عمدة القاري شرح
صحيح البخاري (بابٌ: {وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أجْسَامُهُمْ وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِمْ
كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسِبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ الله
أَنى يُؤْفَكُونَ} (المُنَافِقُونَ: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا رَأَيْتهمْ}
الْآيَة ... وَهِي قَوْله يأفكون. سَاقهَا الْأَكْثَرُونَ.
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَإِذا رَأَيْتهمْ} إِلَى
قَوْله: تسمع لقَولهم) الْآيَة قَوْله
{إِذا رَأَيْتهمْ} أَي: الْمُنَافِقين: تعجبك أجسامهم
لِاسْتِوَاء خلقهَا وَحسن صورها وَطول قامتها، وَعَن ابْن
عَبَّاس: كَانَ عبد الله بن أبي رجلا جسيما صَحِيحا صبيحا
ذلق اللِّسَان، وَقوم من الْمُنَافِقين فِي صفته وهم
رُؤَسَاء الْمَدِينَة كَانُوا يحْضرُون مجْلِس النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيستندون فِيهِ وَلَهُم جهارة
المناظر وفصاحة الألسن وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَمن حضر يعْجبُونَ بهَا كلهم، فَإِذا قَالُوا سمع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَولهم: قَالَ الله
تَعَالَى: {وَإِن يَقُولُوا نسْمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب
مُسندَة} أشباح بِلَا أَرْوَاح وأجسام بِلَا أَحْلَام
شبهوا فِي استنادهم وَمَا هم إِلَّا أجر أم خَالِيَة عَن
الْإِيمَان، وَالْخَيْر بالخشب المسندة إِلَى الْحَائِط
لِأَن الْخشب إِذا انْتفع بِهِ كَانَ فِي سقف أَو جِدَار
أَو غَيرهمَا من مظان الِانْتِفَاع، وَمَا دَامَ متروكا
فَارغًا غير منتفع بِهِ أسْند إِلَى الْحَائِط فشبهوا بِهِ
فِي عدم الِانْتِفَاع. وَقيل: يجوز أَن يُرَاد بالخشب
المسندة الْأَصْنَام المنحونة من الْخشب المسندة إِلَى
الْحِيطَان، شبهوا بهَا فِي حسن صورهم وَقلة جدواهم.
قَوْله: (يحسبون) ، أَي: من خبثهمْ وَسُوء ظنهم، وَقلة
يقينهم كل صَيْحَة وَاقعَة عَلَيْهِم وضارة لَهُم، قَالَ
مقَاتل: إِن نَادَى مُنَادِي فِي الْعَسْكَر أَو انفلتت
دَابَّة أَو نشدت ضَالَّة ظنُّوا أَنهم يرادون لما فِي
قُلُوبهم من الرعب. قَوْله: (هم الْعَدو) ، مُبْتَدأ وَخبر
أَي: الكاملون فِي الْعَدَاوَة. قَوْله: (فَاحْذَرْهُمْ) ،
أَي: فَلَا تَأْمَنهُمْ وَلَا تغتر بظاهرهم. قَوْله:
(قَاتلهم الله) دَعَا عَلَيْهِم باللعن والخزي. قَوْله:
(أَنى يؤفكون) أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق، تَعَجبا من
جهلهم وضلالهم.
397 - (حَدثنَا عَمْرو بن خَالِد حَدثنَا زُهَيْر بن
مُعَاوِيَة حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق. قَالَ سَمِعت زيد بن
أَرقم: قَالَ خرجنَا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سفر أصَاب النَّاس فِيهِ شدَّة
فَقَالَ عبد الله بن أبي لأَصْحَابه لَا تنفقوا على من
عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا من حوله وَقَالَ لَئِن
رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا
الْأَذَل فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته فَأرْسل إِلَى عبد الله بن أبي
فَسَأَلَهُ فاجتهد يَمِينه مَا فعل قَالُوا كذب زيد رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَقع فِي
نَفسِي مِمَّا قَالُوا شدَّة حَتَّى أنزل الله عز وَجل
تصديقي فِي إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ فَدَعَاهُمْ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ليَسْتَغْفِر لَهُم فلووا رُؤْسهمْ. وَقَوله خشب مُسندَة
قَالَ كَانُوا رجَالًا أجمل شَيْء) هَذَا أَيْضا طَرِيق
آخر فِي حَدِيث زيد بن أَرقم أخرجه عَن عَمْرو بن خَالِد
الْجَزرِي عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَق
عَمْرو السبيعِي قَوْله " شدَّة " أَي من جِهَة قلَّة
الزَّاد قَوْله " فَأتيت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته " قَالَ الْكرْمَانِي
قَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم فَذكرت لِعَمِّي فَذكره
للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْنِي
بَينهمَا تناف ثمَّ أجَاب أَن الْإِخْبَار أَعم من أَن
يكون بِنَفسِهِ أَو بالواسطة قلت الْإِخْبَار هُنَا لَا
يدل على الْعُمُوم مَعَ قَوْله فَأتيت النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد ذكرنَا الْجَواب عَن
هَذَا عَن قريب قَوْله " فاجتهد يَمِينه " أَي بذل وَسعه
فِي الْيَمين وَبَالغ فِيهَا قَوْله " مَا فعل " أَي مَا
قَالَ أطلق الْفِعْل على القَوْل لِأَن الْفِعْل يعم
الْأَفْعَال والأقوال قَوْله " كذب زيد رَسُول الله "
بِالتَّخْفِيفِ قَوْله " فلووا بِالتَّشْدِيدِ " أَي حركوا
وقرىء بِالتَّخْفِيفِ أَيْضا قَوْله " خشب مُسندَة "
تَفْسِير لقَوْله تعجبك أجسامهم وَوَقع هَذَا فِي نفس
الحَدِيث وَلَيْسَ مدرجا وَأخرجه أَبُو نعيم من وَجه آخر
عَن عَمْرو بن خَالِد شيخ البُخَارِيّ فِيهِ بِهَذِهِ
الزِّيَادَة وخشب بِضَمَّتَيْنِ فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ وَالْأَعْمَش
بِإِسْكَان الشين قَوْله " قَالَ كَانُوا رجَالًا أجمل
شَيْء " أَي قَالَ الله تَعَالَى كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة
مَعَ أَنهم كَانُوا رجَالًا من أجمل النَّاس وَأَحْسَنهمْ
وَقد ذكرنَا وَجه الشّبَه فِيهِ عَن قريب -
(19/239)
4 - (بابٌ قَوْلِهِ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْا
رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ} (المُنَافِقُونَ: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا قيل لَهُم
تَعَالَوْا} إِلَى آخر الْآيَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا:
يسْتَغْفر لكم رَسُول الله) إِلَى قَوْله: {وهم
يَسْتَكْبِرُونَ} قَوْله: (وَإِذا قيل لَهُم) ، أَي:
لِلْمُنَافِقين. قَوْله: (لووا رؤوسهم) أَي: أمالوها
وأعرضوا بِوُجُوهِهِمْ إِظْهَارًا للكراهية. قَرَأَ
نَافِع: لووا رؤوسهم بتَخْفِيف الْوَاو وَالْبَاقُونَ
بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (يصدون) أَي: يعرضون عَمَّا دعوا
إِلَيْهِ {هم مستكبرون} لَا يَسْتَغْفِرُونَ.
حَرَّكُوا اسْتَهْزَؤُا بِالنبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
هَذَا تَفْسِير قَوْله: {لووا رؤوسهم} وهم: يستهزئون
ويستكبرون ويعرضون عَن الْإِجَابَة.
وَيُقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ لَوَيْتُ
أَي: يقْرَأ قَوْله: {لووا} بتَخْفِيف الْوَاو وَهِي
قِرَاءَة نَافِع كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (من
لويت) يُشِير بِهِ أَنه من بَاب لوى، معتل الْعين
وَاللَّام، وَمَعْنَاهُ: أمال. يُقَال: لويت رَأْسِي أَي:
أملتها.
4094 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ
عنِ أبِي إسْحَاقَ عَنْ زَيْدٍ بنِ أرْقَمَ قَالَ كُنْتُ
مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بنِ أُبَيٍّ ابنَ
سَلولَ يَقُولُ لَا تُنْفِضُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ
الله حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلَئِنْ رَجَعْنا إلَى
المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلُّ
فَذَكَرْتُ ذالِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَهُ عَمِّي للنبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَدَّقَهُمْ فَدَعَانِي
فَحَدَّثْتُهُ فَأرْسَلَ إلَى عَبْدِ الله بنِ أُبَيٍّ
وَأصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا وَكَذَّبَنِي النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأصَابَنِي غَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي
مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي: وَقَالَ عَمِّي
مَا أرَدْت إلَى أنْ كَذَّبكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَمَقَتَكَ فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ
المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ الله}
(المُنَافِقُونَ: 1) وَأَرْسَلَ إلَيَّ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأها: وَقَالَ إنَّ الله قَدْ
صَدَّقَكَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. وَقد اعْترض
الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّيَاق الَّذِي
أوردهُ خُصُوص مَا ترْجم بِهِ، وَأجِيب بِأَن عَادَته جرت
بِالْإِشَارَةِ إِلَى أصل الحَدِيث، وَوَقع فِي مُرْسل
الْحسن: فَقَالَ قوم لعبد الله بن أبي لَو أتيت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْتَغْفر لَك فَجعل يلوي
رَأسه، فَنزلت: وَهَا أَنْت قد رَأَيْت أخرج البُخَارِيّ
حَدِيث زيد بن أَرقم من خَمْسَة طرق وَترْجم على رَأس كل
حَدِيث مِنْهَا: أَرْبَعَة مِنْهَا عَن أبي إِسْحَاق عَن
زيد بن أَرقم وَوَاحِد عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ
عَنهُ فَفِي ثَلَاثَة، روى أَبُو إِسْحَاق بالعنعنة، وَفِي
وَاحِد بِالسَّمَاعِ، وَفِي ثَلَاثَة رَوَاهُ إِسْرَائِيل
عَن جده أبي إِسْحَاق. وَفِي وَاحِد زُهَيْر ابْن
مُعَاوِيَة عَنهُ.
5 - (بابٌ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ الله
لَهُمْ إنَّ الله لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}
(المُنَافِقُونَ: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {سَوَاء عَلَيْهِم}
إِلَى آخر الْآيَة، كَذَا للأكثرين، وَفِي رِوَايَة أبي
ذَر {سَوَاء عَلَيْهِم استغفرت لَهُم} الْآيَة أَي: سَوَاء
عَلَيْهِم الاسْتِغْفَار وَعَدَمه لأَنهم لَا يلتفتون
إِلَيْهِ وَلَا يعتدون بِهِ لِأَن الله لَا يغْفر لَهُم.
399 - (حَدثنَا عَليّ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ عَمْرو
سَمِعت جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ
كُنَّا فِي غزَاة. قَالَ سُفْيَان مرّة فِي جَيش فَكَسَعَ
رجل من الْمُهَاجِرين رجلا من الْأَنْصَار فَقَالَ
الْأنْصَارِيّ يَا للْأَنْصَار وَقَالَ الْمُهَاجِرِي يَا
للمهاجرين فَسمع ذَاك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ
(19/240)
مَا بَال دَعْوَى جَاهِلِيَّة قَالُوا يَا
رَسُول الله كسع رجل من الْمُهَاجِرين رجلا من الْأَنْصَار
فَقَالَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة فَسمع بذلك عبد
الله بن أبي فَقَالَ فَعَلُوهَا أما وَالله لَئِن رَجعْنَا
إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل فَبلغ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَامَ
عمر فَقَالَ يَا رَسُول الله دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا
الْمُنَافِق فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - دَعه لَا يتحدث النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل
أَصْحَابه وَكَانَت الْأَنْصَار أَكثر من الْمُهَاجِرين
حِين قدمُوا الْمَدِينَة ثمَّ إِن الْمُهَاجِرين كَثُرُوا
بعد قَالَ سُفْيَان فحفظته من عَمْرو قَالَ عَمْرو سَمِعت
جَابِرا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -) مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من
قَوْله فَسمع بذلك عبد الله بن أبي إِلَى قَوْله الْأَذَل
فوجهه أَن الْآيَة الْمَذْكُورَة نزلت فِيهِ فَمن هَذَا
الْوَجْه تَأتي الْمُطَابقَة وَقد أخرج عبد بن حميد من
طَرِيق قَتَادَة وَمن طَرِيق مُجَاهِد وَمن طَرِيق
عِكْرِمَة أَنَّهَا نزلت فِي عبد الله بن أبي وَعلي هُوَ
ابْن عبد الله بن الْمَدِينِيّ وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار أَبُو مُحَمَّد
الْمَكِّيّ والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْأَدَب عَن الْحميدِي وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
التَّفْسِير عَن ابْن أبي عَمْرو وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
السّير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عبد الْجَبَّار
وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور قَوْله " فِي
غزَاة " وَهِي غَزْوَة بني المصطلق قَالَه ابْن إِسْحَاق
قَوْله " فَكَسَعَ " من الكسع وَهُوَ ضرب الدبر بِالْيَدِ
أَو بِالرجلِ وَيُقَال هُوَ ضرب دبر الْإِنْسَان بصدر قدمه
وَنَحْوه وَالرجل الْمُهَاجِرِي هُوَ جَهْجَاه بن قيس
وَيُقَال ابْن سعيد الْغِفَارِيّ وَكَانَ مَعَ عمر رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ يَقُود فرسه وَالرجل الْأنْصَارِيّ
هُوَ سِنَان بن وبرة الْجُهَنِيّ حَلِيف الْأَنْصَار
قَوْله " يَا للْأَنْصَار " اللَّام فِيهِ لَام الاستغاثة
وَهِي مَفْتُوحَة وَمَعْنَاهَا أغيثوني قَوْله " مَا بَال
دَعْوَى جَاهِلِيَّة " أَي مَا شَأْنهَا وَهُوَ فِي
الْحَقِيقَة إِنْكَار وَمنع عَن قَول يَا لفُلَان وَنَحْوه
قَوْله " دَعُوهَا " أَي اتْرُكُوا هَذِه الْمقَالة وَهِي
دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وَهِي قبل الْإِسْلَام قَوْله "
فَإِنَّهَا مُنْتِنَة " بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون
وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق من النتن أَي أَنَّهَا
كلمة قبيحة خبيثة وَكَذَا ثَبت فِي بعض الرِّوَايَات
قَوْله " فَقَالَ فَعَلُوهَا " أَي أفعلوها بِهَمْزَة
الِاسْتِفْهَام فحذفت أَي فعلوا الأثرة أَي تركناهم فِيمَا
نَحن فِيهِ فأرادوا الاستبداد بِهِ علينا وَفِي مُرْسل
قَتَادَة فَقَالَ رجل مِنْهُم عَظِيم النِّفَاق مَا مثلنَا
وَمثلهمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِل سمن كلبك يَأْكُلك
قَوْله " دَعه " أَي اتركه قَوْله " لَا يتحدث النَّاس "
بِرَفْع يتحدث على الِاسْتِئْنَاف وَيجوز الْكسر على أَنه
جَوَاب قَوْله دَعه قَوْله " فحفظته من عَمْرو " كَلَام
سُفْيَان أَي حفظت الحَدِيث من عَمْرو بن دِينَار وَعَمْرو
قَالَ سَمِعت جَابِرا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَي قَالَ كُنَّا مَعَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
الْغُزَاة -
6 - (بابٌ قَوْلُهُ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى
يَنْفَضُّوا وَيَتَفَرَّقُوا وَلله خَزَائِنُ السَّمَواتِ
وَالأرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}
(المُنَافِقُونَ: 7)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هم الَّذين} إِلَى
آخِره، هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة
غَيره إِلَى قَوْله: {حَتَّى يَنْفضوا} قَوْله: (ويتفرقوا)
، لَيْسَ من الْقُرْآن بل هُوَ تَفْسِير يَنْفضوا وَسقط
فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ الصَّوَاب.
6094 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْد الله. قَالَ حدَّثني
إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ عُقْبَةَ عَنْ مُوسَى بنِ
عُقْبَةَ. قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ الفَضْلِ أنَّهُ
سَمِعَ أنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ حَزِنْتُ عَلَى مَنْ
أُصِيبَ بِالْحَرَّةِ فَكَتَبَ إلَى زَيْدُ بنُ أرْقَمَ
وَبَلَغَهُ شِدَّةُ حُزْنِي يَذْكُرُ أنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَلأَبْنَاءِ الأنْصَارِ وَشَكَّ
ابنُ الفَضْلِ فِي أبْنَاءِ أبْنَاءِ
(19/241)
الأَنْصَارِ فَسَأَلَ أنَسا بَعْضُ مَنْ
كَانَ عِنْدَهُ، فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذا الَّذِي أوْ فِي الله
لَهُ يَا ذُنِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من آخر الحَدِيث وَهُوَ
قَوْله: هَذَا الَّذِي أوفى الله لَهُ بِإِذْنِهِ،
وَذَلِكَ أَن زيد بن أَرقم لما حكى لرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَول عبد الله بن أبي بن سلول، قَالَ لَهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَعَلَّه أَخطَأ سَمعك. قَالَ:
لَا، فَلَمَّا نزلت الْآيَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة لحق
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا من خَلفه
فَعَرَكَ أُذُنه فَقَالَ: وَقت أُذُنك يَا غُلَام، وَهُوَ
معنى قَوْله: هَذَا الَّذِي أوفى الله لَهُ بِإِذْنِهِ
بِضَم الْهمزَة، أَي صدق الله لَهُ بِإِذْنِهِ. أَي:
يسمعهُ، وَكَأَنَّهُ جعل أُذُنه كالضامنة بِتَصْدِيق مَا
سَمِعت، فَلَمَّا نزل الْقُرْآن بِهِ صَارَت كَأَنَّهَا
واقية بضمانها.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده، وَذكره الْمزي فِي
(الْأَطْرَاف) فِي تَرْجَمَة أنس بن مَالك عَن زيد بن
أَرقم. قَوْله: (حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله) ، هُوَ
ابْن أبي أويس الْمدنِي ابْن أُخْت الإِمَام مَالك بن أنس،
وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِضَم الْمُهْملَة
وَسُكُون الْقَاف ابْن أخي مُوسَى بن عقبَة يروي عَن عَمه
مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف الْأَسدي الْمَدِينِيّ، وَعبد الله بن الْفضل بن
الْعَبَّاس بن ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب
الْهَاشِمِي الْمدنِي من التَّابِعين الصغار الثِّقَات،
وَمَاله من البُخَارِيّ عَن أنس إلاَّ هَذَا الحَدِيث،
وَهُوَ من أَقْرَان مُوسَى بن عقبَة الرَّاوِي عَنهُ.
قَوْله: (حزنت) ، بِكَسْر الزَّاي من الْحزن. قَوْله: (على
من أُصِيب بِالْحرَّةِ) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد الرَّاء وَهِي أَرض بِظَاهِر الْمَدِينَة فِيهَا
حِجَارَة سود كَثِيرَة كَانَت بهَا وقْعَة فِي سنة ثَلَاث
وَسِتِّينَ، وسببها أَن أهل الْمَدِينَة خلعوا بيعَة يزِيد
بن مُعَاوِيَة لما بَلغهُمْ مَا يعتمده من الْفساد، فَأمر
الْأَنْصَار عَلَيْهِم عبد الله بن حَنْظَلَة بن أبي عَامر
وَأمر الْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِم عبد الله بن مُطِيع
الْعَدوي، وَأرْسل إِلَيْهِم يزِيد بن مُعَاوِيَة مُسلم بن
عقبَة الْمزي فِي جَيش كثير فَهَزَمَهُمْ واستباحوا
الْمَدِينَة. وَقتل من الْأَنْصَار خلق كثير جدا. وَكَانَ
أنس يَوْمئِذٍ بِالْبَصْرَةِ قبلغه ذَلِك فَحزن على من
أُصِيب من الْأَنْصَار، فَكتب إِلَيْهِ زيد بن أَرقم،
وَكَانَ يَوْمئِذٍ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ معنى قَول أنس:
فَكتب إِلَيّ، بتَشْديد الْيَاء زيد بن أَرقم الحَدِيث
الَّذِي ذكره، وَهُوَ قَوْله: اللَّهُمَّ أَغفر
للْأَنْصَار الحَدِيث، وعزى أنسا بذلك. قَوْله: (وبلغه
شدَّة حزني) ، جملَة حَالية أَي: وَالْحَال أَنه قد بلغ
زيد بن أَرقم شدَّة حزني الْقَائِل بذلك أنس. قَوْله:
(يذكر) ، أَيْضا حَال. أَي: حَال كَون كِتَابَته يذكر أَنه
سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَشك
ابْن الْفضل) أَي: شكّ عبد الله بن الْفضل: هَل ذكر
أَبنَاء الْأَبْنَاء أم لَا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من
طَرِيق قَتَادَة: اللَّهُمَّ اغْفِر للْأَنْصَار ولأبناء
الْأَنْصَار وَأَبْنَاء أَبنَاء الْأَنْصَار، من غير شكّ،
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة عَليّ بن زيد
عَن النَّضر بن أنس عَن زيد بن أَرقم أَنه كتب إِلَى أنس
بن مَالك يعزيه فِيمَن أُصِيب من أَهله وَبني عَمه يَوْم
الْحرَّة فَكتب إِلَيْهِ إِنِّي أُبَشِّرك ببشرى من الله
إِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول:
اللَّهُمَّ اغْفِر للْأَنْصَار ولذراري الْأَنْصَار
ولذراري ذَرَارِيهمْ قَوْله: (فَسَأَلَ أنسا بعض من كَانَ
عِنْده) لم يعرف هَذَا السَّائِل من هُوَ، وَقيل: يحْتَمل
أَن يكون النَّضر بن أنس فَإِنَّهُ روى حَدِيث الْبَاب عَن
زيد بن أَرقم. قلت: هَذَا احْتِمَال بالتخمين فَلَا يُفِيد
شَيْئا على أَن عِنْد أنس كَانَت جمَاعَة حِينَئِذٍ، وَزعم
ابْن التِّين أَنه وَقع عِنْد الْقَابِسِيّ، فَسَأَلَ أنس
بعض من عِنْده: بِرَفْع أنس على الفاعلية، وَنصب بعض على
المفعولية، وَالْأول هُوَ الصَّوَاب. قَوْله: (هُوَ
الَّذِي) أَي: زيد بن أَرقم هُوَ الَّذِي يَقُول رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقه هَذَا الَّذِي أوفى
الله لَهُ بأذنه، وَقد مر تَفْسِيره الْآن، وَقيل: يجوز
فتح الْهمزَة والذال من أُذُنه أَي: أظهر صدقه فِيمَا أعلم
بِهِ، وَمعنى: أوفى صدق.
7 - (بابُ قَوْلِهِ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى
المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزَّ مِنْهَا الأذَلَّ
وَلله العزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المُنَافِقُونَ: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِن
رَجعْنَا} الْآيَة إِلَى آخرهَا، هَكَذَا سَاقهَا
الْأَكْثَرُونَ إِلَى آخرهَا. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر:
وَمن قَوْله: (يَقُولُونَ) إِلَى قَوْله: (الْأَذَل) .
7094 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ
حَفِظْناهُ مِنْ عَمْروٍ بنِ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ
جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ
كُنَّا فِي غزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ
رَجُلاً مِنَ
(19/242)
الأنْصَارِ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ يَا
لِلأَنْصَارِ وَقَالَ المُهاجِريُّ يَا لِلْمُهَاجِرِينَ
فَسَمَّعَها الله رَسُولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
مَا هاذا فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ
رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا
للأَنْصَارِ وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ يَا لِلْمُهَاجِرِينَ
فَقَال النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهَا
فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ قَالَ جِابِرٌ وَكَانَتْ الأنْصَارُ
حِينَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكْثَرَ
ثُمَّ كَثُرَ المُهَاجِرُونَ بَعْدُ فَقَالَ عَبْدُ الله
بنُ أُبَيٍّ أوَقَدْ فَعَلُوا وَالله لَئِنْ رَجَعْنَا
إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْها الأذَلَّ
فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَابِ رَضِيَ الله عَنهُ دَعْنِي
يَا رَسُولَ الله أضْرِبْ عُنْقَ هاذا المُنافِقِ قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ
النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدا يَقْتُلُ أصْحَابَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحميدِي عبد الله بن
الزبير مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده حميد، وسُفْيَان هُوَ
ابْن عُيَيْنَة، والْحَدِيث مضى قبل الْبَاب الَّذِي سبق
هَذَا الْبَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
46 - ( {سُورَةُ التغابُنِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة التغابن، وَوَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر سُورَة التغابن وَالطَّلَاق، وَغَيره
اقْتصر على سُورَة التغابن وأفرد الطَّلَاق بترجمة، وَهُوَ
الْمُنَاسب واللائق. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَدَنِيَّة
بِلَا خلاف، وَقَالَ مقَاتل: مَدَنِيَّة وفيهَا مكي.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: مَكِّيَّة ومدنية، وَقَالَ ابْن
عَبَّاس: مَكِّيَّة إِلَّا آيَات من آخرهَا نزلت
بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: والتغابن اسْم من أَسمَاء
الْقِيَامَة وَسميت بذلك لِأَنَّهُ يغبن فِيهَا
الْمَظْلُوم الظَّالِم، وَقيل: يغبن فِيهَا الْكفَّار فِي
تِجَارَتهمْ الَّتِي أخبر الله أَنهم اشْتَروا الضَّلَالَة
بِالْهدى، وَهِي ألف وَسَبْعُونَ حرفا، ومائتان وَإِحْدَى
وَأَرْبَعُونَ كلمة وثمان عشرَة آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لَا خلاف فِي ثُبُوت الْبَسْمَلَة هَاهُنَا.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) هُوَ الَّذِي إذَا
أصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ بِهَا وَعَرَفَ أنَّهَا مِنَ
الله.
أَي: قَالَ عَلْقَمَة بن قيس عَن عبد الله بن مَسْعُود،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن
يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه وَالله بِكُل شَيْء عليم هُوَ
الَّذِي} إِلَى آخِره، وَوَصله عبد بن بن حميد فِي
تَفْسِيره عَن عمر بن سعد عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن
أبي ظبْيَان عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. {وَمن يُؤمن
بِاللَّه يهد قلبه} قَالَ: هُوَ الرجل يصاب بمصيبة فَيعلم
أَنَّهَا من عِنْد الله فَيسلم ويرضى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ التغابُنُ غَبْنُ أهْلِ الجَنَّةِ أهْلَ
النَّار
كَذَا لأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده، وَوَصله عبد بن
حميد بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد، وروى الطَّبَرِيّ من
طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة: يَوْم التغابن يَوْم غبن أهل
الْجنَّة أهل النَّار، أَي: لكَون أهل الْجنَّة بَايعُوا
على الْإِسْلَام بِالْجنَّةِ فَرَبِحُوا، وَأهل النَّار
امْتَنعُوا من الْإِسْلَام فحسروا فشبهوا بالمتبايعين يغبن
أَحدهمَا الآخر فِي بَيْعه.
56 - ( {سُورَةُ الطلاقِ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي تَفْسِير بعض سُورَة الطَّلَاق،
هَكَذَا لغير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَته سُورَة الطَّلَاق
ذكرت مَعَ التغابن كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهِي مَدَنِيَّة
كلهَا بِلَا خلاف، وَقَالَ مقَاتل: وَهِي سُورَة النِّسَاء
الصُّغْرَى، قيل: إِنَّهَا نزلت بعد {هَل أَتَى على
الْإِنْسَان} (الْإِنْسَان: 1) وَقيل: {لم يكن}
(الْبَيِّنَة: 1) وَهِي ألف وَسِتُّونَ حرفا، ومائتان وتسع
وَأَرْبَعُونَ كلمة، واثنتا عشرَة آيَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَبَالَ أمْرِها جَزَاءَ أمْرِها
سقط هَذَا لأبي ذَر. أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله
تَعَالَى: {فذاقت وبال أمرهَا وَكَانَ عَافِيَة أمرهَا
خسرا} (الطَّلَاق: 9) وَفسّر الوبال بالجزاء،
(19/243)
رَوَاهُ الْحَنْظَلِي عَن حجاج عَن شَبابَة
عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ. وَالضَّمِير فِي:
فذاقت، يرجع إِلَى قَوْله: {وكأين من قَرْيَة عنت عَن أَمر
رَبهَا} (الطَّلَاق: 8) .
إنَّ ارْتَبْتُمْ إنْ لَمْ تَعْلَمُوا أتَحِيض أمْ لَا
تَحِيضُ: فَاللاَّئِي قَعَدْنَ عَنِ المَحِيضِ وَاللائِي
لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ
هَذَا لأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده، وَأَشَارَ بقوله:
(إِن ارتبتم) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {واللائي يئسن من
الْمَحِيض من نِسَائِكُم إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر}
(الطَّلَاق: 4) الْآيَة. وَفسّر قَوْله: (ارتبتم) بقوله:
(إِن لم تعلمُوا) إِلَى آخِره حَاصله إِن لم تعلمُوا
حيضهن. قَوْله: (فعدن من الْمَحِيض) أَي: يئسن مِنْهُ لكبر
عَن قَوْله: (واللائي لم يحضن بعد) أَي: من الصغر، وَقيل:
مَعْنَاهُ إِن ارتبتم فِي حكمهن وَلم تدروا مَا الحكم فِي
عدتهن.
8094 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ
قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عَنْ ابنِ شهابٍ قَالَ أخْبَرَنِي
سَالِمٌ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِيَ الله
عَنْهُمَا أخْبَرَهُ أنَّهُ طَلْقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ
حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ثُمَّ قَالَ لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا
حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإنْ بَدَا
لَهُ أنْ يُطَلِّقَها فَلْيُطَلِّقْها طَاهِرا قَبْلَ أنْ
يَمَسَّها فَتِلْكَ العِدَّةَ كَمَا أمَرَهُ الله.
مطابقته لما فِي السُّورَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد ذكرُوا
غير مرّة، وَعقيل: بِضَم الْعين ابْن خَالِد.
قَوْله: (فتغيظ) ، أَي: غضب فِيهِ لِأَن الطَّلَاق فِي
الْحيض بِدعَة. قَوْله: (فَإِن بدا لَهُ) أَي: فَإِن ظهر
لَهُ أَن يطلقهَا، وَكلمَة: أَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله:
(طَاهِرا) أَي: حَال كَونهَا طَاهِرَة وَإِنَّمَا ذكره
بِلَفْظ التَّذْكِير لِأَن الطُّهْر من الْحيض من المختصات
بِالنسَاء فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّاء، كَمَا فِي
الْحَائِض. قَوْله: (قبل أَن يَمَسهَا) ، أَي: قبل أَن
يُجَامِعهَا. قَوْله: (فَتلك الْعدة) ، أَي: هِيَ الْعدة
الَّتِي أَمر الله أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء حَيْثُ
قَالَ: {فطلقوهن لعدتهن} ثمَّ أعلم أَن هَذَا الحَدِيث
أخرجه الْأَئِمَّة السِّتَّة عَن ابْن عمر: فَالْبُخَارِي
أخرجه هُنَا وَفِي الطَّلَاق وَفِي الْأَحْكَام
وَالْبَاقُونَ فِي الطَّلَاق، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد
روى هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن ابْن عمر عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،
رَحمَه الله: رَوَاهُ عَن ابْن عمر نَافِع وَعبد الله بن
دِينَار وَأنس بن سِيرِين وطاووس وَأَبُو الزبير وَسَعِيد
بن جُبَير وَأَبُو وَائِل. فرواية نَافِع عِنْد السِّتَّة
غير التِّرْمِذِيّ، وَرِوَايَة عبد الله بن دِينَار عِنْد
مُسلم وَرِوَايَة أنس بن سِيرِين عِنْد الشَّيْخَيْنِ،
وَرِوَايَة طَاوُوس عِنْد مُسلم وَالنَّسَائِيّ،
وَرِوَايَة أبي الزبير عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَرِوَايَة سعيد بن جُبَير عِنْد
النَّسَائِيّ. وَرِوَايَة أبي وَائِل عِنْد ابْن أبي شيبَة
فِي (مُصَنفه) .
ويستنبط مِنْهُ أَحْكَام: الأول: أَن طَلَاق السّنة أَن
يكون فِي طهر، وَهَذَا بَاب اخْتلفُوا فِيهِ. فَقَالَ
مَالك: طَلَاق السّنة أَن يُطلق الرجل امْرَأَته فِي طهر
لم يَمَسهَا فِيهِ تَطْلِيقَة وَاحِدَة ثمَّ يَتْرُكهَا
حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة بِرُؤْيَة أول الدَّم من
الْحَيْضَة الثَّالِثَة، وَهُوَ قَول اللَّيْث
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، هَذَا أحسن من الطَّلَاق، وَله فِي قَول
آخر قَالَ إِذا أَرَادَ أَن يطلقهَا ثَلَاثًا، طَلقهَا
عِنْد كل طهر وَاحِدَة من غير جماع، وَهُوَ قَول
الثَّوْريّ وَأَشْهَب، وَزعم المرغيناني: أَن الطَّلَاق
على ثَلَاثَة أوجه عِنْد أَصْحَاب أبي حنيفَة حسن وَأحسن
وبدعي، فالحسن هُوَ طَلَاق السّنة وَهُوَ أَن يُطلق
الْمَدْخُول بهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَة أطهار،
وَالْأَحْسَن أَن يطلقهَا تَطْلِيقَة وَاحِدَة فِي طهر لم
يُجَامِعهَا فِيهِ وَيَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا
والبدعي أَن يطلقهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَة وَاحِدَة أَو
ثَلَاثًا فِي طهر وَاحِد فَإِذا فعل ذَلِك وَقع الطَّلَاق
وَكَانَ عَاصِيا.
وَقَالَ عِيَاض: اخْتلف الْعلمَاء فِي صفة الطَّلَاق
السّني. فَقَالَ مَالك وَعَامة أَصْحَابه، هُوَ أَن يُطلق
الرجل امْرَأَته تَطْلِيقَة وَاحِدَة فِي طهر لم يَمَسهَا
فِيهِ ثمَّ يَتْرُكهَا حَتَّى تكمل عدتهَا، وَبِه قَالَ
اللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَأَصْحَابه: هَذَا أحسن الطَّلَاق، وَله قَول آخر إِنَّه
إِن شَاءَ أَن يطلقهَا ثَلَاثًا طَلقهَا فِي كل طهر مرّة
وَكِلَاهُمَا عِنْد الْكُوفِيّين طَلَاق سنة، وَهُوَ قَول
ابْن مَسْعُود، وَاخْتلف فِيهِ قَول أَشهب فَقَالَ مثله
مرّة وَأَجَازَ أَيْضا ارتجاعها ثمَّ يُطلق ثمَّ يرتجع
ثمَّ يُطلق فَيتم الثَّلَاث وَقَالَ الشَّافِعِي
(19/244)
وَأحمد وَأَبُو ثَوْر، لَيْسَ فِي عدد
الثَّلَاثَة سنة وَلَا بِدعَة وَإِنَّمَا ذَلِك فِي
الْوَقْت.
الثَّانِي: فِي قَوْله: (ليراجعها) دَلِيل، على أَن
الطَّلَاق غير الْبَائِن لَا يحْتَاج إِلَى رضَا
الْمَرْأَة.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن الرّجْعَة تصح بالْقَوْل
وَلَا خلاف فِي ذَلِك، وَأما الرّجْعَة بِالْفِعْلِ فقد
اخْتلفُوا فِيهَا. فَقَالَ عِيَاض: وَتَصِح عندنَا أَيْضا
بِالْفِعْلِ الْحَال مَحل القَوْل الدَّال فِي الْعبارَة
على الارتجاع: كَالْوَطْءِ والتقبيل واللمس بِشَرْط
الْقَصْد إِلَى الارتجاع بِهِ، وَأنكر الشَّافِعِي صِحَة
الارتجاع بِالْفِعْلِ أصلا وأثبته أَبُو حنيفَة، وَإِن
وَقع من غير قصد وَهُوَ قَول ابْن وهب من أَصْحَابنَا فِي
الواطىء من غير قصد.
وَالرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة أَن من طلق
امْرَأَته وَهِي حَائِض فقد أَثم، وَيَنْبَغِي لَهُ أَن
يُرَاجِعهَا فَإِن تَركهَا تمْضِي فِي الْعدة بَانَتْ
مِنْهُ بِطَلَاق.
الْخَامِس: أَن فِيهِ الْأَمر بالمراجعة، فَقَالَ مَالك:
هَذَا الْأَمر مَحْمُول على الْوُجُوب، وَمن طلق زَوجته
حَائِضًا أَو نفسَاء. فَإِنَّهُ يجْبر على رَجعتهَا فسوى
دم النّفاس بِدَم الْحيض، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَابْن أبي
ليلى وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق
وَأَبُو ثَوْر: يُؤمر بالرجعة وَلَا يجْبر، وحملوا الْأَمر
فِي ذَلِك على النّدب ليَقَع الطَّلَاق على السّنة، وَلم
يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا إِذا انْقَضتْ عدتهَا لَا يجْبر
على رَجعتهَا، وَأَجْمعُوا على أَنه إِذا طَلقهَا فِي طهر
قد مَسهَا فِيهِ لَا يجْبر على رَجعتهَا وَلَا يُؤمر بذلك،
وَإِن كَانَ قد أوقع الطَّلَاق على غير سنة.
السَّادِس: أَن الطَّلَاق فِي الْحيض محرم وَلكنه إِن أوقع
لزم، وَقَالَ عِيَاض: ذهب بعض النَّاس مِمَّن شَذَّ أَنه
لَا يَقع الطَّلَاق. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي منع
الطَّلَاق فِي الْحيض. قلت: هَذِه عبَادَة غير معقولة
الْمَعْنى، وَقيل: بل هُوَ معال بتطويل الْعدة.
2 - (بابٌ: {أُولاتُ الأحْمَالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أمْرِهِ يُسْرا} (الطَّلَاق: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أولات الْأَحْمَال}
إِلَى آخِره، وَلَيْسَ لفظ بَاب: فِي كثير من النّسخ،
وَيَجِيء الْآن تَفْسِير: أولات الْأَحْمَال.
وَأَوْلاتُ الأحْمَالِ: وَاحِدُها ذَاتُ حَمْلٍ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أولات جمع ذَات، والأحمال جمع
حمل، وَالْمعْنَى: أَن أَجلهنَّ موقت وَهُوَ وضع حَملهنَّ،
وَهَذَا عَام فِي المطلقات والمتوفى عَنْهُن أَزوَاجهنَّ،
وَهُوَ قَول عمر وَابْنه مَسْعُود وَأبي مَسْعُود البدري
وَأبي هُرَيْرَة وفقهاء الْأَمْصَار، وَعَن ابْن عَبَّاس،
أَنه قَالَ: تَعْتَد أبعد الآجلين، وَعَن الضَّحَّاك أَنه
قَرَأَ: آجالهن على الْجمع.
9094 - حدَّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ
يَحْيَى قَالَ أخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ قَالَ جَاءَ
رَجُلٌ إلَى ابنِ عَبَّاسٍ وَأبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ
عِنْدَهُ فَقَالَ أفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلِدَتْ بَعْدَ
زَوْجِها بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ
آخِرُ الأجَلَيْنِ قُلْتُ أنَا {وَأُولاتُ الأحْمَالِ
أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أبُو
هُرَيْرَةَ أنَا مَعَ ابْن أخِي يَعْنِي أبَا سَلَمَةَ
فأرْسَلَ ابنُ عَبَّاسٍ غُلامَهُ كُرَيْبا إلَى أُمِّ
سَلَمَةَ يَسْأَلُها فَقَالَتْ قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ
الأسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ
بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَت فَأنْكَحَهَا رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ أبُو السَّنَابِلِ
فِيمَنْ خَطَبها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسعد بن حَفْص أَبُو
مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ أَبُو مُعَاوِيَة، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير
صَالح من أهل الْبَصْرَة سكن الْيَمَامَة، وَأَبُو سَلمَة
بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَغَيره فِي
التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله.
قَوْله: (وَأَبُو هُرَيْرَة) الْوَاو فِيهِ للْحَال.
قَوْله: (آخر الْأَجَليْنِ) أَي: اقصاهما يَعْنِي: لَا بُد
لَهَا من انْقِضَاء أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَلَا يَكْفِي
وضع الْحمل إِن كَانَت هَذِه الْمدَّة أكثرهما، وَمن وضع
الْحمل إِن كَانَت مدَّته أَكثر. قَوْله: (قلت أَنا) ،
الْقَائِل أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن قَوْله: (أَنا
مَعَ ابْن أخي) ، هَذَا على عَادَة الْعَرَب إِذْ لَيْسَ
هُوَ ابْن أَخِيه حَقِيقَة. قَوْله: (كريبا) نصب لِأَنَّهُ
عطف بَيَان على قَوْله: (غُلَاما) قَوْله: (سبيعة) ، بِضَم
السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف ثمَّ عين مُهْملَة: بنت الْحَارِث
(19/245)
الْأَسْلَمِيّ، قيل: إِنَّهَا أول امْرَأَة
أسلمت بعد صلح الْحُدَيْبِيَة وَزوجهَا سعد بن خَوْلَة.
قَالَ عُرْوَة: خَوْلَة من بني عَامر بن لؤَي، وَكَانَ من
مهاجرة الْحَبَشَة وَشهد بَدْرًا. فَإِن قلت: قَالَ فِي
الْجَنَائِز: إِن سعد بن خَوْلَة مَاتَ بِمَكَّة وَفِي
قصَّة بدر توفّي عَنْهَا، وَهنا قَالَ: قتل؟ قلت:
الْمَشْهُور الْمَوْت لَا الْقَتْل، وَأَنَّهَا قَالَت
بِالْقَتْلِ بِنَاء على ظَنّهَا. قَوْله: (بِأَرْبَعِينَ
لَيْلَة) ، وَجَاء بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَجَاء
بِخمْس وَعشْرين لَيْلَة وَجَاء: بِثَلَاث وَعشْرين
لَيْلَة وَفِي رِوَايَة: بِعشْرين لَيْلَة، وَهَذَا كُله
فِي تَفْسِير عبد وَابْن مرْدَوَيْه وَمُحَمّد بن جرير.
قَوْله: (فَخطبت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:
(أَبُو السنابل) ، هُوَ ابْن يعكك واسْمه لبيد، وَقيل:
عَمْرو، وَقيل: عبد الله، وَقيل: أَصْرَم، وَقيل: حَبَّة
بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: حنة بالنُّون، وَقيل: لبيد
ربه، وبعكك، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة. وبكافين أولاهما مَفْتُوحَة ابْن الْحجَّاج
بن الْحَارِث بن السباق بن عبد الدَّار بن قصي الْقرشِي
الْعَبدَرِي، وَأمه عمْرَة بنت أَوْس من بني عذرة ابْن سعد
هذيم من مسلمة الْفَتْح. كَانَ شَاعِرًا وَمَات بِمَكَّة.
قَالَه أَبُو عمر، وَقَالَ العسكري: هَذَا غير أبي السنابل
عبد الله بن عَامر ابْن كريز الْقرشِي.
وَفقه هَذَا الحَدِيث: أَن الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا
آخر الْأَجَليْنِ عِنْد ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن عَليّ
وَابْن أبي ليلى أَيْضا وَاخْتَارَهُ سَحْنُون، وَرُوِيَ
عَن ابْن عَبَّاس رُجُوعه وانقضاء الْعدة بِوَضْع الْحمل
وَعَلِيهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار، وَهُوَ قَول أبي
هُرَيْرَة وَعَمْرو ابْن مَسْعُود وَأبي سَلمَة. وَسبب
الْخلاف تعَارض الْآيَتَيْنِ فَإِن كلاًّ مِنْهُمَا عَام
من وَجه وخاص من وَجه. فَقَوله: {وَالَّذين يتوفون
مِنْكُم} (الْبَقَرَة: 432، 042) عَام فِي الْمُتَوفَّى
عَنْهُن أَزوَاجهنَّ سَوَاء كن حوامل أم لَا وَقَوله:
{وَأولَات الْأَحْمَال} (الطَّلَاق: 4) عَام فِي المتوفي
عَنْهُن سَوَاء كن حوامل أم لَا. فَهَذَا هُوَ السَّبَب
فِي اخْتِيَار من اخْتَار أقْصَى الْأَجَليْنِ لعدم
تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر فَيُوجب أَن لَا يرفع
تَحْرِيم الْعدة إلاَّ بِيَقِين، وَذَلِكَ بأقصى
الْأَجَليْنِ، غير أَن فُقَهَاء الْأَمْصَار اعتمدوا على
الحَدِيث الْمَذْكُور فَإِنَّهُ مُخَصص لعُمُوم قَوْله:
{وَالَّذين يتوفون مِنْكُم} وَلَيْسَ بناسخ لِأَنَّهُ أخرج
بعض متناولاتها، وَحَدِيث سبيعة أَيْضا مُتَأَخّر عَن
عدَّة الْوَفَاة لِأَنَّهُ كَانَ بعد حجَّة الْوَدَاع.
0194 - حدَّثنا وَقَالَ سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ وَأبُو
النُّعْمَانِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْد عَنْ أيُّوبَ
عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كُنْتُ فِي حَلَقَةٍ فِيهَا عَبْدُ
الرَّحْمانِ بنْ أبِي لَيْلَى وَكَانَ أصْحَابُهُ
يُعَظِّمُونَهُ فَذَكَرَ آخِرَ الأجَلَيْنِ فَحَدَّثْتُ
بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الله
بنِ عتْبَةَ قَالَ فَضَمِنَ لِي بَعْضُ أصْحَابِهِ قَالَ
مُحَمَّدٌ فَفَطِنْتُ لَهُ فَقُلْتُ إنِّي إذَا لَجَرِيءٌ
إنْ كَذَبْتُ عَلَى عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ وَهُوَ فِي
نَاحِيَةِ الكُوفَةِ فَاسْتَحْيَا وَقَال لَكِنَّ عَمَّهُ
لَمْ يَقُلْ ذَاكَ فَلَقِيتُ أبَا عَطِيَةَ مَالِكَ بنَ
عَامِرٍ فَسَأَلْتُهُ فَذَهَبَ يُحَدِّثُنِي حَدِيثَ
سُبَيْعَةَ فَقُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ عَنْ عَبْدِ الله
فِيهَا شَيْئا فَقَالَ كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ الله فَقَالَ
أتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلا تَجْعَلُونَ
عَلَيْهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةَ النِّسَاءِ
القُصْرَى بَعْدَ الطَّولَى {وَأُولاتُ الأحْمَالِ
أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
ذكر هَذَا الحَدِيث مُعَلّقا عَن شَيْخه سُلَيْمَان بن
حَرْب، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل
الْمَعْرُوف بعارم كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد ابْن زيد عَن
أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، وَوَصله
الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) قَالَ حَدثنَا
يُوسُف القَاضِي عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب. قَالَ:
وَحدثنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز عَن أبي النُّعْمَان
قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد فَذكره وَقد رَوَاهُ
البُخَارِيّ فِي سُورَة الْبَقَرَة عَن حبَان عَن عبد الله
بن الْمُبَارك عَن عبد الله بن عون عَن مُحَمَّد بن
سِيرِين. قَالَ: جَلَست إِلَى مجْلِس فِيهِ عظم من
الْأَنْصَار وَفِيهِمْ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى.
الحَدِيث.
قَوْله: (فِي حَلقَة) بِفَتْح اللَّام وَالْمَشْهُور
إسكانها. وَاقْتصر ابْن التِّين على الأول. قَوْله: (عبد
الله بن عتبَة) بِضَم الْعين وَسُكُون التَّاء من فَوق
ابْن مَسْعُود. قَوْله: (فضمن لي) ، قَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) هَكَذَا فِي نُسْخَة سَمَاعنَا بالنُّون،
وَقَالَ عِيَاض: فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بتَشْديد الْمِيم
بعْدهَا نون وضبطها الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ
وَالْكَسْر، قَالَ: وَهُوَ غير مَفْهُوم الْمَعْنى وأشبهها
رِوَايَة أبي الْهَيْثَم بالزاي، وَلَكِن بتَشْديد الْمِيم
وَزِيَادَة النُّون وياء بعْدهَا يَعْنِي: ضمزني. أَي:
أسكتني، يُقَال: ضمز سكت وضمز غَيره أسكته
(19/246)
وَقَالَ ابْن التِّين فضمر، بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْمِيم
الْمُشَدّدَة وبالراء أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ أَن اسْكُتْ،
وَيُقَال: ضمز الرجل إِذا عض على شَفَتَيْه، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير أَيْضا بالضاد وَالزَّاي من ضمز إِذا سكت،
ويروى: فغمض لي، فَإِن صحت فَمَعْنَاه من تغميض عينه.
قَوْله: (ففطنت لَهُ) ، بِالْفَتْح وَالْكَسْر. قَوْله:
(أَنى إِذا لجريء) ، يَعْنِي: ذُو جرْأَة شَدِيدَة، وَفِي
رِوَايَة هشيم عَن ابْن سِيرِين عِنْد عبد بن حميد: أَنِّي
لحريص على الْكَذِب. قَوْله: (وَهُوَ فِي نَاحيَة
الْكُوفَة) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن عبد الله بن عتبَة
كَانَ حَيا فِي ذَلِك الْوَقْت. قَوْله: (فاستحيي) ، أَي
مِمَّا وَقع مِنْهُ. قَوْله: (لَكِن عَمه) ، عبد الله بن
مَسْعُود لم يقل ذَلِك. قيل: كَذَا نقل عَنهُ عبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَالْمَشْهُور عَن ابْن مَسْعُود
خلاف مَا نَقله ابْن أبي ليلى، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقُول
ذَلِك ثمَّ رَجَعَ أَو وهم النَّاقِل عَنهُ. قَوْله:
(فَلَقِيت أَبَا عَطِيَّة مَالك بن عَامر) ، وَيُقَال:
ابْن زبيد، وَيُقَال: عَمْرو بن أبي جُنْدُب الْهَمدَانِي
الْكُوفِي التَّابِعِيّ، مَاتَ فِي ولَايَة صَعب بن الزبير
على الْكُوفَة. وَالْقَائِل بقوله: لقِيت أَبَا عَطِيَّة
مُحَمَّد بن سِيرِين. قَوْله: (فَسَأَلته) ، أَرَادَ بِهِ
التثبيت. قَوْله: (فَذهب يحدثني حَدِيث سبيعة) ، يَعْنِي:
مثل مَا حدث بِهِ عبد الله بن عتبَة عَنْهَا. قَوْله: (من
عبد الله) ، يَعْنِي: ابْن مَسْعُود، وَأَرَادَ بِهِ
اسْتِخْرَاج مَا عِنْده فِي ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود دون
غَيره لما وَقع من التَّوَقُّف عِنْده فِيمَا أخبرهُ بِهِ
ابْن أبي ليلى. قَوْله: (فَقَالَ: كُنَّا عِنْد عبد الله)
، أَي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا
التَّغْلِيظ) ؟ أَي: طول الْعدة بِالْحملِ إِذا زَادَت
مدَّته على مُدَّة الْأَشْهر، وَقد يَمْتَد ذَلِك حَتَّى
يُجَاوز تِسْعَة أشهر إِلَى أَربع سِنِين. أَي: إِذا جعلتم
التَّغْلِيظ عَلَيْهَا فاجعلوا لَهَا الرُّخْصَة. أَي:
التسهيل إِذا وضعت لأَقل من أَرْبَعَة أشهر. قَوْله:
(لنزلت) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد لقسم مَحْذُوف،
ويوضحه رِوَايَة الْحَارِث بن عُمَيْر، وَلَفظه: فوَاللَّه
لقد نزلت. قَوْله: (سُورَة النِّسَاء الْقصرى) ، سُورَة
الطَّلَاق. وفيهَا: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن
يَضعن حَملهنَّ} (الطَّلَاق: 4) قَوْله: (بعد الطُّولى)
لَيْسَ المُرَاد مِنْهَا سُورَة النِّسَاء، بل المُرَاد
السُّورَة الَّتِي هِيَ أطول سور الْقُرْآن وَهِي
الْبَقَرَة، وفيهَا: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم}
(الْبَقَرَة: 432، 042) وَفِيه جَوَاز وصف السُّورَة
بالطولى والقصرى، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْقصرى لَا أرَاهُ
مَحْفُوظًا وَلَا صغرى، وَإِنَّمَا قَالَ: قَصِيرَة
فَافْهَم، هُوَ رد للْأَخْبَار الثَّابِتَة بِلَا مُسْتَند
وَالْقصر والطول أَمر نسبي، ورد فِي صفة الصَّلَاة. طولى
الطولتين، وأزيد بذلك سُورَة الْأَعْرَاف.
66 - (سُورَةُ {لَمَ تُحَرِّمُ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {لم تحرم} وَفِي بعض
النّسخ: سُورَة التَّحْرِيم. وَفِي بَعْضهَا: سُورَة
المتحرم، وَهِي مَدَنِيَّة لَا خلاف فِيهَا. وَقَالَ
السخاوي: نزلت بعد سُورَة الحجرات وَقبل سُورَة
الْجُمُعَة. وَقيل: نزلت فِي تَحْرِيم مَارِيَة، أخرجه
النَّسَائِيّ وَصَححهُ الْحَاكِم على شَرط مُسلم. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: فِي إِسْنَاده نظر. وَنَقله الْخطابِيّ عَن
أَكثر الْمُفَسّرين، وَالصَّحِيح أَنه فِي الْغسْل،
وَقَالَ النَّسَائِيّ: حَدِيث عَائِشَة فِي الْغسْل جيد
غَايَة، وَحَدِيث مَارِيَة وتحريمها لم يَأْتِ من طَرِيق
جَيِّدَة، وَهِي ألف وَسِتُّونَ حرفا ومائتان وَسبع
وَأَرْبَعُونَ كلمة. واثنتا عشرَة آيَة.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر. |