عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 2 - (بَابُ قَوْلِهِ: {قُمْ فَأنْذِرْ}
(المدثر: 2)
أَي: قُم يَا مُحَمَّد من مضجعك قيام عزم وجد فَأَنْذر
قَوْمك وَغَيرهم لِأَنَّهُ أطلق الْإِنْذَار.
3294 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا عَبْدُ
الرَّحْمانِ بنُ مَهْدُيٍ وَغَيْرُهُ قَالا حَدَّثنا
حَرْبُ بنُ شَدَّادٍ عَنْ يَحْيَى بنِ أبِي كَثِيرٍ عَنْ
أبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله
عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
جَاوَرْتُ بِحَرَاءِ مِثْلَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بنِ عُمَرَ
عَنْ عَلِيِّ بنِ المُبَارَكَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار بالشين الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (وَغَيره) ، يشبه أَن يكون أَرَادَ بِهِ أَبَا
دَاوُد فَإِن أَبَا نعيم الْأَصْبَهَانِيّ رَوَاهُ عَن أبي
إِسْحَاق بن حَمْزَة حَدثنَا أَبُو عوَانَة حَدثنَا
مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو
دَاوُد قَالَا: حَدثنَا حَرْب فَذكره. قَوْله: (مثل حَدِيث
عُثْمَان ابْن عمر) ، أحَال رِوَايَة حَرْب بن شَدَّاد على
رِوَايَة عُثْمَان بن عمر وَلم يخرج هُوَ رِوَايَة
عُثْمَان بن عمر، وَهِي عِنْد مُحَمَّد بن بشار شيخ
البُخَارِيّ فِيهِ أخرجه أَب عرُوبَة فِي كتاب
(الْأَوَائِل) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا
عُثْمَان بن عمر أخبرنَا عَليّ بن الْمُبَارك، وَهَكَذَا
أخرجه مُسلم عَن ابْن مثنى عَن عُثْمَان بن عمر عَن عَليّ
بن الْمُبَارك.
3 - (بَابُ قَوْلِهِ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 3)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَرَبك فَكبر} أَي:
فَعظم وَلَا تشرك بِهِ، وَهَذَا التَّكْبِير قد يكون فِي
الصَّلَاة وَقد يكون فِي غَيرهَا. وَلما نزل ذَلِك قَامَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكبر فكبرت خَدِيجَة وفرحت
وَعلمت أَنه الْوَحْي من الله تَعَالَى، وَالْفَاء على
معنى جَوَاب الْجَزَاء أَي: قُم فَكبر رَبك، وَكَذَلِكَ
مَا بعده. قَالَ الزّجاج، وَقيل: الْفَاء صلَة كَقَوْلِك:
زيدا فَاضْرب.
4294 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدَّثنا عَبْدُ
الصَّمَدِ حدَّثنا حَرْبُ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ سَألْتُ
أبَا سَلَمَةَ أيُّ القُرْآنَ أُنْزِلَ أوَّلُ افَقَالَ:
{يَا أيُّها المُدَثِّرُ} فَقُلْتُ أُنْبِئتُ أنَّهُ
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبَّكَ الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ أبُو
سَلَمَةَ سَألْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله أيُّ القُرْآنِ
أُنْزِلَ أوَّلُ فَقَال: {يَا أيَّها المُدَّثِّرُ}
فَقُلْتُ أُنْبِئْتُ أنَّهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ} فَقَالَ لَا أُخْبِرُكَ إلاَّ بِمَا قَالَ
رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاوَرْتُ فِي
حِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ
فَاسْتَبْطَنْتُ الوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمَامِي
وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإذَا هُوَ
جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّماءِ وَالأرْضِ
فَأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا
عَلَيَّ مَاءً بَارِدا وَأُنْزِلَ عَلَيَّ: {يَا أيُّهَا
المُدَّثِّرُ قُمْ فَإنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
(المدثر: 1، 3) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن
إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج أبي يَعْقُوب
الْمروزِي عَن عبد الصَّمد ابْن عبد الْوَارِث الْبَصْرِيّ
عَن حَرْب بن شَدَّاد عَن يحيى بن أبي كثير.
قَوْله: (أول) ، قَوْله: (أنبئت) على صِيغَة الْمَجْهُول.
أَي: أخْبرت. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ
عَن حَرْب. قلت: إِنَّه بَلغنِي أَن أول مَا نزل اقْرَأ
وَلم يبين يحيى بن أبي كثير من أنبأه بذلك وَلَعَلَّه
يُرِيد عُرْوَة بن الزبير، كَمَا لم يبين أَبُو سَلمَة من
أنبأه بذلك، وَلَعَلَّه يُرِيد عَائِشَة فَإِن الحَدِيث
مَشْهُور عَن
(19/266)
عُرْوَة عَن عَائِشَة. رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، كَمَا تقدم فِي بَدْء الْوَحْي من طَرِيق
الزُّهْرِيّ عَنهُ مطولا. قَوْله: (فَاسْتَبْطَنْت) ، أَي:
وصلت بطن الْوَادي. قَوْله: (على عرش) ويروى: على كرْسِي.
4 - (بَابُ قَوْلِهِ: {ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} قَالَ
الثَّعْلَبِيّ: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن هَذِه الْآيَة
فَقَالَ: مَعْنَاهَا لَا تلبسها على مَعْصِيّة وَلَا على
غدرة، وَالْعرب تَقول للرجل إِذا وفى وَصدق: إِنَّه طَاهِر
الثِّيَاب، وَإِذا غدر ونكث: إِنَّه لدنس الثِّيَاب، وَعَن
أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا تلبسها على
عجب وَلَا على ظلم وَلَا على إِثْم والبسها وَأَنت طَاهِر،
وَعَن ابْن سِيرِين وَابْن زيد: نقِّ ثِيَابك واغسلها
بِالْمَاءِ وطهرها من النَّجَاسَة، وَذَلِكَ أَن
الْمُشْركين كَانُوا لَا يتطهرون فَأمره أَن يتَطَهَّر
ويطهر ثِيَابه. وَعَن طَاوُوس وثيابك فقصر وشمر، لِأَن
تَقْصِير الثِّيَاب طهرة لَهَا.
5294 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ
عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ ح وحدَّثني عَبْدُ الله
بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرَنَا
مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو
سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ
الله رَضِيَ الله عَنهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُحَدِّث عَنْ فَتْرَةِ
الوَحْي فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَبَيْنَا أنَا أمْشِي إذْ
سَمِعْتُ صَوْتا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي
فَإذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحَراءٍ جَالِسٌ عَلَى
كُرْسِيّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ فَجَثِثْتُ مِنْهُ
رُعْبا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمَّلُونِي زَمَّلُونِي
فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أيتُّها
المُدَّثِّرُ} إلَى {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1،
5) قَبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصلاةُ وَهِيَ الأوْثَانُ..
هَذَا أَيْضا حَدِيث جَابر الْمَذْكُور وَلَكِن رَوَاهُ من
رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة وَذكره من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير
الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث بن سعد عَن عقيل، بِضَم الْعين
ابْن خَالِد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
وَالْآخر: عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن عبد
الرَّزَّاق الخ.
قَوْله: (وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي) ، الْوَاو
فِيهِ للْحَال وَهَذَا مشْعر بِأَنَّهُ كَانَ قبل نزُول:
{يَا أَيهَا المدثر} (المدثر: 1) وَحي وَلَيْسَ ذَلِك
إلاَّ سُورَة اقْرَأ على الصَّحِيح. قَوْله: قَوْله: {على
كرْسِي} وَفِي الحَدِيث الَّذِي مضى على عرش وَلَا تفَاوت
بَينهمَا بِحَسب الْمَقْصُود. وَهُوَ مَا يجلس عَلَيْهِ
وَقت العظمة {فَجَثَتْ} على صِيغَة الْمَجْهُول من الجأث،
بِالْجِيم والهمزة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَهُوَ الْفَزع
والرعب وَالْخَوْف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا:
فجثثت بالمثلثتين من الجث وَهُوَ الْقلع والرعب. قَوْله:
(قيل أَن تفرض الصَّلَاة) غَرَضه أَن تَطْهِير الثِّيَاب
كَانَ وَاجِبا قبل الصَّلَاة قَوْله: (وَهِي) أَي: الرجز
هِيَ الْأَوْثَان، وَإِنَّمَا أنث بِاعْتِبَار أَن
الْخَبَر جمع وَإِنَّمَا فسر بِالْجمعِ نظر إِلَى
الْجِنْس.
5 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالرجز فاهجز} عَن
ابْن عَبَّاس: فاترك المأثم، وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة
وَقَتَادَة وَالزهْرِيّ وَابْن زيد: والأوثان فاهجر وَلَا
تَقربهَا، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل:
الزَّاي فِيهِ بدل من السِّين لقرب مخرجهما. دَلِيله
قَوْله عز وَجل: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان}
(الْحَج: 03) وَعَن أبي الْعَالِيَة الرّبيع: الرجز،
بِالضَّمِّ الصَّنَم، وبالكسر النَّجَاسَة وَالْمَعْصِيَة،
وَعَن الضَّحَّاك: الشّرك وَعَن ابْن كيسَان الشَّيْطَان.
يُقَالُ: الرِّجْزُ وَالرِّجْسُ: العَذَابُ
هُوَ قَول أبي عُبَيْدَة والكلبي، ومجاز الْآيَة أَهجر مَا
أوجب لَك الْعَذَاب من الْأَعْمَال، وَقيل: أسقط حب
الدُّنْيَا من قَلْبك فَأَنَّهُ رَأس كل خَطِيئَة.
6294 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ
عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابنُ شِهابٍ سَمِعْتُ أبَا سَلَمَة
(19/267)
َ قَالَ أخْبَرَنِي جَابِرُ بنُ عَبْدِ
الله أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَة الوَحْيِ فَبَيْنا أنَا أمْشِي إذْ
سَمِعْتُ صَوْتا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي
قِبَلَ السَّمَاءِ فَإذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي
بِحَرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالأرْضي فَجَثثْت مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إلَى الأرْضِ
فَجَئْتُ أهْلِي فَقُلْتُ زَمَّلُونِي زَمَّلُونِي
فَزَمَلونِي فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {يَا أيُّها
المُدَّثَّرُ} إلَى: {فَاهْجُرْ} (المدثر: 1) . قَالَ أبُو
سَلَمَةَ وَالرِّجْزَ الأوْثَانَ ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ
وَتَتَابَعَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاهجر) وَهَذَا أَيْضا
طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر. قَوْله: (فَبينا) أَصله:
بَين أشبعت فَتْحة النُّون بِالْألف وَهُوَ ظرف يُضَاف
إِلَى الْجُمْلَة وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب وَجَوَابه
قَوْله: (إِذا سَمِعت) قَوْله: (حَتَّى هويت) أَي: حَتَّى
سَقَطت. قَوْله: (وَالرجز الْأَوْثَان) ، بِكَسْر الرَّاء
وَالضَّم لُغَة قَالَه الْفراء، وَقَالَ بعض الْبَصرِيين
بِالْكَسْرِ الْعَذَاب وَلَا يضم، وَفسّر أَبُو سَلمَة
الرجز بالأوثان لِأَنَّهَا مؤدية إِلَى الْعَذَاب، ويروى
عَن مُجَاهِد وَالْحسن بِالضَّمِّ اسْم الصَّنَم وبالكسر
الْعَذَاب، وروى ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق مُحَمَّد بن
كثير عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث الرجز
بِالضَّمِّ وَهِي قِرَاءَة حَفْص عَن عَاصِم.
57 - (سُورَةُ {القِيَامَةِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْقِيَامَة، وَهِي
مَكِّيَّة، وَهِي سِتّمائَة وإثنان وَخَمْسُونَ حرفا
وَمِائَة وَسبع وَتسْعُونَ كلمة. وَأَرْبَعُونَ آيَة.
1 - (بابُ وَقَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ} (الْقِيَامَة: 61)
أَي: وَقَوله تَعَالَى: {لَا تحرّك بِهِ} الْخطاب للنَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: لَا تحرّك بِالْقُرْآنِ
لسَانك، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ لَا يفتر عَن قِرَاءَة الْقُرْآن مَخَافَة أَن لَا
ينساه وَلَا ويحرك بِهِ لِسَانه. فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَلَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجب بِهِ} أَي: بتلاوته لتحفظه
وَلَا تنساه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: سُدًى هَمَلاً
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أيحسب
الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} (الْقِيَامَة: 63) أَي: هملاً
بِفتْحَتَيْنِ أَي: مهملاً.
وَقَالَ ليَفْجُرَ أمَامَةُ: سَوْفَ أتُوبُ سَوْفَ أعْمَلُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى:
{يُرِيد الْإِنْسَان ليفجر أَمَامه} (الْقِيَامَة: 5) فسره
بقوله: (سَوف أَتُوب سَوف أعمل) وَحَاصِل الْمَعْنى:
يُرِيد الْإِنْسَان أَن يَدُوم على فجوره فِيمَا يستقبله
من الزَّمَان وَيَقُول: سَوف أَتُوب وسوف أعمل عملا
صَالحا.
لَا وَزَرَ لَا حِصْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلا لَا وزر إِلَى
رَبك يَوْمئِذٍ المستقر} (الْقِيَامَة: 21، 31) وَفسّر
الْوزر بالحصن، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْعَوْفِيّ
عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصن وَعَن أبي عُبَيْدَة: الْوزر
الملجأ.
7294 - حدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا
مُوسَى بنُ أبِي عَائِشَةَ وَكَانَ ثِقَةً عَنْ سَعِيدٍ
بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا
قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا نَزَلَ
عَلَيْهِ الوَحْيْ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ وَوَصَفَ
سُفْيَانُ يُرِيدُ أنْ يَحْفَظَهُ فَأنْزَلَ الله: {لَا
تُحَرِّكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
(الْقِيَامَة: 61) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمضى الحَدِيث فِي بَدْء
الْوَحْي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَمضى الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ قَوْله: (وَكَانَ ثِقَة) ، مقول سُفْيَان،
ومُوسَى هَذَا تَابِعِيّ صَغِير كُوفِي من موَالِي آل جعدة
ابْن هُبَيْرَة وَلَا يعرف اسْم أَبِيه، ومدار هَذَا
الحَدِيث عَلَيْهِ وَإِلَى قَوْله: (لتعجل بِهِ) فِي
رِوَايَة أبي ذَر وَزَاد غَيره الْآيَة الَّتِي بعْدهَا.
(بَابٌ: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
(الْقِيَامَة: 71)
(19/268)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {أَن
علينا جمعه} أَي: فِي صدرك {وقرآنه} (الْقِيَامَة: 71)
وقراءته عَلَيْك حَتَّى تعيه، وَالْقُرْآن مصدر كالرجحان
وَالنُّقْصَان.
8294 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ
عَنْ مُوسَى عَنْ مُوسَى بنِ أبِي عَائِشَةَ أنَّهُ سَأَلَ
سَعِيد بنِ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (الْقِيَامَة: 61) قَالَ
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إذَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ} يَخَشَى أنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ {إنَّ عَلَيْنَا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ
وَقُرْآنَهُ أنْ تَقْرَأَهُ: {فَإِذَا قَرَأْناهُ} يَقُولُ
أُنْزِلَ عَلَيْهِ (فَاتَبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (الْقِيَامَة: 81، 91) أنْ
نُبَيِّنَهُ عَلَى لِسَانِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن
يُونُس أبي إِسْحَاق السبيعِي. وَهَذَا حَدِيث ابْن
عَبَّاس من رِوَايَة إِسْرَائِيل عَن مُوسَى الْمَذْكُور.
قَوْله: (كَانَ) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُحَرك شَفَتَيْه إِذا أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن. قَوْله:
(أَن يتفلت) أَي: يضيع ويفوت قَوْله: (إِن علينا جمعه)
إِلَى آخِره، يحْتَمل أَن يكون مُعَلّقا عَن ابْن عَبَّاس،
وَسِيَاق الحَدِيث الَّذِي بعده أتم مِنْهُ.
2 - (بَابٌ: {فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأناه}
أَي: إِذا قرأناه عَلَيْك: {فَاتبع قرآنه} أَي: مَا فِيهِ
من الْأَحْكَام.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَرْآنَهُ بَيَانَهُ فَانبِعْ اعْمَلْ
بِهِ
هَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس هَذِه التَّرْجَمَة، وَهِي
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} وروى هَذَا
التَّفْسِير عَليّ بن أبي طَلْحَة وَقد أخرجه ابْن حَاتِم.
9294 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرُ
عَنْ مُوسَى بنِ أبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ كَانَ رَسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
بِالوَحْي وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ
وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُ عَلَيْهِ وَكَانَ يُعْرَقُ مِنْهُ
فَأنْزَلَ الله الآيَةَ الَّتِي فِي {لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الْقِيَامَة: 1) {لَا تُحَرِّكْ
بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ} (الْقِيَامَة: 61، 71) قَالَ عَلَيْنَا أنْ
نَجْمَعُهُ فِي صَدْرِكَ وَقرْآنَهُ: {فَإذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فإذَا أَنْزَلْنَا فَاسْتَمِعْ
{ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (الْقِيَامَة: 91)
عَلَيْنَا أنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ قَالَ: فَكَانَ
إذَا أتَاهُ جِبْرِيلُ أطْرَقَ فَإذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ
كَمَا وَعَدَهُ الله تَعَالَى..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور
أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير بن عبد الحميد عَن
مُوسَى الْمَذْكُور.
قَوْله: (لِسَانه وشفتيه) ذكر هما هُنَا وَاقْتصر سُفْيَان
فِي رِوَايَته السَّابِقَة على ذكر لِسَانه، وَاقْتصر
إِسْرَائِيل على ذكر شَفَتَيْه وَالْكل مُرَاد. قَوْله:
(فيشتد عَلَيْهِ) أَي: يشْتَد عَلَيْهِ حَاله عِنْد نزُول
الْوَحْي، وَمضى فِيمَا تقدم، وَكَانَت الشدَّة تحصل مَعَه
عِنْد نزُول الْوَحْي لثقل القَوْل، وَفِي حَدِيث
الْإِفْك، فَأَخذه مَا كَانَ يَأْخُذهُ من البرحاء وَكَانَ
يتعجل بِأَخْذِهِ لتزول الشدَّة سَرِيعا. قَوْله: (وَكَانَ
يعرف مِنْهُ) أَي: وَكَانَ الاشتداد، يعرف مِنْهُ حَالَة
نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ. قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى)
أَي: بِسَبَب ذَلِك الاشتداد أنزل الله تَعَالَى قَوْله:
{وقرآنه} زَاد إِسْرَائِيل فِي رِوَايَته الْمَذْكُورَة
أَن تَقْرَأهُ أَي: أَنْت تقرؤه. قَوْله: (فَإِذا قرأناه)
أَي: فَإِذا قَرَأَهُ عَلَيْك الْملك قَوْله: (أطرق)
يُقَال: أطرق الرجل إِذا سكت، وأطرق أَي أرْخى عَيْنَيْهِ
ينظر إِلَى الأَرْض.
{أَوْلَى لَكَ} تَوَعُّدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أولى لَك فَأولى
ثمَّ أولى لَك فَأولى} وَفَسرهُ. بقوله: (توعد) أَي: هَذَا
وَعِيد من الله تَعَالَى على وَعِيد لأبي جهل، وَهِي كلمة
مَوْضُوعَة للتهديد والوعيد، وَقيل: أولى من المقلوب ويلي
من الويل كَمَا يُقَال: مَا أطيبه وأبطيه، وَمعنى الْآيَة
لِأَنَّهُ يَقُول لأبي جهل الويل لَك يَوْم تحيى
وَالْوَيْل لَك يَوْم تَمُوت وَالْوَيْل لَك يَوْم تبْعَث
وَالْوَيْل لَك يَوْم تدخل النَّار.
(19/269)
67 - (سُورَةُ {هَلْ أتَى عَلَى
الإنْسَانِ} (الْإِنْسَان: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {هَل أَتَى على
الْإِنْسَان} وَهِي مَكِّيَّة قَالَه قَتَادَة وَالسُّديّ
وسُفْيَان، وَعَن الْكَلْبِيّ: أَنَّهَا مَكِّيَّة إِلَّا
آيَات (ويطعمون الطَّعَام على حبه) (الْإِنْسَان: 8، 9)
إِلَى قَوْله: (قمطريرا) وَيذكر عَن الْحسن أَنَّهَا
مَكِّيَّة وفيهَا آيَة مَدَنِيَّة {وَلَا تُطِع مِنْهُم
آثِما أَو كفورا} (الْإِنْسَان: 42) وَقيل: مَا صَحَّ فِي
ذَلِك قَول الْحسن وَلَا الْكَلْبِيّ، وَجَاءَت أَخْبَار
فِيهَا أَنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْن عَليّ
وَفَاطِمَة وابنيهما، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذكر
ابْن النَّقِيب أَنَّهَا مَدَنِيَّة كلهَا. قَالَه
الْجُمْهُور، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة الرحمان
وَقبل الطَّلَاق، وَهِي ألف وَأَرْبَعَة وَخَمْسُونَ حرفا
ومائتان وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ آيَة.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.
يُقَالُ مَعْنَاهُ أنَى عَلَى الإنْسَانِ وَهَلْ تَكُونُ
جَحْدا وَتَكُونُ خَبرا وَهاذا مِنَ الخَبَرِ يَقُولُ
كَانَ شَيْئا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورا وَذالِكَ مِنْ حِينِ
خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إلَى أنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ.
الْقَائِل فِيهِ بذلك الْقُرَّاء. قَوْله: (مَعْنَاهُ
أَتَى على الْإِنْسَان) ، يدل على أَن لفظ هَل، صلَة
وَلَكِن لم يقل أحد إِن: هَل، قد تكون صلَة. قَوْله: (وَهل
تكون جحدا) ، يَعْنِي: نفيا وَتَكون خَبرا يَعْنِي
إِثْبَاتًا يَعْنِي يخبر بِهِ عَن أَمر مُقَرر، وَيكون جعل
حِينَئِذٍ بِمَعْنى قد للتحقيق، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله:
وَهَذَا من الْخَبَر، أَرَادَ بِهِ أَن هَل هُنَا يَعْنِي
يَعْنِي: فِي قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَى على
الْإِنْسَان} بِمَعْنى: قد، وَمَعْنَاهُ. قد أَتَى على
الْإِنْسَان وَأُرِيد بِهِ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
والصلام، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِن هَل أَتَى أَبَد
بِمَعْنى: قد وَأَن الِاسْتِفْهَام إِنَّمَا هُوَ
مُسْتَفَاد من همزَة مقدرَة مَعهَا، وَنَقله فِي (الْمفصل)
عَن سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ: وَعند سِيبَوَيْهٍ أَن أهل
بِمَعْنى قد إلاَّ أَنهم تركُوا الْألف قبلهَا لِأَنَّهَا
لَا تقع إلاَّ فِي الِاسْتِفْهَام. قَوْله: (حِين من
الدَّهْر) ، أَرْبَعُونَ سنة ملقًى بَين مَكَّة والطائف،
قبل أَن ينْفخ فِيهِ الرّوح. قَوْله: (لم يكن شَيْئا
مَذْكُورا) ، لَا يذكر وَلَا يعرف وَلَا يدْرِي مَا اسْمه،
وَلَا مَا يُرَاد بِهِ، وَالْمعْنَى: أَنه كَانَ شَيْئا
لكنه لم يكن مَذْكُورا يَعْنِي: انْتِفَاء هَذَا
الْمَجْمُوع بِانْتِفَاء صفته لَا بِانْتِفَاء
الْمَوْصُوف، وَلَا حجَّة فِيهِ للمعتزلة فِي دَعوَاهُم
أَن الْمَعْدُوم شَيْء وَوَقع فِي بعض النّسخ، وَقَالَ
يحيى: مَعْنَاهُ أَتَى على الْإِنْسَان إِلَى آخِره،
وَيحيى هَذَا هُوَ ابْن زِيَاد بن عبد الله بن مَنْصُور
الديلمي الْفراء. صَاحب كتاب مَعَاني الْقُرْآن، وَقَالَ
بَعضهم هُوَ صَوَاب لِأَنَّهُ قَول وَيحيى بن زِيَاد
الْفراء بِلَفْظِهِ. قلت: دَعْوَى الصَّوَاب غير صَحِيحَة
لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون هَذَا قَول غَيره كَمَا هُوَ
قَوْله، وَلم يطلع البُخَارِيّ على أَنه قَول الْفراء
وَحده، فَلذَلِك قَالَ: يُقَال مَعْنَاهُ أَو اطلع أَيْضا
على قَول غَيره مثل قَول الْفراء فَذكر بِلَفْظ يُقَال:
ليشْمل كل من قَالَ بِهَذَا القَوْل، فَافْهَم.
أمْشَاجٍ: الأخْلاطُ مَاءُ المَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ
الدَّمُ، والعَلَقَةُ. وَيُقَالُ: إذَا خُلِطَ مَشِيجٌ
كَقَوْلِكَ لَهُ خَلِيطٌ وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خلقنَا
الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج} (الْإِنْسَان: 2) وَفسّر:
(الأمشاج) بقوله: (الأخلاط) والأمشاج جمع مشج بِفَتْح
الْمِيم وَكسرهَا وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الأمشاج جمع
وَهُوَ فِي معى الْوَاحِد لِأَنَّهُ نعت للنطفة وَهَذَا
كَمَا يُقَال: برمة أعشار، وثوب أَخْلَاق. قَوْله: (مَاء
الْمَرْأَة وَمَاء الرجل) تَفْسِير الأخلاط يخْتَلط الماآن
فِي الرَّحِم فَيكون مِنْهُمَا جَمِيعًا الْوَلَد وَمَاء
الرجل أَبيض غليظ وَمَاء الْمَرْأَة أصفر رَقِيق،
فَأَيّهمَا علا صَاحبه كَانَ الشّبَه لَهُ كَذَا رُوِيَ
عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَمُجاهد،
وَالربيع. قَوْله: (الدَّم والعلقة) ، تَقْدِيره ثمَّ
الدَّم ثمَّ الْعلقَة ثمَّ المضغة ثمَّ اللَّحْم ثمَّ
الْعظم ينشئه الله تَعَالَى خلقا آخر. قَوْله: (إِذا خلط)
يَعْنِي: إِذا خلط شَيْء بِشَيْء يُقَال لَهُ مشيج على وزن
فعيل بِمَعْنى ممشوج أَي: مخلوط، يُقَال: مشجت هَذَا
بِهَذَا أَي خلطته.
سَلاسَلاً. وَأغْلالاً
(19/270)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسلا وإغلالاً
وسعيرا} عندنَا هيأنا. والسلاسل جمع سلسلة كل سلسلة
سَبْعُونَ ذِرَاعا والأغلال جمع غل بِالضَّمِّ، فالسلاسل
فِي أَعْنَاقهم والأغلال فِي أَيْديهم والسعير يوقدون
فِيهِ لَا يطفى، وَقيل: السلَاسِل الْقُيُود، وَقَرَأَ
نَافِع وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: سلاسلاً،
بِالتَّنْوِينِ وَهِي رِوَايَة هِشَام عَن أهل الشَّام،
وَقَرَأَ حَمْزَة وَخلف وَحَفْص وَابْن كثير وَأَبُو
عَمْرو بالفتحة بِلَا تَنْوِين.
وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ
بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْجِيم وبالراء من الإجراء
أَرَادَ بِهِ لم يصرف بَعضهم سلاسل، يَعْنِي: لَا
يدْخلُونَ فِيهِ التَّنْوِين، وَهَذَا على الِاصْطِلَاح
الْقَدِيم، يَقُولُونَ: اسْم مجْرى وَاسم غير مجْرى،
يَعْنِي: اسْم مَصْرُوف وَاسم لَا ينْصَرف، وَذكر عِيَاض
أَنه فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: لم يجز، بالزاي أَي بدل
الرَّاء، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ إلاَّ الأجه وَلم يبين
وَجه إلاَّ الأوجهية بل بالراء أوجه على مَا لَا يخفى.
مُسْتَطِيرا مِمْتَدا البَلا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ
يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} (الْإِنْسَان: 7)
وَفَسرهُ بقوله: (ممتدا الْبلَاء) وَكَذَا فسره الْفراء،
وَيُقَال: ممتدا فاشيا، يُقَال: استطار الصدع فِي الزجاجة
واستطال إِذا اشْتَدَّ.
والقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ يُقالُ يَوْمٌ قَمْطَرِيرُ
وَيَوْمٌ قُماطِرٌ وَالعَبُوسُ وَالقَمْطَرِيرُ
وَالقُماطِرُ وَالعَصِيبُ أشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ
الأيَّامِ فِي البَلاءِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {إِنَّا نَخَاف من
رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطيريرا} (الْإِنْسَان: 01)
وَالْبَاقِي ظَاهر، وقماطر، بِضَم الْقَاف، وَعَن ابْن
عَبَّاس: العبوس: الضّيق، والقمطرير: الطَّوِيل، وَعَن
مُجَاهِد القمطرير الَّذِي يقلص الْوُجُوه ويقنص الْحَيَاة
وَمَا بَين الْأَعْين من شدته. وَعَن الْكسَائي، يُقَال:
أقمطر الْيَوْم وأزمهر قمطرارا وازمهرارا وَهُوَ
الزَّمْهَرِير.
وَقَالَ الحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الوَجْهِ وَالسُّرْورُ
فِي القَلْبِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى وتعظم:
{ولقاهم نَضرة وسرورا} (الْإِنْسَان: 11) أَن النضرة فِي
الْوَجْه وَالسُّرُور فِي الْقلب، وَلم يثبت هَذَا إِلَّا
للنسفي والجرجاني.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الأرَائِكُ السُّرُرُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {متكئين
فِيهَا على الأرائك} (الْإِنْسَان: 31) وفسرها بالسرر جمع
سَرِير، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الأرائك السرر فِي الحجال
لَا يكون أريكة إِلَّا إِذا اجْتمعَا، وَهِي لُغَة أهل
الْيمن، وَقَالَ مقَاتل: الأرائك السرر فِي الحجال من
الدّرّ والياقوت موضونة بقضبان الدّرّ وَالذَّهَب
وَالْفِضَّة وألوان الْجَوَاهِر، وَلم يثبت هَذَا أَيْضا،
إِلَّا للنسفي والجرجاني.
وَقَالَ البَرَاءُ: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها يَقْطُعُونَ
كَيْفَ شَاؤُوا
أَي: قَالَ الْبَراء فِي قَوْله تَعَالَى: {وذللت قطوفها
تذليلاً} (الْإِنْسَان: 41) يقطفون كَيفَ شاؤوا. قَوْله:
(قطوفها) أَي: ممارها، يقطفون، أَي: يقطعون مِنْهَا قيَاما
وقعودا ومضطجعين يتناولونها كَيفَ شاؤوا وعَلى أَي حَال
كَانُوا وَلم يثبت هَذَا إِلَّا للنسفي وَحده.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: أسْرَهُمْ شِدَّةُ الخَلْقِ وَكلُّ
شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتبٍ أوْ غَبِيطٍ فَهُوَ مأسورٌ
أَي: قَالَ معمر بن الْمثنى أَبُو عُبَيْدَة أَو معمر بن
رَاشد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنحن خلقناهم وشددنا أسرهم}
(الْإِنْسَان: 82) الْآيَة. وَسقط هَذَا لأبي ذَر عَن
الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفسّر الْأسر شدَّة الْخلق،
وَيُقَال للْفرس: شَدِيد الْأسر، أَي: شَدِيد الْخلق.
قَوْله: (أَو غبيط) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر
الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي
آخِره طاء مُهْملَة وَهُوَ رَحل النِّسَاء يشد عَلَيْهِ
الهودج، وَالْجمع غبط بِضَمَّتَيْنِ، وَظن بَعضهم بنه معمر
بن رَاشد، وَزعم أَن عبد الرَّزَّاق أخرجه فِي تَفْسِيره
عَنهُ. قلت يُرِيد بِهِ شَيْخه صَاحب التَّوْضِيح
فَإِنَّهُ قَالَ بعد قَوْله. وَقَالَ معمر آلى آخِره.
وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة وَذكره عَن
مُجَاهِد وَغَيره، وَالظَّاهِر أَنه معمر بن رشاد
لِأَنَّهُ روى عَن قَتَادَة نَحوه، وَأَيْضًا
فَالْبُخَارِي أخرج فِي التَّفْسِير عَن أبي عُبَيْدَة
معمر بن الْمثنى فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَلم يُصَرح باسمه
فَمَا باله هُنَا صرح بِهِ؟ وَأَرَادَ بِهِ ابْن الْمثنى
وَلَيْسَ إلاَّ معمرا بن رَاشد.
(19/271)
77 - (سُورَةُ: {المُرْسِلاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة المرسلات، وَهَذَا
هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ:
والمرسلات، بِدُونِ لفظ سُورَة وَهِي مَكِّيَّة بِغَيْر
خلاف. قَالَه أَبُو الْعَبَّاس، وَقَالَ مقَاتل: فِيهَا من
الْمدنِي {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}
(المرسلات: 84) وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد الْهمزَة. وَقيل
ق، وَهِي ثَمَانمِائَة وَسِتَّة عشر حرفا وَمِائَة
وَإِحْدَى وَثَمَانُونَ كلمة وَخَمْسُونَ آيَة. والمرسلات:
الرِّيَاح الشديدات الهبوب، والناشرات. الرِّيَاح اللينة
قَوْله: (عرفا) نصب على الْحَال أَي: المرسلات يتبع
بَعْضهَا بَعْضًا حَال كَونهَا كعرف الْفرس، وعَلى
تَفْسِير المرسلات بِالْمَلَائِكَةِ يكون نصبا على
التَّعْلِيل، أَي: لأجل الْعرف أَي: الْمَعْرُوف
وَالْإِحْسَان.
جَمَالاتٌ حِبالٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى؛ {إِنَّهَا ترمى بشرر
كالقصر كَأَنَّهُ جمالات صفر} (المرسلات: 23، 33) وَفسّر
الجمالات بالحبال، وَهِي الحبال الَّتِي تشد بهَا السفن،
هَذَا إِذا قرىء بِضَم الْجِيم، وَأما إِذا قرىء
بِالْكَسْرِ فَهُوَ، جمع جمالة، وجمالة جمل زوج النَّاقة.
وَقَالَ ابْن التِّين: يَنْبَغِي أَن يقْرَأ فِي الأَصْل
بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ فَسرهَا بالحبال وَقد قَالَ مُجَاهِد
فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط}
(الْأَعْرَاف: 4) هُوَ: حَبل السَّفِينَة وَعَن ابْن
عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير: جمالات صفر، هِيَ حبال السفن،
يجمع بَعْضهَا إِلَى بعض حَتَّى تكون كأوساط الرِّجَال
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ مُجَاهِد: جمالات: حبال.
ارْكَعُوا صَلُّوا لَا يَرْكَعُونَ: لَا يُصَلونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم
ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (المرسلات: 84) وَفسّر قَوْله:
(ارْكَعُوا) بقوله: (صلوا) وَقَوله: (لَا يَرْكَعُونَ)
بقوله: (لَا يصلونَ) أطلق الرُّكُوع وَأَرَادَ بِهِ
الصَّلَاة، وَهُوَ من بَاب إِطْلَاق الْجُزْء وَإِرَادَة
الْكل وَقَوله: (لَا يَرْكَعُونَ) سقط فِي رِوَايَة غير
أبي ذَر، وَفِي بعض النّسخ، وَقَالَ مُجَاهِد: ارْكَعُوا
إِلَى آخِره.
{وَسُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: {هاذا يَوْمُ لَا
يَنْطِقُونَ} (المرسلات: 84) وَالله رَبِّنا مَا كُنَّا
مُشْرِكِينَ {اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أفْوَاهِهِمْ} (ي س:
56) .
فَقَالَ: إنَّهُ ذُو ألْوَانٍ مَرَّةً يَنْطِقُونَ
وَمَرَّةً يَخْتَمُ عَلَيْهِمْ.
حَاصِل السُّؤَال عَن كَيْفيَّة التلفيق بَين قَوْله: (لَا
ينطقون) وَقَوله: {الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم} بَين
قَوْله: (وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين) لِأَن هَذِه
الْآيَة تدل على أَنهم ينطقون. وَحَاصِل الْجَواب: أَن
يَوْم الْقِيَامَة ذُو ألوان يَعْنِي: يَوْم طَوِيل ذُو
مَوَاطِن مُخْتَلفَة فَيَنْطَلِقُونَ فِي وَقت وَمَكَان
لَا ينطقون فِي آخر، وَقَوله: لَا يَرْكَعُونَ لم يثبت
إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر.
0394 - حدَّثني مَحْمُودٌ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عَنْ
إسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ
عَائِشَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عنهُ قَالَ كُنَّا
مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأُنْزِلَتْ
عَلَيْهِ وَالمُرْسِلاتِ وَإنَّا لَنَتَلَقَّاها مِنْ
فِيهِ فَخَرَجَتْ حَيةٌ فَابْتَدَرْناها فَسَبَقَتْنا
فَدَخَلَتْ جُحْرَها فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ
شَرَّها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وأنزلت عَلَيْهِ
والمرسلات} ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، وَعبيد الله بن
مُوسَى شيخ البُخَارِيّ وروى عَنهُ هُنَا بالواسطة،
وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس، وَقد تكَرر ذكره عَن
قريب، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم
هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ ابْن قيس، وَعبد الله هُوَ
ابْن مَسْعُود. والْحَدِيث قد مضى فِي بَدْء الْخلق.
قَوْله: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
وَوَقع فِي رِوَايَة جرير، فِي غَار وَوَقع فِي رِوَايَة
حَفْص بن غياث بمنى، وَوَقع فِي رِوَايَة للطبراني فِي
الْأَوْسَط على حراء قَوْله: (من فِيهِ) أَي من فَمه،
قَوْله: (فابتدرناها) أَي: فسبقناها. وَقَالَ أَيْضا:
فسبقتنا فيكونون سابقين ومسبوقين. وَالْجَوَاب: إِنَّهُم
كَانُوا السَّابِقين أَولا فصاروا مسبوقين آخرا. قَوْله:
(شركم) ، مَنْصُوب بِأَنَّهُ مفعول ثَان.
1394 - حدَّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ الله أخْبَرَنَا
يَحْيَى بنُ آدَمَ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ مَنْصُور
(19/272)
ٍ بِهاذا.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود أخرجه
عَن عَبدة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة
ابْن عبد الله الصفار الْخُزَاعِيّ عَن يحيى بن آدم بن
سُلَيْمَان الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ.
قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَكَذَا
سَاقه فِي بَدْء الْخلق فِي بَاب خمس من الفواسق.
وَعَنْ إسْرَائِيلَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الله مِثْلَهُ.
هَذَا مُتَّصِل بِمَا قبله أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن
إِسْرَائِيل رَوَاهُ فِي الطَّرِيق الأول عَن مَنْصُور عَن
إِبْرَاهِيم، وَفِي هَذَا عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن
إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله مثله. أَي: مثل
الحَدِيث الْمَذْكُور.
وَتابَعَهُ أسْوَدُ بنُ عَامِرٍ عَنْ إسْرَائِيلَ
أَي: تَابع يحيى بن آدم فِي رِوَايَته عَن إِسْرَائِيل
أسود بن عَامر الملقب بشاذان الشَّامي، وَوصل هَذِه
الْمُتَابَعَة أَحْمد عَنهُ بِهِ.
وَقَالَ حَفْصٌ وَأبُو مُعَاوِيَةَ وَسُلَيْمَانُ بنُ
قَرْمٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ.
أَرَادَ بِهَذَا أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة خالفوا
رِوَايَة إِسْرَائِيل عَن الْأَعْمَش فِي شيخ إِبْرَاهِيم،
فإسرائيل يَقُول: عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن
عَلْقَمَة عَن عبد الله، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة
يَقُولُونَ: عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود،
هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ عَن عبد الله.
أما رِوَايَة حَفْص هُوَ ابْن غياث فوصلها البُخَارِيّ
وَسَيَأْتِي بعد بَاب، وَأما رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة
مُحَمَّد بن خازم الضَّرْب فأخرجها مُسلم عَن يحيى ابْن
يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ، وَأما
رِوَايَة سُلَيْمَان بن قرم، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون
الرَّاء: الضَّبِّيّ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة
وبالباء الْمُوَحدَة، الْبَصْرِيّ فقد تقدّمت فِي بَدْء
الْخلق، وَسليمَان هَذَا ضَعِيف الْحِفْظ وَلَيْسَ لَهُ
فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع الْمُعَلق.
وَقَالَ يَحْيَى بنُ حَمَّادٍ أخْبَرَنا أبُو عَوَانَةَ
عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ
عَبْدِ الله.
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق عَن يحيى بن حَمَّاد
الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ شيخ البُخَارِيّ عَن أبي
عوَانَة بِفَتْح الْعين الوضاح الْيَشْكُرِي عَن مُغيرَة
بن مقسم بِكَسْر الْمِيم الْكُوفِي عَن إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله
بن مَسْعُود إِلَى أَن مُغيرَة وَافق إِسْرَائِيل فِي شيخ
إِبْرَاهِيم وَأَنه عَلْقَمَة بن قيس، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله الطَّبَرَانِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد
الله الْحَضْرَمِيّ حَدثنَا الْفضل بن سهل حَدثنَا يحيى بن
حَمَّاد بِهِ، وَلَفظه: كُنَّا مَعَ النَّبِي ت بحراء
الحَدِيث، وَقَالَ عِيَاض: إِنَّه وَقع فِي بعض النّسخ،
وَقَالَ حَمَّاد أخبرنَا أَبُو عوَانَة، وَهُوَ غلط.
وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ عَنْ عَبحده الرَّحْمانِ بنِ
الأسُوَدِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله.
أَشَارَ بِهَذَا الْمُعَلق إِلَى أَن للْحَدِيث أصلا عَن
الْأسود بن يزِيد من غير طَرِيق الْأَعْمَش وَمَنْصُور
وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَحْمد عَن يَعْقُوب بن سعد بن
إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أَبِيه عَن ابْن إِسْحَاق عَن عبد
الرَّحْمَن بن الْأسود عَن أَبِيه عَن عبد الله بن
مَسْعُود وَابْن إِسْحَاق هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق
صَاحب (الْمَغَازِي) وَوَقع فِي بعض النّسخ وَقَالَ أَبُو
إِسْحَاق، وَهُوَ تَصْحِيف.
حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عَنْ
إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله
بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالمُرْسِلاتِ
فَتَلقَّيْناها مِنْ فِيهِ وَإنَّ فَاهُ لَرَطُب بِهِا إذْ
خَرَجَتْ حَيَةٌ فَقَالَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَلَيْكُمْ اقْتُلُوها قَالَ فَابْتَدَرْناها
فَسَبَقَتْنا قَالَ فَقَالَ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا
وُقِيتُمْ شَرَّها.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي
الله عَنهُ، أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن جرير بن عبد
الحميد عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد
النَّخعِيّ الْكُوفِي عَن عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: (بَينا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَنه ظرف
(19/273)
يُضَاف إِلَى الْجُمْلَة وَيحْتَاج إِلَى
جَوَاب. قَوْله: (إِذْ نزلت) ، جَوَابه. قَوْله: (لرطب
بهَا) ، أَي: لم يجِف ريق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ أول زمَان نُزُوله.
قَوْله: (إِذا خرجت) ، كلمة إِذْ للمفاجأة، وَبَاقِي
الْكَلَام مر.
2 - (بَابُ قَوْلِهِ: {إنَّهَا تَرْمِي بَشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ} (المرسلات: 23)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِنَّهَا} أَي:
جَهَنَّم (ترمى بشرر) وَهِي مَا يتطاير من النَّار إِذا
التهبت، وَاحِدهَا شررة. قَوْله: (كالقصر) ، عَن ابْن
مَسْعُود، كالحصون والمدائن، وَهُوَ وَاحِد الْقُصُور،
وَعَن مُجَاهِد هِيَ حزم الشّجر، وَعَن سعيد بن جُبَير
وَالضَّحَّاك: هِيَ أصُول النّخل وَالشَّجر الْعِظَام
وَاحِدهَا قصرة مثل ثَمَرَة وثمر وَحُمرَة، وحمر،
وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِإِسْكَان الصَّاد، وَقَرَأَ ابْن
عَبَّاس وَأَبُو رزين وَأَبُو الجوزاء وَمُجاهد بِفَتْح
الْقَاف وَالصَّاد، وَقَرَأَ سعد بن أبي وَقاص وَعَائِشَة
وَعِكْرِمَة بِفَتْح الْقَاف وَكسر الصَّاد، وَقَرَأَ ابْن
مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَإِبْرَاهِيم بِضَم الْقَاف
وَالصَّاد، وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاء بِكَسْر الْقَاف
وَفتح الصَّاد، وَقَالَ ابْن مقسم: وَكلهَا لُغَات
بِمَعْنى وَاحِد.
2394 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبرنا سُفْيَانُ
حدَّثنا عَبْذُ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ قَالَ سَمِعْتُ
ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ إنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصَرِ قَالَ كنَّا نَرْفَعُ الخَشَبَ بِقِصَرِ
ثَلاثَةِ أذْرُعٍ أوْ أقَلَّ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتاءِ
فَنُسَمِّيهِ القَصَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة وَعبد الرَّحْمَن بن عَابس، بِالْعينِ
الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين
الْمُهْملَة: النَّخعِيّ الْكُوفِي والْحَدِيث من
أَفْرَاده.
قَوْله: (بقصر) ، بِالْبَاء الَّتِي هِيَ من حُرُوف
الْجَرّ وبكسر الْقَاف وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة
وبالإضافة إِلَى ثَلَاثَة أَذْرع أَي بِقدر ثَلَاثَة
أَذْرع. قَوْله: (أَو أقل) ، أَي: أَو أقل من ثَلَاثَة
أَذْرع، وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي بعْدهَا أَو فَوق
ذَلِك، وَهِي فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده. قَوْله:
(للشتاء) ، أَي: لأجل الشتَاء والاستسحان بِهِ، وَقَالَ
ابْن التِّين وَرُوِيَ بِسُكُون الصَّاد وَبِفَتْحِهَا
وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ الْقصر من قُصُور جُفَاة
الْأَعْرَاب. قَوْله: (فنسميه الْقصر) ، بِفتْحَتَيْنِ.
3 - (بَابٌ قَوْلِهِ: {كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ}
(المرسلات: 33)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {كَأَنَّهُ جمالات
صفر} أَي: كَانَ الشرر، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: رد الْكتاب
إِلَى اللَّفْظ وَمر الْكَلَام فِي الجمالات عَن قريب.
3394 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا يَحْيَى
أخْبرنا سُفْيَانُ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَابِسٍ
قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا ترْمى
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قَالَ كُنَّا نَعْمِدُ إلَى
الخَشَبَةِ ثَلاثَةَ أذْرُعٍ أوْ فَوْقَ ذالِكَ
فَتَرْفَعَهُ لِلشِّتَاءِ فَنُسَمِّيهِ القَصَرَ كَأنَّهُ
جِمالاتٌ صُفْرٌ حِبال السُّفْنِ تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ
كَأوْسَاطِ الرِّجَالِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَدِيث أَنَّهَا وصف للقصر،
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ. قَوْله: (أَو فَوق ذَلِك) من زِيَادَة
الْمُسْتَمْلِي.
4 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {هاذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ}
(المرسلات: 53)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هَذَا يَوْم لَا
ينطقون} أَي: فِي بعض مَوَاقِف الْقِيَامَة وَفِي بَعْضهَا
يختصمون، وَفِي بَعْضهَا: يخْتم على أَفْوَاههم وَلَا
يَتَكَلَّمُونَ.
4394 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ بنِ غَياثٍ حدَّثنا أبِي
حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(19/274)
(الأسْوَدِ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ
بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي غَارٍ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَالمُلاْسِلاتِ فَإنَّهُ
لَيَتْلُوها وَإنِّي لأتَلَقَّاها مِنْ فِيهِ وَإنَّ فَاهُ
فَرَطْبٌ بِها إذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقْتُلُوها
فَابْتَدَرْناها فَذَهَبَتْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ
شَرَّها.
قَالَ عُمَرُ حَفِظْتُهُ مِنْ أبِي فِي غَارٍ بِمَنًى.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي الْحَيَّة
الْمَذْكُورَة. أخرجه عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص
بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِذْ وَثَبت) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي:
وثب، بالتذكير وَكَذَا قَالَ: اقْتُلُوهُ. قَوْله: (قَالَ
عمر) ، هُوَ ابْن حَفْص شيخ البُخَارِيّ.
87 - (سُورَةُ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (النبأ: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {عَم يتساءلون}
وَتسَمى أَيْضا سُورَة النبأ وَهِي: مَكِّيَّة، وَهِي:
سَبْعمِائة وَسَبْعُونَ حرفا وَمِائَة وَثَلَاث
وَسَبْعُونَ كلمة وَأَرْبَعُونَ آيَة. قَوْله: (عَم)
أَصله: عَمَّا حذفت الْألف للتَّخْفِيف وَبِه قَرَأَ
الْجُمْهُور وَعَن ابْن كثير رِوَايَة بِالْهَاءِ وَهِي
هَاء السكت. قَوْله: (يتساءلون) أَي: عَن أَي شَيْء يتساءل
هَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ؟ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَرْجُونَ حِسابا لَا يَخَافُونَهُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم
كَانُوا لَا يرجون حسابا} (النبأ: 72) وَفَسرهُ بقوله:
(لَا يخافونه) وَرَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن
وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ وَلَفظه: لَا يبالون
فيصدقون بِالْبَعْثِ والرجاء يسْتَعْمل فِي الأمل
وَالْخَوْف وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ
مُجَاهِد.
صَوَابا حَقّا فِي الدُّنْيَا وَعَمِلَ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا} (النبأ:
83) وَفَسرهُ بقوله: (حَقًا فِي الدُّنْيَا وَعمل بِهِ)
وَقَالَ أَبُو صَالح: قَالَ صَوَابا. قَالَ: لَا إلاه
إِلَّا لله فِي الدُّنْيَا.
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطابا (النبأ: 73) لَا
يُكَلِّمُونَهُ إلاَّ أنْ يَأْذَنَ لَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَوَات
وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرحمان لَا يملكُونَ مِنْهُ
خطابا} وَالضَّمِير فِي: لَا يملكُونَ، لأهل السَّمَوَات
وَالْأَرْض أَي: لَيْسَ فِي أَيْديهم مِمَّا يُخَاطب بِهِ
الله، وَقيل: لَا يملكُونَ أَن يخاطبوه بِشَيْء من نقص
الْعَذَاب أَو زِيَادَة فِي الثَّوَاب إلاَّ أَن يَأْذَن
لَهُم فِي ذَلِك وَيَأْذَن لَهُم فِيهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ثَجاجا مُنْصَبّا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وأنزلنا من
المعصرات مَاء ثجاجا} (النبأ: 41) وَفسّر ثجاجا. بقوله:
(منصبا) وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة وَهَذَا ثَبت للنسفي
وَحده.
ألْفافا مُلْتَفَّةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وجنات ألفافا)
(النبأ: 61) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: ألفافا متلفا بعضه
بِبَعْض، وَاحِدهَا ألف، فِي قَول نجاة الْبَصْرَة
وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ آخَرُونَ، وَاحِدهَا لفيف،
وَقيل: هُوَ جمع الْجمع، وَيُقَال: جنَّة لفاء وَنبت لف
وجنان لف بِضَم اللَّام. ثمَّ يجمع اللف على الفاف،
وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهَاجا مُضِيئا
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا
سِرَاجًا وهاجا} (النبأ: 31) وَفَسرهُ بقوله: (مضيئا)
وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة
عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ غَيْرُهُ غَساقا غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَنْسقُ
الْجُرحُ يَسِيلُ كأنَّ الغَساقِ وَالغَسِيقَ وَاحِدٌ أَي
قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: (ر يذيقون
فِيهَا بردا وَلَا شرابًا إِلَّا حميماً وغساقا (النبأ:
42، 52) هَذَا لم يثبت إلاَّ لأبي ذَر، وَوَقع عِنْد
النَّسَفِيّ والجرجاني، وَقَالَ معمر فَذكره، وَمعمر هُوَ
أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (غسقت عينه ويغسق الْجرْح يسيل)
أَشَارَ بِهِ إِلَى
(19/275)
أَن معنى غساقا سيالاً من الدَّم وَنَحْوه
لِأَنَّهُ من غسقت عينه أَي: سَالَتْ، ويغسق الْجرْح أَي:
يسيل، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الغساق الزَّمْهَرِير وَقيل:
صديد أهل النَّار، وَقيل: دموعهم، وَعَن شهر بن حَوْشَب،
الغساق وادٍ فِي النَّار فِيهِ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثُونَ
شعبًا فِي كل شعب ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا فِي كل
بَيت أَربع زَوَايَا فِي كل زَاوِيَة شُجَاع كأعظم مَا خلق
الله تَعَالَى من الْخلق فِي رَأس كل شُجَاع من السم
قلَّة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الغساق البادر المنتن يُخَفف
ويشدد. قَرَأَ أَبُو عَمْرو: إلاَّ جَمِيعًا وغساقا.
بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْكسَائي بِالتَّشْدِيدِ.
عَطَاءً حِسابا جَزَاءً كَافِيا أعْطَانِي مَا أحْسَبَنِي
أيْ: كَفَانِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {جَزَاء من رَبك
عَطاء حسابا} (النبأ: 63) وَفَسرهُ بقوله: (جَزَاء
كَافِيا) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ، عَطاء حسابا كثيرا
كَافِيا وافيا. قَوْله: (أَعْطَانِي مَا أحسبني) أَي:
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن لفظ الْحساب يَأْتِي بِمَعْنى
الْكِفَايَة، يُقَال: أَعْطَانِي فلَان مَا أحسبني، أَي:
مَا كفاني، وَيُقَال: أحسبت فلَانا أَي: أَعْطيته مَا
يَكْفِيهِ حَتَّى قَالَ: حسبي.
1 - (بَابٌ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ
أفْوَاجا} (النبأ: 81) زُمَرا)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ينْفخ فِي
الصُّور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} وَفسّر الأفواج بقوله:
(زمرا) .
5394 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخْبرَنَا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ
الأعْمَشِ عَنِ أبِي صَالح عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
الله عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ قَالَ
أرْبَعُونَ يَوْما قَالَ أرْبَعُونَ شَهْرا قَالَ أبَيْتُ
قَالَ أرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أبَيْتُ قَالَ ثُمَّ
يُنْزِلُ الله مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا
يَنْبُتُ البَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإنْسَانِ شَيْءٌ إلاَّ
يَبْلَى إلاَّ عَظْما وَاحِدا وَهُوَ عَجْبُ الذنَبِ
وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام
البيكندي، وَأَبُو مُعَاوِيَة محمدبن خازم الضَّرِير،
وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات،
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الزمر وَمضى
الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَبيت) ، أَي: امْتنعت عَن الْإِخْبَار بِمَا لَا
أعلم قَوْله: (أَلا يبْلى) أَي: يخلق قَوْله: (عجب
الذَّنب) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم
الأَصْل فَهُوَ آخر مَا يخلق وَأول مَا يخلق.
97 - (سُورَةُ {وَالنَّازِعَاتِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة والنازعات وَتسَمى:
سُورَة الساهرة، وَهِي مَكِّيَّة لَا اخْتِلَاف فِيهَا
وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة النبأ وَقبل سُورَة
{إِذا السَّمَاء انفطرت} (الانفطار: 1) وَهِي سَبْعمِائة
وَثَلَاثَة وَخَمْسُونَ حرفا وَمِائَة وتسع وَسَبْعُونَ
كلمة وست وَأَرْبَعُونَ آيَة فِي النازعات أَقْوَال
الْمَلَائِكَة تنْزع نفوس بني آدم رُوِيَ عَن ابْن
عَبَّاس: وَالْمَوْت ينْزع النُّفُوس قَالَه سعيد بن
جُبَير، والنجوم تنْزع من أفق إِلَى أفق تطلع ثمَّ تغيب
والغزاة الرُّمَاة. قَالَه عَطاء وَعِكْرِمَة.
زَجْرَةٌ: صَيْحَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ
زَجْرَة وَاحِدَة} (النازعات: 31) وفسرها بقوله: (صَيْحَة)
وَثَبت هَذَا للنسفي وَحده.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ هِيَ
الزَلْزَلَةُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف
الراجفة} (النازعات: 6) الراجفة الزلزلة. وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: يَعْنِي النفخة الأولى الَّتِي يتزلزل
ويتحرك لَهَا كل شَيْء، وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الآيَةَ الكُبْرَى عَصَاهُ وَيَدُهُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأرَاهُ
الْآيَة الْكُبْرَى} (النازعات: 02) أَي: فَأرى مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِرْعَوْن الْآيَة
الْكُبْرَى، وفسرها مُجَاهِد بعصاه وَيَده حِين خرجت
بَيْضَاء وَكَذَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
قَتَادَة مثله.
سَمكَها: بَنَاها بِغَيْرِ عَمَدٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {رفع سمكها فسواها}
(النازعات: 82) وَفَسرهُ بقوله: (بناها) بِغَيْر عمد
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: سمكها سقفها وَقَالَ الْفراء كل
شَيْء
(19/276)
حمل شَيْئا من الْبناء وَغَيره فَهُوَ سمك
وَبِنَاء مسموك، فسواها بِلَا شطور وَلَا فطور، وَهَذَا
للنسفي وَحده.
طَغَى عَصى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى
فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} (النازعات: 71) وَفَسرهُ بقوله:
(عصى) وطغى من الطغيان وَهُوَ الْمُجَاوزَة عَن الْحَد
وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
يُقَالُ الناخِرَةُ وَالنَّخِرَة سَوَاءٌ مِثْلُ
الطَّامِعَ وَالطَّمِعِ وَالبَاخِلِ وَالْبخل. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ النَّخِرَةُ البَالِيَةُ وَالنَّاخِرَةُ
العَظْمُ المُجَوَّفُ الَّذِي تَمُرُّ فِيهِ الرِّيحُ
فَيَنْخَرُ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أئذا كُنَّا عظاما
نخرة} (النازعات: 11) قَوْله: (سَوَاء) ، لَيْسَ كَذَلِك
لِأَن الناخرة اسْم فَاعل، والنخرة صفة مشبهة. وَإِن كَانَ
مُرَاده سَوَاء فِي أصل الْمَعْنى، فَلَا بَأْس بِهِ.
قَوْله: (مثل الطامع والطمع) ، بِكَسْر الْمِيم على وزن،
فعل، بِكَسْر الْعين (والباخل وَالْبخل) على وزن فعل
بِكَسْر الْعين أَيْضا. وَفِي التَّمْثِيل بهما نظر من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ الْآن.
وَالْآخر: التَّفَاوُت بَينهمَا فِي التَّذْكِير والتأنيث،
وَلَو قَالَ: مثل، صانعة وصنعة، وَنَحْو ذَلِك لَكَانَ
أصوب، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني، الناحل والنحل،
بالنُّون والحاء الْمُهْملَة فيهمَا وَقَالَ بَعضهم
بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة هُوَ
الصَّوَاب. قلت: لم يبين جِهَة الصَّوَاب، لَا يسْتَعْمل
إلاَّ فِي مُقَابلَة الْخَطَأ وَالَّذِي وَقع بالنُّون
والحاء الْمُهْملَة لَيْسَ بخطأ حَتَّى يكون الَّذِي ذكره
صَوَابا. قَوْله: (وَقَالَ بَعضهم) ، الظَّاهِر أَن
المُرَاد بِهِ هُوَ ابْن الْكَلْبِيّ فَإِنَّهُ قَالَ:
يَعْنِي النخرة البالية إِلَى آخِره فينخر أَي: يصوت،
وَهَذَا قد فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى أَيْضا وَقَرَأَ
أهل الْكُوفَة إلاَّ حفصا: ناخرة، بِالْألف وَالْبَاقُونَ
نخرة، بِلَا ألف، وَذكر أَن عمر بن الْخطاب وَابْن
مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُحَمّد
بن كَعْب وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم، كَانُوا يقرؤون:
عظاما ناخرة، بِالْألف، وَقَالَ الْفراء: ناخرة بِالْألف
أَجود الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الحَافِرَةُ إلَى أمْرِنا الأوَّلِ
إلَى الحَياةِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {أئنا لمردودون فِي الحافرة} (النازعات: 01)
وفسرها بقوله: (إِلَى أمرنَا الأول) يَعْنِي: إِلَى
الْحَالة الأولى: يَعْنِي الْحَيَاة يُقَال: رَجَعَ فلَان
فِي حافرته أَي: فِي طَرِيقَته الَّتِي جَاءَ مِنْهَا،
وَأخرج هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن
أبي صَالح: حَدثنِي أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَأخْبر الْقُرْآن عَن منكري
الْبَعْث من مُشْركي مَكَّة أَنهم قَالُوا: ائنا لمردودون
فِي الحافرة. أَي: فِي الْحَالة لأولى، يعنون بِالْحَيَاةِ
بعد الْمَوْت أَي: فنرجع أَحيَاء كَمَا كُنَّا قبل مماتنا،
وَقيل: التَّقْدِير عِنْد الحافرة، يُرِيدُونَ عِنْد
الْحَالة الأولى، وَقيل: الحافرة الأَرْض الَّتِي تحفر
فِيهَا قُبُورهم فسميت حافرة بِمَعْنى محفورة، وَقد سميت
الأَرْض حافرة لِأَنَّهَا مُسْتَقر الحوافر.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {أيانَ مُرْساها} (النازعات: 24) مَتى
مُنْتَهَاهَا، وَمُرْسَى السَّفِينَةِ حَيْثُ تَنْتَهِي
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى:
{أَيَّانَ مرْسَاها} يَعْنِي: مَتى مُنْتَهَاهَا، ومرسى،
بِضَم الْمِيم وَالضَّمِير فِي: مرْسَاها، يرجع إِلَى
السَّاعَة. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
لم يزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر السَّاعَة
وَيسْأل عَنْهَا حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة.
1 - (بَابٌ: {الرَّاجِفَةُ النَّفْخَةُ الأولَى.
الرَّادِفَةُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ} )
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الراجفة
تتبعها الرادفة} (النازعات: 6، 7) وروى هَذَا التَّفْسِير
الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس.
6394 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ حدَّثنا
الفُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ حدَّثنا أبُو حَازِمٍ حدَّثنا
سَهْلُ ابنُ سَعْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ رَأيْتُ
رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بِإصْبِعَيْهِ
هاكَذا بِالوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإبْهَامَ بُعِثتُ
والسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ
.
(19/277)
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ
السُّورَة من حَيْثُ إِنَّه من جملَة مَا فِيهَا، وَأَبُو
حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن
دِينَار، وَسَهل بن سعد ابْن مَالك السَّاعِدِيّ
الْأنْصَارِيّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده من هَذَا
الْوَجْه.
قَوْله: (قَالَ بإصبعيه) أَي: ضم بَين إصبعيه وَالْقَوْل
يسْتَعْمل فِي غير مَعْنَاهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ
رِوَايَة من روى، وَضم بَين السبابَة وَالْوُسْطَى وَفِي
رِوَايَة: قرن بَينهمَا. قَوْله: (بعثت) ، على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: أرْسلت، ويروى: (بعثت أَنا) قَوْله:
(والساعة) ، قَالَ الْكرْمَانِي بِالنّصب وَسكت عَلَيْهِ،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: رويته بِفَتْح السَّاعَة وَضمّهَا
فالضم على الْعَطف وَالْفَتْح على الْمَفْعُول مَعَه
وَالْعَامِل: بعثت وكهاتين، حَال أَي: مقترنين، فعلى النصب
يَقع التَّشْبِيه بِالضَّمِّ وعَلى الرّفْع يحْتَمل هَذَا
وَيحْتَمل أَن يَقع بالتفاوت الَّتِي بَين السبابَة
وَالْوُسْطَى فِي الطول، وَيدل عَلَيْهِ قَول قَتَادَة فِي
رِوَايَته كفضل إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى، وَحَاصِل
هَذَا التَّعْرِيف بِسُرْعَة مَجِيء الْقِيَامَة. قَالَ عز
وَجل: فقد جَاءَ أشراطها.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أغْطَشَ أظْلَمَ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وأغطش
لَيْلهَا} (النازعات: 92) وَفَسرهُ بقوله: وَقد أظلم، وَقد
مر فِي بَدْء الْخلق، وَهَذَا ثَبت هُنَا للنسفي وَحده.
الطَّامَةُ: تَطُمُّ كلَّ شَيْءٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فَإِذا جَاءَت الطامة
الْكُبْرَى} (النازعات: 43) وفسرها بقوله: (نظلم كل شَيْء)
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الطامة عِنْد الْعَرَب الداهية
الَّتِي لَا تستطاع وَإِنَّمَا أَخذ من قَوْلهم: طم الْفرس
طميما إِذا استفرغ جهده فِي الجري، وَهَذَا أَيْضا ثَبت
للنسفي وَحده.
08 - (سُورَةُ {عَبَسَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {عبس} ، وَتسَمى:
سُورَة السفرة، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي خَمْسمِائَة
وَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حرفا. وَمِائَة وَثَلَاث
وَثَلَاثُونَ كلمة، وَاثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ آيَة وَذكر
السخاوي أَنَّهَا نزلت قبل سُورَة الْقدر وَبعد سُورَة
النَّجْم، وَذكر الْحَاكِم مصححا عَن عَائِشَة أَنَّهَا
نزلت فِي ابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، أَتَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يَقُول: يَا رَسُول الله
أَرْشدنِي وَعند رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجال
من عُظَمَاء الْمُشْركين، فَجعل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يعرض عَنهُ وَيقبل على الآخرين. الحَدِيث.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم.
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
عَبَسَ: كَلَحَ وَأعْرَضَ
نفسير عبس بقوله: كلح هُوَ لأبي عُبَيْدَة وَتَفْسِيره
بأعرض لغيره، وَلم يخْتَلف السّلف فِي أَن فَاعل عبس هُوَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الدَّاودِيّ،
فَقَالَ: هُوَ الْكَافِر الَّذِي كَانَ مَعَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى. قيل: كَانَ هَذَا أبي بن
خلف، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة،
وَقيل: أُميَّة بن خلف، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وروى
ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث عَائِشَة أَنه كَانَ يُخَاطب
عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن
عَائِشَة أَنه كَانَ فِي مجْلِس فِيهِ نَاس من وُجُوه
الْمُشْركين فيهم أَبُو جهل وَعتبَة، فَهَذَا يجمع
الْأَقْوَال.
مُطَهَّرَةٌ لَا يَمَسُّها إلاَّ المُطَهَّرُونَ وَهُمْ
المَلائِكَةُ وَهاذا مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَالْمُدَبِّراتِ
أمْرا} (النازعات: 5) جَعَلَ المَلائِكَةَ وَالصُّحُفَ
مُطَهَّرَةً لأنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا
التَّطْهِيرُ فَجَعَلَ التَّطْهِيرُ لِمَنْ حَمَلَهَا
أيْضا.
أَشَارَ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {فِي صحف مكرمَة مَرْفُوعَة
مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 31، 61) وَفسّر المطهرة
بقوله: (لَا يَمَسهَا إلاَّ الْمُطهرُونَ وهم
الْمَلَائِكَة) يَعْنِي: لما كَانَت الصُّحُف تتصف
بالتطهير، وصف أَيْضا حاملها أَي: الْمَلَائِكَة. فَقيل:
لايمسها إلاَّ الْمُطهرُونَ وَهَذَا كَمَا فِي المدبرات
أمرا فَإِن التَّعْبِير لمحمول خُيُول الْغُزَاة فوصف
الْحَامِل يَعْنِي الْخُيُول بِهِ. فَقيل: (فالمدبرات
أمرا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ لَا يَقع
بِزِيَادَة، لَا فِي تَوْجِيهه تكلّف. قلت: وَجهه أَن
الصُّحُف لَا يُطلق عَلَيْهَا التَّطْهِير الَّذِي هُوَ
خلاف التَّنْجِيس حَقِيقَة وَإِنَّمَا المُرَاد أَنَّهَا
مطهرة عَن أَن ينالها أَيدي الْكفَّار. وَقيل: مطهرة
عَمَّا لَيْسَ بِكَلَام الله فَهُوَ الْوَحْي الْخَالِص
وَالْحق الْمَحْض، وَقَوله: (مطهرة) فِي رِوَايَة غير أبي
ذَر والنسفي، وَقَالَ غَيره: مطهرة، وَهَذَا يَقْتَضِي
(19/278)
تقدم أحد قبله حَتَّى يَصح، وَقَالَ غَيره:
وَالظَّاهِر أَن فِي أول تَفْسِير عبس، وَقَالَ مُجَاهِد:
عبس كلح، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ غَيره أَي: غير مُجَاهِد.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الغُلْبُ المُلْتَفَّةُ وَالأبُّ مَا
يَأْكُلُ الأنْعَامُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنَخْلًا
وَحَدَائِق غلبا وَفَاكِهَة وَأَبا} (عبس: 92، 13) وَقَالَ
الغلب الملتفة من الالتفاف، وَالْأَب بِالتَّشْدِيدِ مَا
يَأْكُل الْأَنْعَام وَهُوَ الْكلأ والمرعى، وَعَن الْحسن:
هُوَ الْحَشِيش وَمَا تَأْكُله الدَّوَابّ وَلَا يَأْكُلهُ
النَّاس، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الغلب غِلَاظ الْأَشْجَار
واحده أغلب، وَمِنْه قيل للتغليظ الرَّقَبَة الْأَغْلَب
وَعَن قَتَادَة: الغلب النّخل الْكِرَام، وَعَن ابْن زيد:
عِظَام الْجُذُوع، وَهَذَا لم يثبت إلاَّ للنسفي.
سفَرَةٌ: المَلائِكَةُ وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ سَفَرْتُ
أصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ وَجُعِلَتِ المَلائِكَةُ إذَا
نَزَلَتْ بِوَحْي الله وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ
الَّذِي يُصْلِحُ بَيْن القَوْمِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بأيدي سفرة} ، أَي:
بأيدي الْمَلَائِكَة. قَوْله: (واحدهم) ، أَي: وَاحِد
السفرة سَافر، وَعَن قَتَادَة واحدهم سفير، وَإِنَّمَا
ذكره بواو الْجَمَاعَة بِاعْتِبَار الْمَلَائِكَة. قَوْله:
(سفرت) ، إِشَارَة إِلَى أَن معنى: سَافر من سفرت بِمَعْنى
أصلحت بَينهم، وَمِنْه السفير وَهُوَ الرَّسُول، وسفير
الْقَوْم هُوَ الَّذِي يسْعَى بَينهم بِالصُّلْحِ، وسفرت
بَين الْقَوْم إِذا أصلحت بَينهم، وَعَن ابْن عَبَّاس
وَمُقَاتِل: سفرة، كتبة وهم الْمَلَائِكَة الْكِرَام
الكاتبون، وَمِنْه قيل للْكتاب: سفر، وَجمعه أسفار،
وَيُقَال للوراق سفر بلغَة العبرانية. قَوْله: (وتأديته) ،
من الْأَدَاء أَي: وتبليغه ويروى: وتأديبه من الْأَدَب لَا
من الْأَدَاء. قَالَه الْكرْمَانِي: وَفِيه مَا فِيهِ.
تَصَدَّى: تَغَافَلُ عَنْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَنت لَهُ تصدى} ،
وَفَسرهُ بقوله: (تغافل) وَأَصله: تتغافل وَكَذَلِكَ أصل:
تصدى تتصدى فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: أَي تتعرض لَهُ بالإقبال عَلَيْهِ،
وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسب الْمَشْهُور، وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) فِي أَكثر النّسخ تصدى تغافل عَنهُ،
وَالَّذِي فِي غَيرهَا تصدى أقبل عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ
الصَّوَاب وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين، وَوَقع فِي
رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَقَالَ غَيره: تصدى تغافل، وَهَذَا
يَقْتَضِي تقدم ذكر أحد قبله حَتَّى يَسْتَقِيم أَن
يُقَال: وَقَالَ غَيره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لمَا يَقْضِ لَا يَقْضِي أحَدٌ مَا
أُمِرَ بِهِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لما يقْض مَا
أمره} وَتَفْسِيره ظَاهر، (وَأمر) على صِيغَة الْمَجْهُول،
وَرَوَاهُ عبد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح
عَن مُجَاهِد وَلَفظه: لَا يقْض أحد مَا افْترض عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: تَرْهَقُها: تَغْشَاهَا شِدَّةٌ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ترهقها
فَتْرَة} تغشاها شدَّة، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من
طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ بِهِ، وَقيل: يُصِيبهَا
ظلمَة وذلة وكآبة وكسوف وَسَوَاد، وَعَن ابْن زيد: الْفرق
بَين الغبرة والفترة أَن الغبرة مَا ارْتَفع من الْغُبَار
فلحق بالسماء، والقترة مَا كَانَ أَسْفَل فِي الأَرْض.
مُسْفِرَةٌ: مُشْرِقَةُ
كَذَا فسره ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من
طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
{بأيْدِي سَفَرَةٍ} وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كَتَبَةٍ
أسْفَارا كَتُبا
قد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَهُوَ من وَجه مُكَرر.
تَلَهَّى: تَشَاغَلَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَنت عَنهُ تلهى}
(عبس: 1) أَصله: تتلهى. أَي: تتشاغل حذفت التَّاء
مِنْهُمَا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: تعرض وتتغافل
عَنهُ وتتشاغل بِغَيْرِهِ.
يُقَالُ: وَاحِدُ الأسْفَارِ، سِفْرٌ
(19/279)
سقط هَذَا لأبي ذَر، والأسفار جَاءَ فِي
قَوْله تَعَالَى: {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا}
(الْجُمُعَة: 5) ذكره اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ جمع سفر
بِكَسْر السِّين وَهُوَ الْكتاب، وَقد مر عَن قريب.
فَأقْبَرَهُ يُقالُ: أقْبَرتُ الرَّجُلَ جَعَلْتُ لَهُ
قَبْرا قَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَمَاتَهُ
فاقبره} (عبس: 12) قَوْله: (يُقَال) ، إِلَى آخِره، ظَاهر،
وَقَالَ الْفراء: أَي جعلته مقبورا وَلم يقل: قَبره، لِأَن
القابر هُوَ الدافن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فأقبره أَي:
جعل لَهُ قبرا وَالَّذِي يدْفن بِيَدِهِ هُوَ القابر.
7394 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا قَتَادَةُ
قَالَ سَمِعْتُ زُرَارَةَ بنَ أوْفَى يُحَدِّثُ عَنْ
سَعْدٍ بنِ هِشامٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ
وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفْرَةِ الكِرَامِ وَمَثَلُ
الَّذِي يَقْرَؤهُ وَهُوَ يَتَعَاهَدَهُ وَهُوَ عَلَيْهِ
شَدِيدٌ فَلَهُ أجْرَانِ.
مطابقته لقَوْله تَعَالَى: {بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس:
51، 61) وَسَعِيد بن هِشَام بن عَامر الْأنْصَارِيّ.
ولأبيه صُحْبَة وَلَيْسَ لَهُ فِي يالبخاري إلاَّ هَذَا
الْموضع وَآخر مُعَلّق فِي المناقب.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن
عبيد وَغَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن
إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي فَضَائِل
الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن غيلَان وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَغَيره وَفِي التَّفْسِير عَن أبي
الْأَشْعَث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي ثَوَاب الْقُرْآن عَن
هِشَام بن عمار.
قَوْله: (مثل الَّذِي) ، بِفتْحَتَيْنِ أَي: صفته كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون}
(الرَّعْد: 53) قَوْله: (وَهُوَ حَافظ لَهُ) ، أَي:
الْقُرْآن وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (مَعَ السفرة)
، ويروى مثل السفرة، وَقَالَ ابْن التِّين: كَأَنَّهُ مَعَ
السفرة فِيمَا يسْتَحقّهُ من الثَّوَاب. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: لفظ مثل زَائِد وَإِلَّا فَلَا رابطة بَينه
وَبَين السفرة لِأَنَّهُمَا مُبْتَدأ وَخبر فَيكون
التَّقْدِير الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مَعَ السفرة
الْكِرَام، أَي: كَائِن مَعَهم وَيجوز أَن يكون لفظ مثل
بِمَعْنى: مثيل، بِمَعْنى: شَبيه، فيكو التَّقْدِير: شَبيه
الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن مَعَ السفرة الْكِرَام. قَوْله:
(وَهُوَ يتعاهده) ، أَي: يضبطه ويتفقده. قَوْله: (وَهُوَ
عَلَيْهِ شَدِيد) ، أَي: وَالْحَال أَن التعاهد عَلَيْهِ
شَدِيد. قَوْله: (فَلهُ أَجْرَانِ) ، من حَيْثُ
التِّلَاوَة وَمن حَيْثُ الْمَشَقَّة قَالَه
الْقُرْطُبِيّ. فَإِن قلت: مَا معنى كَون الَّذِي يقْرَأ
الْقُرْآن وَهُوَ حَافظ لَهُ مَعَ السفرة. قلت: لَهُ
مَعْنيانِ أَحدهمَا: أَن يكون لَهُ منَازِل فَيكون فِيهَا
رَفِيقًا للْمَلَائكَة لاتصافه بصفاتهم من حمل كتاب الله
تَعَالَى، وَالْآخر: أَن يكون المُرَاد أَنه عَامل بِعَمَل
السفرة وسالك مسلكهم.
18 - (سُورَةُ: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {إِذا الشَّمْس كورت}
(التكوير: 1) وَيُقَال: سُورَة كورت بِدُونِ لفظ إِذا
الشَّمْس، وَسورَة التكوير، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي
أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا. وَمِائَة
وَأَرْبع كَلِمَات، وتسع وَعِشْرُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثب ت الْبَسْمَلَة إِلَّا لأبي ذَر
انْكَدَرَتْ انْتَثَرَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا النُّجُوم
انكدرت} (التكوير: 2) وَفَسرهُ بقوله: انتثرت. أَي: تناثرت
وتساقطت من السَّمَاء على الأَرْض. يُقَال: انكدر
الطَّائِر أَي سقط عَن عشه، وَعَن ابْن عَبَّاس تَغَيَّرت.
وَقَالَ الحَسَنُ: سُجِّرَتْ ذَهَبَ مَاؤُها فَلا تَبْقَى
فَطْرَةٌ. وَقَالَ مُجاهِدٌ: المَسْجُور المَمْلُوءُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ سُجِرَتْ أفْضَى بَعْضُها إلَى بَعْضٍ
فَصَارَتْ بَحْرا وَاحِدا.
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله عز وَجل:
{وَإِذا الْبحار سجرت} (التكوير: 6 وَتَفْسِيره ظَاهر،
وَكَذَا قَالَه السّديّ، وَقَالَ ابْن زيد وَابْن عَطِيَّة
وسُفْيَان ووهب: أوقدت فَصَارَت نَارا. قَوْله: (وَقَالَ
مُجَاهِد: الْبَحْر الْمَسْجُور المملوء) ، وَهُوَ فِي
سُورَة الطّور ذكره اسْتِطْرَادًا. قَوْله: (وَقَالَ
غَيره) ، أَي: غير مُجَاهِد، والأصوب أَن يُقَال: غير
الْحسن على مَا لَا يخفى معنى سجرت أفْضى إِلَى آخِره
وَهُوَ قَول مقَاتل وَالضَّحَّاك.
(19/280)
وَالخُنَّسُ: تَخْنِسُ فِي مُجْرَاهَا
تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ: تَسْتَتِرُ كَمَا تَكْنِسُ
الظِّباءُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس
الْجوَار الكنس} (التكوير: 51، 61) قَالَ الْفراء: الخنس
النُّجُوم الْخَمْسَة، تخنس فِي مجْراهَا إِلَى آخِره،
والخمسة هِيَ: بهْرَام وزحل وَعُطَارِد والزهرة
وَالْمُشْتَرِي، ويروى أَن رجلا من مُرَاد قَالَ لعَلي بن
أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {الخنس الْجوَار
الكنس} قَالَ: هِيَ الْكَوَاكِب تخنس بِالنَّهَارِ فَلَا
ترى وتكنس بِاللَّيْلِ فتأوى إِلَى مجاريهن، وأصل الخنس
الرُّجُوع إِلَى وَرَاء الكنوس. أَي: تأوي إِلَى مكانسها
وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي تأوي إِلَيْهَا الْوَحْش،
وَقيل: الخنس بقر الْوَحْش إِذا رَأَتْ الْإِنْس تخنس
وَتدْخل كناسها، وروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد صَحِيح
عَن عمر بن ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل. قَالَ: قَالَ
ابْن مَسْعُود: مَا الخنس؟ قَالَ قلت: أَظُنهُ بقر
الْوَحْش. قَالَ: وَأَنا أَظن ذَلِك، والخنس جمع خانس
والكنس جمع كانس كالركع جمع رَاكِع.
تَنَفَّسَ: ارْتَفَعَ النَّهَارُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّبْح إِذا
تنفس} (التكوير: 81) وَفَسرهُ بقوله: (ارْتَفع النَّهَار)
.
وَالظَّنِينُ: المُتَّهَمُ. وَالضَّنِينُ يَضَنُّ بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا هُوَ على
الْغَيْب بظنين} (التكوير: 42) وَفسّر الظنين الَّذِي
بالظاء الْمُعْجَمَة بالمتهم، وَفسّر الضنين الَّذِي
بالضاد الْمُعْجَمَة بقوله: (يضن بِهِ) أَي: يبخل بِهِ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مَا هُوَ يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على الْغَيْب أَي: الْوَحْي وَخبر
السَّمَاء وَمَا اطلع عَلَيْهِ من علم الْغَيْب بضنين أَي
ببخيل، فَلَا يبخل بِهِ عَلَيْكُم، بل يعلمكم
وَيُخْبِركُمْ بِهِ. قلت: هَذَا الَّذِي فسره هُوَ الضنين
الَّذِي بالضاد الْمُعْجَمَة. تَقول: ضننت بالشَّيْء
فَأَنا ضنين أَي يخيل. ثمَّ قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وقرىء
بالظاء وَمَعْنَاهُ وَمَا هُوَ بمتهم فِيمَا يخبر بِهِ،
وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَأهل الْمَدِينَة وَالشَّام
بالضاد وَالْبَاقُونَ بالظاء من الظنة وَهِي التُّهْمَة.
وَقَالَ النَّسَفِيّ (فِي تَفْسِيره) واتقان الْفَصْل بَين
الضَّاد والظاء وَاجِب وَمَعْرِفَة مخرجهما لَا بُد مِنْهُ
للقارىء فَإِن أَكثر الْعَجم لَا يفرقون بَين الحرفين
وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي فصل الضَّاد: ضننت بالشَّيْء أضن
بِهِ ضنا وضنانة إِذا بخلت بِهِ، وَهُوَ ضنين بِهِ. قَالَ
الْفراء: وضننت بِالْفَتْح لُغَة، وَقَالَ فِي فصل الظَّاء
والظنين الْمُتَّهم والظنة التُّهْمَة.
وَقَالَ عُمَرُ {وَإذَا النفُوسُ زُوِّجَتْ} (التكوير: 7)
يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ،
ثُمَّ قَرَأَ رَضِيَ الله عَنْهُ {احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ} (الصافات: 22) .
أَي: قَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا النُّفُوس زوجت} يُزَوّج
الرجل نَظِيره من أهل الْجنَّة ويزوج الرجل نَظِيره من أهل
النَّهَار، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد عَن
أبي نعيم، حَدثنَا سُفْيَان عَن سماك عَن النُّعْمَان ابْن
بشير عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي لفظ:
الْفَاجِر مَعَ الْفَاجِرَة والصالح مَعَ الصَّالِحَة.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: زوج الْمُؤمن الْحور الْعين
وَالْكَافِر الشَّيْطَان، وَقَالَ الرّبيع بن خثيم: يَجِيء
الْمَرْء مَعَ صَاحب عمله يُزَوّج الرجل بظيره من أهل
الْجنَّة وبنظيره من أهل النَّار، وَقَالَ الْحسن: ألحق كل
امرء بشيعته، وَقَالَ عِكْرِمَة: يحْشر الزَّانِي مَعَ
الزَّانِيَة والمسيء مَعَ المسيئة والمحسن مَعَ المحسنة.
قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ) ، أَي: ثمَّ قَرَأَ عمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ مستدلاً على مَا قَالَه بقوله تَعَالَى:
{احشروا الَّذين ظلمُوا أَزوَاجهم} .
عَسْعَسَ أدْبَرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا
عسعس} (التكوير: 71) وَفَسرهُ بقوله: (أدبر) رَوَاهُ ابْن
جرير بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الزّجاج:
عسعس اللَّيْل إِذا أقبل، وعسعس إِذا أدبر فعلى هَذَا هُوَ
مُشْتَرك بَين الضدين.
28 - (سُورَةُ {إذَا السمَّاءُ انْفَطَرَتْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {إِذا السَّمَاء
انفطرت} وَيُقَال لَهَا أَيْضا سُورَة الانفطار وَهِي
مَكِّيَّة. وَهِي ثَلَاثمِائَة وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ
حرفا، وَثَمَانُونَ كلمة وتسع عشرَة آيَة.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم.
(19/281)
الْبَسْمَلَة مَوْجُودَة هُنَا عِنْد
الْكل.
انْفِطَارُها: انْشِقَاقُها
ثَبت هَذَا للنسفي وَحده، والانفطار من الْفطر بِالْفَتْح
وَهُوَ الشق.
وَيُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ بِعثرَتْ يَخْرُجُ مَنْ
فِيهَا مِنَ الأَمْوَاتِ
أَي: يذكر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَإِذا
الْقُبُور بعثرت} (الانفطار: 4) وَتَفْسِيره ظَاهر، وَبِه
قَالَ الْفراء أَيْضا. وَهَذَا أَيْضا ثَبت للنسفي وَحده.
وَقَالَ غَيْرُهُ: بُعْثِرَتْ: أُثِيرَتْ: بَعْثَرْتُ
حَوْضِي أيْ جَعَلْتُ أسْفَلَهُ أعْلاهُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {بعثرت} أَن
مَعْنَاهُ: أثيرت وبحثت فاستخرج مَا فِي الأَرْض من
الْكُنُوز وَمن فِيهَا من الْمَوْتَى، وَهَذَا من أَشْرَاط
السَّاعَة أَن تخرج الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا من ذهبها
وفضتها وموتاها. قَوْله: (بعثرت حَوْضِي) ، أَشَارَ بِهِ
إِلَى أَنه يُقَال: بعثرت حَوْضِي وبحثرته إِذا هدمته
فَجعلت أَسْفَله أَعْلَاهُ، وَهَذَا أَيْضا للنسفي وَحده.
وَقد مر فِي أَوَاخِر كتاب الْجَنَائِز.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بنُ خُثَيْمٍ: فُجِّرَتْ فَاضَتْ
أَي: قَالَ الرّبيع بن خثيم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا
الْبحار فجرت} (الانفطار: 3) أَي: فاضت، وَالربيع، بِفَتْح
الرَّاء ابْن خثيم، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة: التَّابِعِيّ الثَّوْريّ
الْكُوفِي. قَوْله: (فاضت) ، من الْفَيْض مَعْنَاهُ: فتح
بَعْضهَا إِلَى بعض عذبها إِلَى ملحها وملحها إِلَى عذبها
فَصَارَت بحرا وَاحِدًا. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد
بن حميد قَالَ: حَدثنَا مُؤَمل وَأَبُو نعيم قَالَا:
أخبرنَا سُفْيَان وَهُوَ ابْن سعيد الثَّوْريّ عَن أَبِيه
عَن أبي يعلى، هُوَ مُنْذر الثَّوْريّ عَن الرّبيع بن خثيم
بِهِ.
وَقَرَأَ الأعْمَشُ وَعَاصِمٌ: فَعَدَلَكَ بِالتَّخْفِيفِ.
وَقَرَأَهُ أهْلُ الحجازِ بِالتَّشْدِيدِ، وأرَادَ:
مُعْتَدِلَ الخَلْقِ وَمَنْ خَفَّفَ يَعْنِي فِي أيِّ
صُورَةٍ شَاءَ إمَّا حَسَنٌ وَإمّا قَبِيحٌ وَطَوِيلٌ
وَقَصِيرٌ.
أَي: قَرَأَ سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَعَاصِم بن أبي
النجُود بِفَتْح النُّون وَضم الْجِيم الْأَسدي أحد
الْقُرَّاء السَّبْعَة. قَوْله تَعَالَى: {فعدلك فِي أَي
صُورَة مَا شَاءَ ركبك} (الانفطار: 8) بِالتَّخْفِيفِ أَي:
بتَخْفِيف الدَّال وَبِه قَرَأَ أَيْضا الْحسن وَحَمْزَة
وَالْكسَائِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو رَجَاء وَعِيسَى بن
عمر وَعمر بن عبيد والكوفيون، وَقَرَأَ أهل الْحجاز
بتَشْديد الدَّال. قَوْله: (وَمن خفف) ، يحْتَمل أَن يكون
عطفا على فَاعل أَرَادَ، أَي: وَمن خفف أَرَادَ أَيْضا
معتدل الْخلق، وَلَفظ فِي أَي صُورَة لَا يكون مُتَعَلقا
بِهِ بل هُوَ كَلَام مُسْتَأْنف لقَوْله تَعَالَى: {أَفِي
أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَالْبَاقِي ظَاهر.
38 - (سُورَةُ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِفِينَ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {ويل
لِلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين: 1) وَفِي بعض النّسخ: سُورَة
المطففين، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي رِوَايَة همام
وَسَعِيد عَن قَتَادَة وَمُحَمّد بن ثَوْر عَن معمر
أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَكَذَا قَالَ سُفْيَان، وَقَالَ
السّديّ: إِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَعَن الْكَلْبِيّ نزلت على
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَرِيقه من
مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَقَالَ مقَاتل: مَدَنِيَّة غير
آيَة نزلت بِمَكَّة قَالَ: {أساطير الْأَوَّلين}
(المطففين: 31) وَعند ابْن النَّقِيب عَنهُ هِيَ أول
سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَذكر السخاوي أَنَّهَا نزلت
بعد سُورَة العنكبوت، وَفِي (سنَن النَّسَائِيّ) وَابْن
مَاجَه، بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق يزِيد النَّحْوِيّ
عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: لما قدم النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة كَانُوا من أَخبث
النَّاس كَيْلا فَأنْزل الله عز وَجل: {ويل
لِلْمُطَفِّفِينَ} فَأحْسنُوا الْكَيْل بعد ذَلِك، وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: مَدَنِيَّة وَهِي سَبْعمِائة وَثَمَانُونَ
حرفا وَمِائَة وتسع وَسِتُّونَ كلمة، وست وَثَلَاثُونَ
آيَة.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
قَوْله: (ويل) ، قَالَ مقَاتل: ويل وادٍ فِي جَهَنَّم
قَعْره سَبْعُونَ سنة فِيهِ سَبْعُونَ ألف شعب فِي كل شعب
سَبْعُونَ ألف شقّ فِي كل شقّ سَبْعُونَ ألف مغار فِي كل
مغار سَبْعُونَ ألف قصر كالتوابيت من حَدِيد فِي كل
تَابُوت سَبْعُونَ ألف شَجَرَة. فِي كل شَجَرَة سَبْعُونَ
ألف غُصْن من نَار فِي كل غُصْن سَبْعُونَ ألف ثَمَرَة
طولهَا سَبْعُونَ ألف ذِرَاع تَحت كل شَجَرَة سَبْعُونَ
ألف ثعبان وَسَبْعُونَ ألف عقرب طول كل ثعبان مسيرَة شهر
وغلظه كالجبل لَهُ أَنْيَاب كالنخل لَهُ ثَلَاثمِائَة
وَسَبْعُونَ
(19/282)
قفازا فِي كل قفاز قلَّة من سم، وَذكره
القتبي فِي كِتَابه (عُيُون الْأَخْبَار) . عَن ابْن
عَبَّاس، وَذكر ابْن وهب نَحوه فِي (كتاب الْأَهْوَال) ،
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان)
أصل لهَذَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (يُسَلط على
الْكَافِر تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا، أَتَدْرُونَ مَا
التنين؟ سَبْعُونَ حَيَّة لكل حَيَّة سبع رُؤُوس يلسعونه
ويخدشونه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) . والمطفقون الَّذين
ينقصُونَ النَّاس ويبخسون حُقُوقهم فِي الْكَيْل
وَالْوَزْن، وَأَصله من الشَّيْء الطفيف وَهُوَ النزر
الْقَلِيل، والتطفيف البخس فِي الْكَيْل وَالْوَزْن لِأَن
مَا يبخس شَيْء طفيف حقير.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ رَانَ ثَبْتُ الخَطَايَا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {كلاًّ بل ران
على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 41)
وَفسّر: (ران) بقوله: (ثَبت الْخَطَايَا) وروى ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد. قَالَ: أَثْبَتَت على قُلُوبهم
الْخَطَايَا حَتَّى غمرتها. وران من الرين وَأَصله
الْغَلَبَة. يُقَال: رانت الْخمر على قلبه إِذا غلبت
عَلَيْهِ فَسَكِرَ، وَمعنى الْآيَة: غلبت الْخَطَايَا على
قُلُوبهم وأحاطت بهَا حَتَّى غمرتها وغشيتها. وَيُقَال:
الران والرين الغشاوة، وَهُوَ كالصدي على الشَّيْء
الصَّقِيل.
ثُوِّبَ جُوزِيَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {هَل ثُوِّبَ
الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين: 1) وَفسّر
ثوب بقوله: (جوزي) على صِيغَة الْمَفْعُول من الْجَزَاء،
وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة. وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَيْضا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: المُطَفِّفُ لَا يُوَفِّي غَيْرَهُ
أَي: قَالَ غَيره مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ويل
لِلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين: 1) (المطفف لَا يُوفي غَيره)
أَي: لَا يقوم بوفاء حق غَيره بل فِي دَفعه بخس وَنقص.
الرَّحِيقُ الخَمْرُ خِتامُهُ مِسْكٌ طِينَتُهُ
التَّسْنيمُ يَعْلو شَرَابَ أهْلِ الجَنَّةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {يسقون من رحيق}
(المطففين: 52) وَفسّر الرَّحِيق بِالْخمرِ وَأَشَارَ
بقوله: (ختامه مسك) إِلَى قَوْله عز وَجل: {مختوم ختامه
مسك} (المطففين: 52، 62) عَيْني: ختمت بمسك ومنعت من أَن
يَمَسهَا مَاس أَو تتناولها يدا إِلَى أَن يفك خَتمهَا
الْأَبْرَار يَوْم الْقِيَامَة، وَأَشَارَ بقوله: (طينته
التسنيم) إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ومزاجه من تسنيم}
(المطففين: 72) قَالَ الضَّحَّاك: وَهُوَ شراب اسْمه
تسنيم، وَهُوَ من أشرف الشَّرَاب، وَهُوَ معنى قَوْله:
(يَعْلُو شراب أهل الْجنَّة) وَقَالَ مقَاتل: يُسمى تسنيما
لِأَنَّهُ يتسنم، فينصب عَلَيْهِم انصبابا من فَوْقهم فِي
غرفهم ومنازلهم يجْرِي من جنَّة عدن إِلَى أهل الْجنان،
وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده، وَتقدم شَيْء من ذَلِك فِي
بَدْء الْخلق.
8394 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثنا مَعْنٌ
قَالَ حدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعِ عَنْ عَبْدِ الله
بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
العَالَمِينَ} (المطففين: 6) حَتَّى يَغِيبَ أحَدُهُمْ فِي
رَشْحِهِ إلَى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
وَجه ذكره هَذَا قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يقوم النَّاس لرب
الْعَالمين} وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِكَسْر الذَّال
الْمُعْجَمَة اسْم فَاعل من الْإِنْذَار، ومعن، بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة. وَفِي آخِره نون
ابْن عِيسَى الْأَشْجَعِيّ الْقَزاز بتَشْديد الزَّاي
الأولى.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة جَهَنَّم عَن عبد الله بن
جَعْفَر الْبَرْمَكِي، وَهَذَا الحَدِيث من غرائب حَدِيث
مَالك وَلَيْسَ هُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) .
قَوْله: (يَوْم يقوم النَّاس) ، قيامهم فِيهِ لله خاضعين
وَوصف ذَاته بِرَبّ الْعَالمين بَيَان بليغ لعظم الذَّنب
وتفاقم الْإِثْم فِي التطفيف. قَوْله: (فِي رشحه) ، أَي:
فِي عرقه. قَوْله: (إِلَى أَنْصَاف أُذُنَيْهِ) ، هُوَ من
إِضَافَة الْجمع إِلَى الْجمع حَقِيقَة وَمعنى لِأَن لكل
وَاحِد أذنين.
48 - (سُورَةُ: {إذَا السَّماءُ انْشَقَتْ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {إِذا السَّمَاء
انشقت} وَفِي بعض النّسخ لم يذكر لفظ: سُورَة. وَتسَمى
أَيْضا: سُورَة الانشقاق، وَسورَة انشقت، وَهِي مَكِّيَّة،
وَهِي أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثُونَ حرفا وَمِائَة وَسبع
كَلِمَات وَثَلَاث وَعِشْرُونَ آيَة.
كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ يَأخُذُ كِتَابَهُ مِنْ وَرَاءِ
ظَهْرِهِ
معنى أَخذ كِتَابه بِشمَالِهِ أَنه يَأْخُذ من وَرَاء
ظَهره، وَفَسرهُ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأما من
أولى كِتَابه وَرَاء ظَهره} (الانشقاق: 1) أَنه نقل
(19/283)
يَده الْيُمْنَى إِلَى عُنُقه وَتجْعَل يَده الشمَال
وَرَاء ظَهره فيؤتي كِتَابه من وَرَاء ظَهره، وَعَن
مُجَاهِد أَيْضا، أَنه تخلع يَده من وَرَاء ظَهره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أذِنَتْ سَمِعَتْ وَأطَاعَتْ
لِرَبِّهَا وَألْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ المَوْتَى
وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وأذنت
لِرَبِّهَا وحقت وَإِذا الأَرْض مدت وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
وتخلت} (الانشقاق: 2، 4) وَفسّر قَوْله: أَذِنت بقوله:
سَمِعت وأطاعت، وَفسّر قَوْله: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا)
بقوله: أخرجت مَا فِيهَا من الْمَوْتَى، وَقَالَ
الثَّعْلَبِيّ: من الْكُنُوز والموتى. قَوْله: (وتخلت) ،
أَي: خلت فَلَيْسَ فِي بَطنهَا شَيْء، وَهَذَا كُله
للنسفي.
وَسَقَ: جَمْعَ مِنْ دَابَّةٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل وَمَا
وسق} (الانشقاق: 71) وَفَسرهُ بقوله: (جمع من دَابَّة)
وَقَالَ مُجَاهِد: وَمَا أَوَى فِيهَا من دَابَّة، وَعَن
عِكْرِمَة: وَمَا جمع فِيهَا من دَوَاب وعقارب وحيات،
وَعَن مقَاتل: وَمَا سَاق من ظلمَة. قَوْله: (وسق) ، من
وسقته أسقه وسْقا أَي: جمعته وَمِنْه قيل للطعام الْكثير
الْمُجْتَمع: وسق، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعا. وَطَعَام موسوق
أَي: مَجْمُوع فِي غرارة ومركب موسوق إِذا كَانَ مشحونا
بالخلق أَو بالبضائع.
ظَنَّ أنْ لَنْ يَحورَ أنْ لَا يَرْجِعَ إلَيْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه ظن أَن لن
يحور} (الانشقاق: 41) وَفَسرهُ بقوله: (أَن لَا يرجع
إِلَيْنَا) وَهُوَ من الْحور وَهُوَ الرُّجُوع، وَيُقَال:
حاورت فلَانا أَي: راجعته وَيُطلق على التَّرَدُّد فِي
الْأَمر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يُوعُونَ يَشْتَرُونَ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَالله أعلم
بِمَا يوعون} (الانشقاق: 32) أَي: يشْتَرونَ، وَرَوَاهُ
ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ،
وَعَن مُجَاهِد يكتمون، وَعَن قَتَادَة: يَزْعمُونَ فِي
صُدُورهمْ، وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده. |