عمدة القاري شرح صحيح البخاري

01 - (بابُ فَضْلِ سورَةِ البَقَرَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سُورَة الْبَقَرَة، وَفِي بعض النّسخ: فضل سُورَة الْبَقَرَة، بِلَا لفظ: بَاب، وَمعنى سُورَة الْبَقَرَة السُّورَة التيتذكر فِيهَا الْبَقَرَة.

8005 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بن كَثِيرٍ أخْبَرنا شعْبَةُ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي مَسْعُودِ، رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: منْ قرَأ بالآيَتَيْنِ..

9005 - حدَّثنا أبُو نُعيْمٍ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ عنْ أبي مَسْعُودٍ، رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ قَرَأ بالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سورَةِ البقَرَةِ فِي لَيْلةٍ كَفَتاهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (كفتاه) لِأَن أحد مَعَانِيه: كفتاه عَن قيام اللَّيْل.
وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ، وَأَبُو مَسْعُود عقبَة بن عَمْرو البدري، وَهَذَا رجال الطَّرِيق الأول، وَرِجَال الطَّرِيق الثَّانِي: أَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وسفيا بن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَفِي نُسْخَة أبي مُحَمَّد: عَن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن مَسْعُود، وَالصَّوَاب: أَبُو مَسْعُود، مكني لِأَنَّهُ حَدِيثه ومشهور بِهِ وَعنهُ خرجه مُسلم وَالنَّاس.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (بالآيتين) وهما من قَوْله: (آمن الرَّسُول) إِلَى آخر السُّور، وَوجه تخصيصهما بِمَا تضمنتا من الثَّنَاء على الله عز وَجل وعَلى الصَّحَابَة لجميل انقيادهم إِلَى الله تَعَالَى وابتهالهم ورجوعهم إِلَيْهِ فِي جَمِيع أُمُورهم، وَلما حصل فيهمَا من إِجَابَة دَعوَاهُم.
قَوْله: (كفتاه) أَي: عَن قيام اللَّيْل، وَقيل: مَا يكون من الْآفَات تِلْكَ اللَّيْلَة، وَقيل: من الشَّيْطَان وشره، وَقيل: كفتاه من حزبه إِن كَانَ لَهُ حزب من الْقُرْآن، وَقيل: حَسبه بهما أجرا وفضلاً، وَقيل: أقل مَا يَكْفِي فِي قيام اللَّيْل آيتان مَعَ أم الْقُرْآن وَقَالَ المظهري: أَي دفعتا عَن قاريهما شَرّ الْإِنْس وَالْجِنّ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ النَّوَوِيّ: كفتاه عَن قِرَاءَة سُورَة الْكَهْف وَآيَة الْكُرْسِيّ. انْتهى. لم يقل النَّوَوِيّ ذَلِك وَكَانَ سَبَب وهمه أَنه عِنْد النَّوَوِيّ عقيب هَذَا بَاب فضل سُورَة الْكَهْف
وَآيَة الْكُرْسِيّ، فَلَعَلَّ النُّسْخَة الَّتِي كَانَت لَهُ سقط مِنْهَا شَيْء فصحف عَلَيْهِ.

0105 - حدَّثنا وَقَالَ عُثْمانُ بنُ الهَيْثَمِ: حَدثنَا عَوْفٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: وكَّلَني رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِفْظِ زَكاةِ رمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْتُو مِنَ الطعامِ، فأخَذْتُهُ فقُلْتُ: لَأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَصَّ الحَدِيثَ، فَقَالَ: إذَا أويْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فاقْرأُ آيَةَ الكرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ مَعكَ مِنَ الله حافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ حتَّى تُصْبِحَ. وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صَدَقكَ وهْوَ كذُوبُ ذَاكَ شَيْطَانٌ.

(20/30)


(انْظُر الحَدِيث 1132 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعُثْمَان بن الْهَيْثَم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، فَالْبُخَارِي تَارَة يروي عَنهُ بالواسطة وَأُخْرَى بِدُونِهَا وَكَأَنَّهُ أَخذ عَنهُ مذاكرة، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب: حَدثنَا عُثْمَان بن الْهَيْثَم بِهِ، وعَوْف هُوَ الْأَعرَابِي.
والْحَدِيث مضى مطولا فِي كتاب الْوكَالَة فِي: بَاب إِذا وكل رجل رجلا فَترك الْوَكِيل شَيْئا، وَذكر هُنَا بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، فَقَالَ: وَقَالَ عُثْمَان بن الْهَيْثَم إِلَى آخِره، وَذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
قَوْله: (زَكَاة رَمَضَان) هُوَ الْفطْرَة. قَوْله: (فَقص الحَدِيث) هُوَ قَوْله: فَقَالَ إِنِّي مُحْتَاج وَعلي عِيَال ولي حَاجَة شَدِيدَة، قَالَ: فخليت عَنهُ فَأَصْبَحت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَة؟ مَا فعل أسيرك البارحة؟ قَالَ: قلت: شكى حَاجَة شَدِيدَة يَا رَسُول الله وعيالاً فرحمته فحليت سَبيله، قَالَ: أما أَنه قد كذب وَسَيَعُودُ، فَعَاد إِلَى ثَلَاث مَرَّات وَقَالَ فِي الثَّالِثَة: (إِذا أويت) من الثلاثي بِدُونِ الْمَدّ قَوْله: (لن يزَال) ، ويروى: لم يزل. قَوْله: (حَافِظًا) بِالنّصب وَالرَّفْع. أما النصب فعلى أَنه خبر: لن يزَال، وَأما الرّفْع فعلى أَنه اسْمه. قَوْله: (صدقك) أَي: فِي نفع قِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ، لَكِن شَأْنه وعادته الْكَذِب والكذوب قد يصدق. قَوْله: (ذَاك شَيْطَان) ، وَوَقع فِي كتاب الْوكَالَة: (ذَاك الشَّيْطَان) ، بِالْألف وَاللَّام إِمَّا للْجِنْس وَإِمَّا للْعهد الذهْنِي لِأَن لكل آدَمِيّ شَيْطَانا وكل بِهِ، وَيجوز أَن يكون عوضا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ أَي: ذَاك شَيْطَانك.

11 - (بابُ فَضْلِ سورَةِ الكَهْفِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سُورَة الْكَهْف، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: فضل سُورَة الْكَهْف، وَلم يثبت لفظ: بَاب إلاَّ لأبي ذَر.

1105 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ حَدثنَا زُهَيْرٌ حَدثنَا أبُو إسْحاقَ عنِ البَرَاءُ، قَالَ: كانَ رجُلٌ يَقْرَأُ سورَة الكَهْفِ وَإِلَى جانِبِهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْن، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدنُو، وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفرُ. فلَمَّا أصْبَحَ أَتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لهُ فَقَالَ: تلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآن.
(انْظُر الحَدِيث 4163 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَزُهَيْر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْفَتْح، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق إِلَى آخِره، وَلم يذكر فِيهِ سُورَة الْكَهْف، وَإِنَّمَا قَالَ: يقْرَأ وَفرس لَهُ مربوط فِي الدَّار.
قَوْله: (كَانَ رجل) قيل: هُوَ أسيد بن حضير. قَوْله: (حصان) بِكَسْر الْحَاء، هُوَ الْفَحْل الْكَرِيم من الْخَيل قَوْله: (بشطنين) تَثْنِيَة شطن بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة، وَهُوَ الْحَبل، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّبْط بشطنين لأجل جموحه واستصعابه. قَوْله: (فتغشته) أَي: أحاطت بِهِ سَحَابَة. قَوْله: (تَدْنُو) أَي: تقرب. قَوْله: (ينفر) بالنُّون وَالْفَاء من النفرة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ينفر بِالْقَافِ وَالزَّاي، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ خطأ فَإِن كَانَ مَا قَالَه من حَيْثُ الرِّوَايَة فَلهُ وَجه، وَإِن كَانَ من حَيْثُ اللُّغَة فَلَيْسَ بِذَاكَ. قَوْله: (تِلْكَ السكينَة) وَاخْتلف أهل التَّأْوِيل فِي تَفْسِير السكينَة، فَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هِيَ ريح هفافة لَهَا وَجه كوجه الْإِنْسَان، وَعنهُ: إِنَّهَا ريح خجوج وَلها رأسان، وَعَن مُجَاهِد: لَهَا رَأس كرأس الهر وجناحان وذنب كذنب الهر، وَعَن الرّبيع: هِيَ دَابَّة مثل الهر لعينيها شُعَاع فَإِذا التقى الْجَمْعَانِ أخرجت فَنَظَرت إِلَيْهِم فينهزم ذَلِك الْجَيْش من الرعب وَعَن ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ: هِيَ طست من ذهب من الْجنَّة يغسل فِيهَا قُلُوب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصرة وَالسَّلَام، وَعَن ابْن مَالك: طست من ذهب ألْقى فِيهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، الألواح والتوراة والعصا. وَعَن وهب: روح من الله يتَكَلَّم، إِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء بيَّن لَهُم مَا يُرِيدُونَ. وَعَن الضَّحَّاك: الرَّحْمَة، وَعَن عَطاء مَا يعْرفُونَ من الْآيَات فيسكنون إِلَيْهَا، وَهُوَ اخْتِيَار الطَّبَرِيّ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمُخْتَار أَنَّهَا من الْمَخْلُوقَات فِيهِ طمأنينة وَرَحْمَة وَمَعَهُ الْمَلَائِكَة، وَقد تكَرر فِي الْقُرْآن والْحَدِيث لفظ السكينَة، فَيحل فيكل مَوضِع وَردت فِيهِ على مَا يَلِيق بِهِ من الْمعَانِي الْمَذْكُورَة، وَالَّذِي يَلِيق فِي الْمَذْكُور فِي الْبَاب قَول الضَّحَّاك، وَالله أعلم.
قَوْله: (تنزلت) فِي رِوَايَة الْكشميهني: تنزل، بِضَم اللَّام على صِيغَة الْمُضَارع، وَأَصله: تتنزل بتاءين فحذفت إِحْدَاهمَا.

21 - (بابُ فَضْلِ سورَةِ الفَتْحِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سُورَة الْفَتْح، وَلَيْسَ لفظ: بَاب إلاَّ لأبي ذَر.

(20/31)


2105 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حَدثنِي مالِكٌ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يسِيرُ فِي بعْضِ أسْفارِهِ وعُمَرُ بنُ الخَطّابِ يسِيرُ معَهُ لَيْلاً، فَسألَهُ عُمَرُ عنْ شَيْء فلَمْ يُجِبْهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثُمَّ فلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سألَهُ فلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّك! نَزَرْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاثَ مرَّاتٍ كُلُّ ذلِك لَا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فحَرَّكْتُ بَعيرِي حَتَّى كنْتُ أمامَ النَّاس وخَشِيتُ أنْ يَنزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارِخا يَصْرُخُ، قَالَ: فقُلْتُ: لقَدْ خَشِيتُ أنْ يَكونَ نزَلَ فيَّ قُرْآنٌ، قَالَ: فَجِئْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَلَّمْتُ علَيْهِ فَقَالَ: لقَدْ أُنْزِلَتْ علَيَّ اللَّيْلَةَ سورَةُ لَهِيْ أحَبُّ إلَيَّ مِمِّا طلَعَتْ علَيْهِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَرَأ {إنَّا قتحْنا لكَ فتْحا مُبينا} (الْفَتْح: 1) .
(انْظُر الحَدِيث 7714 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (لقد أنزلت عَليّ) إِلَى آخِره. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أَوْس ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَزيد بن أسلم يروي عَن أَبِيه أسلم مولى عمر بن الْخطاب وَصُورَة هَذَا صُورَة الْإِرْسَال.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من هَذَا الْوَجْه فَقَالَ: عَن أبي سَمِعت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب، وَقد رَوَاهُ بَعضهم عَن مَالك فَأرْسلهُ وَأَشَارَ بذلك إِلَى الطَّرِيق الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ. وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن فِي أثْنَاء السِّيَاق مَا يدل على أَنه من رِوَايَة أسلم عَن عمر لقَوْله فِيهِ: قَالَ عمر: فحركت بَعِيري إِلَى آخر. والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْفَتْح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عِنْد عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره.
قَوْله: (ثكلتك أمك) دُعَاء من عمر على نَفسه. قَوْله: (نزرت) بِفَتْح النُّون وَالزَّاي المخففة أَو الْمُشَدّدَة أَي: ألححت عَلَيْهِ وبالغت أَي فِي شأني من جرأتي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإلحاحي عَلَيْهِ قَوْله: (فَمَا نشبت) أَي: فَمَا لَبِثت قَوْله أحب إِلَى آخِره، وَكَانَت أحب لما فِيهَا من مغفرته مَا تقدم وَمَا تَأَخّر وإتمام النِّعْمَة عَلَيْهِ وَالرِّضَا عَن أَصْحَابه تَحت الشَّجَرَة، وَالله أعلم.

31 - (بابُ فَضْلِ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ بَاب.
فِيهِ: عَمْرَة عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: فِي فضل {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) رَوَت عمر بنت عبد الرَّحْمَن عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْكرْمَانِي: وَلما لم يكن على طَريقَة شَرط البُخَارِيّ لم يَنْقُلهُ بِعَيْنِه فَاكْتفى بالأخبار عَنهُ إِجْمَالا قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل هَذَا على شَرطه، وَقد أخرجه بِتَمَامِهِ فِي أول كتاب التَّوْحِيد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا أَحْمد بن صَالح حَدثنَا ابْن وهب حَدثنَا عَمْرو عَن ابْن أبي هِلَال أَن أَبَا الرِّجَال مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن حَدثهُ عَن أمه عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن وَكَانَت فِي حجرَة عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا على سَرِيَّة وَكَانَ يقْرَأ لأَصْحَابه فِي صلَاته فيختم ب {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) الحَدِيث، وَفِي آخِره: أَخْبرُوهُ أَن الله يُحِبهُ.

3105 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِك عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عبْدِ الله بن عبْدِ الرَّحْمانِ ابْن أبي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ رجُلاً سَمِعَ رجلا يقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُها، فلَمَّا أصبَحَ جاءَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَكَرَ ذالكَ لهُ، وكأنَّ الرَّجُلَ يَتَقالُّها. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالَّذِي نَفْسي بيَدِه، إنَّها لتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، كَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأ وَرَوَاهُ أَبُو صَفْوَان الْأمَوِي عَن مَالك، فَقَالَ: عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة عَن أَبِيه. أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَالصَّوَاب هُوَ الَّذِي فِي الصَّحِيح وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ الصَّوَاب عبد الرَّحْمَن بن عبد الله، بَعْدَمَا رُوِيَ هَذَا الحَدِيث.
قَوْله: (أَن رجلا سمع رجلا) الرجل السَّامع كَانَ أَبُو

(20/32)


سعيد الْخُدْرِيّ رَاوِي الحَدِيث، وَالرجل القارىء قتاذة بن النُّعْمَان. قَوْله: (يُرَدِّدهَا) أَي: يكررها. قَوْله: (يتقالها) بتَشْديد اللَّام، أَي: يعد أَنَّهَا قَليلَة، فِي رِوَايَة ابْن الطباع. كَأَنَّهُ يقللها، وَفِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان عَن مَالك: فَكَأَنَّهُ يستقلها وَالْمرَاد اسْتِقْلَال قِرَاءَته لَا التنقيص. قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن قِرَاءَة {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) لتعدل ثلث الْقُرْآن.
وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ. فَقَالَ الْمَازرِيّ: الْقُرْآن ثَلَاثَة أنحاء: قصَص وَأَحْكَام وصفات الله، عز وَجل، وَهَذِه السُّورَة متمحضة للصفات، وَهِي ثلث وجزء من الثَّلَاثَة، وَقيل: ثَوَابهَا يُضَاعف بِقدر ثَوَاب ثلث الْقُرْآن بِغَيْر تَضْعِيف، وَقيل: الْقُرْآن لَا يتَجَاوَز ثَلَاثَة أَقسَام: الْإِرْشَاد إِلَى معرفَة ذَات الله تَعَالَى، وَمَعْرِفَة أَسمَاء وَصِفَاته وَمَعْرِفَة أَفعاله وسننه، وَلما اشْتَمَلت هَذِه السُّورَة على التَّقْدِيس وازنها رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، بِثلث الْقُرْآن. وَقيل: إِن من عمل بِمَا تضمنته من الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ والإذعان بالخالق كمن قَرَأَ ثلث الْقُرْآن، وَقيل: قَالَ ذَلِك لشخص بِعَيْنِه قَصده رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَقَالَ أَبُو عمر: نقُول بِمَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا نعده وَنكل مَا جهلناه من مَعْنَاهُ فنره إِلَيْهِ، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا نَدْرِي لم تعدل هَذِه ثلث الْقُرْآن. وَقَالَ ابْن رَاهَوَيْه: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن لَو قَرَأَ الْقُرْآن كُله كَانَت قِرَاءَة {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) تعدل ذَلِك إذاقرأها ثَلَاث مَرَّات، لَا، وَلَو قَرَأَهَا أَكثر من مِائَتي مرّة. وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: لَعَلَّ الرجل الَّذِي بَات يُرَدِّدهَا كَانَت مُنْتَهى حفظه فجَاء يقلل عمله، فَقَالَ لَهُ سيدنَا رَسُوله الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّهَا التعدل ثلث الْقُرْآن ترغيبا فِي عمل الْخَيْر، وَإِن قل: وَللَّه عز وَجل أَن يجازي عَبده على الْيَسِير بِأَفْضَل مِمَّا يجازي لكثير. وَقَالَ الْأصيلِيّ: مَعْنَاهُ يعدل ثَوَابهَا ثلث الْقُرْآن لَيْسَ فِيهِ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) وَأما تَفْضِيل كَلَام رَبنَا بعضه على بعض فَلَا، لِأَنَّهُ كُله صفة لَهُ، وَهَذَا مَا ماشٍ على أحد المذهبين أَنه لَا تَفْضِيل فِيهِ، وَنَقله الْمُهلب عَن الْأَشْعَرِيّ وَأبي بكربن أبي الطّيب وَجَمَاعَة عُلَمَاء السّنة. فَإِن قلت: فِي مُسْند ابْن ووهب عَن ابْن لَهِيعَة عَن الْحَارِث بن يزِيد عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: بَات قَتَادَة بن النُّعْمَان يقْرَأ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) حَتَّى أصبح، فَذكرهَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أَنَّهَا لتعدت ثلث الْقُرْآن أَو نصفه. قلت: قَالَ أَبُو عمر: هَذَا شكّ من الرواي لَا يجوز أَن يكون شكا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنَّهَا لَفْظَة غير مَحْفُوظَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا فِي غَيره وَالصَّحِيح الثَّابِت فِي هَذَا الحَدِيث وَغَيره أَنَّهَا لتعدل ثلث الْقُرْآن من غير شكّ، وَقد رُوِيَ ثلث الْقُرْآن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أبي بن كَعْب وَعمر، ذكرهمَا أَبُو عمر وَأَبُو أَيُّوب وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ وَسماك عَن النُّعْمَان بن بشير وَأَبَان عَن أنس.

4105 - وزَادَ أبُو مَعْمَرٍ: حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفرٍ عنْ مالِكِ بنِ أنَسٍ عنْ عبْدِ الرحْمانِ بنِ عبْدِ الله بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي صَعْصَعَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ أخي قَتادَةُ بنُ النّعْمَانِ أنَّ رجُلاً قامَ فِي زَمَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأُ مِنَ السَّحَرِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاص: 1) لَا يَزِيدُ علَيْها، فلَمَّا أصْبَحْنا أتَى رجُلٌ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ.
أَبُو معمر هَذَا هُوَ عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري، قَالَه الدمياطي. وَقَالَ ابْن عَسَاكِر والمزي: هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن معمر بن الْحسن أَبُو معمر الْهُذلِيّ الْهَرَوِيّ، سكن بَغْدَاد وَجزم بِهِ صَاحب التَّلْوِيح، وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: كَذَا وَقع لشَيْخِنَا، يَعْنِي: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم واستصوب بَعضهم مَا قَالَه ابْن عَسَاكِر والمزي، وَقَالَ: وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا يكنى أَبَا معمر هما من شُيُوخ البُخَارِيّ لِأَن هَذَا الحَدِيث يعرف الْهُذلِيّ بل لايعرف للمنقري عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر شَيْئا. قلت: كلا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمل وترجيح أَحدهمَا بِعَدَمِ علمه للمنقري عَن إِسْمَاعِيل رِوَايَة لَا يسْتَلْزم نفي علم غَيره بذلك.
وَأما هَذَا التَّعْلِيق فقد وَصله النَّسَائِيّ والإسماعيلي من طرق عَن أبي عمر عَن إِسْمَاعِيل إِلَى آخِره.
قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو سِيَاق الحَدِيث الْمَذْكُور. قَوْله: (يقْرَأ من السحر) أَي: فِي السحر، أَو كلمة: من، بَيَانِيَّة.

5105 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْص حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ حَدثنَا إبْرَاهيمُ والضَّحَّاك المِشْرَقِيُّ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأصْحابِهِ: أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أَن يقرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ

(20/33)


فِي لَيْلَةٍ؟ فَشَقَّ ذالِكَ عَلَيْهِمْ وقالُوا: أَيّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رسولُ الله؟ فَقَالَ: الله الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الله الْوَاحِد الصَّمد ثلث الْقُرْآن) ، وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَن الضَّحَّاك بن شرَاحِيل، وَيُقَال: ابْن شُرَحْبِيل وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر يَأْتِي فِي كتاب الْأَدَب وَحكى الْبَزَّار أَن بَعضهم زعم أَنه الضَّحَّاك بن مزاجم وَهُوَ غلط.
قَوْله: (المشرقي) بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: نِسْبَة إِلَى مشرق بن زيد بن جشم بن حاشد، بطن من هَمدَان، وَهَكَذَا ضَبطه العسكري. وَقَالَ: من فتح الْمِيم فقد صحف، فَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ابْن أبي حَاتِم فَإِنَّهُ قَالَ: مشرق مَوضِع بِالْيمن، وَضَبطه بِفَتْح الْمِيم وَكسر الرَّاء الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن مَاكُولَا وتبعهما السَّمْعَانِيّ فِي مَوضِع، ثمَّ ذهل فَذكره بِكَسْر الْمِيم، كَمَا قَالَ العسكري، لَكِن جعل قافه فَاء ورد عَلَيْهِ ابْن الْأَثِير فَأصَاب فِيهِ. قَوْله: (أَيعْجزُ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. ويعجز بِكَسْر الْجِيم لِأَنَّهُ من بَاب ضرب يضْرب. وَأما عجزت الْمَرْأَة تعجز من بَاب نصر ينصر فَمَعْنَاه: صَارَت عجوزا بِفَتْح الْعين وعجوز بِالضَّمِّ مصدر عُجزت الْمَرْأَة وَأما عجزت الْمَرْأَة بِكَسْر الْجِيم تعجز من بَاب علم يعلم عَجزا بِفتْحَتَيْنِ وعجزا بِضَم الْعين وَسُكُون الْجِيم فَمَعْنَاه: عظمت عجيزتها. قَوْله: (الْوَاحِد الصَّمد) كِنَايَة عَن {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) فِيهَا ذكر الإل هية والوحدة والصمدية، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن الْأَعْمَش فَقَالَ: يقْرَأ {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) فَهِيَ ثلث الْقُرْآن.
قَالَ الفِرَبْرِي: سمِعْتُ أَبَا جَعْفرٍ مُحَمَّدَ بنَ أبي حاتِم ورَّاقَ أبي عبْدِ الله يقُولُ: قَالَ أبُو عبْدِ الله: عنْ إبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ. وعنِ الضَّحَّاكِ المِشْرَقِيِّ مُسْنَدٌ

هَذَا ثَبت عِنْد أبي ذَر عَن شُيُوخه، والفربري هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر بن صَالح بن بشر، ونسبته إِلَى فربر قَرْيَة بَينهَا وَبَين بخاري ثَلَاث مراحل، وَقَالَ: سمع كتاب الصَّحِيح لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل تسعون ألف رجل فَمَا بَقِي أحد يرويهِ غَيْرِي، مَاتَ سنة عشْرين وثلاثمائة، وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أبي حَاتِم كَانَ يورق للْبُخَارِيّ أَي ينْسَخ لَهُ، وَكَانَ من الملازمين لَهُ العارفين بِهِ المكثرين عَنهُ. قَوْله: (وراق أبي عبد الله) . هُوَ البُخَارِيّ. وَكَذَلِكَ قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ. قَوْله: (عَن إِبْرَاهِيم) النَّخعِيّ عَن أبي سعيد (مُرْسل) وَهَذَا مُنْقَطع فِي اصْطِلَاح الْقَوْم، وَلَكِن البُخَارِيّ أطلق على الْمُنْقَطع لفظ الْمُرْسل. قَوْله: (وَعَن الضحك) أَي: الَّذِي يرويهِ عَن ابْن سعيد (مُسْند) يَعْنِي مُتَّصِل.

41 - (بابُ فَضْل المُعَوِّذَاتِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل المعوذات، وَهِي بِكَسْر الْوَاو جمع معوذة وَالْمرَاد بهَا السُّور الثَّلَاث وَهِي: سُورَة الْإِخْلَاص وَسورَة الفلق وَسورَة النَّاس، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الثَّلَاثَة وَأحمد وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان من حَدِيث عقبَة بن عَامر، قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) و {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} (الفلق: 1) و {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} (النَّاس: 1) تعوّذ بِهن فَإِنَّهُ لم يتَعَوَّذ بمثلهن وَفِي لفظ: اقْرَأ المعوذات دبر كل صَلَاة، فَذَكرهنَّ فَإِن قلت: التَّعَوُّذ ظَاهر فِي المعوذتين، وَكَيف هُوَ فِي سُورَة الْإِخْلَاص؟ قلت: لأجل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من صفة الرب أطلق عَلَيْهِ المعوذ وَإِن لم يُصَرح فِيهِ. وَمِنْهُم من ظن أَن الْجمع فِيهِ من بَاب إِن أقل الْجمع اثْنَان. وَلَيْسَ كَذَلِك، فَافْهَم.

6105 - حدَّثناعبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ، رضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إِذا اشْتَكَى يَقْرَأُ علَى نَفْسِهِ بالمُعَوِّذَاتِ ويَنْفُثُ فلَمَّا اشْتَدَّ وجعَهُ كُنْتُ أقْرَأُ علَيْهِ وأمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ وَفِي التَّفْسِير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ عَن سهل بن أبي سهل وَعَن غَيره.
قَوْله: (إِذا اشْتَكَى) أَي: إِذا مرض قَوْله: (ينفث) من النفث وَهُوَ إِخْرَاج الرّيح من الْفَم مَعَ شَيْء من الرِّيق.

(20/34)


7105 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا المُفَضَّلُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا أوَى إِلَى فِرَاشِهِ كلَّ لَيْلةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهما فقَرَأ فِيهِما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاص: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (النَّاس: 1) ثُمَّ يَمْسَحُ بِهما مَا اسْتَطاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِما علَى رَأْسِهِ وَوجْهِهِ وَمَا أقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن الْمفضل على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من التَّفْضِيل ابْن فضَالة بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الْمُعْجَمَة، وَهَذَا الحَدِيث غير الحَدِيث الأول، وجعلهما أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي حَدِيثا وَاحِدًا وَعَابَ ذَلِك عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي وَفرق بَينهمَا فِي كِتَابه، وَكَذَا فعله خلف الوَاسِطِيّ، وأجدر بِهِ أَن يكون صَوَابا لتباينهما.
قَوْله: (إِذا أَوَى) ، يُقَال: أويت إِلَى منزلي، بقصر الْألف، وأويت غَيْرِي وآويته بِالْقصرِ وَالْمدّ. وَأنكر بَعضهم الْمَقْصُور الْمُتَعَدِّي، وأبى ذَلِك الْأَزْهَرِي فَقَالَ: هِيَ لُغَة فصيحة. قَوْله: (يبْدَأ بهما) . إِلَخ. وَعلم الْمُبْتَدَأ من لفظ: يبْدَأ، وَأما الْمُنْتَهى فَلَا يعلم إلاَّ من مُقَدّر تَقْدِيره: ثمَّ يَنْتَهِي إِلَى مَا أدبر من جسده. قَالَ المطهري فِي شرح المصابيح: ظَاهر الحَدِيث يدل على أَنه نفث فِي كَفه أَولا ثمَّ ققرأ وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد وَلَا فَائِدَة فِيهِ. وَلَعَلَّه سَهْو من الرَّاوِي، والنفث يَنْبَغِي أَن يكون بعد التِّلَاوَة ليوصل بركَة الْقُرْآن إِلَى بشرة القارىء أَو المقروء لَهُ، وَأجَاب الطَّيِّبِيّ عَنهُ: بِأَن الطعْن فِيمَا صحت رِوَايَته لَا يجوز، وَكَيف وَالْفَاء فِيهِ مثل مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت القرآة فاستعذ} (النَّحْل: 89) فَالْمَعْنى: جمع كفيه ثمَّ عزم على النفث فِيهِ أَو لَعَلَّ السِّرّ فِي تَقْدِيم النفث فِيهِ مُخَالفَة السَّحَرَة، وَالله أعلم.

51 - (بابُ نُزُولِ السَّكينَةِ والمَلاَئِكَةُ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة نزُول السكينَة، وَعطف عَلَيْهَا الْمَلَائِكَة. قيل: جمع بَينهمَا وَلَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب ذكر السكينَة، وَلَا فِي حَدِيث الْبَراء السَّابِق فِي فضل سُورَة الْكَهْف ذكر الْمَلَائِكَة، وَوجه ذَلِك مَا قَالَه أَبُو الْعَبَّاس بن الْمُنِير: فهم البُخَارِيّ تلازمهما، وَفهم من الظلة أَنَّهَا السكينَة، فَلهَذَا سَاقهَا فِي التَّرْجَمَة. وَقَالَ ابْن بطال: دلّ على أَن السكينَة كَانَت فِي تِلْكَ الظلة وَأَنَّهَا تنزل أبدا مَعَ الْمَلَائِكَة.

8105 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حدّثني يَزِيدُ بنُ الهَادِ عنْ مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وفَرَسُهُ مَرْبُوطٌ عنْدَهُ، إذْ جالَتِ الْفَرَسُ فَسكَتَ فسَكَنَتْ. فَقَرَأ، فَجالَتِ الفَرَسُ فَسكَتَ فَسكَنَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأ فَجالَتِ الفَرَسُ، فانْصَرَفَ وكانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبا منْها فأشْفَقَ أَن تُصِيبَهُ، فَلمَّا اجْتَرَّهُ رفَعَ رأسَهُ إِلَى السَّماءِ حَتَّى مَا يَراها، فَلما أصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لهُ: اقْرَأ يَا ابنَ حُضَيْرٍ، قَالَ: فأشْفَقْتُ يَا رسُولَ الله أنْ تَطأ يَحْيَى وَكَانَ منْها قَرِيبا، فَرَفَعْتُ رأسِي فانْصَرَفْتُ إليْهِ، فرَفَعْتُ رأسِي إِلَى السَّماء فإِذا مثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أمْثالُ المَصابِيحِ، فَخَرَجْتُ حتَّى لَا أرَاها، قَالَ: وتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لصَوْتِكَ، ولَوْ قَرَأتَ لأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إليْها لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ.
مطابقه للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ فهم من الظلة السكينَة، وَأما الْمَلَائِكَة فَفِي قَوْله: (تِلْكَ الْمَلَائِكَة) وَيزِيد من الزِّيَادَة هُوَ ابْن أُسَامَة بن عبد الله بن شَدَّاد بن الْهَاد بِحَذْف الْيَاء للتَّخْفِيف، وَسمي بالهاد لِأَنَّهُ كَانَ يُوقد ناره للأضياف وَلمن سلك الطَّرِيق لَيْلًا، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: وَقيل اسْم شَدَّاد أُسَامَة بن عَمْرو وَشَدَّاد لقب والهاد هُوَ عَمْرو وَقَالَ أَبُو عَمْرو وَكَانَ شَدَّاد بن الْهَاد سلفا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلأبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ كَانَ تَحت سلمى بنت عُمَيْس أُخْت أَسمَاء بنت عُمَيْس وَهِي أُخْت

(20/35)


مَيْمُونَة بنت الْحَارِث لأمها، وَله رِوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سكن الْمَدِينَة ثمَّ تحول إِلَى الْكُوفَة، وَسلف الرجل زوج أُخْت امْرَأَته، وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم هُوَ التَّيْمِيّ من صغَار التَّابِعين وَلم يدْرك أسيد بن حضير فروايته عَنهُ مُنْقَطِعَة، لَكِن الِاعْتِمَاد فِي وصل الحَدِيث الْمَذْكُور على الْإِسْنَاد الثَّانِي وَهُوَ قَوْله: (قَالَ ابْن الْهَاد) على مَا يَجِيء عَن قريب، وَهَذَا الْإِسْنَاد مُنْقَطع ومعلق وَصله أَبُو عبيد فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث بالإسنادين جَمِيعًا.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَغَيره، وَفِي المناقب عَن أَحْمد بن سعيد الريَاحي.
قَوْله: (بَيْنَمَا) كلمة بَين زيدت فِيهَا مَا يُضَاف إِلَى الْجُمْلَة وَيحْتَاج إِلَى الْجَواب، وَهنا جوابها هُوَ قَوْله: (إِذْ جالت الْفرس) يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى وَلِهَذَا قَالَ: (فجالت الْفرس) بالتأنيث وَقَالَ فِي قَوْله: (وفرسه مربوط) بالتذكير. قَوْله: (من اللَّيْل) أَي: فِي اللَّيْل، وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد فِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (بَيْنَمَا هُوَ يقْرَأ فِي مربده) أَي فِي الْمَكَان الَّذِي فِيهِ التَّمْر فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة أبي عبيد أَنه كَانَ يقْرَأ على ظهر بَيته، وَبَينهمَا تغاير قلت: قَوْله: (وفرسه مربوط إِلَى جَانِبه) يرد رِوَايَة ظهر الْبَيْت، إلاَّ أَن يُرَاد بِظهْر الْبَيْت خَارجه لَا أَعْلَاهُ فَيَنْتَفِي التغاير. فَإِن قلت: تقدم فِي بَاب فضل الْكَهْف: كَانَ رجل يقْرَأ سُورَة الْكَهْف وَإِلَى جَانِبه حصان، وَقد قيل: إِن هَذَا الرجل هُوَ أسيد بن حضير، وَإنَّهُ كَانَ يقْرَأ سُورَة الْكَهْف. قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّه قرأهما يَعْنِي السورتين الْكَهْف وَسورَة الْبَقَرَة أَو كَانَ ذَلِك الرجل غير أسيد، هَذَا هُوَ الظَّاهِر. قَوْله: (جالت) من الجولان وَهُوَ الِاضْطِرَاب الشَّديد. قَوْله: (قَرِيبا مِنْهَا) أَي: من الْفرس، يَعْنِي: كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت قَرِيبا مِنْهَا. قَوْله: (فَلَمَّا اجتره) بجيم وتاء مثناة من فَوق وَرَاء مُشَدّدَة، من الاجترار من الْجَرّ أَي: فَلَمَّا جر أسيد ابْنه يحيى من الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ حَتَّى لَا يطَأ الْفرس رفع رَأسه، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: أَخّرهُ، بخاء مُعْجمَة مُشَدّدَة وَرَاء من التَّأْخِير أَي: أَخّرهُ من الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ خشيَة عَلَيْهِ. قَوْله: (يَا ابْن حضير) وَقع مرَّتَيْنِ أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقِرَاءَةِ فِي الِاسْتِقْبَال والحض عَلَيْهَا، أَي: كَانَ يَنْبَغِي أَن تستمر على الْقِرَاءَة وتغتنم مَا حصل لَك من نزُول السكينَة وَالْمَلَائِكَة، وَالدَّلِيل على طلب دوَام الْقِرَاءَة جَوَابه: بِأَنِّي خفت إِن دمت عَلَيْهَا أَن يطَأ الْفرس وَلَدي. قَوْله: (وَكَانَ مِنْهَا) أَي: وَكَانَ يحيى قَرِيبا من الْفرس. قَوْله: (مثل الظلة) بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة: شَيْء مثل الصّفة، فَأول بسحابة نظل. قَوْله: (فَخرجت) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم. ويروى بِلَفْظ الغائبة، فَقيل: صَوَابه فعرجت بِالْعينِ. قَوْله: (دنت) أَي: قربت لصوتك، وَكَانَ حسن الصَّوْت وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: اقْرَأ أسيد فقد أُوتيت من مَزَامِير آل دَاوُد. قَوْله: (وَلَو قَرَأت) وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ليلى: إِمَّا إِنَّك لَو مضيت. قَوْله: (لَا تتوارى مِنْهُم) أَي: لَا تستتر من النَّاس، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وَفِي رِوَايَة ابْن أبي ليلى: لرأيت الْأَعَاجِيب، وَفِيه جَوَاز رُؤْيَة بني آدم الْمَلَائِكَة فالمؤمنون يرونهم رَحْمَة وَالْكفَّار عذَابا، لَكِن بِشَرْط الصّلاح وَحسن الصَّوْت، وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا نَشأ عَن قِرَاءَة خَاصَّة من سُورَة خَاصَّة بِصفة خَاصَّة، وَلَو كَانَ على الْإِطْلَاق لحصل ذَلِك لكل قارىء.
وَفِيه: فَضِيلَة أسيد، وفضيلة قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة فِي صَلَاة اللَّيْل.
قَالَ ابنُ الهَادِ. حدّثنيهذا الحَدِيثَ عبدُ الله بنُ خَبابٍ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عنْ أُسَيْد بنِ حُضَيْرٍ

هَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي عَلَيْهِ الْعُمْدَة لِأَن ابْن الْهَاد رَوَاهُ هُنَا عَن عبد الله بن خباب على وزن فعال بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة مولى بن عدي بن النجار الْأنْصَارِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن أسيد بن حضير، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو نعيم الْحَافِظ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن خَلاد حَدثنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن ملْحَان، حَدثنَا يحيى بن بكير، حَدثنَا اللَّيْث بن سعد حَدثنِي يزِيد بن الْهَاد.

61 - (بابُ: مَنْ قَالَ لَمْ يتْرُكِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ مَا بَيْنَ الدَّفَتَيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من قَالَ إِلَى آخِره، وَقد ترْجم لهَذَا الْبَاب للرَّدّ على الروافض الَّذين ادعوا أَن كثيرا من الْقُرْآن ذهب لذهاب حَملته وَأَن التَّنْصِيص على إِمَامَة عَليّ بن أبي طَالب واستحقاقه الْخلَافَة عِنْد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ثَابتا فِي الْقُرْآن، وَأَن الصَّحَابَة كتموه، وَهَذِه دَعْوَى بَاطِلَة مَرْدُودَة وحاشا الصَّحَابَة عَن ذَلِك. قَوْله: (إلاَّ مَا بَين الدفتين) أَي: الْقُرْآن

(20/36)


الْمَكْتُوب بَين دفتي الْمَصَاحِف، وَهِي تَثْنِيَة دفة بِفَتْح الدَّال وَتَشْديد الْفَاء قَالَ فِي الْمغرب: الدفة الْجنب وَكَذَلِكَ الدُّف: وَمن دفتا السرج للوحين اللَّذين يقعان على جَنْبي الدَّابَّة، ودفتا الْمُصحف اللَّتَان ضمتاه من جانبيه، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الجلدان اللَّذَان بَين جَانِبي الْمُصحف، وَقيل: ترك من الحَدِيث أَكثر من الْقُرْآن. وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَا ترك مَكْتُوبًا بأَمْره إلاَّ الْقُرْآن. وَقيل: قد تقدم فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. من حَدِيث الشّعبِيّ عَن أبي جُحَيْفَة، قَالَ: قلت لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل عنْدكُمْ كتاب؟ قَالَ: لَا إلاَّ كتاب الله، أَو فهم أعْطِيه رجل مُسلم، أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة الحَدِيث وَأجِيب بِأَنَّهُ لَعَلَّهَا لم تكن مَكْتُوبَة بِأَمْر رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يُجَاب بِأَن بعض النَّاس كَانُوا يَزْعمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أوصى إِلَيّ عَليّ، فالسؤال هُوَ عَن شَيْء يتَعَلَّق بِذكر الْإِمَامَة فَقَالَ: مَا ترك شَيْئا مُتَعَلقا بِذكر الْإِمَامَة إلاَّ مَا بَين الدفتين من الْآيَات الَّتِي يتَمَسَّك بهَا فِي الْأمة. وَهَذَا حسن وَفِي التَّلْوِيح: (إلاَّ مَا بَين الدفتين) يحْتَمل أَنه مَا ترك شَيْئا من الدُّنْيَا أَو مَا ترك علما مسطورا سوى الْقُرْآن الْعَزِيز.

9105 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنا وشَدَّادُ بنُ مَعْقلٍ علَى ابنِ عبَّاسٍ، رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ شدَّادُ بنُ مَعْقلٍ: أتَرَكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مِنْ شَيْء؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إلاَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتيْنِ. قَالَ: ودَخَلْنا علَى مُحَمَّدٍ بنِ الْحَنِفِيَّة فَسألْناهُ، فَقَالَ: مَا تَرَكَ إلاَّ مَا بَيْن الدَّفَتَيْنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد ذكر هَذَا الحَدِيث فِي الِاسْتِدْلَال على الروافض وَبَيَان بطلَان دَعوَاهُم بقول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَهُوَ ابْن عَليّ بن أبي طَالب الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنَفِيَّة، وَهِي خَوْلَة بنت جَعْفَر من نَبِي حنيفَة، وَكَانَت سبي الْيَمَامَة الَّذين سباهم أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبقول عبد الله بن عَبَّاس: وَفِيه نُكْتَة لطفية من البُخَارِيّ حَيْثُ اسْتدلَّ على الروافض فِي بطلَان مَذْهَبهم بِمُحَمد بن الْحَنَفِيَّة الَّذين يدعونَ إِمَامَته. فَلَو كَانَ شَيْء يتَعَلَّق بإمامة أَبِيه عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما كَانَ يَسعهُ كِتْمَانه لجلاله قدره وَقُوَّة دينه، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بقول ابْن عَبَّاس: فَإِنَّهُ ابْن عمر عَليّ بن أبي طَالب وَأَشد النَّاس لَهُ لُزُوما وإطلاعا على حَاله، فَلَو كَانَ عِنْده شَيْء من ذَلِك مَا وَسعه كِتْمَانه لِكَثْرَة علمه وَقُوَّة دينه وجلالة قدره. وَأخرج هَذَا الحَدِيث عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء الْأَسدي الْمَكِّيّ، سكن الْكُوفَة وَمَات بعد الثَّلَاثِينَ وَمِائَة، وَشَدَّاد على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ ابْن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: الْأَسدي الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير من أَصْحَاب ابْن مَسْعُود، عَليّ بن أبي طَالب، وَلم يَقع لَهُ ذكر فِي البُخَارِيّ إِلَّا فِي هَذَا الْموضع.
قَوْله: (اترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (من شَيْء) فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: شَيْئا سوى الْقُرْآن. قَوْله: (قَالَ: ودخلنا) الْقَائِل هُوَ عبد الْعَزِيز بن رفيع.

71 - (بابُ فَضْلِ القُرْآنِ علَى سائِرِ الكَلاَمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام، وَقد وَقع مثل لفظ هَذِه التَّرْجَمَة فِي حَدِيث أخرجه ابْن عدي من رِوَايَة شهر بن حَوْشَب عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه فِي إِسْنَاده عمر بن سعيد الْأَشَج وَهُوَ ضَعِيف.

0205 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خالِدٍ أبُو خالِدٍ حدَّثنا هَمَّامٌ حَدثنَا قَتادَةُ حَدثنَا أنَسٌ عنْ أبي مُوسى اعن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُها طيِّبٌ ورِيحُها طَيِّبٌ والَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآن كالتَّمْرَةِ طَعْمُها طيِّبٌ وَلَا ريحَ لَها، ومَثَلُ الْفاجِرِ الَّذِي يقْرَأُ القُرْآن كمَثَلِ الريْحانَةِ

(20/37)


رِيحُها طيِّبٌ وطَعْمُها ومَثَلُ الْفاجِرِ الَّذِي لَا يٌ قْرَأُ القُرْآنَ كمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، طَعْمُها مُر وَلَا رِيحَ لَها.
قيل: الحَدِيث فِي بَيَان فضل قارىء الْقُرْآن، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض إِلَى ذكر فضل الْقُرْآن. قلت: لما كَانَ لقارىء الْقُرْآن فضل كَانَ لِلْقُرْآنِ فضل أقوى مِنْهُ، لِأَنَّهُ الْفضل للقارىء إِنَّمَا يحصل من قِرَاءَة الْقُرْآن فتأتي مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ وَرِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ وَهِي رِوَايَة قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن هدبة، وَعَن غَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد بِهِ وَعَن عبيد الله بن معَاذ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن قُتَيْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن عبيد الله بن سعيدوفي الْأَيْمَان عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار.
قَوْله: (مثل الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن) إِلَى آخِره إعلم أَن هَذَا التَّشْبِيه والتمثيل فِي الْحَقِيقَة وصف اشْتَمَل على معنى مَعْقُول صرف لَا يبرزه عَن مكنونة إلاَّ تَصْوِيره بالمحسوس الْمشَاهد، ثمَّ إِن كَلَام الله الْمجِيد لَهُ تَأْثِير فِي بَاطِن العَبْد وَظَاهره، وَإِن الْعباد متفاوتون فِي ذَلِك، فَمنهمْ من لَهُ النَّصِيب الأوفر من ذَلِك التَّأْثِير وَهُوَ الْمُؤمن القارىء، وَمِنْهُم من لَا نصيب لَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ الْمُنَافِق الْحَقِيقِيّ، وَمِنْهُم من تأثر ظَاهره دون بَاطِنه وَهُوَ الْمرَائِي أَو بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الْمُؤمن الَّذِي لم يقرأه، وإبراز هَذِه الْمعَانِي وتصويرها فِي المحسوسات مَا هُوَ مَذْكُور فِي الحَدِيث وَلم يجد مَا يُوَافِقهَا ويلايمها أقرب وَلَا أحسن وَلَا أجمع من ذَلِك لِأَن المشبهات والمشبه بهَا وَارِدَة على التَّقْسِيم الْحَاضِر، لِأَن النَّاس إِمَّا مُؤمن أَو غير مُؤمن وَالثَّانِي إِمَّا مُنَافِق صرف أَو مُلْحق بِهِ، وَالْأول إِمَّا مواظب عَلَيْهَا، فعلى هَذَا قس الأثمار الْمُشبه بهَا وَوجه التَّشْبِيه فِي الْمَذْكُورَات مركب منتزع من أَمريْن محسوسين: طعم وريح، وَقد ضرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمثل بِمَا تنبته الأَرْض ويخرجه الشّجر للمشابهة الَّتِي بَينهَا وَبَين الْأَعْمَال فَإِنَّهَا من ثَمَرَات النُّفُوس، فحص مَا يُخرجهُ الشّجر من الأترجة وَالتَّمْر بِالْمُؤمنِ، وَبِمَا تنبته الأَرْض من الحنظلة والريحانة بالمنافق تَنْبِيها على علو شَأْن الْمُؤمن وارتفاع علمه ودوام ذَلِك، وتوقيفا على ضعة شَأْن الْمُنَافِق وإحباط عمله وَقلة جدواه. قَوْله: (مثل الَّذِي يقْرَأ) فِيهِ إِثْبَات الْقِرَاءَة على صِيغَة الْمُضَارع، وَفِي قَوْله: (لَا يقْرَأ) بِالنَّفْيِ لَيْسَ المُرَاد مِنْهَا حُصُولهَا مرّة ونفيها بِالْكُلِّيَّةِ بل المُرَاد مِنْهَا الِاسْتِمْرَار والدوام عَلَيْهَا، وَأَن الْقِرَاءَة دأبه وعادته وَلَيْسَ ذَلِك من هجيراه كَقَوْلِه: فلَان يقري الضَّيْف ويحمي الْحَرِيم. قَوْله: (كالأترجة) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم الرَّاء وَتَشْديد الْجِيم وَقد تخفف، ويروى اترنجة، بالنُّون الساكنة بعد الرَّاء. وَحكى أَبُو زيد: ترنجة وترنج وترج، وَجه التَّشْبِيه بالأترنجة لِأَنَّهَا أفضل مَا يُوجد من الثِّمَار فِي سَائِر الْبلدَانِ، وأجدى لأسباب كَثِيرَة جَامِعَة للصفات الْمَطْلُوبَة مِنْهَا، والخواص الْمَوْجُودَة فِيهَا فَمن ذَلِك كبر جرمها وَحسن منظرها وَطيب مطعمها ولين ملمسها تَأْخُذ الْأَبْصَار صبغة ولونا فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين تتوق إِلَيْهَا النَّفس قبل التَّنَاوُل تفِيد آكلها بعد الالتذاذ بذوقها طيب نكهة ودباغ معدة وهضم اشْتِرَاك الْحَواس الْأَرْبَع الْبَصَر والذوق والشم واللمس فِي الاحتظاء بهَا ثمَّ إِن أجزاءها تَنْقَسِم على طبائع: قشرها حَار يَابِس، ولحمها حَار وَرطب، وحماضها بَارِد يَابِس، وبرزها حَار مجفف، وفيهَا من الْمَنَافِع مَا هُوَ مَذْكُور فِي الْكتب الطبية. قَوْله: (وَلَا ريح لَهَا) ويروي فِيهَا. قَوْله: (وَمثل الْفَاجِر) أَي: الْمُنَافِق. قَوْله: كَمثل الحنظلة طعمها مر وَلَا ريح لَهَا، وَوَقع فِي التِّرْمِذِيّ كَمثل الحنظلة طعهمها مر وريحها مر. قيل: الَّذِي عِنْد البُخَارِيّ أحسن لِأَن الرّيح لَا طعم لَهُ إِذْ المرارة عرض وَالرِّيح عرض وَالْعرض لَا يقوم بِالْعرضِ وَوجه هَذَا بِأَن رِيحهَا لما كَانَ كريها استعير للكراهة لفظ المرارة لما بَينهمَا من الْكَرَاهَة الْمُشْتَركَة.

1205 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ عنْ يَحْيى عنْ سُفْيانَ حدّثني عبْدُ الله بنُ دِينارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إنَّما أجَلُكُمْ فِي أجَلِ مَنْ خلاَ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ ومَغْرِبِ الشَّمْسِ ومَثَلُكُمْ ومَثَلُ اليَهُودِ والنَّصارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً. فَقَالَ:

(20/38)


مَن يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهارِ علَى قِيرَاطٍ فَعَلِمَتِ اليَهُودُ. فَقَالَ: منْ يَعمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهارِ إِلَى العَصْرِ علَى قيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ النَّارَى، ثُمَّ أنْتُمْ تَعلَمونَ مِنَ العَصْرِ إِلَى المَغْرِبِ بِقِيرَاطِيْنَ قِيرَاطَيْنِ. قالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً وأقَلُّ عَطاءً. قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَاكَ فَضْلي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا قيل مَعَ إصْلَاح الْفَقِير إِيَّاه من أَن ثُبُوت فضل هَذِه الْأمة على غَيرهَا من الْأُمَم بِالْقُرْآنِ الَّذِي أمروا بِالْعَمَلِ بِهِ. فَإِذا ثَبت الْفضل بِالْقُرْآنِ فضل لَا فضل فَوْقه، وَتَأْتِي الْمُطَابقَة من هَذِه الْجِهَة. وَإِن كَانَ فِيهِ بعض تعسف.
وَأخرج الحَدِيث عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخِره، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب من أدْرك رَكْعَة من الْعَصْر، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفِي.

81 - (بابُ الوَصَايَةِ بِكتابِ الله عَزَّ وجَلَّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوِصَايَة بِكِتَاب الله عز وَجل بِالْهَمْزَةِ بعد الْألف وبالياء آخر الْحُرُوف وَفتح الْوَاو وَكسرهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، بَاب الْوَصِيَّة، وَالْمرَاد بِالْوَصِيَّةِ بِكِتَاب الله حفظه حسا وَمعنى، وإكرامه وصونه، وَلَا يُسَافر بِهِ إِلَى أَرض الْعَدو، وَيتبع مَا فِيهِ فَيعْمل بأوامره ويجتنب نواهيه ويداوم تِلَاوَته وتعلمه وتعليمه، وَنَحْو ذَلِك.

2205 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا مالِكُ بنُ مِغوَلٍ حدَّثنا طَلْحَةُ قَالَ: سألْتُ عبدَ الله بنِ أبي أوْفَى آوْصَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ على النَّاسِ الوَصيَّةُ امرُوا بِها ولَمُ يُوصِ؟ قَالَ: أوْصَى بِكِتابِ الله.
(انْظُر الحَدِيث 5472 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أوصى بِكِتَاب الله) وَمَالك بن مغول، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو، وَفِي آخِره لَام: البَجلِيّ، وَطَلْحَة بن مصرف على وزن اسْم فَاعل من التصريف اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَاسم أبي أَو فِي عَلْقَمَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْوَصَايَا عَن خَلاد بن يحيى وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي نعيم، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بِكِتَاب الله) قيل إِنَّه منَاف لقَوْله: (لَا) وَأجِيب بِأَنَّهُ مَخْصُوص بِمَا يتَعَلَّق بِالْمَالِ أَو بِأَمْر الْخلَافَة.

91 - (بابُ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرْآنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم ير التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ. وَهَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام من طَرِيق ابْن جريج عَن ابْن شهَاب بِسَنَد حَدِيث الْبَاب بِلَفْظ: من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ منا، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن قَول الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: الحَدِيث أثبت التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ، فَلم ترْجم الْبَاب بقوله: من لم يَتَغَنَّ؟ بِصُورَة النَّفْي، وَفِي جَوَابه: هُوَ وهم وَذُهُول حَيْثُ قَالَ. قلت: أما بِاعْتِبَار مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ منا، فَأَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك الحَدِيث، وَلما لم يكن بِشَرْطِهِ لم يذكرهُ انْتهى وَجه الْوَهم أَنه قَالَ: وَلما لم يكن بِشَرْطِهِ، فَكيف يَقُول ذَلِك وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام كَمَا ذَكرْنَاهُ؟ وَيَأْتِي عَن قريب تَفْسِير التَّغَنِّي.
وقَوْلِهِ تَعَالَى: { (29) أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} (العنكبوت: 15)

وَقَوله تَعَالَى، مجرور عطفا على قَوْله: من لم يَتَغَنَّ لِأَنَّهُ فِي مَحل الْجَرّ بِإِضَافَة لفظ بَاب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أورد هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى أَن معنى التَّغَنِّي الِاسْتِغْنَاء لِأَن مَضْمُون الْآيَة الْإِنْكَار على من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ عَن غير من الْكتب السالفة، وَهِي نزلت فِي قوم آتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِكِتَاب فِيهِ خبر من أَخْبَار الْأُمَم، فَالْمُرَاد بِالْآيَةِ الِاسْتِغْنَاء بِالْقُرْآنِ عَن أَخْبَار الْأُمَم، وَلَيْسَ المُرَاد بهَا الِاسْتِغْنَاء الَّذِي هُوَ ضد الْفقر وَاتبع البُخَارِيّ التَّرْجَمَة بِهَذِهِ الْآيَة ليدل على أَن هَذَا

(20/39)


مَذْهَب فِي الحَدِيث، وَهُوَ مُوَافق لتأويل سُفْيَان، يتَغَنَّى بِهِ، لكنه حمله على ضد الْفقر، وَالْبُخَارِيّ حمله على مَا هُوَ أَعم من ذَلِك، وَهُوَ إِلَّا كتفاء مُطلقًا.

3205 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حدّثني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهاب قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سلَمَةَ بنُ عبدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عَنهُ، أنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَمْ يأذَنِ الله لشَيْء مَا أذِنَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَتَغَنَّى بالقرْآنِ.
وَقَالَ: صاحبٌ لهُ يريدُ يَجْهَرُ بِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه فِي التَّوْحِيد أَيْضا.
قَوْله: (للنَّبِي) بالنُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة رُوَاة البُخَارِيّ كلهم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: لشَيْء، بالشين الْمُعْجَمَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم فِي جَمِيع طرقه. قَوْله: (مَا أذن للنَّبِي) بِالْألف وَاللَّام عِنْد أبي ذَر، وَعَن، غَيره لنَبِيّ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَقَالَ بَعضهم: فَإِن كَانَت مَحْفُوظَة بِالْألف وَاللَّام فَهِيَ للْجِنْس وَوهم من ظَنّهَا للْعهد، وتوهم أَن المُرَاد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا أذن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَشَرحه على ذَلِك. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره عين الْوَهم، وَالْأَصْل فِي الْألف وَاللَّام أَن يكون للْعهد خُصُوصا فِي الْمُفْرد، وعَلى مَا ذكره يفْسد الْمَعْنى لِأَنَّهُ يكون على هَذِه الصُّورَة لم يَأْذَن الله لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء مَا أذن لجنس النَّبِي وَهَذَا فَاسد. قَوْله: (أَن يبتغى) كَذَا فِي رِوَايَة الْكل بِلَفْظَة: أَن وَفِي رِوَايَة أبي نعيم من وَجه آخر: عَن يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ بِدُونِ: أَن وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن الصَّوَاب حذف (أَن) وَأَن إِثْبَاتهَا وهم من بعض الروَاة لأَنهم كَانُوا يروون بِالْمَعْنَى، فَرُبمَا ظن بَعضهم الْمُسَاوَاة فَوَقع فِي الْخَطَأ لِأَن الحَدِيث لَو كَانَ بِلَفْظ أَن لَكَانَ من الْإِذْن بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال بِمَعْنى الْإِبَاحَة وَالْإِطْلَاق، وَلَيْسَ ذَلِك مرَادا هُنَا، وَإِنَّمَا هُوَ من الْأذن بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاع. قَوْله: (أذن) أَي: اسْتمع، وَالْحَاصِل أَن لَفْظَة: أذن، بفتحة ثمَّ كسرة فِي الماصي، وَكَذَا فِي الْمُضَارع مُشْتَرك بَين الْإِطْلَاق وَالِاسْتِمَاع تَقول: آذَنت آذن بِالْمدِّ، فَإِن أردْت الْإِطْلَاق فالمصدر بِكَسْر ثمَّ سُكُون، وَإِن أردْت الِاسْتِمَاع فالمصدر أذن بِفتْحَتَيْنِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أصل الْأذن بِفتْحَتَيْنِ أَن المستمع يمِيل بأذنه إِلَى جِهَة من يسمعهُ، وَهَذَا الْمَعْنى فِي حق الله لَا يُرَاد بِهِ ظَاهر، وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل التَّوَسُّع على مَا جرى بِهِ عرف التخاطب، وَالْمرَاد بِهِ فِي حق الله تَعَالَى إكرام القارىء وإجزال ثَوَابه، لِأَن ذَلِك ثَمَرَة الإصغاء.
وَاخْتلفُوا فِي معنى التَّغَنِّي، فَعَن الشَّافِعِي: تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ، وَيُؤَيِّدهُ قَول ابْن أبي مليكَة فِي سنَن أبي دَاوُد إِذا لم يكن حسن الصَّوْت يُحسنهُ مَا اسْتَطَاعَ، وَقيل: يَسْتَغْنِي بِهِ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أَحْمد عَن وَكِيع وَقيل: يَسْتَغْنِي بِهِ عَن أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والكتب الْمُتَقَدّمَة، وَقيل: مَعْنَاهُ التشاغل بِهِ والتغني، وَقيل: ضد الْفقر، وَقيل: من لم يرتح لقرَاءَته وسماعه، وَقَالَ الإِمَام: أوضح الْوُجُوه فِي تَأْوِيله: من لم يغنه الْقُرْآن وَلم يَنْفَعهُ فِي إيمَانه وَلم يصدق بِمَا فِيهِ من وعد ووعيد فَلَيْسَ منا، وَمن تَأَول بِهَذَا التَّأْوِيل كره الْقِرَاءَة بالألحان والترجيع، رُوِيَ ذَلِك عَن أنس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة فِي كتاب الثَّوَاب وَقَالُوا: كَانُوا يكرهونها بتطريب، وَهُوَ قَول مَالك، وَمِمَّنْ قَالَ: المُرَاد بِهِ تَحْسِين الصَّوْت والترجيع بقرَاءَته والتغني بِمَا شَاءَ من الْأَصْوَات واللحون الشَّافِعِي وَآخَرُونَ، وَذكر عمر بن شبة قَالَ: ذكرت لأبي عَاصِم النَّبِيل تَأْوِيل ابْن عُيَيْنَة الَّذِي ذكره عَن قريب، فَقَالَ: مَا يصنع ابْن عُيَيْنَة شَيْئا، حَدثنَا ابْن جريج عَن عَطاء عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: كَانَ لداود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، معزفة يتَغَنَّى عَلَيْهَا ويبكى ويبكى، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يقْرَأ الزبُور بسبعين لحنا وَيقْرَأ قِرَاءَة يطرب مِنْهَا المحموم، فَإِذا أَرَادَ أَن يبكي نَفسه لم تيقدابة فِي بر أَو بَحر إِلَّا أنصتن يسمعن ويبكين، وَمن الْحجَّة لهَذَا القَوْل أَيْضا حَدِيث ابْن مُغفل فِي وصف قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: ثَلَاث مَرَّات، وَهَذَا غَايَة الترجيع، ذكره البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام، وَسُئِلَ الشَّافِعِي عَن تَأْوِيل ابْن عُيَيْنَة، فَقَالَ: نَحن أعلم بِهَذَا لَو أَرَادَ الِاسْتِغْنَاء لقَالَ: من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ، وَلَكِن لما قَالَ: من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، علمنَا أَنه أَرَادَ بِهِ التَّغَنِّي، وَكَذَلِكَ فسره

(20/40)


ابْن أبي مليكَة أَنه تَحْسِين الصَّوْت، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالنضْر بن شُمَيْل، وَمِمَّنْ أجَاز الألحان فِي الْقِرَاءَة فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول لأبي مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ذكّرنا رَبنَا، فَيقْرَأ أَبُو مُوسَى ويتلاحن، وَقَالَ مرّة: من اسْتَطَاعَ أَن يُغني بِالْقُرْآنِ غناء أبي مُوسَى فَلْيفْعَل، وَكَانَ عقبَة بن عَامر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من أحسن النَّاس صَوتا بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أعرض عَليّ سُورَة كَذَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَبكى عمر، وَقَالَ: مَا كنت أَظن أَنَّهَا نزلت، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود، وَرُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَاحْتج بِحَدِيث عبيد بن عُمَيْر، وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن الْأسود بن يزِيد يتتبع الصَّوْت الْحسن فِي الْمَسَاجِد فِي شهر رَمَضَان، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه أَنهم كَانُوا يَسْتَمِعُون الْقُرْآن بألحان، وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الحكم رَأَيْت أبي وَالشَّافِعِيّ ويوسف بن عَمْرو يسمعُونَ الْقُرْآن بألحان، وَاحْتج الطَّبَرِيّ لهَذَا القَوْل، وَأَن معنى الحَدِيث: تَحْسِين الصَّوْت، بِمَا رُوِيَ سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (مَا أذن الله لشَيْء وَمَا أذن لنَبِيّ حسن الترنم بِالْقُرْآنِ) ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: ومعقول: إِن الترنم لَا يكون إلاَّ بالصوت إِذا حسنه وطرب بِهِ وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: تحمل الْأَحَادِيث الَّتِي جَاءَت فِي حسن الصَّوْت على التحزن والتخويف والتشويق، وَرُوِيَ سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن ابْن طَاوس عَن أَبِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ: أَي النَّاس أحسن صَوتا بِالْقُرْآنِ؟ قَالَ: (الَّذِي إِذا سمعته رَأَيْته خشِي الله تَعَالَى وَعند الْآجُرِيّ من حَدِيث عبد الله بن جَعْفَر عَن إِبْرَاهِيم عَن أبي الزبير عَن جَابر يرفعهُ: أحسن النَّاس صَوتا بِالْقُرْآنِ الَّذِي إِذا سمعته يقْرَأ حسبته يخْشَى الله عز وَجل.
قَوْله: (وَقَالَ صَاحب لَهُ) أَي: لأبي سَلمَة، والصاحب هُوَ عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بَينه الزبيدِيّ عَن ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث أخرجه ابْن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي الزهريات من طَرِيقه بِلَفْظ: (مَا أذن الله لشَيْء مَا أذن لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) ، قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سَلمَة يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ، فَكَأَن هَذَا التَّفْسِير لم يسمعهُ ابْن شهَاب من أبي سَلمَة، وسَمعه من عبد الحميد عَنهُ فَكَانَ تَارَة يُسَمِّيه وَتارَة يبهمه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجْهر بِهِ مَعْنَاهُ بتحسين صَوته وتحزينه وترقيقه، وَيسْتَحب ذَلِك مَا لم تخرجه الألحان عَن حد الْقِرَاءَة فَإِن أفرط حَتَّى زَاد حرفا أَو أخْفى حرفا فَهُوَ حرَام.

4205 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سلَمَةَ بن عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا أذنَ الله لشَيْء مَا أذِن لِلنبيِّ أنْ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ. قَالَ سُفْيانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أخرجه عَن عَليّ بن أبي عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي تَفْسِيره أَي تَفْسِير قَوْله: (يتَغَنَّى يسْتَغْنى بِهِ) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.

4205 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سلَمَةَ بن عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَا أذنَ الله لشَيْء مَا أذِن لِلنبيِّ أنْ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ. قَالَ سُفْيانُ: تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِي بِهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور أخرجه عَن عَليّ بن أبي عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة الرَّاوِي تَفْسِيره أَي تَفْسِير قَوْله: (يتَغَنَّى يسْتَغْنى بِهِ) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.

02 - (بابُ اغْتِباطِ صاحِبِ القُرْآنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اغتباط صَاحب الْقُرْآن، والاغتباط من الْغِبْطَة وَهُوَ حسد خَاص، يُقَال: غبطت الرجل أغبطه غبطا إِذا اشْتهيت أَن يكون لَك مثل مَاله، وَأَن يَدُوم عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ، وحسدته أحسده حسدا إِذا اشْتهيت أَن يكون لَك مثله، وَأَن يَزُول عَنهُ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتِرَاض على هَذِه التَّرْجَمَة بِأَن صَاحب الْقُرْآن لَا يغتبط نَفسه بل يغتبطه غَيره، وَأجَاب عَنهُ بَعضهم بِأَن الحَدِيث لما كَانَ دَالا على أَن غير صَاحب الْقُرْآن يغتبط صَاحب الْقُرْآن بِمَا أعْطِيه من الْعَمَل بِالْقُرْآنِ، فاغتباط صَاحب الْقُرْآن بِعَمَل نَفسه أولى. قلت: هَذَا لَيْسَ بِذَاكَ، وَكَيف يُوَجه هَذَا الْكَلَام وَقد علم أَن الْغِبْطَة اشتهاه مثل مَا أعْطى فلَان مثلا، وَكَيف يتَصَوَّر اغتباط من أعْطى مثل مَا أعْطى غَيره، وَالْأَحْسَن فِيهِ أَن يقدر فِي التَّرْجَمَة مَحْذُوف تَقْدِيره: بَاب باغتياط الرجل صَاحب الْقُرْآن، وَلَا يحْتَاج إِلَى تعسفات بعيدَة.

(20/41)


5205 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْريِّ قَالَ: حدّثني سالِمُ بنُ عبدِ الله أنَّ عبْدَ الله بنَ عُمرَ رَضِي الله عَنْهُمَا: قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ: لَا حَسَدَ إلاَّ علَى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتاهُ الله الكِتابَ وقامَ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ، ورَجُلٌ أعْطاهُ الله مَالا فَهْوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا حسد إِلَّا على اثْنَتَيْنِ) ، فَإِن المُرَاد بِالْحَسَدِ هُنَا الْحَسَد الْخَاص وَهُوَ الْغِبْطَة، تدل عَلَيْهِ التَّرْجَمَة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (لَا حسد) أَي: لَا رخصَة فِي الْحَسَد إلاَّ فِي خَصْلَتَيْنِ، قيل: الْحَسَد قد يكون فِي غَيرهمَا فَمَا معنى الْحصْر؟ وَأجِيب بِأَن الْمَقْصُود: لَا حسد جَائِز فِي شَيْء من الْأَشْيَاء إلاَّ فيهمَا وَقيل: أَرْبَد بِالْحَسَدِ شدَّة الْحِرْص وَالتَّرْغِيب. قَوْله: (إلاَّ على اثْنَتَيْنِ) وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم فِي كتاب الْعلم إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، وَكَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْآتِي، وَكلمَة على تَأتي بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة} (الْقَصَص: 51) {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سيلمان} (الْبَقَرَة: 201) أَي: فِي ملكه. قَوْله: (آنَاء اللَّيْل) الآناء جمع أَنِّي مثل معي، قَالَه الْأَخْفَش، وَقيل: أَنى وأنو. يُقَال: مضى أنيان من اللَّيْل وأنوان، وآناء اللَّيْل ساعاته وَلم يذكر فِيهِ النَّهَار وَلم يذكر فِيهِ النَّهَار وَفِي مستخرج أبي نعيم، من طَرِيق أبي بكر بن زَنْجوَيْه عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: آنَاء اللَّيْل وآناء النَّهَار، وَكَذَا أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن يسَار عَن أبي الْيَمَان، وَكَذَا هُوَ عِنْد مُسلم من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ، وَالْمرَاد بِالْقيامِ بِالْكتاب الْعَمَل بِهِ.

6205 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا رَوْحٌ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمانَ سَمِعْتُ ذَكْوَانَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا حَسَدَ إلاّ فِي اثْنَتَيْنِ: رجُلٌ عَلَّمَهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ إناءَ اللّيْلِ وآناءَ النَّهارِ فَسَمِعَهُ جارٌ لهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِي فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، ورَجُلٌ آتاهُ الله مَالا فهْوَ يُهْلِكُهُ فِي الحَقِّ، فَقَالَ رجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلاَنٌ فعَلِمْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ بِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ اخْتلف فِيهِ فَقيل: هُوَ الوَاسِطِيّ فِي قَول الْأَكْثَرين وَاسم جده عبد الْمجِيد الْيَشْكُرِي وَهُوَ ثِقَة متقن عَاشَ بعد البُخَارِيّ نَحْو عشْرين سنة، وَقيل: هُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم نسب إِلَى جده، وَبِهَذَا جزم ابْن عدي، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن مَنْدَه: هُوَ عَليّ بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم، نسب إِلَى جده، وَقَالَ الْحَاكِم: قيل: هُوَ عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْمروزِي وَهُوَ مَجْهُول، وَقيل: الوَاسِطِيّ، وروح هُوَ ابْن عبَادَة، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وذكوان بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة هُوَ أَبُو صَالح السمان.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
قَوْله: (أُوتيت) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وأوتي كَذَلِك كلهَا على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (يهلكه) بِضَم الياءمن الإهلاك. قَوْله: (فِي الْحق) ، قيد لِأَنَّهُ إِذا كَانَ فِي غير الْحق فَلَا غِبْطَة فِيهِ وَالله أعلم.

12 - (بابٌ: خَيْرُكُمْ منْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه وَوضع التَّرْجَمَة من نفس الحَدِيث.

7205 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: أخبرَني عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ سَمعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ عنْ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ السَّلَمِيِّ عنْ عُثْمانَ، رَضِي الله عنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القرْآنَ وعَلَّمَهُ.
التَّرْجَمَة والْحَدِيث وَاحِد. وعلقمة بن مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمُثَلَّثَة وبالدال الْمُهْملَة: الْحَضْرَمِيّ الْكُوفِي، وَسعد بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة الْكُوفِي السّلمِيّ ختن أبي عبد الرَّحْمَن واسْمه عبد الله بن حبيب بن ربيعَة بِالتَّصْغِيرِ السمي الْكُوفِي

(20/42)


القارىء، لِأَبِيهِ صَحبه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن حَفْص ابْن عَمْرو وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن غيلَان وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ وَغَيره وَهنا أَدخل شُعْبَة بَين عَلْقَمَة وَأبي عبد الرَّحْمَن بن سعد بن عُبَيْدَة. وَفِي الحَدِيث الْآتِي خَالف الثَّوْريّ شُعْبَة وَلم يدْخلهُ بَينهمَا، وَقد تَابع شُعْبَة جمَاعَة وعدهم الْحَافِظ أَبُو الْعَلَاء الْحسن بن أَحْمد الْعَطَّار فِي كِتَابه الْهَادِي فِي الْقرَاءَات فَوق الثَّلَاثِينَ مِنْهُم، عبد بن حميد وَقيس بن الرّبيع، قَالَ: وَقد تَابع سُفْيَان أَيْضا جمَاعَة وعدهم فَوق الْعشْرين، مِنْهُم: مسعر وَعَمْرو بن قيس الْملَائي وَأخرج البُخَارِيّ الطَّرِيقَيْنِ، فَكَأَنَّهُ ترجح عِنْده أَنَّهُمَا جَمِيعًا محفوظان: وَرجح الْحفاظ رِوَايَة الثَّوْريّ، وعدوا رِوَايَة شُعْبَة من الْمَزِيد فِي مُتَّصِل الْأَسَانِيد، وَيحمل على أَن عَلْقَمَة سَمعه أَولا من سعد ثمَّ لَقِي أَبَا عبد الرَّحْمَن فحدثه بِهِ أَو سَمعه مَعَ سعد من أبي عبد الرَّحْمَن، فَثَبت فِيهِ سعد.
وَعلل أَبُو الْحسن الْقشيرِي هَذَا الحَدِيث بِثَلَاث علل: الأولى: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور. الثَّانِيَة: وقف من وَقفه، وإرسال من أرْسلهُ. الثَّالِثَة: مَا رُوِيَ عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: لم يسمع أَبُو عبد الرَّحْمَن من عُثْمَان، وَقيل لأبي حَاتِم: أسمع من عُثْمَان قَالَ: رُوِيَ عَنهُ لَا يذكر سَمَاعا. وَأجِيب عَن الأولى: بِأَنَّهُ لَا يُوجب الْقدح فِي الحَدِيث لأَنا نعلم أَن سُفْيَان وَشعْبَة إِذا اخْتلفَا فِي الحَدِيث فَالْحَدِيث حَدِيث سُفْيَان. قَالَ وَكِيع: رُوِيَ شُعْبَة حَدِيثا فَقيل لَهُ: إِن سُفْيَان يخالفك فِيهِ، قَالَ: دعوا حَدِيثي، سُفْيَان أحفظ مني وَعَن الثَّانِيَة: إِن الاعتلال بِالْوَقْفِ والإرسال لَيْسَ بقادح لِأَن الزِّيَادَة عَن الْحَافِظ الثِّقَة مَقْبُولَة إِجْمَاعًا. وَعَن الثَّالِثَة: بِأَن بَعضهم قَالُوا: إِن الأكابر من الصَّدْر الأول قَالُوا: إِن أَبَا عبد الرَّحْمَن قَرَأَ الْقُرْآن على عُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،، فَإِن قلت: رُوِيَ أَبُو الْحسن سعيد بن سَلام الْعَطَّار الْبَصْرِيّ هَذَا الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن أبان عَن عَلْقَمَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان عَن أَبِيه عُثْمَان. قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وهم فِي ذكر أبان فِي إِسْنَاده، فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء: فَإِن ثَبت رِوَايَته فَالْحَدِيث غَرِيب على أَنه يحْتَمل أَن يكون السّلمِيّ سمع الحَدِيث من أبان ثمَّ سَمعه من عُثْمَان نَفسه، وَرُوِيَ عَاصِم بن عَليّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ عَن شُعْبَة عَن مسعر عَن عَلْقَمَة عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن السّلمِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن ثبتَتْ هَذِه الرِّوَايَة فَهُوَ غَرِيب جدا وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحَضْرَمِيّ عَن شريك عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن السّلمِيّ عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وأصحها: عَلْقَمَة عَن سعد عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عُثْمَان مَرْفُوعا، وَقد أدرج بعض الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات يظنّ من لَا علم لَهُ بمساق الحَدِيث إِنَّهَا مَرْفُوعَة، وَهُوَ أَن أَبَا يحيى إِسْحَاق بن سُلَيْمَان الرَّازِيّ رُوِيَ عَن الْجراح بن الضَّحَّاك رُوِيَ عَن الْجراح بن الضَّحَّاك عَن عَلْقَمَة عَن السّلمِيّ عَن عُثْمَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه، وَفضل على سَائِر الْكَلَام كفضل الْخَالِق على الْمَخْلُوق، وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ، وَهَذِه الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ من كَلَام أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ ذَلِك عَامَّة الْحفاظ بَينهَا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَغَيره.
قَوْله: (وَعلمه) بواو الْعَطف عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: أَو علمه، بِكَلِمَة أَو للتنويع لَا للشَّكّ. وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن قِرَاءَة الْقُرْآن أفضل أَعمال الْبر كلهَا، لِأَنَّهُ لما كَانَ من تعلم الْقُرْآن أَو علمه أفضل النَّاس أَو خَيرهمْ دلّ عَليّ على مَا قُلْنَا. فَإِن قلت: إيما أفضل تعلم الْقُرْآن أَو تعلم الْفِقْه؟ قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: تعلم اللَّازِم مِنْهُمَا فرض على الْأَعْيَان، وَتعلم جميعهما فرض على الْكِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ قوم سقط عَن البَاقِينَ، فَإِن فَرضنَا الْكَلَام فِي التزيد مِنْهُمَا على قدر الْوَاجِب فِي حق الْأَعْيَان فالمتشاغل بالفقه أفضل، وَذَلِكَ رَاجع إِلَى حَاجَة الْإِنْسَان لِأَنَّهُ الْفِقْه أفضل من الْقِرَاءَة، وَإِنَّمَا كَانَ القارىء فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الأفقه فَلذَلِك قدم القارىء فِي الصَّلَاة.
قَالَ: وأقْرَأْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ فِي إمْرةِ عُثْمانَ حتَّى كانَ الحَجَّاجُ، قَالَ: وذَاكَ الَّذِي أقْعَدَني مَقْعَدِي هاذَا.
أَي: قَالَ سعد بن عُبَيْدَة أَقرَأ أَبُو عبد الرَّحْمَن من الإقراء يَعْنِي أَقرَأ أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّاس فِي إمرة عُثْمَان بن عَفَّان إِلَى أَن انْتهى إقراؤه النَّاس إِلَى زمن الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَهَذِه مُدَّة طَوِيلَة، وَلم يبين ابْتِدَاء إقرائه، وَلَا انْتِهَاء آخِره على التَّحْرِير، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن بَين أول خلَافَة عُثْمَان وَآخر ولَايَة الْحجَّاج الْعرَاق ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سنة إلاَّ ثَلَاثَة أشهر، وَبَين آخر

(20/43)


خلَافَة عُثْمَان وَأول ولَايَة الْحجَّاج الْعرَاق ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة. قَوْله: (قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي) أَي: قَالَ أَبُو عبد الرخمن السّلمِيّ: وَذَاكَ إِشَارَة إِلَى الحَدِيث الْمَرْفُوع أَي: إِن الحَدِيث الَّذِي حدث بِهِ عُثْمَان فِي أَفضَلِيَّة من تعلم الْقُرْآن وَعلمه حَملَنِي على أَن أقعدني مقعدي هَذَا وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَقْعَده الَّذِي كَانَ يقْرَأ النَّاس فِيهِ. وَفِي الْحَقِيقَة مُرَاده من المعقد الَّذِي أقعد فِيهِ مَنْزِلَته الَّتِي حصلت لع مَعَ طول الْمدَّة ببركة تَعْلِيمه الْقُرْآن الْكَرِيم للنَّاس، وَإِسْنَاده إِلَيْهِ إِسْنَاد مجازي، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا صَرِيحًا مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وحجاج بن مُحَمَّد جَمِيعًا عَن شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سعد بن عُبَيْدَة قَالَ: قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: فَذَاك الَّذِي أقعدني هَذَا المقعد وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ: أَقْرَأَنِي، بِذكر الْمَفْعُول وَهَذَا أنسب لقَوْله: وَذَلِكَ أَي إقراؤه إيَّايَ هُوَ الَّذِي أقعدني فِي هَذَا المقعد الرفيع والمنصب الْجَلِيل، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: إِن الْكرْمَانِي كَأَنَّهُ ظن أَن قَائِل: وَذَاكَ الَّذِي أقعدني، هُوَ سعد بن عُبَيْدَة وَلَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَلَو كَانَ كَمَا ظن للَزِمَ أَن تكون الْمدَّة الطَّوِيلَة سبقت لبَيَان زمَان قِرَاءَة أبي عبد الرَّحْمَن لسعد بن عُبَيْدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك وَأَيْضًا فَكَانَ يلْزم أَن يكون سعد بن عُبَيْدَة قَرَأَ على أبي عبد الرَّحْمَن من زمن عُثْمَان، وَسعد لم يدْرك زمَان عُثْمَان، فَإِن أكبر شيخ لَهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَقد عَاشَ بعد عُثْمَان خمس عشر سنة. انْتهى. قلت: مَا قَالَه هُوَ الصَّوَاب، وَقد تاه الْكرْمَانِي فِي هَذَا، وَمَا اكْتفى بنقله رِوَايَة: أَقْرَأَنِي الني مَا صحت حَتَّى بنى عَلَيْهَا كَلَامه الَّذِي صدر من غير روية.

8205 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَد عنْ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عنْ عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ أفْضَلَكُمْ مَنْ تَعلَّمَ القُرْآنَ أوْ عَلَّمَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 7205) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. أخرجه عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (إِن أفضلكم) ، وَذكر فِي الطَّرِيق الْمَاضِي: خَيركُمْ، وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى لِأَن قَوْله: خَيركُمْ، تَقْدِيره: أخيركم، وَلَا شكّ أَن أخيرهم هُوَ أفضلهم. قَوْله: (أَو علمه) بِكَلِمَة: أَو ثَبت عِنْدهم وَقد ذكرنَا وَجهه، وَوَقع فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق بشر بن السّري عَن سُفْيَان: خَيركُمْ أَو أفضلكم، وَوَقع التنويع بَين الْخَيْرِيَّة والأفضلية كَمَا نرَاهُ.

9205 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ هَوْنِ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: أتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأةٌ فقالَتْ: إنَّها قَدْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلّهِ ولِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَالِي فِي النِّساءِ مِنْ حاجَةٍ، فَقَالَ رجُلٌ: زَوِّجْنِيها. قَالَ: أعْطِها ثَوْبا. قَالَ: لَا أجِدُ. قَالَ: أعْطِها ولوْ هاتَما مِنْ حَديدٍ، فاعْتَلَّ لهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: كذَا وكَذَا. قَالَ: فقَدْ زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ..
قيل مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوج الْمَرْأَة لحُرْمَة الْقُرْآن، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن السِّيَاق يدل على أَنه زَوجهَا لَهُ على أَن يعلمهَا قلت: فِي كل مِنْهُمَا نظر. أما الأول: فَلِأَن التَّرْجَمَة لَيست فِي بَيَان حُرْمَة الْقُرْآن، وَأما الثَّانِي: فدلالته على التَّزْوِيج على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيُمكن أَن يُوَجه الْمُطَابقَة من قَوْله: كَذَا وَكَذَا أَي: سُورَة كَذَا، على مَا وَقع هَكَذَا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ أَن الْفضل ظهر على الرجل بحفظه كَذَا وَكَذَا، سُورَة، وَلم يحصل لَهُ هَذَا الْفضل إلاَّ من فضل الْقُرْآن، فَدخل تَحت قَوْله: (خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن) ، لِأَنَّهُ تعلم وَدخل فِي المتعلمين، وَدخل أَيْضا تَحت قَوْله: (وَعلمه) لِأَنَّهُ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا زوجه إِيَّاهَا على أَن يعلمهَا الْقُرْآن.
وَبَقِي الْكَلَام هُنَا فِي فُصُول.
الأول: فِي رجال الحَدِيث، وهم: عَمْرو بِالْفَتْح ابْن عون بن أَوْس الوَاسِطِيّ، نزل الْبَصْرَة وَرُوِيَ مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي موضِعين.
الثَّانِي: أَنه أخرجه البُخَارِيّ هُنَا أَيْضا عَن قُتَيْبَة على مَا يَأْتِي، وَأخرجه أَيْضا فِي النِّكَاح فِي مَوَاضِع فِي: بَاب النّظر إِلَى الْمَرْأَة قبل التَّزْوِيج، عَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بأتم من هَذَا، وَهنا اخْتَصَرَهُ فِي: بَاب إِذا قَالَ الْخَاطِب للْوَلِيّ:

(20/44)


زَوجنِي فُلَانَة، عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد إِلَى آخِره مُخْتَصرا وَفِي: بَاب التَّزْوِيج على الْقُرْآن عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي: بَاب الْمهْر بالعروض عَن يحيى عَن وَكِيع مُخْتَصرا. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة فَمُسلم أخرجه فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة بن سعيد، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَالنَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن هَارُون بن عبد الله وَابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن حَفْص بن عَمْرو.
الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: (امْرَأَة) ، اخْتلف فِي اسْم هَذِه الْمَرْأَة الواهبة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: هِيَ خَوْلَة بنت حَكِيم، وَقيل: هِيَ أم شريك الْأَزْدِيَّة، وَقيل: مَيْمُونَة، حُكيَ هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي كتاب المبهماتوق ال شَيخنَا زين الدّين لَا يَصح شَيْء من هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أما خوله فَإِنَّهَا لم تتَزَوَّج، وَكَذَلِكَ أم شريك لم تتَزَوَّج، وَأما مَيْمُونَة فَكَانَت إِحْدَى زَوْجَاته، فَلَا يَصح أَن تكون هَذِه لِأَن هَذِه قدر زَوجهَا لغيره. قَوْله: (وَلَو خَاتمًا) ، بِالنّصب أَي: وَلَو كَانَ الَّذِي يُعْطِيهَا خَاتمًا، ويروي بِالرَّفْع، فوجهه إِن صحت الرِّوَايَة يكون مَرْفُوعا بكان التَّامَّة الْمقدرَة أَي: وَلَو كَانَ خَاتم. قَوْله: (من حَدِيد) كلمة من بَيَانِيَّة. قَوْله: (فاعتل لَهُ) أَي: حزن وتضجر لأجل ذَلِك، وَقد جَاءَ اعتل بِمَعْنى تشاغل. قَوْله: (مَا مَعَك من الْقُرْآن؟) أَي: أَي شَيْء تحفظ من الْقُرْآن؟ قَوْله: (قَالَ: كَذَا وَكَذَا) ، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد سُورَة الْبَقَرَة وَالَّتِي تَلِيهَا.
الرَّابِع: فِي استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ وَفِيه: جَوَاز عقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ. وَصورته أَن يَقُول الرجل: قد وهبت لَك ابْنَتي، فَيَقُول الآخر: قبلت أَو تزوجت، وسواه فِي ذَلِك سميا الْمهْر أَو لَا فَإِن سمياه فلهَا الْمُسَمّى وإلاَّ فلهَا مهر مثلهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَمَالك على اخْتِلَاف عَنهُ. وَلَا خلاف فِي جَوَاز هبة الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من خَصَائِصه لقَوْله عز وَجل: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} (الْأَحْزَاب: 05) وَقَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: لَا تحل الْهِبَة لأحد بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه مَا يسْتَدلّ بِهِ الشَّافِعِي على جَوَاز النِّكَاح بِمَا تراضى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ: كالسوط والنعل، وَإِن كَانَت قِيمَته أقل من دِرْهَم، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو الزِّنَاد وَابْن أبي ذِئْب وَيحيى بن سعيد وَاللَّيْث بن سعد وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد وَابْن وهب من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ مَالك لَا يجوز أقل من ربع دِينَار قِيَاسا على الْقطع فِي السّرقَة، وَقَالَ ابْن حزم: وَجَائِز أَن يكون صَدَاقا كل مَاله نصف قلَّ أَو كثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعير أَو غير ذَلِك، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله: (وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أكره أَن يكون الْمهْر بِمثل أجر الْبَغي وَلَكِن الْعشْرَة وَالْعِشْرين، وَعنهُ: السّنة فِي النِّكَاح الرطل من الْفضة، وَعَن الشّعبِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يتَزَوَّج الرجل على أقل من ثَلَاث أواقي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يكون الصَدَاق أقل من عشرَة دَرَاهِم، لما رُوِيَ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: عَن شريك عَن دَاوُد الزعافري عَن الشّعبِيّ، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا مهر أقل من عشرَة دَرَاهِم. وَالظَّاهِر أَنه قَالَ تَوْفِيقًا لِأَنَّهُ بَاب لَا يُوصل إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن عَليّ بَاطِلَة لِأَنَّهَا عَن دَاوُد الزعافري، وَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط، ثمَّ هِيَ مُرْسلَة لِأَن الشّعبِيّ لم يسمع من عَليّ قطّ حَدِيثا. قلت: قَالَ ابْن عدي: لم أَرَ لَهُ حَدِيثا مُنْكرا جَاوز الْحَد إِذا رُوِيَ عَنهُ ثِقَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ بِقَوي فِي الحَدِيث فَإِنَّهُ يكْتب حَدِيثه وَيقبل إِذا رُوِيَ عَنهُ ثِقَة، وَذكر عَن الْمزي أَن الشّعبِيّ سمع عَليّ بن أبي طَالب، وَلَئِن سلمنَا أَن رِوَايَته مُرْسلَة فقد قَالَ الْعجلِيّ: مُرْسل الشّعبِيّ صَحِيح وَلَا يكَاد يُرْسل إلاَّ صَحِيحا. وَالْجَوَاب عَن قَوْله: (وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) أَنه خَارج مخرج الْمُبَالغَة كَمَا فِي قَوْله: تصدقوا وَلَو بظلف محرق، وَفِي لفظ: وَلَو بفرسن شَاة، وَلَيْسَ الظلْف والفرسن مِمَّا يتَصَدَّق بهما وَلَا مِمَّا ينتفعه بهما، وَيُقَال: وَلَعَلَّ الْخَاتم كَانَ يُسَاوِي ربع دِينَار، وَيُقَال: لَعَلَّ التماسه للخاتم لم يكن كل الصَدَاق بل شَيْء يعجله لَهَا قبل الدُّخُول: وَفِيه: إجَازَة اتِّخَاذ خَاتم الْحَدِيد. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز لبسه، وَفِيه: مَا يسْتَدلّ بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، والظاهرية على جَوَاز التَّزْوِيج على سُورَة من الْقُرْآن، وَعَلِيهِ أَن يعلمهَا وَلم يجوز ذَلِك أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة صَحِيحَة وَاللَّيْث بن سعد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَقَالُوا: إِذا تزَوجهَا عَليّ تَعْلِيم سُورَة فَالنِّكَاح صَحِيح وَيجب فِيهِ مهر مثلهَا، وَهَذَا كمن تزوج امْرَأَة وَلم يسم لَهَا مهْرا فَإِنَّهُ يجب مهْرا لمثل وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ بِأَن قَوْله: (زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) أَن حمل على الظَّاهِر، فَذَلِك على السُّورَة لَا على تعليمها، وَإِذا كَانَ ذَلِك على السُّورَة فَهُوَ على حرمتهَا، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض للمهر كَمَا فِي تزوج أم سليم على إِسْلَامه

(20/45)


فَلم يكن ذَلِك الْإِسْلَام مهْرا فِي الْحَقِيقَة، وَالسورَة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، وَيكون الْمَعْنى: زوجتكها بِسَبَب حُرْمَة مَا مَعَك من الْقُرْآن وبركته، فَتكون الْبَاء للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله: {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 04) فَإِن قلت: فِي رِوَايَة ابْن ماجة ذُو جتكها على مَا مَعَك من الْقُرْآن وَفِي مُسْند أحد السّنة: مَا مَعَك من الْقُرْآن. قلت أما على فَإِنَّهَا تَجِيء للتَّعْلِيل أَيْضا كالباء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 581) أَي: لهدايته إيَّاكُمْ، وَيكون الْمَعْنى زوجتكها لأجل مَا مَعَك من الْقُرْآن وَلَا يُنَافِي هَذَا تَسْمِيَة المَال، وَأما مَعَ، فَإِنَّهَا للمصاحبة وَالْمعْنَى، زوجتكها لمصاحبتك الْقُرْآن فَإِن قلت: الأَصْل فِي الْبَاء للمقابلة فَتكون هَهُنَا نَحْو وقولك: بِعْتُك ثوبي بِدِينَار. قلت: لَا يَصح هُنَا أَن تكون للمقابلة لِأَنَّهُ يلْزم أَن تكون الْمَرْأَة موهوبة وَذَلِكَ لَا يجوز إلاَّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: الْمَعْنى زوجتكها بِأَن تعلمهَا مَا مَعَك من الْقُرْآن، أَو مِقْدَار مَا مِنْهُ، وَيكون ذَلِك صَدَاقهَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: أَنطلق فقد زوجتكها فعلمها من الْقُرْآن، وَفِي رِوَايَة عَطاء: فعلمها عشْرين آيَة. قلت: قد ذكرنَا غير مرّة أَن هَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال فَيكون قد زَوجهَا مِنْهُ مَعَ تحريضه على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيكون الْمهْر مسكوتا عَنهُ إِمَّا النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، قد أصدق عَنهُ، كَمَا كفر عَن الواطىء فِي رَمَضَان إِذْ لم يكن عِنْده شَيْء موفقا بأمته، وَإِمَّا أَنه أبقى الصَدَاق فِي ذمَّته إِلَى أَن ييسر الله عَلَيْهِ.

22 - (بابُ القِرَاءَةِ عنْ ظَهْرِ القَلْبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب أَي بِغَيْر نظر فِي الْمُصحف.

0305 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا يَعْقُوبُ بنَ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سعَدٍ أنَّ امْرَأةً جاءَتْ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رسولَ الله {جِئْتُ لِأَهَبَ لكَ نَفْسِي لكَ نَفْسِي فنَظَرَ إليْها رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَعَدَ النَّظَرَ إليْها وصوَّبَهُ ثُمَّ طأْطأ رَأسَهُ، فلَمَّا رَأتِ المَرْأَةُ لَمْ يَقْضِ فِيها شَيْئا جلَسَتْ، فقامَ رَجُلٌ مِنْ أصْحابِهِ فَقَالَ: يَا رسولَ الله} إنْ لَمْ يَكُنْ لكَ بِها حاجَةٌ فزَوِّجْنِيها. فَقَالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ منْ يْءٍ؟ فَقَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ اا. قَالَ: إذْهَبْ إِلَى أهْلِكَ فانْظُرْ هَلْ نَجِدُ شَيْئا؟ فذَهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ الله، مَا وجَدْتُ شَيْئَا. فَقَالَ: انْظُر ولَوْ خَاتما مِنْ حَديدِ، فطهَبَ ثُمَّ رجَعَ، فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسولَ الله وَلَا خاتَما مِنْ حَدِيدٍ، ولاكِنْ هاذا إِزَارِي. قَالَ سَهْلٌ: مالَهُ رِدَاءٌ فلَها نِصْفُهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَصْنَعُ بإِزَارِكَ؟ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ علَيْها مِنْهُ شَيْءٌ وإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ علَيْكَ شَيْءٌ، فجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طالَ مَجْلِسُهُ، ثُمَّ قامَ فرآهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَلِّيَا، فأمَرَ بهِ فَدُعِيَ فلَمَّا جاءَ قَالَ: ماذَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كذَا وسُورَةُ كَذا وسُورَةُ كَذا، عَدَّها. قَالَ: أتَقْرَؤُهُنَّ عنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إذْهَبْ فقَدْ ملَّكْتُكَها بمَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قَالَ: أتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك) وَهُوَ حَدِيث سهل الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق.
وَأخرجه هُنَا وَهُوَ أتم من ذَاك قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك) إِنَّمَا هُوَ لاستثبات أَنه يحفظ تِلْكَ السُّورَة الَّتِي عدهَا وَذَلِكَ ليتَمَكَّن من تَعْلِيمه الْمَرْأَة، وَلَا يدل على أَن الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب أفضل. وَأجَاب بَعضهم بِأَن المُرَاد بِهِ بقوله: بَاب الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب، مشروعيتها أَو استحبابها، وَهُوَ مُطَابق لما ترْجم بِهِ، وَلم يتَعَرَّض لكَونهَا أفضل من الْقِرَاءَة نظرا. قلت: سُبْحَانَ الله، مَا أبعد هَذَا الْجَواب عَن الصَّوَاب وأبرده، وَالْبَاب مَذْكُور فِي بَيَان فَضَائِل الْقُرْآن، فَكيف يَقُول: وَلم يتَعَرَّض لكَونهَا أفضل من الْقِرَاءَة نظرا؟ وَلم يضع هَذِه التَّرْجَمَة إلاَّ لبَيَان أَفضَلِيَّة الْقِرَاءَة نظرا. وَإِن كَانَ فِيهِ الاستثبات أَيْضا وَهُوَ لَا يُنَافِي الْأَفْضَلِيَّة

(20/46)


أَيْضا على أَنه ورد أَحَادِيث كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (أعْطوا أعينكُم حظها من الْعِبَادَة، قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَمَا حظها من الْعِبَادَة؟ قَالَ: النّظر فِي الْمُصحف والتفكر فِيهِ وَالِاعْتِبَار عِنْد عجائبه) : وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي فَضَائِل الْقُرْآن من طَرِيق عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَفعه قَالَ: (فضل قِرَاءَة الْقُرْآن نظرا على من يقرأه ظهرا كفضل الْفَرِيضَة على النَّافِلَة) وَإِسْنَاده ضَعِيف، وَمن طَرِيق ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا: (أديموا النّظر فِي الْمُصحف) ، وَإِسْنَاده صَحِيح، وَقَالَ يزِيد بن حبيب: (من قَرَأَ الْقُرْآن فِي الْمُصحف خفف عَن وَالِديهِ الْعَذَاب وَإِن كَانَا كَافِرين) . رَوَاهُ ابْن وضاح.
قَوْله: (فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا) بتَشْديد الْعين أَي: رفع. قَوْله: (وَصَوَّبَهُ) ، أَي: خفضه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يحْتَمل أَن ذَلِك كَانَ قبل الْحجاب، وَيحْتَمل أَن يكون بعده وَهِي متلففة، وَأي ذَلِك فَإِنَّهُ يدْخل فِي بَاب نظر الرجل الْمَرْأَة المخطوبة. قَوْله: (ثمَّ طأطأ رَأسه) أَي: خفضه. قَوْله: (قَالَ سهل: مَاله رِدَاء فلهَا نصفه) ، مدرج من كَلَام سهل يُرِيد بِهِ أَن إزَاره يكون بَينهمَا، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا تصنع بإزارك إِن لبسته لم يكن عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْء وَإِن لبسته) أَي الْمَرْأَة إِن لبست الْإِزَار (لم يكن عَلَيْك شَيْء) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك حِين أَرَادَ الرجل قطعه ويعطيها نصفه. قَوْله: (فَرَآهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موليا) أَي: مُدبرا ذَاهِبًا معرضًا. قَوْله: (فدعي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (عَن ظهر قَلْبك) ، أَي: من حفظك لامن النّظر، وَلَفظ: الظّهْر، مقحم أَو بِمَعْنى الِاسْتِظْهَار. قَوْله: (ملكتكها) ويروى: (ملكتها) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذِه الرِّوَايَة وهم وَالصَّوَاب رِوَايَة من رُوِيَ: (زوجتكها) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَن يكون جرى لفظ التَّزْوِيج أَولا فملكها ثمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فقد ملكتها بِالتَّزْوِيجِ السَّابِق فَلَيْسَ بوهم.
وَفِيه: جَوَاز الْحلف بِغَيْر الِاسْتِحْلَاف، وتزويج الْعسر، وَجَوَاز النّظر إِلَى امْرَأَة يُرِيد أَن يَتَزَوَّجهَا.