) وَقد ذكرنَا الْآن أَن {الَّذين يُنَادُونَك} (الْحجر: 4) أَعْرَاب تَمِيم، وَالْحسن بن مُحَمَّد ابْن الصَّباح، أَبُو عَليّ الزَّعْفَرَانِي، وحجاج هُوَ ابْن مُحَمَّد الْأَعْوَر وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَابْن أبي مليكَة عبد الله وَقد مر عَن قريب.
والْحَدِيث أَيْضا وَمر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (فتماريا) ، أَي: تجادلا وتخاصما.

ب

(بابُ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَنَ خَيْرا لَهُمْ} (الْحجر: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا} الْآيَة. وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ: لفظ بَاب وَهَكَذَا فِي جَمِيع الرِّوَايَات التَّرْجَمَة بِلَا حَدِيث. وَالظَّاهِر أَنه أخلى مَوضِع الحَدِيث فإمَّا أَنه لم يظفر بِشَيْء على شَرطه أَو أدْركهُ الْمَوْت، وَالله أعلم. قَوْله: (وَلَو أَنهم) ، أَي: الَّذين يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات لَو صَبَرُوا، وَقَوله: أَنهم فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية لِأَن الْمَعْنى وَلَو ثَبت صبرهم وَالصَّبْر حبس النَّفس عَن أَن تنَازع إِلَى هَواهَا. قَوْله: (حَتَّى تخرج) ، خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

05 - ( {سُورَةُ ق} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة (ق) . وَهِي مَكِّيَّة كلهَا، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبع وَتسْعُونَ حرفا، وثلاثمائة، وَسبع وَخَمْسُونَ كلمة، وَخمْس وَأَرْبَعُونَ آيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى أقسم الله بِهِ، وَعَن قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن القرطي: افْتِتَاح اسْم الله تَعَالَى: قدير وقادر وقاهر وَقَرِيب وقاضي وقابض، وَعَن الشّعبِيّ: فَاتِحَة السُّورَة: وَعَن عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك: هُوَ جبل مُحِيط بِالْأَرْضِ من زمردة خضراء مُتَّصِلَة عروقه بالصخرة الَّتِي عَلَيْهَا الأَرْض كَهَيئَةِ الْقبَّة وَعَلِيهِ كتف السَّمَاء وخضرة السَّمَاء مِنْهُ. والعالم دَاخله وَلَا يعلم مَا وَرَاءه إلاَّ الله تَعَالَى، وَمَا أصَاب النَّاس من زمرد مَا سقط من ذَلِك الْجَبَل، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مقَاتل: هُوَ أول جبل خلق وَبعده أَبُو قيس.

لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
رَجْعٌ بعِيدٌ رَدٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا ذَلِك رَجَعَ بعيد} (ق: 3) وَفسّر قَوْله: (رَجَعَ بعيد) بقوله: (ردّ) أَي: الرَّد إِلَى الْحَيَاة بعيد فَإِنَّهُم مَا كَانُوا يعترفون بِالْبَعْثِ، يُقَال: رجعته رجعا فَرجع هُوَ رُجُوعا. قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِن رجعك الله} (التَّوْبَة: 38) .
فُرُوجٍ فُتُوقٍ، وَاحِدُها فَرْجٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وزيناها وَمَا لَهَا من فروج} أَي: وزينا السَّمَاء وَمَا لَهَا من فتوق وشقوق، والفروج جمع فرج، وَعَن ابْن زيد: الْفروج الشَّيْء المتفرق بعضه من بعض، وَعَن الْكسَائي: مَعْنَاهُ لَيْسَ فِيهَا تفَاوت وَلَا اخْتِلَاف.
مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ وَريدَاهُ فِي حَلْقِهِ الحَبْلُ حَبْلُ الْعاتِقِ
لم يثبت هَذَا إلاَّ لأبي ذَر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} (ق: 61) أَي: نَحن أقدر عَلَيْهِ من حَبل الوريد وَهُوَ عرق الْعُنُق، وأضاف الشَّيْء إِلَى نَفسه لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ، وَالتَّفْسِير الَّذِي ذكره رَوَاهُ الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.

(19/184)


وَقَالَ مُجاهِدٌ: مَا تَنقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ مِنْ عِظامِهِمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {قد علمنَا مَا تنقض الأَرْض مِنْهُم} أَي: من عظامهم، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن زيد عَن ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وَادّعى ابْن التِّين أَنه وَقع من أعظامهم، وَأَن صَوَابه: من عظامهم، لِأَن فعلا بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْعين لَا يجمع على أَفعَال إلاَّ خَمْسَة أحرف: نَوَادِر، وَقيل: من أجسامهم.
تَبْصِرَةً بَصِيرَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} وَفسّر: (تبصرة) بقوله: (بَصِيرَة) أَي: جعلنَا ذَلِك تبصرة. قَوْله: (منيب) أَي مخلص.
حَبَّ الحَصِيدِ الحِنْطَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد} (ق: 9) وَفَسرهُ بقوله: (الْحِنْطَة) وَالشعِير وَسَائِر الْحُبُوب الَّتِي تحصد، وَهَذِه الْإِضَافَة من بَاب: مَسْجِد الْجَامِع وَحقّ الْيَقِين وربيع الأول.
بَاسِقاتٍ الطَّوَالُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّخْل باسقات} (ق: 01) وفسرها بقوله: (الطوَال) يُقَال: بسق الشَّيْء يبسق بسوقا إِذا طَال، وَقيل: إِن بسوقها استقامتها فِي الطول وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ باصقات بالصَّاد.
أفَعَيِينا أفأعْيا عَلَيْنا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم فِي لَيْسَ من خلق جَدِيد} (ق: 51) وَسقط هَذَا لأبي ذَر، وَفسّر: (أفعيينا) بقوله: (أفأعيا علينا) أَي: أفعجزنا عَنهُ وَتعذر علينا، يُقَال: عيي عَن كَذَا أَي عجز عَنهُ. قَوْله: (بل هم فِي لبس) ، أَي: فِي لبس الشَّيْطَان عَلَيْهِم الْأَمر قَوْله: (من خلق جَدِيد) ، يَعْنِي الْبَعْث.
وَقَالَ قَرِينُهُ الشَّيْطَانُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَول تَعَالَى: {وَقَالَ قرينه: هَذَا مَا لدي عنيد} وَفسّر القرين بالشيطان الَّذِي قيض لَهُ، أَي: قدر، وَعَن قَتَادَة: الْملك الَّذِي وكل بِهِ كَذَا فِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) .
فَنَقَّبُوا: ضَرَبُوا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَنقبُوا فِي الْبِلَاد هَل من محيص} (ق: 63) وَفسّر قَوْله: (نقبوا) بقوله: (ضربوا) وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد، وَعَن الضَّحَّاك: طافوا، وَعَن النَّضر بن شُمَيْل: دوخوا. وَعَن الْفراء: خرقوا، وَعَن المؤرج: تباعدوا، وقرىء بِكَسْر الْقَاف مشددا على التهديد والوعيد، أَي: طوفوا الْبِلَاد وسيروا فِي الأَرْض وانظروا هَل من محيص من الْمَوْت وَأمر الله تَعَالَى؟ .
أَوْ أَلُقَى السَّمْعَ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} (ق: 73) وَفَسرهُ بقوله: (لَا يحدث نَفسه بِغَيْرِهِ) وَفِي التَّفْسِير أَو ألْقى السّمع أَي: اسْتمع الْقُرْآن وأصغى إِلَيْهِ وَهُوَ شَهِيد حَاضر تَقول الْعَرَب: ألق إِلَى سَمعك. أَي: اسْتمع.
حِينَ أنْشَأَكُمْ، وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ
سقط هَذَا لأبي ذَر، وَهَذَا بَقِيَّة تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أفعيينا} وَكَانَ حَقه أَن يكْتب عِنْده، وَالظَّاهِر أَنه من تخبيط النَّاسِخ.
رَقِيبٌ عَتِيدٌ رَصَدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {مَا يلفظ من قَول إلاّ لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} (ق: 81) وَفَسرهُ بقوله: (رصد) وَهُوَ الَّذِي يرصد، أَي: يرقب وَينظر، وَفِي التَّفْسِير: رَقِيب حَافظ عتيد حَاضر.
سَائِقٌ وَشَهِيدٌ المَلَكانِ كَاتِبٌ وَشَهِيدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشيهد} (ق: 73) وَذكر أَنَّهُمَا الْملكَانِ أَحدهمَا الْكَاتِب وَالْآخر شَهِيد، وَعَن الْحسن: سائق يَسُوقهَا وشهيد يشْهد عَلَيْهَا بعملها.
شَهِيدٌ شَاهِدٌ بِالْقَلْبِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} أَي: شَاهد هَذَا بِالْقَلْبِ، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، بِالْقَلْبِ بِالْقَافِ وَاللَّام، وَفِي رِوَايَة غَيره بالغين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَكَذَا روى عَن مُجَاهِد.
لُغُوبٍ النصَبُ

(19/185)


أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مسنا من لغوب} (ق: 83) وَفَسرهُ بِالنّصب وَهُوَ التَّعَب وَالْمَشَقَّة، ويروى: من نصب وَالنّصب، وَقَالَ عبد الزراق عَن معمر عَن قَتَادَة قَالَت الْيَهُود: إِن الله خلق الْخلق فِي سِتَّة أَيَّام وَفرغ من الْخلق يَوْم الْجُمُعَة واستراح يَوْم السبت، فأكذبهم الله تَعَالَى بقوله: {وَمَا مسنا من لغوب} .
وَقَالَ غَيْرُهُ: نَضِيدٌ الكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أكْمامِهِ، وَمَعْنَاهُ: مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإذَا خَرَجَ مِنْ أكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ.
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لَهَا طلع نضيد} (ق: 01) وَفسّر النضيد، بالكفرى، بِضَم الْكَاف وَفتح الْفَاء وَتَشْديد الرَّاء وبالقصر: هُوَ الطّلع مَا دَامَ فِي أكمامه وَهُوَ جمع كم بِالْكَسْرِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَقَالَ مَسْرُوق: نخل الْجنَّة نضيد من أَصْلهَا إِلَى فرعها، وَثَمَرهَا منضد أَمْثَال القلال والدلاء، كلما قطفت مِنْهُ ثَمَرَة تنْبت مَكَانهَا أُخْرَى وأنهارها تجْرِي فِي غير أخدُود.
فِي أدْبَارِ النُّجُومُ وِأدْبَارِ السُّجُودِ كَانَ عَاصِمٌ يَفْتَحُ الَّتِي فِي (ق) وَيَكْسُر الَّتِي فِي (الطُّورِ) وَيُكْسَرَانِ جَمِيعا وَينصبَان.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فسبحه وأدبار السُّجُود} (ق: 3) وَوَافَقَ عَاصِمًا أَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ، وَخَالفهُ نَافِع وَابْن كثير وَحَمْزَة فكسروها، وَقَالَ الدَّاودِيّ: من قَرَأَ: وأدبار النُّجُوم، بِالْكَسْرِ يُرِيد عِنْد ميل النُّجُوم، وَمن قَرَأَ: بِالْفَتْح يَقُول بعد ذَلِك قَوْله عز وَجل: {وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب وَمن اللَّيْل فسبحه وإدبار النُّجُوم} قَوْله: (سبح بِحَمْد رَبك) قيل: حَقِيقَة مُطلقًا، وَقيل: دبر المكتوبات، وَذكره البُخَارِيّ بعد عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: صل، فَقيل: النَّوَافِل أدبار المكتوبات وَقيل: الْفَرَائِض. قَوْله: (قبل طُلُوع الشَّمْس) ، يَعْنِي الصُّبْح، (وَقبل الْغُرُوب) يَعْنِي: الْعَصْر. قَوْله: (وَمن اللَّيْل فسبحه) يَعْنِي: صَلَاة الْعشَاء، وَقيل: صَلَاة اللَّيْل. قَوْله: (وأدبار السُّجُود) الركعتان بعد الْمغرب، (وأدبار النُّجُوم) الركعتان، قبل الْفجْر، والأدبار بِالْفَتْح جمع دبر وبالكسر مصدر من أدبر يدبر إدبارا قَوْله: (ويكسران جَمِيعًا) يَعْنِي: الَّتِي فِي ق وَالَّتِي فِي الطّور. قَوْله: (وينصبان) أَرَادَ بِهِ يفتحان جَمِيعًا. وَرجح الطَّبَرِيّ الْفَتْح فيهمَا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ يَوْمَ الخُرُوجِ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ القُبُورِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يسمعُونَ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ ذَلِك يَوْم الْخُرُوج} (ق: 24) أَي: يَوْم يخرج النَّاس من قُبُورهم، وَهَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس لَفظه.

1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (ق: 03)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد} قَالَ الثَّعْلَبِيّ: يحْتَمل قَوْله {هَل من مزِيد} جحدا مجازه: مَا من مزِيد، وَيحْتَمل أَن يكون استفهاما بِمَعْنى الاستزاداة أَي: هَل من زِيَادَة فأزاده، وَإِنَّمَا صلح للوجهين لِأَن فِي الِاسْتِفْهَام ضربا من الْجحْد وطرفا من النَّفْي.

8484 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبِي الأسْوَدِ حدَّثنا حَرَمِيُّ بنُ عِمَارَةَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُلْقَى فِي النَّارِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعُ قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن أبي الْأسود. اسْمه حميد بن الْأسود أَبُو بكر ابْن أُخْت عبد الرَّحْمَن بن مهْدي الْحَافِظ الْبَصْرِيّ، وحرمي هُوَ ابْن عمَارَة بن أبي حَفْصَة أَبُو روح، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حرمي مَنْسُوب إِلَى الْحرم بِالْمُهْمَلَةِ وَالرَّاء المفتوحتين قلت: وهم فِيهِ لِأَنَّهُ علم وَلَيْسَ بمنسوب إِلَى الْحرم، وَمَا غره إلاَّ الْبَاء الَّتِي فِيهِ ظنا مِنْهُ أَنَّهَا يَاء النِّسْبَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ علم

(19/186)


مَوْضُوع كَذَلِك مثل كرْسِي وَنَحْوه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد.
قَوْله: (يلقى فِي الناى) ، أَي: يلقى فِيهَا أَهلهَا (وَتقول) أَي النَّار: (هَل من مزِيد) قَوْله: (حَتَّى يضع) أَي: الرب قدمه، وَرِوَايَة مُسلم تَفْسِيره مثل مَا ذكرنَا. فروى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تزَال جَهَنَّم يلقى فِيهَا وَتقول: هَل من مزِيد، حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه فيروى بَعْضهَا إِلَى بعض، وَتقول: قطّ قطّ، بعزتك وكرمك الحَدِيث، وروى أَيْضا من حَدِيث شَيبَان عَن قَتَادَة رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه فيروى بَعْضهَا إِلَى بعض، وَتقول: قطّ قطّ، بعزتك وكرمك الحَدِيث، وروى أَيْضا من حَدِيث شَيبَان عَن قَتَادَة. قَالَ: حَدثنَا أنس بن مَالك أَن نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تزَال جَهَنَّم تَقول: هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعِزَّة قدمه. فَتَقول: قطّ قطّ وَعزَّتك ويزوي بَعْضهَا إِلَى بعض. قَوْله: (فَتَقول) أَي: النَّار (قطّ قطّ) أَي: حسبي حسبي، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: إسكان الطَّاء وَكسرهَا منونة وَغير منونة. وَقيل: أَن قطّ صَوت جَهَنَّم، وَإِنَّمَا تَقول: هَل من مزِيد تغيظا على العصاة ونتكلم عَن قريب فِي معنى الْقدَم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.

9484 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُوسَى القَطَّانُ حدَّثنا أبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ سَعِيدُ بنُ يَحْيَى بنِ مَهْدِيَ حدَّثنا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُوقِفُهُ أبُو سُفْيَانَ يُقَالُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَيَضَعُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَمَهُ عَلَيْهَا فَتَقُولُ قَطْ قَطْ
. [/ / مح

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَشَيْخه الْقطَّان، بِالْقَافِ وَتَشْديد الطَّاء وبالنون، الوَاسِطِيّ، وعَوْف هُوَ عَوْف الْأَعرَابِي، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
قَوْله: (رَفعه) أَي: رفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو سُفْيَان الْمَذْكُور أَكثر مَا كَانَ يوقفه أَي الحَدِيث، الْقَائِل بِذَاكَ هُوَ شيخ البُخَارِيّ مُحَمَّد بن مُوسَى الْقطَّان، وَقَالَ بَعضهم: يوقفه من الرباعي وَهِي لُغَة، والفصيح: يقفه. قلت: يوقفه من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَقَوله: من الرباعي لَيْسَ باصطلاح أهل الْفَنّ وَإِن كَانَ يجوز ذَلِك بِاعْتِبَار أَنه أَرْبَعَة أحرف. قَوْله: (يُقَال لِجَهَنَّم) الْقَائِل هُوَ الله تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُسلم.

0584 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرزَّاقِ أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ هَمامٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحَاجَّتْ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ أُوتِرْتُ بِالمتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالتِ الجَنَّةُ مَا لِي لَا يَدْخُلَنِي إلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أنْتَ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكَ مَنْ أشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَقَال للنَّارِ إنَّما عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكَ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُها فَأمَّا النَّارُ فَلا تَمْتَلِىءُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِىءُ وَيُزوَى بَعْضُها إلَى بَعْضٍ وَلا يَظْلِمُ الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أحَدا وَأمَّا الجَنَّةُ فَإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِيءُ لَهَا خَلْقا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يتَضَمَّن امتلاء جَهَنَّم يوضع الرجل كَمَا يتَضَمَّن حَدِيث أنس بِوَضْع الْقدَم، وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَعبد الرَّزَّاق بن همام الْيَمَانِيّ، وَمعمر بِفتْحَتَيْنِ ابْن رَاشد، وَهَمَّام على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن مُنَبّه الصغاني.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع حَدثنَا عبد الرَّزَّاق حَدثنَا معمر عَن همام بن مُنَبّه. قَالَ: هَذَا مَا حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر أَحَادِيث مِنْهَا. وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَحَاجَّتْ الْجنَّة وَالنَّار الخ نَحوه، غير أَن بعد قَوْله: وَسَقَطهمْ وغرثهم.
قَوْله: (تَحَاجَّتْ) ، أَي: تخاصمت الْجنَّة وَالنَّار، وَيحْتَمل أَن يكون بِلِسَان الْحَال أَو الْمقَال، وَلَا مَانع من أَن الله يَجْعَل لَهما تمييزا يدركان بِهِ فيتحاجان، وَلَا يلْزم من هَذَا التَّمْيِيز دَوَامه فيهمَا. قَوْله: (أُوثِرت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول بِمَعْنى: اختصصت. قَوْله: (بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ) ، هما سَوَاء من حَيْثُ اللُّغَة فَالثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ معنى، وَقيل: المتكبر المتعظم بِمَا لَيْسَ فِيهِ، والمتجبر الْمَمْنُوع الَّذِي لَا ينَال إِلَيْهِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يكترث بِأَمْر. قَوْله: (إلاَّ ضعفاء النَّاس) ، وهم الَّذين

(19/187)


لَا يلْتَفت إِلَيْهِم أَكثر النَّاس لضعف حَالهم ومسكنتهم واندفاعهم من أَبْوَاب النَّاس ومجالسهم. قَوْله: (وَسَقَطهمْ) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: المتحقرون بَين النَّاس الساقطون من أَعينهم، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْد الْأَكْثَر من النَّاس وبالنسبة إِلَى مَا عِنْد الله هم عُظَمَاء رفعاء الدَّرَجَات لكِنهمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْد أنفسهم لِعَظَمَة الله عِنْدهم وخضوعهم لَهُ فِي غَايَة التَّوَاضُع لله والذلة فِي عباده فوصفهم بالضعف والسقط بِهَذَا الْمَعْنى صَحِيح، وَأما معنى الْحصْر فبالنظر إِلَى الْأَغْلَب فَإِن أَكْثَرهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والبله وأمثالهم، وَأما غَيرهم من أكَابِر الدَّاريْنِ فهم قَلِيلُونَ وهم أَصْحَاب الدَّرَجَات العلى، وَأما معنى: وغرثهم، فِي رِوَايَة مُسلم فهم أهل الْحَاجة والفاقة والجوع، وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمَفْتُوحَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، والغرث فِي الأَصْل الْجُوع، ويروى: عجزهم، بِفَتْح الْعين وَالْجِيم جمع عَاجز، ويروى: غرتهم بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وهم البله الغافلون الَّذين لَيْسَ لَهُم فكر وحذق فِي أُمُور الدُّنْيَا. قَوْله: (حَتَّى يضع رجله) ، لم يبين فِيهِ الْوَاضِع من هُوَ، وَقد بَينه فِي رِوَايَة مُسلم حَيْثُ قَالَ: حَتَّى يضع الله رجله، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (ويروى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول بالزاي: يضم بَعْضهَا إِلَى بعض فتجتمع وتلتقي على من فِيهَا. قَوْله: (ينشىء لَهَا خلقا) ، أَي: يخلق للجنة خلقا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يبْقى من الْجنَّة مَا شَاءَ الله تَعَالَى أَن يبْقى ثمَّ ينشىء الله لَهَا خلقا مِمَّا يَشَاء، وَفِي وَرَايَة لَهُ: وَلَا يزَال فِي الْجنَّة فضل حَتَّى ينشىء الله لَهَا خلقا فيسكنهم فضل الْجنَّة، قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا دَلِيل لأهل السّنة على أَن الثَّوَاب لَيْسَ متوقفا على الْأَعْمَال، فَإِن هَؤُلَاءِ يخلقون حِينَئِذٍ ويعطون فِي الْجنَّة وَمَا يُعْطون بِغَيْر عمل وَمثله أَمر الْأَطْفَال والمجانين الَّذين لم يعملوا طَاعَة قطّ. وَكلهمْ فِي الْجنَّة برحمة الله تَعَالَى وفضله، وَفِيه دَلِيل أَيْضا على عظم سَعَة الْجنَّة. فقد جَاءَ فِي (الصَّحِيح) (أَن للْوَاحِد فِيهَا مثل الدُّنْيَا عشرَة أَمْثَالهَا ثمَّ يبْقى فِيهَا شَيْء لخلق ينشئهم الله تَعَالَى لَهَا) . وَفِي (التَّوْضِيح) ويروى (أَن الله لما خلقهَا، قَالَ لَهَا: امتدي فَهِيَ تتسع دَائِما أسْرع من النبل إِذا خرج من الْقوس) .
ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه الْأَحَادِيث من مشاهير أَحَادِيث الصِّفَات، وَالْعُلَمَاء فِيهَا على مذهبين أَحدهمَا: مَذْهَب المفوضة وَهُوَ الْإِيمَان بِأَنَّهَا حق على مَا أَرَادَ الله، وَلها معنى يَلِيق بِهِ وظاهرها غير مُرَاد وَعَلِيهِ جُمْهُور السّلف وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين، وَالْآخر: مَذْهَب المؤولة وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، على هَذَا اخْتلفُوا فِي تَأْوِيل الْقدَم وَالرجل، فَقيل: المُرَاد بالقدم هُنَا الْمُتَقَدّم وَهُوَ سَائِغ فِي اللُّغَة، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى يضع الله فِيهَا من قدمه لَهَا من أهل الْعَذَاب، وَقيل: المُرَاد قدم بعض المخلوقين فَيَعُود الضَّمِير فِي قدمه إِلَى ذَلِك الْمَخْلُوق الْمَعْلُوم أَو ثمَّ مَخْلُوق اسْمه الْقدَم، وَقيل: المُرَاد بِهِ الْموضع. لِأَن الْعَرَب تطلق اسْم الْقدَم على الْموضع. قَالَ تَعَالَى: {لَهُم قدم صدق} (يُونُس: 2) أَي: مَوضِع صدق فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يلقِي فِي النَّار من الْأُمَم والأمكنة الَّتِي عصى الله عَلَيْهَا فَلَا تزَال تستزيد حَتَّى يضع الرب موضعا من الْأَمْكِنَة وَمن الْأُمَم الْكَافِرَة فِي النَّار فتمتلىء، وَقيل: الْقدَم قد يكون اسْما لما قدم من شَيْء، كَمَا تسمى مَا خبطت من الْوَرق خبطا، فعلى هَذَا من لم يقدم إلاّ كفرا أَو معاصي على العناد والجحود فَذَاك قدمه وَقدمه ذَلِك هُوَ مَا قدمه للعذاب وَالْعِقَاب الْحَالين بِهِ، والمعاندون من الْكفَّار هم قدم الْعَذَاب فِي النَّار، وَقيل: المُرَاد بِوَضْع الْقدَم عَلَيْهَا نوع من الزّجر عَلَيْهَا والتسكين لَهَا. كَمَا يَقُول الْقَائِل لشَيْء يُرِيد محوه وإبطاله، جملَته تَحت رجْلي، وَوَضَعته تَحت قدمي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يعود الضَّمِير إِلَى الْمَزِيد، وَيُرَاد بالقدم الآخر لِأَنَّهُ آخر الْأَعْضَاء أَي: حَتَّى يضع الله آخر أهل النَّار فِيهَا، وَأما الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا الرجل فقد زعم الإِمَام أَبُو بكر بن فورك أَنَّهَا غير ثَابِتَة عِنْد أهل النَّقْل، ورد عَلَيْهِ بِرِوَايَة (الصَّحِيحَيْنِ) بهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن الرِّوَايَة الَّتِي جَاءَت بِلَفْظ الرجل تَحْرِيف من بعض الروَاة لظَنّه أَن المُرَاد بالقدم الْجَارِحَة. فرواها بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ، ثمَّ قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالرجلِ إِن كَانَت مَحْفُوظَة الْجَمَاعَة، كَمَا تَقول رجل من جَراد فالتقدير يضع فِيهَا جمَاعَة وإضافتهم إِلَيْهِ إِضَافَة اخْتِصَاص، وَاخْتلف المؤولون فِيهِ، فَقيل: إِن الرجل تسْتَعْمل فِي الزّجر كَمَا تَقول: وَضعته تَحت رجْلي، وَهَذَا قد مر فِي الْقدَم، وَقيل: المُرَاد بهَا رجل بعض المخلوقين، وَقيل: إِنَّهَا اسْم مَخْلُوق من المخلوقين، وَقيل: إِن الرجل تسْتَعْمل فِي طلب الشَّيْء على سَبِيل الْجد كَمَا يُقَال: قَامَ فِي هَذَا الْأَمر على رجل، وَمِنْهُم من أنكر هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا وكذبها، وَهَذَا طعن فِي الثِّقَات. وإفراط فِي رد (الصِّحَاح) وَمِنْهُم من روى بَعْضهَا وَأنكر أَن يتحدث بِبَعْضِهَا وَهُوَ مَالك، روى حَدِيث النُّزُول

(19/188)


وأوله: وَأنكر أَن يتحدث بِحَدِيث: اهتز الْعرض لمَوْت سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمِنْهُم من تأولها تَأْوِيلا يكَاد يُفْضِي فِيهِ إِلَى القَوْل بالتشبيه.

2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} (ق: 93)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَسبح بِحَمْد رَبك} الْآيَة، وَوَقع فِي بعض النّسخ: بَاب {فسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا} وَقَالَ بَعضهم: كَذَا لأبي ذَر فِي التَّرْجَمَة: وَفِي سِيَاق الحَدِيث وَلغيره. وَسبح، بِالْوَاو فيهمَا وَهُوَ الْمُوَافق للتلاوة فَهُوَ الصَّوَاب، وَعِنْدهم أَيْضا. وَقيل الْغُرُوب، وَهُوَ الْمُوَافق لآيَةَ السُّورَة قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذِه التعسفات وَالَّذِي فِي نسختنا هُوَ نَص الْقُرْآن فِي السُّورَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُمْدَة، فلأي ضَرُورَة يحرف الْقُرْآن وينسب إِلَى أبي ذَر أَو غَيره؟ .

1584 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ عنْ جرِيرٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسِ بنِ أبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرٍ بنِ عَبْدِ الله قَالَ كُنَّا جُلُوسا لَيْلَةً مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَظَرَ إلَى القَمَرِ لَيْلَةَ أرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هاذا لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَسبح بِحَمْد رَبك} إِلَى آخِره وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَجَرِير بن عبد الحميد وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي، وَقيس بن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، واسْمه عَوْف البَجلِيّ قدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب فضل صَلَاة الْعَصْر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (لَا تضَامون) ، بالضاد الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم من الضيم وبتشديدها من الضَّم، أَي: لَا يظلم بَعْضكُم بَعْضًا بِأَن يستأثر بِهِ دونه أَو لَا يزاحم بَعْضكُم بَعْضًا. قَوْله: (فَإِن اسْتَطَعْتُم) ، إِلَى آخِره، يدل على أَن الرُّؤْيَة قد ترجى بالمحافظة على هَاتين الصَّلَاتَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أما لفظ: فسبح، فَهُوَ بِالْوَاو وَلَا بِالْفَاءِ وَالْمُنَاسِب للسورة، وَقبل الْغُرُوب لَا غُرُوبهَا، وَقَالَ بَعضهم: لَا سَبِيل إِلَى التَّصَرُّف فِي لفظ الحَدِيث، وَإِنَّمَا أورد الحَدِيث هُنَا لِاتِّحَاد دلَالَة لآيتين انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الصَّحِيح لِأَن قِرَاءَة: فسبح، بِالْفَاءِ تصرف فِي الْقُرْآن، والْحَدِيث هُنَا بِالْوَاو، وَفِي النّسخ الصَّحِيحَة كَمَا فِي الْقُرْآن، وَقد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر مُوَافقا لِلْقُرْآنِ وَلَفظه عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد بِلَفْظ: ثمَّ قَرَأَ: {وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب} وَالظَّاهِر أَن نُسْخَة الْكرْمَانِي كَانَت بِالْفَاءِ وَقبل غُرُوبهَا، فَلذَلِك قَالَ مَا ذكره.

2584 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا وَرْقَاءُ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أمَرَهُ أنْ يُسَبِّح فِي أدْبَارِ الصَّلَواتِ كُلِّها يَعْنِي قَوْلَهُ وَأدْبَارَ السُّجُودِ.
آدم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد أَصله من خُرَاسَان سكن عسقلان، وورقاء، تَأْنِيث الأورق بِالْوَاو وَالرَّاء ابْن عمر الْخَوَارِزْمِيّ بن أبي إِيَاس، وَاسم أبي نجيح يسَار. ضد الْيَمين الْمَكِّيّ.
قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس) ، وَفِي كثير من النّسخ قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (أمره) ، أَي: أَمر الله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يسبح، وَالْمرَاد من التَّسْبِيح هَذَا حَقِيقَة التَّسْبِيح لَا الصَّلَاة وَلِهَذَا فسره بقوله: يَعْنِي قَوْله: وأدبار السُّجُود، يَعْنِي: أدبار الصَّلَوَات، وَتطلق السَّجْدَة على الصَّلَاة بطرِيق ذكر الْجُزْء وَإِرَادَة الْكل.

15 - ( {سُورَةَ وَالذَّارِيَاتِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الذاريات، وَهِي مَكِّيَّة كلهَا. قَالَه مقَاتل: وَغَيره، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الْأَحْقَاف وَقيل: سُورَة الغاشية، وَهِي ألف ومائتان وَسَبْعَة وَثَمَانُونَ حرفا، وثلاثمائة وَسِتُّونَ كلمة، وَسِتُّونَ آيَة.
قَوْله: (والذاريات) ، قسم على

(19/189)


مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

لم تثبت لغير أبي ذَر الْبَسْمَلَة وَلَا قَوْله: سُورَة.
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ الذَّارِياتُ الرِّياحُ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: المُرَاد بالذاريات الرِّيَاح، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَقَالَ عَليّ: الذاريات الرِّيَاح، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد الْحَنْظَلِي عَن أبي سعيد الْأَشَج حَدثنَا عقبَة بن خَالِد السكونِي حَدثنَا سعيد بن عبيد الطَّائِي عَن عَليّ بن ربيعَة أَن عبد الله بن الْكواء سَأَلَ عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا الذاريات، قَالَ: الرّيح. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمُجاهد وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَالسُّديّ وخصيف مثل ذَلِك، وروى ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن أبي حُسَيْن سَمِعت أَبَا الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت ابْن الْكواء سَأَلَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن {الذرايات ذَروا} (الذاريات: 1) قَالَ: الرِّيَاح، وَعَن {الْحَامِلَات وقرا} (الذاريات: 2) قَالَ السَّحَاب: وَعَن {الْجَارِيَات يسرا} (الذاريات: 3) قَالَ السفن، وَعَن: {المدبرات أمرا} قَالَ: الْمَلَائِكَة وَصَححهُ الْحَاكِم من وَجه آخر عَن أبي الطُّفَيْل. وَأخرجه عبد الرَّزَّاق من وَجه آخر عَن أبي الطُّفَيْل، قَالَ: شهِدت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ يخْطب وَهُوَ يَقُول: سلوني، فوَاللَّه لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ حدثتكم بِهِ، وسلوني عَن كتاب الله، فوَاللَّه مَا من آيَة إلاَّ وَأَنا أعلم بلَيْل أنزلت أم بنهار أم فِي سهل أم فِي جبل، فَقَالَ ابْن الْكواء، وَأَنا بَينه وَبَين عَليّ وَهُوَ خَلْفي، فَقَالَ: {فالذاريات ذورا} فَذكر مثله، وَقَالَ فِيهِ: وَيلك سل تفقها وَلَا تسْأَل تعنتا.
وَقَالَ غَيْرُهُ تَذْرُوهُ تُفَرِّقُهُ

أَي: قَالَ غير عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {تَذْرُوهُ الرِّيَاح} (الذاريات: 5) تفرقه وَهَذَا فِي سُورَة الْكَهْف، وَهُوَ قَوْله عز وَجل: {فَأصْبح هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح} (الْكَهْف: 54) وَإِنَّمَا ذكره هُنَا لأجل قَوْله: والذاريات، يُقَال ذرت الرّيح التُّرَاب تَذْرُوهُ ذَروا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ذرت الرّيح التُّرَاب، وَغَيره تَذْرُوهُ وتذريه ذَروا وذريا أَي: نسفته.
{وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ} تَأكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ

أَي: وَفِي أَنفسكُم آيَات أَفلا تبصرون أَفلا تنْظرُون بِعَين الِاعْتِبَار، لِأَنَّهُ أَمر عَظِيم حَيْثُ تَأْكُل وتشرب من مَوضِع وَاحِد وَيخرج من موضِعين أَي: الْقبل والدبر.
فَرَاغَ فَرَجَعَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين} (الذاريات: 62) وَفسّر: (فرَاغ) بقوله: (فَرجع) وَكَذَا قَالَ الْفراء، وَفِي التَّفْسِير: فرَاغ فَعدل، وَمَال إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعَن الْفراء لَا ينْطق بالروغ حَتَّى يكون صَاحبه مخيفا لذهابه أَو مَجِيئه.
فَصَكَّتْ فَجَمَعَتْ أصَابِعَها فَضَرَبَتْ جَبْهَتِهَا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا} (الذاريات: 92) الْآيَة، وَفسّر: (فصكت) بقوله: (فجعمت) إِلَى آخِره، وَهُوَ قَول الْفراء بِلَفْظِهِ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، جمعت بِغَيْر فَاء، حَدثنَا سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: فصكت وَجههَا، قَالَ: فَضربت بِيَدِهَا على جبينها. وَقَالَت: يَا ويلتاه. قَوْله: (فِي صَلَاة) ، أَي: فِي صَيْحَة.
وَالرَّمِيمُ نَبَاتُ الأرْضِ إذَا يَبِسَ ودِيسَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} (الذاريات: 24) وَفسّر: (الرميم) بقوله: (نَبَات الأَرْض إِذا يبس) أَي: جف قَوْله: (ودبس) بِكَسْر الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة، مَجْهُول الْفِعْل الْمَاضِي من الدوس وَهُوَ وَطْء الشَّيْء بالقدم حَتَّى يتفتت، وَأَصله: دوس نقلت حَرَكَة الْوَاو إِلَى الدَّال بعد سلب ضمتها ثمَّ قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَتَفْسِيره مَنْقُول عَن الْفراء وَعَن ابْن عَبَّاس: كالرميم كالشيء الْهَالِك، وَعَن أبي الْعَالِيَة: كالتراب المدقوق، وَقيل: أَصله من الْعظم الْبَالِي.

(19/190)


لِمُوسُعُونَ أيْ لَذُو وِسْعَةٍ وَكَذَلِكَ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ يَعْنِي القَوِيِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد، وَإِنَّا لموسعون} (الذاريات: 74) وَفسّر: (الموسعون) بقوله: (لذُو سَعَة) لخلقنا وَعَن ابْن عَبَّاس: لقادرون، وَعنهُ: لموسعون الرزق على خلقنَا، وَعَن الْحسن: المطيقون. قَوْله: (وَكَذَلِكَ) {وعَلى الموسع قدره} (الْبَقَرَة: 632) أَي: وَكَذَلِكَ فِي معنى: لموسعون، قَوْله: وعَلى الموسع قدره، وَالْحَاصِل أَنه عبارَة عَن السعَة وَالْقُدْرَة.
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ) (الذاريات: 94) والزوجان: الذّكر وَالْأُنْثَى من جَمِيع الْحَيَوَانَات، وَفِي التَّفْسِير: زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين مُخْتَلفين كالسماء وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَاللَّيْل وَالنَّهَار وَالْبر وَالْبَحْر والسهل والوعر والشتاء والصيف وَالْإِنْس والجان وَالْكفْر وَالْإِيمَان والشقاوة والسعادة وَالْحق وَالْبَاطِل وَالذكر وَالْأُنْثَى وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَاخْتِلافُ الألْوَانِ حُلْوٌ وَحَامِضٌ فَهُمَا زَوْجَانِ
الظَّاهِر أَنه أَشَارَ بقوله: (وَاخْتِلَاف الألوان) إِلَى قَوْله تَعَالَى: وألوانكم فِي سُورَة الرّوم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم إِن فِي ذَلِك لآيَات للْعَالمين} (الرّوم: 22) وَمن جملَة آيَاته، عز وَجل، اخْتِلَاف ألوان بني آدم وَهُوَ الِاخْتِلَاف فِي تنويع ألوانهم إِذْ لَو تشاكلت وَكَانَت نوعا وَاحِدًا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصَالح كَثِيرَة وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الألوان فِي كل شَيْء، وَكَذَا الِاخْتِلَاف فِي المطعومات حَتَّى فِي طعوم الثِّمَار، فَإِن بَعْضهَا حُلْو وَبَعضهَا حامض، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (حُلْو وحامض) قَوْله: (فهما زوجان) ، أَي: الحلو والحامض، وَأطلق عَلَيْهِمَا زوجان لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا يُقَابل الآخر بالضدية كَمَا فِي الذّكر وَالْأُنْثَى، فَإِن الذّكر يُقَابل الْأُنْثَى بالذكورة وَهِي ضد الْأُنُوثَة وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح خُصُوصا الْمُدَّعِي مِنْهُم حرر هَذَا الْموضع.
فَفِرُّوا إلَى الله مِنَ الله إلَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَفرُّوا إِلَى الله إنى لكم مِنْهُ نَذِير مُبين} (الذاريات: 05) وَفَسرهُ بقوله: (من الله إِلَيْهِ) يَعْنِي: من مَعْصِيَته إِلَى طَاعَته أَو من عَذَابه إِلَى رَحمته، وَكَذَا قَالَه الْفراء، وَفِي التَّفْسِير أَي: فاهربوا من عَذَاب الله إِلَى ثَوَابه بِالْإِيمَان ومجانبة الْعِصْيَان. وَعَن أبي بكر الْوراق، فروا من طَاعَة الشَّيْطَان إِلَى طَاعَة الرحمان.
إلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا خَلَقَتْ أهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أهْلِ الفَرِيقَيْنِ إلاَّ لِيُوحِّدُونِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا فَفَعَلَ بَعْضٌ وَتَرَكَ بَعْضٌ وَلَيْسَ فِيهِ حُجِّةٌ لأهْلِ القَدَره.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {مَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} (الذاريات: 65) قَوْله: (إِلَّا ليعبدون) كَذَا ابْتِدَاء الْكَلَام عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر من أول الْآيَة. {مَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَالْمعْنَى بِحَسب الظَّاهِر: مَا خلقت هذَيْن الْفَرِيقَيْنِ إلاَّ ليوحدوني، وَلَكِن فسره البُخَارِيّ بقوله: مَا خلقت أهل السَّعَادَة من أهل الْفَرِيقَيْنِ أَي: الْجِنّ وَالْإِنْس إلاَّ ليوحدون، وَإِنَّمَا خصص السُّعَدَاء من الْفَرِيقَيْنِ لتظهر الْمُلَازمَة بَين الْعلَّة والمعلول، فَلَو حمل الْكَلَام على ظَاهره لوقع التَّنَافِي بَينهمَا، وَهُوَ غير جَائِز، وَعَن هَذَا قَالَ الضَّحَّاك وسُفْيَان: هَذَا خَاص لأهل عِبَادَته وطاعته، دَلِيله قِرَاءَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس من الْمُؤمنِينَ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَعْنَاهُ: إلاَّ لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إِلَيْهَا، وَاعْتمد الزّجاج على هَذَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله} (الْبَيِّنَة: 5) فَإِن قلت: كَيفَ كفرُوا وَقد خلقهمْ للإقرار بربوبيته والتذلل لأَمره ومشيته؟ قلت: قد تذللوا لقضائه الَّذِي قضى عَلَيْهِم لِأَن قَضَاءَهُ جَار عَلَيْهِم لَا يقدرُونَ على الِامْتِنَاع مِنْهُ إِذا نزل بهم، وَإِنَّمَا خَالفه من كفر فِي الْعَمَل بِمَا أَمر بِهِ، فَأَما التذلل لقضائه فَإِنَّهُ غير مُمْتَنع. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم خلقهمْ ليفعلوا) ، أَي: التَّوْحِيد فَفعل بعض مِنْهُم وَترك بعض، هَذَا قَول الْفراء. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين هذَيْن التَّأْويلَيْنِ؟ قلت: الأول لفظ عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص وَهُوَ أَن المُرَاد أهل السَّعَادَة من الْفَرِيقَيْنِ، وَالثَّانِي على عُمُومه بِمَعْنى خلقهمْ معدين لذَلِك. لَكِن مِنْهُم من أطَاع وَمِنْهُم من عصى، وَمعنى الْآيَة

(19/191)


فِي الْجُمْلَة أَن الله تَعَالَى لم يخلقهم لِلْعِبَادَةِ خلق جبلة وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا خلقهمْ لَهَا خلق تَكْلِيف واختبار. فَمن وَفقه وسدده أَقَامَ الْعِبَادَة الَّتِي خلق لَهَا، وَمن خذله وطرده حرمهَا وَعمل بِمَا خلق لَهُ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ، وَفِي نفس الْأَمر: هَذَا سر لَا يطلع عَلَيْهِ غير الله تَعَالَى، وَقَالَ: {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} (الْأَنْبِيَاء: 32) قَوْله: (وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لأهل الْقدر) ، أَي: الْمُعْتَزلَة وهم احْتَجُّوا بهَا على أَن إِرَادَة الله تَعَالَى لَا تتَعَلَّق إلاَّ بِالْخَيرِ، وَأما الشَّرّ فَلَيْسَ مرَادا لَهُ، وَأجَاب أهل السّنة بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الشَّيْء مُعَللا بِشَيْء أَن يكون ذَلِك الشَّيْء أَي: الْعلَّة مرَادا وَلَا يلْزم أَن يكون غَيره مرَادا. قَالُوا: أَفعَال الله لَا بُد أَن تكون معللة أُجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من وُقُوع التَّعْلِيل وُجُوبه، وَنحن نقُول: بِجَوَاز التَّعْلِيل قَالُوا: أَفعَال الْعباد مخلوقة لَهُم لإسناد الْعِبَادَة إِلَيْهِم أُجِيب بِأَنَّهُ لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن الْإِسْنَاد من جِهَة الْكسْب وَكَون العَبْد محلا لَهَا.
وَالذَّنُوبُ: الدَّلْوُ العَظِيمُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن للَّذين ظلمُوا ذنوبا مثل ذنُوب أَصْحَابهم فَلَا يستعجلون} (الذاريات: 95) وَهَذَا التَّفْسِير الَّذِي فسره من حَيْثُ اللُّغَة فَإِن الذُّنُوب فِي اللُّغَة: الدَّلْو الْعَظِيم، المملوء مَاء وَأهل التَّفْسِير اخْتلفُوا فَعَن مُجَاهِد: سَبِيلا، وَعَن النَّخعِيّ ظرفا وَعَن قَتَادَة وَعَطَاء، عذَابا. وَعَن الْحسن دولة، وَعَن الْكسَائي: حظاً وَعَن الْأَخْفَش نَصِيبا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ذنُوبا سَجْلاً

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير ذنوبا سجلاً، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، وَفِي بعض النّسخ وَقع هَذَا بعد قَوْله: صرة صَيْحَة، وَهُوَ تخبيط من النَّاسِخ، والسجل، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وباللام. هُوَ الدَّلْو الممتلىء مَاء. ثمَّ اسْتعْمل فِي الخظ والنصيب.
صَرَّةٍ صَيْحَةٍ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت عَجُوز عقيم} هِيَ: سارة، وَكَانَت لم تَلد قبل ذَلِك فَولدت وَهِي بنت تسع وَتِسْعين سنة، وَإِبْرَاهِيم، صلوَات الله عَلَيْهِ، يَوْمئِذٍ ابْن مائَة سنة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: والحُبكَ اسْتوَاؤُها وَحُسْنُها

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الحبك} (الذاريات: 7) وَفسّر الحبك باستواء السَّمَاء وحسنها، وَكَذَا روى ابْن أبي حَاتِم عَن الْأَشَج: حَدثنَا ابْن فُضَيْل أخبرنَا عَطاء بن السَّائِب عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالربيع: ذَات الْخلق الْحسن المستوي، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَة، وَقَالَ: ألم تَرَ إِلَى النساج نسج الثَّوْب وأجاد نسجه. قيل: مَا أحسن حبكه؟ وَعَن الْحسن: حبكت بالنجوم، وَعَن سعيد بن جُبَير: ذَات الزِّينَة، وَعَن مُجَاهِد: هُوَ المتقن الْبُنيان، وَعَن الضَّحَّاك: ذَات الطرائق وَلكنهَا تبعد عَن الْخَلَائق فَلَا يرونها.
فِي غَمْرةٍ فِي ضَلالَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قتل الخراصون الَّذين هم فِي غمرة ساهون} (الذاريات: 01، 11) وَفسّر الغمرة بالضلالة، وَقيل: الغمرة الشُّبْهَة والغفلة، وَفِي بعض النّسخ. فِي غمرة فِي ضَلَالَة يتمادون يتطاولون. قَوْله: (ساهون) ، أَي: لاهون.
وَقَالَ غَيْرُهُ: تَوَاصوْا تَوَاطَؤُا

أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أتواصوا بِهِ بل هم قوم طاغون} (الذاريات: 35) وَفسّر: (تواصوا) بقوله: (تواطؤا) وَأخرجه ابْن الْمُنْذر من طَرِيق أبي عُبَيْدَة بقوله: تواطؤوا عَلَيْهِ. وَأخرجه بَعضهم عَن بعض، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: أوصى بَعضهم بَعْضًا بالتكذيب وَتَوَاصَوْا عَلَيْهِ، وَالْألف فِيهِ التوبيخ.
وَقَالَ: مُسَوَّمَةً مُعَلَمَةً مِنَ السَّمَا

أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {لنرسل عَلَيْهِم حِجَارَة من طين مسومة عِنْد رَبك للمسرفين} (الذاريات: 33، 43) وَفسّر: (مسومة) بقوله: (معلمة من السيما) وَهِي من السومة وَهِي الْعَلامَة.
قُتِلَ الخَرَّاصُونَ: لُعِنُوا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قتل الخراصون} (الذاريات: 01) أَي: لعنُوا، وَوَقع هَذَا فِي بعض النّسخ، وَعَن ابْن عَبَّاس: الخراصون المرتابون،

(19/192)


وَعَن مُجَاهِد: هم الكهنة. وَقد وَقع هُنَا تَقْدِيم وَتَأْخِير فِي بعض التفاسير فِي النّسخ، وَلم يذكر فِي هَذِه السُّورَة حَدِيثا مَرْفُوعا وَالظَّاهِر أَنه لم يجد شَيْئا مِنْهُ على شَرطه.

25 - ( {سُورَةُ والطُّور} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة وَالطور، وَفِي بعض النّسخ سُورَة الطّور، بِدُونِ الْوَاو، وَفِي بعض النّسخ: وَمن سُورَة الطّور وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة كلهَا. وَذكر الْكَلْبِيّ أَن فِيهَا آيَة مَدَنِيَّة. وَهِي قَوْله: {إِن الَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} (الطّور: 74) زعم أَنَّهَا نزلت فِيمَن قتل ببدر من الْمُشْركين، وَهِي ألف وَخَمْسمِائة حرف، وثلاثمائة واثنتا عشرَة كلمة وتسع وَأَرْبَعُونَ آيَة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: كل جبل طور وَلَكِن الله عز وَجل، يَعْنِي بِالطورِ هُنَا الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالْأَرْضِ المقدسة وَهُوَ بمدين واسْمه زبير، وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: هما طوران، يُقَال لأَحَدهمَا طورزيتا وَللْآخر تينا لِأَنَّهُمَا ينبتان الزَّيْتُون والتين، وَلما كذب كفار مَكَّة أقسم الله بِالطورِ وَهُوَ الْجَبَل بلغَة النبط الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالْأَرْضِ المقدسة. وَقَالَ الْجَوْزِيّ: وَهُوَ طور سيناء، وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَمَوِيّ فِي كِتَابه (الْمُشْتَرك) طورزيتا مَقْصُورا علم لجبل بِقرب رَأس عين، وطورزيتا أَيْضا جبل بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس، وَفِي الْأَثر: مَاتَ بطورزيتا سَبْعُونَ ألف نَبِي قَتلهمْ الْجُوع، وَهُوَ شَرْقي وَادي سلوان، وَالطور أَيْضا علم لجبل بِعَيْنِه مطل على مَدِينَة طبرية بالأردن، وَالطور أَيْضا جبل عِنْد كورة تشْتَمل على عدَّة قرى بِأَرْض مصر بَين مصر وجبل فاران، وطور سيناء قيل: جبل بِقرب أيله، وَقيل: هُوَ بِالشَّام وسيناء حجارية، وَقيل: شجر فِيهِ وطور عَبْدَيْنِ اسْم لبلدة من نَصِيبين فِي بطن الْجَبَل المشرف عَلَيْهَا الْمُتَّصِل بجبل الجودي، وطور هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، علم لجبل مشرف فِي قبل الْبَيْت الْمُقَدّس فِيهِ فِيمَا قبل قبر هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ قَتَادَةَ مَسْطُور مَكْتُوب

أَي: قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكتاب مسطور} (الطّور: 2) أَي: مَكْتُوب، وَسقط هَذَا من رِوَايَة أبي ذَر وَثَبت للباقين فِي التَّوْحِيد وَوَصله البُخَارِيّ فِي كتاب خلق الْأَفْعَال من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الطُّورُ الجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَةِ

رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي نجيح، وَفِي (الْمُحكم) الطّور الْجَبَل وَقد غلب على طور سينا جبل بِالشَّام وَهُوَ بالسُّرْيَانيَّة طورى وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ طورى وطوراني، وَقد ذكرنَا فِيهِ غير ذَلِك عَن قريب.
رَقٍّ مَنْشُور: صَحِيفَةٍ

قَالَ مُجَاهِد أَيْضا: وَالرّق الْجلد، وَقيل: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَعَن الْكَلْبِيّ: هُوَ مَا كتب الله لمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ التَّوْرَاة ومُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، يسمع صرير الْقَلَم وَكَانَ كلما مر الْقَلَم بمَكَان حرفه إِلَى الْجَانِب الآخر كَانَ كتابا لَهُ وَجْهَان، وَقيل: دواوين الْحفظَة الَّتِي أَثْبَتَت فِيهَا أَعمال بني آدم، وَقيل: هُوَ مَا كتب الله فِي قُلُوب أوليائه من الْإِيمَان بَيَانه. قَوْله: {كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} (المجادلة: 22) .
وَالسَّقْف المَرْفُوعِ سماءٌ

سقط هَذَا لأبي ذَر، وَذكر فِي بَدْء الْخلق سَمَّاهَا سقفا لِأَنَّهَا للْأَرْض كالسقف للبيت، دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا مَحْفُوظًا} (الْأَنْبِيَاء: 23) .
المَسْجُورِ: المُوقِدِ
وَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والنسفي: الموقر، بالراء وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ: الموقد يَعْنِي بِالدَّال، وروى الطَّبَرِيّ أَيْضا من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة الْمَسْجُور المملو، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور} (الطّور: 6) هُوَ بَحر تَحت الْعَرْش غمره كَمَا بَين سبع سموات إِلَى سبع أَرضين وَهُوَ مَاء غليظ يقاله: بَحر الْحَيَوَان يمطر الْعباد بعد النفخة الأولى أَرْبَعِينَ صباحا فينبتون فِي قُبُورهم.
وَقَالَ الحَسَنُ: تُسْجَرُ حَتَّى يَذْهَبَ مَاؤُها فَلا يَبْقَى فِيهِا قَطْرَةٌ

(19/193)


أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: تسجر الْبحار حَتَّى يذهب مَاؤُهَا، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: (وَإِذا الْبحار سجرت) ، (التكوير: 6) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ألَتْناهُمْ نَقَصْناهُمْ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء} (الطّور: 12) أَي: مَا نقصناهم من الألت وَهُوَ النَّقْص والبخس، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ، عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله يرفع ذُرِّيَّة الْمُؤمن فِي دَرَجَته وَإِن كَانُوا دونه فِي الْعَمَل لتقر بهم عينه ثمَّ قَرَأَ: {وَالَّذين آمنُوا وأتبعناهم ذرياتهم} .
وَقَالَ غَيْرُهُ تَمُورُ: تَدُورُ

أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تمور السَّمَاء مورا} (الطّور: 9) أَي: تَدور دورا كدوران الرَّحَى وتكفأ بِأَهْلِهَا تكفؤ السفين ويموج بَعْضهَا فِي بعض، وأصل المور الِاخْتِلَاف وَالِاضْطِرَاب، وَجَاء عَن مُجَاهِد أَيْضا: تدرو دورا، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
أحْلامُهُمْ: العُقُولُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم تَأْمُرهُمْ أحلاهم بِهَذَا أم هم قوم طاغون} (الطّور: 23) وَهَكَذَا فسره ابْن زيد بن أسلم. ذكره الطَّبَرِيّ عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: البَرُّ اللَّطِيفُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} (الطّور: 82) وَفسّر الْبر باللطيف، وَسقط هَذَا هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَثَبت فِي التَّوْحِيد.
كِسْفا: قِطْعا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَإِن يرَوا كسفا من السَّمَاء سَاقِطا} (الطّور: 44) الْآيَة وَفسّر الكسف بِالْقطعِ، بِكَسْر الْقَاف جمع قِطْعَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة، الكسف جمع كسفة مثل السدر جمع سِدْرَة، وَإِنَّمَا ذكر قَوْله سَاقِطا على اعْتِبَار اللَّفْظ، وَمن قَرَأَ بِالسُّكُونِ على التَّوْحِيد فَجَمعه أكساف وكسوف.
المنُونُ المَوْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { (أم يَقُولُونَ شَاعِر تَتَرَبَّص بِهِ ريب الْمنون} (الطّور: 03) وَفسّر: الْمنون بِالْمَوْتِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {ريب الْمنون} قَالَ: الْمَوْت.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَتَنَازَعُونَ: يَتَعَاطَوْنَ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {يتنازعون فِيهَا كأسا لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم} (الطّور: 32) وَفسّر: (يتنازعون) بقوله: (يتعاطون) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَزَاد فِيهِ: يتداولون. قَوْله: (كأسا) أَي: إِنَاء فِيهِ خمر (لَا لَغْو فِيهَا) قَالَ قَتَادَة: هُوَ الْبَاطِل وَعَن مقَاتل بن حبَان: لَا فضول فِيهَا، وَعَن ابْن زيد: لَا سباب وَلَا تخاصم فِيهَا، وَعَن عَطاء: أَي لَغْو يكون فِي مجْلِس مَحَله جنَّة عدن والساقي فِيهِ الْمَلَائِكَة وشربهم على ذكر الله وريحانهم تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة وَالْقَوْم أضياف الله تَعَالَى؟ .

3584 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةَ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّى أشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي إلَى جَنْبِ البَيْتِ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ..
مطابقته للسورة، ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن هُوَ الْمَشْهُور بيتيم عُرْوَة بن الزبير، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا هِنْد. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ قَوْلهَا: (شَكَوْت) أَي: شَكَوْت مرضِي.

4584 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثُونِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعمٍ عَنْ أبِيهِ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَما بَلَغَ

(19/194)


هاذِهِ الآيَةَ: {أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمْ الخَالِقُونَ أمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ وَالأرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} (الطّور: 53، 73) كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ.
قَالَ سُفْيَانُ فَأمَّا أنَا فَإنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ جُبَيْرٍ بنِ مُطْعمٍ عَنْ أبِيهِ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ لَمْ أسُمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي..
مطابقته للسورة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَمُحَمّد بن جُبَير ابْن مطعم الْقرشِي أَبُو سعيد النَّوْفَلِي. يروي عَن أَبِيه جُبَير بن مطعم بن عدي بن نَوْفَل الْقرشِي النَّوْفَلِي.
قَوْله: (حَدثُونِي عَن الزُّهْرِيّ) ، اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ هُنَا بِالَّذِي رَوَاهُ من طَرِيق عبد الْجَبَّار بن الْعَلَاء وَابْن أبي عمر. كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت الزُّهْرِيّ قَالَ مُصَرحًا عَنهُ بِالسَّمَاعِ، وهما ثقتان. قيل: هَذَا لَا يرد لِأَنَّهُمَا مَا أوردا من الحَدِيث إلاَّ الْقدر الَّذِي ذكر الْحميدِي عَن سُفْيَان أَنه سَمعه من الزُّهْرِيّ بِخِلَاف الزِّيَادَة الَّتِي صرح الْحميدِي عَنهُ بِأَنَّهُ لم يسْمعهَا من الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا بلغته عَنهُ بِوَاسِطَة. قَوْله: (فَلَمَّا بلغ هَذِه الْآيَة) ، إِلَى آخر الزِّيَادَة الَّتِي قَالَ سُفْيَان إِنَّه لم يسْمعهَا عَن الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا حدثوها عَنهُ أَصْحَابه. قَوْله: (أم خلقُوا من غير شَيْء) ، كلمة أم ذكرت فِي هَذِه السُّورَة فِي خَمْسَة عشر موضعا مُتَوَالِيَة متتابعة، وَمعنى: {أم خلقُوا من غير شَيْء} (الطّور: 53) من غير تُرَاب. قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل: من غير أَب وَأم كالجماد لَا يعْقلُونَ وَلَا يقوم لله عَلَيْهِم حجَّة، أَلَيْسَ خلقُوا من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة؟ قَالَه عَطاء. وَقَالَ ابْن كيسَان: مَعْنَاهُ أم خلقُوا عَبَثا وَتركُوا سدًى لَا يؤمرون وَلَا ينهون أم هم الْخَالِقُونَ لأَنْفُسِهِمْ؟ فَإِذا بَطل الْوَجْهَانِ قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِم بِأَن لَهُم خَالِقًا. قَوْله: (أم خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض) (الطّور: 63) يَعْنِي: إِن جَازَ أَن يدعوا خلق أنفسهم فَلْيَدعُوا خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَذَلِكَ لَا يُمكنهُم، فَقَامَتْ الْحجَّة عَلَيْهِم، ثمَّ أضْرب عَن ذَلِك بقوله: (بل لَا يوقنون) إِشَارَة إِلَى أَن الْعلَّة الَّتِي عاقتهم عَن الْإِيمَان هِيَ عدم الْيَقِين الَّذِي هُوَ موهبة من الله وَفضل وَلَا يحصل إِلَّا بتوفيقه. قَوْله: (أم عِنْدهم خَزَائِن رَبك) ، (الطّور: 73) قَالَ ابْن عَبَّاس: الْمَطَر والرزق، وَعَن عِكْرِمَة: النُّبُوَّة، وَقيل: علم مَا يكون. قَوْله: (أم هم المسيطرون) ، أَي: أم هم المسلطون الجبارون، قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن عَطاء أم هم أَرْبَاب قاهرون، وَعَن أبي عُبَيْدَة تسيطرت عليّ، أَي: اتخذتني خولاً لَك. قَوْله: (قَالَ: كَاد قلبِي) ، أَي: قَالَ جُبَير بن مطعم: قَارب قلبِي الطيران، وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَ انزعاجه عِنْد سَماع الْآيَة لحسن تلقيه مَعْنَاهَا ومعرفته بِمَا تضمنته من بليغ الْحجَّة.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة. قَوْله: (لم أسمعهُ) ، أَي: لم أسمع الزُّهْرِيّ (زَاد الَّذِي قَالُوا لي) يَعْنِي: بالبلاغ، وَالضَّمِير فِي: زَاد، يرجع إِلَى الزُّهْرِيّ. وَقَوله: (الَّذِي قَالُوا لي) فِي مَحل النصب مَفْعُوله فَافْهَم.

35 - ( {سُورَةُ وَالنَّجْمِ} )

أَي: هَذَا تَفْسِير بعض سُورَة النَّجْم، وَهِي مَكِّيَّة. قَالَ مقَاتل: غير آيَة نزلت فِي نَبهَان التمار وَهِي: {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم} (النَّجْم: 23) وَفِيه رد لقَوْل أبي الْعَبَّاس فِي (مقامات التَّنْزِيل) وَغَيره. مَكِّيَّة بِلَا خلاف. وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الْإِخْلَاص وَقيل سُورَة عبس، وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة حرف، وثلاثمائة وَسِتُّونَ كلمة، وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ آيَة. وَالْوَاو فِي: والنجم، للقسم، والنجم: الثريا. قَالَه ابْن عَبَّاس وَالْعرب تسمي الثريا نجما وَإِن كَانَت فِي الْعدَد نجوما. وَعَن مُجَاهِد نُجُوم السَّمَاء كلهَا حِين تغرب لَفظه وَاحِد وَمَعْنَاهُ جمع، وسمى الْكَوْكَب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم. قَوْله: {إِذا هوى} أَي: إِذا غَابَ وَسقط قَوْله: {مَا ضل صَاحبكُم} جَوَاب الْقسم والصاحب هُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر. وَلم يثبت لغيره أَيْضا لفظ: سُورَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَو مِرَّةٍ: ذُو قُوَّةٍ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ذُو مرّة فَاسْتَوَى} (النَّجْم: 6) أَي: ذُو قُوَّة شَدِيدَة، وَعَن أبي عُبَيْدَة: ذُو شدَّة، وَهُوَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَعَن عَبَّاس: ذُو خلق حسن، وَعَن الْكَلْبِيّ: من قُوَّة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه اقتلع قريات قوم لوط، عَلَيْهِ السَّلَام، من المَاء الْأسود وَحملهَا على جنَاحه ورفعها إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَلبهَا، وأصل الْمرة من أمررت الْحَبل إِذا أحكمت فتله. قَوْله: (فَاسْتَوَى) يَعْنِي: جِبْرِيل، وَهوى. أَي: مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، يَعْنِي: اسْتَوَى مَعَ مُحَمَّد، عَلَيْهِمَا السَّلَام، لَيْلَة الْمِعْرَاج بالأفق الْأَعْلَى وَهُوَ أقْصَى الدُّنْيَا

(19/195)


عِنْد مطلع الشَّمْس فِي السَّمَاء.
قَابَ قَوْسَيْنِ حَيْثُ الوَتَرُ مِنَ القَوْسِ

هَذَا سقط من أبي ذَر، وَعَن أبي عُبَيْدَة، أَي قدر قوسين أَو أدنى، أَي: أقرب، وَعَن الضَّحَّاك، ثمَّ دنا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ربه عز وَجل فَتَدَلَّى فَأَهوى بِالسُّجُود، فَكَانَ مِنْهُ قاب قوسين أَو أدنى، وَقيل: مَعْنَاهُ بل أدنى أَي: بل أقرب مِنْهُ، وَقيل: ثمَّ دنى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سَاق الْعَرْش فَتَدَلَّى أَي: جَاوز الْحجب والسرادقات لَا نقلة مَكَان وَهُوَ قَائِم بِإِذن الله، عز وَجل، وَهُوَ كالمتعلق بالشَّيْء لَا يثبت قدمه على مَكَان، والقاب والقاد والقيد، عبارَة عَن مِقْدَار الشَّيْء، والقاب مَا بَين القبضة والشية من الْقوس، وَقَالَ الواحدي: هَذَا قَول جُمْهُور الْمُفَسّرين إِن المُرَاد الْقوس الَّتِي يرْمى بهَا. قَالَ: وَقيل: المُرَاد بهَا الذِّرَاع لِأَنَّهُ يُقَاس بهَا الشَّيْء. قلت: يدل على صِحَة هَذَا القَوْل مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: القاب الْقدر، والقوسين الذراعين، وَقد قيل: إِنَّه على الْقلب، وَالْمرَاد: فَكَانَ قابي قَوس.
ضِيزَى: عَوْجَاءُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزي} (النَّجْم: 22) وَفَسرهُ بقوله: (عوجاء) وَهُوَ مَرْوِيّ عَن مقَاتل، وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: قسْمَة جائرة حَيْثُ جعلتم لربكم من الْوَلَد مَا تَكْرَهُونَ لأنفسكم وَعَن ابْن سِيرِين: غير مستوية أَن يكون لكم الذّكر وَللَّه الْإِنَاث تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا.
وَأَكْدَى قَطَعَ عَطَاءَهُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت الَّذِي تولى وَأعْطى قَلِيلا وأكدى} (النَّجْم: 33، 43) وَفسّر: (أكدى) بقوله: (قطع عطاءه) نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. قَالَ مقَاتل: يَعْنِي أعْطى الْوَلِيد قَلِيلا من الْخَيْر بِلِسَانِهِ ثمَّ أكدى، أَي: قطعه وَلم يتم عَلَيْهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ والكلبي وَالْمُسَيب بن شريك. نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، وَله قصَّة تركناها لطولها، وأصل أكدى، من الكدية وَهُوَ حجر يظْهر فِي الْبِئْر وَيمْنَع من الْحفر ويوئس من المَاء، وَيُقَال: كديت أَصَابِعه إِذا بخلت، وكديت يَده إِذا كلت فَلم تعْمل شَيْئا.
رَبُّ الشِّعْرَى: هُوَ مِرْزَمُ الجَوْزَاءِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ هُوَ رب الشعرى} (النَّجْم: 94) وَقَالَ الشعرى مرزم الجوزاء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الزَّاي وَهُوَ الْكَوْكَب الَّذِي يطلع وَرَاء الجوزاء، وهما شعريان: الغميصاء، مصغر الغمصاء بالغين الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْملَة وبالمد، والعبور. فَالْأولى فِي الْأسد وَالثَّانِي فِي الجوزاء، وَكَانَت خُزَاعَة تعبد الشعرى العبور. وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي فِي (كتاب الأنواء) الْعذرَة والشعرى العبور والجوزاء فِي نسق وَاحِد، وَهن نُجُوم مَشْهُورَة، قَالَ: وللشعرى ثَلَاثَة أزمان إِذا رؤيت غدْوَة طالعة فَذَاك صميم الْحر، وَإِذا رؤيت عشيا طالعة فَذَاك صميم الْبرد، وَلها زمَان ثَالِث وَهُوَ وَقت نوئها وَأحد كوكبي الذِّرَاع المقبوضة هِيَ الشعرى الغميصاء، وَهِي تقَابل الشعرى العبور والمجرة بَينهمَا، وَيُقَال لكوكبها الآخر الشمالي المرزم، مرزم الذِّرَاع، وهما مرزمان هَذَا وَالْآخر فِي الجوزاء، وَكَانَت الْعَرَب تَقول: انحدر سُهَيْل فَصَارَ يَمَانِيا فتبعته الشعرى فعبرت إِلَيْهِ المجرة. وأقامت الغميصاء بَكت عَلَيْهِ حَتَّى غمصت عينهَا. قَالَ: والشعريان الغميصاء والعبور يطلعان مَعًا.
الَّذِي وَفَّى وَفَّى مَا فَرِضَ عَلَيْهِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى} (النَّجْم: 73) وَفسّر قَوْله: {إِبْرَاهِيم الَّذِي وفى} بقوله: وفَّى مَا فرض عَلَيْهِ من الْأَمر، ووفى بِالتَّشْدِيدِ أبلغ من وفى بِالتَّخْفِيفِ، لِأَن بَاب التفعيل فِيهِ الْمُبَالغَة، وَعَن ابْن عَبَّاس وَأبي الْعَالِيَة: أوفى أدّى {إِن لَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461) وَعَن الزّجاج: وَفِي بِمَا أَمر بِهِ وَمَا امتحن بِهِ من ذبح وَلَده وَعَذَاب قومه.
أزِفَتِ الآزِفَةُ: اقْتَرَبَتِ السَّاَعة

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أزفت الآزفة لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة} (النَّجْم: 75، 85) وَفسّر قَوْله تَعَالَى: {أزفت الآزفة} بقوله: (اقْتَرَبت السَّاعَة) وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد كَذَلِك، وَسقط هَذَا هُنَا فِي رِوَايَة أبي ذَر. وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (كاشفة) ، أَي: مظهرة مُقِيمَة، وَالْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة.
سَامِدُونَ البَرْطَمَةُ، وَقَالَ عِكْرَمَةُ يَتَغَنَّوْن بِالحِمْيَرِيَة

(19/196)


أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {تضحكون وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُم سامدون} (النَّجْم: 01، 16) وَقَالَ: (سامدون البرطمة) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَالْمِيم، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والأصيلي والقابسي، البرطنة، بالنُّون بدل الْمِيم، وَمَعْنَاهُ الْإِعْرَاض، وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: البرطمة هَكَذَا وَوضع ذقنه فِي صَدره، وَعَن مُجَاهِد: سامدون غضاب متبرطمون، فَقيل لَهُ: مَا البرطمة، فَقَالَ الْإِعْرَاض، وَيُقَال: البرطمة الانتفاخ من الْغَضَب، وَرجل مبرطم متكبر، وَقيل: هُوَ الْغناء الَّذِي لَا يفهم، وَفِي التَّفْسِير: سامدون لاهون غافلون، يُقَال: دع عَنْك سمودك. أَي: لهوك، وَهُوَ لُغَة أهل الْيمن للاَّهي، وَعَن الضَّحَّاك: أشرون بطرون. قَوْله: (وَقَالَ عِكْرِمَة) ، هُوَ مولى ابْن عَبَّاس: معنى سامدون يتغنون بلغَة الْحمير، رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره عَن ابْن أبي نجيح عَن عِكْرِمَة.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ أفَتُمَارُونَهُ أفَتُجادِلُونَهُ وَمَنْ قَرَأَ أَفَتَمْرُونَهُ يَعْنِي أفَتَجْحَدُونَهُ.
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {أفتمارونه على مَا يرى} وَفَسرهُ بقوله: (أفتجادلونه) من المراء وَهُوَ الملاحاة والمجادلة، واشتقاقه من مري النَّاقة كَانَ كل وَاحِد من المتجادلين يمري مَا عِنْد صَاحبه، وَيُقَال: مريت النَّاقة مريا إِذا مسحت ضرْعهَا لندر، وَهَكَذَا رَوَاهُ قوم مِنْهُم سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم. قَوْله: (وَمن قَرَأَ: افتمرونه) ، بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْمِيم وَهِي قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَخلف وَيَعْقُوب على معنى: أفتجحدونه، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَة. وَقَالَ لأَنهم لم يماروه وَإِنَّمَا جَحَدُوا. وَتقول الْعَرَب: مريت الرجل حَقه إِذا جحدته، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: أفتجحدون، بِغَيْر ضمير.
مَا زَاغَ البَصَرُ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا طَغَى وَلا جَاوَزَ مَا رَأَى

هَذَا ظَاهر. وَفِي التَّفْسِير أَي: مَا جَاوز مَا أَمر بِهِ وَلَا مَال عَمَّا قصد لَهُ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ: مَا زاغ الْبَصَر، وَلم يعين الْقَائِل، وَهُوَ قَول الْفراء، يُقَال مَا عدل يَمِينا وَلَا شمالاً وَلَا زَاد وَلَا تجَاوز، وَهَذَا وصف أدب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَتَمَارَوْا: كَذَبُوا

هَذَا لَيْسَ فِي هَذِه السُّورَة بل فِي سُورَة الْقَمَر الَّتِي تلِي هَذِه السُّورَة، وَلَعَلَّ هَذَا من تخبيط النساخ، وَمعنى: (تماروا: كذبُوا) وَقَالَ الْكرْمَانِي: تتمارى تكذب، وَقَالَ بَعضهم بعد أَن نقل كَلَام الْكرْمَانِي: وَلم أَقف عَلَيْهِ. قلت: لَا حَاجَة إِلَى وُقُوفه عَلَيْهِ، بل هَذِه اللَّفْظَة فِي هَذِه السُّورَة. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَي آلَاء رَبك تمّارى} (النَّجْم: 55) أَي: فَبِأَي نعمائه عَلَيْك تتمارى أَي: تشك وتجادل، وَالْخطاب للْإنْسَان على الْإِطْلَاق وَفِي (تَفْسِير النَّفْسِيّ) الْخطاب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يُعجبنِي هَذَا. وَالله أعلم.
وَقَالَ الحَسَنُ: إذَا هَوَى: غَابَ

أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {والنجم إِذا هوى} (النَّجْم: 1) مَعْنَاهُ: إِذا غَابَ، وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة عَن الْحسن، وَيُقَال: إِذا سقط الْهوى السُّقُوط وَالنُّزُول، يُقَال: هوى يهوي هويا، مثل مضى يمْضِي مضيا، وَعَن جَعْفَر الصَّادِق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ {والنجم إِذا هوى} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نزل من السَّمَاء لَيْلَة الْمِعْرَاج.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أغْنَى وَأفْنَى: أعْطَى فَأرْضَى

أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَإنَّهُ أغْنى وأقنى} (النَّجْم: 84) وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَعَن أبي صَالح: غنى النَّاس بِالْمَالِ، وأفنى أعْطى الْقنية وأصول الْأَمْوَال، وَقَالَ الضَّحَّاك: أَعنِي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وصنوف الْأَمْوَال، وأقنى بِالْإِبِلِ وَالْبَقر وَالْغنم. وَعَن ابْن زيد: أغْنى أَكثر وأفنى أقل، وَعَن الْأَخْفَش: أفنى أفقر، وَعَن ابْن كيسَان أولد.

5584 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بنِ أبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِر عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا يَا امتاهْ هَلْ رَأي مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ أيْنَ أنْتَ مِنْ ثَلاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ

(19/197)


ثُمَّ قَرَأْت: {لَا تُدْرِكَهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الْأَنْعَام: 301) . {وَمَا كَانَ لِبَشَرِ أنْ يُكَلِّمَهُ الله إلاَّ وَحْيا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الشورى: 15) وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا} (لُقْمَان: 43) وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأْت: {يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الْمَائِدَة: 76) الآيَةَ وَلاكِنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلامُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ..
مطابقته للسورة ظَاهِرَة. وَيحيى هَذَا إِمَّا ابْن مُوسَى الختي بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَإِمَّا ابْن جَعْفَر الْبَلْخِي البيكندي، وعامر هُوَ الشّعبِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي التَّوْحِيد مُطلقًا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا وَقَالَ مُحَمَّد إِلَى آخِره وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَغَيره.
قَوْله: (يَا أمتاه) ، بِزِيَادَة الْألف وَالْهَاء، وَقَالَ الْخطابِيّ: هم يَقُولُونَ فِي النداء: يَا أبه أمه إِذا وقفُوا فَإِذا وصلوا قَالُوا: يَا أَبَت وَيَا أمت، وَإِذا فتحُوا للنعدبة قَالُوا: يَا أبتاه وَيَا أمتاه، وَالْهَاء الْوَقْف. وَقَالَ الْكرْمَانِي، هَذَا لَيْسَ من بَاب الندبة إِذْ لَيْسَ ذَلِك تفجعا عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعضهم: أَصله يَا أم فأضيف إِلَيْهَا ألف الاستغاثة فأبدلت تَاء وزيدت هَاء السكت بعد الْألف. قلت: لم يقل أحد مِمَّن يُؤْخَذ عَنهُ أَن الْألف فِيهِ للاستغاثة وَأَيْنَ الاستغاثة هَاهُنَا. قَوْله: (لقد قف شعري) ، أَي: قَامَ من الْفَزع لما حصل عِنْدهَا من هَيْبَة الله عز وَجل، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: القفة: بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء، كالقشعريرة وَأَصله التقبض والاجتماع لِأَن الْجلد ينقبض عِنْد الْفَزع فَيقوم الشّعْر لذَلِك. قَوْله: (أَيْن أَنْت من ثَلَاث) ، أَي: أَيْن فهمك يغيب من استحضار ثَلَاثَة أَشْيَاء؟ فَيَنْبَغِي لَك أَن تستحضرها ليحبط علمك بكذب من يَدعِي وُقُوعهَا. قَوْله: (من حدثكهن) ، أَي: من حَدثَك هَذِه الثَّلَاث فقد كذب. قَوْله: (من حَدثَك أَن مُحَمَّدًا رأى ربه) ، هَذَا هُوَ الأول من الثَّلَاث وَهُوَ أَن من يخبر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى ربه يَعْنِي لَيْلَة الْمِعْرَاج فقد كذب فِي إخْبَاره، ثمَّ استدلت عَائِشَة على نفي الرُّؤْيَة بالآيتين المذكورتين إِحْدَاهمَا هُوَ قَوْله: (لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار) وَجه الِاسْتِدْلَال بهَا أَن الله عز وَجل نفى أَن تُدْرِكهُ الْأَبْصَار، وَعدم الْإِدْرَاك يَقْتَضِي نفي الرُّؤْيَة بِأَن المُرَاد بالإدراك الْإِحَاطَة وهم يَقُولُونَ بِهَذَا أَيْضا وَعدم الْإِحَاطَة لَا يسْتَلْزم نفي الرُّؤْيَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لم تنف عَائِشَة الرُّؤْيَة بِحَدِيث مَرْفُوع، وَلَو كَانَ مَعهَا فِي حَدِيث لذكرته، وَإِنَّمَا اعتمدت الاستنباط على مَا ذكرت من ظَاهر الْآيَة، قد خالفها غَيرهَا من الصَّحَابَة، والصحابي إِذا قَالَ قولا وَخَالفهُ غَيره مِنْهُم لم يكن ذَلِك القَوْل حجَّة اتِّفَاقًا، وَقد خَالف عَائِشَة ابْن عَبَّاس فَأخْرج التِّرْمِذِيّ من طَرِيق الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه قلت: أَلَيْسَ الله يَقُول: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} قَالَ: وَيحك ذَاك إِذا تجلى بنوره الَّذِي هُوَ نوره، وَقد رأى ربه مرَّتَيْنِ، وروى ابْن خُزَيْمَة بِإِسْنَاد قوي عَن أنس. قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه، وَبِه قَالَ سَائِر أَصْحَاب ابْن عَبَّاس وَكَعب الْأَحْبَار وَالزهْرِيّ وَصَاحب معمر وَآخَرُونَ، وَحكى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن أَنه حلف أَن مُحَمَّدًا رأى ربه، وَأخرج ابْن خُزَيْمَة عَن عُرْوَة بن الزبير إِثْبَاتهَا وَكَانَ يشْتَد عَلَيْهِ إِذا ذكر لَهُ إِنْكَار عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وغالب اتِّبَاعه. قَوْله: (وَمَا كَانَ لبشر) الْآيَة هِيَ الْآيَة الثَّانِيَة الَّتِي استدلت بهَا عَائِشَة على نفي الرُّؤْيَة، وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن الله تَعَالَى حصر تكليمه لغيره فِي ثَلَاثَة أوجه وَهِي الْوَحْي بِأَن يلقِي فِي روعه مَا يَشَاء أَو يكلمهُ بِغَيْر وَاسِطَة من وَرَاء حجاب، أَو يُرْسل إِلَيْهِ رَسُولا فيبلغه عَنهُ فيستلزم ذَلِك انْتِفَاء الرُّؤْيَة عَنهُ حَالَة التَّكَلُّم، وَأَجَابُوا عَنهُ أَن ذَلِك لَا يسْتَلْزم نفي الرُّؤْيَة مُطلقًا، وَغَايَة مَا يَقْتَضِي نفي تكليم الله على غير هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة فَيجوز أَن التكليم لم يَقع حَالَة الرُّؤْيَة قَوْله: {وَمن حَدثَك أَنه يعلم مَا فِي غَد فقد كذب} هَذَا هُوَ الثُّلُث من الثَّلَاث الْمَذْكُورَة. واستدلت: على ذَلِك بقوله تَعَالَى: (وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا) قَوْله: (وَمن حَدثَك أَنه فقد كذب) هَذَا هُوَ الثَّالِث من الثَّلَاث الْمَذْكُورَة أَي: وَمن حَدثَك بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتم شَيْئا من الَّذِي شرع الله تَعَالَى لَهُ فقد كذب لِأَنَّهُ رَسُول مَأْمُور بالتبليغ فَلَيْسَ لَهُ كتم شَيْء من ذَلِك واستدلت على ذَلِك بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} ، قَوْله: {وَلكنه رأى جبرايل} هَكَذَا، رِوَايَة

(19/198)


الْكشميهني لكنه بالضمير، وَفِي رِوَايَة غَيره وَلَكِن بِدُونِ الضَّمِير، وَلما نفت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه بِعَيْنِه فِي سُؤال مَسْرُوق عَنْهَا عَن ذَلِك استدركت بقولِهَا لَكِن رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي صورته مرَّتَيْنِ، وأشارت بذلك إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} (النَّجْم: 31) قَالَ الثَّعْلَبِيّ أَي: مرّة أُخْرَى سَمَّاهَا نزلة على الِاسْتِعَارَة، وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ مرّة بِالْأَرْضِ فِي الْأُفق الْأَعْلَى، وَمرَّة فِي السَّمَاء عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَهَذَا قَول عَائِشَة، وَأكْثر الْعلمَاء وَهُوَ الِاخْتِيَار لِأَنَّهُ قرن الرُّؤْيَة بِالْمَكَانِ، فَقَالَ: عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَلِأَنَّهُ قَالَ: نزلة أُخْرَى، وَوصف الله تَعَالَى بِالْمَكَانِ وَالنُّزُول الَّذِي هُوَ الِانْتِقَال محَال. فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين نفي عَائِشَة الرُّؤْيَة وَإِثْبَات ابْن عَبَّاس إِيَّاهَا.
قلت: وَيحمل نَفيهَا على رُؤْيَة الْبَصَر وإثباته على رُؤْيَة الْقلب، وَالدَّلِيل على هَذَا مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق أبي الْعَالِيَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى وَلَقَد رآره نزلة أُخْرَى} قَالَ: رأى ربه بفؤاده مرَّتَيْنِ، وَله من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِه، وأصرح من ذَلِك مَا أخرجه ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق عَطاء أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لم يره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَيْنِه إِنَّمَا رَآهُ بِقَلْبِه، وَقد رجح الْقُرْطُبِيّ قَول الْوَقْف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَعَزاهُ لجَماعَة من الْمُحَقِّقين، وقوَّاه لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَاب دَلِيل قَاطع، وَغَايَة مَا اسْتدلَّ بِهِ للطائفتين، ظواهر متعارضة قَابِلَة للتأويل. قَالَ: وَلَيْسَت الْمَسْأَلَة من العمليات فيكتفي فِيهَا بالأدلة الظنية، وَإِنَّمَا هِيَ من المعتقدات فَلَا يَكْتَفِي فِيهَا إلاَّ بِالدَّلِيلِ الْقطعِي، وَمَال ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوْحِيد إِلَّا الْإِثْبَات وَأَطْنَبَ فِي الِاسْتِدْلَال، وَحمل مَا ورد عَن ابْن عَبَّاس على أَن الرُّؤْيَا وَقعت مرَّتَيْنِ: مرّة بِعَيْنِه وَمرَّة بِقَلْبِه، وَالله أعلم.

(بابٌ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى} (النَّجْم: 9) حَيْثُ الوَتْرُ مِنَ القَوْسِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده، وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ بَاب وَقد تقدم تَفْسِيره قَرِيبا عَن مُجَاهِد.

6584 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ حدَّثنا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ زِرا عنْ عَبْدِ الله: {فَكَانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النَّجْم: 9، 01) قَالَ حَدَّثنا ابنُ مَسْعُودٍ أنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتْمِائَةِ جَناحٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد، والشيباني هُوَ سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَيْرُوز أَبُو إِسْحَاق الْكُوفِي، وزر، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الرَّاء، هُوَ ابْن حُبَيْش، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب بَدْء الْوَحْي فِي: بَاب الْمَلَائِكَة.
قَوْله: (عَن عبد الله {فَكَانَ قاب قوسين} ) أَرَادَ أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ فِي تَفْسِير هَاتين الْآيَتَيْنِ مَا سأذكره ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: حَدثنَا ابْن مَسْعُود إِلَى آخِره. قَوْله: (رأى جِبْرِيل) ، أَي: رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (سِتّمائَة جنَاح) ، جملَة إسمية، وَقعت حَالا بِدُونِ الْوَاو، وَرُوِيَ فِي غير رِوَايَة البُخَارِيّ: يَتَنَاثَر من ريشه الدّرّ والياقوت، وَأخرجه النَّسَائِيّ بِلَفْظ يَتَنَاثَر مِنْهَا تهاويل الدّرّ والياقوت. قلت: التهاويل الْأَشْيَاء الْمُخْتَلفَة الألوان كَانَ وَاحِدهَا تهوال وَأَصله مِمَّا يهول الْإِنْسَان ويحيره.

(بابٌ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النَّجْم: 01)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (فَأوحى) ، يَعْنِي: أوحى الله تَعَالَى إِلَى عَبده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الْحسن وَالربيع وَابْن زيد مَعْنَاهُ: فَأوحى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى مُحَمَّد مَا أُوحِي إِلَيْهِ ربه، وَعَن سعيد بن جُبَير: أوحى إِلَيْهِ الله {ألم يجدك يَتِيما} (الضُّحَى: 6) إِلَى قَوْله: {رفعنَا لَك ذكرك} (الشَّرْح: 4) وَقيل: أوحى إِلَيْهِ أَن الْجنَّة مُحرمَة على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَتَّى تدْخلهَا وعَلى الْأُمَم حَتَّى تدْخلهَا أمتك.

7584 - حدَّثنا طَلْقُ بنُ غَنَّامٍ حدَّثنا زَائِدَةُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ سَأَلْتُ زِرا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

(19/199)


{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النَّجْم: 9، 01) قَالَ أخْبَرنَا عَبْدُ الله أنَّ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمَائَةِ جَناحٍ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن طلق، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالقاف ابْن غَنَّام، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون أَبُو مُحَمَّد النَّخعِيّ الْكُوفِي عَن زَائِدَة بن قدامَة الْكُوفِي عَن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (أخبرنَا عبد الله) ، هُوَ عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (أَن مُحَمَّدًا) ، هَذَا هَكَذَا رِوَايَة أبي ذَر، وَعند غَيره أَنه مُحَمَّد. أَي: أَن العَبْد الْمَذْكُور فِي قَوْله: عز وَجل، إِلَى عَبده، وَحَاصِل هَذَا أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يذهب فِي ذَلِك إِلَى أَن الَّذِي رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا ذهبت إِلَى ذَلِك عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَالتَّقْدِير على رَأْيه فَأوحى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى عَبده أَي: عبد الله مُحَمَّد لِأَنَّهُ يرى أَن الَّذِي دني فَتَدَلَّى هُوَ جِبْرِيل وَأَنه هُوَ الَّذِي أوحى إِلَى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

5 - (بابٌ: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النَّجْم: 81)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ بَاب: وَهَذِه التَّرْجَمَة لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (لقد رأى) ، أَي: مُحَمَّد رفرفا أَخْضَر من الْجنَّة سد الْأُفق، وَعَن الضَّحَّاك: سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَعَن مقَاتل: رأى جِبْرِيل فِي صورته الَّتِي تكون فِي السَّمَوَات، وَقيل: الْمِعْرَاج وَمَا رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي مسراه فِي بدئه وَعوده.

8584 - حدَّثنا قَبِيصَةُ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عنهُ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى قَالَ: رَأَى رَفْرَفا أخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفْقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ.
قَوْله: (عَن عبد الله) ، أَي: عَن عبد الله بن مَسْعُود فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة. قَوْله: (رأى رفرفا) ، الخ ظَاهره يغاير قَوْله فِي الحَدِيث السَّابِق، وَهُوَ قَوْله: رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، لَهُ سِتّمائَة جنَاح، وَلَكِن يُوضح المُرَاد حَدِيث النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن عبد الله عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: أبصرني الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِبْرِيل على رَفْرَف مَلأ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فَيجمع بَينهمَا أَن الْمَوْصُوف جِبْرِيل وَالصّفة هِيَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا والرفرف هُوَ الْحلَّة، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن ابْن مَسْعُود: رأى جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي حلَّة من رَفْرَف قد مَلأ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف خضر} (الرحمان: 67) وأصل الرفرف مَا كَانَ من الديباج رَقِيقا حسن الصَّنْعَة ثمَّ اشْتهر اسْتِعْمَاله فِي السّتْر. وَكلما فضل من شَيْء فعطف وثنى فَهُوَ رَفْرَف، وَيُقَال: رَفْرَف الطَّائِر بجناحيه إِذا بسطهما. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرفرف الْبسَاط، وَقيل: الْفراش، وَقيل: ثوب كَانَ لباسا لَهُ. قلت: جَاءَ فِي حَدِيث آخر، رأى جِبْرِيل فِي حلتي رَفْرَف، وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف} هِيَ رياض الْجنَّة، وَهُوَ جمع رفرفة والرفارف جمع الْجمع، وَعنهُ: الرفرف فضول الْمجَالِس والبسط، وَعَن قَتَادَة وَالضَّحَّاك: مجَالِس خضر فَوق الْفرش الْحسن، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هُوَ الْبسط، وَعَن ابْن عُيَيْنَة: هُوَ الزرابي، وَعَن ابْن كيسَان: الْمرَافِق، وَعَن ابْن أبي عُبَيْدَة: حَاشِيَة الثَّوْب، وَقيل: كل ثوب عريض عِنْد الْعَرَب فَهُوَ رَفْرَف.

2 - (بابٌ: {أفَرَأَيْتُمُ اللاتَ والعُزَّى} (النَّجْم: 91)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى} وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ بَاب: وَاللات مَأْخُوذ من لَفْظَة الله ثمَّ ألحقت بهَا تَاء التَّأْنِيث، فأنثت، كَمَا قيل للرجل عَمْرو ثمَّ يُقَال للْأُنْثَى عمْرَة كَذَا قَالَه الثَّعْلَبِيّ، وَقيل: أَرَادوا أَن يسمعوا إلاههم الْبَاطِل باسم الله فَصَرفهُ الله تَعَالَى إِلَى اللات صونا لَهُ وحفظا لِحُرْمَتِهِ، وَفِي التَّفْسِير: كَانَت اللات صَخْرَة بِالطَّائِف. وَعَن ابْن زيد: بَيت بنخلة كَانَت قُرَيْش تعبده، والعزى شَجَرَة لغطفان يعبدونها، قَالَه مُجَاهِد. قلت: هِيَ الَّتِي بعث إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِد بن الْوَلِيد فقطعها وَله قصَّة مَشْهُورَة، وَعَن الضَّحَّاك: صنم لغطفان وَضعهَا لَهُم سعد بن ظَالِم الْغَطَفَانِي، وَعَن ابْن زيد بَيت بِالطَّائِف كَانَت ثَقِيف تعبده.

(19/200)


9584 - حدَّثنا مُسْلِمٌ حدَّثنا أبُو الأشْهَبِ حدَّثنا أبُو الجَوْزَاءِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: {اللاَّتَ وَالعُزَّى} كانَ الَّلاتُ رَجلاً يَلُتُ سَوِيقَ الحاجِّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَفِي بعض النّسخ إِبْرَاهِيم مَذْكُور، وَأَبُو الْأَشْهب اسْمه جَعْفَر بن حَيَّان العطاردي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو الجوزاء، بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة وَسُكُون الْوَاو وبالزاي وَالْمدّ اسْمه: أَوْس بن عبد الله الربعِي، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ قتل عَام الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
قَوْله: (عَن ابْن عَبَّاس) ، فِي قَوْله: لفظ: وَفِي قَوْله: سقط لغير أبي ذَر وَأَرَادَ أَبُو الجوزاء أَن ابْن عَبَّاس قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى} (النَّجْم: 91) كَانَ اللات رجلا يلت سويق الْحَاج: وَهَذَا مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الزّجاج: قرىء اللات بتَشْديد التَّاء زَعَمُوا أَن رجلا كَانَ يلت السويق ويبيعه عِنْد ذَلِك الصَّنَم فَسُمي الصَّنَم اللات بتَشْديد التَّاء وَالْأَكْثَر بتَخْفِيف التَّاء، وَكَانَ الْكسَائي يقف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ اللاه وَهَذَا قِيَاس والأجود فِي هَذَا اتِّبَاع الْمُصحف وَالْوَقْف عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَفِي (غرر التِّبْيَان) اللات فعله من لوى لأَنهم كَانُوا يلوون عَلَيْهَا أَي: يطوفون، وَزعم السُّهيْلي أَن أصل هَذَا الرجل يَعْنِي فِي قَول ابْن عَبَّاس كَانَ اللات رجلا كَانَ يلت السويق للْحَاج إِذا قدمُوا وَكَانَت الْعَرَب تعظم هَذَا الرجل بإطعامه النَّاس فِي كل موسم، وَيُقَال: إِنَّه عَمْرو بن لحى قَالَ: وَيُقَال: هُوَ ربيعَة بن حَارِثَة، وَهُوَ وَالِد خُزَاعَة وعمّر عمرا طَويلا فَلَمَّا مَاتَ اتَّخذُوا مَقْعَده الَّذِي كَانَ يلت فِيهِ السويق منسكا ثمَّ سنح الْأَمر بهم إِلَى أَن عبدُوا تِلْكَ الصَّخْرَة الَّتِي كَانَ يقْعد عَلَيْهَا ومثلوها صنما وسموها اللات اشتق لَهَا من اللَّاتِي أَعنِي: لت السويق وَكَانَت بِالطَّائِف، وَقيل: فِي طَرِيقه، وَقيل: كَانَت بِمَكَّة وَقَالَ قَتَادَة كَانَت بنخلة.

0684 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ أخْبَرنا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ حُمَيْدٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَالَّلاتِ وَالعُزَّيَ فَلْيَقُلْ لَا إلاه إلاَّ الله وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرُكَ فَلْيَتَصَدَّقْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق وَفِي الاسْتِئْذَان عَن يحيى بن بكير، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن أبي الطَّاهِر وحرملة وَعَن سُوَيْد بن سعيد وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن كثير بن عبيد وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن وحيم.
قَوْله: (من حلف) ، إِلَى آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: الْيَمين إِنَّمَا يكون بالمعبود الَّذِي يعظم فَإِذا حلف بهَا فقد ضاهى الْكفَّار فِي ذَلِك فَأمر أَن يتداركه بِكَلِمَة التَّوْحِيد، وَأما قَوْله: (فليتصدق) فَمَعْنَاه يتَصَدَّق بِالْمَالِ الَّذِي يُرِيد أَن يقامر عَلَيْهِ، وَقيل: يتَصَدَّق بِصَدقَة من مَاله كَفَّارَة لما جرى على لِسَانه من هَذَا القَوْل. قَوْله: (فَقَالَ فِي حلفه) ، أَي: فِي يَمِينه، وَالْحلف بِفَتْح الْحَاء وَكسر اللَّام وإسكانها أَيْضا وَالْحلف بِكَسْر الْحَاء وَإِسْكَان اللَّام الْعَهْد. قَوْله: (فَلْيقل لَا إلاه إِلَّا الله) إِنَّمَا أمره بذلك لِأَنَّهُ تعاطى تَعْظِيم الْأَصْنَام. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا إِذا حلف بِاللات أَو غَيرهَا من الْأَصْنَام أَو قَالَ: إِن فعلت كَذَا فَأَنا بعد يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو بَرِيء من الْإِسْلَام أَو من سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَحْو ذَلِك لم ينْعَقد يَمِينه بل عَلَيْهِ أَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَيَقُول: لَا إلاه إِلَّا الله وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ سَوَاء فعله أم لَا. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وجماهير الْعلمَاء، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجب الْكَفَّارَة فِي كل ذَلِك إلاَّ فِي قَوْله: أَنا مُبْتَدع أَو بَرِيء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو الْيَهُودِيَّة انْتهى. وَفِي (فَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة) وَلَو قَالَ: هُوَ يَهُودِيّ أَو بَرِيء من الْإِسْلَام أَن فعل كَذَا عندنَا يكون يَمِينا. فَإِذا فعل ذَلِك الْفِعْل هَل يصير كَافِرًا هَذَا على وَجْهَيْن: إِن حلف بِهَذِهِ

(19/201)


الْأَلْفَاظ وعلق بِفعل مَاض وَهُوَ عَالم وَقت الْيَمين أَنه كَاذِب اخْتلفُوا فِيهِ. قَالَ بَعضهم: يصير كَافِرًا لِأَنَّهُ تَعْلِيق بِشَرْط كَائِن وَهُوَ تَنْجِيز، وَقَالَ بَعضهم: لَا يكفر وَلَا يلْزمه الْكَفَّارَة، وَإِلَيْهِ مَال شيخ الْإِسْلَام خُوَاهَر زَاده، وَإِن حلف بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ على أَمر مُسْتَقْبل. قَالَ بَعضهم: لَا يكفر وَيلْزمهُ الْكفَّار، وَالصَّحِيح مَا قَالَه السَّرخسِيّ أَنه ينظر إِن كَانَ فِي اعْتِقَاد الْحَالِف أَنه لَو حلف بذلك على أَمر فِي الْمَاضِي يصير كَافِرًا فِي الْحَال. وَإِن لم يكن فِي اعْتِقَاده ذَلِك لَا يكفر، سَوَاء كَانَت الْيَمين على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل أَو فِي الْمَاضِي. قَوْله تَعَالَى أَمر من التعالي، وَهُوَ الِارْتفَاع. تَقول مِنْهُ إِذا أمرت تعال يَا رجل، بِفَتْح اللَّام، وللمرأة تعالي، وللمرأتين تعاليا، وللنسوة تعالين، وَلَا يجوز أَن يُقَال مِنْهُ: تعاليت وَلَا ينْهَى عَنهُ. قَوْله: (أقامرك) ، مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، يُقَال: قامره يقامره قمارا إِذا طلب كل وَاحِد أَن يغلب صَاحبه فِي عمل أَو قَول ليَأْخُذ مَالا جعلاه للْغَالِب، وَهُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع. قَوْله: (فليتصدق) وَفِي رِوَايَة مُسلم، فليتصدق بِشَيْء. قَالَ الْعلمَاء: أَمر بالتصدق تكفيرا لخطيئته فِي كَلَامه بِهَذِهِ الْمعْصِيَة. قَالَ الْخطابِيّ: يتَصَدَّق بِمِقْدَار مَا كَانَ يُرِيد أَن يقامره بِهِ، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: رَحمَه الله: الصَّوَاب أَن يتَصَدَّق بِمَا تيَسّر مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الصَّدَقَة. وَفِي (التَّلْوِيح) عَن بعض الْحَنَفِيَّة. إِن قَوْله: فليتصدق، المُرَاد بهَا كَفَّارَة الْيَمين، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه مَا فِيهِ. قلت: مَا فِيهِ إلاَّ عدم فهم من لَا يفهم مَا فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعضهم: المُرَاد بهَا كَفَّارَة الْيَمين لِأَن هَذَا ينْعَقد يَمِينا على رَأْي هَذَا الْقَائِل: فَإِذا انْعَقَد يَمِينا تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة.

3 - (بابٌ: {وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النَّجْم: 2)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} وَلم يثبت لفظ: إلاَّ لأبي ذَر، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرهَا فِي الحَدِيث، وَلَكِن يُفَسر معنى الْآيَة. فَقَوله: الثَّالِثَة لَا يُقَال لَهَا الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا الْأُخْرَى نعت للثَّانِيَة، وَقَالَ الْخَلِيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليُوَافق رُؤُوس الْآي، كَقَوْلِه: {مآرب أُخْرَى} (طه: 81) وَقَالَ الْحُسَيْن بن فضل فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازها أَفَرَأَيْتُم الّلات والعزى الْأُخْرَى وَمَنَاة؟ .

1684 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قُلْتُ لِ عائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها فَقَالَتْ إنَّما كَانَ مَنْ أهَلَّ بِمَناةَ الطَّاغِيَةَ الَّتِي بِالمُشَلّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصّفا وَالمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى إنَّ الصَّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله فَطَافَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالمُسْلِمُونَ قَالَ سُفْيَانُ مَنَاةُ بِالمُشَلَّلِ مِنْ قُدَيْدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ عَنِ ابنِ شهابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ نَزَلَتْ فِي الأنْصَارِ كَانُوا هُمْ وَغَسَانُ قَبْلَ أنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمناةَ مِثْلَهُ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمناةِ وَمَناةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُنّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفا وَالمَرْوَةِ تَعْظِيما لِمناةَ نَحْوَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن الزبير، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى مطولا فِي الْحَج فِي: بَاب وجوب الصَّفَا والمروة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (قلت لعَائِشَة فَقَالَت) ، فِيهِ حذف بَينه فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة فِي: بَاب {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) وَهُوَ أَن عُرْوَة قَالَ: قلت: لعَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا يَوْمئِذٍ حَدِيث السن: أَرَأَيْت قَول الله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} فَمَا أرى على أحد شَيْئا أَن لَا يطوف بهما. فَقَالَت عَائِشَة: إِنَّمَا كَانَ من أهل. أَي: أحرم بمناة بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعند غَيره: لمناة. بِاللَّامِ أَي: لأجل مَنَاة، والطاغية صفة لَهَا بِاعْتِبَار طغيان عبدتها، وَيجوز أَن يكون مُضَافا إِلَيْهَا على معنى: أحرم باسم مَنَاة الْقَوْم الطاغية. قَوْله: (الَّتِي بالمشلل) ، صفة أُخْرَى أَي: الكائنة بالمشلل، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ مَوضِع من قديد على مَا يَأْتِي الْآن. قَوْله: (لَا يطوفون) ، أَي: من كَانَ يحجّ لهَذَا الصَّنَم كَانَ لَا يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة تَعْظِيمًا لصنعهم حَيْثُ لم يكن فِي الْمَسْعَى، وَكَانَ فِيهِ صنمان إساف ونائلة، فَأنْزل الله تعال ردا عَلَيْهِم بقوله: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} فَطَافَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَاف مَعَه الْمُسلمُونَ. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (مَنَاة بالمشلل من قديد) ، مقول قَول سُفْيَان، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير مَنَاة. أَي: مَنَاة

(19/202)


مَكَان كَائِن بالمشلل الْكَائِن من قديد، بِضَم الْقَاف مصغر القدد، وَهُوَ من منَازِل طَرِيق مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.
قَوْله: (وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر الفهمي) ، بِالْفَاءِ الْمصْرِيّ. كَانَ أَمِير مصر لهشام مَاتَ سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة وَأخرج لَهُ مُسلم مُتَابعَة. قَوْله: (عَن ابْن شهَاب) ، وَهُوَ الزُّهْرِيّ أَي: يروي عَن ابْن شهَاب، وَهُوَ الزُّهْرِيّ الرَّاوِي فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق الطَّحَاوِيّ من طَرِيق عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بِطُولِهِ. قَوْله: (هم) أَي: الْأَنْصَار. قَوْله: (وغسان) ، عطف عَلَيْهِ وهم قَبيلَة. قَوْله: (يهلون بمناة) أَي: يحرمُونَ بمناة قبل الْإِسْلَام. قَوْله: (مثله) أَي: مثل حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْمَذْكُور قبله. قَوْله: (وَقَالَ معمر) بِفَتْح الميمين، وَهُوَ ابْن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ عَن الْحسن بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر إِلَى آخِره مطولا. قَوْله: (وَمَنَاة صنم بَين مَكَّة وَالْمَدينَة) أَي: مَنَاة اسْم صنم كَائِن بَين مَكَّة وَالْمَدينَة كَانَت صنما لخزاعة وهذيل، سميت بذلك لِأَن دم الذَّبَائِح كَانَ يمني عَلَيْهَا أَي يراق، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) كَانَت مَنَاة على سَاحل الْبَحْر تعبد، وَفِي (تَفْسِير عبد الرَّزَّاق) أخبرنَا معمر عَن قَتَادَة: اللات لأهل الطَّائِف، وعزى لقريش، وَمَنَاة للْأَنْصَار، وَعَن ابْن زيد: مَنَاة بَيت بالمشلل تبعده بَنو كَعْب، وَيُقَال: مَنَاة أصنام من حِجَارَة كَانَت فِي جَوف الْكَعْبَة يعبدونها. قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور.

4 - (بابٌ: {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا} (النَّجْم: 26)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: (فاسجدوا لله واعبدوا) وَهُوَ آخر سُورَة النَّجْم. قيل: وَقع للأصيلي، واسجدوا، بِالْوَاو وَهُوَ غلط. قلت: لَا ينْسب الْغَلَط للأصيلي بل للناسخ لعدم تَمْيِيزه.

2684 - حدَّثني أبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا الوَارِثِ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ عِكْرَمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال سَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإنْسُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو الْمنْقري المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي أَبْوَاب سُجُود الْقُرْآن فِي: بَاب سُجُود الْمُسلمين مَعَ الْمُشْركين فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَارِث إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الْمُسلمُونَ) ، يتَنَاوَل الْجِنّ وَالْإِنْس، وَفَائِدَة ذكر قَوْله: (وَالْجِنّ وَالْإِنْس) لدفع وهم اخْتِصَاصه بِالْمُسْلِمين. قَوْله: (وَالْمُشْرِكُونَ) أَي: وَسجد مَعَه الْمُشْركُونَ. قَالَ الْكرْمَانِي: سجد الْمُشْركُونَ لِأَنَّهَا أول سَجْدَة نزلت فأرادوا مُعَارضَة الْمُسلمين بِالسَّجْدَةِ لمعبودهم أَو وَقع ذَلِك مِنْهُم بِلَا قصد أَو خَافُوا فِي ذَلِك الْمجْلس من مخالفتهم، وَمَا قيل كَانَ ذَلِك بِسَبَب مَا ألقِي الشَّيْطَان فِي أثْنَاء قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(تِلْكَ الغرانيق العلى ... مِنْهَا الشَّفَاعَة ترتجى)

فَلَا صِحَة لَهُ نقلا وعقلاً وَقَالَ بَعضهم: الِاحْتِمَالَات الثَّلَاثَة فِيهَا نظر، وَالْأول مِنْهَا لعياض، وَالثَّانِي: يُخَالِفهُ سِيَاق ابْن مَسْعُود حَيْثُ زَاد فِيهِ أَن الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مِنْهُم أَخذ كفا من حصا فَوضع جَبهته عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك ظَاهر فِي الْقَصْد، وَالثَّالِث أبعد إِذْ الْمُسلمُونَ حِينَئِذٍ هم الَّذين كَانُوا خَائِفين من الْمُشْركين لَا الْعَكْس. قلت: ادّعى هَذَا الْقَائِل أَن فِي هَذِه الِاحْتِمَالَات نظرا، فَقَالَ فِي الأول: إِنَّه لعياض، يَعْنِي: مَسْبُوق فِيهِ بِالْقَاضِي عِيَاض، فَبين أَنه لعياض وَلم يبين وَجه النّظر، وَذكر وَجه النّظر فِي الثَّانِي: بقوله: يُخَالِفهُ سِيَاق ابْن مَسْعُود، وَهَذَا غير دَافع لبَقَاء الِاحْتِمَال فِي عدم الْقَصْد من الَّذِي أَخذ كفا من حصا فَوضع جَبهته عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الثَّالِث: أبعد. إِلَى آخِره فَالَّذِي ذكره أبعد مِمَّا قَالَه لِأَن الْمُسلمين كَانُوا خَائِفين من الْمُشْركين وَقت سجودهم لم يَكُونُوا يتمكنون من السُّجُود لِأَن السُّجُود مَوضِع الْجَبْهَة على الأَرْض وَمن يتَمَكَّن من ذَلِك وَرَاءه من يخَاف مِنْهُ خُصُوصا أَعدَاء الدّين، وقصدهم هَلَاك الْمُسلمين؟ .
تَابَعَهُ ابنُ طَهْمَانَ عَنْ أيُّوبَ وَلَمْ يَذْكُر ابنُ عُلَيَّةَ ابنَ عَبَّاسٍ
أَي: تَابع عبد الْوَارِث، إِبْرَاهِيم بن طهْمَان فِي رِوَايَته عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، إِبْرَاهِيم مَذْكُور وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة من طَرِيق حَفْص بن عبد الله النَّيْسَابُورِي عَن ابْن طهْمَان بِلَفْظ أَنه قَالَ حِين

(19/203)


نزلت السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا النَّجْم سجد لَهَا الْإِنْس وَالْجِنّ. قَوْله: (وَلم يذكر ابْن علية ابْن عَبَّاس) أَي: لم يذكر إِسْمَاعِيل بن علية عبد الله بن عَبَّاس أَرَادَ بِهِ أَنه حدث بِهِ عَن أَيُّوب فَأرْسلهُ، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ وَلَيْسَ هَذَا بقادح لِاتِّفَاق ثقتين وهما عبد الْوَارِث وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان على وَصله.

3684 - حدَّثنا نَصْرُ بنُ عَلِيٍّ أخْبَرَنِي أبُو أحْمَدَ يَعْنِي الزُّبَيْرِي حدَّثنا إسْرَائِيلُ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ الأسْوَدِ بنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ قَالَ فَسَجَدَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أخَذَ كَفّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ بَعْذَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرا وَهُوَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَنصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، قَالَه أَبُو الْعَبَّاس السراج، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا. وَأَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيرِي، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو السبيعِي عَن الْأسود بن يزِيد بن قيس النَّخعِيّ خَال إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَهَذَا الحَدِيث مر فِي أَبْوَاب سُجُود الْقُرْآن فِي: بَاب سَجْدَة والنجم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود بن يزِيد إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فَسجدَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بعد فَرَاغه من قرَاءَتهَا. قَوْله: (إلاّ رجلا) بيّنه فِي الحَدِيث أَنه أُميَّة بن خلف. قَوْله: (أَخذ كفا من تُرَاب) ، وَفِي رِوَايَة كفا من حصا أَو تُرَاب. قَوْله: (فَسجدَ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (فرفعه إِلَى وَجهه. فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا) قَوْله: (وَهُوَ) أَي: الرجل الْمَذْكُور (هُوَ أُميَّة بن خلف) وَلم يذكر هُوَ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة، وَفِي رِوَايَة بن سعد أَن الَّذِي لم يسْجد هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. قَالَ: وَقيل: سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة، قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: كِلَاهُمَا جَمِيعًا وَجزم ابْن بطال فِي: بَاب سُجُود الْقُرْآن أَنه الْوَلِيد، وَهَذَا مستغرب مِنْهُ مَعَ وجود التَّصْرِيح بِأَنَّهُ أُميَّة بن خلف. وَلم يقتل كَافِرًا ببدر من الَّذين سموا عِنْده غَيره.

45 - ( {سُورَةُ اقْتَرَبَتِ السَّاَعَةُ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بَعْص سُورَة: {اقْتَرَبت السَّاعَة} وَتسَمى أَيْضا: سُورَة الْقَمَر. قَالَ مقَاتل: فِيمَا ذكره ابْن النَّقِيب وَغَيره: مَكِّيَّة إلاَّ ثَلَاث آيَات أَولهَا: {أم يَقُولُونَ نَحن جَمِيع منتصر} (الْقَمَر: 44) وَآخِرهَا قَوْله: {والساعة أدهى وَأمر} (الْقَمَر: 64) كَذَا قَالُوهُ عَن مقَاتل وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن الَّذِي فِي تَفْسِيره هِيَ مَكِّيَّة غير آيَة {سَيهْزمُ الْجمع} (الْقَمَر: 54) فَإِنَّهَا نزلت فِي أبي جهل بن هِشَام يَوْم بدر. وَهِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حرفا، وثلاثمائة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ كلمة. وَخمْس وَخَمْسُونَ آيَة. قَوْله: {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَي: دنت الْقِيَامَة وَعَن ابْن كيسَان فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازها: انْشَقَّ الْقَمَر واقتربت السَّاعَة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت البسلمة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ مُسْتَمِرٌّ ذَاهِبٌ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر} (الْقَمَر: 2) فسر: (مُسْتَمر) بقوله: (ذَاهِب) هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، روى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة عَن أنس مُسْتَمر. قَالَ: ذَاهِب وَفِي التَّفْسِير: مُسْتَمر ذَاهِب سَوف يذهب وَيبْطل، من قَوْلهم: مر الشَّيْء وَاسْتمرّ، وَعَن الضَّحَّاك: مُحكم شَدِيد قوي، وَعَن قَتَادَة: غَالب، من قَوْلهم: مر الْحَبل إِذا صلب وَاشْتَدَّ وَقَوي، وأمررته إِنَّا إِذا أحكمت فتله، وَعَن الرّبيع: نَافِذ، وَعَن يمَان: مَاض، وَعَن أبي عُبَيْدَة: بَاطِل، وَقيل: يشبه بعضه بَعْضًا.
مُزْدَجَرٌ: مُتَناهٍ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر} (الْقَمَر: 4) أَي: متناه: بِصِيغَة الْفَاعِل أَي: نِهَايَة وَغَايَة فِي الزّجر لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَكَذَا فسره قَتَادَة، وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَفْعُول من التناهي بِمَعْنى الِانْتِهَاء. أَي: جَاءَكُم من أَخْبَار عَذَاب الْأُمَم السالفة مَا فِيهِ مَوضِع الِانْتِهَاء عَن الْكفْر والانزجار عَنهُ، فَافْهَم، وَعَن سُفْيَان. مُنْتَهى، وأصل: مزدجر مزتجر قلبت التَّاء دَالا.

(19/204)


وَازْدُجِرَ: اسْتُطِيرَ جُنُونا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل ذكره: {وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} (الْقَمَر: 9) وَمَعْنَاهُ: استطير جنونا، وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد: وَعَن ابْن زيد: اتَّهَمُوهُ وزجروه ووعدوه لَئِن لم تفعل لتكونن من المرجومين، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: زجروه عَن دَعوته ومقالته.
دُسُرٌ أضْلاعُ السَّفِينَةِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وحملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر (الْقَمَر: 31) وَفسّر: (الدسر) بأضلاع (السَّفِينَة) وَهَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد، وَفِي التَّفْسِير: دسر مسامير وَاحِدهَا داسر ودسير، يُقَال مِنْهُ: دسرت السَّفِينَة إِذا شددته بالمسامير. قَالَه قَتَادَة وَابْن زيد وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن الْحسن: هِيَ صدر السَّفِينَة سميت بذلك لِأَنَّهَا تدسر المَاء بجؤجئها. أَي: تدفع، وَهِي رِوَايَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: الدسر كلكل السَّفِينَة، وأصل الدسر الدّفع، وَفِي الحَدِيث فِي العنبر: إِنَّمَا هُوَ شَيْء دسره الْبَحْر. أَي: دَفعه.
لِمَنْ كَانَ كُفِرَ يَقُولُ كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنَ الله

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تجْرِي بأعيننا جَزَاء لمن كَانَ كفر} (الْقَمَر: 41) وَفَسرهُ بقوله: {كفر لَهُ جَزَاء من الله} أَي: كفر لَهُ من الكفران، بِالنعْمَةِ. وَالضَّمِير فِي لَهُ، لنوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَي: فعلنَا بِنوح وبهم مَا فعلنَا من فتح أَبْوَاب السَّمَاء وَمَا بعده من التفجير وَنَحْوه جَزَاء من الله بِمَا صَنَعُوا بِنوح وَأَصْحَابه، وَقَالَ النَّسَفِيّ: قَالَ الْفراء: جَزَاء بكفرهم، وَمن، بِمَعْنى: مَا المصدرية وَقيل: مَعْنَاهُ عاقبناهم لله وَلأَجل كفرهم بِهِ، وَقيل: مَعْنَاهُ لمن كَانَ كفر بِاللَّه، وَهُوَ قِرَاءَة قَتَادَة فَإِنَّهُ كَانَ يقْرَأ بِفَتْح الْكَاف وَالْفَاء، وَقَالَ: لمن كفر بِنوح، عَلَيْهِ السَّلَام.
مُحْتَضَرٌ: يَحْضُرُونَ المَاءَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ونبئهم أَن المَاء قسْمَة بَينهم كل شرب محتضر} (الْقَمَر: 82) يَعْنِي: قوم صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يحْضرُون المَاء إِذا غَابَتْ النَّاقة فَإِذا جَاءَت حَضَرُوا اللَّبن، هَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد. قَوْله: (شرب) أَي: نصيب من المَاء، وَفِي التَّفْسِير: محتضر يحضرهُ من كَانَت نوبَته فَإِذا كَانَت نوبَة النَّاقة حضرت شربهَا، وَإِذا كَانَ يومهم حَضَرُوا شربهم.
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: مُهْطِعِينَ النَّسَلانُ. الخَبَبُ السِّرَاعُ

أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {مهطعين إِلَى الداع يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر} (الْقَمَر: 8) هَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى حَدثنَا يحيى حَدثنَا شريك عَن سَالم عَن سعيد بن جُبَير. قَوْله: (مهطعين) ، أَي: مُسْرِعين من الإهطاع. قَوْله: (النسلان) ، تَفْسِير الإهطاع الَّذِي يدل عَلَيْهِ، مهطعين، والنسلان، بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: مشْيَة الذِّئْب إِذا أعنق، وَفَسرهُ هُنَا بالخبب بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا أُخْرَى، وَهُوَ ضرب من الْعَدو. قَوْله: (السراع) ، من المسارعة: تَأْكِيد لَهُ، وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: مهطعين. قَالَ: ناظرين، وَعَن قَتَادَة: عَامِدين إِلَى الدَّاعِي، أخرجه عبد بن حميد، وَقَالَ أَحْمد بن يحيى: المهطع الَّذِي ينظر فِي ذل وخشوع لَا يتبع بَصَره، والداعي هُوَ إسْرَافيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فَتَعَاطَى فَعَاطَهَا بِيَدِهِ

أَي: قَالَ غير سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {فَنَادوا صَاحبهمْ فتعاطى فعقر} (الْقَمَر: 92) وَفسّر: (فتعاطى) بقوله: (فعاطها بِيَدِهِ) أَي: تنَاولهَا بِيَدِهِ فعقرها أَي: نَاقَة صَالح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا الْمَذْكُور هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره فتعاطى فعاطى بِيَدِهِ فعقرها، وَقَالَ ابْن التِّين: لَا أعلم لقَوْله: عاطها هُنَا وَجها إِلَّا أَن يكون من المقلوب الَّذِي قلبت عينه على لامه. لِأَن العطو التَّنَاوُل فَيكون الْمَعْنى: فَتَنَاولهَا بِيَدِهِ، وَأما عوط فَلَا أعلمهُ فِي كَلَام الْعَرَب، وَأما عيط فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُوَافقا لهَذَا. وَقَالَ ابْن فَارس: التعاطي الجراءة، وَالْمعْنَى: تجرى فعقر.
المُحْتَضَرِ كَحِظارٍ مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَكَانُوا كهشيم المحتظر} (الْقَمَر: 13) وَفسّر: (المحتظر) بقوله: (كحظار) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَفتحهَا وبالظاء الْمُعْجَمَة أَي: منكسر من الشّجر محترق، وَكَذَا روى ابْن الْمُنْذر وَمن طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَقد أخبر الله عز وَجل عَنْهُم

(19/205)


بقوله: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة فَكَانُوا كهشيم المحتظر} (الْقَمَر: 13) الْعَذَاب الَّذِي أرسل على قوم صَالح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأجل عقر النَّاقة وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ المحتظر الحظيرة، وَعَن ابْن عَبَّاس، هُوَ الرجل يَجْعَل لغنمه حَظِيرَة من الشّجر والشوك دون السبَاع فَمَا سقط من ذَلِك أَو داسته الْغنم فَهُوَ الهشيم، وَقَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: كالعظام النخرة الْمُحْتَرِقَة وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَعنهُ أَيْضا: كحشيش تَأْكُله الْغنم.
أزْدُجِرَ افْتُعِلَ مِنْ زَجَرْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} (الْقَمَر: 9) وَهَذَا قد مر عَن قريب، غير أَنه أَعَادَهُ إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من بَاب الافتعال لِأَن أَصله ازتجر. فقلبت التَّاء دَالا فَصَارَ ازدجر، وَهُوَ من الزّجر وَلَيْسَ من زجرت لِأَن الْفِعْل لَا يشتق من الْفِعْل بل يشتق من الْمصدر، وَلَو ذكر هَذَا عِنْد قَوْله: ازدجر: أستطير جنونا لَكَانَ أولى وأنسب.
كُفِرَ فَعَلْنا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءًا لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ وأصْحَابِهِ
هَذَا أَيْضا قد مر أَيْضا عَن قريب وَهُوَ قَوْله: {لمن كَانَ كفر} (الْقَمَر: 41) بقوله: كَقَوْلِه جَزَاء من الله. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ وتكراره لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة على مَا لَا يخفى، وَلَكِن لَو لم يذكرهُ هُنَا لَكَانَ أصوب وَأحسن. قَوْله: (كفر) ، من كفران النِّعْمَة والمكفور هُوَ نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَومه: كافرون الأيادي وَالنعَم، وَقيل: معنى كفر جحد قَوْله: (فعلنَا) ، حِكَايَة عَن الله تَعَالَى، وَالضَّمِير فِي: بِهِ يرجع إِلَى نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي: بهم، إِلَى قومه، وَالَّذِي فعله نصرته إِيَّاه وَإجَابَة دُعَائِهِ، وَالَّذِي فعل بقَوْمه غرقه إيَّاهُم. قَوْله: {جَزَاء} أَي: لأجل الْجَزَاء لما صنع أَي لأجل صنعهم لنوح وَقَومه من الْإِسَاءَة وَالضَّرْب وَغير ذَلِك من الْأَذَى. قَوْله: لما صنع اللَّام فِيهِ مَكْسُورَة. وصنع على صِيغَة الْمَجْهُول.
مُسْتَقِرٌّ عَذَابٌ حَقٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صبحهمْ بكرَة عَذَاب مُسْتَقر} (الْقَمَر: 83) وَفَسرهُ: بقوله: (عَذَاب حق) ، وَهَكَذَا قَالَه الْفراء وروى عبد بن حميد عَن قَتَادَة وَاسْتقر بهم أَي: الْعَذَاب إِلَى نَار جَهَنَّم. قَوْله: (وَلَقَد صبحهمْ) أَي: الْعَذَاب (بكرَة) أَي: وَقت الصُّبْح، وَفِي التَّفْسِير: (عَذَاب مُسْتَقر) أَي: دَائِم عَام اسْتَقر بهم حَتَّى يقْضِي بهم إِلَى عَذَاب الْآخِرَة.
الأشَرُ: المَرَحُ وَالتَّجبُّرُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بل هُوَ كَذَّاب أشر وسيعلمون غَدا من الْكذَّاب الأشر} (الْقَمَر: 52، 62) وَفَسرهُ بقوله: (المرح والتجبر) . وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَغَيره.

1

- (بابٌ: {وَانْشَقَّ القَمَرُ وَإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} (الْقَمَر: 1)
)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} الْآيَة. وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر. قَوْله: {آيَة} أَي: معجز ليعرضوا من الْإِعْرَاض.

4684 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ عنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ أبِي مَعْمَرٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِرْقَتَيْنِ فِرْقَة فَوْقَ الجَبَلِ وَفِرْقَةً دُونَهُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْهَدُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة أَو الثَّوْريّ لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا روى عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين، عبد الله بن سَخْبَرَة، ولأبيه سَخْبَرَة صُحْبَة وَرِوَايَة، روى لَهُ التِّرْمِذِيّ، قَالَ ابْن سعد: توفّي بِالْكُوفَةِ فِي ولَايَة عبيد الله بن زِيَاد.
والْحَدِيث قد مر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة فِي: بَاب سُؤال الْمُشْركين أَن يُرِيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (على عهد) ، أَي: على زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فرْقَتَيْن) أَي: قطعتين وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة: شفتين، ويروى: شقين فَوق الْجَبَل اخْتلفت الرِّوَايَات فِي مَكَان الانشقاق فجَاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاثْنَتَيْنِ شطره على السويداء وشطره على الخندمة، وَجَاء عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن أهل مَكَّة سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُرِيهم آيَة فَأَرَاهُم الْقَمَر بشقتين حَتَّى رَأَوْا أحراء بَينهمَا، وَفِي تَفْسِير أبي عبد الله. قَالَ الْمُشْركُونَ

(19/206)


للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن كنت صَادِقا فاشقق لنا الْقَمَر. فَقَالَ: آن فعلت تؤمنون؟ قَالُوا: نعم، وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة، فَسَأَلَ الله تَعَالَى فانشق فرْقَتَيْن: نصف على الصَّفَا وَنصف على قعيقعان: الحَدِيث، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي معمر عَن عبد لله. قَالَ: رَأَيْت الْقَمَر منشقا بشقتين مرَّتَيْنِ: بِمَكَّة شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: كَانَ يرى نصفه على قعيقعان وَالنّصف الآخر على أبي قبيس. قَوْله: {وَفرْقَة دونه} أَي: دون الْجَبَل. وَعند مُسلم من حَدِيث شُعْبَة عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر فلقَتَيْنِ فلقَة من دون الْجَبَل وَفلقَة من خلف الْجَبَل.

5684 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ أخْبَرَنا ابنُ أبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ أبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ انْشَقَ القَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فَقَالَ لَنَا: اشْهَدُوا اشْهَدُوا..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَفِي بعض النّسخ كَذَا: عَليّ بن عبد الله، وَابْن أبي نجيح عبد الله وَاسم أبي نجيح يسَار، قَالَ يحيى الْقطَّان: كَانَ قدريا وَفِيه زِيَادَة على طَرِيق الحَدِيث السالف، وَهِي: قَوْله: (وَنحن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَهَذَا يدل على أَنه من الرائين والمخبرين، وَفِيه لفظ: (اشْهَدُوا) مرَّتَيْنِ.

6684 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عَرَاكِ بنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ انْشَقَّ القَمَرُ فِي زَمَانِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
يحيى بن بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، وَبكر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُضر، بِضَم الْمِيم وَفتح الْمُعْجَمَة وبالراءين: مُحَمَّد القريشي الْمصْرِيّ، وجعفر بن ربيعَة بن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة من أهل مصر. والْحَدِيث قد مر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن خلف بن خَالِد، وَكَذَا فِي انْشِقَاق الْقَمَر عَن عُثْمَان بن صَالح. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن مُوسَى بن قُرَيْش وَابْن عَبَّاس من جملَة المخبرين لَا الرائين.

7684 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يُونُسُ بنُ مُحَمَّد حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ سَأَلَ أهْلُ مَكةَ أنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ..
عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَيُونُس بن مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ، وشيبان النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة.
قَوْله: (سَأَلَ أهل مَكَّة) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأنس أَيْضا من المخبرين، وروى حَدِيث انْشِقَاق الْقَمَر جمَاعَة من الصَّحَابَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَحَدِيث ابْن مَسْعُود وَحَدِيث أنس وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهَا البُخَارِيّ، وَعند عِيَاض من رِوَايَة أبي حُذَيْفَة الأرجي عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر وَنحن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عبد بن حميد أخبرنَا قبيصَة عَن سُفْيَان عَن عَطاء بن السَّائِب عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. قَالَ: جمعت مَعَ حُذَيْفَة بِالْمَدَائِنِ فَسَمعته يَقُول: إِن الْقَمَر قد انْشَقَّ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الحَدِيث، وَسَنَده لَا بَأْس بِهِ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جُبَير بن مَحْمُود بن جُبَير بن معطم عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَر وَنحن بِمَكَّة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

8684 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ قَالَ انْشَقَ القَمَرُ فِرْقَتَيْنِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان إِلَى آخِره. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي مُوسَى وَغَيره، وَقَالَ الْحَلِيمِيّ فِي (منهاجه) وَمن النَّاس من يَقُول قَوْله: {فانشق الْقَمَر} (الْقَمَر: 1) مَعْنَاهُ: ينشق. كَقَوْلِه: {أَتَى أَمر الله} (النَّحْل: 1) أَي: يَأْتِي. قَالَ: وَإِذا كَانَ كَذَلِك ظهر أَن الانشقاق فِي الْآيَة إِنَّمَا هُوَ الَّذِي من أَشْرَاط السَّاعَة دون الانشقاق الَّذِي جعله الله آيَة لرَسُوله وَحجَّة على أهل مَكَّة.

(19/207)