عمدة القاري شرح صحيح البخاري

49 - (سُورَةُ: {ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {ألم نشرح لَك} (الشَّرْح 1:) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (ألم نشرح) وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَثَلَاثَة أحرف، وَسبع وَعِشْرُونَ كلمة، وثمان آيَات. قَوْله: (ألم نشرح) يَعْنِي: ألم نفتح ونوسع ونلين لَك قَلْبك بِالْإِيمَان والنبوة وَالْعلم وَالْحكمَة؟ والهمزة فِيهِ لَيْسَ على الِاسْتِفْهَام الْحَقِيقِيّ، وَمَعْنَاهُ: شرحنا لَك صدرك، وَلِهَذَا عطف (ووضعنا) عَلَيْهِ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر وَحده.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وِزرَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ووضعنا عَنْك وزرك} (الشَّرْح: 2) رَوَاهُ ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن عَمْرو: أخبرنَا أَبُو عَاصِم أخبرنَا عِيسَى عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَقَرَأَ عبد الله: وحللنا عَنْك وزرك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فِي الْجَاهِلِيَّة) صفة للوزر لَا مُتَعَلق بِالْوَضْعِ، وَأَرَادَ بِهِ

(19/300)


الْوزر الْكَائِن فِي الْجَاهِلِيَّة من ترك الْأَفْضَل والذهاب إِلَى الْفَاضِل، وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل: يَعْنِي الْخَطَأ والسهو، وَقيل: ذنُوب أمتك فأضافها إِلَيْهِ لاشتغال قلبه بهَا واهتمامه لَهَا.
أنْقَضَ أثْقَلَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وزرك الَّذِي أنقض ظهرك} (الشَّرْح: 2، 3) وَفَسرهُ بقوله: (أثقل) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف وَاللَّام، وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن جرير: أخبرنَا ابْن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا ابْن ثَوْر عَن معمر عَن قَتَادَة، وَقَالَ عِيَاض: كَذَا فِي جَمِيع النّسخ: اتقن، بمثناة وقاف وَنون وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب: أثقل، مثل مَا ضبطناه، تَقول الْعَرَب أنقض الْجمل ظهر النَّاقة إِذا أثقلها وَعَن الْفراء: كسر ظهرك حَتَّى سمع نقيضه وَهُوَ صَوته.
{مَعَ العُسْرِ يُسْرا} (الشَّرْح: 5، 6) قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ أيْ مَعَ العُسْرِ يُسْرا آخَرَ كَقَوْلِهِ: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلاَّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَينِ} .
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسر} وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَقد فسر قَوْله: (مَعَ الْعسر يسرا) بقوله: إِن مَعَ ذَلِك الْعسر يسرا آخر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَول النُّحَاة: إِن الْمعرفَة إِذا أُعِيدَت معرفَة تكون الثَّانِيَة عين الأولى، والنكرة إِذا أُعِيدَت نكرَة تكون غَيرهَا. قَوْله: (كَقَوْلِه: هَل تربصون بِنَا إلاَّ إِحْدَى الحسنيين) وَجه التَّشْبِيه أَنه كَمَا ثَبت للْمُؤْمِنين تعدد الْحسنى كَذَا ثَبت لَهُم تعدد الْيُسْر، قَوْله: (وَلنْ يغلب عسر يسرين) وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا حَدِيث أَو أثر، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَصح عطفه على مقوله قلت: يبين أَنه حَدِيث وَأثر، بل تردد فِيهِ، وَقد رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا مَوْصُولا ومرسلاً وَرُوِيَ مَوْقُوفا أما الْمَرْفُوع فقد أخرجه ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث جَابر بِإِسْنَاد ضَعِيف، وَلَفظه: أوحى إِلَى أَن مَعَ الْعسر يسرا وَلنْ يغلب عسر يسرين، وَأخرج سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق من حَدِيث ابْن مَسْعُود. قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو كَانَ الْعسر فِي جُحر لدخل الْيُسْر حَتَّى يُخرجهُ، وَلنْ يغلب عسر يسرين. وَقَالَ (إِن مَعَ الْعسر يسرا) وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَأما الْمُرْسل فَأخْرجهُ عبد بن حميد من طَرِيق قَتَادَة. قَالَ: ذكر لنا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشر أَصْحَابه بِهَذِهِ الْآيَة. وَقَالَ: (لن يغلب عسر يسرين) إِن شَاءَ الله، وَأما الْمَوْقُوف فَأخْرجهُ مَالك عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كتب إِلَى أبي عُبَيْدَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: مهما تنزل بأَمْري شدَّة يَجْعَل الله لَهُ بعْدهَا فرجا، وَإنَّهُ لن يغلب عسر يسرين، وَقَالَ الْحَاكِم: صَحَّ ذَلِك عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) عَن عمر لكنه مُنْقَطع.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَانْصَبْ فِي حَاجَتَكَ إلَى رَبِّكَ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا فرغت فانصب} (الشَّرْح: 7) يَعْنِي: انصب فِي حَاجَتك يَعْنِي: إِذا فرغت عَن الْعِبَادَة فاجتهد فِي الدُّعَاء فِي قَضَاء الْحَوَائِج، وروى أَبُو جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن عمر وَحدثنَا أَبُو عَاصِم حَدثنَا عِيسَى عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد بِلَفْظ: إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فانصب فِي حَاجَتك إِلَى رَبك، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِذا فرغت مِمَّا فرض الله عَلَيْك من الصَّلَاة فسل الله وارغب إِلَيْهِ وانصب لَهُ، وَقَالَ قَتَادَة: أمره إِذا فرغ من صلَاته أَن يُبَالغ فِي دُعَائِهِ، وَقَوله: فانصب من النصب وَهُوَ التَّعَب فِي الْعَمَل، وَهُوَ من نصب ينصب من بَاب علم يعلم.
وَيُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: {ألَمْ نَشْرَحَ لَكَ صَدْرَكَ} (الشَّرْح: 1) شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإسْلامِ

رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي إِسْنَاده راو ضَعِيف، وَعَن الْحسن: ملأناه حلما وعلما. قَالَ مقَاتل: وسعناه بعد ضيقه.

59 - (سُورَةُ: {وَالتِّينِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة والتين، وَهِي مَكِّيَّة، وَقيل: مَدَنِيَّة، وَهِي مائَة وَخَمْسُونَ حرفا، وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ كلمة، وثمان آيَات.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ التِّينُ وَالزَّيْتُونُ الَّذِي يَأْكُلُ النَّاسُ

رَوَاهُ عَنهُ عَن شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح، عَنهُ قَالَ: التِّين وَالزَّيْتُون الْفَاكِهَة الَّتِي يَأْكُل النَّاس، وَعَن قَتَادَة: التِّين الْجَبَل

(19/301)


الَّذِي عَلَيْهِ دمشق، وَالزَّيْتُون الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ بَيت الْمُقَدّس.
يُقَالُ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ فَما الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِأنَّ النَّاسَ يُدَانُونَ بِأعْمَالِهِمْ كَأنّهُ قَالَ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوَابِ وَالعِقابِ

هَذَا ظَاهر. قَوْله: (يدانون) ، أَي: يجازون وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن غير الْكشميهني: يدالون، بِاللَّامِ بدل النُّون الأولى وَالْأول هُوَ الصَّوَاب وَالْخطاب فِي قَوْله: (فَمَا يكذبك) للْإنْسَان الْمَذْكُور فِي قَوْله: {لقد خلنقا الْإِنْسَان} (التِّين: 4) على طَريقَة الِالْتِفَات وَقيل: الْخطاب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

2594 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخْبَرَنِي عَدِيٌّ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي العِشاءِ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وعدي هُوَ ابْن ثَابت الْكُوفِي، والبراء هُوَ ابْن عَازِب، والْحَدِيث قد مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب الْقِرَاءَة فِي الْعشَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن خَلاد بن يحيى عَن مسعر عَن عدي بن ثَابت إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر: سفر.
69 - سُورَةُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: اقْرَأ وَتسَمى سُورَة العلق وَفِي بعض النّسخ: سُورَة اقْرَأ فَقَط وَهِي مَكِّيَّة وَهِي مِائَتَان وَسَبْعُونَ حرفا، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ كلمة. وَعِشْرُونَ آيَة.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حدَّثنا حَمَّادٌ عَنْ يَحْيَى بنِ عَتِيقٍ عَنِ الحَسَنِ. قَالَ: اكْتُبْ فِي المُصْحَفِ فِي أوَّلِ الإمامِ: بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ وَاجْعَلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ خَطّا.
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ قَوْله: (اقْرَأ باسم رَبك) فِي قِرَاءَة: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم، لَكِن فِي أول سُورَة الْفَاتِحَة فَقَط أَو فِي أول كل سُورَة من الْقُرْآن؟ فِيهِ خلاف مَشْهُور بَين الْعلمَاء. فمذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَمَا ذكره البُخَارِيّ. بقوله: قَالَ قُتَيْبَة وَذَلِكَ بطرِيق المذاكرة، وقتيبة هُوَ ابْن سعيد يروي عَن حَمَّاد بن زيد عَن يحيى بن عَتيق ضد الْجَدِيد. الطفَاوِي، بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة وبالفاء وَالْوَاو عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَلَيْسَ ليحيى هَذَا فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع وَهُوَ ثِقَة بَصرِي من طبقَة أَيُّوب وَمَات قبله. قَوْله: (فِي أول الإِمَام) ، أَي: أول الْقُرْآن أَي: اكْتُبْ فِي أول الْقُرْآن الَّذِي هُوَ الْفَاتِحَة: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم، فَقَط ثمَّ اجْعَل بَين كل سورتين خطا أَي: عَلامَة فاصلة بَينهمَا، وَهَذَا مَذْهَب حَمْزَة من الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن أَرَادَ خطأ فَقَط بِغَيْر الْبَسْمَلَة فَلَيْسَ بصواب لِاتِّفَاق الصَّحَابَة على كِتَابَة الْبَسْمَلَة بَين كل سورتين إلاَّ بَرَاءَة، وَإِن أَرَادَ بِالْإِمَامِ إِمَام كل سُورَة فَيجْعَل الْخط مَعَ الْبَسْمَلَة فَحسن، ورد عَلَيْهِ بِأَن مَذْهَب الْحسن أَن الْبَسْمَلَة تكْتب فِي أول الْفَاتِحَة فَقَط ويكتفي فِي الْبَاقِيَة بَين كل سورتين بالعلامة، فَإِذا كَانَ هَذَا مذْهبه كَيفَ يَقُول الدَّاودِيّ إِن أَرَادَ خطا بِغَيْر الْبَسْمَلَة فَلَيْسَ بصواب وَإِن أَرَادَ بِالْإِمَامِ بِكَسْر الْهمزَة الَّذِي هُوَ الْفَاتِحَة فَكيف يَقُول: وَإِن أَرَادَ بِالْإِمَامِ أَمَام كل سُورَة بِفَتْح الْهمزَة يَعْنِي: فَكيف يَصح ذكر الإِمَام بِالْكَسْرِ، وَيُرَاد بِهِ الإِمَام بِالْفَتْح؟ وَقَالَ السُّهيْلي: هَذَا الْمَذْكُور عَن مصحف الْحسن شذوذ، قَالَ: وَهِي على هَذَا من الْقُرْآن إِذْ لَا يكْتب فِي الْمُصحف مَا لَيْسَ بقرآن، وَلَيْسَ يلْزم قَول الشَّافِعِي: إِنَّهَا آيَة من كل سُورَة وَلَا أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة، بل يَقُول إِنَّهَا آيَة من كتاب الله تَعَالَى مقترنة مَعَ السُّورَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَدَاوُد، وَهُوَ قَول بَين الْقُوَّة لمن أنصف. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) لَا نسلم لَهُ ذَلِك، بل من تَأمل الْأَدِلَّة ظهر لَهُ أَنَّهَا من الْفَاتِحَة وَمن كل سُورَة. قلت: مُجَرّد الْمَنْع بِغَيْر إِقَامَة الْبُرْهَان مَمْنُوع، وَمَا قَالَه بِالْعَكْسِ، بل من تَأمل الْأَدِلَّة ظهر لَهُ أَنَّهَا لَيست من الْفَاتِحَة وَلَا من أول كل سُورَة، بل هِيَ آيَة مُسْتَقلَّة أنزلت للفصل بَين السورتين، وَلِهَذَا اسْتدلَّ ابْن الْقصار الْمَالِكِي على أَن بِسم الله الرحمان الرَّحِيم لَيست بقرآن فِي أَوَائِل السُّور من قَوْله: اقْرَأ باسم رَبك لم تذكر الْبَسْمَلَة.

(19/302)


وَقَالَ مُجاهِدٌ: نَادِيَهُ: عَشِيرَتَهُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَليدع نَادِيه} أَي: (عشيرته) أَي: أهل نَادِيه، لِأَن النادي هُوَ الْمجْلس الْمُتَّخذ للْحَدِيث، وَرَوَاهُ ابْن جرير عَن الْحَارِث: حَدثنِي الْحسن عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد.
الزَّبَانِيَةَ: المَلائِكَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سَنَدع الزَّبَانِيَة} وَالْمرَاد بالزبانية (الْمَلَائِكَة) والزبانية فِي كَلَام الْعَرَب الشَّرْط الْوَاحِد زبنية كعفرية من الزين وَهُوَ الدّفع، وَقيل: زابن. وَقيل: زباني، وَقيل: زبني كَأَنَّهُ نسب إِلَى الزين، وَالْمرَاد: مَلَائِكَة الْعَذَاب الْغِلَاظ الشداد.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: الرُّجْعى: المَرْجِعُ

أَي: قَالَ معمر وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَة، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن إِلَى رَبك الرجعى} (العلق: 8) أَي: الرُّجُوع، وَهَذَا هَكَذَا وَقع لأبي ذَر وَلم يثبت لغيره.
لَنَسْفَعْن: قَالَ لَنَأْخُذَنْ وَلَنَسْفَعَنْ بِالنُّونِ وَهِيَ الخَفِيفَةُ سَفَعْتُ بِيَدِهِ أخَذْتُ
أَي: قَالَ معمر فِي قَوْله تَعَالَى: {لنسفعن بالناصية} (العلق: 51) لنأخذن قَوْله: (بالناصية) هِيَ مقدم الرَّأْس، وَاكْتفى بِذكر الناصية عَن الْوَجْه كُله لِأَنَّهَا فِي مقدمه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَيَأْخُذ بالنواصي والأقدام. قَوْله: (بالنُّون) الْخَفِيفَة وَقد علم أَن نون التَّأْكِيد خَفِيفَة وثقيلة وَقد رُوِيَ عَن أبي عَمْرو بالنُّون الثَّقِيلَة. قَوْله: (سفعت بِيَدِهِ) أَشَارَ بِهِ إِلَى معنى السفع من حَيْثُ اللُّغَة وَهُوَ الْأَخْذ، وَقيل: هُوَ الْقَبْض بِشدَّة، وَقَالَ مقَاتل: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة فَوجدَ أَبَا جهل قد قلد هُبل طوقا من ذهب وطيبه، وَهُوَ يَقُول: يَا هُبل لكل شَيْء شكر وَعزَّتك لأشكرنك من قَابل. قَالَ: وَكَانَ قد ولد لَهُ ذَلِك الْعَام ألف نَاقَة وَكسب فِي تِجَارَته ألف مِثْقَال ذهب، فَنَهَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ لَهُ: وَالله إِن وَجَدْتُك هُنَا تعبد غير إلاهنا لأسفعنك على ناصيتك، يَقُول: لأجرنك على وَجهك، فَنزلت: {كلا لَئِن لم ينْتَه لنسفعن بالناصية} أَي: فِي النَّار.

1 - ( {بَاب} )

هَذَا كالفصل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاب، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، بموجود.

3594 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بَكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شهابٍ ح وحدَّثني سَعِيدُ بنُ مَرْوَانَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ أبِي رَزْمَةَ أخْبَرَنَا أبُو صَالِحٍ سَلْمُويَةُ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله عَنْ يُونُسَ بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنِي ابنُ شِهابٍ أنَّ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ أخْبَرَهُ أنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا الحَدِيث قد مر فِي أول الْكتاب. وَأخرجه هُنَا أَيْضا بِإِسْنَادَيْنِ: الأول: عَن يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، وينسب إِلَى جده غَالِبا وَذكر هُنَا مُجَردا وَفِي بعض النّسخ يحيى بن بكير يروي عَن اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ عَن عقيل بِضَم الْعين بن خَالِد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الثَّانِي: عَن سعيد بن مَرْوَان أبي عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ نزيل نيسابور من طبقَة البُخَارِيّ، وشاركه فِي الرِّوَايَة عَن أبي نعيم وَسليمَان بن حَرْب وَنَحْوهمَا وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع وَمَات قبل البُخَارِيّ بِأَرْبَع سِنِين، كَذَا قَالَه بَعضهم: ثمَّ قَالَ: وَلَهُمَا شيخ آخر يُقَال لَهُ: أَبُو عُثْمَان سعيد بن مَرْوَان الرهاوي حدث عَنهُ أَبُو حَاتِم وَابْن واره وَغَيرهمَا، وَفرق بَينهمَا البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) وَوهم من زعم أَنَّهُمَا وَاحِد ووحدهما الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: وَسَعِيد بن مَرْوَان الرهاوي بِفَتْح الرَّاء وخفة الْهَاء وبالواو الْبَغْدَادِيّ، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. قلت: الْكرْمَانِي تبع فِي ذَلِك صَاحب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) فَإِنَّهُ قَالَ: سعيد بن مَرْوَان أَبُو عُثْمَان الرهاوي ثمَّ الْبَغْدَادِيّ سمع مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزمة روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي تَفْسِير (اقْرَأ باسم رَبك) (العلق: 1) وَقَالَ: مَاتَ بنيسابور يَوْم الِاثْنَيْنِ النّصْف من شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَصلى عَلَيْهِ مُحَمَّد بن يحيى، وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الصَّوَاب مَعَ الْكرْمَانِي وَمَعَ من قَالَ بقوله يظْهر ذَلِك بِالتَّأَمُّلِ، وَمُحَمّد بن عبد الْعَزِيز بن أبي رزقة بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الزَّاي واسْمه غَزوَان وَهُوَ أَيْضا مروزي من طبقَة أَحْمد بن حَنْبَل وَهُوَ من الطَّبَقَة الْوُسْطَى من شُيُوخ البُخَارِيّ وَمَعَ ذَلِك حدث عَنهُ بِوَاسِطَة، وَلَيْسَ لَهُ عِنْده إلاَّ هَذَا الْموضع، وَقد روى عَنهُ أَبُو دَاوُد بِلَا وَاسِطَة، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة وَأَبُو صَالح اسْمه سُلَيْمَان بن صَالح

(19/303)


الْمروزِي يلقب بسلمويه، بِفَتْح السِّين المهلمة وَفتح اللَّام وسكونها وَضم الْمِيم، وَهُوَ أَيْضا مروزي يُقَال: اسْم أَبِيه دَاوُد كَانَ من أخصاء عبد الله بن الْمُبَارك والمكثرين عَنهُ، وَقد أدْركهُ البُخَارِيّ بِالسِّنِّ لِأَنَّهُ مَاتَ سنة عشر وَمِائَتَيْنِ، وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس بن يزِيد من الزِّيَادَة الْأَيْلِي، وَهَذَا من الغرائب إِذْ البُخَارِيّ كثيرا يروي عَن ابْن الْمُبَارك بِوَاسِطَة شخص وَاحِد مثل عَبْدَانِ وَغَيره وَهنا روى عَنهُ بِثَلَاث وسائط وَهَذَا الحَدِيث من ثمانيات البُخَارِيّ.
قَالَتْ كَانَ أوَّلُ مَا بُدِيَّ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلاَّ جَاءَتْ مِثلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حَرَاءِ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَالَ وَالتَحنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَرْجِعَ إلَى أهْلِهِ وَيَتَرَدَّدُ لِذالِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حَرَاءِ فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ اقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أنَا بِقَارِىءٍ قَالَ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأُ قُلْتُ مَا أنَا بِقَارِىءٍ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أنَا بِقَارِىءٍ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الْآيَات (العلق: 1، 4) إلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَرْجَفُ بُوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ. قَالَ لِخَدِيجَةَ: أيِّ خَدِيجَةُ: مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَأخْبَرَها الخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا أبشِرْ فَوَالله لَا يُخزِيكَ الله أبَدا فَوَالله إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمِ وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الكَلَّ وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أخِي أبِيها وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالعَرَبِيَةِ مَا شَاءَ الله أنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخا كَبِيرا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ يَا عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابنِ أخِيكَ قَالَ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أخِي مَاذَا تَرَى فأخْبَرَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبَرَ مَا رَأى فَقَالَ وَرَقَةُ هاذا النّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيها جَذَعا لَيْتَنِي أكُونُ حَيّا وَذَكَرَ حَرْفا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلاّ أُوْذِيَ وَإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمِكَ حَيّا أنْصُرْكَ نَصْرا مُؤْزَّرا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوْفِّيَ وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةَ حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قد مر الْكَلَام فِي شَرحه مُسْتَوفى وَلَكِن نذْكر بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة. قَوْله: (قَالَت) ، أَي: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا من مَرَاسِيل الصَّحَابَة لِأَن عَائِشَة لم تدْرك هَذِه الْقِصَّة، ووفق بَعضهم كَلَامه بِأَن الْمُرْسل مَا يرويهِ الصَّحَابِيّ من الْأُمُور الَّتِي لم يدْرك زمانها بِخِلَاف الْأُمُور الَّتِي يدْرك زمانها فَإِنَّهَا لَا يُقَال: إِنَّهَا مُرْسلَة، بل يحمل على أَنه سَمعهَا أَو حضرها، وَعَائِشَة سَمعتهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم تحضرها، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْلهَا فِي أثْنَاء الحَدِيث فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ: اقْرَأ إِلَى قَوْله: فأخذني فغطني، فَظَاهر هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرهَا بذلك فَيحمل بَقِيَّة الحَدِيث عَلَيْهِ فَلْيتَأَمَّل. قَوْله: (من الْوَحْي) أَي: إِلَى الْوَحْي قَالَه

(19/304)


بَعضهم وَلَا أَدْرِي مَا وَجه عدوله عَن معنى من إِلَى معنى إِلَى، بل هَذِه من البيانية تبين أَن مَا بدىء بِهِ من الْوَحْي كَذَا وَكَذَا وإلاَّ فدلائل النُّبُوَّة قبل ذَلِك ظَهرت فِيهِ، مثل: سَمَاعه من بحير الراهب، وسماعه عِنْد بِنَاء الْكَعْبَة أشدد عَلَيْك إزارك، وَتَسْلِيم الْحجر عَلَيْهِ، فَالْأول: عِنْد التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي مُوسَى. وَالثَّانِي: عِنْد البُخَارِيّ من حَدِيث جَابر، الثَّالِث: عِنْد مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة. قَوْله: (الرُّؤْيَا الصادقة) ويروى الرُّؤْيَا الصَّالِحَة، وَهِي الَّتِي لَا تكون أضغاثا وَلَا من تلبيس الشَّيْطَان. قَوْله: (فِي النّوم) تَأْكِيد، وإلاَّ فالرؤيا مُخْتَصَّة بِالنَّوْمِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بالرؤيا لِئَلَّا يفجأه الْملك ويأتيه بِصَرِيح النُّبُوَّة بَغْتَة فَلَا تتحملها القوى البشرية فيبدىء بتباشير الْكَرَامَة وَصدق الرُّؤْيَا استئناسا. قَوْله: (فلق الصُّبْح) ، شبه مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَة ووجده فِي الْخَارِج طبقًا لما رَآهُ فِي الْمَنَام بالصبح فِي إنارته ووضوحه، والفلق الصُّبْح لكنه لما كَانَ اسْتِعْمَاله فِي هَذَا الْمَعْنى وَغَيره أضيف إِلَيْهِ للتخصيص وَالْبَيَان إِضَافَة الْعَام إِلَى الْخَاص، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: للفلق شَأْن عَظِيم وَلذَلِك جَاءَ وَصفا لله تَعَالَى فِي قَوْله: {فالق الإصباح} (الْأَنْعَام: 69) وَأمر بالاستعاذة بِرَبّ الفلق لِأَنَّهُ ينبىء عَن انْشِقَاق ظلمَة عَالم الشَّهَادَة وطلوع تباشير الصُّبْح بِظُهُور سُلْطَان الشَّمْس وإشراقها الْآفَاق كَمَا أَن الرُّؤْيَا الصَّالِحَة مبشرة تنبىء عَن وجود أنوار عَالم الْغَيْب وآثار مطالع الهدايات. قَوْله: (الْخَلَاء) بِالْمدِّ: الْمَكَان الْخَالِي، وَيُرَاد بِهِ الْخلْوَة، وَهُوَ المُرَاد هُنَا: وَإِنَّمَا حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء لِأَن الْخلْوَة شَأْن الصَّالِحين ودأب عباد الله العارفين. قَوْله: (فَكَانَ يلْحق بِغَار حراء) كَذَا فِي هَذِه الرِّوَايَة وَفِي بَدْء الْوَحْي تقدم، فَكَانَ يَخْلُو، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: فَكَانَ يجاور، وبسطنا الْكَلَام هُنَاكَ فِي غَار حراء. قَوْله: (فَيَتَحَنَّث) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ النُّون ثمَّ التَّاء الْمُثَلَّثَة، وَقد فسره فِي الحَدِيث بِأَنَّهُ التَّعَبُّد. قَوْله: (اللَّيَالِي) أطلق اللَّيَالِي وَأُرِيد بهَا اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامهَا على سَبِيل التغليب لِأَنَّهَا أنسب للخلوة، وَوصف اللَّيَالِي بذوات الْعدَد لإِرَادَة التقليل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {دَرَاهِم مَعْدُودَة} (يُوسُف: 2) قيل: يحْتَمل أَن يكون التَّفْسِير من قَول الزُّهْرِيّ: أدرجه فِي الحَدِيث، وَذَلِكَ من عَادَته إِذْ قَول عَائِشَة يَتَحَنَّث فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد، وَقَوله: والتحنث التَّعَبُّد معترض بَين كلاميها. وَقَالَ التوريشتي: قَوْلهَا: (اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد) يتَعَلَّق بيتحنث لَا بالتعبد، وَمَعْنَاهُ: يَتَحَنَّث اللَّيَالِي، وَلَو جعل مُتَعَلقا بالتعبد فسد الْمَعْنى فَإِن التحنث لَا يشْتَرط فِيهِ اللَّيَالِي بل يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير. قَوْله: (قبل أَن يرجع إِلَى أَهله) ، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله، وَرَوَاهُ مُسلم كَذَلِك، يُقَال: نزع إِلَى أَهله إِذا جن إِلَيْهِم فَرجع إِلَيْهِم. قَوْله: (ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود) ، خص خَدِيجَة بِالذكر بعد أَن عبر بالأهل إِمَّا تَفْسِير بعد إِبْهَام، وَإِمَّا إِشَارَة إِلَى اخْتِصَاص التزود بِكَوْنِهِ من عِنْدهَا دون غَيرهَا. قَوْله: (فيتزود بِمِثْلِهَا) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة الْكشميهني وَعند غَيره: لمثلهَا، بِاللَّامِ وَالضَّمِير فِيهِ لليالي أَو الْخلْوَة أَو الْمرة السَّابِقَة ويتزود بِالرَّفْع عطف على قَوْله: يلْحق، وَهُوَ من التزود وَهُوَ اتِّخَاذ الزَّاد، وَلَا يقْدَح فِي التَّوَكُّل لوُجُوب السَّعْي فِي إبْقَاء النَّفس بِمَا يبقيه. قَوْله: (حَتَّى فجئه الْحق) ، أَي: حَتَّى أَتَاهُ أَمر الْحق بَغْتَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: حَتَّى جَاءَهُ الْحق. يُقَال: فجىء يفجأ بِكَسْر الْجِيم فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الغابر، وفجأ يفجأ بِالْفَتْح فيهمَا، وَالْمرَاد بِالْحَقِّ: الْوَحْي أَو رَسُول الْحق، وَهُوَ جِبْرِيل. قَوْله: (وَهُوَ فِي غَار حراء) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فَجَاءَهُ الْملك) ، أَي: جِبْرِيل. قَالَه السُّهيْلي. قَوْله: (اقْرَأ) ، هَذَا الْأَمر لمُجَرّد التَّنْبِيه والتيقظ لما سيلقى إِلَيْهِ. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون على بَابه فيستدل بِهِ على جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فِي الْحَال وَإِن قدر عَلَيْهِ بعد ذَلِك. قَوْله: (مَا أَنا بقارىء) ، ويروى: مَا أحسن أَن أَقرَأ. وَجَاء فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: مَا أَقرَأ، وَفِي رِوَايَة أبي الْأسود فِي مغازيه أَنه قَالَ: كَيفَ أَقرَأ؟ قَوْله: (فغطني) ، من الغط وَهُوَ الْعَصْر الشَّديد، والضغط وَمِنْه الغط فِي المَاء، وَهُوَ الغوص فِيهِ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: فغتني، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق والغت حبس النَّفس مرّة وإمساك الْيَد أَو الثَّوْب على الْفَم، ويروى فِي غير هَذِه الرِّوَايَة فسأبني، من سأبت الرجل سأبا إِذا خنقته، ومادته سين مُهْملَة وهمزة وباء مُوَحدَة، ويروى: ساتني، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق عوض الْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ أَبُو عَمْرو: ساته بسألته سأتا إِذا خنقه حَتَّى يَمُوت، ويروى: فدعتني، من الدعت بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الدغت الدّفع العنيف، ويروى: ذأتني، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة قَالَ أَبُو زيد: ذأته إِذا خنقه أَشد الخنق حَتَّى أدلع لِسَانه، وَيُقَال: غطني وغتني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني، كُله بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (حَتَّى بلغ من الْجهد) ، يجوز فِيهِ فتح الْجِيم وَضمّهَا وَهُوَ الْغَايَة وَالْمَشَقَّة، وَيجوز نصب الدَّال على

(19/305)


معنى: بلغ جِبْرِيل مني الْجهد، وَالرَّفْع على معنى: بلغ الْجهد مبلغه وغايته، وَالْحكمَة فِي الغط شغله عَن الِالْتِفَات وَالْمُبَالغَة فِي أمره بإحضار قلبه لما يَقُوله: وكرره ثَلَاثًا مُبَالغَة فِي التَّنْبِيه. قَوْله: (فَرجع بهَا) ، أَي: بِسَبَب تِلْكَ الضغطة. قَوْله: (ترجف بوارده) ، فِي رِوَايَة الْكشميهني: فُؤَاده، أَي: يضطرب بوادره، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْكَتف والعنق ترجف عِنْد الْفَزع. قَوْله: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) ، هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات بالتكرار، وَهُوَ من التزميل وَهُوَ التلفيف والتزمل الاشتمال والتلفف وَمثله التدثر. قَوْله: (الروع) ، بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ الْفَزع، وَأما الَّذِي بِضَم الرَّاء فَهُوَ مَوضِع الْفَزع من الْقلب. قَوْله: (أَي خَدِيجَة) ، يَعْنِي: يَا خَدِيجَة. قَوْله: (لقد خشيت على نَفسِي) ، قَالَ عِيَاض: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنى الشَّك فِيمَا آتَاهُ الله تَعَالَى لكنه رُبمَا خشِي أَنه لَا يقوى على مقاووته هَذَا الْأَمر وَلَا يقدر على حمل أعباء الْوَحْي فتزهق نَفسه. قَوْله: (كلا) ، مَعْنَاهُ النَّفْي والردع عَن ذَلِك الْكَلَام، وَالْمرَاد هُنَا التَّنْزِيه عَنهُ، وَهَذَا أحد مَعَانِيهَا. قَوْله: (لَا يخزيك) من الخزي وَهُوَ الفضيحة والهوان، وَوَقع فِي رِوَايَة معمر: لَا يحزنك، من الْحزن، وَقَالَ اليزيدي: أَخْزَاهُ لُغَة تَمِيم وحزنه لُغَة قُرَيْش. قَوْله: (الْكل) بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ: الثّقل وَأَصله من الكلال وَهُوَ الإعياء أَي: ترفع الثّقل، أَرَادَت: تعين الضَّعِيف الْمُنْقَطع واليتيم والعيال. قَوْله: (وتكسب الْمَعْدُوم) بِفَتْح التَّاء هُوَ الْمَشْهُور وَالصَّحِيح فِي الرِّوَايَة وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة وروى بضَمهَا، وَفِي معنى المضموم قَولَانِ: أصَحهمَا: مَعْنَاهُ تكسب غَيْرك المَال الْمَعْدُوم أَي: تعظيه لَهُ تَبَرعا. ثَانِيهمَا: تُعْطِي النَّاس مَالا يجدونه عِنْد غير من مُقَدمَات الْفَوَائِد وَمَكَارِم الْأَخْلَاق يُقَال: كسبت مَالا وأكسبت غَيْرِي مَالا وَفِي معنى المفتوح قَولَانِ: أصَحهمَا: أَن مَعْنَاهُ كمعنى المضموم، وَالْأول أفْصح وَأشهر. وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ تكسب المَال وتصيب مِنْهُ مَا يعجز غَيْرك عَن تَحْصِيله ثمَّ تجود بِهِ وتنفقه فِي وُجُوه المكارم. قَوْله: (وتقري الضَّيْف) ، بِفَتْح التَّاء تَقول قريت الضَّيْف أقريه قرى بِكَسْر الْقَاف وَالْقصر، وقراه بِالْفَتْح وَالْمدّ. قَوْله: (على نَوَائِب الْحق) ، النوائب جمع نائبة وَهِي الْحَادِثَة والنازلة خيرا أَو شرا. وَإِنَّمَا قَالَ: الْحق لِأَنَّهَا تكون فِي الْحق وَالْبَاطِل. قَوْله: (وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ) ، قد بسطت الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْكتاب. قَوْله: (هَذَا الناموس الَّذِي أنزل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَتقدم فِي بَدْء الْوَحْي: أنزل الله، والناموس بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة هُوَ صابح السِّرّ، وَقَالَ ابْن سَيّده: الناموس السِّرّ، وَقَالَ صَاحب (الغريبين) هُوَ صَاحب سر الْملك، وَقَالَ ابْن ظفر فِي (شرح المقامات) صَاحب سر الْخَيْر ناموس، وَصَاحب سر الشَّرّ جاسوس، وَقد سوى بَينهمَا رؤبة ابْن العجاج، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّحِيح، وَلَيْسَ بِصَحِيح بل الصَّحِيح الْفرق بَينهمَا على مَا نقل النَّوَوِيّ فِي (شَرحه) من أهل اللُّغَة والغريب الْفرق بَينهمَا بِمَا ذَكرْنَاهُ، وَقد ذكرنَا الْحِكْمَة فِي قَول ورقة: ناموس مُوسَى، وَلم يقل: عِيسَى، مَعَ أَنه كَانَ تنصر. قَوْله: (لَيْتَني فِيهَا) أَي: فِي أَيَّام الدعْوَة أَو الدولة. قَوْله: (جذعا) ، بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة: الشَّاب الْقوي. قَوْله: (وَذكر حرفا) أَي: وَذكر ورقة بعد ذَلِك كلمة أُخْرَى، وَهِي فِي الرِّوَايَات الْأُخَر: إِذْ يخْرجك قَوْمك. أَي: يَوْم إخراجك أَو يَوْم دعوتك. قَوْله: (أَو مخرجي هم) ؟ جملَة من الْمُبْتَدَأ وَهُوَ قَوْله: هم وَالْخَيْر وَهُوَ قَوْله: مخرجي. قَوْله: (مؤزرا) بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التأزير. أَي: التقوية، والأزر الْقُوَّة. قَوْله: (ثمَّ لم ينشب) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة. أَي: لم يلبث قَوْله: (وفتر الْوَحْي) ، أَي: احْتبسَ قَوْله: (وحزن) ، بِكَسْر الزَّاي.

4594 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ شِهابٍ فأخْبَرَنِي أبُو سَلَمَةَ أنَّ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله الأنْصَارِيَّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرةِ الوَحْي قَالَ فِي حَدِيثهِ بَيْنا أَنا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحَرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ فَفَزَعْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَرُوهُ فَأنْزَلَ الله تَعَالى {يَا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فَأنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1، 5) قَالَ أبُو سَلَمَةَ وَهِيَ الأوْثَانُ الَّتِي كَانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ قَالِ: ثُمَّ تَتَابَعَ الوَحْيُ
.

(19/306)


هَذَا مَوْصُول بالإسنادين الْمَذْكُورين فِي أول الْبَاب، وَمُحَمّد بن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ. قَوْله: (فَأَخْبرنِي) ، مَعْطُوف على مَحْذُوف وَالتَّقْدِير، قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي عُرْوَة بِمَا تقدم وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. قَوْله: (أَن جَابر بن عبد الله) وَهَذَا أَيْضا مُرْسل الصَّحَابِيّ لِأَن جَابِرا لم يدْرك زمَان الْقِصَّة وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ آخر قد حضرها. قَوْله: (فَرفعت رَأْسِي) ، ويروى: فَرفعت بَصرِي. قَوْله: (فَفَزِعت مِنْهُ) ، كَذَا فِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب عِنْد مُسلم: فجئثت مِنْهُ، بِضَم الْجِيم وَكسر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة من: جأت الرجل إِذا فزع فَهُوَ مجثوث، ويروى: فجثثت بِضَم الْجِيم وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة الأولى، ويروى: فَرُعِبْت مِنْهُ، بِضَم الرَّاء وَكسر الْعين على صِيغَة الْمَجْهُول، وَرِوَايَة الْأصيلِيّ: رعبت، بِفَتْح الرَّاء وَضم الْعين من الرعب وَهُوَ الْخَوْف، ويروى: ففرقت، بِالْفَاءِ وَالرَّاء وَالْقَاف من الْفرق بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْخَوْف والفزع، يُقَال: فرق يفرق من بَاب علم يعلم فرقا. قَوْله: (وَهِي الْأَوْثَان) ، جمع وثن وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى الرجز بِاعْتِبَار الْجِنْس، وَقد مر فِي تَفْسِير المدثر قَوْله: (ثمَّ تتَابع الْوَحْي) أَي: اسْتمرّ.

2 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 2)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من علق} وَأَرَادَ بالإنسان بني آدم لِأَن بني آدم خلقهمْ من علق وَهُوَ جمع علقَة وَهُوَ الدَّم الجامد وَهُوَ أول مَا تتحول إِلَيْهِ النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَإِنَّمَا جمع الْإِنْسَان فِي معنى الْجمع، وَقيل: أَرَادَ بالإنسان آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَرَادَ بقوله: من علق من طين يعلق بالكف.

5594 - حدَّثنا ابنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ عُرْوَةَ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ أوَّلُ مَا بُدِيَّ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 1، 3) .
ابْن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، وَهَذَا طرف من الحَدِيث الَّذِي قبله بِرِوَايَة عقيل عَن ابْن شهَاب. قَوْله: (الصَّالِحَة) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني الصادقة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.

3 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 3)

هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأ وَرَبك الأكرم} هَذَا التكرير للتَّأْكِيد، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون الأول للْعُمُوم، وَالثَّانِي للخصوص. قَوْله: (وَرَبك الأكرم) ، أَي: الَّذِي لَهُ الْكَمَال فِي زِيَادَة كرمه على كَلَام كل كريم إِذْ ينعم على عباده بنعمه الَّتِي لَا تحصى ويحلم عَنْهُم فَلَا يعاجلهم بالعقوبة مَعَ كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي وأطراحهم الْأَوَامِر.

6594 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني عُقَيْلٌ قَالَ مُحَمَّدٌ أخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أوَّلُ مَا بُدِيَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرؤْيا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ {اقْرَأُ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَق اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 1، 4) .
هَذَا أَيْضا مُخْتَصر من حَدِيث عَائِشَة جدا، وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر بِفَتْح الميمين بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَالثَّانِي: عَن اللَّيْث عَن عقيل بن خَالِد بن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وَهَذَا مُعَلّق وَصله فِي بَدْء الْوَحْي ثمَّ فِي الْبَاب الَّذِي قبله، ثمَّ فِي التَّعْبِير أخرجه فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث؟ .

(بَابٌ: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 4)

(19/307)


أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي علم بالقلم} (العلق: 4) وَهَذِه التَّرْجَمَة لأبي ذَر وَحده. قَوْله: (علم بالقلم) أَي: علم الْخط وَالْكِتَابَة بالقلم.

7594 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْها فَرَجَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
وَهَذَا أَيْضا طرف من حَدِيث بَدْء الْوَحْي وَالْكَلَام فِي إرْسَال هَذَا قد مر عَن قريب.

4 - (بَابٌ: {كَلاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (العلق: 51، 61)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {كلا} إِلَى آخِره وَسقط لغير أبي ذَر لفظ: بَاب، وَمن نَاصِيَة إِلَى آخِره قَوْله: {لَئِن لم ينْتَه} أَي: أَبُو جهل عَن إنذار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَهْيه عَن الصَّلَاة. قَوْله: (لنسفعن) أَي: لنأخذن بالناصية، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَكتب بِالْألف فِي الْمُصحف على حكم الْوَقْف قَوْله: نَاصِيَة بدل من قَوْله بالناصية، وَوصف الناصية بِالْكَذِبِ وَالْخَطَأ على الْإِسْنَاد الْمجَازِي، وَالْكذب وَالْخَطَأ فِي الْحَقِيقَة لصَاحِبهَا أَي: صَاحب الناصية كَاذِب خاطىء.

8594 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا عَبْدِ الرَّزَاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ الْجِزَرِيِّ عَنْ عِكْرَمَةَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ أبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأيْتُ مُحَمَّدا يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ لأَطْأنَّ عَلَى عُنُقِهِ فَبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَوْ فَعَلَ لأخَذَتْهُ المَلائِكَةُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى إِمَّا ابْن مُوسَى وَإِمَّا ابْن جَعْفَر، وَعبد الْكَرِيم بن مَالك الْجَزرِي، بِفَتْح الْجِيم وَالزَّاي.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التفسيرعن عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن أبي رَافع عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله.
قَوْله: (قَالَ أَبُو جهل) اسْمه: عَمْرو بن هِشَام المَخْزُومِي، وَهَذَا من مرسلات عبد الله بن عَبَّاس لِأَنَّهُ لم يدْرك زمن قَول أبي جهل ذَلِك لِأَن مولده قبل الْهِجْرَة نَحْو ثَلَاث سِنِين، وَيحمل على أَنه سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من صَحَابِيّ آخر قَوْله: (على عُنُقه) بالنُّون وَالْقَاف، ويروى بِالْقَافِ وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْأول أصح. قَوْله: (لَو فعل) أَي: أَبُو جهل. قَوْله: (لَأَخَذته الْمَلَائِكَة) أَي: مَلَائِكَة الْعَذَاب، وَوَقع عِنْد البلاذري نزل اثْنَا عشر ملكا من الزَّبَانِيَة رؤوسهم فِي السَّمَاء وأرجلهم فِي الأَرْض وَأخرج النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَزَاد فِي آخِره فَلم يفجأهم مِنْهُ إلاَّ وَهُوَ. أَي: أَبُو جهل نكص على عقبه ويتقى بِيَدِهِ. فَقيل لَهُ: مَالك؟ قَالَ: إِن بيني وَبَينه لَخَنْدَقًا من نَا وَهولا وَأَجْنِحَة. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو دنا لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَة عضوا عضوا) .
تَابَعَهُ عَمْرُو بنُ خَالِدٍ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ

أَي: تَابع عبد الرَّزَّاق أَو يحيى فِي رِوَايَته عَمْرو بن خَالِد الْحَرَّانِي من شُيُوخ البُخَارِيّ عَن عبيد الله بن عَمْرو الرقي بالراء وَالْقَاف عَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي الْمَذْكُور، وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ فِي (منتخب الْمسند) لَهُ عَن عَمْرو بن خَالِد فَذكره.

79 - (سُورَةُ: {إنَّا أنْزَلْنَاهُ} (الْقد: 1)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: سُورَة الْقدر، وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ عَكسه، وَذكر الواحدي أَنَّهَا أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَهِي مائَة وَاثنا عشر جرفا وَثَلَاثُونَ كلمة، وَخمْس آيَات. قَوْله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يَعْنِي: الْقُرْآن كِنَايَة عَن غير مذكرو جملَة وَاحِد. (فِي لَيْلَة الْقدر) من اللَّوْح الْمَحْفُوظ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا. فوضعناه فِي بَيت الْعِزَّة فأملأه جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على السفرة، ثمَّ كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ينزله على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجوما، وَكَانَ بَين أَوله وَآخره ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة.
يُقَال المَطْلَعُ هُوَ الطُّلُوعُ وَالمَطْلِعُ المَوْضِعُ الَّذِي يُطْلَعُ مِنْهُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سَلام هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} (الْقدر: 5) وَفِيه قراءتان: إِحْدَاهمَا: بِفَتْح اللَّام أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: المطلع، يَعْنِي: بِفَتْح اللَّام

(19/308)


هُوَ الطُّلُوع، وَهُوَ مصدر ميمي، وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور. وَالثَّانيَِة: بِكَسْر اللَّام أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: والمطلع، يَعْنِي: بِكَسْر اللَّام الْموضع الَّذِي يطلع مِنْهُ، وَأَرَادَ بِهِ اسْم الْموضع، وَهِي قِرَاءَة الْكسَائي وَخلف.
أنْزَلْنَاهُ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ القُرْآنِ أنْزَلْنَاهُ مَخْرَجَ الجَمِيعِ وَالمُنْزِلُ هُوَ الله وَالعَرَبُ تُوَكِّدُ فِعْلَ الوَاحِدِ فَتَجْعَلُهُ بِلَفْظِ الجَمِيعِ لِيَكُونَ أثْبَتَ وَأَوْكَدَ.
أَرَادَ أَن الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي قَوْله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) كِنَايَة عَن الْقُرْآن يرجع إِلَيْهِ من غير أَن يسْبق ذكره لفظا. لِأَنَّهُ مَذْكُور حكما بِاعْتِبَار أَنه حَاضر دَائِما فِي ذهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لِأَن السِّيَاق يدل عَلَيْهِ أَو لِأَن الْقُرْآن كُله فِي حكم سُورَة وَاحِدَة. قَوْله: (مخرج الْجَمِيع) بِالنّصب أَي: خرج (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) مخرج الْجَمِيع وَكَانَ الْقيَاس أَن يكون بِلَفْظ الْمُفْرد بِأَن يَقُول: إِنِّي أنزلته لِأَن الْمنزل هُوَ الله وَهُوَ وَاحِد لَا شريك لَهُ. قَوْله: (وَالْعرب) إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى بَيَان فَائِدَة الْعُدُول عَن لفظ الْمُفْرد إِلَى لفظ الْجَمِيع. وَقَالَ الْعَرَب: إِذا أردْت التَّأْكِيد وَالْإِثْبَات تذكر الْمُفْرد بِصِيغَة الْجَمِيع، وَلَكِن هَذَا لَيْسَ بمصطلح، والمصطلح فِي مثله أَن يُقَال: فَائِدَة ذكر المرد بِالْجمعِ للتعظيم، وَيُسمى بِجمع التَّعْظِيم.

89 - (سُورَةُ: {لَمْ يَكُنْ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {لم يكن} وَيُقَال لَهَا: سُورَة المنفكين، وَسورَة الْقِيَامَة، وَسورَة الْبَيِّنَة، وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجُمْهُور، وَحكى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَهُوَ اخْتِيَار يحيى بن سَلام، وَعَن سُفْيَان: مَا أَدْرِي مَا هِيَ، وَفِي رِوَايَة همام عَن قَتَادَة وَمُحَمّد بن ثَوْر عَن معمر: أَنَّهَا مَكِّيَّة وَفِي رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَهِي ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وَأَرْبع وَتسْعُونَ كلمة، وثمان آيَات.
مُنْفَكِينَ: زَائِلِينَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} (الْبَيِّنَة: 1) وَفَسرهُ بقوله: (زائلين) أَي: عَن كفرهم وأصل الفك الْفَتْح، وَمِنْه فك الْكتاب.
القَيِّمَةُ: القَائِمَةُ دِينُ القَيِّمَةِ: أضَافَ الدِّينَ إلَى المُؤَنثِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} (الْبَيِّنَة: 5) أَي: دين الْملَّة الْقَائِمَة المستقيمة فالدين مُضَاف إِلَى مؤنث وَهِي الْملَّة وَالْقيمَة صفته فَحذف الْمَوْصُوف.

9594 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حَدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبِيِّ بنِ كَعْبٍ إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أقْرأ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ وَسَمَّانِي قَالَ نَعَمْ فَبَكَى.
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ السُّورَة ظَاهِرَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون: لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَنَاقِب أبي بن كَعْب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن. قَوْله: (لأبي) هُوَ أبي بن كَعْب، وَفِي بعض النّسخ لأبي بن كَعْب مَذْكُور بِأَبِيهِ قَوْله: وسماني إِنَّمَا استفسر لِأَنَّهُ جوز بِالِاحْتِمَالِ أَن يكون الله أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ على رجل من أمته وَلم ينص عَلَيْهِ فَأَرَادَ تَحْقِيقه، وَأما بكاؤه فَلِأَنَّهُ استحقر نَفسه وتعجب وخشي وَهَذَا لِأَن شَأْن الصَّالِحين إِذا فرحوا بِشَيْء خلطوه بالخشية.

0694 - حدَّثنا حَسَّانُ بنُ حَسَّانَ حدَّثنا هَمامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبِيٍّ إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ القُرْآنَ قَالَ أُبَيٌّ الله سَمَّانِي لَكَ قَالَ الله سَمَّاكَ لِي فَجَعَلَ أُنِيُّ يَبْكِي قَالَ قَتَادَةُ فَانْبِئْتُ أنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتابِ}
.

(19/309)


هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أنس أخرجه عَن حسان على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن حسان أبي على الْبَصْرِيّ، سكن مَكَّة من أَفْرَاد البُخَارِيّ، يروي عَن همام بن يحيى عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة وَفِي الْفَضَائِل عَن هَدِيَّة بن خَالِد، وَهنا قَالَ: إِن الله أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة أَن الله أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْك {لم يكن الَّذين كفرُوا} (الْبَيِّنَة: 1) وَهنا قَالَ أَيْضا فانبئت أَنه قَرَأَ عَلَيْهِ {لم يكن الَّذين كفرُوا} وَهَذَا يدل على أَن قَتَادَة لم يحمل نسمية السُّورَة عَن أنس، وَفِي حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة الْآتِي لم يبين شَيْئا من ذَلِك، وَهَذِه الطّرق الثَّلَاثَة كلهَا عَن قَتَادَة، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن، مُطلق يتَنَاوَل {لم يكن الَّذين كفرُوا} وَغَيرهَا. وَقَول قَتَادَة: فأنبئت إِلَى آخِره يدل ظَاهرا أَنه بلغه من غير أنس أَن الَّذِي أمره أَن يقْرَأ على أبي هُوَ: {لم يكن الَّذين كفرُوا} ثمَّ إِنَّه كَانَ عاود أنس بن مَالك فَأخْبرهُ بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره الله تَعَالَى أَن يقْرَأ على أبي: {لم يكن الَّذين كفرُوا} فَحمل حِينَئِذٍ عَن أنس مَا بلغه من غَيره، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُنَا قَالَ: أقريك الْقُرْآن، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيث سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة الْآتِي عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن. قلت: الْقِرَاءَة عَلَيْهِ نوع من أقرائه وَبِالْعَكْسِ، قَالَ فِي (الصِّحَاح) فلَان قَرَأَ عَلَيْك السَّلَام وأقرأك السَّلَام بِمَعْنى، وَقد يُقَال أَيْضا: كَانَ فِي قِرَاءَته قُصُور فَأمر الله تَعَالَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يقرئه على التجويد وَيقْرَأ عَلَيْهِ ليتعلم مِنْهُ حسن الْقِرَاءَة وجودتها، وَلَو صَحَّ هَذَا القَوْل كَانَ اجْتِمَاع الْأَمريْنِ الْقِرَاءَة عَلَيْهِ والإقراء ظَاهرا. وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: وَاخْتلفُوا فِي الْحِكْمَة فِي قِرَاءَته عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَار أَن سَببهَا أَن تستن الْأمة بذلك فِي الْقِرَاءَة على أهل الْفضل، لَا يأنف أحد من ذَلِك، وَقيل: للتّنْبِيه على حَلَاله، أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأهليته لأخذ الْقُرْآن عَنهُ، وَكَانَ بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأْسا وإماما فِي الْقُرْآن، وَلَا يعلم أحد من النَّاس شَاركهُ فِيهِ، وَيذكر الله لَهُ فِي هَذِه الْمنزلَة الرفيعة، وَأما وَجه تَخْصِيص هَذِه السُّورَة فَلَمَّا فِيهَا من ذكر المعاش من بَيَان أَحْوَال الدّين من التَّوْحِيد والرسالة، وَمَا ثَبت بِهِ الرسَالَة من المعجزة الَّتِي هِيَ الْقُرْآن وفروعه من الْعِبَادَة وَالْإِخْلَاص، وَذكر معادهم من الْجنَّة وَالنَّار، وتقسيمهم إِلَى السُّعَدَاء والأشقياء، وَخير الْبَريَّة وشرهم وأحوالهم قبل الْبعْثَة وَبعدهَا مَعَ وجازة السُّورَة فَإِنَّهَا من قصار الْمفصل.

1694 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ أبِي دَاوُدَ أبُو جَعْفَرٍ المُنَادِي حدَّثنا رَوْحٌ حدَّثَنا سَعِيدُ بنُ أبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ أنَّ نبيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أقْرِئَكَ القُرْآنَ قَالَ الله سَمَّانِي لَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالَمِينَ قَالَ نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن أَحْمد بن أبي دَاوُد أبي جَعْفَر الْمُنَادِي، هَكَذَا وَقع عِنْد الفريري عَن البُخَارِيّ، وَوَقع عِنْد النَّسَفِيّ حَدثنَا أَبُو جَعْفَر الْمُنَادِي حسب، فَكَانَت تَسْمِيَته من قبل الفريري، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: الْمَشْهُور عِنْد البغاددة أَنه مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي دَاوُد، وَقَالَ بَعضهم: أَحْمد وهم من البُخَارِيّ، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أعرف باسم شَيْخه من غَيره فَلَيْسَ وهما وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ لأبي جَعْفَر حَدِيث سوى هَذَا الحَدِيث، وَقد عَاشَ بعد البُخَارِيّ سِتَّة عشر عَاما لِأَنَّهُ عمر وعاش مائَة سنة وَسنة وأشهرا. وَقَالَ ابْن طَاهِر: روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي تَفْسِير (لم يكن) حَدِيثا وَاحِدًا. قَالَ: وَأهل بَغْدَاد يعرفونه بِمُحَمد، وَهَذَا الحَدِيث مَشْهُور من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي دَاوُد أبي جَعْفَر الْمُنَادِي وَلما ذكره الْخَطِيب من رِوَايَة مُحَمَّد بن عبيد الله هَذَا فِي (تَارِيخه) قَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن ابْن الْمُنَادِي إلاَّ أَنه سَمَّاهُ أَحْمد وَسمعت هبة الله الطَّبَرِيّ يَقُول: قيل: إِنَّه اشْتبهَ على البُخَارِيّ فَجعل مُحَمَّدًا أَحْمد، وَقيل: كَانَ لمُحَمد أَخ بِمصْر اسْمه أَحْمد، وَهُوَ عندنَا بَاطِل لَيْسَ لأبي جَعْفَر أَخ فِيمَا نعلم، أَو لَعَلَّ البُخَارِيّ كَانَ يرى أَن مُحَمَّدًا أَو أَحْمد شَيْء وَاحِد. انْتهى. قلت: هَذَا لَا يَصح، لِأَن البُخَارِيّ أجلّ من أَن لَا يفرق بَين مُحَمَّد وَأحمد، وَهُوَ الرَّأْس فِي تَمْيِيز أَسمَاء الرِّجَال وأحوالهم.

99 - (سُورَةُ: {إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ} (الزلزلة: 1)

(19/310)


أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {إِذا زلزلت} وَتسَمى سُورَة الزلزلة، وَفِي بعض النّسخ {إِذا زلزلت} بِدُونِ لفظ سُورَة وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَتِسْعَة وَأَرْبَعُونَ حرفا. وَخمْس وَثَلَاثُونَ كلمة وثمان آيَات. قَوْله: (إِذا زلزلت) ، أَي: حركت الأَرْض حَرَكَة شَدِيدَة لقِيَام السَّاعَة.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}

1 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ} (الزلزلة: 7)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} وَلم يثبت لفظ بَاب: إلاَّ لأبي ذَر، والمثقال على وزن مفعال من الثّقل، وَمعنى المثقال هُنَا الْوَزْن، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الذّرة، فَقَالَ: إِن مائَة نملة وزن حَبَّة، والذرة وَاحِدَة مِنْهَا، وَعَن يزِيد بن هَارُون: زَعَمُوا أَن الذّرة لَيْسَ لَهَا وزن.
يُقَالُ: أوْحَى لَهَا: أوْحَى إلَيْهَا وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إلَيْهَا وَاحِدٌ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ تحدث أخبارك بِأَن رَبك أوحى لَهَا} (الزلزلة: 4، 5) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أوحى لَهَا أَي: أوحى إِلَيْهَا. قَوْله: (يُقَال) ، الخ غَرَضه أَن هَذِه الْأَلْفَاظ الْأَرْبَعَة بِمَعْنى وَاحِد، وَجَاء اسْتِعْمَالهَا بِكَلِمَة إِلَى وباللام، وَمَعْنَاهُ أمرهَا بالْكلَام وَأذن لَهَا فِيهِ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مجازه يُوحى الله إِلَيْهَا.

2694 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مَالِكٌ عَنْ زَيْدٍ بنِ أسْلَمَ عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الخَيْلُ لِثلاثَةٍ لِرَجُلٍ أجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأمّا الَّذِي لَهُ أجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ الله فَأطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أوْ رَوْضَةٍ فَمَا أصَابَتْ فِي طِيَلِها ذالِكَ فِي المَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَها فَاسْتَنَّتْ شَرَفا أوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُها أرْوَائُها حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أنَّها مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أنْ يَسْقَى بِهِ كَانَ ذالِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ فَهِيَ لِذلِكَ الرَّجُلِ أجْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَشِّيا وَتَعَفُف وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ الله فِي رِقَابِها وَلا ظُهُورِها فَهِّيَ لَهُ سِتْر وَرَجُلٌ رَبَطَها فَخْرا وَرِئَاءً وَنِوَاءً فَهِّيَ عَلَى ذالِكَ وِزْرٌ فَسُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنِ الحُمُرِ قَالَ مَا أنْزَلَ الله عَلَيَّ فِيهَا إلاَّ هاذِهِ الآيَةَ الفَاذَّةَ الجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة} الخ وَأَبُو صَالح السمان اسْمه ذكْوَان.
والْحَدِيث قد مضى فِي الشّرْب عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي الْجِهَاد وعلامات النُّبُوَّة عَن القعني، وَمر الْكَلَام فِيهِ، ولنذكر بعض شَيْء.
قَوْله: (فِي مرج) ، وَهُوَ الْموضع الَّذِي ترعى فِيهِ الدَّوَابّ قَوْله: (طيلها) بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يطول للدابة ويشد أحد طَرفَيْهِ فِي الوتد. قَوْله: (فاستنت) {} يُقَال: اسْتنَّ، إِذا ألح فِي الْعَدو. قَوْله: (شرفا) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَهُوَ الشوط، وَسمي بِهِ لِأَن العادي بِهِ يشرف على مَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ. قَوْله: (تغَنِّيا) أَي: اسْتغْنَاء عَن النَّاس أَو بنتاجها وَتَعَفُّفًا عَن السُّؤَال يتَرَدَّد عَلَيْهَا إِلَى متاجره ومزارعه وَنَحْوهَا فَتكون سترا لَهُ تحجبه عَن الْفَاقَة. قَوْله: (وَلم ينس حق الله فِي رقابها) بِأَن يُؤَدِّي زَكَاتهَا، وَبِه احْتج أَبُو حنيفَة فِي زَكَاة الْخَيل. قَوْله: (وَلَا ظُهُورهَا) أَي: وَلَا فِي ظُهُورهَا، بِأَن يركب عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله. قَوْله: (ونواء) بِكَسْر النُّون أَي: مناوأة. أَي: معاداة. قَوْله: (الفاذة) بِالْفَاءِ وبالذال الْمُعْجَمَة الْمُشَدّدَة أَي الفردة. وَجعلهَا فاذة لخلوها عَن بَيَان مَا تحتهَا من التناسل أَنْوَاعهَا، وَقيل: إِذا لَيْسَ مثلهَا آيَة أُخْرَى فِي قلَّة الْأَلْفَاظ وَكَثْرَة الْمعَانِي لِأَنَّهَا جَامِعَة لكل أَحْكَام الْخيرَات والشرور، وَقيل: جَامِعَة لاشتمال اسْم الْخَيْر على أَنْوَاع الطَّاعَات وَالشَّر على أَنْوَاع الْمعاصِي وَدلَالَة على الْآيَة على الْجَواب من حَيْثُ أَن سُؤَالهمْ كَانَ إِن الْحمار لَهُ حكم الْفرس أم لَا؟ فَأجَاب بِأَنَّهُ إِن كَانَ لخير فَلَا بُد أَن يرى خَيره، وإلاَّ فبالعكس، وَالله أعلم.

(19/311)


2 - (بَابٌ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} (الزلزلة: 8)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَمن يعْمل} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب.

3694 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثَنِي ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخْبَرَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدٍ بنِ أسْلَمَ عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّنَّانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنِ الحُمُرِ فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيها شَيْءٌ إلاَّ هاذِهِ الآيَ الجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَيحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي سكن مصر يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَهَذَا وَجه آخر عَن مَالك مُقْتَصرا فِي الْقِصَّة الْأَخِيرَة.

001 - (سُورَةُ: {وَالَعادِيَاتِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة: وَالْعَادِيات، كَذَا لغير أبي ذَر، فَإِن عِنْده سُورَة العاديات وَالْقَارِعَة، وَسورَة العاديات مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَثَلَاثَة وَسِتُّونَ حرفا، وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَإِحْدَى عشرَة آيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد وَالْحسن وَعِكْرِمَة والكلبي وَأبي الْعَالِيَة وَأبي الرّبيع وعطية وَقَتَادَة وَمُقَاتِل وَابْن كيسَان: العاديات هِيَ الْخَيل الَّتِي تعدو فِي سَبِيل الله. قَوْله: (ضَبْحًا) ، أَي: يضبحن ضَبْحًا، وهوصوت أنفاسها إِذا جهدت فِي الجري.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الكَنُودُ: الكَفُورُ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} (العاديات: 6) أَي: لكفور، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالربيع، أَي: لكفور جحود لنعم الله تَعَالَى؟ قَالَ الْكَلْبِيّ: هِيَ بِلِسَان كِنْدَة وَحضر موت، وبلسان معد كلهم العَاصِي، وبلسان مُضر وَرَبِيعَة وقضاعة: الكفور، بِلِسَان بني مَالك الْبَخِيل.
يُقَالُ: {فَأثَرْنَ بِهِ نَقْعا} (العاديات: 4) رَفَعْنَ بِهِ غُبارا

الْقَائِل بذلك أَبُو عُبَيْدَة، وَالْمعْنَى: أَن الْخَيل الَّتِي أغارت صباحا أثرن بِهِ غبارا، وَالضَّمِير فِيهِ بِهِ للصبح أَي: أثرن وَقت الصُّبْح، وَقيل للمكان دلّت عَلَيْهِ الْإِشَارَة وَإِن لم يجر لَهُ ذكر، وَقيل: يرجع إِلَى الْعَدو الَّذِي يدل عَلَيْهِ العاديات.
لِحُبِّ الخَيْرِ مِنْ أجْلِ حُبِّ الخَيْرِ: لَشَدِيدٌ لَبَخِيلٌ وَيُقالُ لِلْبَخُيلِ شَدِيدٌ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} وَفَسرهُ بقوله: {من أجل حب الْخَيْر لشديد} وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة، جعل اللَّام للتَّعْلِيل، وَقيل: للتعدية بِمَعْنى أَنه لقوي مطيق لحب الْخَيْر وَهُوَ المَال، وَعَن ابْن زيد: سمى الله تَعَالَى المَال خيرا وَعَسَى أَن يكون خبيثا وحراما، وَلَكِن النَّاس يعدونه خيرا، فَسَماهُ الله خيرا. وَكَانَ مُقْتَضى الْكَلَام، وَإنَّهُ لشديد الْحبّ للخير، وَلَكِن أخر الشَّديد لرعاية الفواصل.
حُصِّلَ: مُيِّزَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} (العاديات: 1) وَفَسرهُ بقوله: (ميز) وَهُوَ قَول أبي عُبَيْدَة، وَقيل: جمع وَقيل: أخرج، وَقيل: أظهر.

101 - (سُورَةُ: {القَارِعَةِ} )

بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير شَيْء من سُورَة القارعة، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَاثْنَانِ حرفا وست وَثَلَاثُونَ كلمة وَإِحْدَى عشرَة آيَة. وَلم يذكر هَذَا لأبي ذَر لِأَنَّهُ ذكرهَا مَعَ العاديات كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَالْقَارِعَة: الْقِيَامَة لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب.
كَالفَرَاشِ المَبْثُوثِ كَغَوْغَاءِ الجَرَادِ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضا كَذَلِكَ النَّاسُ يَجُولُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَالْعِهْنِ كألْوَانِ الْعِهْنِ: وَقَرَأَ عَبْدُ الله: كالصُّوفِ.

(19/312)


أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث وَتَكون الْجبَال كالعهن المنفوش} (القارعة: 4، 5) وَفسّر الْفراش المبثوث بقوله: (كغوغاء الْجَرَاد) إِلَى آخِره، وَعَن أبي عُبَيْدَة: الْفراش طير ذياب وَلَا بعوض، والمبثوث المتفرق. وَقيل: الْفراش الطير الَّتِي تتساقط فِي النَّار، والغوغاء الصَّوْت والجلية، وَفِي الأَصْل: الغوغاء الْجَرَاد حِين يخف للطيران. قَوْله: (كألوان العهن) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} وَهُوَ الصُّوف وَكَذَلِكَ قَرَأَ عبد الله بدل العهن ذكره ابْن أبي دَاوُد عَنهُ؟ والمنقوش: المندوف، وَالله أعلم.

201 - (سُورَةُ: {ألْهَاكُمْ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة أَلْهَاكُم، وَتسَمى: سُورَة التكاثر أَيْضا. وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَعِشْرُونَ حرفا، وثمان وَعِشْرُونَ كلمة، وثمان آيَات.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: التكاثُرُ مِنَ الأمْوَالِ وَالأوْلادِ

أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله عز وَجل: {أَلْهَاكُم التكاثر} (التكاثر: 1) أَي: شغلكم التكاثر من الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن قَتَادَة: نزلت فِي الْيَهُود حِين قَالُوا: نَحن أَكثر من بني فلَان وَبَنُو فلَان أَكثر من بني فلَان أَلْهَاكُم ذَلِك حَتَّى مَاتُوا ضلالا وَعَن ابْن بُرَيْدَة: نزلت فِي فخذين من الْأَنْصَار تفاخرا، وَعَن مقَاتل والكلبي: نزلت فِي حيين من قُرَيْش بني عبد منَاف وَبني سهم بن عَمْرو، وَالله أعلم.

301 - (سُورَةُ: {وَالْعَصْرِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير شَيْء من سور وَالْعصر، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ حرفا وَأَرْبع عشرَة كلمة، وَثَلَاثَة آيَات.
وَقَالَ يَحْيَى: الدَّهْرُ: أقْسَمَ بِهِ

يحيى هُوَ يحيى بن زِيَاد الْفراء، أَي: قَالَ يحيى فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَالْعصر} أَي: الدَّهْر أقسم الله بِهِ، وَلَفظ يحيى لم يذكر فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعَن الْحسن: الْعَصْر الْعشي، وَعَن قَتَادَة: سَاعَة من سَاعَات النَّهَار، وَعَن ابْن كيسَان: اللَّيْل وَالنَّهَار، وَعَن مقَاتل: صَلَاة الْعَصْر هِيَ الْوُسْطَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُسْرٌ ضَلالُ: ثُمَّ اسْتَثْنَى إلاَّ مَنْ آمَنَ

لم يثبت هَذَا إلاَّ للنسفي وَحده، أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} (الْعَصْر: 2) وَفَسرهُ بقوله: (ضلال) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: خسران، ونقصان. وَعَن الْأَخْفَش: هلكة، وَعَن الْفراء عُقُوبَة. قَوْله: (ثمَّ اسْتثْنى) ، أَي: قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} (الْعَصْر: 3) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَإِنَّهُم لَيْسُوا فِي خسر، وَالله أعلم.

401 - (سُورَةُ: {الْهَمْزَةِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة الْهمزَة، وَفِي بعض النّسخ سُورَة: {ويل لكل همزَة} (الْهمزَة: 1) وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي مائَة وَثَلَاثُونَ حرفا، وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة، وتسع آيَات وَعَن ابْن عَبَّاس الْهمزَة المشاؤن بالنميمة المفرقون بَين الْأَحِبَّة، وَعَن قَتَادَة: الْهمزَة الَّذِي يَأْكُل لُحُوم النَّاس ويغتابهم، واللمزة: الطعان.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثبتَتْ البسلمة لأبي ذَر.
الحَطَمَةُ: اسْمُ النَّارِ مِثْلُ سَقَرَ وَلَظَى

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كلا لينبذن فِي الحطمة} (الْهمزَة: 4) وفسرها بقوله: {اسْم النَّار مثل سقر ولظى} وَسميت بالحطمة لِأَنَّهَا تحطم، أَي: تكسر.

501 - (سورَةُ: {ألَمْ تَرَ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة: ألم تَرَ، وَتسَمى سُورَة الْفِيل، وَهِي مَكِّيَّة، وَهِي سِتَّة وَتسْعُونَ حرفا، وَعِشْرُونَ كلمة، وَخمْس آيَات.
ألَمْ تَرَ ألَمْ تَعْلَمْ

كَذَا وَقع لغير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ألم تَرَ، وَفسّر: (ألم تَرَ) بقوله: (ألم تعلم) وَعَن الْفراء: ألم تَرَ ألم تخبر عَن الْحَبَشَة والفيل، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدْرك قصَّة أَصْحَاب الْفِيل، لِأَنَّهُ ولد فِي تِلْكَ السّنة.
أبَابِيلَ مُتَتَابِعَةً مُجْتَمِعَةً

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل} (الْفِيل: 3) وَفسّر: (الأبابيل) بقوله: (متتابعة مجتمعة) رُوِيَ هَذَا عَن مُجَاهِد، وَقَالَ

(19/313)


الثَّعْلَبِيّ: أبابيل كَثِيرَة مُتَفَرِّقَة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا. وَعَن عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى كَالْإِبِلِ الموبلة، وَعَن ابْن عَبَّاس لَهَا خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الْكلاب، وَعَن عِكْرِمَة: لَهَا رُؤُوس كرؤوس السبَاع لم تَرَ قبل ذَلِك وَبعده، وَعَن ربيع لَهَا أَنْيَاب كأنياب السبَاع، وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِير أبابيل: جمع أبال، وَقيل: أبابيل مثل عباديل لَا وَاحِد لَهَا وَقيل: جمع أبول مثل عجول يجمع على عجاجيل.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سِجِّيلٍ: هِيَ سَنْكٍ وَكِلْ

أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ترميهم بحجارة من سجيل} (الْفِيل: 4) وَفسّر السجيل بقوله هِيَ: (سنك وكل) وسنك فِي لُغَة الفارسية بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وبالكاف الْمَكْسُورَة: الْحجر، وكل بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون اللَّام هُوَ الطين، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس التَّفْسِير الْمَذْكُور، وَالله أعلم.

601 - (سُورَةُ: {لإيْلافِ فُرَيْشٍ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة لِإِيلَافِ قُرَيْش، وَتسَمى: سُورَة قُرَيْش، وَذكر أَبُو الْعَبَّاس أَنَّهَا مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَذكر الضَّحَّاك وَعَطَاء بن السَّائِب أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَهِي ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ حرفا وَسبع عشرَة كلمة، وَأَرْبع آيَات وَاخْتلف فِي لَام لِإِيلَافِ، فَقيل: هِيَ مُتَّصِلَة بالسورة الأولى، وَعَن الْكسَائي والأخفش: هِيَ لَام التَّعَجُّب تَقول: أعجب لِإِيلَافِ قُرَيْش رحْلَة الشتَاء والصيف وتركهم عبَادَة رب هَذَا الْبَيْت، وَقيل: هِيَ لَام كي مجازها {فجعلهم كعصف مَأْكُول} ليؤلف قُرَيْش، وَعَن الزّجاج،: هِيَ مَرْدُودَة إِلَى مَا بعْدهَا تَقْدِيره فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت لإيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف، وقريش هم ولد النَّضر بن كنابة، فَمن وَلَده النَّضر فَهُوَ قرشي، وَمن لم يلده النَّضر فَلَيْسَ بقرشي. قَوْله: (إيلافهم) ، بدل من الإيلاف الأول.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لإيلافِ ألِفُوا ذَلِكَ فَلا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَآمَنَهُمْ مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِمْ فِي حَرَمِهِمْ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {لِإِيلَافِ} ألفوا بِكَسْر اللَّام أَي: ألفهم الله تَعَالَى فألفوا ذَلِك أَي: الارتحال، وآمنهم الله تَعَالَى من كل عدوهم فِي حرمهم، وَعَن الضَّحَّاك وَالربيع وسُفْيَان: وآمنهم من الجذام فَلَا يصيبهم فِي بلدهم.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: لإيلافِ لِنعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ

أَي: قَالَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة فِي تَفْسِيره: لِإِيلَافِ بنعمتي على قُرَيْش، رَوَاهُ عَنهُ سعيد بن عبد الرَّحْمَن، والإيلاف مصدر من قَوْلك: آلفت الْمَكَان أولفه إيلافا وَأَنا مؤلف، وَقَرَأَ الْجُمْهُور: لِإِيلَافِ بِإِثْبَات الْيَاء إلاَّ ابْن عَامر فَإِنَّهُ حذفهَا، وَاتَّفَقُوا على إِثْبَاتهَا فِي قَوْله: إيلافهم إلاَّ فِي رِوَايَة عَن ابْن عَامر فكالأول. وَفِي أُخْرَى عَن ابْن كثير بِحَذْف الْألف الَّتِي بعد اللَّام أَيْضا وَالله أعلم.

(19/314)


701 - (سورَةُ أرَأيْتَ)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة أَرَأَيْت، وَتسَمى سُورَة الماعون أَيْضا وَهِي مَكِّيَّة وَهِي مائَة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حرفا، وَخمْس وَعِشْرُونَ كلمة، وَسبع آيَات. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ مقَاتل والكلبي نزلت فِي الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي. وَعَن السّديّ وَابْن كيسَان: فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَعَن الضَّحَّاك فِي عَمْرو بن عَائِذ، وَقيل: فِي هُبَيْرَة بن وهب المَخْزُومِي، وَقَالَ الْفراء، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: أرأيتك الَّذِي يكذب، قَالَ: وَالْكَاف صلَة، وَقَالَ النَّسَفِيّ: أَرَأَيْت؟ هَل عرفت الَّذِي يكذب بِالدّينِ بالجزاء من هُوَ؟ إِن لم تعرفه فَذَلِك الَّذِي يكذب بالجزاء، هُوَ الَّذِي يدع الْيَتِيم أَي: يَقْهَرهُ ويزجره.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ يَدُعُّ، يَدْفَعُ عنْ حقِّه ويُقالُ: هُوَ مِنْ دَعَعْتُ يُدَعُّونَ يُدْفَعُونَ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم} (الماعون: 2) أَي: يَدْفَعهُ عَن حَقه، من دع يدع دَعَا، وَعَن أبي رَجَاء: يدع الْيَتِيم أَي يتْركهُ وَيقصر فِي حَقه. قَوْله: (وَيُقَال: هُوَ من دععت) أَشَارَ بِهِ إِلَى اشتقاقه وَأَن ماضيه: دععت لِأَن عِنْد اتِّصَال الضَّمِير لَا يدغم قَوْله: (يدعونَ) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {يَوْم يدعونَ} (الطّور: 31) أَي: يدْفَعُونَ، وَقَرَأَ الْحسن وَأَبُو رَجَاء بِالتَّخْفِيفِ، وَنقل عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا.
ساهُونَ لاهُونَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} وَفسّر بقوله: (لاهون) وَرَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد كَذَلِك، وَقَالَ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يؤخرونها عَن وَقتهَا، وَقَالَ غير وَاحِد: هُوَ التّرْك، وَعَن ابْن عَبَّاس: هم المُنَافِقُونَ يتركون الصَّلَاة فِي السِّرّ إِذا غَابَ النَّاس ويصلونها فِي الْعَلَانِيَة إِذا حَضَرُوا، وَعَن قَتَادَة: ساه لَا يُبَالِي صلى أم لم يصلِّ.
والماعُونُ المَعْرُوف كلهُ. وَقَالَ بَعْضُ العَرَبِ الماعُونُ الماءُ؛ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أعْلاَها الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ وأدْناها عارِيَّةُ المَتاعِ

ذكر فِي تَفْسِير الماعون ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: الْمَعْرُوف كُله: وَهُوَ الَّذِي يتعاطاه النَّاس بَينهم: كالدلو والفأس وَالْقدر والقداحة وَنَحْوهَا، وَهُوَ قَول الْكَلْبِيّ وَمُحَمّد بن كَعْب. الثَّانِي: الماعون: المَاء وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَمُقَاتِل، قَالُوا: الماعون المَاء بلغَة قُرَيْش. الثَّالِث: قَول عِكْرِمَة، وَهُوَ (أَعْلَاهَا الزَّكَاة) إِلَى آخِره، وَهُوَ قَول ابْن عَمْرو وَالْحسن وَقَتَادَة قَوْله: (عَارِية الْمَتَاع) أَي: الماعون اسْم جَامع لمتاع الْبَيْت كالمنخل والغربال والدلو وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يسْتَعْمل فِي الْبيُوت، وَقيل: الماعون مَا لَا يحمل مَنعه مثل المَاء

(20/2)


وَالْملح وَالنَّار، وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم.

801 - (سورَةُ: إنَّا أعْطَيْناك الكَوْثَر)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} (الْكَوْثَر: 1) وَقيل: سُورَة الْكَوْثَر، وَهِي مَكِّيَّة عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ قَتَادَة وَالْحسن وَعِكْرِمَة: مَدَنِيَّة، وَسبب الِاخْتِلَاف فِيهِ لأجل الِاخْتِلَاف فِي سَبَب النُّزُول فَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت فِي الْعَاصِ ابْن وَائِل: فَإِنَّهُ قَالَ فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الأبتر، وَقيل: فِي عقبَة بن أبي معيط. وَعَن عِكْرِمَة: فِي جمَاعَة من قُرَيْش، وَقيل: فِي أبي جهل: وَقَالَ السُّهيْلي: فِي كَعْب بن الْأَشْرَف، قَالَ: وَيلْزم من هَذَا أَن تكون السُّورَة مَدَنِيَّة، وَفِيه تَأمل؛ وَهِي إثنان وَأَرْبَعُونَ حرفا، وَعشر كَلِمَات، وَثَلَاث آيَات.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ شانِئَكَ عَدُوَّكَ

أَي قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} أَي: عَدوك هُوَ الأبتر، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِذكر: قَالَ ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة غَيره بِدُونِ ذكره.

1 - (بَاب)

4694 - حدَّثنا آدَمُ حدّثنا شَيْبانُ حَدثنَا قَتادَةُ عنْ أَنَسٍ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السَّماءِ قَالَ: أتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفا، فَقُلْتُ: مَا هاذا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هاذَا الكَوْثَرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم.
قَوْله: (حافتاه) أَي: جانباه تَثْنِيَة حافة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْفَاء. قَوْله: (الْكَوْثَر) على وزن فوعل من الْكَثْرَة وَالْعرب تسمى كل شَيْء كثير فِي الْعدَد أَو فِي الْقدر والخطر: كوثرا، وَاخْتلف فِيهِ، وَالْجُمْهُور على أَنه الْحَوْض. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ. وَقيل: الْكَوْثَر حَوْض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ عِيَاض: أَحَادِيث الْحَوْض صَحِيحَة وَالْإِيمَان بِهِ فرض والتصديق بِهِ من الْإِيمَان، وَهُوَ على ظَاهره عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة لَا يتَأَوَّل وَلَا يخْتَلف، وَحَدِيثه متواتر النَّقْل رَوَاهُ خلائق من الصَّحَابَة، وَحَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور هُنَا: الْكَوْثَر نهر مَا ييجيء عَن قريب، وَعَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْكَوْثَر نهر فِي الْجنَّة حافتاه من الذَّهَب وَمَجْرَاهُ من الدّرّ والياقوت وتربته أطيب من الْمسك وماؤه أحلى من الْعَسَل وَأَشد بَيَاضًا من الثَّلج) وَرُوِيَ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن أبي نجيح، قَالَت عَائِشَة: لَيْسَ أحد يدْخل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ إلاَّ سمع خرير الْكَوْثَر، وَعَن عِكْرِمَة: الْكَوْثَر النُّبُوَّة وَالْقُرْآن وَالْإِسْلَام، وَعَن مُجَاهِد: الْخَيْر كُله، وَقيل: نور فِي قلبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دله على الْحق وقطعه عَمَّن سواهُ، وَقيل: الشَّفَاعَة، وَقيل: المعجزات، وَقيل: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَقيل: الْفِقْه فِي الدّين، وَقيل: الصَّلَوَات الْخمس، وَقيل فِيهِ أَقْوَال أُخْرَى كَثِيرَة.

5694 - حدَّثنا خالِدُ بنُ يَزِيدَ الكاهِلِيُّ حدّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبي إسْحاقَ عنْ أبي عُبَيْدَةَ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ: سألْتُها عَن قَوْلهِ تَعَالَى: إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الْكَوْثَر: 1) قالَتْ نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شاطِئَاهُ عَليْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله عَن أبي عُبَيْدَة عَامر بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن حَرْب.
قَوْله: (قَالَ: سَأَلتهَا) أَي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سَأَلت عَائِشَة قَوْله: (أعْطِيه) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (شاطئاه) أَي: جانباه وَهُوَ تَثْنِيَة شاطىء موهو الْجَانِب. قَوْله: (عَلَيْهِ) يرجع إِلَى جنس الشاطىء، وَلِهَذَا لم يقل عَلَيْهِمَا، ودر مَرْفُوع على أَنه مُبْتَدأ ومجوف صفته وَخَبره عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول أَعنِي: شاطئا.
رَاوهُ زَكَرِيَّاءُ وأبُو الأَحْوَص ومُطَرِّفٌ عنْ أبي إسْحاق

أَي: رُوِيَ الحَدِيث الْمَذْكُور زَكَرِيَّاء بن أبي زَائِدَة، وَأَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم، ومطرف بن طريف بِالطَّاءِ الْمُهْملَة فرواية زَكَرِيَّاء رَوَاهَا عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن يحيى بن زَكَرِيَّاء عَن أَبِيه، وَرِوَايَة أبي الْأَحْوَص رَوَاهَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة عَنهُ أبي، وَلَفظه:

(20/3)


(الْكَوْثَر نهر بِفنَاء الْجنَّة شاطئاه در مجوف وَفِيه من بَقِي عدد النُّجُوم، وَرِوَايَة مطرف رَوَاهَا النَّسَائِيّ من طَرِيقه.

6694 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدّثنا هُشَيْمٌ حدّثنا أبُو بشْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أنهُ قَالَ فِي الكَوْثَر: هُوَ الخَيْرُ الّذِي أعْطاهُ الله إيَّاهُ: قَالَ أبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيد بنِ جُبَيْرٍ: فإِنَّ الناسَ يَزْعَمُونَ أنَّهُ نَهرٌ فِي الجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهرُ الَّذِي فِي الجنةِ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أَعْطاهُ الله إيَّاهُ.
(انْظُر الحَدِيث 8756 فِي طرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي يروي عَن هشيم، مصغر هشيم، ابْن بشير، مصغر بشر، الوَاسِطِيّ عَن أبي بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جَعْفَر بن أبي وحشية الوَاسِطِيّ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر الْحَوْض. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن كَامِل، وَقَول سعيد بن جُبَير هَذَا جمع بَين حَدِيثي عَائِشَة وَابْن عَبَّاس، وَالْحَاصِل أَن قَول ابْن عَبَّاس يَشْمَل جَمِيع الْأَقْوَال الَّتِي ذكروها فِي الْكَوْثَر لِأَن جَمِيع ذَلِك من الْخَيْر الَّذِي أعطَاهُ الله تَعَالَى إِيَّاه.

901 - (سورَةُ قُلْ يَا أيُّها الكافِرُونَ)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء مِمَّن سُورَة: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) وَيُقَال لَهَا سُورَة الْكَافرين، والمتشقسة، أَي: المبرئة من النِّفَاق، وَهِي مَكِّيَّة وَهِي أَرْبَعَة وَتسْعُونَ حرفا، وست وَعِشْرُونَ كلمة، وست آيَات وَالْخطاب لأهل مَكَّة مِنْهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَالْعَاص بن وَائِل والْحَارث بن قيس السَّهْمِي وَالْأسود بن عبد يَغُوث وَالْأسود بن عبد الْمطلب وَأُميَّة بن خلف، قَالُوا: يَا مُحَمَّد فَاتبع ديننَا وَنَتبع دينك ونشركك فِي أمرنَا كُله تعبد آلِهَتنَا سنة ونعبد إلهك سنة، فَقَالَ: معَاذ الله أَن أشرك بِهِ غَيره، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) إِلَى آخر السُّورَة.
لَكُمْ دِينَكُمْ الكُفْرُ ولِيَ دِينِ الإسْلاَمُ، ولَم يَقُلْ دِيني لِأَن الآياتِ بالنُّونِ فَحُذِفَتِ الياءُ كَما قَالَ: يَهْدِينِ وَيَشْفِينِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {لكم دينكُمْ ولي دين} (الْكَافِرُونَ: 6) أَي: لكم دين الْكفْر ولي دين الْإِسْلَام، هَكَذَا فسره الْفراء، وَقَرَأَ نَافِع وَحَفْص وَهِشَام: ولي، بِفَتْح الْيَاء وَالْبَاقُونَ بسكونها وَهَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف قَوْله: (وَلم يقل ديني) إِلَى آخِره حَاصله أَن النونات أَي: الفواصل كلهَا بِحَذْف الْيَاء رِعَايَة للمناسبة، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين. وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين} (الشُّعَرَاء: 87 18) فَإِن الْيَاء حذفت فِي كلهَا رِعَايَة للفواصل والتناسب وَهَذَا نوع من أَنْوَاع البديع.
وَقَالَ غيْرُهُ: لَا أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الآنَ ولاَ أُجِيبُكُمْ فِيما بَقِيَ مِنْ عُمُري ولاَ أنْتُمْ عابدُون مَا أعبُدُ وهُمُ الَّذِينَ قَالَ: { (5) وليزيدن كثيرا مِنْهُم. مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا} (الْمَائِدَة: 46)

لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر لفظ: (وَقَالَ غَيره) وَقَالَ بَعضهم، وَالصَّوَاب إثْبَاته لِأَنَّهُ لَيْسَ من بَقِيَّة كَلَام الْفراء بل هُوَ كَلَام أبي عُبَيْدَة. قلت: الصَّوَاب حذفه لِأَنَّهُ لم يذكر قبله، وَقَالَ الْفراء حَتَّى يُقَال بعده: وَقَالَ غَيره، وَهَذَا ظَاهر، وَحَاصِل قَوْله (لَا أعبد) إِلَى قَوْله: (وهم الَّذين) أَي: لَا أعبد فِي الْحَال وَلَا فِي الِاسْتِقْبَال مَا تَعْبدُونَ إِنَّمَا قَالَ: مَا، وَلم يقل من، لِأَن المُرَاد الصّفة، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أعبد الْبَاطِل وَأَنْتُم لَا تَعْبدُونَ الْحق. وَقيل: مَا مَصْدَرِيَّة أَي: لَا أعبد عبادتكم وَلَا تَعْبدُونَ عبادتي ثمَّ وَجه التّكْرَار فِيهِ التَّأْكِيد لِأَن من مَذَاهِب الْعَرَب التّكْرَار إِرَادَة التَّأْكِيد والإفهام، كَمَا أَن من مذاهبهم الِاخْتِصَار إِرَادَة التَّخْفِيف والإيجاز، وَهَذَا بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الْحَال، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا للْحَال حَقِيقَة وللاستقبال مجَازًا أَو بِالْعَكْسِ، أَو هُوَ مُشْتَرك، وَكَيف جَازَ الْجمع بَينهمَا، ثمَّ أجَاب بقوله. قلت: الشَّافِعِيَّة جوزوا ذَلِك مُطلقًا، وَأما غَيرهم فجوزوه بِعُمُوم الْمجَاز. قَوْله: (وهم الَّذين) أَي: المخاطبون بقوله: أَنْتُم

(20/4)


هم الَّذين قَالَ الله فِي حَقهم: {وليزيدن كثيرا مِنْهُم} (الْمَائِدَة: 46) إِلَى آخر.
سورَةُ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض شَيْء مِمَّن سُورَة: {إِذا جَاءَ نصر الله} (النَّصْر: 1) وَيُقَال: سُورَة النَّصْر، وَقَالَ ابْن الْعَبَّاس: هِيَ مَدَنِيَّة بِلَا خلاف وَقَالَ ابْن النَّقِيب: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا آخر سُورَة نزلت، وَقَالَ الواحدي: وَذَلِكَ منصرف سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حنين، وعاش بعد نُزُولهَا سنتَيْن، وَقَالَ مقَاتل: لما نزلت قَرَأَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ففرحا وسمعها عبد الله بن عَبَّاس فَبكى فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يبكيك؟ قَالَ: نعيت إِلَيْك نَفسك، فَقَالَ: صدقت فَعَاشَ بعْدهَا ثَمَانِينَ يَوْمًا فَمسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَأسه وَقَالَ: (اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل) ، وَهِي تِسْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وست وَعشرَة كلمة، وَثَلَاث آيَات.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم.
تثبت الْبَسْمَلَة لأبي ذَر.

1 - (بَاب)

7694 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ الرَّبِيعِ حَدثنَا أبُو الأحْوَصِ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عَن عَائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: مَا صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاَةً بَعْدَ أَن نَزَلَتْ عَليْه إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1) إلاَّ يَقُولُ فِيها: سُبْحانَك رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن الرّبيع بِفَتْح الرَّاء ضد الخريف ابْن سُلَيْمَان البَجلِيّ الْكُوفِي، يعرف بالبوراني، وَهُوَ من مَشَايِخ مُسلم أَيْضا مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِالْكُوفَةِ، وَأَبُو الْأَحْوَص سَلام بن سليم، وَأَبُو الضُّحَى مُسلم بن صبيح، ومسروق بن الأجدع. والْحَدِيث مر فِي الصَّلَاة فِي بَاب التَّسْبِيح وَالدُّعَاء فِي السُّجُود، عَن حَفْص بن عمر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

2 - (بَاب)

8694 - حدَّثنا عُثمانُ بنُ أبي شَيْبَة حدّثن جَيريٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبي الضُّحَى عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ فِي ركُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِر لِي، يتَأوَّلُ القُرْآنَ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر آلى آخِره قَوْله: (يتَأَوَّل الْقُرْآن) أَي: يعْمل بِمَا أَمر بِهِ فِي الْقُرْآن وَهُوَ قَوْله: (فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ) (النَّصْر: 3) قَوْله: (سُبْحَانَكَ) أَي: سبحت بحَمْدك، وَإِضَافَة الْحَمد إِلَى الله وَهُوَ الْفَاعِل، وَالْمرَاد لأزمه أَي التَّوْفِيق أَو إِلَى الْمَفْعُول أَي: بحمدي لَك.

3 - (بابٌ قوْلهُ: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} (النَّصْر: 2)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ} (النَّصْر: 2) هُوَ فِي مَحل النصب إِمَّا على الْحَال على أَن رَأَيْت بِمَعْنى أَبْصرت أَو عرفت أَو على أَنه مفعول ثَان على أَنه بِمَعْنى: علمت، وَقيل: المُرَاد بِالنَّاسِ أهل الْيمن. قَوْله: (أَفْوَاجًا) أَي: فوجا بعد فَوْج، وزمرا بعد زمر الْقَبِيلَة بأسرها وَالْقَوْم بأجمعهم من غير قتال.

9694 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ أبي شَيْبَةَ حدَّثنا عبْدُ الرَّحْمانِ عنْ سُفْيانَ عنْ حَبِيبِ بنِ أبي ثابتٍ عنْ سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنهُ، سألَهُمْ عنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (النَّصْر: 2) قالُوا: فَتْحُ المَدَائِنِ والقُصُورِ، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابنَ عَبَّاس؟ قَالَ: أجَلٌ أوْ مثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُعِيَتْ لهُ نَفْسهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله هُوَ ابْن مُحَمَّد بن أبي شيبَة أَخُو عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن مهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، والْحَدِيث من أفرادهي.
قَوْله: (أجل) . بِالتَّنْوِينِ وَكَذَا قَوْله: (أَو مثل) بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (ضرب) من الضَّرْب بِمَعْنى

(20/5)


التَّوْقِيت فِي قَوْله: (أجل) وَمن ضرب الْمثل فِي قَوْله: (أَو مثل) ، قَوْله: (نعيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من نعي الْمَيِّت ينعاه نعيا ونعيا إِذا أذاع مَوته وَأخْبر بِهِ.

4 - (بَاب {فسبح اسْم رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} (النَّصْر: 3)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْد رَبك} (النَّصْر: 3) الْمَعْنى: إِذا دخل النا فِي دين الله أَفْوَاجًا فسبح بِحَمْد رَبك فَإنَّك حِينَئِذٍ لَا حق بِهِ ذائق الْمَوْت كَمَا ذاق من قبلك من الرُّسُل.
توَّابٌ علَى العِباد، والتوَّابُ مِنَ النَّاس التّائِبُ منَ الذَّنْب

أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن التواب لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: تواب يُقَال لله تَعَالَى بِمَعْنى أَنه رجّاع عَلَيْهِم بالمغفرة وَقبُول التَّوْبَة، وَقيل: الَّذِي يرجع إِلَى كل مذنب بِالتَّوْبَةِ وَأَصله من التوب وَهُوَ الرُّجُوع، وَقيل: هُوَ الَّذِي ييسر للمذنبين أَسبَاب النّوبَة ويوفقهم ويسوق إِلَيْهِم مَا ينبههم عَن رقدة الْغَفْلَة ويطلعهم على وخامة عواقب الزلة، فَسُمي الْمُسَبّب للشَّيْء باسم الْمُبَاشر لَهُ كَمَا أسْند إِلَيْهِ فعله فِي قَوْلهم: بنى الْأَمِير الْمَدِينَة. وَالْآخِرَة: تواب يُقَال للْعَبد بِمَعْنى أَنه تائب من الذُّنُوب الَّتِي اقترفها.

0794 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عنْ أبي بِشْر عنْ سعيد بن جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أشْيَاخِ بَدْرٍ، فكَأنَّ بعْضُهمْ وجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هاذا مَعنا ولَنا أبْناءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمرُ: إنّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ، فدَعا ذَاتَ يَوْمٍ فادْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَما رئِيتُ أنّهُ دَعانِي يَوْمَئِذٍ إلاَّ لِيُريَهُمْ، قَالَ: مَا تقُولُونَ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1) ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنا أنْ نحْمَدَ الله ونَسْتَغْفِرَهُ إِذا نُصِرْنا فُتِحَ علَيْنا، وسكَتَ بعْضُهُمْ فلَم يقُلْ شَيْئا، فَقَالَ لي: أكذَاكَ تَقُولُ يَا ابنَ عباسٍ؟ فقُلْت: لَا. قَالَ: فَما تقُول؟ قُلْتُ: هُو أجَلُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْلَمَهُ لهُ قَالَ: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْر: 1) وذالِكَ عَلاَمَةُ أجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَواِبَا} (النَّصْر: 3) فَقَالَ عُمَرُ: مَا أعْلَمُ مِنْها إلاَّ مَا تَقُولُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة تُؤْخَذ من قَوْله: {فسبح بِحَمْد رَبك} (النَّصْر: 3) إِلَى آخِره ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي، وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة جَعْفَر بن أبي وحشية إياش الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، وَيُقَال الوَاسِطِيّ.
والْحَدِيث مر فِي الْمَغَازِي فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (يدخلني) بِضَم الْيَاء من الإدخال. قَوْله: (مَعَ أَشْيَاخ بدر) . يَعْنِي: من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله: (فَكَأَن بَعضهم) هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَوْله: (وجد) ، أَي غضب قَوْله: (أَنه من حَيْثُ علمْتُم) . أَي: أَن عبد الله بن عَبَّاس مِمَّن علمْتُم فَضله وَزِيَادَة علمه وعرفتم قدمه. قَوْله: (فَمَا رئيت) على صِيغَة الْمَجْهُول بِضَم الرَّاء وَكسر الحمزة. وَفِي غَزْوَة الْفَتْح فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: فَمَا أريته بِتَقْدِيم الْهمزَة وَالْمعْنَى وَاحِد. قَوْله: (إِلَّا لِيُرِيَهُمْ) بِضَم الْيَاء من الإراءة. قَوْله: (قلت: لَا) أَي: لَا أَقُول مثل مَا يَقُول هَؤُلَاءِ قَالَ عمر: فَمَا تَقول يَا عبد الله؟ قَوْله: (مَا أعلم مِنْهَا) أَي: من المقالات الَّتِي قَالَ بَعضهم.