عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 7 - (بابُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِأخِيهِ:
انْظُرْ أيَّ زَوْجَتَي شَئْتَ حتَّى أنْزِلَ لَكَ عنْها،
رَواهُ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الرجل إِلَى آخِره، وَالَّذِي
يظْهر لي أَنه إِنَّمَا وضع هَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي
هِيَ لفظ حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الَّذِي مضى فِي
أول الْبيُوع، إِشَارَة إِلَى أَنه رَوَاهُ فِيهِ من
طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن نفس عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
وَالْآخر: عَن أنس من طَرِيق زُهَيْر عَن حميد عَنهُ يخبر
عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهنا أَيْضا رَوَاهُ من
حَدِيث سُفْيَان عَن حميد عَنهُ يخبر عَن عبد الرَّحْمَن.
وَأخذ البُخَارِيّ فِيهِ هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي هِيَ
التَّرْجَمَة من نفس الحَدِيث ووضعها تَرْجَمَة تَنْبِيها
على فَوَائِد كَثِيرَة: مِنْهَا: وضعة تراجم غَرِيبَة فِي
مَوَاضِع كَثِيرَة فِي الْكتاب، وَمِنْهَا: الْإِشَارَة
إِلَى اتساع رِوَايَته، وَمِنْهَا: بَيَان مَا فِيهِ من
الِاخْتِلَاف فِي الْأَسَانِيد وَفِي الْمُتُون وَغير
ذَلِك.
قَوْله: (حَتَّى أنزل لَك عَنْهَا) أَي: حَتَّى أطلقها
وتنقضي عدتهَا ثمَّ تأخذها. قَوْله: (رَوَاهُ عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف) أَي: رُوِيَ هَذَا الْبَاب الَّذِي
هُوَ التَّرْجَمَة فِي حَدِيثه، على مَا مر فِي أول
الْبيُوع.
2705 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ عنْ سُفْيانَ عنْ
حُمَيْدٍ الطَّويلِ قَالَ: سمَعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ
قَالَ: قَدِمَ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عوْفٍ فآخَى النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْنَهُ وبَيْنَ سَعْدِ بنِ
الرَّبِيعِ الأنْصارِيِّ، وعِنْدَ الأنْصاريِّ امْرَأتانِ،
فعَرَضَ عَلَيْهِ أنْ يُناصِفَهُ أهْلَهُ ومالَهُ،
فَقَالَ: بارَكَ لله لَكَ فِي أهْلِكَ ومالِكَ، دُلُّونِي
علَى السُّوقِ. فأتَى السُّوقَ فَرَبِحَ شَيْئا مِنْ أقَطٍ
وشَيْئا مِنْ سَمْنٍ، فَرَآهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بَعْدَ أيَّامٍ وعلَيْهِ وضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ،
فَقَالَ: مَهْيَمْ يَا عبْدَالرَّحْمانِ؟ فَقَالَ:
تَزَوَّجْتُ أنْصارية. قَالَ: فَما سُقْتَ إليْها قَالَ:
وزْنَ نَواةٍ مِنْ ذَهَبَ. قَالَ: أوْلِمْ ولَوْ بِشاةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَعند
الْأنْصَارِيّ امْرَأَتَانِ فَعرض عَلَيْهِ أَن يناصفه
أَهله) وَقد ذكرنَا أَنه مضى فِي أول الْبيُوع.
قَوْله: (وضر) بِفَتْح الْوَاو وَالضَّاد الْمُعْجَمَة
وبالراء أَي: وَهُوَ اللطخ من الخلوق وَمن كل طيب لَهُ
لون. قَوْله: (مَهيم) بِفَتْح الْمِيم
(20/71)
وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر
الْحُرُوف، وَفِي آخِره مِيم: أَي: مَا حالك وَمَا شَأْنك؟
قَوْله: (فَمَا سقت) أَي: إِلَيْهَا، ويروي هَكَذَا.
قَوْله: (وزن نواة من ذهب) وَهُوَ اسْم لخمسة دَرَاهِم،
أَي: مِقْدَار خَمْسَة دَرَاهِم وزنا من الذَّهَب،
وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت هُنَاكَ.
8 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ والخِصاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من التبتل وَأَصله
الِانْقِطَاع من قَوْلهم تبتلت الشَّيْء اتبتله من بَاب
ضرب يضْرب إِذا قطعته، وَالْمرَاد بالتبتل الْمنْهِي عَنهُ
فِي الحَدِيث الِانْقِطَاع عَن النِّسَاء وَترك
التَّزْوِيج، وَأما معنى قَوْله تَعَالَى: {وتبتل إِلَيْهِ
تبتيلاً} (المزمل: 8) فَالْمُرَاد بِهِ الِانْقِطَاع
إِلَيْهِ والتعبد لَا ترك التَّزْوِيج فَإِنَّهُ لم يَأْمر
بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل قَالَ ابْن
عَبَّاس: خير هَذِه الْأمة أَكْثَرهَا نسَاء، وَيُرِيد
بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (والخصاء) بِكَسْر الْخَاء وبالمد: مصدر خصيت
الْفَحْل، إِذا سللت خصيتيه، وَالرجل خصي وَالْجمع خصيان
وخصية.
3705 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حَدثنَا إبْرَاهِيم
بنُ سَعْد أخبرنَا ابنُ شِهابٍ سَمِعَ بن سَعيدَ بن
المُسَيِّبَ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بنَ أبي وقَّاصٍ
يَقُولُ: رَدَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علَى
عُثْمانَ ابنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، ولوْ أذِنَ لهُ
لاخْتَصَيْنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن يُونُس هُوَ
أَبُو عبد الله التَّيْمِيّ الْيَرْبُوعي الْكُوفِي،
وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد
لرحمن بن عَوْف، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد، وَابْن شهَاب
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي النِّكَاح عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
الْحسن بن عَليّ الْحَلَال. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي
مَرْوَان مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني.
قَوْله: (رد رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسلم، على عُثْمَان بن مَظْعُون التبتل) أَي: لم يَأْذَن
لَهُ فِيهِ حِين اسْتَأْذن فِي ذَلِك، وَيُقَال: معنى: رد،
نهي عَن التبتل وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ الْآن. قَوْله:
(وَلَو أذن لَهُ) أَي: لَو أذن النَّبِي صلى الله تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسلم. لعُثْمَان بن مَظْعُون (لاختصينا) من
اختصيت، إِذا فعلت ذَلِك بِنَفْسِك. وَكَانَ مناسبا أَن
يَقُول: أذن لَهُ لتبتلنا، فَعدل إِلَى: اختصينا، إِرَادَة
الْمُبَالغَة أَي: لَو أذن لَهُ لبالغنا فِي التبتل حَتَّى
الاختصاء، وَكَانَ التبتل من شَرِيعَة النَّصَارَى فَنهى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته عَنهُ ليكْثر
النَّسْل ويدوم الْجِهَاد.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ يُقَال: يلْزم من جَوَاز التبتل عَن
النِّسَاء جَوَاز الخصاء، وَهُوَ قطع عضوين بهما قوام
النَّسْل، وَفِيه ألم عَظِيم لِأَنَّهُ رُبمَا يُفْضِي
إِلَى الْهَلَاك. وَهُوَ محرم بالِاتِّفَاقِ، ثمَّ أجَاب
بِأَن ذَلِك لَازم من حَيْثُ إِن مُطلق التبتل يتضمنه،
فَكَأَن هَذَا الْقَائِل ظن أَن التبتل الْحَقِيقِيّ
الَّذِي يُؤمن مَعَه شَهْوَة النِّسَاء وَهُوَ الخصاء،
وَأخذ بِأَكْثَرَ مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم، وَقَوله:
فِيهِ ألم عَظِيم، مُسلم لَكِن يصغر فِي جنب صِيَانة
الدّين، كَقطع الْيَد للأكلة والكي والبط وَنَحْوهَا.
وَقَوله: رُبمَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاك، غير مُسلم لِأَن
وُقُوع الْهَلَاك مِنْهُ نَادِر، وخصاء الْحَيَوَان يشْهد
لذَلِك. وَأجَاب النَّوَوِيّ عَن ذَلِك بِأَن مَعْنَاهُ:
لَو أذن فِي الِانْقِطَاع عَن النِّسَاء وغيرهن من ملاذ
الدُّنْيَا لاختصينا لدفع شَهْوَة النِّسَاء لتمكننا من
التبتل، قَالَ: وَهَذَا مَحْمُول على أَنهم كَانُوا يظنون
جَوَاز الاختصاء باجتهادهم وَلم يكن ظنهم هَذَا مُوَافقا،
فَإِن الاختصاء فِي الْآدَمِيّ حرَام مُطلقًا. وَقَالَ
شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَفِي كل من جوابي
الْقُرْطُبِيّ وَالنَّوَوِيّ نظر، بل الْجَواب الصَّحِيح
أَنه: لَو وَقع إِذن من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِيمَا سَأَلَهُ عَنهُ عُثْمَان بن مَظْعُون من التبتل
لجَاز لَهُم الاختصاء، لِأَن اسْتِئْذَان عُثْمَان فِي
التبتل كَانَت صورته استئذانا فِي الاختصاء كَمَا هُوَ
مُبين فِي حَدِيث عَائِشَة بنت قدامَة بن مَظْعُون عَن
أَبِيهَا عَن أَخِيه عُثْمَان بن مَظْعُون، أَنه قَالَ:
يَا رَسُول الله {إِنَّه ليشق علينا الْعزبَة فِي
الْمَغَازِي، أفتأذن لي يَا رَسُول الله فِي الخصاء
فأختصى؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَا وَلَكِن عَلَيْك يَا ابْن مَظْعُون بالصيام فَإِنَّهُ
مجفر) ذكره ابْن عبد الْبر فِي الِاسْتِيعَاب وَذكر أَيْضا
أَن عُثْمَان بن مَظْعُون وعليا وَأَبا ذَر هموا أَن
يختصوا ويبتلوا فنهاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
تَعَالَى وَسلم، عَن ذَلِك. وَنزلت فيهم: {لَيْسَ على
الَّذين آمنُوا وَعَلمُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا
طعموا} (الْمَائِدَة: 39) الْآيَة. وَأخرج الطَّبَرَانِيّ
من حَدِيث عُثْمَان بن مَظْعُون نَفسه أَنه قَالَ: يَا
رَسُول الله} إِنِّي رجل يشق عَليّ الْعُزُوبَة فاذن لي
فِي الخصاء، قَالَ: لَا وَلَكِن عَلَيْك بالصيام.
(20/72)
4705 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا
شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِي قَالَ: أَخْبرنِي سَعيدُ بنُ
المُسَيَّبِ أنهُ سَمِعَ سَعْدَ بنَ أبي وقَّاصٍ يَقُولُ:
لقَدْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْنِي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم علَى عُثْمانَ بن مَظْعُونٍ ولوْ أجازَ لهُ
التَّبَتُّلَ لاخْتَصَيْنا.
(انْظُر الحَدِيث 3705) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور وَأخرجه عَن
أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة
عَن الزُّهْرِيّ: إِلَى آخِره.
5705 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا جُرَيرٍ
عنْ إسْماعِيلَ عنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله:
كُنَّا نَغْزُو مَع رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ولَيْسَ لَنا شَيّءٌ، فَقُلْنا: أَلا نَسْتحْصِي؟ فَناهانا
عنْ ذالِكَ، ثُمَّ رخصَ لَنا أنَّ نَنْكحَ المَرْأَةَ
بالثَّوْبِ، ثمَّ قَرأ علَيْنا ياأَيُّهَا
الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُو اْ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الْمَائِدَة: 78) .
(انْظُر الحَدِيث 5164 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد
الحميد، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد البَجلِيّ،
وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم، وَعبد الله هُوَ ابْن
مَسْعُود، وَقد مر هَذَا الحَدِيث عَن قريب إِلَى قَوْله:
(فنهانا عَن ذَلِك) فَإِنَّهُ أخرجه عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى عَن يحيى عَن إِسْمَاعِيل إِلَى آخِره.
قَوْله: (ثمَّ رخص لنا أَن ننكح الْمَرْأَة بِالثَّوْبِ)
هَذَا نِكَاح الْمُتْعَة، وَهَذَا يدل على أَن ابْن
مَسْعُود يرى بِجَوَاز الْمُتْعَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
لَعَلَّه لم يكن حِينَئِذٍ بلغه النَّاسِخ ثمَّ بلغه
فَرجع، وَيدل على ذَلِك مَا ذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنه
وَقع فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن إِسْمَاعِيل ابْن
أبي خَالِد: فَفَعَلْنَا، ثمَّ ترك ذَلِك. قَالَ: وَفِي
رِوَايَة لِابْنِ عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل، ثمَّ جَاءَ
تَحْرِيمهَا بعد وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن
إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد: فَفَعَلْنَا، ثمَّ ترك ذَلِك.
قَالَ: وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عُيَيْنَة عَن إِسْمَاعِيل،
ثمَّ جَاءَ تَحْرِيمهَا بعد. وَفِي رِوَايَة معمر عَن
إِسْمَاعِيل ثمَّ نسخ. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ علينا {يَا
أيهاالذين آمنُوا لَا تحرموا} (الْمَائِدَة: 78) الْآيَة،
وَفِي رِوَايَة مُسلم: ثمَّ قَرَأَ علينا عبد الله رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ. وَرُوِيَ الواحدي فِي أَسبَاب
النُّزُول من رِوَايَة عُثْمَان بن سعد عَن عِكْرِمَة عَن
ابْن عَبَّاس أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي إِذا أكلت من هَذَا
اللَّحْم انتشرت إِلَى النِّسَاء، وَإِنِّي حرمت عَليّ
اللَّحْم. فَنزلت: {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم}
(الْمَائِدَة: 78) فعلى هَذَا لَا يجوز لأحد من الْمُسلمين
تَحْرِيم شَيْء مِمَّا أحل الله لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ
على نَفسه من طَيّبَات المطاعم والملابس والمناكح بإحلال
ذَلِك لَهَا بعض الْمَشَقَّة، أَو أَمنه، وَلَا فضل فِي
ترك شَيْء مِمَّا أحله الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَالْفضل
وَالْبر فِيمَا هُوَ فعل مَا ندب الله عباده إِلَيْهِ،
وَعمل بِهِ رَسُوله وسنه لأمته وَتَبعهُ على هَذَا
الْمِنْهَاج الْأَئِمَّة الراشدون، فَإِذا كَانَ ذَلِك
تبين خطأ من آثر لِبَاس الشّعْر وَالصُّوف على لِبَاس
الْقطن والكتان إِذا قدر على لبس ذَلِك من حلّه، وآثر أكل
الفول والعدس على خبز الْبر وَالشعِير، وَترك أكل اللَّحْم
والودك حذرا من عَارض الْحَاجة إِلَى النِّسَاء،
وَالْأولَى بالأجسام إصلاحها لتعينه على طَاعَة ربه، وَلَا
شَيْء أضرّ بالجسم من المطاعم الرَّديئَة لِأَنَّهُ مُفسد
لعقله ومضغة لأدواته الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى سَببا
إِلَى طَاعَته، وَمن ذَلِك التبتل وَالتَّرَهُّب لِأَنَّهُ
دَاخل فِي معنى الْآيَة الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الْمُهلب:
إِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك
من أجل أَنه مُكَاثِر رَبهم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة
وَأَنه فِي الدُّنْيَا يُقَاتل بهم طوائف الْكفَّار، وَفِي
آخر الزَّمَان يُقَاتلُون الدَّجَّال فَأَرَادَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن يكثر النَّسْل، وَلَا الْتِفَات إِلَى
مَا رُوِيَ خَيركُمْ بعد الْمِائَتَيْنِ الْخَفِيف الحاذ
الَّذِي لَا أهل لَهُ وَلَا ولد، فَإِنَّهُ ضَعِيف بل
مَوْضُوع، وَكَذَلِكَ قَول حُذَيْفَة: إِذا كَانَ سنة
خمسين وَمِائَة فَلِأَن يُربي أحدكُم جرو كلب خير لَهُ من
أَن يُربي ولدا.
6705 - حدَّثنا وَقَالَ أصْبَغُ: أَخْبرنِي ابنُ وَهْبٍ
عنْ يُونسَ بنِ يَزيدَ عنِ ابنِ شِهاب عنْ أبي سلَمَة عنْ
أبي هُرَيْرَةَ، رضيَ الله عَنهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا
رسولَ الله {إنِّي رجُلٌ شابَّ وَأَنا أخافُ علَى نَفْسِي
العَنَتَ وَلَا أجِدُ مَا أتَزَوَّجُ بِهِ النِّساءَ،
فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ: مِثْلَ ذالِكَ فَسَكَتَ
غَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذالِكَ فَسَكَتَ عَنِّي،
ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلك فَقَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ} جَفَّ القَلَمُ
بِما أنْتَ لاقٍ فاخْتَصِ علَى ذَلِكَ أوْ ذَرْ.
أَي قَالَ أصبغ بن الْفرج وراق عبد الله بن وهب، كَذَا
وَقع فِي عَامَّة الْأُصُول: قَالَ أصبغ، وَكَذَا ذكره
أَبُو مَسْعُود وَخلف
(20/73)
وَخَالف ذَلِك الحافظان أَبُو نعيم والطرقي
فَقَالَا: رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أصبغ، وَلَئِن سلمنَا
صِحَة مَا وَقع فِي الْأُصُول وَأَنه رَوَاهُ عَنهُ
مُعَلّقا فقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا ابْن
الْهَاد حَدثنَا أصبغ أَخْبرنِي ابْن وهب، وَقد وَقع فِي
كتاب الطرقي: رَوَاهُ البُخَارِيّ ابْن مُحَمَّد وَهُوَ
غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ للْبُخَارِيّ شيخ اسْمه أصبغ
بن مُحَمَّد، وَلَا فِي الْكتب السِّتَّة. والْحَدِيث من
أَفْرَاده.
قَوْله: (إِنِّي رجل شَاب وَأَنا أَخَاف) وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: وَإِنِّي أَخَاف، وَكَذَا فِي رِوَايَة
حَرْمَلَة. قَوْله: (الْعَنَت) بِفَتْح النُّون وبالتاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ الْحمل على الْمَكْرُوه. وَقد
عنت يعنت من بَاب علم يعلم، والعنت الْإِثْم، وَقد عنت
اكْتسب إِثْمًا، والعنت الْفُجُور وَالزِّنَا وكل شاقٍ
ذكره فِي الْمُنْتَهى وَفِي التَّهْذِيب: الإعنات تَكْلِيف
غير الطَّاقَة، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أصل الْعَنَت
التَّشْدِيد، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الزِّنَا. قَوْله:
(جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لاقٍ) أَي: نفذ الْمُقدر بِمَا
كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَبَقيَ الْقَلَم الَّذِي
كتب بِهِ جافا لَا مداد فِيهِ لفراغ مَا كتب بِهِ. قَوْله:
(فاختص) صورته صُورَة أَمر من الاختصاء، وَلَكِن هَذَا من
قبيل قَوْله تَعَالَى: {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ
فليكفر} (الْكَهْف: 92) وَلَيْسَ الْأَمر فِيهِ لطلب
الْفِعْل بل هُوَ للتهديد، وَحَاصِل الْمَعْنى: إِن فعلت
أَو لم تفعل فَلَا بُد من نُفُوذ الْقدر، وَوَقع فِي بعض
الْأُصُول اقْتصر، مَوضِع اخْتصَّ. وَكَذَا وَقع فِي
المصابيح فَإِن صحت فَلَا حَاجَة إِلَى تَأْوِيل الأول.
قَوْله: (على ذَلِك) كلمة: على، مُتَعَلقَة بمقدر مَحْذُوف
أَي: اخْتصَّ حَال استعلائك على الْعلم بِأَن الْكل
بِتَقْدِير الله عز وَجل قَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ:
الْمَعْنى أَن الِاقْتِصَار على التَّقْدِير وَالتَّسْلِيم
لَهُ وَتَركه الْإِعْرَاض عَنهُ سَوَاء. فَإِن مَا قدر لَك
من خير أَو شَرّ فَهُوَ لَا محَالة يَأْتِيك، وَمَا لم
يكْتب فَلَا طَرِيق لَك إِلَى حُصُوله. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: أَي اقْتصر على مَا ذكرت لَك وَارْضَ
بِقَضَاء الله تَعَالَى أَو ذَر مَا ذكرته وامضلشأنك
واختص، فَيكون تهديدا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ
بَعضهم: مَعْنَاهُ قد سبق فِي قَضَاء الله تَعَالَى جَمِيع
مَا يصدر عَنْك ويلاقيك فاقتصر على ذَلِك، فَإِن الْأُمُور
مقدرَة أودعهُ فَلَا تخض فِيهِ. قَوْله: (أَو ذَر) ، أَي:
أَو اترك، وَهُوَ أَمر من يذر، وَقَالَت: الصرفيون، أماتوا
ماضي يذر ويدع. قلت: قد جَاءَ ماضي يدع فِي قَوْله
تَعَالَى: {مَا وَدعك} (الضُّحَى: 3) قرىء بِالتَّخْفِيفِ
فَإِن قيل: لم يُؤمر أَبُو هُرَيْرَة بالصيام لكسر
شَهْوَته كم أَمر بِهِ غَيره، وَأجِيب بِأَن لغالب من حَال
أبي هُرَيْرَة كَانَ الصَّوْم لِأَنَّهُ منأهل الصّفة
وَكَانُوا مستمرين على الصَّوْم، وَقيل: وَقع ذَلِك فِي
الْغَزْو كَمَا وَقع لِابْنِ مَسْعُود، وَكَانُوا فِي
الْغَزْو يؤثرون الْفطر على الصّيام للتقوي على الْقِتَال
فأداه اجْتِهَاده فِي حسم مَادَّة الشَّهْوَة بالاختصاء،
كَمَا ظهر لعُثْمَان بن مَظْعُون فَمَنعه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم.
9 - (بابُ نِكاحِ الأبْكارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نِكَاح الْأَبْكَار، وَهُوَ
جمع بكر، وَالْبكْر خلاف الثّيّب ويقعان على الرجل
وَالْمَرْأَة. وَمِنْه: الْبكر بالبكر جلد مائَة وَنفي
سنة.
وَقَالَ ابنُ أبي مُليْكَةَ، قَالَ ابنُ عبَّاسٍ
لَعائِشَةَ: لَمْ يَنْكحِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بكْرا غَيْرَكِ
ابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي
مليكَة. بِضَم الْمِيم واسْمه زُهَيْر بن عبد الله
التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن
الزبير، وَهَذَا الَّذِي قَالَه طرف من حَدِيث وَصله
البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النُّور.
7705 - حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني
أخِي عنْ سُليْمانَ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ
عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: قُلْتُ: يَا
رسولَ الله! أرَأيْتَ لوْ نَزَلْتَ وَادِيا وفِيهِ
شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْها وَوجَدْتَ شَجَرا لَمْ
يُؤْكَلْ مِنْها فِي أيَّها كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟
قَالَ: فِي الَّتي لَمْ يُرْتَعْ مِنْها، تَعْنِي أنَّ
رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَتَزَوَّجَ
بكْرا غَيْرَها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لم يتَزَوَّج بكرا
غَيرهَا) وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس بن أُخْت مَالك بن أنس
وَأَخُوهُ عبد الحميد وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (وَفِيه
شَجَرَة قد أكل مِنْهَا وَوجدت شَجرا لم يُؤْكَل مِنْهَا)
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره:
وَوجدت شَجَرَة، وَذكره الْحميدِي بِلَفْظ: فِيهِ
(20/74)
شجر قد أكل مِنْهَا، وَكَذَا أخرجه أَبُو
نعيم فِي الْمُسْتَخْرج بِلَفْظ الْجمع وَهُوَ أصوب
لقَوْله بعد: (فِي أَيهَا كنت ترتع) أَي: فِي أَي الشّجر؟
وَلَو أَرَادَ الْمَوْضِعَيْنِ لقَالَ: فِي أَيهمَا.
قَوْله: (ترتع) بِضَم أَوله من الإرتاع، يُقَال: ارتع
بعيره، إِذا تَركه يرعيشيئا، ورتع الْبَعِير فِي المرعى
إِذا أكل مَا شَاءَ، ورتعه الله أَي: أنبت لَهُ مَا يرعاه
على سَعَة. قَوْله: (قَالَ: فِي الَّذِي لم يرتع مِنْهَا)
وَالْأَصْل أَن يُقَال: فِي الَّتِي لم يُؤْكَل مِنْهَا
وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي نعيم: قَالَ فِي الشَّجَرَة
الَّتِي، وَهُوَ الأَصْل. قَوْله: (تَعْنِي) . أَي:
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَزَاد أَبُو نعيم
قبل هَذَا ناهيه، بِكَسْر الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَسُكُون الْهَاء، وَهِي للسكت.
8705 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ حدّثنا أبُو
أُسامَةَ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ، قالَتْ:
قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيتُكِ فِي
المَنامِ مَرَّتَيْنِ إِذَا رجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ
حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هاذِهِ امْرَأتُكَ، فأكْشِفُها فإِذَا
هيَ أنْتِ، فأقُولُ: إنْ يَكُنْ هاذَا مِنْ عِنْدِ الله
يُمْضِه..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، تزوج عَائِشَة وَهِي بكر بعد رُؤْيَته
إِيَّاهَا فِي الْمَنَام الصَّادِق. وَعبيد اسْمه فِي
الأَصْل عبد الله بن إِسْمَاعِيل يكنى أَبَا مُحَمَّد
الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، وَأَبُو أُسَامَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن
عبيد الْمَذْكُور وَأخرجه مُسلم فِي الفصائل عَن أبي كريب
عَن أبي أُسَامَة.
قَوْله: (أريتك) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْكَاف لِأَنَّهُ
خطاب لعَائِشَة. قَوْله: (إِذا رجل يحملك) ، كلمة: إِذا،
للمفاجأة، وَأَرَادَ بِالرجلِ ملكا فِي صُورَة رجل، وَفِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: أَن الْملك الَّذِي جَاءَ إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصورتها هُوَ جِبْرِيل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي صَحِيح ابْن حبَان
جَاءَنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
خرقَة حَرِير فَقَالَ: هَذِه زَوجتك فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: جَاءَنِي لَك الْملك،
وَفِي طَبَقَات ابْن سعد عَنْهَا: جَاءَ جِبْرِيل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِصُورَتي من السَّمَاء
فِي حريرة وَأَصلهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: سره، أَي: جيد
فعرب كَمَا عرب استبرق، وَقيل: هِيَ شقة من الْحَرِير
الْأَبْيَض، وَادّعى الْمُهلب أَنه كالكلة والبرقع، وَهُوَ
غَرِيب. قَوْله: (فأكشفها) أَي: فأكشف السّرقَة، قيل:
إِنَّمَا رأى مِنْهَا مَا يجوز للخاطب أَن يرَاهُ. قَوْله:
(فَإِذا هِيَ أَنْت) كلمة: إِذا، للمفاجأة وَهِي ترجع
إِلَى الصُّورَة الَّتِي فِي السّرقَة. قَوْله: (إِن يكن
من عِنْد الله) ، أَي: إِن يكن هَذَا الَّذِي رَأَيْته
كَائِنا من عِنْد الله (يمضه) بِضَم الْيَاء من
الْإِمْضَاء، وَهُوَ الإنفاذ، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ:
لم يشك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رأى فَإِن رُؤْيا
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحي
وَإِنَّمَا احْتمل عِنْده أَن تكون الرُّؤْيَا اسْما.
وَاحْتمل أَن تكون كنية. فَإِن للرؤيا اسْما وكنية. فسموها
بأسمائها وكنوها بكناها، وَاسْمهَا أَن تخرج بِعَينهَا،
وكنيتها أَن تخرج على مثالها، أَو هِيَ أُخْتهَا أَو
قرينتها أَو جارتها أَو سميتها، وَذكر عِيَاض أَن هَذِه
الرُّؤْيَا تحْتَمل أَن تكون قبل النُّبُوَّة فَقَالَ:
تزَوجهَا فَإِنَّهَا امْرَأَتك. قَوْله: (فِي سَرقَة)
بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء. وَهِي قِطْعَة
من حَرِير وَإِن كَانَت بعد النُّبُوَّة فلهَا ثَلَاثَة
معانٍ: الأول: أَن تكون الرُّؤْيَا على وَجههَا فظاهرها
لَا يحْتَاج إِلَى تَعْبِير وَتَفْسِير فيسمضه الله
وينجزه، فالشك عَائِد إِلَى أَنَّهَا رُؤْيا على ظَاهرهَا
أم تحْتَاج إِلَى تَعْبِير وَصرف عَن ظَاهرهَا. الثَّانِي:
المُرَاد إِن كَانَت هَذِه الزَّوْجِيَّة فِي الدُّنْيَا
يمضه الله، عز وَجل، فالشك أَنَّهَا هَل هِيَ زَوجته فِي
الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة. الثَّالِث: أَنه لم يشك،
وَلَكِن أخبر على التَّحْقِيق وأتى بِصُورَة الشَّك،
وَهَذَا نوع من البلاغة يُسمى: مزج الشَّك بِالْيَقِينِ.
01 - (بابُ تَزْوِيجِ الثَّيِّباتِ)
أَي: هَذَا فِي بَاب فِي بَيَان تَزْوِيج النِّسَاء
الثيبات، وَهُوَ جمع ثيب. وَقَالَ بَعضهم: جمع ثيبة،
وَلَيْسَ كَذَلِك بل جمع ثيب وَقَالَ المطرزي: الثّيّب
بِالضَّمِّ فِي جمعهَا لَيْسَ من كَلَامهم. وَالثَّيِّب من
لَيْسَ ببكر، وَقد ذكرنَا أَنه يُقَال: رجل ثيب وَامْرَأَة
ثيب، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَيَقَع على الذّكر
وَالْأُنْثَى، وَفِي الْمغرب وَالثَّيِّب من النِّسَاء
الَّتِي قد تزوجت فَبَانَت بِوَجْه، وَعَن اللَّيْث: وَلَا
يُقَال للرجل وَعَن الْكسَائي: رجل ثيب بامرأته،
وَامْرَأَة ثيب إِذا دخل بهَا، كَمَا يُقَال: بكر وأيم،
وَهُوَ فيعل من ثاب لمعاودتهما التَّزَوُّج
(20/75)
فِي غَالب الْأُمُور، وَلِأَن الْخطاب
يثاوبونها أَي: يعاودونها. وَقَوْلهمْ: ثيبت الْمَرْأَة
تثييبا كعجزت النَّاقة وثيبت النَّاقة إطا صَارَت عجوزا.
وقالَتْ أمُّ حَبيبَةَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: لاَ تَعْرِضْنَ علَيَّ بَناتِكُنَّ وَلَا
أخَوَاتِكُنَّ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بناتكن) لِأَنَّهُ خطاب
أَزوَاجه ونهاهن أَن يعرضن عَلَيْهِ ربائبه لحرمتهن وَهن
ثيبات قطعا، وَهُوَ تَحْقِيق أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تزوج الثّيّب ذَات الْبِنْت، وَقَالَ بَعضهم: استنبط
المُصَنّف التَّرْجَمَة من قَوْله: (بناتكن) لِأَنَّهُ
خطاب بذلك نِسَاءَهُ فَاقْتضى أَن لَهُنَّ بَنَات من
غَيره، فيستلزم أَنَّهُنَّ ثيبات. انْتهى. قلت: سُبْحَانَ
الله! مَا أبعد هَذَا الْكَلَام عَن الْمَقْصُود،
وَالْمَقْصُود إِثْبَات الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة
وَلَيْسَ فِيمَا قَالَه وَجه الْمُطَابقَة، لِأَن الَّذِي
قَالَ: إِن لنسائه بَنَات من غَيره، وَأَنه يسْتَلْزم
أَنَّهُنَّ ثيبات والترجمة فِي زويج الثيبات لَا فِي
بَيَان أَن لَهُنَّ بَنَات، فَمن أَيْن يفهم من قَوْله
هَذَا؟ وَقد أَخذ كَلَام النَّاس وأفسده، وَلَا يخفي ذَلِك
على المتأمل وَأما تَعْلِيق أم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ
رَملَة بنت أبي سُفْيَان الْأمَوِي، فَإِن البُخَارِيّ
أسْندهُ عَن الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ
عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم حَبِيبَة،
وَسَيَأْتِي بعد عشرَة أَبْوَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (لَا تعرضن) قَالَ ابْن التِّين: ضبط بِضَم
الضَّاد وَلَا أعلم لَهُ وَجها لِأَنَّهُ إِمَّا خَاطب
النِّسَاء أَو وَاحِدَة مِنْهُنَّ، فَإِن كَانَ خطابه
لجَماعَة النِّسَاء فصوابه تسكينها لِأَنَّهُ دخل عَلَيْهِ
النُّون الْمُشَدّدَة فيجتمع ثَلَاث نونات فيفصل بَينهمَا
بِأَلف، فَيُقَال: لَا تعرضنان، وَلَا تدخل النُّون
الْخَفِيفَة فِي جمَاعَة النِّسَاء، وَلَا فِي تثنيتهن،
وَإِن كَانَ خطابه لأم حَبِيبَة خَاصَّة فَتكون الضَّاد
مَكْسُورَة وَالنُّون مُشَدّدَة أَو نون خَفِيفَة. قلت:
عِنْد يُونُس تدخل النُّون الْخَفِيفَة فِي جمَاعَة
النِّسَاء وتثنيتهن، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
5705 - حدَّثنا أبُو النُّعْمانِ حَدثنَا هُشَيْمٌ حَدثنَا
سَيَّارٌ عنِ الشُّعْبِيِّ عنْ جابِرِ بنِ عبْدِ الله
قَالَ: قَفَلْنا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ علَى بَعيرٍ لِي قَطُوفٍ،
فَلَحِقَني راكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ يَعِيرِي
بعَنَزَةٍ كانَتْ مَعَه، فانْطَلَقَ بَعِيرِي كأجْوَدِ مَا
أنْتَ رَاءٍ مِنَ الإبِلِ، فإِذَا النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا يُعْجِلُكَ؟ قُلْتُ: كُنْتُ
حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُصٍ. قَالَ: أبِكْرا أمْ ثَيِّبا؟
قُلْتُ: ثَيِّبٌ. قَالَ: فَهَلاَّ جارِيَةً تُلاَعِبُها
وتُلاَعِبُكَ؟ قَالَ: فلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُل، قَالَ:
أمْلُهوا حتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً أيْ: عِشاءً لِكَي
تَمْتَشِطَ الشَّعَثةُ، وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قلت: ثيب) وَأَبُو
النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وهشيم بن مصغر
هشم بن بشير مصغر بشر وسيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن
أبي سيار واسْمه وردان أَبُو الحكم الْعَنزي الوَاسِطِيّ،
وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل.
والْحَدِيث قد مر مطولا ومختصرا فِي الْبيُوع، والاستقراض
وَالْجهَاد والشروط وَمر الْكَلَام فِيهِ فِي كل بَاب
بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
قَوْله: (قَفَلْنَا) أَي: رَجعْنَا. قَوْله: (من غَزْوَة)
وَهِي غَزْوَة تَبُوك. قَوْله: (قطوف) بِفَتْح الْقَاف
أَي: بطيء. قَوْله: (بعنزة) وَهِي أقصر من الرمْح وأطول من
الْعَصَا، وَفِي الْبيُوع: ضربه بمحجن وَهُوَ الصولجان،
وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ أحد
طَرفَيْهِ معوجا وَالْآخر فِيهِ حَدِيد يصدق اللفظان
عَلَيْهِ. قَوْله: (فَإِذا النَّبِي) أَي: فَإِذا هُوَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مَا يعجلك)
أَي: مَا سَبَب إسراعك؟ قَوْله: (حَدِيث عهد بعرس) أَي:
قريب عهدبالدخول على الْمَرْأَة. قَوْله: (أبكرا) مَنْصُوب
بمقدر أَي: أتزوجت بكرا؟ قَوْله: (ثيب) خبرمبتدأ مَحْذُوف
أَي: هِيَ تيب. قَوْله: (فَهَلا جَارِيَة) أَي: فَهَلا
تزوجت جَارِيَة، وَكلمَة هلا، للتخصيص. قَوْله: (لَيْلًا
أَي غشاء) قَالَ الْكرْمَانِي: إِنَّمَا فسر اللَّيْل
بالعشاء لِئَلَّا يُنَافِي مَا تقدم فِي كتاب الْعمرَة
فِي: بَاب لَا يطْرق أَهله، أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نهى أَن يطْرق أَهله لَيْلًا. قلت: هَذَا غير مُخَالف
لِأَن هَذَا قَالَه لمن يقدم بغنة من غير أَن يعلم أَهله
بِهِ، وَأما هُنَا فَتقدم خبر مَجِيء الْجَيْش وَالْعلم
بوصوله وَقت كَذَا وَكَذَا. قَوْله: (الشعثة) بِفَتْح
الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا ثاء
مُثَلّثَة، لِأَن الَّتِي يغيب زَوجهَا فِي مَظَنَّة عدم
التزين، وَقيل: الشعثة منتشرة الشّعْر مغبرة الرَّأْس.
قَوْله: (وتستحد المغيبة) أَي: تسْتَعْمل الحديدة فِي
إِزَالَة الشّعْر، والمغيبة، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة: من أغابت الْمَرْأَة إِذا غَابَ
زَوجهَا فَهِيَ مغيبة.
(20/76)
0805 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ
حَدثنَا مُحارِبٌ قَالَ: سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عبْدِ الله،
رَضِي الله عَنْهُمَا، يقُولُ: تَزَوَّجْتُ. فَقَالَ لِي
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَزَوَّجْتَ؟
فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ ثَيِّبا فَقَالَ: مالَكَ
ولِلعَذَارَى ولِعابِها، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرُو بنِ
دِينارٍ، فَقَالَ عَمْرُو: سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عبْدِ الله
يَقُولُ: قَالَ لي رسولُ اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
هَلاَّ جارِيَةً تُلاَعِبُها وتُلاَعِبُكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تزوجت ثَيِّبًا) وَقد
ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي
مَوَاضِع كَثِيرَة بِوُجُوه كَثِيرَة. ومحارب، بِكَسْر
الرَّاء: ابْن دثار، بِكَسْر الدَّال السدُوسِي.
قَوْله: (مَالك والعذارى) جمع الْعَذْرَاء وَهِي الْبكر.
قَوْله: (ولعابها) بِكَسْر اللَّام بِمَعْنى الملاعبة.
قَوْله: (هلا جَارِيَة) أَي: هلا تزوجت جَارِيَة؟ قَوْله:
(فَذكرت ذَلِك) الْقَائِل هُوَ محَارب، وَذَلِكَ: إِشَارَة
إِلَى قَوْله: (مَالك وللعذارى ولعابها) .
11 - (بابُ تَزْويجِ الصِّغار مِنَ الكِبارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَزْوِيج الصغار من
الْكِبَار فِي السن.
1805 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حَدثنَا الليْثُ
عنْ يَزِيدَ عنْ عرَاكٍ عَن عُرْوَةَ أنَّ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خَطَبَ عائِشةَ إِلَى أبِي بَكْرٍ،
فَقال لهُ أبُو بَكْرٍ: إنَّما أَنا أخُوكَ. فَقَالَ:
أنْتَ أخِي فِي دِينِ الله وكِتابِهِ، وهْيَ لِي حَلاَلٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تزوج عَائِشَة وَهِي صَغِيرَة، وَكَانَ
عمرها سِتّ سِنِين، وَاعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا
بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن صغر عَائِشَة من كبر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْلُوم من غير هَذَا
الْخَبَر. وَالْآخر: أَن هَذَا مُرْسل، فَإِن كَانَ مثل
هَذَا يدْخل فِي الصَّحِيح فَيلْزمهُ فِي غَيره من
الْمَرَاسِيل. وَأجَاب بَعضهم عَن الأول بقوله: يُمكن أَن
يُؤْخَذ من قَول أبي بكر: (إِنَّمَا أَنا أَخُوك) فَإِن
الْغَالِب فِي بنت الْأَخ أَن تكون أَصْغَر من عَمها. قلت:
هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن التَّرْجَمَة فِي تَزْوِيج
الصغار من الْكِبَار، وَلَيْسَت فِي مُجَرّد بَيَان الصغار
من الْكِبَار، وَالْجَوَاب الصَّحِيح الَّذِي ذكرته،
وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي: وَإِن كَانَت صورته صُورَة
الْإِرْسَال وَلَكِن الظَّاهِر أَن عُرْوَة حمله عَن
عَائِشَة، يدل عَلَيْهِ أَن أَبَا الْعَبَّاس الطرقي فِي
ذكره فِي كِتَابه مُسْندًا عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة
وَغَيرهَا من نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: مثل هَذَا يدْخل فِي الْمسند.
قَوْله: (خطب عَائِشَة إِلَى أبي بكر) قيل: كلمة: إِلَى،
هُنَا بِمَعْنى من، وَالْأولَى أَن تكون على حَالهَا
للغاية أَي: أنهى خطبَته إِلَى أبي بكر كَمَا فِي قَوْلهم:
أَحْمد إِلَيْك الله أَي: أنهِي حَمده إِلَيْك. قَوْله:
(إِنَّمَا أَنا أَخُوك) كَأَن أَبَا بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أعتقد أَنه لَا يحل لَهُ أَن يتَزَوَّج
ابْنَته للمؤاخاة والخلة الَّتِي كَانَت بَينهمَا، فاعلمه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أخوة الْإِسْلَام لَيست كأخوة
النّسَب والولادة فَقَالَ: إِنَّهَا لي حَلَال بِوَحْي
الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
السَّلَام، الَّذِي أَرَادَ أَن يَأْخُذ مِنْهُ زَوجته:
هِيَ أُخْتِي، يَعْنِي فِي الْإِيمَان، لِأَنَّهُ لم يكن
أحد مُؤمنا غَيرهمَا فِي ذَلِك الْوَقْت.
وَاعْترض صَاحب التَّلْوِيح هُنَا بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا:
أَن الْخلَّة لأبي بكر إِنَّمَا كَانَت فِي الْمَدِينَة
وَالْخطْبَة إِنَّمَا كَانَت بِمَكَّة، فَكيف يلتئم
قَوْله. فِي هَذَا؟ وَالْآخر: أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَا بَاشر الْخطْبَة بِنَفسِهِ، كَمَا ذكر ابْن
عَاصِم من حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَن
عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل
خَوْلَة بنت حَكِيم امْرَأَة عُثْمَان بن مَظْعُون يخطبها،
فَقَالَ لَهَا أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: وَهل
تصلح لَهُ؟ إِنَّمَا هِيَ ابْنة أَخِيه؟ فَرَجَعت إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ،
فَقَالَ: إرجعي وَقَوْلِي لَهُ: أَنْت أخي فِي
الْإِسْلَام، فابنتك تصلح لي. فَأَتَت أَبَا بكر فَذكرت
لَهُ، فَقَالَ: ادعِي لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَجَاءَهُ فأنكحه انْتهى. قلت: أما الْجَواب عَن
الأول: فَهُوَ أَنه: لَا مَانع أَن الْخلَّة إِنَّمَا
كَانَت فِي مَكَّة وَلَكِن مَا ظَهرت إِلَّا
بِالْمَدِينَةِ، وَأما الْجَواب عَن الثَّانِي: فَيحْتَمل
أَنه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، لما جَاءَ
إِلَى أبي بكر خطب بِنَفسِهِ أَيْضا، فَوَقع بَينهمَا مَا
ذكر فِي الحَدِيث. ثمَّ إِنَّه لما علم حَقِيقَة الْأَمر
أنْكحهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(20/77)
، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء أَنه
يجوز للآباء تَزْوِيج الصغار من بناتهم وَإِن كن فِي
المهد، إلاَّ أَنه لَا يجوز لِأَزْوَاجِهِنَّ الْبناء بِهن
إلاَّ إِذا صلحن للْوَطْء واحتملن الرِّجَال، وأحوالهن فِي
ذَلِك مُخْتَلف فِي قدر خَلقهنَّ وطاقتهن، وَاخْتلف
الْعلمَاء فِي تَزْوِيج غير الْآبَاء الْيَتِيمَة، فَقَالَ
ابْن أبي ليلى وَمَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري
وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمَاجشون وَأَبُو ثَوْر: لَيْسَ
لغير الْأَب أَن يُزَوّج الْيَتِيمَة الصَّغِيرَة، فَإِن
فعل فَالنِّكَاح بَاطِل، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك
أَنه قَالَ يُزَوّج القَاضِي الصَّغِيرَة دون
الْأَوْلِيَاء ووصي الْأَب وَالْجد عِنْد الشَّافِعِي
عِنْد عدم الْأَب كلأب، وَقَالَت طَائِفَة: إِذا زوج
الصَّغِيرَة غير الْأَب من الْأَوْلِيَاء فلهَا الْخِيَار
إِذا بلغت، يروي هَذَا عَن عَطاء وَالْحسن وطاووس. وَهُوَ
قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد، إلاَّ
أَنَّهُمَا جعلا الْجد كَالْأَبِ لَا خِيَار فِي
تَزْوِيجه. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَا خِيَار لَهَا فِي
جَمِيع الْأَوْلِيَاء. وَقَالَ أَحْمد: لَا أرى للْوَلِيّ
وَلَا للْقَاضِي أَن يُزَوّج الْيَتِيمَة حَتَّى تبلغ تسع
سِنِين، فَإِذا بلغت ورضيت فَلَا خِيَار لَهَا.
21 - (بابٌ إِلَى مَنْ يَنكِحُ؟ وأيُّ النِّساءُ خَيْرٌ؟
وَمَا يُتَحَبُّ أنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطْفِهِ مِنْ غَيْرِ
إيجابٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من إِذا أَرَادَ أَن يتَزَوَّج
يَنْتَهِي أمره إِلَى من يتَزَوَّج من النِّسَاء، أَو
إِلَى من يعْقد، وَقد ذكرنَا أَن النِّكَاح يَأْتِي
بِمَعْنى التَّزْوِيج وَبِمَعْنى العقد، وَقد اشْتَمَلت
هَذِه التَّرْجَمَة على ثَلَاثَة أَنْوَاع، وَحَدِيث
الْبَاب وَاحِد. الأول: قَوْله: (إِلَى من ينْكح)
وَالثَّانِي: قَوْله: (وَأي النِّسَاء خير) وَالثَّالِث:
وَمَا يسْتَحبّ أَن يتَخَيَّر لنطفه. وَمن الحَدِيث
تُؤْخَذ الْمُطَابقَة للْأولِ وَالثَّانِي ظَاهرا أَو
الثَّالِث لَا تُؤْخَذ إلاَّ بطرِيق اللُّزُوم، بَيَانه
أَن الَّذِي يُرِيد النِّكَاح يَنْبَغِي أَن يتَزَوَّج من
قُرَيْش لِأَن نساءهن خير النِّسَاء، وَهَذَا نَوْعَانِ
ظَاهر إِن فِي الْمُطَابقَة، وَأما النَّوْع الثَّالِث
فَهُوَ أَنه لما ثَبت أَن نسَاء قُرَيْش خير النِّسَاء،
وَأَن الَّذِي تزوج مِنْهُنَّ قد تخير لنطفه لأجل
أَوْلَاده، وَهَذَا لَا يفهم من الحَدِيث صَرِيحًا،
وَلَكِن بطرِيق اللُّزُوم، على أَنا نقُول: يحْتَمل أَنه
أَشَارَ إِلَى حَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث
عَائِشَة مَرْفُوعا: تخَيرُوا لنُطَفِكُمْ وَأنْكحُوا
الْأَكفاء، وَأخرجه الْحَاكِم أَيْضا وَصَححهُ. فَإِن قلت:
كَيفَ يكون نسَاء قُرَيْش أفضل من مَرْيَم أم عِيسَى،
عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَلَا سِيمَا على قَول من يَقُول:
إِنَّهَا نبيه؟ قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن فِي الحَدِيث: خير
نسَاء ركبن الْإِبِل، وَمَرْيَم، عَلَيْهَا السَّلَام،
وَلم تركب بعيررا. قلت: هَذَا جَوَاب لَا يجدى. وَقد أطنب
هَذَا الْقَائِل هُنَا وَكله غير كَاف، وَيُمكن أَن يُجَاب
عَن هَذَا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيد بقوله:
صالحو نسَاء قُرَيْش، وَمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام،
لَيست من قُرَيْش، وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى خير أَي: من
خير، كَمَا يُقَال: أحْسنهم كَذَا، أَي: من أحْسنهم أَي:
أحسن من هُنَالك، وَقد يُقَال: إِن معنى قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: خير نسَاء ركبن الْإِبِل صالحو نسَاء
قُرَيْش، يَعْنِي فِي زمانهن. قَوْله: (من غير إِيجَاب)
أَرَادَ بِهِ أَن الَّذِي ذكره فِي هَذِه التَّرْجَمَة من
الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة لَيْسَ من بَاب الْإِيجَاب، بل
هُوَ من بَاب الِاسْتِحْبَاب.
2805 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرنا شُعَيْبٌ حَدثنَا
أَبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي
الله عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
خيْرُ نِسَاءَ رَكِبْنَ الإبِلَ صَالِحُو نِساءِ قُرَيْشٍ:
أحْناهُ علَى ولَدٍ فِي صِغَرِهِ، وأرْعاهُ علَى زَوْجٍ
فِي ذَاتِ يَدِه.
(انْظُر الحَدِيث 4343 وطرفه) .
قد مر بَيَان وَجه الْمُطَابقَة الْآن، وَهَذَا
الْإِسْنَاد بِعَين هَؤُلَاءِ الروَاة قد مر غير مرّة.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي
حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله
بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث مر فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء فِي بَاب
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم}
(آل عمرَان: 24 و 54) بأتم مِنْهُ، وَمر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (صالحو) أَصله: صَالِحُونَ، سَقَطت النُّون
للإضافة ويروى: صَالح نسَاء قُرَيْش، بِالْإِفْرَادِ،
ويروى: صلح نسَاء قُرَيْش، بِضَم الصَّاد وَتَشْديد
اللَّام، جمع: صَالح، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني
وَالْمرَاد بالإصلاح هُنَا صَلَاح الدّين وَصَلَاح
المخالطة للزَّوْج وَغَيره. قَوْله: (أحناه) من الحنو
وَهُوَ الشَّفَقَة، والحانية هِيَ الَّتِي تقوم على
وَلَدهَا بعد يتمه فَلَا تتَزَوَّج، فَإِن تزوجت
فَلَيْسَتْ بحانية، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: أحناهن،
وَأَن يُقَال: صَالِحَة نسَاء قُرَيْش، وَلَكِن ذكره
بِاعْتِبَار لفظ الْخَبَر أَو بِاعْتِبَار الشَّخْص أَو
هُوَ من بَاب ذِي كَذَا، وَأما الْإِفْرَاد فَهُوَ
بِالنّظرِ
(20/78)
إِلَى لفظ الصَّالح، وَأما بِقصد الْجِنْس.
قَوْله: (على وَلَده) فِي رِوَايَة الْكشميهني على ولد
بِلَا ضمير، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: على يَتِيم، وَفِي
أُخْرَى على طِفْل. قَوْله: (وأرعاه على زوج) أَي: أحفظه
وأصون لما لَهُ بالأمانة فِيهِ والصيانة، لَهُ وَترك
التبذير فِي الْإِنْفَاق. قَوْله: (فِي ذَات يَده) أَي:
فِي مَاله الْمُضَاف إِلَيْهِ.
21 - (بابُ اتِّخاذِ السَّرَارِيِّ ومَنْ أعْتَقَ
جارِيَتَهُ ثُمَّ تَزَوجَها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتخاد السراري أَي: اقتنائها،
والسراري، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها: جمع سَرِيَّة بِضَم
السِّين وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة ثمَّ الْيَاء
آخرالحروف الْمُشَدّدَة، وَقد تكسر السِّين، وَهُوَ من
تسررت من السِّرّ، وَهُوَ النِّكَاح أَو من السرُور،
فأبدلت إِحْدَى الراآت يَاء، وَقيل: إِن أَصْلهَا الْيَاء
من الشَّيْء السّري النفيس، وَفِي الْمغرب: السّريَّة
فعلية من السِّرّ، الْجِمَاع، أَو مفعولة من التسرِّ
السِّيَادَة وَالْأول أشهر، وَقد ورد الْأَمر باقتناء
السراري فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء. مَرْفُوعا: عَلَيْكُم
بالسراري. فَإِنَّهُنَّ مباركات الْأَرْحَام. أخرجه
الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد واهٍ قَوْله: (وَمن أعتق
جَارِيَته) عطف هَذَا الحكم على اتِّخَاذ السراري
لِأَنَّهُ قد يَقع بعد التَّسَرِّي، وَقد يَقع قبله.
3805 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا عبْدُ
الوَاحِدِ حَدثنَا صالحُ الهَمْدَانِيُّ حَدثنَا
الشَّعْبِيُّ، قَالَ: حدّثني أبُو بُرْدةَ عنْ أبِيهِ
قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيُّما
رجُلٍ كانَتْ عِنْدَهُ ولِيدَةٌ فَعَلَّمَها فأحْسَنَ
تَعْلِيمَها وأدَّبها فأحْسَنَ تأدِيبَها ثُمَّ أعْتقَها
وتَزَوَّجهَا فَلَهُ أجْرَانِ، وأيُّما رجُلٍ مِنْ أهْلِ
الكِتابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِي فَلَهُ أجْرَانِ،
وأيّما مَمْلُوكٍ أدَّى حقَّ مَوَالِيهِ وحَقَّ ربِّهِ
فَلَهُ أجْرَانِ..
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد
الْوَاحِد بن زِيَاد، وَصَالح بن صَالح مُسلم الثَّوْريّ
الْهَمدَانِي، بِسُكُون الْمِيم وبالدال الْمُهْملَة
بالنُّون: الْكُوفِي، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل،
وَأَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء
اسْمه عَامر، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ،
واسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم
الرجل أمته، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن
سَلام عَن الْمحَاربي عَن صَالح بن حَيَّان عَن عَامر
الشّعبِيّ: حَدثنِي أَبُو بردة عَن أَبِيه الحَدِيث فَإِن
قلت: هَذَا صَالح بن حَيَّان الَّذِي يروي عَن الشّعبِيّ
فِي كتاب الْعلم هُوَ صَالح بن صَالح الَّذِي فِي هَذَا
الحَدِيث أم غَيره. قلت نعم: هُوَ إِيَّاه وَلكنه نسبه فِي
كتاب الْعلم إِلَى جد أَبِيه لِأَنَّهُ صَالح بن صَالح بن
مُسلم بن حَيَّان، وَهنا نسبه إِلَى أَبِيه، وَلَيْسَ هُوَ
صَالح بن حَيَّان الْقرشِي الْكُوفِي الَّذِي يحدث عَن أبي
وَائِل بردة ويروي عَنهُ يعلى بن عبيد ومروان بن
مُعَاوِيَة. فَافْهَم.
قَوْله: (وليدة) أَي: أمة وَأَصلهَا: مَا ولد من الْإِمَاء
فِي ملك الرجل ثمَّ أطلق على كل أمة، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: خُذْها بِغَيْرِ شَيْء، قَدْ كانَ
الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيما دُونَها إِلَى المَدِينَةِ
أَي: قَالَ عَامر الشّعبِيّ لصالح الْمَذْكُور الَّذِي
رُوِيَ الحَدِيث الْمَذْكُور عَنهُ، هَذَا بِحَسب ظَاهر
الْكَلَام، وَبِه جزم الْكرْمَانِي، وَالرَّدّ عَلَيْهِ
فِي هَذَا الْموضع كالرد عَلَيْهِ فِي كتاب الْعلم: بِأَن
الْخطاب فِي قَول الشّعبِيّ: خُذْهَا، لرجل من أهل
خُرَاسَان فَلْينْظر فِيهِ هُنَاكَ من يُرِيد تحريره.
قَوْله: (خُذْهَا) أَي: خُذ هَذِه الْمَسْأَلَة أَو هَذِه
الْمقَالة. (بِغَيْر شَيْء) يَعْنِي: مجَّانا بِدُونِ
أَخذهَا مِنْك على جِهَة الْأُجْرَة عَلَيْهِ، وإلاَّ
فَلَا شَيْء أعظم من الْأجر الأخروي الَّذِي هُوَ ثَوَاب
التَّبْلِيغ والتعليم. قَوْله: (قد كَانَ الرجل) إِلَى
آخِره مَعْنَاهُ أَنِّي أعطيّك هَذِه الْمَسْأَلَة بِغَيْر
شَيْء، وَقد كَانَ الرجل يرحل أَي: يُسَافر دونهَا أَي:
فِيمَا دون الْمَسْأَلَة إِلَى الْمَدِينَة، أَي: مَدِينَة
النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، اللَّام
فِيهَا للْعهد، وَلَفظه فِي كتاب الْعلم: قَالَ عَامر:
أعطيناكها بِغَيْر شَيْء، قد كَانَ يركب فِيمَا دونهَا
إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَالَ أبُو بَكْرِ عنْ أبي حَصِينٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ
أبيهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أعْتَقَها
ثُمَّ أصْدَقَها
(20/79)
أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش، بتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: القارىء،
قيل: اسْمه شُعْبَة، وَقيل: سَالم يروي عَن أبي حُصَيْن،
بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ:
عُثْمَان بن عَاصِم عَن أبي بردة، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: عَامر عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
عبد الله بن قيس، وَهَذَا وَقع مسلسلاً بالكنى وَكلهمْ
كوفيون. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة عَن
أبي بردة عَن أَبِيه عَن أبي مُوسَى، وَهُوَ سَهْو. قلت:
غلط ظَاهر، هَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر
الْخياط، فَذكره بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظ: إِذا أعتق الرجل
أمته أمهرها مهْرا جَدِيدا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ. وَأَبُو
بكر الْخياط هُوَ أَبُو بكر بن عَيَّاش الْمَذْكُور،
فَكَأَنَّهُ كَانَ يتعاطى الْخياطَة وَقت، وَهُوَ أحد
الْحفاظ الْمَشْهُورين فِي الحَدِيث والقراء الْمَذْكُورين
فِي القراآت. قَوْله: (أعتقَها ثمَّ أصدَقها) أَرَادَ أَن
أَبَا بكر بن عَيَّاش رُوِيَ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور
بِلَفْظ: (أعْتقهَا ثمَّ أصدقهَا) مَوضِع قَوْله فِيهِ:
ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا، ومعناهما وَاحِد.
4805 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ تلَيد قَالَ: أخْبَرنِي ابنُ
وهَبٍ قَالَ: أخْبَرَنِي جَرِيرُ بنُ حازمٍ عَن أيُّوبَ
عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وحدّثنا سُلَيْمانُ عنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ عنْ أيوبَ عنْ
مُحَمَّدٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ: لمْ يَكذِبْ إبْرَاهِيمُ
إلاّ ثَلاَثَ كَذَباتٍ بَيْنَمَا: إبْرَاهِيمُ مرَّ
بجَبَّار ومَعَهُ سارَة فَذَكَرَ الحَديثَ، فأعْطاها
هاجَرَ، قالَتْ: كَفَّ الله يَدَ الكافِرِ وأخْدَمَنِي
آجَرَ. قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ. فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا
بَنِي ماءِ السَّماءِ..
قيل: مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَاجر كَانَت
مَمْلُوكَة وَإِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، أولدها
بعد أَن ملكهَا، فَهِيَ سَرِيَّة. وَاعْترض عَلَيْهِ
بَعضهم بِأَنَّهُ إِن أَرَادَ أَن ذَلِك وَقع صَرِيحًا فِي
الصَّحِيح، فَلَيْسَ بِصَحِيح، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي
الصَّحِيح أَن سارة ملكتها وَأَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
السَّلَام، أولدها إِسْمَاعِيل. عَلَيْهِ السَّلَام.
انْتهى. قلت: اعتراضه عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِلَى
آخِره غير موجه، لِأَن من قَالَ: إِنَّه أَرَادَ ذَلِك
وَإِنَّمَا حَاصِل كَلَامه فِي أصل الحَدِيث اتِّخَاذ
إِبْرَاهِيم هَاجر سَرِيَّة بعد أَن ملكهَا، فيطابق
التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفي، وَقد جرت عَادَة
البُخَارِيّ مثل ذَلِك فِي أَمْثَال ذَلِك
وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن سعيد بن تليد، بِفَتْح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر اللَّام وبالدال
الْمُهْملَة: وَهُوَ سعيد بن عِيسَى بن تليد أَبُو
عُثْمَان الرعيني الْمصْرِيّ، يروي عَن عبد الله بن وهب
الْمصْرِيّ عَن جرير بن حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة
وَالزَّاي، عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن
سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن سُلَيْمَان بن
حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد، كَذَا
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر
عَن أَيُّوب عَن مُجَاهِد. وَهُوَ خطأ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَالْأول أَكثر وَأَصَح. قلت: قَوْله يدل
على الصِّحَّة مَعَ الْقلَّة، وَلَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ
خطأ مَحْض.
قَوْله: (عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) كَذَا وَقع مَرْفُوعا فِي أَكثر
الْأُصُول. وَذكر أَبُو مَسْعُود وَخلف أَنه مَوْقُوف،
وأبى ذَلِك الطرقي وَغَيره. وَوَقع أَيْضا مَوْقُوفا فِي
رِوَايَة أبي كَرِيمَة والنسفي، وَكَذَا ذكر أَبُو نعيم
أَنه وَقع هُنَا للْبُخَارِيّ مَوْقُوفا. وَبِذَلِك جزم
الْحميدِي، وسَاق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا
مُخْتَصرا وَسَاقه فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
السَّلَام، فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله
إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) بأتم مِنْهُ.
قَوْله: (بجبار) ، أَي: ملك حَران، قَالَه الْكرْمَانِي،
وَقَالَ غَيره: ملك مصر. قَوْله: (آجر) أَي: هَاجر
بِالْهَمْزَةِ بدل الْهَاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ مستقصىً. قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَتلك
أمكُم) ، أَي: هَاجر أمكُم يَا بني مَاء السَّمَاء،
أَرَادَ بِهِ الْعَرَب، لِأَن هَاجر أم إِسْمَاعِيل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْعرب من نَسْله
وَسموا بِهِ لأَنهم سكان الْبَوَادِي وَأكْثر مِيَاههمْ من
الْمَطَر.
5805 - حدَّثنا قتَيْبَةُ حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ
عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ، رَضِي الله عنهُ، قَالَ: أقامع
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَيْنَ خَيْبَرَ
والمَدِينَةِ ثَلاَثا يُبْنَى علَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ
حُيَيٍّ، فَدَعَوْتُ المُسْلِمينَ إِلَى ولِيمَتِهِ، فَما
كانَ فِيها مِنْ خُبْزٍ ولاَ لَحْمٍ أُمِرَ بالأنْطاعِ
فألْقَى فِيها منَ التَّمْرِ والأقِطِ والسَّمْنِ، فكانَتْ
ولِيمَتَهُ
(20/80)
فَقَالَ المُسْلِمُونَ: إحْدَى
المُؤْمِنِينَ، أوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فقالُوا:
إنْ حَجَبَها فَهْيَ مِنْ أمهاتِ المُؤْمِنِينَ، وإنْ لَمْ
يَحْجُبْها فَهْيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينَهُ. فلَمَّا
ارْتَحَلَ وطَأ لَها خَلْفَهُ ومَدَّ الحِجابَ بَيْنَها
وبَيْنَ النَّاسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الصَّحَابَة تردد فِي
أَن صَفِيَّة: هَل هِيَ زَوجته أَو سريته؟ فيطابق الْجُزْء
الأول من التَّرْجَمَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَة خَيْبَر،
وَيَأْتِي فِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَحمد
بن سَلام فرقهما.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح وَفِي الْوَلِيمَة عَن
عَليّ بن حجر، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (يُبنى عَلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من
الْبناء وَهُوَ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَالْأَصْل فِيهِ
أَن الرجل، إِذا تزوج امْرَأَة بني عَلَيْهَا قبَّة ليدْخل
بهَا فِيهَا، فَيُقَال: بنى الرجل على أَهله، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: وَلَا يُقَال بني بأَهْله. قَوْله:
(إِحْدَى) الْهمزَة الاستفهامية مقدرَة أَي: أإحدى إِلَيّ
آخِره. قَوْله: (وطَّأها خَلفه) أَي: هيأ لصفيه شَيْئا
تقعد عَلَيْهِ خَلفه على النَّاقة.
31 - (بابُ مَنْ جَعَلَ عِتْقَ الأمَةِ صَدَاقَها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من جعل عتق الْأمة صَدَاقهَا،
مَعْنَاهُ: أَن يعْتق أمة على أَن يتَزَوَّج بهَا وَيكون
عتقهَا صَدَاقهَا، وَلم يذكر فِي التَّرْجَمَة حكم هَذَا،
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ سعيد بن الْمسيب
وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وعامر
الشّعبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُحَمّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وطاووس
وَالْحسن بن حييّ وَأحمد وَإِسْحَاق: جَازَ ذَلِك، فَإِذا
عقد عَلَيْهَا لَا تسْتَحقّ عَلَيْهِ مهْرا غير ذَلِك
الْعتاق وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا القَوْل: سُفْيَان
الثَّوْريّ وَأَبُو يُوسُف صَاحب أبي حنيفَة، وَذكر
التِّرْمِذِيّ أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: فَإِن أعْتقهَا على هَذَا
الشَّرْط فقلبت عتقت وَلَا يلْزمهَا أَن تتزوجه بل لَهُ
عَلَيْهَا قيمتهَا لِأَنَّهُ لم يرض بِعتْقِهَا مجَّانا.
فَإِن رضيت وَتَزَوجهَا على مهر يتفقان عَلَيْهِ فَلهُ
عَلَيْهَا الْقيمَة وَلها عَلَيْهِ الْمهْر الْمُسَمّى من
قَلِيل أَو كثير، وَإِن تزَوجهَا على قيمتهَا فَإِن كَانَت
قيمتهَا مَعْلُومَة أَولهَا صَحَّ الصَدَاق وَلَا يبْقى
لَهُ عَلَيْهَا قيمَة وَلَا لَهَا عَلَيْهِ صدَاق، وَإِن
كَانَت مَجْهُولَة فَفِيهِ وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا:
أَحدهمَا: يَصح الصَدَاق، وأصحهما، وَبِه قَالَ جُمْهُور
أَصْحَابنَا: لَا يَصح الصَدَاق بل يَصح النِّكَاح وَيجب
لَهَا مهر الْمثل، انْتهى. وَقَالَ اللَّيْث بن سعد وَابْن
شبْرمَة وَجَابِر بن زيد وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر
وَمَالك: لَا يجوز ذَلِك، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ
لأحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفعل
هَذَا فَيتم لَهُ النِّكَاح بِغَيْر صدَاق سوى الْعتاق،
إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِأَن الله، عز وَجل، جعل لَهُ أَن يتَزَوَّج
بِغَيْر صدَاق، وَيكون لَهُ التَّزَوُّج على الْعتاق
الَّذِي لَيْسَ بِصَدَاق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن فعل
ذَلِك رجل وَقع الْعتاق وَلها عَلَيْهِ مهر الْمثل، فَإِن
أَن تتزوجه تسْعَى لَهُ فِي قيمتهَا، وَقَالَ مَالك وَزفر:
لَا شَيْء لَهُ عَلَيْهَا.
6805 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا حَمَّادٌ
عنْ ثابِتٍ وشُعَيْبٍ بنِ الْحَبحَابِ عنْ أنَسِ بنِ
مالِكٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتَقَ
صَفِيَّةَ وجعَلَ عِتْقَها صَدَاقَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد،
وثابت هُوَ ابْن أسلم الْبنانِيّ، بِضَم الْمُوَحدَة
وَتَخْفِيف النُّون الأولى، وَشُعَيْب بن الحبحاب، بِفَتْح
الحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة
الأولى: الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث قد مر فِي غَزْوَة خَيْبَر.
واحتجت الطَّائِفَة الأولى أَعنِي: سعيد بن الْمسيب
وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمن مَعَهُمَا بِهَذَا الحَدِيث
فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وأجابت الطَّائِفَة الثَّانِيَة
بأجوبة مِنْهَا أَنهم قَالُوا: هَذَا من قَول أنس
لِأَنَّهُ لم يسْندهُ فَلَعَلَّهُ تَأْوِيل مِنْهُ إِذْ لم
لَهَا صدَاق، وَمِنْهَا مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِنَّه
مَخْصُوص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ
لغيره أَن يفعل ذَلِك، وَمِنْهَا أَن الطَّحَاوِيّ رُوِيَ
عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
فعل فِي جوَيْرِية بنت الْحَارِث مِثْلَمَا فعله فِي
صَفِيَّة، ثمَّ قَالَ ابْن عمر: بعد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذَا الحكم أَنه يجدد لَهَا
صَدَاقا، فَدلَّ هَذَا أَن الحكم فِي ذَلِك بعد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غير مَا كَانَ لرَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك
سَمَاعا سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَيحْتَمل أَن يكون دله على هَذَا خصوصيته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بذلك، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ تقوم
الْحجَّة لأهل الْمقَالة الثَّانِيَة قلت: وَمِمَّا
يُؤَيّد كَلَام ابْن
(20/81)
عمر مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث القواريري:
حَدَّثتنَا عليلة بنت الْكُمَيْت عَن أمهَا أُمَيْمَة بنت
رزينة عَن أمهَا رزينة، قَالَت: لما كَانَ يَوْم قُرَيْظَة
وَالنضير جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصفية
يَقُودهَا سبية حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ وذراعها فِي
يَده، فَأعْتقهَا وخطبها وَتَزَوجهَا وَأَمْهَرهَا رزينة.
قلت: رزينة، بِضَم الرَّاء وَفتح الزَّاي وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: خادمة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن المرابط: قَول أنس: أصدقهَا
نَفسهَا، أَنه من رَأْيه وظنه، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك
مدافعة للسائر. أَلا تَرى أَنه قَالَ: فَقَالَ
الْمُسلمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟ فَكيف علم
أنس أَنه أصدقهَا نَفسهَا قبل ذَلِك؟ وَقد صَحَّ عَنهُ
أَنه يعلم أَنَّهَا زَوجته إلاَّ بالحجاب، فَدلَّ أَن
قَوْله هَذَا لم يشهده على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَلَا غَيره، وَإِنَّمَا ظَنّه أنس وَالنَّاس مَعَه
ظنا، مَعَ أَن كتاب الله أَحَق أَن يتبع قَالَ:
{وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي}
(الْأَحْزَاب: 05) الْآيَة فَهَذَا يدل على أَنه أعْتقهَا
وَخَيرهَا فِي نَفسهَا فاختارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فنكحها بِمَا خصّه الله تَعَالَى بِغَيْر صدَاق، وَأما
وَجه النّظر فِيهِ أَنا إِذا جعلنَا الْعتْق صَدَاقا.
فإمَّا أَن يَتَقَرَّر الْعتْق حَالَة الرّقّ وَهُوَ محَال
لتناقضهما، أَو حَالَة الْحُرِّيَّة فَيلْزم سبقيته على
العقد، فَيلْزم وجود الْعتْق فرض عَدمه وَهُوَ محَال،
لِأَن الصَدَاق لَا بُد أَن يتَقَدَّم تقرره على الزَّوْج
إِمَّا نصا وَإِمَّا حكما حَتَّى تملك الزَّوْجَة طلبه،
وَإِن لم يتَعَيَّن لَهَا حَالَة العقد شَيْء، لَكِنَّهَا
تملك الْمُطَالبَة، فَثَبت أَنه ثَابت لَهَا حَالَة العقد
شَيْء يُطَالب بِهِ الزَّوْج، وَلَا يَتَأَتَّى مثل ذَلِك
فِي الْعتْق، فاستحال أَن يكون صَدَاقا، فَافْهَم. وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: ثَوَاب الْعتْق عَظِيم،
فَكيف فَوته حَيْثُ جعله مهْرا وَكَانَ يُمكن جعل الْمهْر
غَيره؟ فَالْجَوَاب أَن صَفِيَّة بنت مَالك وَمثلهَا لَا
يقنع فِي الْمهْر إلاَّ بالكثير وَلم يكن عِنْده صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذْ ذَاك مَا يرضيها بِهِ، وَلم ير أَن
يقصر بهَا فَجعل صَدَاقهَا نَفسهَا، وَذَلِكَ عِنْدهَا
أشرف من المَال الْكثير. |