عمدة القاري شرح صحيح البخاري

1 - (بَابٌ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 8)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} وَهَذِه التَّرْجَمَة لم تثبت إلاَّ لأبي ذَر.

9394 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بنِ الأسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ أبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وحدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وحدَّثنا مَسدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أبِي يُونُسَ حَاتِمِ بنِ أبِي صَغِيرَةَ عَنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنِ القَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ أحَدٌ يُحَاسَبُ إلاَّ هَلَكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله جَعَلَنِي الله فِدَاءَكَ ألَيْسَ يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَأمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 7، 8) قَالَ ذَاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الحِسابَ هَلَكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرج هَذَا الحَدِيث من ثَلَاث طرق: أَحدهَا: عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر بن كنيز، بالنُّون وَالزَّاي الفلاس عَن يحيى الْقطَّان عَن عُثْمَان بن الْأسود بن مُوسَى الجُمَحِي بِضَم الْجِيم عَن عبد الله بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم عَن عَائِشَة، وَوَقع هُنَا للقابسي: عَن عُثْمَان الْأسود فَجعل الْأسود صفة لعُثْمَان وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ ابْن الْأسود. الثَّانِي: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن عَائِشَة. الثَّالِث: عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن أبي يُونُس حَاتِم بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن ي صَغِيرَة. ضد الْكَبِيرَة الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الر قاق وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن أبان وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ

(19/284)


عَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعبد الله بن أبي مليكَة روى هُنَا عَن عَائِشَة بالواسطة وَفِي الطَّرِيقَيْنِ الْأَوَّلين بِلَا وَاسِطَة، وَيحمل هَذَا على أَن ابْن أبي مليكَة حمله عَن الْقَاسِم ثمَّ سَمعه عَن عَائِشَة، وسَمعه أَولا من عَائِشَة ثمَّ استثبت الْقَاسِم، إِذْ فِي رِوَايَته زِيَادَة لَيست عِنْده، وَبِهَذَا يُجَاب عَن اسْتِدْرَاك الدَّارَقُطْنِيّ هَذَا الحَدِيث لهَذَا الِاخْتِلَاف، وَعَما قَالَه الجياني: سقط من نُسْخَة أبي زيد من السَّنَد الأول ذكر ابْن أبي مليكَة وَلَا بُد مِنْهُ، ذكر ذَلِك الْقَابِسِيّ وعبدوس عَن شيخهما أبي زيد وَمِمَّا ذكره أَبُو إِسْحَاق الْمُسْتَمْلِي وَابْن الْهَيْثَم عَن الفريري، فِي السَّنَد الثَّانِي، ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة وَهُوَ وهم، وَالْمَحْفُوظ فِيهِ أَيُّوب عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة لَيْسَ فِيهِ الْقَاسِم، وَأَيْضًا فَأن يحيى الْقطَّان وَعبد الله بن الْمُبَارك روياه عَن حَاتِم عَن ابْن أبي مليكَة عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وهما زادا فِيهِ وهما حَافِظَانِ ثقتان، وَزِيَادَة الْحَافِظ مَقْبُولَة. فَإِن قلت: روى أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن الْحسن مَنْصُور الطَّبَرِيّ فِي (السّنَن) تأليفه بِإِسْنَادِهِ عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. قَالَت: لَا يُحَاسب رجل يَوْم الْقِيَامَة إلاَّ دخل الْجنَّة. قَالَ الله عز وَجل: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 7، 8) يقْرَأ عَلَيْهِ عمله فَإِذا عرفه غفر لَهُ ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} (الرَّحْمَن: 93) وَأما الْكَافِر فَقَالَ: {يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيَأْخُذ بالنواصي والإقدام} (الرَّحْمَن: 14) قلت: أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن هَذَا وَإِن كَانَ إِسْنَاده صَحِيحا فَلَا يُقَاوم مَا فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) ، وَمن شَرط الْمُعَارضَة التَّسَاوِي فِي الصِّحَّة وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَإِن عَائِشَة قد خالفها غَيرهَا فِي ذَلِك للآيات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك. فَإِن قلت: إِن الْحساب يُرَاد بِهِ الثَّوَاب وَالْجَزَاء، وَلَا ثَوَاب للْكَافِرِ فيجازى عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ، وَلِأَن المحاسب لَهُ هُوَ الله تَعَالَى، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة} (الْبَقَرَة: 471) قلت: أجَاب عَن ذَلِك مُحَمَّد بن جرير بِأَن معنى لَا يكلمهم الله. أَي: بِكَلَام يحبونه، وإلاَّ فقد قَالَ عز وَجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} (الْمُؤْمِنُونَ: 801) قَوْله: (ذَاك الْعرض) ، هُوَ الإبداء والإبراز وَقيل: هُوَ أَن يعرف ذنُوبه لم يتَجَاوَز عَنهُ، وَحَقِيقَة الْعرض إدارك الشَّيْء بالحواس ليعلم غَايَته وحاله. قَوْله: (وَمن نُوقِشَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من المناقشة وَهِي الِاسْتِقْصَاء فِي الْأَمر. قَوْله: (الْحساب) مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض.

2 - (بَابُ: {لتَرْكَبُنَّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ} (الانشقاق: 91)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لتركبن طبقًا عَن طبق} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر قَوْله: (لتركبن طبقًا عَن طبق) قَرَأَ ابْن كثير وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِفَتْح التَّاء وَالْبَاء وَهُوَ خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْنَاهُ الْآخِرَة بعد الأولى وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَابْن عَبَّاس بِفَتْح التَّاء وَضم الْبَاء وَهُوَ خطاب لجَمِيع النَّاس، وَمَعْنَاهُ: حَالا بعد حَال، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء، وَقَرَأَ أَبُو المتَوَكل بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَرفع الْبَاء.

0494 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ النَّضْرِ أخْبَرَنَا هُشَيْمٌ أخْبَرَنَا أبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بنُ إيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ} حَالا بَعْدَ حَالٍ قَالَ هاذا نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَسَعِيد بن النَّضر بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة الْبَغْدَادِيّ مر فِي أول التَّيَمُّم، وهشيم بِضَم الْهَاء ابْن بشر، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة. والحدي من أَفْرَاده.
قَوْله: (حَالا بعد حَال) ، أَي: حَال مُطَابقَة للشَّيْء قبلهَا فِي الشدَّة، وَقيل: الطَّبَق جمع طبقَة وَهِي الْمرتبَة أَي: هِيَ طَبَقَات بَعْضهَا أَشد من بعض، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اخْتلف فِي معنى الْآيَة. فَقَالَ أَكْثَرهم حَالا بعد حَال، وأمرا بعد أَمر، وَهُوَ مَوَاقِف الْقِيَامَة وَعَن الْكَلْبِيّ: مرّة يعْرفُونَ وَمرَّة يجهلون، وَعَن مقَاتل يَعْنِي الْمَوْت ثمَّ الْحَيَاة ثمَّ الْمَوْت ثمَّ الْحَيَاة. وَعَن عَطاء: مرّة فقر أَو مرّة غناء، وَعَن ابْن عَبَّاس: الشدائد والأهوال، الْمَوْت ثمَّ الْبَعْث ثمَّ الْعرض؟ وَالْعرب تَقول لمن وَقع فِي أَمر شَدِيد: وَقع فِي ثبات طبق وَفِي إِحْدَى ثبات طبق، وَعَن أبي عُبَيْدَة سنَن من كَانَ قبلهم وأحوالهم، وَعَن عِكْرِمَة: حَالا بعد حَال رَضِيع ثمَّ فطيم ثمَّ غُلَام ثمَّ شَاب ثمَّ شيخ.
وَقلت الْحُكَمَاء يَشْمَل الْإِنْسَان كَونه نُطْفَة إِلَى أَن يَمُوت على سَبْعَة وَثَلَاثِينَ حَالا وَسَبْعَة وَثَلَاثِينَ اسْما، نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ عظاما ثمَّ خلقا آخر ثمَّ جَنِينا

(19/285)


ثمَّ وليدا ثمَّ رضيعا ثمَّ فطيما ثمَّ يافعا ثمَّ نَاسِيا ثمَّ مترعرعا ثمَّ حزورا ثمَّ مراهقا ثمَّ محتلما ثمَّ بَالغا ثمَّ أَمْرَد ثمَّ طارا ثمَّ باقلاً ثمَّ مستطرا ثمَّ مطرخما ثمَّ مخلطا ثمَّ صملاً ثمَّ ملتحيا ثمَّ مستويا ثمَّ مصعدا ثمَّ مجتمعا. والشاب يجمع ذَلِك كُله. ثمَّ ملهوزا ثمَّ كهلاً ثمَّ أشمط ثمَّ أشيخا ثمَّ شَبَّبَ ثمَّ حوقلاً ثمَّ صفتاتا ثمَّ هما ثمَّ هرما ثمَّ مَيتا. فَهَذَا معنى قَوْله: (لتركبن طبقًا عَن طبق) والطبق فِي اللُّغَة الْحَال قَالَه الثَّعْلَبِيّ.
قلت: ثمَّ يافعا بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، من أَيفع الْغُلَام أَي: ارْتَفع فَهُوَ يافع، وَالْقِيَاس موفع وَهُوَ من النَّوَادِر، كَذَا قَالَه أهل الْعَرَبيَّة. وَقيل: جَاءَ يفع الْغُلَام فعلى هَذَا يافع على الأَصْل، وَذكر فِي كتاب (خلق الْإِنْسَان) وَقَالَ بَعضهم: اليافع والحزور والمترعرع وَاحِد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الحزور الْغُلَام إِذا اشْتَدَّ وَقَوي وحزم، وَكَأَنَّهُ أَخذه من الْحَزْوَرَة وَهِي كل صَغِير، والمترعرع. قَالَ الْجَوْهَرِي: ترعرع الصَّبِي أَي: تحرّك وَنَشَأ، والطارّ بتَشْديد الرَّاء من طر شَارِب الْغُلَام إِذا نبت والمطرخم بتَشْديد الْمِيم الَّتِي فِي آخِره من اطرخمَّ أَي: شمخ بِأَنْفِهِ وتعظم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: شَاب مطرخم أَي: حسن تَامّ، والمخلط بِكَسْر الْمِيم الرجل الَّذِي يخالط الْأُمُور، والصمل بِضَم الصَّاد وَالْمِيم وَتَشْديد اللَّام أَي: شَدِيد الْخلق، والملهوز، بالزاي فِي آخِره من لهزت الْقَوْم أَي: خالطتهم، وَالْوَاو فِيهِ زَائِدَة، والحوقل من حوقل الشَّيْخ حوقلة وحقيالاً إِذا كبر وفتر عَن الْجِمَاع، والصفتات، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء وبتاءين مثناتين بَينهمَا ألف: الرجل الْقوي وَكَذَلِكَ الصفتيت، وَفِي الْأَحْوَال الْمَذْكُورَة أسامي لم تذكر، وَهِي شرخ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة بعد أَن يُقَال غُلَام ثمَّ بعد ذَلِك يُسمى جفرا بِالْجِيم والجحوش بِالْجِيم الْمَفْتُوحَة بعْدهَا الْحَاء الْمُهْملَة المضمومة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة بعد أَن يُقَال فطيم، وناشىء يُقَال بعد كَونه شَابًّا ومحمم إِذا اسود شعر وَجهه وَأخذ بعضه بَعْضًا، وصتم إِذا بلغ أقْصَى الكهولة، وعانس إِذا قعد بعد بُلُوغ النِّكَاح أعواما لَا ينْكح، وشميط وأشمط يُقَال لَهُ بعد مَا شَاب، ومسن ونهشل يُقَال إِذا ارْتَفع عَن الشيخوخة وَإِذا ارْتَفع عَن ذَلِك، يُقَال: فخم وَإِذا تضعضع لَحْمه يُقَال: متلحم، وَإِذا قَارب الخطو وَضعف يُقَال لَهُ دالف، وَإِذا ضمر وانحنى يُقَال لَهُ عشمة وعشبة، وَإِذا بلغ أقْصَى ذَلِك، يُقَال لَهُ: هرم وهم وَإِذا أَكثر الْكَلَام وَاخْتَلَطَ يُقَال لَهُ: مهتر، وَإِذا ذهب عقله يُقَال لَهُ خرف.
وَقَالَ بَعضهم: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه فَهُوَ جَنِين، فَإِذا وَلدته يُسمى صَبيا مَا دَامَ رضيعا فَإِذا فطم يُسمى غُلَاما إِلَى سبع سِنِين ثمَّ يصير يافعا إِلَى عشر حجج ثمَّ يصير حزورا إِلَى خمس عشرَة سنة ثمَّ يصير قمدا إِلَى خمس وَعشْرين سنة ثمَّ يصير عنطنا إِلَى ثَلَاثِينَ سنة ثمَّ يصير صملاً إِلَى أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ يصير كهلاً إِلَى خمسين سنة ثمَّ يصير شَيخا إِلَى ثَمَانِينَ سنة ثمَّ يصير هما بعد ذَلِك فانيا كَبِيرا.
قَوْله: (هَذَا نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: الْخطاب فِي التركين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على قِرَاءَة فتح الْبَاء الْمُوَحدَة فَافْهَم.

58 - (سُورَةُ {البُرُوجِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة البروج، وَفِي بعض النّسخ: البروج، بِدُونِ لفظ سُورَة، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي أَرْبَعمِائَة وَثَمَانِية وَخَمْسُونَ حرفا وَمِائَة وتسع كَلِمَات وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ آيَة، والبروج الاثنا عشر وَهِي قُصُور السَّمَاء على التَّشْبِيه، وَقيل: البروج النُّجُوم الَّتِي هِيَ منَازِل الْقَمَر، وَقيل: عِظَام الْكَوَاكِب، وَقيل: أَبْوَاب السَّمَاء.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الأخْدُودُ شَقٌّ فِي الأرْضِ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى؛ {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} (البروج: 4) قَالَ الْأُخْدُود: شقّ فِي الأَرْض أخرجه عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
فَتَنُوا: عَذَّبُوا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (البروج: 1) وَفَسرهُ بقوله: عذبُوا. والفتنة جَاءَت لمعانٍ مِنْهَا: الْعَذَاب كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم هم على النَّار يفتنون} (الذاريات: 31) أَي: يُعَذبُونَ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الوَدُودِ الحَبِيبُ المَجِيدُ الكَرِيمُ} (البروج: 41)

أَي قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله

(19/286)


تَعَالَى: {وَهُوَ الغفور الْوَدُود} وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: تَعَالَى: {الغفور الْوَدُود الحبيب} (البروج: 41) وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده.

68 - (سُورَةُ: {الطَّارِقِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الطارق، وَفِي بعض النّسخ الطارق، بِلَا لفظ سُورَة، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ حرفا، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ كلمة، وَسبع عشرَة آيَة نزلت فِي أبي طَالب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتحفه بِلَبن وخبز، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس يَأْكُل إِذا انحط نجم فَامْتَلَأَ مَاء ثمَّ نَارا، فَفَزعَ أَبُو طَالب، وَقَالَ: أَي شَيْء هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نجم رمي بِهِ وَهُوَ آيَة من آيَات الله تَعَالَى، فتعجب أَبُو طَالب، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء والطارق} (الطارق: 1) يَعْنِي: النَّجْم يظْهر لَيْلًا وَيخْفى نَهَارا، وكل مَا جَاءَ لَيْلًا فقد طرق.
هُوَ النَّجْمُ: وَمَا أتَاكَ لَيْلاً فَهُوَ طَارِقٌ

أَي: الطارق هُوَ النَّجْم قَوْله: (وَمَا أَتَاك) ، أَي الَّذِي أَتَاك فِي اللَّيْل يُسمى طَارِقًا من الطّرق، وَهُوَ الدق، وَسمي بِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى دق الْبَاب، هَذَا للنسفي.
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} (الطارق: 3) المُضِيءُ

هَذَا أَيْضا للنسفي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الثَّاقِبُ الَّذِي يَتَوَهَّجُ

ثَبت هَذَا لأبي نعيم عَن الْجِرْجَانِيّ عَن السّديّ: الَّذِي يرْمى بِهِ، وَقيل: الثاقب الثريا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ذَاتِ الرَّجْعِ} سَحَابٌ يَرْجِعُ بِالمَطَرِ {ذَاتِ الصَّدْعِ} الأرْضُ تَتَصَدَّعُ بِالنباتِ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع وَالْأَرْض ذَات الصدع} (الطارق: 11، 21) وَتَفْسِيره ظَاهر، وَيُقَال: يرجع بالغيث، وأرزاق الْعباد كل عَام، وَلَوْلَا ذَلِك لهلكوا وَهَلَكت مَوَاشِيهمْ، وَعَن ابْن عَبَّاس: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع} (الطارق: 11) ذَات الْمَطَر {وَالْأَرْض ذَات الصدع} (الطارق: 21) النَّبَات وَالْأَشْجَار وَالثِّمَار والأنهار.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَقَوْل فَصْلٌ لَحق

هَذَا للنسفي وَحده، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: حق وجد وجزل يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل.
{لَمَّا عَلَيْها حَافِظٌ} (الطارق: 4) إلاَّ عَلَيْهَا حَافِظٌ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} وَفَسرهُ بقوله: (إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ) ، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق يزِيد النَّحْوِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس وَإِسْنَاده صَحِيح. لَكِن أنكرهُ أَبُو عُبَيْدَة. قَالَ: لم نسْمع لقَوْل: لما بِمَعْنى: إلاَّ شَاهدا فِي كَلَام الْعَرَب وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) قَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ: لما بتَشْديد الْمِيم على أَن تكون نَافِيَة. وَتَكون: لما بِمَعْنى إلاّ وَهِي لُغَة هُذَيْل يَقُولُونَ: نشدتك الله لما قُمْت يعنون إلاّ قُمْت، وَالْمعْنَى: مَا نفس (إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ) من رَبهَا، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ جعلُوا: مَا صلَة وَأَن مُخَفّفَة من المثقلة أَي: إِن كل نفس لعليها حَافظ من رَبهَا يحفظ عَلَيْهَا ويحصي عَلَيْهَا مَا تكسبه من خير أَو شَرّ. قلت: فِي كَلَامه رد على إِنْكَار أبي عُبَيْدَة فِي مَجِيء شَاهد: للما بِمَعْنى: إلاَّ.

78 - (سُورَةُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) وَيُقَال لَهَا سُورَة الْأَعْلَى، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَأَرْبَعَة وَثَمَانُونَ حرفا، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ كلمة، وتسع عشرَة آيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. وَكَذَلِكَ يرْوى عَن عَليّ وَأبي مُوسَى وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَأخرج سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير: سَمِعت ابْن عمر يقْرَأ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى الَّذِي خلق فسوى. وَهِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {قَدَّرَ فَهَدَى} (الْأَعْلَى: 3) قَدَّرَ للإنْسَانِ الشقاءَ والسَّعادَةَ وَهَدَى الأنْعَامَ لِمَرَاتِعها

هَذَا للنسفي، وَالْمعْنَى ظَاهر.

1 - (بَابَ: {وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {غُناءَ أحْوَى} (الْأَعْلَى: 5) غَشِيما مُتَغَيِّرا} )

هَذَا أَيْضا للنسفي، وَيُقَال: أَي بِالْيَاءِ أحوى: أَي اسود إِذا هاج وعنق.

(19/287)


1494 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخْبَرَنِي أبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أبِي إسْحَاقَ عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلا يُقْرِئانِنا القُرْآنَ ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلالٌ وَسَعْدٌ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ جَاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا رأيْتُ أهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الوَلائِدَ وَالصُّبْيَانَ يَقُولُونَ هَذَا رَسُولُ الله قَدْ جَاءَ فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الأعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) فِي سُوَرٍ مِثْلِها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان يروي عَن أَبِيه عُثْمَان بن جبلة الْمروزِي عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي عَن الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَاب مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (ابْن أم مَكْتُوم) هُوَ عَمْرو بن قيس الْقرشِي العامري، وَاسم أم مَكْتُوم عَاتِكَة، وَسعد هُوَ ابْن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ. قَوْله: (فِي عشْرين) ، أَي: فِي جملَة عشْرين صحابيا. قَوْله: (الولائد) ، جمع وليدة وَهِي الصبية وَالْأمة. قَوْله: (يَقُولُونَ، هَذَا رَسُول الله) ، لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الصَّلَاة عَلَيْهِ إِنَّمَا شرعت فِي السّنة الْخَامِسَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} (الْأَحْزَاب: 65) وَهَذِه الْآيَة فِي الْأَحْزَاب ونزولها فِي السّنة الْخَامِسَة على الصَّحِيح، وَقَالَ بَعضهم: لَا مَانع أَن تتقدم الْآيَة الْمَذْكُورَة على مُعظم السُّورَة. قلت: الْمَانِع مَوْجُود لعدم الْعلم بتقدم الْآيَة الْمَذْكُورَة على مُعظم السُّورَة، وَأَيْضًا من أَيْن علمُوا أَن الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا بُد مِنْهَا على أَي وَجه كَانَت وقتئذ، وَأَيْضًا من قَالَ إِن لفظ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلب الرِّوَايَة من لفظ الصَّحَابِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون صدر ذَلِك مِمَّن دونه، وَقَالَ بَعضهم: وَقد صَرَّحُوا بِأَنَّهُ ينْدب أَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: مَذْهَب الإِمَام أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ أَنه تجب الصَّلَاة عَلَيْهِ كلما ذكر اسْمه. قَوْله: (فِي سُورَة مثلهَا) ، أَي: قَرَأت {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} مَعَ سور أُخْرَى مثلهَا، وَقد مر فِي رِوَايَة الْهِجْرَة فِي سور من الْمفصل.

88 - (سُورَةُ: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {هَل أَتَاك} (الغاشية: 1) وَفِي بعض النّسخ: {هَل أَتَاك} فَقَط. وَفِي بَعْضهَا: سُورَة {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} وَفِي بَعْضهَا: سُورَة الغاشية، وَهِي مَكِّيَّة بِالْإِجْمَاع، وَهِي ثَلَاثمِائَة وَاحِد وَثَلَاثُونَ حرفا. وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ كلمة. وست وَعِشْرُونَ آيَة. والغاشية اسْم من أَسمَاء يَوْم الْقِيَامَة. يَعْنِي: تغشي كل شَيْء بالأهوال قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الغاشية النَّار، دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وتغشى وُجُوههم النَّار} (إِبْرَاهِيم: 5) .
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} (الغاشية: 2، 3) النَّصَارَى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة} وَفسّر عاملة وناصبة بالنصارى، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) لم أر من ذكره عَن ابْن عَبَّاس. قلت: عدم رُؤْيَته إِيَّاه لَا يسْتَلْزم عدمهَا مُطلقًا وَقد روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق شبيب ابْن بشر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَزَاد الْيَهُود. قَوْله: (يَوْمئِذٍ) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة خاشعة: ذليلة، وَقيل: خاشعة فِي النَّار. قَوْله: (عاملة) ، يَعْنِي: فِي النَّار. و (ناصبة) فِيهَا وَعَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير لم تعْمل لله فِي الدُّنْيَا فاعملها وانصبها فِي النَّار بمعالجة السلَاسِل والأغلال، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن قَتَادَة: تكبرت فِي الدُّنْيَا عَن طَاعَة الله تَعَالَى فاعملها وانصبها فِي النَّار، وَعَن الضَّحَّاك يكلفون ارتقاء جبل من حَدِيد فِي النَّار، وَالنّصب الدأب فِي الْعَمَل، وَعَن عِكْرِمَة: عاملة فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي ناصبة فِي النَّار يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن سعيد بن جُبَير وَزيد بن أسلم: هم الرهبان وَأَصْحَاب الصوامع، وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد: عين آنِية بلغ إتاها وحان شربهَا. حميم آنٍ بلغ إناه أَي وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {تسقى من عين آنِية) بقوله بلغ إناها بِكَسْر الْهمزَة، أَي وَقتهَا. يُقَال أَنى بِأَنِّي أنيا،

(19/288)


أَي: حَان. قَالَ الْجَوْهَرِي: أَنِّي الْحَمِيم أَي: انْتهى حره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {حميم آن} (الرَّحْمَن: 44) قَوْله: وحان أدْرك شربهَا، وَرَوَاهُ عبد بن حميد عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا ظَنك بِقوم قَامُوا لله عز وَجل على أَقْدَامهم مِقْدَار خمسين ألف سنة لم يَأْكُلُوا فِيهَا أَكلَة وَلم يشْربُوا فِيهَا شربة، حَتَّى إِذا انْقَطَعت أَعْنَاقهم عطشا فاحترقت أَجْوَافهم جوعا انْصَرف بهم إِلَى النَّار فسقوا من عين آنِية قد أَتَى حرهَا وَاشْتَدَّ نضجها، وَعَن قَتَادَة أَي: طبخها مُنْذُ خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقَالَ مقَاتل: عين آنِية تخرج من أصل جبل طولهَا مسيرَة سبعين عَاما أسود كدردي الزَّيْت كدر غليظ كثير الدعاميص يسْقِيه إِيَّاه الْملك فِي إِنَاء من حَدِيد من نَار إِذا جعله على فِيهِ أحرق شدقيه وتناثرت أنيابه وأضراسه، فَإِذا بلغ صَدره نضج قلبه، فَإِذا بلغ بَطْنه ذاب كَمَا يذوب الرصاص. قلت: الدعاميص جمع دعموص، وَهِي دويبة تكون فِي مستنقع المَاء، وَهُوَ بِالدَّال وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ.
{لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً} (الغاشية: 11) شَتْما

أَي: لَا تسمعه فِي الْجنَّة لاغية، وَفَسرهُ بقوله: (شتما) وَقيل: كلمة لَغْو، واللاغية مصدر كالعافية، وَالْمعْنَى: لَا تسمع فِيهَا كذبا وبهتانا وَكفرا. وَقيل: بَاطِلا. وَقيل: مَعْصِيّة. وَقيل: حَالفا بِيَمِين برة وَلَا فاجرة، وَقيل: لَا تسمع فِي كَلَامهم كلمة تلغى لِأَن أهل الْجنَّة لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بالحكمة، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: تسمع، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، ولاغية بِالرَّفْع، وَنَافِع كَذَلِك إلاَّ أَنه قَرَأَ بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَالْبَاقُونَ بِفَتْح التَّاء ولاغية بِالنّصب.
وَيُقالُ: الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقالُ لَهُ الشِّبْرِقُ يُسَمِّيهِ أهْلُ الحجازِ الضَّرِيعُ إذَا يَبِسَ وَهُوَ سَمٌّ.
الْقَائِل هُوَ الْفراء. قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع لَا يسمن وَلَا يغنى من جوع} (الغاشية: 6، 7) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة. قَالَ الْمُشْركُونَ: إِن إبلنا لتسمن على الضريع فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يسمن وَلَا يغنى من جوع} (الغاشية: 7) وكذبوا فَإِن الْإِبِل إِنَّمَا ترعاه إِذا كَانَ رطبا. فَإِذا يبس فَلَا تَأْكُله، ورطبه يُسمى شبرقا بِالْكَسْرِ لَا ضريعا فَإِن قلت: كَيفَ قيل: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} (الغاشية: 6) وَفِي الحاقة: {وَلَا طَعَام إلاَّ من غسلين} (الحاقة: 63) قلت: الْعَذَاب ألوان والمعذبون طَبَقَات فَمنهمْ: أَكلَة الزقوم، وَمِنْهُم أَكلَة الغسلين، وَمِنْهُم: أَكلَة الضريع. وَأخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الضريع شجر من نَار، وَقَالَ الْخَلِيل هُوَ نبت أَخْضَر منتن الرّيح يرْمى بِهِ فِي الْبَحْر.
بِمُسَيْطِرٍ: بِمُسَلِطٍ وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} (الغاشية: 22) وَفسّر: المسيطر بالمسلط. قَوْله: (وَيقْرَأ بالصَّاد وَالسِّين) ، قَرَأَ عَاصِم: بمسيطر بِالسِّين، وَحَمْزَة بِخِلَاف عَن خَلاد بَين الصَّاد وَالزَّاي، وَالْبَاقُونَ بالصَّاد الْخَالِصَة بمصيطر.
إيَابَهُمْ مَرْجِعَهُمْ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن إِلَيْنَا إيابهم} (الغاشية: 52) أَي: مرجعهم، وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.

98 - (سُورَةُ: {وَالفَجْرِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْفجْر وَهِي مَكِّيَّة. وَقيل: مَدَنِيَّة حَكَاهُ ابْن النَّقِيب عَن ابْن أبي طَلْحَة، وَهِي خَمْسمِائَة وَسَبْعَة وَسَبْعُونَ حرفا، وَمِائَة وتسع وَثَلَاثُونَ كلمة وَثَلَاثُونَ آيَة. الْفجْر قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي النَّهَار كُله، وَعنهُ: صَلَاة الْفجْر، وَعنهُ فجر الْمحرم، وَعَن قَتَادَة: أول يَوْم من الْمحرم وَفِيه تنفجر السّنة، وَعَن الضَّحَّاك فجر ذِي الْحجَّة، وَعَن مقَاتل: غَدَاة جمع كل سنة، وَعَن الْقُرْطُبِيّ: انفجار الصُّبْح من كل يَوْم إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الْفجْر الصخور والعيون تنفجر بالمياه، وَالله أعلم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: الوِتْرُ الله
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشفع وَالْوتر} (الْفجْر: 3) الْوتر: هُوَ الله عز وَجل، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي يحيى عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: الشفع الزَّوْج، وَالْوتر هُوَ الله عز وَجل، وَعند عبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس: الشفع يَوْم النَّحْر وَالْوتر يَوْم عَرَفَة، وَعَن قَتَادَة: من الصَّلَاة شفع وَمِنْهَا وتر، وَقَالَ الْحسن: من الْعدَد شفع وَمِنْه وتر، ويروى: الشفع آدم وحواء

(19/289)


عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَالْوتر هُوَ الله تَعَالَى، وَقِرَاءَة الْمَدِينَة وَمَكَّة وَالْبَصْرَة وَبَعض الْكُوفِيّين بِفَتْح الْوَاو هِيَ لُغَة أهل الْحجاز، وَعَامة قراء الْكُوفَة بِكَسْرِهَا.
{إرَمَ ذَاتِ العِمادِ} (الْفجْر: 7) القَدِيمَةِ وَالعِمَادُ أهْلُ عَمُودٍ لَا يُقِيمُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد إرم ذَات الْعِمَاد} (الْفجْر: 6، 7) قَوْله: (إرم) ، عطف بَيَان لعاد، وَكَانَت عَاد قبيلتين عَاد الأولى وَعَاد الْأَخِيرَة، وأشير إِلَى عَاد الأولى بقوله الْقَدِيمَة، وَقيل: لعقب عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عا، كَمَا يُقَال لبني هَاشم، وارم تَسْمِيَة لَهُم باسم جدهم وهم عَاد الأولى، وَقيل: لمن بعدهمْ، عَاد الْأَخِيرَة، وإرم غير منصرف، قَبيلَة كَانَت أَو أَرضًا للتعريف والتأنيث، وَاخْتلف فِي إرم ذَات الْعِمَاد فَقيل: دمشق. قَالَه سعيد بن الْمسيب، وَعَن الْقُرْطُبِيّ: هِيَ الاسكندرية، وَعَن مُجَاهِد: هِيَ أمة وَمَعْنَاهَا الْقَدِيمَة، وَعَن قَتَادَة: هِيَ قَبيلَة من عَاد، وَعَن ابْن إِسْحَاق: هِيَ جد عَاد، وَالصَّوَاب أَنَّهَا اسْم قَبيلَة أَو بَلْدَة. قَوْله: (ذَات الْعِمَاد) ، ذَات الطول والشدة وَالْقُوَّة، وَعَن الْمِقْدَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ذكر إرم ذَات الْعِمَاد فَقَالَ: كَانَ الرجل مِنْهُم يَأْتِي الصَّخْرَة فيحملها على الْحَيّ فيهلكهم، وَعَن الْكَلْبِيّ: كَانَ طول الرجل مِنْهُم أَرْبَعمِائَة ذِرَاع. وَعَن مقَاتل: طول أحدهم إثنا عشر ذِرَاعا فِي السَّمَاء مثل أعظم أسطوانة، وَفِي (تَفْسِير ابْن عَبَّاس) طول أحدهم مائَة ذِرَاعا وأقصرهم اثْنَا عشر ذِرَاعا. قَوْله: (والعماد) ، مُبْتَدأ أَو و (أهل عَمُود) خَبره. أَي: أهل خيام لَا يُقِيمُونَ فِي بَلْدَة وَحَاصِل الْمَعْنى أَنه قيل لَهُم ذَات الْعِمَاد لأَنهم كَانُوا أهل عَمُود لَا يُقِيمُونَ. وَكَانُوا سيارة ينتجعون الْغَيْث وينتقلون إِلَى الكلاء حَيْثُ كَانَ ثمَّ يرجعُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ فَلَا يُقِيمُونَ فِي مَوضِع، وَكَانُوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كَانَت بوادي الْقرى، وَقيل: سموا ذَات الْعِمَاد لبِنَاء بناه شَدَّاد بن عَاد وحكايته مَشْهُورَة فِي التفاسير.
سَوْطَ عَذَابٍ: الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} (الْفجْر: 31) وَفسّر: (سَوط عَذَاب) بقوله: (الَّذِي عذبُوا بِهِ) فَقيل: هُوَ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب لكل نوع من الْعَذَاب يدْخل فِيهِ السَّوْط، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق قَتَادَة: كل شَيْء عذب بِهِ سَوط عَذَاب.
أكْلاً لَمَّا: السَّفُّ. وَجَمّا: الكَثِيرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وتأكلوا التراث أكلا لمّا وتحبون المَال حبا جما} (الْفجْر: 91، 02) قَوْله: (التراث) ، أَي: تراث الْيَتَامَى أَي: ميراثهم. قَوْله: (لمّا) ، فسره بقوله: (السف) من سففت الْأكل أسفه سفّا. وَيُقَال أَيْضا سففت الدَّوَاء أسفة، وأسففت غَيْرِي وَهُوَ السفوف بِالْفَتْح. وسففت المَاء إِذا أكثرت من شربه من غير أَن تروى. وَقَالَ الْحسن: يَأْكُل نصِيبه وَنصِيب غَيره، وَقَالَ النَّسَفِيّ: أكلا لمّا: ذَا لم وَهُوَ الْجمع بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَعَن بكر بن عبد الله اللم الاعتداء فِي الْمِيرَاث يَأْكُل كل شَيْء يجده وَلَا يسْأَل عَنهُ أحلال أم حرَام، وَيَأْكُل الَّذِي لَهُ وَلغيره، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء وَلَا الصّبيان، وَقيل: يَأْكُلُون مَا جمعه الْمَيِّت من الْمظْلمَة وَهُوَ عَالم بذلك فيلم فِي الْأكل من حَلَاله وَحَرَامه، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يُقَال: لممت مَا على الخوان إِذا أتيت مَا عَلَيْهِ وأكلته كُله أجمع. قَوْله: (وجما الْكثير) ، أَي: معنى قَوْله: (حبا جما) ، أَي: كثيرا شَدِيدا مَعَ الْحِرْص، والشره عَلَيْهِ وَمنع الْحُقُوق يُقَال: جم المَاء فِي الْحَوْض إِذا كثر وَاجْتمعَ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهُوَ شَفْعٌ السماءُ شَفْعٌ وَالوِتْرُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّفْع وَالْوتر} (الْفجْر: 3) وَالْبَاقِي ظَاهر فَإِن قلت السَّمَاء وتر لِأَنَّهُ سبع قلت مَعْنَاهُ السَّمَاء شفع الأَرْض كالحار والبارد وَالذكر وَالْأُنْثَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ سَوْطَ عَذَابٍ كَلِمَةٌ تَقُولُها العَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ العَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ.
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} وَقد مر الْكَلَام فِيهِ الْآن، وَلَو ذكر هَذَا عِنْد قَوْله: {سَوط عَذَاب} الَّذِي عذبُوا بِهِ لَكَانَ أولى وأرتب.
لَبِالْمِرْصَادِ إلَيْهِ المَصِيرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك لبالمرصاد} (الْفجْر: 41) وَفَسرهُ بقوله: إِلَيْهِ الْمصير، وَكَذَا فسره الْفراء، والمرصاد على وزن مفعال،

(19/290)


وَقَالَ بَعضهم: مفعال من مرصد وَهُوَ مَكَان الرصد. قلت: هَذَا كَلَام من لَيْسَ لَهُ يَد فِي علم التصريف، بل المرصاد هُوَ المرصد وَلَكِن فِيهِ من الْمُبَالغَة مَا لَيْسَ فِي المرصد، وَهُوَ مفعال من رضده كميقات من وقته، وَهَذَا مثل لإرصاده العصاة بِالْعَذَابِ وَأَنَّهُمْ لَا يفوتونه، وَعَن ابْن عَبَّاس: بِحَيْثُ يرى وَيسمع، وَعَن مقَاتل: يرصد النَّاس على الصِّرَاط فَيجْعَل: رصدا من الْمَلَائِكَة مَعَهم الكلاليب والمحاجن والحسك.
تحاضُّونَ: تُحافِظُونَ. وَتَحُضُّونَ: تَأْمُرُونَ بِإطْعَامِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحضون على طَعَام الْمِسْكِين} (الْفجْر: 81) وَهنا قراءتان إِحْدَاهمَا: تحاضون بِالْألف وَهِي قِرَاءَة أهل الْكُوفَة. وَالْأُخْرَى: تحضون، بِلَا ألف وَهِي قِرَاءَة البَاقِينَ، وَعَن الْكسَائي تحاضون بِالضَّمِّ، وَفسّر الَّذِي بِلَا ألف بقوله: تأمرون بإطعامه أَي: إطْعَام مِسْكين.
المُطْمَئِنَةُ المُصَدِّقَةُ بِالثَّوابِ، وَقَالَ الحَسَنُ: يَا أيَّتُها النَّفْسُ إذَا أرَادَ الله عَزَّ وَجَلَّ قَبْضَها اطمآنتْ إلَى الله وَاطمَآنَّ الله إلَيْها وَرَضِيَتْ عَنِ الله وَرَضِيَ الله عَنْها فَأمرَ بِقَبْضِ رُوحها وأدْخَلَها الله الجَنَّةَ وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك} (الْفجْر: 72) بقوله: (المصدقة بالثواب) وَقيل: المطمئنة إِلَى مَا وعد الله المصدقة بِمَا قَالَ، وَعَن ابْن كيسَان: المطمئنة المخلصة، وَعَن ابْن عَطاء: العارفة بِاللَّه تَعَالَى الَّتِي لَا تصبر عَنهُ طرفَة عين، وَقيل: المطمئنة بِذكر الله دَلِيله قَوْله تَعَالَى: {وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله} (الرَّعْد: 82) وَقيل: المتوكلة على الله. قَوْله: (وَقَالَ الْحسن) أَي: الْبَصْرِيّ فِي قَوْله عز وَجل: (يَا أيتها النَّفس) إِلَى آخِره وتأنيث الضمائر فِيهِ فِي الْمَوَاضِع السَّبْعَة ظَاهر لِأَنَّهَا ترجع إِلَى النَّفس. وَفِي قَوْله: (وَجعله بالتذكير) بِاعْتِبَار الشَّخْص، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني بالتأنيث فِي ثَلَاث مَوَاضِع فَقَط، وَهِي قَوْله: وَاطْمَأَنَّ الله إِلَيْهَا، وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهَا، وأدخلها الله الْجنَّة. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق حَفْص عَنهُ، وَإِسْنَاده الاطمئنان إِلَى الله تَعَالَى مجَاز يُرِيد بِهِ لَازمه وغايته من نَحْو إِيصَال الْخَيْر إِلَيْهِ وَفِيه المشاكلة، والرضى هُوَ ترك الِاعْتِرَاض.
وَقَالَ غَيْرُهُ: جَابُوا نَقَبُوا مِنْ جَيْبِ القَمِيصِ قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ يَجُوبُ الفلاة يَقْطَعُها

أَي: قَالَ غير الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: {وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد} (الْفجْر: 9) وَفسّر: (جابوا) بقوله: (نقبوا) . قَوْله: (من جيب الْقَمِيص) أَشَارَ إِلَى أَن أصل الجيب الْقطع، وَمِنْه يُقَال: جبت الْقَمِيص إِذا قطعت لَهُ جيبا وَكَذَلِكَ يجوب الفلاة أَي: يقطعهَا. وَقَالَ الْفراء جابوا الصخر: خرقوه فاتخذوه بُيُوتًا.
لَمَّا: لَمْمتُهُ أجْمَعَ أتَيْتُ عَلَى آخِرِهِ

لم يثبت هَذَا لأبي ذَر، وسقوطه أولى لِأَنَّهُ مُكَرر ذكر مرّة عَن قريب، وَمَعَ هَذَا لَو ذكر هُنَاكَ لَكَانَ أولى.

09 - (سُورةُ: {لَا أُقْسِمُ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد} (الْبَلَد: 1) وَيُقَال لَهَا أَيْضا: سُورَة الْبَلَد، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي ثَلَاثمِائَة وعشرو حرفا، وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ كلمة وَعِشْرُونَ آيَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهاذا البَلَدِ} (الْبَلَد: 2) مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ

(19/291)


مِنَ الإثْمِ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} (الْبَلَد: 1، 2) هِيَ: مَكَّة، ويروى: بِمَكَّة، وَمعنى: حل أَنْت يَا مُحَمَّد حَلَال بِهَذَا الْبَلَد فِي الْمُسْتَقْبل تصنع فِيهِ مَا تُرِيدُ من الْقَتْل والأسر وَذَلِكَ أَن الله عز وَجل أحل لنَبيه يَوْم الْفَتْح حَتَّى قتل من قتل وَأخذ مَا شَاءَ وَحرم مَا شَاءَ، فَقتل ابْن خطل وَأَصْحَابه وَحرم دَار أبي سُفْيَان. وَقَالَ الوَاسِطِيّ: المُرَاد الْمَدِينَة حَكَاهُ فِي (الشِّفَاء) وَالْأول أصح لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وروى قَول مُجَاهِد: (وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد) مَكَّة الْحَنْظَلِي عَن أَحْمد بن سِنَان الوَاسِطِيّ حَدثنَا ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد، وَقَالَهُ أَيْضا عَطاء وَقَتَادَة وَابْن زيد، وروى قَوْله: (لَيْسَ على النَّاس من الْإِثْم) الطَّبَرِيّ عَن ابْن حميد: حَدثنَا مهْرَان عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَنهُ، وَعَن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدثنَا أَبُو عَاصِم حَدثنَا عِيسَى عَن وَرْقَاء عَن ابْن ابْن نجيح عَنهُ
وَوَالِد: آدَمَ وَمَا وَلَدَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ووالد وَمَا ولد} (الْبَلَد: 3) وَفسّر ذَلِك بقوله آدم وَمَا ولد أَي: آدم وَأَوْلَاده، وَقيل: إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ من نَسْله، وَعَن عِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير الْوَالِد الَّذِي يُولد لَهُ وَمَا ولد العاقر الَّذِي لَا يُولد لَهُ. وَهِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وعَلى هَذَا يكون: مَا، نفيا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَهُوَ بعيد وَلَا يَصح إلاَّ بإضمار، وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس، ووالد وَولده.
لِبَدا: كَثِيرا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى يَقُول: {أهلكت مَالا لبدا} (الْبَلَد: 6) وَفسّر: (لبدا) بقوله: (كثيرا) . قَوْله: (يَقُول) ، أَي: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة أهلكت أنفقت مَالا لبدا أَي مَالا كثيرا بعضه على بعض فِي عَدَاوَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واللبد من التلبيد وَهُوَ كَون الشَّيْء بعضه على بعض، وَمِنْه اللبد، وقرىء بتَشْديد الْبَاء وتخفيفها.
وَالنَّجْدَيْنِ: الخَيْرُ وَالشّرُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وهديناه النجدين} (الْبَلَد: 01) يَعْنِي: سَبِيل الْخَيْر وسبيل الشَّرّ، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَأكْثر الْمُفَسّرين على هَذَا، وَعَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: النجدين الثديين وَإِلَيْهِ ذهب سعيد بن الْمسيب وَالضَّحَّاك، والنجد فِي الأَصْل الطَّرِيق فِي ارْتِفَاع.
مَسْغَبَة: مَجَاعَةٍ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسبغة} (الْبَلَد: 41) أَي: مجاعَة.
مَتْرَبَةٍ: السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة} (الْبَلَد: 61) وَفَسرهُ بقوله: (السَّاقِط فِي التُّرَاب) وروى ابْن عُيَيْنَة من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بَينه وَبَين الأَرْض شَيْء، وروى الْحَاكِم من طَرِيق حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الْمَطْرُوح الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَيت.
يُقَالُ {فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةِ

فَلَمْ يَقْتَحِمِ العَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فَسَّرَ العَقَبَةَ فَقَالَ: {وَمَا أدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} جملَة مُعْتَرضَة، وَمعنى فك رَقَبَة: أعتق رَقَبَة كَانَت فداءه من النَّار. وَعَن عِكْرِمَة فك رَقَبَة من الذُّنُوب بِالتَّوْبَةِ. قَوْله: (أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسبغة) (الْبَلَد: 21، 41) .
لما ذكر المسغبة والمتربة شرع فِي بَيَان مَا يفعل بِذِي مسبغة وبذي مَتْرَبَة، فَقَالَ فَلَا اقتحم الْعقبَة فِي الدُّنْيَا يَعْنِي: فَلم يُجَاوز هَذَا الْإِنْسَان الْعقبَة فِي الدُّنْيَا فَيَأْمَن، والاقتحام الدُّخُول والمجاوزة بِشدَّة ومشقة، ثمَّ عظم أَمر الْعقبَة فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَمَا أَرَاك مَا الْعقبَة) وكل شَيْء قَالَ: وَمَا أَدْرَاك، فَإِنَّهُ أخبرهُ بِهِ وَمَا قَالَ: وَمَا يدْريك فَإِنَّهُ لم يُخبرهُ بِهِ ثمَّ فسر الْعقبَة بقوله: (فك رَقَبَة) إِلَى قَوْله: (مَتْرَبَة) وَشبه عظم الذُّنُوب وثقلها على مرتكبها بعقبة فَإِذا أعتق رَقَبَة وَعمل عملا صَالحا كَانَ مثله مثل من اقتحم الْعقبَة الَّتِي هِيَ الذُّنُوب حَتَّى تذْهب وتذوب كمن يقتحم عقبَة فيستوي عَلَيْهَا ويجوزها، وَذكر عَن ابْن عمر: أَن هَذِه الْعقبَة جبل فِي جَهَنَّم، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة، هِيَ عقبَة فِي النَّار دون الجسر فاقتحموها بِطَاعَة الله تَعَالَى، وَعَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك والكلبي، هِيَ الصِّرَاط يضْرب على جَهَنَّم كَحَد السَّيْف مسيرَة ثَلَاثَة آلَاف سنة سهلاً وصعودا وهبوطا وَأَن بجنبيه كلاليب وَخطأ طيف كشوك السعدان، وَعَن كَعْب: هِيَ سَبْعُونَ دركة فِي جَهَنَّم. قَوْله: (فك رَقَبَة) بَدَلا من اقتحم الْعقبَة أَو إطْعَام عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة) ، (الْبَلَد: 21) مجاعَة يَتِيما ذَا مقربة أَي: ذَا قرَابَة {ومسكينا ذَا مَتْرَبَة} قد لصق بِالتُّرَابِ من الْفقر فَلَيْسَ لَهُ مأوى إِلَّا التُّرَاب، والمسبغة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إِذا جَاع، وَقرب فِي النّسَب، وترب إِذا افْتقر، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ: فك، بِفَتْح الْكَاف وَأطْعم بِفَتْح الْمِيم على الْفِعْل كَقَوْلِه: ثمَّ كَانَ وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَة على الِاسْم.

(19/292)


19 - (سُورَةُ: {وَالشَّمْسِ وَضُحاهَا} (الشَّمْس: 1)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَسَبْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا وَأَرْبع وَخَمْسُونَ كلمة وَخمْس عشرَة آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت البسلمة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ضُحاها ضَوْءَها إذَا تَلاهَا تَبِعَها. وَطحاها دَحَاها دَسَّاهَا أغْوَاهَا.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} أَي: (ضوءها) يَعْنِي: إِذا أشرقت وَقَامَ سلطانها، وَلذَلِك قيل: وَقت الضُّحَى وَكَانَ وَجهه شمس الضُّحَى، وَقيل: الضحوة ارْتِفَاع النَّهَار وَالضُّحَى فَوق ذَلِك، وَعَن قَتَادَة: هُوَ النَّهَار كُله، وَقَالَ مقَاتل: حرهَا. قَوْله: (إِذا تَلَاهَا) تبعها، يَعْنِي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} (الشَّمْس: 2) أَي: تبعها فَأخذ من ضوئها وَذَلِكَ فِي النّصْف الأول من الشَّهْر إِذا غربت الشَّمْس تَلَاهَا الْقَمَر طالعا. قَوْله: (وطحاها دحاها) أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض وَمَا طحاها} (الشَّمْس: 6) أَي: وَالَّذِي طحاها أَي: دحاها أَي: بسطها. يُقَال: دحوت الشَّيْء دحوا بسطته، ذكره الْجَوْهَرِي ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} (النازعات: 03) وَقَالَ فِي بَاب الطَّاء: طحوته مثل دحوته أَي: بسطته. قَوْله: (دساها أغواها) ، أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقد خَابَ من دساها} (الشَّمْس: 01) أَي: أغواها. أَي: خسرت نفس دساها الله فأخملها وخذلها، وَوضع مِنْهَا وأخفى محلهَا حَتَّى عملت بِالْفُجُورِ وَركبت الْمعاصِي، وَهَذَا كُله ثَبت للنسفي وَحده.
فَألْهَمَها: عَرَّقَها الشقَّاءَ وَالسَّعادَةَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فألهمها فجورها وتقواها} (الشَّمْس: 8) أَي: فألهم النَّفس فجورها أَي شقاوتها وتقواها أَي: سعادتها. وَعَن ابْن عَبَّاس: بَين لَهَا الْخَيْر وَالشَّر، وَعنهُ أَيْضا وَعلمهَا الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة، وَهَذَا أَيْضا ثَبت للنسفي.
{وَلا يَخافُ عُقْباها} (الشَّمْس: 51) عُقْبَى أحَدٍ
قبلهَا قَوْله تَعَالَى: {فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم فسواها وَلَا يخَاف عقباها} (الشَّمْس: 41، 51) قَالَ: فدمدم عَلَيْهِم، أَي: أهلكهم رَبهم بتكذيبهم رَسُوله وعقرهم نَاقَته. قَوْله: (فسواها) أَي: فسوى الدمدمة عَلَيْهِم جَمِيعًا وعمهم بهَا فَلم يُفلت مِنْهُم أحدا وَقَالَ المؤرج الدمدمة إهلاك باستئصال. قَوْله: (وَلَا يخَاف عقباها) ، قَالَ: عُقبى أحد إِنَّمَا قَالَ عُقبى أحد مَعَ أَن الضَّمِير فِي عقباها مؤنث بِاعْتِبَار النَّفس وَهُوَ مؤنث، وَعبر عَن النَّفس بالأحد. وَفِي بعض النّسخ أَخذنَا بِالْخَاءِ والذال المعجمتين وَهُوَ معنى الدمدمة. أَي: الْهَلَاك الْعَام، وَقَالَ النَّسَفِيّ: عقباها عَاقبَتهَا، وَعَن الْحسن: لَا يخَاف الله من أحد تبعه فِي إهلاكهم، وَقيل: الضَّمِير يرجع إِلَى ثَمُود، وَعَن الضَّحَّاك وَالسُّديّ والكلبي: الضَّمِير فِي لَا يخَاف، يرجع إِلَى العاقر، وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير تَقْدِيره إِذا انْبَعَثَ أشقاها وَلَا يخَاف عقابها، وَقَرَأَ أهل الْمَدِينَة وَالشَّام فَلَا يخَاف بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مصاحفهم وَالْبَاقُونَ بِالْوَاو، وَهَكَذَا فِي مصاحفهم.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: بِطَغْواها بِمعاصيها
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله عز وَجل: {كذبت ثَمُود بطغواها} (الشَّمْس: 11) وَقَالَ: (بمعاصيها) وَرَوَاهُ الْفرْيَابِيّ من طَرِيق مُجَاهِد: بمعصيتها، قَالَ بَعضهم: وَهُوَ الْوَجْه. قلت: لم يبين مَا الْوَجْه بل الْوَجْه بِلَفْظ الْجمع وَلَا يخفى ذَلِك والطغوى والطغيان وَاحِد كِلَاهُمَا مصدران من طَغى.

2494 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثَنا هِشَامٌ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ أخْبَرَهُ عَبْدُ الله ابنُ زَمْعَةَ أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إذَا انُبَعَثَ أشْقَاهَا) (الشَّمْس: 21) انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهطِهِ مِثْلُ أبِي زَمْعَةَ وَذَكَرَ النِّسَاءِ فَقَالَ يَعْمِدُ أحَدُكُمْ يَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُها مِن آخِرِ يَوْمِهِ ثُمَّ وَعَظَهُمْ

(19/293)


فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ وَقَالَ: لِمَ يَضْحَكُ أحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ.
مطابقته للسورة الْمَذْكُورَة ظَاهِرَة. ووهيب: مصغر وهب ابْن خَالِد، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام يروي عَن أَبِيه عَن عبد الله بن زَمعَة، بِفَتْح الزَّاي وَالْمِيم وبسكونها وبالعين الْمُهْملَة ابْن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي صَحَابِيّ. مَشْهُور، وَأمه قريبَة أُخْت أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ أَبُو عمر: روى عَنهُ عُرْوَة وَثَلَاثَة أَحَادِيث وَهِي مَجْمُوعَة فِي حَدِيث الْبَاب وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فِي بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا} (الْأَعْرَاف: 37) عَن الْحميدِي بالقصة الأولى، وَذكر فِي الْأَدَب عَن عَليّ بن عبد الله بالقصة الثَّانِيَة، وَفِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن يُوسُف بالقصة الثَّالِثَة.
وَأخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن ابْن أبي شيبَة وَأبي كريب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هَارُون بن إِسْحَاق وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع بالقصة الأولى وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور بالقصة الثَّالِثَة، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهَذِهِ الْقِصَّة.
قَوْله: (وَذكر النَّاقة) ، أَي: نَاقَة صَالح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: فَخَطب وَذكر كَذَا وَكَذَا وَذكر النَّاقة، هَذَا هُوَ الحَدِيث الأول. قَوْله: (وَالَّذِي عقر) ، ذكره بِحَذْف مَفْعُوله وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة وَالَّذِي عقرهَا، وَهُوَ قدار بن سالف وَأمه قديرة وَهُوَ أُحَيْمِر ثَمُود الَّذِي يضْرب الْمثل فِي الشؤم، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَكَانَ أَحْمَر أشقر أَزْرَق قصير وَذكر ولد زنى، ولد على فرَاش ساف. قَوْله: (إِذا انْبَعَثَ أشقاها) (الشَّمْس: 21) يَعْنِي: قَرَأَ هَذِه الْآيَة ثمَّ قَالَ انْبَعَثَ لَهَا رجل أَي: قَامَ لَهَا أَي: للناقة (رجل عَزِيز) أَي: قَلِيل الْمثل. قَوْله: (عَارِم) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالرَّاء أَي: جَبَّار صَعب شَدِيد مُفسد خَبِيث، وَقيل: جَاهِل شرس. قَوْله: (منيع) ، أَي: قوي ذُو مَنْعَة فِي رهطه أَي: فِي قومه. قَوْله: (مثل أبي زَمعَة) ، وَهُوَ الْأسود الْمَذْكُور جد عبد الله بن زَمعَة، وَكَانَ الْأسود أحد الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَمَات على كفره بِمَكَّة وَقتل ابْنه زَمعَة يَوْم بدر كَافِرًا أَيْضا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَبُو زَمعَة هَذَا يحْتَمل أَن يكون البلوي المبايع تَحت الشَّجَرَة، وَتُوفِّي بإفريقية فِي غَزْوَة ابْن خديج وَدفن بالبلوية بالقيروان. قَالَ: فَإِن كَانَ هُوَ هَذَا فَإِنَّهُ إِنَّمَا شبهه بعاقر النَّاقة فِي أَنه عَزِيز فِي قومه ومنيع على من يُريدهُ من الْكفَّار. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يُرِيد غَيره مِمَّن يُسمى بِأبي زَمعَة من الْكفَّار. قَوْله: (وَذكر النِّسَاء) ، هُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور الثَّانِي أَي: وَذكر مَا يتَعَلَّق بِأُمُور النِّسَاء. قَوْله: (يعمد أحدكُم) ، بِكَسْر الْمِيم. أَي: يقْصد. قَوْله: (يجلد) ، ويروى: فيجلد أَي: فَيضْرب، يُقَال: جلدته بِالسَّيْفِ وَالسَّوْط وَنَحْوهمَا إِذا ضَربته. قَوْله: (جلد العَبْد) أَي: كَجلْد العَبْد، وَفِيه الْوَصِيَّة بِالنسَاء والإحجام عَن ضربهن. قَوْله: (فَلَعَلَّهُ) أَي: فَلَعَلَّ الَّذِي يجلدها فِي أول الْيَوْم (يضاجعها) أَي: يَطَؤُهَا من آخر يَوْمه، وَكلمَة من هُنَا بِمَعْنى: فِي كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) أَي: فِي يَوْم الْجُمُعَة. قَوْله: (ثمَّ وعظهم) إِلَى آخر الحَدِيث الثَّالِث أَي: ثمَّ وعظ الرِّجَال فِي ضحكهم من الضرطة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني فِي ضحك بِالتَّنْوِينِ دون الْإِضَافَة إِلَى الضَّمِير، وَفِيه الْأَمر بالإغماض والتجاهل والإعراض عَن سَماع صَوت الضراط، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا وَقع من أحدهم ضرطه فِي الْمجْلس يَضْحَكُونَ وَنهى الشَّارِع عَن ذَلِك إِذا وَقع وَأمر بالتغافل عَن ذَلِك والاشتغال بِمَا كَانَ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا من جملَة أَفعَال قوم لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُم كَانُوا يتضارطون فِي الْمجْلس ويتضاحكون.
وَقَالَ أبُو مُعَاوِيَةَ: حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ زَمْعَةَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مِثْلُ أبِي زَمْعَةَ عَمِّ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ.
أَبُو مُعَاوِيَة هُوَ مُحَمَّد بن خازم بالمعجمتين الضَّرِير، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة إِلَى آخر ذكر الحَدِيث بِتَمَامِهِ، وَقَالَ فِي آخِره: (مثل أبي زَمعَة عَم الزبير بن الْعَوام) وَأخرجه أَحْمد أَيْضا عَن أبي مُعَاوِيَة لَكِن لم يقل فِي آخِره عَم الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (عَم الزبير) بطرِيق تَنْزِيل ابْن الْعم منزلَة الْعم لِأَن الْأسود هُوَ ابْن الْمطلب بن أَسد وَالزُّبَيْر بن الْعَوام بن خويلد بن أَسد، وَقَالَ الْكرْمَانِي أعلم أَن بَعضهم استدركوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: أَبُو زَمعَة لَيْسَ عَم الزبير

(19/294)


ثمَّ أجابوا بِمثل مَا ذكرنَا.

29 - (سُورَةُ: {اللَّيْلِ إذَا يَغْشَى} (اللَّيْل: 1)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} وَهِي مَكِّيَّة فِي رِوَايَة قَتَادَة والكلبي وَالشعْبِيّ وسُفْيَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر الصّديق حِين اعْتِقْ بِلَالًا وَفِي أبي سُفْيَان، وَقَالَ عِكْرِمَة وَعبد الرَّحْمَن بن زيد مَدَنِيَّة نزلت فِي أبي الدحداح رجل من الْأَنْصَار وَأم سَمُرَة فِي قصَّة لَهما طَوِيلَة. وَهِي ثَلَاثمِائَة وَعشرَة أحرف، وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ كلمة، وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ آيَة. قَوْله: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} أَي: يغشى بظلمته النَّهَار، وَلم يذكر مَفْعُوله للْعلم بِهِ، وَقَالَ الزّجاج: غشى الْأُفق وَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسِ {وَكَذَّبِ بِالحُسْنَى} بِالخَلَفِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَكذب بِالْحُسْنَى} (اللَّيْل: 9) أَي: (بالخلف) عَن إِعْطَائِهِ والعوض عَن إِنْفَاقه، وَعَن مُجَاهِد. وَكذب بِالْجنَّةِ وَعَن ابْن عَبَّاس: بِلَا إلاه إلاَّ الله، وَالْأول أشبه لِأَن الله تَعَالَى وعد بالخلف للمعطي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَدَّى: مَاتَ: وَتَلَظَّى: تَوَهَّجَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُغني عَنهُ مَاله إِذا تردى} (اللَّيْل: 11) أَي: إِذا مَاتَ، وَعَن قَتَادَة وَأبي صَالح إِذا هوي فِي جَهَنَّم، نزلت فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب. قَوْله: (وتلظى توهج) يَعْنِي: قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَارا تلظى} يعْنى توهج (اللَّيْل: 41) أَي: تتوقد وتوهج بِضَم الْجِيم لِأَن أَصله تتوهج فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
وَقَرَأَ عُبَيْدُ بنُ عُسْرٍّ: تَتَلَظَّى

يَعْنِي قَرَأَهَا بِدُونِ حذف التَّاء على الأَصْل، وَوصل هَذَا سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة وَدَاوُد الْعَطَّار كِلَاهُمَا عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَرَأَ: نَارا تتلظى بتاءين، وَقيل: إِن عبيد بن عُمَيْر قَرَأَهَا بِالْإِدْغَامِ فِي الْوَصْل. لَا فِي الِابْتِدَاء وَهِي قِرَاءَة البزي من طَرِيق ابْن كثير.

1 - (بَابٌ: {وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى} (اللَّيْل: 2)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّهَار إِذا تجلى} أَي: إِذا انْكَشَفَ بضوئه، وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة لأبي ذَر والنسفي.

3494 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِ عَبْدِ الله الشَّأْمَ فَسَمِعَ بِنا أبُو الدَّرْدَاءِ فَأتانا فَقَالَ أفِيكُمْ مَنْ يَقْرَأُ فَقُلْنا نَعَمْ قَالَ فَأَيُّكُمْ أقْرَأُ فأشارُوا إلَيَّ فَقَالَ اقْرَأُ فَقَرَأْتْ: {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشِى وَالنَّهارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى} (اللَّيْل: 1، 3) قَالَ: آنْتَ سَمِعْتَها مِنْ فِي صَاحِبِكَ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ وَأنا سَمِعْتُها مِنْ فِي النبىِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهاؤُلاءِ يَأْبَوْنَ عَلَيْنَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وعلقمة بن قيس، وَأَبُو الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك، وَفِيه اخْتلف.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْقِرَاءَة عَن هناد بن السرى، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر وَغَيره.
قَوْله: (من أَصْحَاب عبد الله) أَي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (أفيكم) ، الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على وَجه الاستخبار. قَوْله: (فَأَيكُمْ أَقرَأ) أَي: أقوى وَأحسن قِرَاءَة. قَوْله: (إِلَى) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (أَنْت سَمعتهَا من فِي صَاحبك) ، أَي: عبد الله بن مَسْعُود. قَوْله: (من فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: من فَمه. قَوْله: (وَهَؤُلَاء) أَي: أهل الشَّام. (يأبون) أَي: يمْنَعُونَ هَذِه الْقِرَاءَة يَعْنِي: (وَالنَّهَار إِذا تجلى وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى) (اللَّيْل: 3) وَيَقُولُونَ: الْقِرَاءَة المتواترة: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} وَهَذِه الْقِرَاءَة الْوَاجِبَة، وَأَبُو الدَّرْدَاء كَانَ يحذفه.

(19/295)


2 - (بَابٌ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} (اللَّيْل: 3)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} يَعْنِي: وَمن خلق الذّكر وَالْأُنْثَى.

4494 - حدَّثنا عُمَرُ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ قَدِمَ أصْحَابُ عَبْدِ الله عَلى أبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ فَقَالَ أيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ الله قَالَ كُلُّنا قَالَ فأيُّكُمْ يَحْفَظُ وَأشَارُوا إلَى عَلْقَمَةَ قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى} (اللَّيْل: 1) قَالَ عَلّقَمَةُ: وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى. قَالَ أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ أَنا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ هاكذا وَهَؤُلاءِ يُرِيدُونِي عَلَى أنْ أقْرَأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} لَا أُتَابِعُهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعمر هُوَ ابْن حَفْص، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: أخبرنَا عمر بن حَفْص يذكر حَفْص صَرِيحًا، وَعمر يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَهَذَا صورته الْإِرْسَال لِأَن إِبْرَاهِيم مَا حضر الصة، وَوَقع فِي الرِّوَايَة الْمَاضِيَة عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة وَهَذِه تبين أَن لَا إرْسَال، وَصرح فِي رِوَايَة أبي نعيم: إِن إِبْرَاهِيم سمع عَلْقَمَة.
قَوْله: (على قِرَاءَة عبد الله) أَي: ابْن مَسْعُود. قَوْله: (قَالَ: كلنا) أَي: كلنا يقْرَأ، وَالظَّاهِر أَن فَاعل: قَالَ، هُوَ عَلْقَمَة. قَوْله: (قَالَ: فَأَيكُمْ) أَي: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لَهُم: فَأَيكُمْ يحفظ؟ ويروى: فَأَيكُمْ أحفظ؟ قَوْله: (وأشاروا) أَي: أَصْحَاب عبد الله أشاروا إِلَى عَلْقَمَة. قَوْله: (قَالَ: كَيفَ سمعته) أَي: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لعلقمة: كَيفَ سَمِعت عبد الله يقْرَأ: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} قَالَ: عَلْقَمَة وَالذكر وَالْأُنْثَى، بخفض الذّكر. قَوْله: (قَالَ: أشهد، أَي: قَالَ) أَبُو الدَّرْدَاء: أشهد أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ هَكَذَا يَعْنِي: وَالذكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (وَهَؤُلَاء) أَي: أهل الشَّام يردوني ويروى يردونني على أَن أَقرَأ: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} وَأَنا لَا أتابعهم، أَي: على هَذِه الْقِرَاءَة، يَعْنِي بِزِيَادَة (وَمَا خلق) وَإِنَّمَا قَالَ: لَا أتابعهم مَعَ كَون قراءتهم متواترة لكَون طَرِيقه طَرِيقا يقينيا وَهُوَ سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يخالفوه. قلت: لَهُم طَرِيق يقيني أَيْضا وَهُوَ ثُبُوت قراءتهم بالتواتر، وَقَالَ الْمَازرِيّ: يجب أَن يعْتَقد فِي هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنه كَانَ قُرْآنًا ثمَّ نسخ. وَلم يعلم مِمَّن خَالف النّسخ فَبَقيَ على النّسخ. قَالَ: أَو لَعَلَّه وَقع من بَعضهم قبل أَن يبلغ مصحف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمجمع عَلَيْهِ الْمَحْذُوف مِنْهُ كل مَنْسُوخ، وَأما بعد ظُهُور مصحف عُثْمَان فَلَا يظنّ وَاحِد مِنْهُم أَنه خَالف فِيهِ.

3 - (بَابٌ قَوْلِهِ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 5)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى} أَي: فَأَما من أعْطى مَاله فِي سَبِيل الله، وَاتَّقَى ربه واجتنب مَحَارمه.

5494 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عَن الأعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ السلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَّ النَّارِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَّكِلُ فَقَالَ اعْمَلُوا فَكُلُّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} إلَى قَوْلِهِ: {لِلْعُسْرَى} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَسعد بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: ختن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ واسْمه عبد الله، والسلمي بِضَم السِّين وَفتح اللَّام، وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب موعظة الْمُحدث عِنْد الْقَبْر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي بَقِيع الْغَرْقَد) ، بِإِضَافَة البقيع بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْقَاف إِلَى الْغَرْقَد بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وبالدال الْمُهْملَة وَهُوَ مَقْبرَة الْمَدِينَة

(19/296)


قَوْله: (أَفلا نَتَّكِل) ، أَي: أَفلا نعتمد على كتَابنَا الَّذِي قدر الله علينا، فَقَالَ: أَنْتُم مأمورون بِالْعَمَلِ فَعَلَيْكُم بمتابعة الْأَمر فَكل وَاحِد مِنْكُم ميسر لما خلق لَهُ وَقدر عَلَيْهِ. قَوْله: (فَأَما من أعْطى) ، أَي: مَاله وَاتَّقَى ربه واجتنب مَحَارمه وَصدق بِالْحُسْنَى. أَي: بالخلف يَعْنِي: أَيقَن أَن الله تَعَالَى سيخلف عَلَيْهِ، وَعَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَالضَّحَّاك، وَصدق بِالْحُسْنَى بِلَا إلاه إلاَّ الله، وَعَن مُجَاهِد وَصدق بِالْجنَّةِ، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: بموعود الله تَعَالَى. قَوْله: (فسنيسره) ، أَي: فسنهيئه لليسرى، أَي: للخلة الْيُسْرَى، وَهُوَ الْعَمَل بِمَا يرضاه الله تَعَالَى.

(بَابُ قَوْلِهِ: {وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 6)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (وَصدق بِالْحُسْنَى) ، وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر والنسفي، وَسقط لفط: بَاب من التراجم كلهَا إلاَّ لأبي ذَر.

حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنّا قُعُودا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَ الحَدِيث.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَليّ الْمَذْكُور أخرجه مُخْتَصرا عَن مُسَدّد عَن عبد الرَّحْمَن بن زِيَاد الْبَصْرِيّ إِلَى آخِره.

4 - (بَابٌ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (اللَّيْل: 7)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فسنيسره لليسرى} .

6494 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ خَالِدٍ أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعْدٍ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأخَذَ هُودا يَنْكُتُ فِي الأرْضِ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أوْ مِنَ الجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَقَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 5، 6) الآيَةَ.
قَالَ شُعْبَةُ وحدَّثني بِهِ مَنْصُورٌ فَلَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن بشر بِكَسْر الْيَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد الخ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش.
قَوْله: (ينكت) من النكت وَهُوَ أَن يضْرب الْقَضِيب فِي الأَرْض فيؤثر فِيهَا.
قَوْله: (قَالَ شُعْبَة) مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (وحَدثني بِهِ) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور (مَنْصُور) هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر (فَلم أنكرهُ من حَدِيث سُلَيْمَان) يَعْنِي: الْأَعْمَش أَرَادَ بِهِ أَنه وَافق مَا حدث بِهِ الْأَعْمَش فَمَا أنرك مِنْهُ شَيْئا.

5 - (بَابُ قَوْلِهِ: {وَأمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (اللَّيْل: 8)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَأما من بخل وَاسْتغْنى} يَعْنِي: أما من بخل بِالنَّفَقَةِ فِي الْخَيْر وَاسْتغْنى عَن ربه فَلم يرغب فِي ثَوَابه وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى أَي: للْعَمَل بِمَا لَا يرضى الله تَعَالَى حَتَّى يسْتَوْجب النَّار.

7494 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعٌ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ كُنَّا جُلُوسا عِنْدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ فَقُلْنا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَّكِلُ قَالَلا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (اللَّيْل: 5، 7) إلَى قَوْلِهِ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (اللَّيْل: 1) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن يحيى بن مُوسَى السّخْتِيَانِيّ البخلي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، عَن وَكِيع عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش إِلَى آخِره.
قَوْله: (جُلُوسًا) أَي: جالسين وَفِي حَدِيث سمدد الْمَذْكُور: كُنَّا قعُودا.

(19/297)


6 - (بَابٌ قَوْلِهُ: {وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 9)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكذب بِالْحُسْنَى} .

8494 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كُنَّا فِي جُنازَة فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأتانا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُثُ بِمَخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ كُتِبَ مَكَانَها مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإلاّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أوْ سَعِيدَةً قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلَى أهْلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أهْلِ الشَّقاءِ فَسَيَصِيرُ إلَى عَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ قَالَ أمَّا أهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا أهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُون لِعَمَلِ أهْلِ الشقاءِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} (اللَّيْل: 5، 6) الآيَةَ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور إِلَى آخِره قَوْله: (محضرة) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة: مَا أمْسكهُ الْإِنْسَان بِيَدِهِ من عَصا وَنَحْوه، وَقَالَ القتبي: المخصرة إمْسَاك الْقَضِيب بِالْيَدِ، وَكَانَت الْمُلُوك تتخصر بقضبان يشيرون بهَا، والمخصرة من شعار الْمُلُوك. قَوْله: (منفوسة) ، أَي: مولودة، يُقَال: نفست الْمَرْأَة، بِالْفَتْح وَالْكَسْر.

7 - (بَابٌ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (اللَّيْل: 01)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فسنيسره للعسرى} .

9494 - حدَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ الأعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّث عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَةٍ فَأخَذَ شَيْئا فَجَعَلَ يَنْكُثُ بِهِ الأرْضَ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ قَالُوا يَا رَسُولَ الله أفَلا نَتَكِّلُ عَلَى كِتابنا وَنَدَعُ العَمَلَ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَرٌ لِما خَلقَ لَهُ أمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ وَأمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الشَّقاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَأمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} الآيَةَ..
هَذَا طَرِيق سادس للْحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه من سِتَّة طرق وَوضع على كل طَرِيق تَرْجَمَة مقطعَة، وَفِي هَذَا الطَّرِيق التَّصْرِيح بِسَمَاع الْأَعْمَش عَن سعد بن عُبَيْدَة، وَانْظُر التَّفَاوُت الْيَسِير فِي متونها من بعض زِيَادَة ونقصان، وَلم يذكر لفظ: لما خلق لَهُ إلاَّ فِي هَذَا الطَّرِيق، وَمضى أَكثر الْكَلَام فِيهَا فِي كتاب الْجَنَائِز.

39 - (سُورَةُ: {وَالضُّحَى} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة وَالضُّحَى، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مِائَتَان وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ حرفا وَأَرْبَعُونَ كلمة وَإِحْدَى عشرَة آيَة. وَالضُّحَى يَعْنِي: النَّهَار كُله قَالَه الثَّعْلَبِيّ، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: يَعْنِي وَقت الضُّحَى وَهِي السَّاعَة الَّتِي فِيهَا ارْتِفَاع الشَّمْس، واعتدال النَّهَار من الْحر وَالْبرد فِي الشتَاء والصيف، وَهُوَ قسم تَقْدِيره: وَرب الضُّحَى.
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: إذَا سَجَى اسْتَوَى

(19/298)


أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا سجى} (الضُّحَى: 2) مَعْنَاهُ اسْتَوَى، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد عَن حجاج عَن حَمْزَة عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
وَقَالَ غَيْرُهُ: سَجَى أظْلَمَ وَسَكَنَ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي تَفْسِير: (سجى: أظلم) وَهُوَ مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس قَوْله: (وَسكن) مَنْقُول عَن عِكْرِمَة، وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا سجى ذهب، وَعَن الْحسن: جَاءَ، وَعنهُ اسْتَقر وَسكن، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: أولى الْأَقْوَال من قَالَ: سكن، يُقَال: بَحر سَاج إِذا كَانَ سَاكِنا.
عَائِلاً: ذُو عِيَالٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضُّحَى: 8) وفسرالعائل بقوله: (ذُو عِيَال) قَالَ الثَّعْلَبِيّ فأغناك بِمَال خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ثمَّ بالغنائم، وَقَالَ مقَاتل: رضاك بِمَا أَعْطَاك من الرزق، وَعَن ابْن عَطاء: وَجدك فَقير النَّفس فأغنى قَلْبك.

1 - (بَابٌ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 3)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} وَلم تثبت هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.

0594 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدَّثنا زُهَيْرٌ حدَّثنا الأسْوَدُ بنُ

(19/299)


قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبَ بنَ سُفْيَانَ رَضِي الله عنهُ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثَا فَجَاءَتِ امْرأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ إنِّي لأَرْجُو أنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلَاثًا فَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 1، 3) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَفِيه بَيَان سَبَب نزُول هَذِه السُّورَة، وَزُهَيْر مصغر زهر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، وَالْأسود بن قيس الْعَبْدي وَقيل: البَجلِيّ، جُنْدُب، بِضَم الْجِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا وَهُوَ جند بن عبد الله بن سُفْيَان البَجلِيّ تَارَة ينْسب إِلَى أَبِيه وَتارَة إِلَى جده.
والْحَدِيث قد مر فِي قيام اللَّيْل فِي ترك الْقيام للْمَرِيض، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن الْأسود الخ. قَوْله: (اشْتَكَى) أَي: مرض. قَوْله: (فَجَاءَت امْرَأَة) وَهِي أم جميل، بِفَتْح الْجِيم، امْرَأَة أبي لَهب وَهِي بنت حَرْب أُخْت أبي سُفْيَان وَاسْمهَا العوراء. قَوْله: (قربك) بِكَسْر الرَّاء وَلَفظ قرب يَجِيء لَازِما ومتعديا يُقَال: قرب الشَّيْء بِالضَّمِّ أَي: دنا وقريته بِالْكَسْرِ أَي: دَنَوْت مِنْهُ، وَهنا مُتَعَدٍّ.

2 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} )

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} كَذَا ثبتَتْ هَذَا للمستملي، وَهِي مكررة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيره لِأَن غَيره لم يذكرهَا فِي الأولى.
تُقْرَأُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ

أَي: يقْرَأ قَوْله: (مَا وَدعك) بتَشْديد الدَّال وتخفيفها فالتشديد قِرَاءَة الْجُمْهُور وَالتَّخْفِيف قِرَاءَة ابْن أبي عبلة قَوْله: (بِمَعْنى وَاحِد) يَعْنِي كلتا الْقِرَاءَتَيْن بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ قَوْله: (مَا تَركك) يَعْنِي: ودع، سَوَاء كَانَ بِالتَّشْدِيدِ أَو بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنى ترك فِيهِ تَأمل، فَإِن أَبَا عُبَيْدَة قَالَ: التَّشْدِيد من التوديع وَالتَّخْفِيف من ودع يدع، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أماتوا ماضيه فَلَا يُقَال: ودعه وَإِنَّمَا يُقَال: تَركه قلت: قِرَاءَة ابْن أبي عبلة ترد عَلَيْهِ مَا قَالَه.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَا تَرَكَكَ وَمَا أبْغَضَكَ

أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله: {مَا وَدعك مَا تَركك} وَفِي تَفْسِير قَوْله: (وَمَا قلى) أَي: (وَمَا أبغضك) وَأَصله: وَمَا قلاك فَحذف الْكَاف مِنْهُ وَمن قَوْله: (فأغنى) وَقَوله: (فهدى) للمشاكلة فِي أَوَاخِر الْآي، وَيُقَال لهَذَا فواصل. كَمَا يُقَال: فِي غير الْقُرْآن أسجاع، وقلى يقلى من بَاب ضرب يضْرب ومصدره قلى وقلى، قَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا فتحت مددت وَمَعْنَاهُ البغض، وقلاه أبغضه وتقليه تبْغضهُ ولغة طي: تقلاه.

1594 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ الأسْوَدِ بنِ قَيسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدُبا البَجَلِيِّ قَالَتِ امْرَأَةٌ يَا رَسولَ الله مَا أُرَى صَاحِبَكَ إلاَّ أبْطاعَتْكَ فَنَزَلَتْ: {مَا وَدَّعَكَ رَبِّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 3) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جُنْدُب أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار هُوَ بنْدَار عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر هُوَ غنْدر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَضم الدَّال وَفتحهَا. وَكِلَاهُمَا لقب.
قَوْله: (قَالَت امْرَأَة) ، قيل إِنَّهَا خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَرْأَة كَانَت كَافِرَة فَكيف قَالَت: يَا رَسُول الله؟ قلت: قَالَت إِمَّا استهزاء وَإِمَّا أَن يكون هُوَ من تَصَرُّفَات الرَّاوِي إصلاحا للعبارة، وَقَالَ بَعضهم، بعد أَن نقل كَلَام الْكرْمَانِي: هُوَ موجه لِأَن مخرج الطَّرِيقَيْنِ وَاحِد. قلت: أما قَول الْكرْمَانِي: الْمَرْأَة كَانَت كَافِرَة، فِيهِ نظر، فَمن أَيْن علم أَنَّهَا كَانَت كَافِرَة فِي هَذَا الطَّرِيق؟ نعم كَانَت كَافِرَة فِي الطَّرِيق الأول لِأَنَّهُ صرح فِيهِ بقوله إِنِّي لأرجو أَن يكون شَيْطَانك قد تَركك، وَهَذَا القَوْل لَا يصدر عَن مُسلم وَلَا مسلمة، وَهنا قَالَ صَاحبك، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَمثل هَذَا لَا يصدر عَن كَافِر، وَقَول بَعضهم: هَذَا موجه، لِأَن مخرج الطَّرِيقَيْنِ، وَاحِد، فِيهِ نظر أَيْضا لِأَن اتِّحَاد الْمخْرج يسْتَلْزم أَن يكون هَذِه الْمَرْأَة هُنَا بِعَينهَا تِلْكَ الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة هُنَاكَ، على أَن الواحدي ذكر عَن عُرْوَة أَبْطَأَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج جزعا شَدِيدا. فَقَالَت خَدِيجَة: قد قلاك رَبك لما يرْوى من جزعك فَنزلت وَهِي فِي (تَفْسِير مُحَمَّد بن جرير) ، عَن جُنْدُب ابْن عبد الله، فَقَالَت امْرَأَة من أَهله وَمن قومه: ودع مُحَمَّدًا فَإِن قلت: ذكر ابْن بشكوال أَن الْقَائِل بذلك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. قَالَ: ذكره ابْن سنيد فِي تَفْسِيره. قلت: هَذَا لَا يَصح لِأَن هَذِه السُّورَة مَكِّيَّة بِلَا خلاف وَأَيْنَ عَائِشَة حِينَئِذٍ. قَوْله: (إلاَّ أَبْطَأَ عَنْك) ، وَكَأَنَّهُ وَقع فِي نُسْخَة الْكرْمَانِي، أبطأك، ثمَّ تكلّف فِي نقل كَلَام وَالْجَوَاب عَنهُ، فَقَالَ: قيل الصَّوَاب أَبْطَأَ عَنْك، وَأَبْطَأ بك أَو عَلَيْك، قَول: وَهَذَا أَيْضا صَوَاب إِذْ مَعْنَاهُ مَا أرى صَاحبك يَعْنِي جِبْرِيل إلاَّ جعلك بطيئا فِي الْقِرَاءَة لِأَن بطأه فِي الإقراء إبطاء فِي قِرَاءَته، أَو هُوَ من بَاب حذف حرف الْجَرّ وإيصال الْفِعْل بِهِ، وَهنا فصلان:
الأول: فِي مُدَّة احتباس جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَعَن ابْن جريج: اثْنَا عشر يَوْمًا، وَعَن ابْن عَبَّاس: خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَعنهُ: خَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا. وَعَن مقَاتل: أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقيل: ثَلَاثَة أَيَّام.
وَالثَّانِي: سَبَب الاحتباس، فَفِيهِ أَقْوَال فَعَن خَوْلَة خادمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن جروا دخل الْبَيْت فَمَاتَ تَحت السرير فَمَكثَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَّامًا لَا ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي، فَقَالَ: يَا خَوْلَة مَاذَا حدث فِي بَيْتِي؟ قَالَت. فَقلت: لَو هيأت الْبَيْت وكنسته فَأَهْوَيْت بالمكنسة تَحت السرير فَإِذا شَيْء ثقيل فنطرت فَإِذا جرو ميت فألقيته فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرعد لحياه، فَقَالَ: يَا خَوْلَة! دثريني. فَنزلت: {وَالضُّحَى} وَعَن مقَاتل: لما أَبْطَأَ الْوَحْي قَالَ الْمُسلمُونَ: يَا رَسُول الله تلبث عَلَيْك الْوَحْي؟ فَقَالَ: كَيفَ ينزل عليّ الْوَحْي وَأَنْتُم لَا تنفقون براجمكم وَلَا تقلمون أظفاركم؟ وَعَن ابْن إِسْحَاق أَن الْمُشْركين سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَضَر وَفِي القرنين وَالروح فَوَعَدَهُمْ بِالْجَوَابِ إِلَى غَد وَلم يسْتَثْن فَأَبْطَأَ جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة. وَقيل: أَكثر من ذَلِك. فَقَالَ الْمُشْركُونَ: ودعه ربه، فَنزل جِبْرَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسُورَة (وَالضُّحَى) بقوله: {وَلَا تقولن لشَيْء أَنِّي فَاعل ذَلِك غَدا} (الْكَهْف: 32) انْتهى. فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض رِوَايَة جُنْدُب. قلت: لَا إِذْ يكون جَوَابا بالذينك الشَّيْئَيْنِ أَو جَوَابا لمن قَالَ: كَائِنا من كَانَ.