عمدة القاري شرح صحيح البخاري

41 - (بَاب تَزْويجِ المُعْسِرِ لقَوْلهِ تَعالى { (24) إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} (النُّور: 23)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز تَزْوِيج الْمُعسر، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} (النُّور: 23) ، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الأعسار فِي الْحَال لَا يمْنَع التَّزْوِيج لاحْتِمَال حُصُول المَال فِي الْمَآل.

7805 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي حازمٍ عنْ أبيهِ عنْ سَهْل بن سَعدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: جاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقالَتْ: يَا رسولَ الله {جِئْتُ أهَبُ لَكَ نفسِي. قَالَ: فنَظَرَ إليْها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وصَوَّبَهُ ثُمَّ طأطأ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأْسَهُ، فلَمَّا رأتِ المَرْأَةُ أنّهُ لَمْ يقْضِ فِيهَا شَيئا جلَسَتْ، فقامَ رجُلٌ منْ أصْحابهِ فَقَالَ: يَا رسولُ الله} إنْ لَمْ يكُنْ لَكَ بِها حاجَةٌ فزَوَّجْنِيها، فَقَالَ: وهَلْ عِنْدَكَ منْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا وَالله يَا رسولَ الله، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى أهْلِكَ فانظُرْ هَلْ تجِدُ شَيْئا، فذَهَبَ ثُمَّ رجَعَ فَقَالَ: لَا وَالله مَا وجدت شَيْئا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنظر لَو خَاتمًا من جديث. فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَالله يَا رسولَ الله، وَلَا خَاتمًا منْ حَدِيدٍ ولاكنْ هاذا إزَارِي، قَالَ: سهْلٌ: مالَهُ رِدَاءٌ فلَها نِصْفُهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تَصْنَ بإِزَارِك إنْ لبِسْتَهُ لَمْ يكُنْ عَلَيْها مِنْهُ شَيءٌ، وإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ علَيْكَ شَيْءٌ؟ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا طالَ مَجْلِسُهُ قامَ، فرَآهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوَلِّيا، فأمَرَ بهِ فدُعِيَ، فلَمَّا جاءَ قَالَ: ماذَا معَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: مَعِي سورَةُ كَذَا وسورَةُ كَذا، عَدَّدَها، فَقَالَ: تَقْرَؤُهُنَّ عنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إذْهَبْ فقَدْ ملَّكْتكَها بمَا معَكَ مِنَ القرْآنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار، وَهَذِه التَّرْجَمَة ذكرهَا البُخَارِيّ فِيمَا قبل فِي كتاب النِّكَاح بقوله: بَاب تَزْوِيج الْمُعسر الَّذِي مَعَه الْقُرْآن وَالْإِسْلَام، وَقَالَ فِيهِ: سهل عَن

(20/82)


النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْفرق بَين الترجمتين أَن تِلْكَ أخص من هَذِه، وَأورد حَدِيث سهل هَذَا فِيمَا قبل فِي: بَاب الْقِرَاءَة عَن ظهر الْقلب، أخرجه بِتَمَامِهِ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد، وَأعَاد هُنَا بِهَذِهِ التَّرْجَمَة عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه عَن سهل إِلَى آخِره، بِنَحْوِ ذَاك الْمَتْن بِعَيْنِه، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوْفِي.
قَوْله: (فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا) أَي: رفع نظره إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَة. قَوْله: (وَصَوَّبَهُ) أَي: خفض نظره. قَوْله: (عَن ظهر قَلْبك) ، لفظ: الظّهْر، مقحم، أَو مَعْنَاهُ على استظهار قَلْبك.

51 - (بابُ الأكْفاءِ فِي الدِّينِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْأَكفاء الَّاتِي بِالْإِجْمَاع هِيَ أَن يكون فِي الدّين فَلَا يحل للمسلمة أَن تتَزَوَّج بالكافر، ولأكفاء جمع كُفْء بِضَم الْكَاف وَسُكُون الْفَاء بعْدهَا همزَة، وَهُوَ الْمثل والنظير.
وقوْلِهِ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الْفرْقَان: 45)

وَقَوله: بِالْجَرِّ عطف على الْأَكفاء أَي: وَفِي بَيَان قَوْله عز وَجل فِي الْقُرْآن: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء} (الْفرْقَان: 45) الْآيَة، وغرضه من إِيرَاد هَذِه الْآيَة الْإِشَارَة إِلَى أَن النّسَب والصهر مِمَّا يتَعَلَّق بهما حكم الْكَفَاءَة، وَعَن ابْن سِيرِين: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، زوج، عَلَيْهِ السَّلَام، فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عليا وَهُوَ ابْن عَمه وَزوج ابْنَته فَكَانَ نسبا وَكَانَ صهرا. قَوْله: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء} (الْفرْقَان: 45) أَي: من النُّطْفَة بشرا، فَجعل الْبشر على قسمَيْنِ: نسبا ذَوي نسب أَي ذُكُورا ينْسب إِلَيْهِم، فَيُقَال: فلَان ابْن فلَان وفلانة بنت فلَان. وصهرا ذَوَات صهر أَي: إِنَاثًا يصاهر بِهن، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: النّسَب مَا لَا يحل نِكَاحه، والصهر مَا يحل نِكَاحه، وَقَالَ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَمُقَاتِل: النّسَب سَبْعَة والصهر خَمْسَة. واقرؤا قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} (النِّسَاء: 32) إِلَى آخر الْآيَة.

8805 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبَرَنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا: أنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بنَ عُتْبَةَ بنِ ربِيعَةَ بنِ عبْدِ شَمْسٍ، وكانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرا معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تبَنَّى سالِما وأنْكَحَهُ بنْتُ أخيهِ هِنْدَ بنْتَ الوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ وهْوَ مَوْلى لِامْرَأةٍ مِنَ الأنْصارِ، كَما تبَنَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْدا، وكانَ منْ تبَنَّى رَجُلاً فِي الجَاهِليَّةِ دَعاهُ النَّاسُ إليْهِ ووَرثَ مِنْ مِيرَاثِه حتَّى أنْزَلَ الله مِن} إِلَى قوْلِهِ { (5) ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 5) فَرُدُّوا إِلَى آبائِهِمْ فمَنْ لَم يُعْلَمْ لَهُ أبٌ كانَ مَوْلىً وأخا فِي الدِّينِ، فَجاءَتْ سَهْلةُ بنْتُ سُهَيْلٍ بنِ عَمْرو القُرَشِيِّ ثُمَّ العامِرِيِّ، وهْيَ امْرَأةُ أبي حُذَيْفَةَ بنِ عُتْبَةَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رَسُول الله! إنّا كُنّا نَرَى سالِما ولَدا، وقَدْ أنْزَلَ الله فِيهِ مَا قَدْ علِمْتَ فذَكَرَ الحَدِيثَ.
(انْظُر الحَدِيث 0004) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من تَزْوِيج أبي حُذَيْفَة بنت أَخِيه هندا سَالم الَّذِي تبناه. وَهُوَ مولى لامْرَأَته من الْأَنْصَار، وَلم يعْتَبر فِيهِ الْكَفَاءَة إلاَّ فِي الدّين.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن عمرَان بن بكار عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ.
قَوْله: (أَن أَبَا حُذَيْفَة) ، اسْمه: مهشم، على الْمَشْهُور وَقيل: هَاشم، وَقيل: هشيم، وَقيل غير ذَلِك، وَهُوَ خَال مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (ابْن عتبَة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ابْن ربيعَة بِفَتْح الرَّاء ابْن عبد شمس الْقرشِي العبشمي، وَكَانَ من فضلاء الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، صلى الْقبْلَتَيْنِ وَهَاجَر الهجرتين وَشهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا وَهُوَ ابْن ثَلَاث أَو أَربع وَخمسين سنة. قَوْله: (تبنى سالما) أَي: اتَّخذهُ ابْنا، وَسَالم هُوَ ابْن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف، وَفِي

(20/83)


آخِره لَام، يكنى أَبَا عبد الله، وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ من أهل فَارس من اصطخر، وَقيل: إِنَّه من عجم الْفرس من كرمد، وَكَانَ من فضلاء الموَالِي وَمن خِيَار الصَّحَابَة وكبارهم، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُهَاجِرين وَفِي الْأَنْصَار أَيْضا لعتق مولاته الْأَنْصَارِيَّة، فَقَالَ أَبُو عمر: شهد سَالم بَدْرًا وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا هُوَ ومولاه أَبُو حُذَيْفَة فَوجدَ رَأس أَحدهمَا عِنْد رجْلي الآخر، وَذَلِكَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة من الْهِجْرَة. قَوْله: (وأنكحه بنت أَخِيه هِنْد) أَي: زوجه بنت أَخِيه. فَقَوله: (هِنْد) يجوز فِيهِ الصّرْف وَمنعه، أما مَنعه فللعلمية والتأنيث، وَأما صرفه فَلِأَن سُكُون أوسطه يُقَاوم أحد السببين، وَهُوَ هُنَا فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ عطف بَيَان عَن بنت، وَوَقع عِنْد مَالك: وأنكحه بنت أَخِيه فَاطِمَة، وَلَا كَلَام فِيهِ لِأَنَّهَا رُبمَا كَانَت تسمى باسمين، والوليد بن عتبَة قتل ببدر كَافِرًا، وَقَالَ ابْن التِّين: وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات: بنت أُخْته، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهُوَ غلط. قَوْله: (وَهُوَ مولى) أَي: سَالم الْمَذْكُور مولى لامْرَأَة من الْأَنْصَار وَاسْمهَا ثبيتة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَإِسْكَان الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: بنت يعار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف رَاء: ابْن زيد بن عبيد بن مَالك بن عَمْرو بن عَوْف الْأَنْصَارِيَّة، كَانَت من الْمُهَاجِرَات الأول وَمن فضلاء نسَاء الصَّحَابَة، وَهِي زوج أبي حُذَيْفَة الْمَذْكُور، وَهِي مولاة سَالم بن معقل الْمَذْكُور، وَيُقَال لَهُ: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة، أَعتَقته ثبيتة فوالى سَالم أَبَا حُذَيْفَة، فَلذَلِك يُقَال: سَالم مولى أبي حُذَيْفَة. وَقَالَ أَبُو طوالة: اسْم هَذِه الْمَرْأَة من الْأَنْصَار عمْرَة بنت يعار الْأَنْصَارِيَّة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْمهَا سلمى بنت يعار. قَوْله: (كَمَا تبنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: كَمَا اتخذ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، زيد بن حَارِثَة ابْنا لَهُ، حَتَّى يُقَال: ابْن مُحَمَّد. قَوْله: (وَكَانَ من تبنى) كلمة: من اسْم كَانَ. قَوْله: (دَعَاهُ النَّاس إِلَيْهِ) خَبره أَي: كَانُوا يَقُولُونَ للَّذي تبناه: هَذَا ابْن فلَان، وَكَانَ يَرث من مِيرَاثه أَيْضا كَمَا يَرث ابْنه من النّسَب حَتَّى أنزل الله تَعَالَى {أدعوهم لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) وَقبل الْآيَة {وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل أدعوهم لأبائهم هُوَ أقسط عِنْد الله فَإِن لم تعلمُوا أباءهم فإخوانكم فِي الدّين ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 4 5) قَوْله {وَمَا جعل أدعياءكم} (الْأَحْزَاب: 4) يَعْنِي: من سميتموهم أبناءكم، نزلت فِي زيد بن حَارِثَة الْكَلْبِيّ من بني عبدو كَانَ عبدا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْتقهُ وتبناه قبل الْوَحْي وآخى بَينه وَبَين حَمْزَة بن عبد الْمطلب فِي الْإِسْلَام، فَجعل الْفُقَرَاء أَخا للغني ليعود عَلَيْهِ، فَلَمَّا تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش الْأَسدي، وَكَانَت تَحت زيد بن حَارِثَة، قَالَ الْيَهُود والمنافقون: تزوج مُحَمَّد امْرَأَة ابْنه وَنهى النَّاس عَنْهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {ذَلِكُم قَوْلكُم} (الْأَحْزَاب: 4) وَلَا حَقِيقَة لَهُ يَعْنِي: قَوْلهم: زيد بن مُحَمَّد بن عبد الله {وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل} (الْأَحْزَاب: 4) أَي: سَبِيل الْحق ثمَّ قَالَ: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) الَّذين ولدوهم، وبيَّن أَن دعاءهم لِآبَائِهِمْ هُوَ أَدخل الْأَمريْنِ فِي الْقسْط وَالْعدْل عِنْد الله، فَإِن لم تعلمُوا لَهُم آبَاء تنسبونهم إِلَيْهِم فإخوانكم أَي: فَهُوَ إخْوَانكُمْ فِي الدّين مواليكم إِن كَانُوا محرريكم. قَوْله: (فَردُّوا) على صِيغَة الْمَجْهُول (إِلَى آبَائِهِم) الَّذين ولدهم. قَوْله: (فَمن لم يعلم) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله: (أَب) مَرْفُوع بِهِ كَانَ مولى وأخا فِي الدّين قَوْله: (فَجَاءَت سهلة) وَهِي الَّتِي رَوَت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّخْصَة فِي رضَاع الْكَبِير، روى عَنْهَا الْقَاسِم بن مُحَمَّد. قَوْله: (وَهِي امْرَأَة أبي حُذَيْفَة) وَهِي ضرَّة مُعتقة سَالم، هَذِه قرشية وَتلك أنصارية. قَوْله: (النَّبِي) بِالنّصب بقوله: (فَجَاءَت سهلة) قَوْله: (إِنَّا كُنَّا نرى) بِفَتْح النُّون بِمَعْنى نعتقد. قَوْله: (مَا قد علمت) أَرَادَت بِهِ قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (الْأَحْزَاب: 5) وَقَوله: قَوْله: (وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم) (الْأَحْزَاب: 4) قَوْله: (فَذكر الحَدِيث) أَي: فَذكر أَبُو الْيَمَان الحَدِيث، قَالَه البُخَارِيّ وَلم يذكرهُ وَهُوَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة، وَقَالَ الْحميدِي فِي الْجمع: أخرجه البرقاني فِي كِتَابه بِطُولِهِ من حَدِيث أبي الْيَمَان بِسَنَدِهِ بِزِيَادَة: فَكيف ترى يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: أرضعيه، فأرضعته خمس رَضعَات، فَكَانَ بِمَنْزِلَة وَلَدهَا من الرضَاعَة، فبذلك كَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَأمر بَنَات أَخِيهَا وَأُخْتهَا أَن يرضعن من أحبت عَائِشَة أَن يَرَاهَا وَيدخل عَلَيْهَا وَإِن كَانَ كَبِيرا خمس رَضعَات فَيدْخل عَلَيْهَا، وأبت أم سَلمَة وَسَائِر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُدخلن عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرضَاعَة أحدا من النَّاس، ويروى أَن سهلة قَالَت: يَا رَسُول الله! إِن سالا بلغ مبلغ الرِّجَال وَإنَّهُ يدْخل علينا، وَإِنِّي أَظن من نفس أبي حُذَيْفَة من ذَلِك شَيْئا. فَقَالَ: أرضعيه تحرمي عَلَيْهِ وَيذْهب مَا فِي نَفسه، فأرضعته فَذهب الَّذِي فِي نَفسه. وَفِي مُسلم من حَدِيث الْقَاسِم عَن عَائِشَة: جَاءَت سهلة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت:

(20/84)


يَا رَسُول الله! إِنِّي أرى فِي وَجه أبي حُذَيْفَة من دُخُول سَالم، فَقَالَ: أرضعيه وَهُوَ رجل كَبِير؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: قد علمت أَنه رجل كَبِير، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي مليكَة: أرضعيه تحرمي عَلَيْهِ وَيذْهب الَّذِي فِي وَجه أبي ذيفة، فَرَجَعت وَقَالَت: قد أَرْضَعَتْه، فَذهب الَّذِي فِي نفس أبي حُذَيْفَة. وَقَالَ القَاضِي: لَعَلَّهَا حلبته ثمَّ شربه من غير أَن يمس ثديها وَلَا الْتَقت بشرتاهما. هَذَا الَّذِي قَالَه حسن، وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل أَنه عُفيَ عَن مَسّه للْحَاجة كَمَا خص بالرضاعة مَعَ الْكبر، وَبِهَذَا قَالَت عَائِشَة وَدَاوُد، وَتثبت حُرْمَة الرَّضَاع برضاع الْبَالِغ كَمَا تثبت برضاع الطِّفْل، وَعند جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وعلماء الْأَمْصَار: إِلَى الْآن لَا تثبت إلاَّ برضاع من لَهُ دون سنتَيْن، وَعند أبي حنيفَة: بِسنتَيْنِ وَنصف، وَعند زفر: بِثَلَاث سِنِين، وَعَن مَالك: بِسنتَيْنِ وَأَيَّام، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بقوله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 332) وبأحاديث كَثِيرَة مَشْهُورَة، وَأَجَابُوا عَن حَدِيث سهلة على أَنه مُخْتَصّ بهَا وبسالم، وَقيل: إِنَّه مَنْسُوخ، وَالله أعلم.

9805 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا أَبُو أسامَةَ عَنْ هِشامٍ عَنْ أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قالَتْ: دَخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى ضُباعَة بنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَها: لعَلَّكِ أرَدْتِ الحَجَّ؟ وقالَتْ: وَالله لَا أجِدُني إلاَّ وَجعَةً. فَقَالَ لَها: حُجِّي واشْتَرِطي، قُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حيْثُ حَبَسْتْنِي، وكانَتْ تَحْتَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَكَانَت) أَي: ضباعة (تَحت الْمِقْدَاد بن الْأسود) بَيَانه أَن الْمِقْدَاد هُوَ ابْن عَمْرو بن ثَعْلَبَة بن مَالك الْكِنْدِيّ، وَقد نسب إِلَى الْأسود بن عبد يَغُوث بن وهب بن عبد منَاف بن زهرَة الزُّهْرِيّ لِأَنَّهُ كَانَ تبناه، وَخَالفهُ فِي الْجَاهِلِيَّة فَقيل: الْمِقْدَاد بن الْأسود، وَقَالَ أَبُو عمر: قد قيل: إِنَّه كَانَ عبدا حَبَشِيًّا للأسود بن عبد يَغُوث فَتَبَنَّاهُ، وَالْأول أصح، وَتزَوج ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب الهاشمية بنت عَم النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو كَانَت الْكَفَاءَة مُعْتَبرَة فِي النّسَب لما جَازَ لِلْمِقْدَادِ أَن يتَزَوَّج ضباعة وَهِي فَوْقه فِي النّسَب، فَوَافَقَ الحَدِيث التَّرْجَمَة فِي أَن اعْتِبَار اكفاءة فِي الدّين، وَسَنذكر الْخلاف فِيهِ، وَكَانَ الْمِقْدَاد من الْفُضَلَاء النجباء الْكِبَار الْخِيَار من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله تَعَالَى ليه وَسلم، وَعَن ابْن مَسْعُود: أَن أول من أظهر الْإِسْلَام سَبْعَة، فَذكر مِنْهُم الْمِقْدَاد، وَشهد الْمِقْدَاد فتح مصر وَمَات فِي أرضه بالجرف فَحمل إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بهَا وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة ثَلَاث وَعبيد بن إِسْمَاعِيل اسْمه فِي الأَصْل: عبد الله بن إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، مَاتَ فِي ربيع الأول يَوْم الْجُمُعَة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، رُوِيَ عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج. قَوْله: (لَا أجدني) أَي: لَا أجد نَفسِي، وَكَون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول ضميرين لشَيْء وَاحِد من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب. قَوْله: (واشترطي) أَي: إِنَّك حَيْثُ عجزت عَن الْإِتْيَان بالمناسك وانحبست عَنْهَا بِسَبَب قُوَّة الْمَرَض تحللت، وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ مَكَان تحللي عَن الْإِحْرَام مَكَان حبستني فِيهِ عَن النّسك بعلة الْمَرَض.
وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الِاشْتِرَاط، فَأَجَازَهُ عمر وَعُثْمَان وَعلي ابْن مَسْعُود وعمار وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَعَطَاء وعلقمة وَشُرَيْح، وَقَالَ صَاحب التَّوْضِيح: وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الشَّافِعِي، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر. وَمنعه طَائِفَة وَقَالُوا: هُوَ بَاطِل، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَعَائِشَة، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحكم وطاووس، وَسَعِيد بن جُبَير، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة، وَقَالُوا: لَا يَنْفَعهُ اشْتِرَاط ويمضي على إِحْرَامه حَتَّى يتم، وَكَانَ ابْن عمر يُنكر ذَلِك وَيَقُول: أَلَيْسَ حسبكم سنة رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم؟ فَإِنَّهُ لم يشْتَرط، فَإِن حبس أحدكُم بحابس عَن الْحَج فليأت الْبَيْت فليطف بِهِ وَبَين الصَّفَا والمروة ويحلق أَو يقصر، وَقد حل من كل شَيْء حَتَّى يحجّ قَابلا وَيهْدِي أَو يَصُوم إِن لم يجد هَديا، وَأنكر ذَلِك طَاوُوس وَسَعِيد بن جُبَير وهما رويا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس، وَأنْكرهُ الزُّهْرِيّ وَهُوَ رُوَاة عَن عُرْوَة، فَهَذَا كُله مِمَّا يوهن الِاشْتِرَاط. وَزعم ابْن المرابط أَن عدم ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْحَج دلَالَة على أَن الِاشْتِرَاط عِنْده لَا يَصح.
قلت فِيهِ نظر لَا يخفي.
قَوْله: (وَجَعه) بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْجِيم وَهُوَ من الصِّفَات المشبهة أَي: إِنِّي ذَات وجع أَي: مرض. قَوْله: (محلي) أَي: مَوضِع تحللي من الْإِحْرَام.
وَفِيه: أَن الْمحصر يحل حَيْثُ يحبس وينحر هَدْيه هُنَاكَ حلا كَانَ أَو حَرَامًا، وَفِيه خلاف.

(20/85)


0905 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثَنا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ الله قَالَ: حَدثنِي سعِيدُ بنُ أبي سعِيدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عنهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: تُنْكَحُ المَرْأةُ لِأرْبَعٍ: لِمَالِها ولِحَسَبِها وجَمَالِها ولِدِينِها، فأظْفَرْ بذَاتِ الطِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ولدينها) وَلَا سِيمَا أَمر فِيهِ بِطَلَب ذَات الدّين ودعا لَهُ أَو عَلَيْهِ بقوله (تربت يداك) إِذا ظفر بِذَات الدّين وَطلب غَيرهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَهُ أَو عَلَيْهِ، لاستعمال تربت يداك فِي النَّوْعَيْنِ على مَا نذْكر الْآن.
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ، وَسَعِيد بن أبي سعيد المَقْبُري يروي عَن أَبِيه أبي سعيد واسْمه كيسَان عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح أَيْضا عَن مُحَمَّد وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن يحيى بن حَكِيم.
قَوْله: (تنْكح الْمَرْأَة) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمَرْأَة مَرْفُوع بِهِ. قَوْله: (لأَرْبَع) أَي: لأَرْبَع خِصَال. قَوْله: (لمالها) لِأَنَّهَا إِذا كَانَت صَاحِبَة مَال لَا تلْزم زَوجهَا بِمَا لَا يُطيق وَلَا تكلفه فِي الْإِنْفَاق وَغَيره، وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا دَال على أَن للزَّوْج الِاسْتِمْتَاع بمالها فَإِنَّهُ يقْصد لذَلِك فَإِن طابت بِهِ نفسا فَهُوَ لَهُ حَلَال، وَإِن منعته فَإِنَّمَا لَهُ من ذَلِك بِقدر مَا بذل من الصَدَاق. وَاخْتلفُوا إِذا أصدقهَا وامتنعت أَن تشتري شَيْئا من الجهاز؟ فَقَالَ مَالك: لَيْسَ لَهَا أَن تقضي بِهِ دينهَا، وَأَن تنْفق مِنْهُ مَا يصلحها فِي عرسها، إلاَّ أَن يكون الصَدَاق شَيْئا كثيرا فتنفق مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا فِي دينهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: لَا تجبر على شِرَاء مَا لَا تُرِيدُ، وَالْمهْر لَهَا تفعل فِيهِ مَا شَاءَت. قَوْله: (ولحسبها) هُوَ إخْبَاره عَن عَادَة النَّاس فِي ذَلِك، والحسب مَا يعده النَّاس من مفاخر الْآبَاء، وَيُقَال: الْحسب فِي الأَصْل الشّرف بِالْآبَاءِ وبالأقارب، مَأْخُوذ من الْحساب لأَنهم كَانُوا إِذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبَائِهِم وقومهم وحسبوها، فَيحكم لمن زَاد عدده على غَيره، وَقيل: المُرَاد بالحسب هُنَا الفعال الْحَسَنَة، وَقيل: المَال، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَن المَال ذكر قبله. قَوْله: (وجمالها) لِأَن الْجمال مَطْلُوب فِي كل شَيْء وَلَا سِيمَا فِي الْمَرْأَة الَّتِي تكون قرينته وضجيعته. قَوْله: (ولدينها) لِأَنَّهُ بِهِ يحصل خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، واللائق بأرباب الديانَات وَذَوي المروآت أَن يكون الدّين مطمح نظرهم فِي كل شَيْء، وَلَا سِيمَا فِيمَا يَدُوم أمره، وَلذَلِك اخْتَارَهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآكدوجه وأبلغه، فَأمر بالظفر الَّذِي هُوَ غَايَة البغية، فَلذَلِك قَالَ: (فاظفر بِذَات الدّين) فَإِن بهَا تكتسب مَنَافِع الدَّاريْنِ (تريت يداك) إِن لم تفعل مَا أمرت بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (فاظفر) جَزَاء شَرط مَحْذُوف أَي: إِذا تحققت تفصيلها فاظفر أَيهَا المسترشد بهَا.
وَاخْتلفُوا فِي معنى (تربت يداك) . فَقيل: هُوَ دُعَاء فِي الأَصْل، إلاَّ أَن الْعَرَب تستعملها للإنكار والتعجب والتعظيم والحث على الشَّيْء، وَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهِ هَهُنَا، وَفِيه التَّرْغِيب فِي صُحْبَة أهل الدّين فِي كل شَيْء، لِأَن من صَاحبهمْ يَسْتَفِيد من أَخْلَاقهم ويأمن الْمفْسدَة من جهتهم. وَقَالَ مُحي السّنة: هِيَ كلمة جَارِيَة على ألسنتهم كَقَوْلِهِم: لَا أَب لَك، وَلم يُرِيدُوا وُقُوع الْأَمر، وَقيل: قَصده بهَا وُقُوعه لتعدية ذَوَات الدّين إِلَى ذَوَات المَال وَنَحْوه، أَي: تربت يداك إِن لم تفعل مَا قلت لَك من الظفر بِذَات الدّين، وَقيل: معنى تربت يداك أَي لصقت بِالتُّرَابِ، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْفقر. وَحكي ابْن الْعَرَبِيّ أَن مَعْنَاهُ. استغنت يداك، ورد بِأَن الْمَعْرُوف: أترب إِذا اسْتغنى، وترب إِذا افْتقر، وَقيل: مَعْنَاهُ ضعف عقلك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: معنى الحَدِيث أَن هَذِه الْخِصَال الْأَرْبَع هِيَ الَّتِي ترغب فِي نِكَاح الْمَرْأَة لَا أَنه وَقع الْأَمر بذلك، بل ظَاهره إِبَاحَة النِّكَاح لقصد كل من ذَلِك، لَكِن قصد الدّين أولى. قَالَ: وَلَا يظنّ أَن هَذِه الْأَرْبَع تُؤْخَذ مِنْهَا الْكَفَاءَة؟ أَي: تَنْحَصِر فِيهَا. فَإِن ذَلِك لم يقل بِهِ أحد وَإِن كَانُوا اخْتلفُوا فِي الْكَفَاءَة مَا هِيَ؟ انْتهى. وَقَالَ الْمُهلب: الْأَكفاء فِي الدّين هم المتشاكلون وَإِن كَانَ فِي النّسَب تفاضل بَين النَّاس، وَقد نسخ الله مَا كَانَت تحكم بِهِ الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة من شرف الْأَنْسَاب بشرف الصّلاح فِي الدّين، فَقَالَ: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} (الحجرات: 31) وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي الْأَكفاء مِنْهُم فَقَالَ مَالك: فِي الدّين دون غَيره والمسلمون أكفاء بَعضهم لبَعض، فَيجوز أَن يتَزَوَّج الْعَرَبِيّ والمولي القرشية، رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَابْن سِيرِين، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} (الحجرات: 31) وَبِحَدِيث سَالم وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَلَيْك بِذَات الدّين، وعزم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يُزَوّج ابْنَته من سلمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَا بني بياضة أنكحوا أَبَا هِنْد) فَقَالُوا يَا رَسُول الله!

(20/86)


أنزوج بناتنا من موالينا؟ فَنزلت: {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى} (الحجرات: 31) الْآيَة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِذا خطب إِلَيْكُم من ترْضونَ دينه وخلقه فَزَوجُوهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو اللَّيْث عَن ابْن عجلَان عَن أبي هُرَيْرَة مُرْسلا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: قُرَيْش كلهم أكفاء بَعضهم لبَعض وَلَا يكون أحد من الْعَرَب كُفؤًا لقرشي، وَلَا أحد من الموَالِي كُفؤًا للْعَرَب، وَلَا يكون كُفؤًا من لَا يجد الْمهْر وَالنَّفقَة. وَفِي التَّلْوِيح: احْتج لَهُ بِمَا رَوَاهُ نَافِع عَن مَوْلَاهُ مَرْفُوعا: قُرَيْش بَعْضهَا لبَعض أكفا. إلاَّ حائك أَو حجام، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث مُنكر، وَرَوَاهُ هِشَام الرَّازِيّ فَزَاد فِيهِ، أودباغ. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم: حَدثنَا الْأَصَم الصَّنْعَانِيّ حَدثنَا شُجَاع بن الْوَلِيد حَدثنَا بعض إِخْوَاننَا عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي مليكَة عَن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْعَرَب بَعضهم أكفاء لبَعض قَبيلَة بقبيلة وَرجل بِرَجُل، والموالي بَعضهم أكفاء لبَعض قَبيلَة بقبيلة وَرجل بِرَجُل، إلاَّ حائك أَو حجام. وَقَالَ صَاحب التَّنْقِيح: هَذَا مُنْقَطع إِذْ لم يسم شُجَاع بن الْوَلِيد بعض إخوانه، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي مُسْنده من حَدِيث بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن زرْعَة بن عبد الله، والزبيدي عَن عمرَان بن أبي الْفضل الْأَيْلِي عَن نَافِع عَن ابْن عمر نَحوه سَوَاء، قَالَ ابْن عبد الْبر. هَذَا حَدِيث مُنكر مَوْضُوع، وَقد رُوِيَ ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عمر مَرْفُوعا مثله، وَلَا يَصح عَن ابْن جريج. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي كتاب الضُّعَفَاء وَأعله بعمران بن أبي الْفضل وَقَالَ: إِنَّه يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات لَا يحل كتب حَدِيثه، وَقَالُوا فِي اعْتِبَار الْكَفَاءَة أَحَادِيث لَا تقوم بأكثرها الْحجَّة وأمثلها حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب. رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا عبد الله بن وهب عَن سعيد بن عبد الله الْجُهَنِيّ عَن مُحَمَّد بن عمر بن عَليّ عَن أَبِيه عَليّ بن أبي طَالب: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: يَا عَليّ! ثَلَاث لَا تؤخرها: الصَّلَاة إِذا أَتَت، والجنازة إِذا حضرت، والأيم إِذا وجدت كُفؤًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: غَرِيب وَمَا أرى إِسْنَاده مُتَّصِلا، وَأخرجه الْحَاكِم كَذَلِك، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.

1905 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثَنا ابنُ أبي حازِمٍ عَنْ أبيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: مَرَّ رجُلٌ علَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هاذا؟ قالُوا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ وإنْ قَالَ أنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فمَرَّ رجلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هاذا؟ قالُوا: حَرِيُّ إنْ خَطَبَ أنْ لَا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لَا يُشَفَّعَ، وإنْ قَالَ أنْ لَا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هاذا خيْرٌ مِنْ ملْءِ الأرْضِ مِثْلَ هاذا.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (هَذَا خير) إِلَى آخِره، لِأَن فِيهِ تَفْضِيل الْفَقِير على الْغَنِيّ مُطلقًا فِي الدّين فَيكون كُفؤًا لمن يريدها من النِّسَاء مُطلقًا، وَأخرجه إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة أبي إِسْحَاق الزبيرِي الْأَسدي الْمَدِينِيّ عَن عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَفِي التَّلْوِيح: وَحَدِيث سهل بن سعد ذكره الْحميدِي وَأَبُو مَسْعُود وَابْن الْجَوْزِيّ فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ وأبى ذَلِك الطرقي وَخلف فَذَكَرَاهُ فِي البُخَارِيّ فَقَط. قلت: وَكَذَا ذكره الْمزي فِي الْأَطْرَاف وَاقْتصر على البُخَارِيّ.
قَوْله: (مر رجل) لم بدر اسْمه. قَوْله: (حري) بِفَتْح الْحَاء وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: حقيق وجدير، قَوْله: (أَن ينْكح) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لِأَن ينْكح. قَوْله: (أَن يشفع) بِضَم أَوله وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لِأَن تقبل شَفَاعَته. قَوْله: (أَن يستمع) أَي: يستمع، على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله: (وَمر رجل من فُقَرَاء الْمُسلمين) قيل: إِنَّه جعيل بن سراقَة، وَقَالَ أَبُو عمر: جِعَال بن سراقَة، وَيُقَال: جعيل بن سراقَة الضمرِي، وَيُقَال الثَّعْلَبِيّ، وَكَانَ من فُقَرَاء الْمُسلمين وَكَانَ رجلا صَالحا دميما قبيحا أسلم قَدِيما وَشهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا. قَوْله: (هَذَا) أَي: هَذَا الْفَقِير من فُقَرَاء الْمُسلمين (خير من ملْء الأَرْض) بِكَسْر الْمِيم وبالهمزة فِي آخِره. قَوْله: (مثل هَذَا) أَي: مثل هَذَا الْغَنِيّ، وَيجوز فِي مثل،

(20/87)


الْجَرّ وَالنّصب، وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ ذَلِك؟ قلت: إِن كَانَ الأول كَافِرًا فوجهه ظَاهر. وإلاَّ فَيكون ذَلِك مَعْلُوما لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَحْي، وَقَالَ بَعضهم: يعرف المُرَاد من الطَّرِيق الْأُخْرَى الَّتِي ستأتي فِي الرقَاق بِلَفْظ: قَالَ رجل من أَشْرَاف النَّاس: هَذَا وَالله حري إِلَخ قلت: فِي كل من كلاميهما نظر، أما كَلَام الْكرْمَانِي فَقَوله: بِالْوَحْي، لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ: مر رجل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد شَاهده وعرفه أَنه مُسلم أَو كَافِر، وَالظَّاهِر أَنه مُسلم كَانَ شريفا بَين قومه وَلَكِن المارّ الثَّانِي إِن كَانَ كَمَا قيل: إِنَّه جعيل بن سراقَة، وَهُوَ من أَصْحَابه من خِيَار عباد الله الصَّالِحين، وَأما قَول بَعضهم: فَأنْزل، من كَلَام الْكرْمَانِي على مَا لَا يخفي على المتأمل.

61 - (بابُ الأكْفاءِ فِي المَالِ وتزْويجِ المُقِلِّ المُثْرِيَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَكفاء فِي المَال فَهَذَا بَاب مُخْتَلف فِيهِ عِنْد من يشْتَرط الْكَفَاءَة، وَالْأَشْهر عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنه لَا يعْتَبر. وَنقل صَاحب الإفصاح عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: الْكَفَاءَة فِي الدّين وَالْمَال وَالنّسب، وَجزم بِاعْتِبَارِهِ أَبُو الطّيب والصيمري وَجَمَاعَة واعتبره الْمَاوَرْدِيّ فِي أهل الْأَمْصَار، وَخص الْخلاف بِأَهْل الْبَوَادِي والقرى المتفاخرين بِالنّسَبِ دون المَال. قَوْله: (وتزويج) أَي: وَفِي بَيَان تَزْوِيج (الْمقل) بِضَم الْمِيم وَكسر الْقَاف وَتَشْديد اللَّام وَهُوَ الْفَقِير المفتقر، وَلَفظ تَزْوِيج مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله وَقَوله: (المثرية) بِالنّصب مَفْعُوله، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الرَّاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الْمَرْأَة الَّتِي لَهَا ثراة بِفَتْح أَوله وبالمد، وَهُوَ الْغنى، وحاصلة تَزْوِيج الْفَقِير الغنية.

2905 - حدَّثني يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أخبرَني عُرْوَةُ أنّهُ سألَ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، { (4) وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) قالَتْ: يَا ابْنَ أخْتي: هاذِهِ اليَتِيمَةُ تكُونُ فِي حَجْرِ ولِيِّها فيَرْغبُ فِي جَمَالِها ومالِها ويُرِيدُ أنْ يَنْتَقِصَ صَدَاقَها، فنُهُوا عَنْ نِكاحِهِنَّ إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا فِي إكمالِ الصَّدَاقِ، وأُمِرُوا بنِكاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ. قالَتْ: واسْتَفْتَى النَّاسُ رسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَعْدَ ذالِكَ فأنْزَلَ الله: { (4) ويستفتونك فِي النِّسَاء} (النِّسَاء: 721) إِلَى { (4) وترغبون أَن تنكحوهن} (النِّسَاء: 721) فأنْزَلَ الله لهُمْ. أنَّ اليَتِيمَةَ إذَا كانَتْ ذاتَ جَمالٍ ومالٍ رَغِبُوا فِي نِكاحِها ونَسَبِها فِي إكْمال الصَّدَاقِ، وَإِذا كانَتْ مَرْغُوبَةً عنْها فِي قِلَّةِ المَالِ والجَمالِ ترَكُوها وأخذُوا غيْرَها منَ النِّساءِ، قالَتْ: فكَما تَتْرُكُونَها حِينَ يرْغَبُونَ عنْها فلَيْسَ لَهمْ أنْ يَنْكِحُوها إِذا رَغِبُوا فِيها إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا لَها ويُعْطُوها حقَها الأوْفَى فِي الصَّدَاقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الرجل إِذا كَانَ ولي الْيَتِيمَة الغنية وَهُوَ فَقير يجوز لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا إِذا أقسط فِي صَدَاقهَا وَعدل، فصح أَن اكفاءة مُعْتَبرَة فِي المَال. والْحَدِيث قد مر فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(وَالْحجر) بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَرغب فِيهَا: إِذا مَال إِلَيْهَا، وَرغب عَنْهَا: إِذا أعرض عَنْهَا وَلم يردهَا.

71 - (بابُ مَا يُتَّقَى منْ شُؤْمِ المَرْأَةِ وقَوْلهِ تَعَالَى: { (64) إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم} (التغابن: 41)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يَتَّقِي، أَي: مَا يحْتَسب من شُؤْم الْمَرْأَة، وَالْوَاو فِيهِ فِي الأَصْل همزَة وَلَكِن هجر الأَصْل حَتَّى لم ينْطق بهَا مَهْمُوزَة، يُقَال: تشاءمت بالشَّيْء وشأمت بِهِ شؤما وَهُوَ ضد الْيمن، وشؤم الْمَرْأَة أت لَا تَلد، وَيُقَال: شُؤْم المرألا عقرهَا وَغَلَاء مهرهَا وَسُوء خلقهَا. قَوْله: (وَقَوله تَعَالَى) إِلَخ ذكره إِشَارَة إِلَى أَن اخْتِصَاص الشؤم بِبَعْض النِّسَاء دون بعض دلّ عَلَيْهِ كلمة: من فِي قَوْله: {إِن من أزواجكم} (التغابن: 41) لِأَن من هُنَا، للتَّبْعِيض.

3905 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ حَمْزَةَ وسالِمٍ ابْنَيْ عبْدِ الله بنِ

(20/88)


عُمَرَ عنْ عَبْدَ الله بنِ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ والدَّارِ والفَرَسِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس عبد الله ابْن أُخْت مَالك بن أنس والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجِهَاد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ فِي: بَاب مَا يذكر من شُؤْم الْفرس عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد الله: أَن عبد الله بن عمر قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِنَّمَا الشؤم فِي ثَلَاثَة: الْفرس وَالْمَرْأَة وَالدَّار، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وشؤم الدَّار ضيقها وَسُوء جارها، وشؤم الْفرس أَن لَا يُغزى عَلَيْهَا وجماحها وَنَحْوه.

4905 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا يزِيدُ بنُ زخرَيْعٍ حَدثنَا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ العَسْقَلانِيُّ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنْ كانَ الشُّؤمُ فِي شَيْء ففِي الدَّارِ والمَرْأَةِ والفَرَسِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن مُحَمَّد بن منهال الْبَصْرِيّ عَن يزِيد بن زُرَيْع، بِضَم الزَّاي، عَن عمر بن مُحَمَّد الْعَسْقَلَانِي عَن أَبِيه مُحَمَّد بن زيد عَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.

5905 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرنا مالِكُ عنْ أبي حازِم عنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِنْ كانَ فِي شَيْء ففِي الفَرَسِ والمَرْأةِ والمَسْكَنِ.
(انْظُر الحَدِيث 9582) .
أَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الطِّبّ عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطِّبّ عَن القعْنبِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن عبد السَّلَام عَن عَاصِم.
قَوْله: (إِن كَانَ فِي شَيْء) أَي: إِن كَانَ الشؤم فِي شَيْء، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِن كَانَ فَفِي الْمَرْأَة وَالْفرس والمسكن، يَعْنِي: الشؤم، وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن كَانَ فِي شَيْء فَفِي الرّبع وَالْخَادِم وَالْفرس، وَرُوِيَ أَحْمد وَالْحَاكِم وَابْن حبَان من حَدِيث سعد مَرْفُوعا: من سَعَادَة ابْن آدم ثَلَاثَة: الْمَرْأَة الصَّالِحَة والمسكن الصَّالح والمركب الصَّالح، وَمن شقاوة ابْن آدم ثَلَاثَة: الْمَرْأَة السوء والمسكن السوء والمركب السوء وَفِي رِوَايَة لِابْنِ حبَان: الْمركب الهني والمسكن الْوَاسِع، وَفِي رِوَايَة للْحَاكِم: وَثَلَاث من الشَّقَاء: الْمَرْأَة ترَاهَا وتسوؤك وَتحمل لسانها عَلَيْك، وَالدَّابَّة تكون قطوفا فَإِن ضربتها أتعبتك وَإِن تركتهَا لم تلْحق أَصْحَابك، وَالدَّار تكون ضيقَة قَليلَة الْمرَافِق. وَرُوِيَ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أَسمَاء: أَن من شقاء الْمَرْء فِي الدُّنْيَا: سوء الدَّار وَالْمَرْأَة وَالدَّابَّة، وَفِيه: سوء الدَّار ضيق ساحتها وخبث جِيرَانهَا، وَسُوء الدَّابَّة منعهَا ظهرهَا وَسُوء ضلعها، وَسُوء الْمَرْأَة عقم رَحمهَا وَسُوء خلقهَا.

6905 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمانَ النَّهْدِي عنْ أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ، رَضِي الله عَنْهَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا ترَكْتُ بعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الشؤم أَشد مِنْهُنَّ. وَلِهَذَا ذكره بعد حَدِيثي ابْن عَمْرو سهل بن سعد، وفتنتهن أَشد الْفِتَن وَأَعْظَمهَا، وَيشْهد لَهُ قَوْله عز وَجل: {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء} (آل عمرَان: 41) فقدمهن على جَمِيع الشَّهَوَات لِأَن المحنة بِهن أعظم المحن على قدر الْفِتْنَة بِهن، وَقد أخبر الله عز وَجل أَن مِنْهُنَّ لنا أَعدَاء فَقَالَ: {إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم} (التغابن: 41) ويروي، أَن الله عز وَجل لما خلق الْمَرْأَة فَرح الشَّيْطَان فَرحا شَدِيدا، وَقَالَ: هَذِه حبالتي الَّتِي لَا تكَاد يخطيني من نصبتها لَهُ، وَجَاء فِي الحَدِيث النِّسَاء حبائل الشَّيْطَان، وَرُوِيَ: استعيذوا من شرار النِّسَاء وَكُونُوا من خيارهن على حذر، وَقَالَ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: أوثق سلَاح إِبْلِيس النِّسَاء.
وَسليمَان التَّيْمِيّ هُوَ سُلَيْمَان بن طرخان أَبُو الْمُعْتَمِر التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْهَاء. وبالدال الْمُهْملَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الدَّعْوَات عَن سعيد بن مَنْصُور وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.

(20/89)


وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن بشر بن هِلَال.
قَوْله: (أضرّ) وَذَلِكَ أَن الْمَرْأَة نَاقِصَة الْعقل وَالدّين، وغالبا ترغب زَوجهَا عَن طلب الدّين، وَأي فَسَاد أضرّ من ذَلِك؟ وَرُوِيَ عَنهُ، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَمَا فتنتهن؟ قَالَ: إِذا لبس ربط الشَّام وحلل الْعرَاق وَعصب الْيمن وملن كَمَا تميل أسنمة البخت، فَإِذا فعلن ذَلِك كلفن الْغَيْر مَا لَيْسَ عِنْده. وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث أبي سعيد فِي إثناء حَدِيث: وَاتَّقوا النِّسَاء فَإِن أول فتْنَة بني إِسْرَائِيل كَانَت من النِّسَاء.

81 - (بابُ الحُرَّةِ تَحْتَ العَبْدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَون الْمَرْأَة الْحرَّة تَحت العَبْد، يَعْنِي: تَحت عقده، وَالْمعْنَى: بَاب فِي بَيَان جَوَاز نِكَاح العَبْد الْحرَّة، إِذا رضيت بِهِ.

7905 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِك عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ عنِ القاسمِ ابنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلاثُ سُنَنٍ عُتِقَتْ فخُيِّرَتْ، وَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ، ودَخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبُرْمَةٌ علَى النَّارِ فقُرِّبَ إلَيْهِ خُبْز وأُدْمِ البَيْتِ؟ فَقَالَ: ألَمْ أرَ البُرْمَةَ؟ فَقيلَ: لحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ علَى بَرِيرة وأنْتَ لَا تأكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: هُوَ عليْها صدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن زوجٍ بَرِيرَة كَانَ عبدا. وَفِي التَّلْوِيح: وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِكَوْن زَوجهَا عبدا وَلَا غَيره، وَقد تجاذبت فِيهِ الرِّوَايَات، فَقَائِل: كَانَ حرا وَقَائِل: كَانَ عبدا، فَلَا يتمحض للْبُخَارِيّ استدلاله وَلم يَأْتِ فِي حَدِيثه بِشَيْء من ذَلِك. وَلَا يُقَال: ترجح عِنْده كَونه عبدا لِأَن أَبَا حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْجَانِب الآخر يرجح كَونه حرا عِنْده، وَلَيْسَ قَول أَحدهمَا بِأولى من الآخر إلاَّ بترجيح نقلي من خَارج انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره لَا يدْفع وَجه الْمُطَابقَة لِأَنَّهُ وضع هَذِه التَّرْجَمَة وسَاق لَهَا الحَدِيث الْمَذْكُور بِنَاء على ترجح عِنْده، وَأما تَرْجِيح أحد الْقَوْلَيْنِ على الآخر بِالنَّقْلِ من خَارج فَلَا دخل لَهُ هَهُنَا فِي وَجه الْمُطَابقَة. فَافْهَم.
وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، وَاسم أبي عبد الرَّحْمَن فروخ مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَفِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة وَفِي الْعتْق عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن سَلمَة.
قَوْله: (فِي بَرِيرَة) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى. اسْم جَارِيَة اشترتها عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فأعتقتها وَكَانَت مولاة لبَعض بني هِلَال فكاتبوهم باعوها لعَائِشَة. قَوْله: (ثَلَاث سِنِين) أَي: ثَلَاث طرق أحكاما شَرْعِيَّة، بَعْضهَا مر فِي كتاب الْكِتَابَة. قَوْله: (عتقت) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أعتقتها عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (فخيرت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَيْضا أَي: خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا أول السّنَن الثَّلَاث وَهُوَ أَن الْأمة الَّتِي تَحت العَبْد إِذا أعتقت لَهَا الْخِيَار فِي فسخ نِكَاحهَا، وَرُوِيَ ابْن سعد فِي الطَّبَقَات: أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن عَطاء عَن دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عَامر الشّعبِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لبريرة لما أعتقت: قد عتق بضعك مَعَك فاختاري، وَهَذَا مُرْسل.
وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَقَالَ الشّعبِيّ والنخي وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن سِيرِين وطاووس وَمُجاهد وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَالْحسن بن مُسلم وَأَبُو قلَابَة وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأَبُو ثَوْر: الْأمة إِذا أعتقت لَهَا الْخِيَار فِي نَفسهَا سَوَاء كَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا، وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر أَيْضا. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق إِن كَانَ زَوجهَا عبدا فلهَا الْخِيَار، وَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا.
وَاخْتلفُوا فِي زوج بَرِيرَة: هَل كَانَ حرا أَو عبدا فَروِيَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، من

(20/90)


حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة أَنه كَانَ حرا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَرُوِيَ الطَّحَاوِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنه كَانَ عبدا، وَرُوِيَ مُسلم أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنه كَانَ عبدا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَرُوِيَ البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: إِن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا يُقَال لَهُ: مغيث، كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يطوف خلفهَا يبكي ودموعه تسيل على لحيته والْحَدِيث، وَهَذِه أَحَادِيث متعارضة قد أَكثر النَّاس فِي معانيهاوتخريج وجوهها، فلمحمد بن جرير الطَّبَرِيّ: فِي ذَلِك كتاب، ولمحمد بن خُزَيْمَة كتاب، ولجماعة فِي ذَلِك أَبْوَاب أَكْثَرهَا تكلّف واستخراجات مُحْتَملَة وتأويلات مُمكنَة لَا يقطع بِصِحَّتِهَا، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن يحمل على وَجه لَا يكون فِيهِ تضَاد، وَالْحريَّة تعقب الرّقّ وَلَا ينعكس، فَثَبت أَنه كَانَ حرا عِنْدَمَا خيرت بَرِيرَة، وعبدا قبله، وَمن أخبر بعبوديته لم يعلم بحريَّته قبل ذَلِك، وَلم يخيرها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ عبدا وَلَا لِأَنَّهُ كَانَ حرا، وَإِنَّمَا خَيرهَا لِأَنَّهَا أعتقت، فَوَجَبَ تَخْيِير كل مُعتقة. وَرُوِيَ فِي بعض الْآثَار أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: ملكت نَفسك فاختاري، كَذَا فِي التَّمْهِيد فَكل من ملكت نَفسهَا تخْتَار سَوَاء كَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا.
قَوْله: (وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لمن أعتق) هَذَا ثَانِي السّنَن الثَّلَاث، وَقد مر فِي كتاب الْعتْق. قَوْله: (وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، ثَالِث السّنَن الثَّلَاث وَذكر الثَّلَاث لَا يَنْفِي الزَّائِد. قَوْله: (وبرمة على النَّار) ، وبرمة مُبْتَدأ وَهِي نكرَة، وَلَكِن اعتمادها على وَاو الْحَال جوز ذَلِك، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن مَالك، والبرمة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: الْقدر المتخذة من الْحجر الْمَعْرُوف بالحجاز واليمن، وَالْفرق بَين الصَّدَقَة والهدية أَن الصَّدَقَة إِعْطَاء لثواب الآخر، والهدية إِعْطَاء لإكرام الْمَنْقُول إِلَيْهِ، وَالصَّدَََقَة تكون ملكا للقابض فلهَا حكم سَائِر المملوكات، وَبَطل عَنْهَا حكم الصَّدَقَة.

91 - (بابٌ لَا يتَزَوَّجُ أكْثَرَ مِنْ أرْبعٍ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه لَا يتَزَوَّج الرجل أَكثر من أَربع نسْوَة، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بِالْإِجْمَاع، وَلَا يتلفت إِلَى قَول الروافض بِأَنَّهُ يتَزَوَّج إِلَى تسع نسْوَة.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { (4) مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . وَقَالَ عليُّ بنُ الحُسَيْنِ، علَيْهما السّلامُ. يعْنِي مثْنى أوْ ثُلاَثَ أوْ رُباعَ، وقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ { (35) أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (فاطر: 1) يَعْنِي: مَثْنى أوْ ثُلاَث أوْ رُباعَ

أَي: لأجل قَوْله تَعَالَى، ذكره فِي معرض الِاسْتِدْلَال على أَن الْأَكْثَر من الْأَرْبَع لَا يجوز بَيَانه أم المُرَاد بِهِ التَّخْيِير بَين الْأَعْدَاد الثَّلَاثَة لَا الْجمع، لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ الْجمع بَين تسع لم يعدل عَن لفظ الِاخْتِصَار، ولقال: فانحكوا تسعا، وَالْعرب لَا تدع أَن تَقول: تِسْعَة، وَتقول: اثْنَان وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، فَلَمَّا قَالَ: مثنى وَثَلَاث وَربَاع، صَار التَّقْدِير مثنى مثنى وَثَلَاث وَثَلَاث وَربَاع وَربَاع، فَيُفِيد التَّخْيِير، وَقد علم أَن مثنى معدول عَن اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاث عَن ثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَربَاع عَن أَرْبَعَة أَرْبَعَة. قَوْله: (وَقَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن) ، وَهُوَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْوَاو هُنَا بِمَعْنى: أَو الَّتِي هِيَ للتنويع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي ذكر صفة أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة: {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (فاطر: 1) أَرَادَ: مثنى أَو ثَلَاث أَو رباع، واستدلاله بقول عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من أحسن الْأَدِلَّة فِي الرَّد على الروافض لكَونه من أئمتهم الَّذين يرجعُونَ إِلَى قَوْلهم وَيدعونَ أَنهم معصومون، فَإِن قَالُوا: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ عَن تسع، وَلنَا بِهِ أُسْوَة، قُلْنَا: إِن ذَاك من خَصَائِصه، كَمَا خص أَن ينْكح بِغَيْر صدَاق، وَأَن أَزوَاجه لَا ينكحن بعده، وَغَيره ذَلِك من خَصَائِصه، وَمَوته عَن تسع كَانَ اتِّفَاقًا، وَصَحَّ أَن غيلَان بن سَلمَة أسلم وَتَحْته عشر نسْوَة، فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إختر مِنْهُنَّ أَرْبعا وَفَارق سائرهن) .

8905 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرنَا عَبْدَةُ عنْ هِشامٍ عنْ أَبِيه عنْ عائِشَة: { (4) وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) قالَت اليتيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُل وهْوَ وليُّها فَيَتَزَوَّجُها علَى مَا لَهَا ويُسِيءُ صُحْبَتَها وَلَا يَعْدِلُ فِي

(20/91)


مالِها، فَلْيَتَزَوَّجْ مَا طَابَ لَهُ مِنَ النِّساءِ سِوَاها مَثْنَى وثلاَثَ ورُباعَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام البُخَارِيّ البيكندي، وَعَبدَة، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ ابْن سُلَيْمَان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) قَوْله: (أَن لَا تقسطوا) . أَي: أَن لَا تعدلوا. قَوْله: (قَالَت) ، أَي: عَائِشَة فِي تَفْسِير قَوْله: {وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا} ويروي: قَالَ، بالتذكير، فَإِن صحت فوجهها أَن يُقَال: قَالَ عُرْوَة رَاوِيا عَن عَائِشَة. قَوْله: (ويسيء) ، بِضَم الْيَاء من الْإِسَاءَة. قَوْله: (فليتزوج) ، جَوَاب الشَّرْط.

02 - (بابٌ { (4) وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} (النِّسَاء: 32)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ حكم الرَّضَاع لقَوْله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} (النِّسَاء: 32) وَهُوَ عطف على قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} (النِّسَاء: 32) أَي: وَحرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم اللَّاتِي أرضعنكم.
ويَحْرُمُ مِنَ الرَّضاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ

هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عَائِشَة أخرجه الْجَمَاعَة عَنْهَا إلاَّ ابْن مَاجَه، وَاللَّفْظ لمُسلم: أَن عَمها من الرَّضَاع يُسمى أَفْلح، اسْتَأْذن عَلَيْهَا فَحَجَبَتْهُ، فَأخْبرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهَا: (لَا تَحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من النّسَب) ، وَفِي لفظ البَاقِينَ: (مَا يحرم من الْولادَة) ، وَفِي لفظ: (مَا تحرم الْولادَة) ، وَإِنَّمَا ذكره البُخَارِيّ لبَيَان بعض مَا يحرم بالرضاعة) .

9905 - حدَّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بكْرٍ عنْ عُمْرَةَ بِنْتِ عبْدِ الرحْمانِ أنَّ عائِشَةَ زوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخْبَرَتْها: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كانَ عِنْدَها وأنَّها سَمِعَتْ صَوْتَ رجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتٍ حَفْصَةَ، قالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله هاذَا رجُلٌ يَسْتأْذِنُ فِي بَيْتِكَ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرَاهُ فُلاَنا، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضاعَةِ، قالَتْ عائِشةُ: لوْ كانَ فُلاَنٌ حَيّا لِعَمِّها مِنَ الرَّضاعَةِ دَخَلَ علَيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ الرَّضاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلادَةُ..
مطابقته للشق الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَعبد الله بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أخْبرتهَا) أَي: أخْبرت عَائِشَة عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (صَوت رجل) لم يدر اسْمه. قَوْله: (أرَاهُ) بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ. قَوْله: (لعم حَفْصَة) قَالَ بَعضهم: اللَّام بِمَعْنى: عَن، أَي: قَالَ ذَلِك عَن عَم حَفْصَة. قلت: اللَّام بِمَعْنى عَن ذكره ابْن الْحَاجِب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} (مَرْيَم: 37، وَالْعَنْكَبُوت: 21، وَيس: 74، والأحقاف: 11) وَقَالَ ابْن مَالك وَغَيره: هِيَ لَام التَّعْلِيل، وَهنا أَيْضا كَذَلِك، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لأجل عَم حَفْصَة، وَلم يدر اسْمه. قَوْله: (لَو كَانَ فلَان) لم يدر اسْمه، وَقيل: هُوَ أَفْلح أَخُو أبي القعيس، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ وهم، لِأَن أَبَا القعيس وَالِد عَائِشَة من الرضَاعَة، وَأما أَفْلح فَهُوَ أَخُوهُ وَهُوَ عَمها من الرضَاعَة، وَأما قَوْلهَا: لَو كَانَ حَيا، يدل على أَنه مَاتَ. انْتهى. قلت: يحْتَمل أَن يكون أَخا آخر لَهَا، وَيحْتَمل أَنَّهَا ظنت أَنه مَاتَ لبعد عهدها بِهِ ثمَّ قدم بعد ذَلِك فَاسْتَأْذن. قَوْله: (الرضَاعَة تحرم مَا تحرم الْولادَة) وَهَذَا إِجْمَاع لَا خلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة، فَإِذا حرمت الْأُم فَكَذَا زَوجهَا لِأَنَّهُ وَالِده لِأَن اللَّبن مِنْهُمَا جَمِيعًا، وانتشرت الْحُرْمَة إِلَى أَوْلَاده: فأخو صَاحب اللَّبن عَم، وأخوها خَاله من الرَّضَاع فَيحرم من الرَّضَاع: العمات والخالات والأعمام وَالْأَخَوَات وبناتهن كالنسب.

0015 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ جابِرِ بنِ زَيْدٍ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا تَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ: إنَّها ابْنَةُ أخي مِنَ الرِّضاعَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 5462) .
مطابقته للشق الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَجَابِر بن زيد هُوَ أَبُو الشعْثَاء الْبَصْرِيّ مَشْهُور بكنيته، وَأما

(20/92)


جَابر بن يزيدبالياء آخر الْحُرُوف فِي أول اسْم أَبِيه فَهُوَ الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح شَيْء.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الْقَائِل لَهُ هُوَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَذَا قَالَه بَعضهم، ثمَّ قَالَ: كَمَا أخرجه مُسلم من حَدِيثه، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله {مَالك تتوق فِي قُرَيْش وَتَدعنَا؟ قَالَ: وعندكم شَيْء؟ قلت: نعم ابْنة حَمْزَة الحَدِيث. قلت: أخرج مُسلم هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقول: قيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْن أَنْت يَا رَسُول الله عَن ابْنة حَمْزَة؟ الحَدِيث، فَمن أَيْن تعين فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْقَائِل فِيهِ هُوَ عَليّ حَتَّى جزم هَذَا الْقَائِل: إِن الْقَائِل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ عَليّ بن أبي طَالب؟ فَلم لَا يجوز أَن تكون أم سَلمَة أَو غَيرهَا؟ قَوْله: (أَلا تزوج) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْوَاو وَضم الْجِيم، أَصله: تتَزَوَّج، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَرُوِيَ أَيْضا بِلَا حذف التَّاء. قَوْله: (إِنَّهَا) أَي: إِن بنت حَمْزَة بنت أخي من الرضَاعَة، لِأَن ثويبة أرضعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَمَا كَانَت أرضعت حَمْزَة، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ حَمْزَة أسن من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِأَرْبَع، وثوبية بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة مصغر ثوبة وَكَانَت مولاة لأبي لَهب بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْتقهَا، وَاخْتلف فِي إسْلَامهَا، وَذكرهَا ابْن مندة فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو نعيم: وَلَا أعلم أحدا أثبت إسْلَامهَا غير ابْن مندة وَكَانَ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يكرمها، وَكَانَت تدخل عَلَيْهِ بعدأن تزوج خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ويصلها من الْمَدِينَة حَتَّى مَاتَت بعد فتح خَيْبَر وَكَانَت خَدِيجَة تكرمها. قَوْله: (تتوق) فِي رِوَايَة مُسلم ضبط بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: تتوق بتاءين أولاهما مَفْتُوحَة وَالْأُخْرَى مَضْمُومَة من التوق وَهُوَ الْميل مَعَ الاشتهاء. وَالثَّانِي: تنوق، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح النُّون وَتَشْديد الْوَاو، وَمَعْنَاهُ: تخْتَار من النيقة، بِكَسْر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهِي الْخِيَار من الشَّيْء، فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا تزوج ابْنة حَمْزَة وَهُوَ يعلم حكم الرَّضَاع؟ قلت. قيل: لم يعلم بذلك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا بعيد أَن يُقَال فِي حق عَليّ، لم يعلم بذلك، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِنَّه لم يعلم بِأَن حَمْزَة رَضِيع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو جوز الخصوصية، أَو كَانَ ذَلِك قبل تَقْرِير الحكم.
وَقَالَ بِشْرُ بنُ عُمَرَ: حَدثنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتادَةَ سَمِعْتُ جابِرَ بنَ زَيْدٍ مِثْلَهُ

بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن عمر الزهْرَانِي، وَهَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ مُسلم عَن مُحَمَّد بن يحيى الْقطعِي عَنهُ، وَفَائِدَته عِنْد البُخَارِيّ لبَيَان سَماع قَتَادَة من جَابر بن زيد لِأَنَّهُ مُدَلّس.

1015 - حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نافِعٍ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخبرَني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أبي سلَمةَ أخبَرَتْهُ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أبي سُفْيان أخبَرَتْها أَنَّهَا قالَتْ: يَا رسولُ الله} انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أبي سُفْيانَ. فَقَالَ: أوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وأحَبُّ منْ شاركَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لي. قُلْتُ: فإِنَّا نُحَدَّثُ أنكَ تُرِيدُ أنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أبي سلَمَةَ؟ قَالَ: بِنْتَ أُمِّ سلَمة؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّها لابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ، أرْضَعَتْنِي وَأَبا سلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضَن عَلَيَّ بنَاتِكنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ.
قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبي لَهبٍ، كانَ أبُو لَهبٍ أعْتَقَها فأرْضَعَتِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلَمَّا ماتَ أبُو لَهبٍ أُرَيَةُ بَعْضُ أهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لهُ: ماذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أبُو لَهبٍ: لَمْ ألْقِ بَعْدكُمْ، غَيْرَ أنِّي سُقِيتُ فِي هاذِهِ بِعتَاقَتي ثُوَيْبَةَ.

(20/93)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الشق الثَّانِي وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة بن عبد الْأسد المَخْزُومِي ربيبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمّهَا أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ اسْم زَيْنَب برة فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب، ولدتها أمهَا بِأَرْض الْحَبَشَة وقدمت بهَا وحفظت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت زَيْنَب عِنْد عبد الله بن زَمعَة بن الْأسود، فَولدت لَهُ، وَأَبُو سَلمَة اسْمه عبد الله بن عبد الْأسد وَأمة برة بنت عبد الْمطلب، وَهَاجَر الهجرتين وَشهد بَدْرًا وَخرج يَوْم أحد فَمَاتَ مِنْهُ. وَذَلِكَ لثلاث مضين لجمادى الْآخِرَة سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْمهَا مِلَّة بِلَا خلاف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات عَن يحيى بن بكير وَفِي النِّكَاح أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث بِهِ، وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان وَعَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي كريب وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَغَيره وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أنكح أُخْتِي) : أَي: تزوج، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (أنكح أُخْتِي عزة بنت أبي سُفْيَان) ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ قَالَت: يَا رَسُول الله هَل لَك فِي أُخْتِي حمْنَة بنت أبي سُفْيَان، وَعند أبي مُوسَى فِي الذيل مَدَرَة بنت أبي سُفْيَان بِضَم الدَّال الْمُهْملَة، وَحكى عِيَاض عَن بعض رُوَاة مُسلم أَنه ضَبطهَا بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ تَصْحِيف. قَوْله: (أَو تحبين ذَلِك؟) هَذَا اسْتِفْهَام تعجب مَعَ مَا طبع عَلَيْهِ النِّسَاء من الْغيرَة. قَوْله: (بمخيلة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام اسْم فَاعل من الإخلاء مُتَعَدِّيا ولازما من أخليت بِمَعْنى خلوت من الضرة، وَالْمعْنَى: لست بمنفردة عَنْك وَلَا خَالِيَة من ضرَّة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: مَعْنَاهُ لم أجد خَالِيا من الزَّوْجَات، وَلَيْسَ هُوَ من قَوْلهم: امْرَأَة مخلية، أَي: خَالِيَة من الْأزْوَاج، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات بِلَفْظ الْمَفْعُول. قَوْله: (وَأحب) مُبْتَدأ مُضَاف إِلَى: من. قَوْله: (أُخْتِي) ، خَبره. قَوْله: (فِي خبر) كَذَا بِالتَّنْوِينِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَي: أَي خبر كَانَ؟ وَفِي رِوَايَة هِشَام: وَأحب من شركني فِيك أُخْتِي، وَعرف أَن المُرَاد بالخيرذاته، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن ذَلِك لَا يحل لي) . لِأَنَّهُ جمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَهَذَا كَانَ قبل علم أم حَبِيبَة بِالْحُرْمَةِ، أَو ظنت أَن جَوَازه من خَصَائِص النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن أَكثر حكم نِكَاحه يُخَالف أَحْكَام أنكحة الْأمة. قَوْله: (فَإنَّا نُحدث) ، بِضَم النُّون وَفتح الْحَاء وَالدَّال الْمُشَدّدَة على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة هِشَام: وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فوَاللَّه لقد أخْبرت) . قَوْله: (إِنَّك تُرِيدُ أَن تنْكح) ، وَفِي رِوَايَة هِشَام: بَلغنِي أَنَّك تخْطب. قَوْله: (فَقَالَ: إِنَّهَا) أَي: بنت أبي سَلمَة. قَوْله: (فِي حجري) ، خرج مخرج الْغَالِب، وإلاَّ فالربيبة حرَام مُطلقًا سَوَاء كَانَت فِي حجر زوج أمهَا أم لَا. قَوْله: (لابنَة أخي) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن حرمتهَا عَلَيْهِ بسببين وهما: كَونهَا ربيبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَونهَا بنت أَخِيه من الرَّضَاع. وَالْحكم يثبت بعلل شَتَّى. قَوْله: (وَأَبا سَلمَة) ، أَي: وأرضعت أَبَا سَلمَة، وَقدم الْمَفْعُول على الْفَاعِل، وَالْفَاعِل هُوَ ثويبة، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا عَن قريب. قَوْله: (فَلَا تعرضن) ، بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْعين وَكسر الرَّاء وبالنون الْخَفِيفَة: خطاب لجَماعَة النِّسَاء، ويروي (وَلَا تعرضن) ، بالنُّون الْمُشَدّدَة، خطاب لأم حَبِيبَة. قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) هُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (أريه) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: رأى أَبَا لَهب بعض أَهله فِي الْمَنَام. قَوْله: (بشر حيبة) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: على أسوء حَالَة، يُقَال: بَات الرجل بحيبة سوء أَي: بِحَالَة رَدِيئَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الحيبة والحوبة الْهم والحزن، وَوَقع فِي شرح السّنة لِلْبَغوِيِّ. بِفَتْح الْحَاء، ووقه عِنْد الْمُسْتَمْلِي بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة، أَي: فِي حَالَة خائبة من كل خير، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ تَصْحِيف. قلت: هَذَا أقرب من جِهَة الْمَعْنى وَلِهَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يروي بِالْمُعْجَمَةِ، وَحكى فِي الْمَشَارِق بِالْجِيم فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَلَا أَظُنهُ إلاَّ تصحيفا. قَوْله: (مَاذَا لقِيت) أَي: قَالَ الرَّائِي لأبي لَهب: مَاذَا لقِيت بعد موتك؟ قَوْله: (لم ألق بعدكم) كَذَا فِي الْأُصُول بِحَذْف الْمَفْعُول، وَعند عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ: لم ألق بعدكم رَاحَة، وَقَالَ ابْن بطال: سقط الْمَفْعُول من رِوَايَة البُخَارِيّ، وَلَا يَسْتَقِيم الْكَلَام إلاَّ بِهِ. قَوْله: (سقيت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي هَذِه) كلمة: هَذِه إِشَارَة. وَلم يبين الْمشَار إِلَيْهِ وَبَينه عبد الرَّزَّاق فِي رِوَايَته بِالْإِشَارَةِ إِلَى النقرة الَّتِي بَين الْإِبْهَام والمسبحة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَأَشَارَ إِلَى النقرة الَّتِي بَين الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا من الْأَصَابِع، وَحَاصِل الْمَعْنى إِشَارَة إِلَى حقارة مَا سقى من المَاء، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: سقِِي نقطة من مَاء فِي جَهَنَّم بِسَبَب ذَلِك، قَالَ: وَذَلِكَ أَنه جَاءَ فِي الصَّحِيح أَنه رثي فِي

(20/94)


النّوم فَقيل لَهُ: مَا فعل رَبك هُنَاكَ؟ فَقَالَ: سقيت مثل هَذِه، وَأَشَارَ إِلَى ظفر إبهامه. قَوْله: (بعتاقتي) أَي: بِسَبَب عتاقتي ثوبية، وعتاقة بِفَتْح الْعين، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: بعتقي، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ أوجه، وَالْوَجْه أَن يَقُول: بإعتاقي لِأَن المُرَاد التَّخَلُّص من الرّقّ. قلت: هَذَا الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِن قلت: مَعْنَاهُ التَّخَلُّص من الرّقية، فَالصَّحِيح أَن يُقَال: بإعتاقي. قلت: كل من النَّاقِل وَالْمَنْقُول مِنْهُ لم يحرر كَلَامه، فَإِن الْعتْق والعتاقة وَالْعتاق كلهَا مصَادر من عتق العَبْد، وَقَول النَّاقِل: وَهُوَ أوجه، غير موجه، لِأَن الْعتْق والعتاقة وَاحِد فِي الْمَعْنى، فَكيف يَقُول الْعتْق أوجه؟ ثمَّ قَوْله: وَالْأَوْجه أَن يَقُول: بإعتاقي لِأَن المُرَاد التَّخَلُّص من الرّقّ، كَلَام من لَيْسَ لَهُ وقُوف على كَلَام الْقَوْم، فَإِن صَاحب الْمغرب قَالَ: الْعتْق الْخُرُوج من المملوكية وَهُوَ التَّخَلُّص من الرّقية، وَقد يقوم الْعتْق مقَام الْإِعْتَاق الَّذِي هُوَ مصدر أعْتقهُ مَوْلَاهُ. وَفِي التَّوْضِيح: وَفِيه أَي: وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن الْكَافِر قد يعْطى عوضا من أَعماله الَّتِي يكون مِنْهَا قربَة لأهل الْإِيمَان بِاللَّه، كَمَا فِي حق أبي طَالب. غير أَن التَّخْفِيف عَن أبي لَهب أقل من التَّخْفِيف عَن أبي طَالب، وَذَلِكَ لنصرة أبي طَالب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياطته لَهُ وعداوة أبي لَهب لَهُ. وَقَالَ ابْن بطال: وَصَحَّ قَول من تَأَول فِي معنى الحَدِيث الَّذِي جَاءَ عَن الله تَعَالَى: إِن رَحمته سبقت غَضَبه، إِن رَحمته لاتنقطع عَن أهل النَّار المخلدين فِيهَا، إِذْ فِي قدرته أَن يخلق لَهُم عذَابا يكون عَذَاب النَّار لأَهْلهَا رَحْمَة وتخفيفا بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك الْعَذَاب وَمذهب الْمُحَقِّقين أَن الْكَافِر لَا يُخَفف عَنهُ الْعَذَاب بِسَبَب حَسَنَاته فِي الدُّنْيَا، بل يُوسع عَلَيْهِ بهَا فِي دُنْيَاهُ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن الْكفَّار لَا تنفعهم أَعْمَالهم وَلَا يثابون عَلَيْهَا بنعيم وَلَا تَخْفيف عَذَاب، وَلَكِن بَعضهم أَشد عذَابا بِحَسب جرائمهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا ينفع الْكَافِر الْعَمَل الصَّالح. إِذْ الرُّؤْيَا لَيست بِدَلِيل، وَعلي تَقْدِير التَّسْلِيم يحْتَمل أَن يكون الْعَمَل الصَّالح وَالْخَيْر الَّذِي يتَعَلَّق لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا، كَمَا أَن أَبَا طَالب أَيْضا ينْتَفع بتَخْفِيف الْعَذَاب. وَذكر السُّهيْلي أَن الْعَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لما مَاتَ أَبُو لَهب رَأَيْته فِي مَنَامِي بعد حول فِي شَرّ حَال، فَقَالَ: مَا لقِيت بعدكم رَاحَة إلاَّ أَن الْعَذَاب يُخَفف عني كل يَوْم اثْنَيْنِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد يَوْم الِاثْنَيْنِ وَكَانَت ثويبة بشرت أَبَا لَهب بمولده فَأعْتقهَا. وَيُقَال: إِن قَول عُرْوَة لما مَاتَ أَبُو لَهب: أريه بعض أَهله إِلَى آخِره خبر مُرْسل أرْسلهُ عُرْوَة وَلم يذكر من حَدثهُ بِهِ، وعَلى تَقْدِير أَن يكون مَوْصُولا فَالَّذِي فِي الْخَبَر رُؤْيا مَنَام فَلَا حجَّة فِيهِ، وَلَعَلَّ الَّذِي رَآهَا لم يكن إِذْ ذَاك أسلم بعد، فَلَا يحْتَج بِهِ. وَأجِيب ثَانِيًا: على تَقْدِير الْقبُول، يحْتَمل أَن يكون مَا يتَعَلَّق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخْصُوصًا من ذَلِك بِدَلِيل قصَّة أبي طَالب حَيْثُ خفف عَنهُ. فَنقل من الغمرات إِلَى الضحضاح، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا التَّخْفِيف خَاص بِهَذَا وبمن ورد النَّص فِيهِ، وَالله أعلم. وَمن جملَة مَا يشْتَمل هَذَا على حُرْمَة الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بِلَا خلاف، وَاخْتلف فِي الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين، وكافة الْعلمَاء على التَّحْرِيم أَيْضا خلافًا لأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان: حرمتهما آيَة وأحلتهما آيَة، وَالْآيَة الْمحلة لَهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأحل لكم ماوراء ذَلِكُم} (النِّسَاء: 42) وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد رُوِيَ الْمَنْع عَن عَمْرو عَليّ أَيْضا وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وعمار وَابْن عمر وَعَائِشَة وَابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمِمَّا يشْتَمل هَذَا أَيْضا على ثُبُوت حُرْمَة الرَّضَاع بَين الرَّضِيع والمرضعة، فَإِنَّهَا تصير بِمَنْزِلَة أمه من الْولادَة، وَيحرم عَلَيْهِ نِكَاحهَا أبدا وَيحل لَهُ النّظر إِلَيْهَا وَالْخلْوَة بهَا والمسافرة مَعهَا، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الأمومة من كل وَجه، فَلَا توارث وَلَا نَفَقَة وَلَا عتق بذلك بِالْملكِ وَلَا ترد شَهَادَته لَهَا وَلَا يعقل عَنْهَا وَلَا يسْقط عَنْهُمَا الْقصاص بِقَتْلِهِمَا، وَمن ذَلِك انتشار الْحُرْمَة بَين الْمُرضعَة وَأَوْلَاد الرَّضِيع وَبَين الرَّضِيع وَأَوْلَاد الْمُرضعَة وَحُرْمَة الرَّضَاع بَين الرَّضِيع وَزوج الْمُرضعَة وَيصير الرَّضِيع ولدا لَهُ وَأَوْلَاد الرجل إخْوَة الرَّضِيع، وإخوة الرجل أعمام الرَّضِيع وأخواته عماته وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَاد الرجل، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلاَّ أهل الظَّاهِر وَابْن علية فَإِنَّهُم قَالُوا بِحرْمَة الرَّضَاع بَين الرجل الرَّضِيع، كَذَا نَقله الْخطابِيّ وعياض عَنْهُمَا، وَزَاد الْخطابِيّ، ابْن الْمسيب.

12 - (بابُ مَنْ قل لَا رَضاعَ بعْدَ حَوْلَينِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ: لَا رضَاع بعد سنتَيْن، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك عَامر الشّعبِيّ وَابْن شبْرمَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ

(20/95)


وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَهُوَ قَول مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى قَول الحنيفة: إِن أقْصَى مُدَّة الرَّضَاع ثَلَاثُونَ شهرا قلت: سُبْحَانَ الله! هَذَا نتيجة فكر صَاحبه نَائِم، وَمَا وَجه الْإِشَارَة فِي هَذَا إِلَى قَول الْحَنَفِيَّة؟ والترجمة مَا وضعت إلاَّ لبَيَان من قَالَ: لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ مُطلقًا، وَهُوَ أَعم من أَن يكون بعد الْحَوْلَيْنِ قَول الْحَنَفِيَّة أَو غَيرهم، وَتَخْصِيص الْحَنَفِيَّة بِالْجمعِ أَيْضا غير صَحِيح، لِأَن أَبَا يُوسُف ومحمدا للَّذين هما من أكبر أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة لم يَقُولَا بِالرّضَاعِ بعد الْحَوْلَيْنِ، وَالْإِمَام مَالك الَّذِي هُوَ أحد أَرْكَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة رُوِيَ الْوَلِيد بن مُسلم عَنهُ: مَا كَانَ بعد الْحَوْلَيْنِ بِشَهْر أَو شَهْرَيْن يحرم، وَزفر الَّذِي هُوَ من أَعْيَان أَصْحَاب أبي حنيفَة قَالَ: مَا كَانَ يجتزىء بِاللَّبنِ وَلم يطعم، وَإِن أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاث سِنِين فَهُوَ رضَاع، وَالْأَوْزَاعِيّ، إِمَام أهل الشَّام، قَالَ: إِن فطم وَله عَام وَاحِد وَاسْتمرّ فطامه ثمَّ رضع فِي الْحَوْلَيْنِ لم يحرم هَذَا الرَّضَاع الثَّانِي شَيْئا وَإِن تَمَادى رضاعه.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { (2) حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} (الْبَقَرَة: 332)

ذكر هَذَا فِي معرض الِاحْتِجَاج لمن قَالَ: لَا رضَاع بعد حَوْلَيْنِ، وَقَوله: (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) وَأَقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فَبَقيَ للفطام حولان وَأَبُو حنيفَة يسْتَدلّ فيقوله: إِن مُدَّة الرَّضَاع ثَلَاثُونَ شهرا بقوله تَعَالَى: {فَإِن أَرَادَ فصالاً عَن تراضٍ مِنْهُمَا وتشاور} (الْبَقَرَة: 332) بعد قَوْله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} (الْبَقَرَة: 332) فَثَبت أَن بعد الْحَوْلَيْنِ رضَاع، فَلَا يُمكن قطع الْوَلَد عَن اللَّبن دفْعَة وَاحِدَة، فَلَا بُد من زِيَادَة مُدَّة يعْتَاد فِيهَا الصَّبِي مَعَ اللَّبن الْفِطَام، فَيكون غذاؤه اللَّبن تَارَة وَالطَّعَام أُخْرَى إِلَى أَن ينسى اللَّبن، وَأَقل مُدَّة تنْتَقل بِالْعَادَةِ سِتَّة أشهر اعْتِبَارا بِمدَّة الْحَبل فَإِن قلت: رُوِيَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْهَيْثَم بن جميل عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا رضَاع إلاَّ مَا كَانَ من حَوْلَيْنِ قلت: لم يسْندهُ عَن ابْن عُيَيْنَة غير الْهَيْثَم بن جميل، قَالَ ابْن عدي: يغلط على الثِّقَات وَأَرْجُو أَنه لَا يتَعَمَّد الْكَذِب، وَغَيره يوفقه على ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن بطال الرَّاوِي عَن الْهَيْثَم أَبُو الْوَلِيد بن برد الْأَنْطَاكِي وَهُوَ لَا يعرف، وَقَالَ النَّسَائِيّ: الْهَيْثَم بن جميل وَثَّقَهُ الإِمَام أَحْمد وَالْعجلِي وَغير وَاحِد، وَكَانَ من الْحفاظ إلاَّ أَنه وهم فِي رفع هَذَا الحَدِيث، وَالصَّحِيح وَقفه على ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق. أخبرنَا معمر عَن عَمْرو عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ مَوْقُوفا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ أَيْضا ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا على ابْن مَسْعُود عَليّ بن أبي طَالب، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ مَوْقُوفا على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا رضَاع إلاَّ فِي الْحَوْلَيْنِ فِي الصَّغِير.
وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَليلِ الرِّضاعِ وكَثِيرهِ
(وَمَا يحرم) عطف على قَوْله: من قَالَ أَي: فِي بَيَان مَا يحرم من التَّحْرِيم، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه مِمَّن يرى أَن قَلِيل الرَّضَاع وَكَثِيره سَوَاء فِي الْحُرْمَة، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول وطاووس وَالْحكم وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري لإِطْلَاق الْآيَة، وَهُوَ الْمَشْهُور عَن أَحْمد. وَقَالَت طَائِفَة: إِن الَّذِي يحرم مَا زَاد على الرضعة. ثمَّ اخْتلفُوا، فَعَن عَائِشَة: عشر رَضعَات، وعنها سبع رَضعَات، وعنها: خمس رَضعَات. وروى مُسلم عَنْهَا: كَانَ فِيمَا نزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات، ثمَّ نسخن بِخمْس رَضعَات مُحرمَات، فَتوفي رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهن مِمَّا يقْرَأ، وَإِلَى هَذَا ذهب الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَذهب أَحْمد فِي رِوَايَة وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد وَأَتْبَاعه إِلَّا ابْن حزم إِلَى أَن الَّذِي يحرم ثَلَاث رَضعَات، وَمذهب الْجُمْهُور أقوى لِأَن الْأَخْبَار اخْتلفت فِي الْعدَد فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَى أقل مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم، وَقَول عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم لَا ينتهض حجَّة لِأَن الْقُرْآن لَا يثبت إلاَّ بالتواتر، والراوي رُوِيَ هَذَا على أَنه قُرْآن لَا خبر، فَلم يثبت كَونه قُرْآنًا، وَلَا ذكر الرَّاوِي أَنه خبر ليقبل قَوْله فِيهِ.

2015 - حدَّثنا أبُو اوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الأشْعَثِ عنْ أبِيهِ عنْ مَسْرُوق عنْ عائِشَةَ رضيَ

(20/96)


الله عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ علَيْها وعِنْدَها رجُلٌ، فَكأنّهُ تَغَيَّرَ وجْهُهُ كأنّهُ كَرِهَ ذالِكَ، فقالَتْ: إنّهُ أخي، فَقَالَ: انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فإِنّما الرَّضاعَةُ مِنَ المَجاعَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 7462) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة) لِأَن التَّرْجَمَة فِي ذكر الرَّضَاع، وَحَدِيث الْبَاب يبين أَن الرضَاعَة تكون من المجاعة أَي الْجُوع.
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، والأشعث هُوَ ابْن أبي الشعْثَاء واسْمه سليم بن الْأسود الْمحَاربي الْكُوفِي، ومسروق بن الأجدع.
والْحَدِيث مر فِي الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن كثير، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رجل) لم يدر اسْمه، وَقيل بالتخمين: هُوَ ابْن أبي القعيس، وَمن قَالَ: هُوَ عبد الله بن يزِيد، فقد غلط لِأَنَّهُ تَابِعِيّ بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، وَكَانَت أمه أرضعت عَائِشَة، عاشت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فولدته فَلذَلِك قيل لَهُ: رَضِيع عَائِشَة قَوْله: (فَكَأَنَّهُ تغير وَجهه كَأَنَّهُ كره ذَلِك) وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَن أبي الْأَشْعَث: وَعِنْدِي رجل قَاعد، فَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِ وَرَأَيْت الْغَضَب فِي وَجهه، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة. فشق ذَلِك عَلَيْهِ وَتغَير وَجهه. قَوْله: (إِنَّه أخي) وَفِي رِوَايَة غنْدر عَن شُعْبَة: إِنَّه أخي من الرضَاعَة. قَوْله: (انظرن من إخوانكن) هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مَا إخوانكن، وَالْأول أوجه، مَعْنَاهُ: تحققن صِحَة الرضَاعَة ووقتهاد فَإِنَّمَا تثبت الْحُرْمَة إِذا وَقعت على شَرطهَا وَفِي وَقتهَا. قَوْله: (فَإِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة) أَي: الْجُوع، يَعْنِي: الرضَاعَة الَّتِي تثبت بهَا الْحُرْمَة مَا تكون فِي الصغر حِين يكون الرَّضِيع طفْلا يسد اللَّبن جوعته، لِأَن معدته ضَعِيفَة يكفيها اللَّبن وينبت لَحْمه بذلك فَيصير كجزء من الْمُرضعَة، فَيكون كَسَائِر أَوْلَادهَا، وَهَذَا أَعم من أَن يكون قَلِيلا أَو كثيرا وَفِي رِوَايَة: فَإِنَّمَا الرضَاعَة عَن المجاعة، ويروي: أَو الْمطعم من المجاعة وَيُقَال: كَأَنَّهُ قَالَ: لَا رضاعة مُعْتَبرَة إلاَّ الْمُغنيَة عَن الْجُوع أَو المطعمة عَنهُ، وَمن شواهده حَدِيث ابْن مَسْعُود: لَا رضَاع إلاَّ مَا شدّ الْعظم وَأنْبت اللَّحْم، أخرجه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا مَوْقُوفا، وَحَدِيث أم سَلمَة: لَا يحرم من الرَّضَاع مَا فتق الأمعاء، أخرجه الرمذي وَصَححهُ وَيُمكن أَن يسْتَدلّ على أَن الرضعة الْوَاحِدَة لَا تحرم لِأَنَّهَا لَا تغني من جوع، فَإِذن يحْتَاج إِلَى تَقْدِير، فَأولى مَا يُؤْخَذ بِهِ مَا قدرته الشَّرِيعَة وَهُوَ خمس رَضعَات، قُلْنَا: هَذَا كُله زِيَادَة على مُطلق النَّص، لِأَن النَّص غير مُقَيّد بِالْعدَدِ وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ فَلَا يجوز، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن كل حَدِيث فِيهِ عدد مثل حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تحرم المصة وَلَا المصتان، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ عَنْهَا: لَا تحرم الْخَطفَة والخطفتان، وَقَالَ ابْن بطال: أَحَادِيث عَائِشَة كلهَا مضطربة فَوَجَبَ تَركهَا ولارجوع إِلَى كتاب الله تَعَالَى. وَرُوِيَ أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: قَوْلهَا: لَا تحرم الرضعة والرضعتان، كَانَ فَأَما الْيَوْم فالرضعة الْوَاحِدَة تحرم فَجعله مَنْسُوخا، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَوْلهَا: لَا تحرم الإملاجة وَلَا الإملاجتان.

22 - (بابُ لَبَنِ الفَحْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان لبن الْفَحْل، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْهَاء الْمُهْملَة أَي: الرجل، وَنسبَة اللَّبن إِلَيْهِ مجَاز لكَونه سَببا فِيهِ. وَاخْتلف فِيهِ فَقَالَ قوم: لبن الْفَحْل يحرم. وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس فِيمَا ذكره التِّرْمِذِيّ، وَقَول عَائِشَة فِيمَا ذكره ابْن عبد الْبر، وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وطاووس وَعَطَاء وَابْن شهَاب وَمُجاهد وَأَبُو الشعْثَاء وَجَابِر بن زيد وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَسَالم وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَهِشَام بن عُرْوَة على خلاف فِيهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر. وَقَالَ قوم: لَيْسَ لبن الْفَحْل بِمحرم، رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عمر وَجَابِر وَعَائِشَة على اخْتِلَاف عَنْهَا وَرَافِع بن خديج وَعبد الله بن الزبير، وَمن التَّابِعين قَول سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار وأخيه عَطاء بن يسَار وَمَكْحُول وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأبي قلَابَة وَإيَاس بن مُعَاوِيَة وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم وَالشعْبِيّ على خلاف عَنهُ، وَكَذَا الْحسن وَإِبْرَاهِيم بن علية وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ أَبُو عمر فِي التَّمْهِيد، وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد خِلَافه، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لم يقل أحد من أَئِمَّة الْفُقَهَاء وَأهل الْفَتْوَى بِإِسْقَاط حُرْمَة لبن الْفَحْل إلاَّ أهل الظَّاهِر وَابْن علية، وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد مُوَافقَة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. قلت: معنى لبن الْفَحْل يحرم أَنه يثبت حُرْمَة الرَّضَاع بَينه وَبَين الرَّضِيع

(20/97)


وَيصير ولدا لَهُ، وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَاد الرجل، خلافًا لمن قَالَ: لبن الرجل لَا يحرم.

3015 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ: أنَّ أفْلَحَ أَخا أبي القُعَيْسِ جاءَ يَسْتأذِنُ علَيْها وهْوَ عَمّتُها مِنَ الرَّضاعَةِ بَعْدَ أنْ نَزَلَ الحِجابُ فأبَيْتُ أنْ آذَنَ لهُ، فلمّا جاءَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرْتُهُ بالّذي صَنَعْتُ، فأمَرَني أنْ آذَنَ لهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ثُبُوت الْحُرْمَة بَين عَائِشَة وَبَين أَفْلح الْمَذْكُور الَّذِي هُوَ عَمها من الرَّضَاع، فَلذَلِك أذن لَهَا بِدُخُول أَفْلح عَلَيْهَا، وَقَالَ إِنَّه عمك، لما قَالَت: إِنَّمَا أرضعتني الْمَرْأَة وَلم يرضعني الرجل، كَذَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، فَدلَّ على أَن مَاء الرجل يحرم.
والْحَدِيث مُضِيّ فِي كتاب الشَّهَادَات فِي: بَاب الشَّهَادَة على الْأَنْسَاب، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونذكره هَهُنَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ وأوضح.
فَقَوله: (إِن أَفْلح أَخا أبي القعيس) ، كَذَا هُوَ فِي صَحِيح مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أَفْلح بن أبي القعيس، وَفِي رِوَايَة لَهُ وللنسائي قَالَت: اسْتَأْذن وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: قَالَ اسْتَأْذن عَلَيْهَا أَبُو القعيس، وَفِي رِوَايَة لَهُ وللنسائي، قَالَت: اسْتَأْذن عَليّ عمي من الرضَاعَة أَبُو الجعيد، فرددته، قَالَ هِشَام: إِنَّمَا هُوَ أَبُو القعيس. وَالصَّوَاب أَنه أَفْلح وكنيته أَبُو الجعيد، وَهُوَ أَخُو أبي القعيس، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهم: هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَمَا سوى ذَلِك وهم من بعض الروَاة، وَلَا يعرف لأبي القعيس وَلَا لِأَخِيهِ أَفْلح ذكر إلاَّ فِي هَذَا الحَدِيث، وَيُقَال: إنَّهُمَا من الْأَشْعَرِيين، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، قَالَت: جَاءَ عمي من الرضَاعَة، ذكرته مُبْهما، وأفلح، بِفَتْح الْهمزَة وَاللَّام وَسُكُون الْفَاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَأَبُو القعيس، بِضَم الْقَاف وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة. قَوْله: (وَهُوَ عَمها من الرضَاعَة) فِيهِ الْتِفَات، وَكَانَ الْقيَاس يقتضى أَن تَقول: وَهُوَ عمي، وَاخْتلف فِي كَيْفيَّة ثوبت العمومة لأفلح هَذَا فَزعم بَعضهم مِمَّن رأى أَن لبن الْفَحْل لَا يحرم أَن أَفْلح هَذَا رضع مَعَ أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَكَانَ عَمَّا لعَائِشَة من الرضَاعَة. وَهَذَا خطأ يردهُ مَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن عَائِشَة، قَالَت: إِنَّمَا أرضعتني الْمَرْأَة وَلم يرضعني الرجل، وَكَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالصَّوَاب أَن عَائِشَة ارتضعت من امْرَأَة أبي القعيس، وأفلح أَخُوهُ فَصَارَ عَمها من الرضَاعَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: جَاءَ أَفْلح أَخُو أبي القعيس يسْتَأْذن عَلَيْهَا وَكَانَ أَبُو القعيس أَبَا عَائِشَة من الرضَاعَة وَفِي رِوَايَة لَهُ: وَكَانَ أَبُو القعيس زوج الْمَرْأَة الَّتِي أرضعت عَائِشَة. قَوْله: (جَاءَ يسْتَأْذن عَلَيْهَا) فِيهِ دَلِيل على مَشْرُوعِيَّة الاسْتِئْذَان. وَلَو فِي حق الْمحرم، لجَوَاز أَن تكون الْمَرْأَة على حَال لَا يحل للْمحرمِ أَن يَرَاهَا عَلَيْهِ. قَوْله: (بعد أَن نزل الْحجاب) فِيهِ أَنه يجوز للْمَرْأَة أَن تَأذن للرجل الَّذِي لَيْسَ بِمحرم لَهَا فِي الدُّخُول عَلَيْهَا، وَيجب عَلَيْهَا الاحتجاب مِنْهُ بِالْإِجْمَاع، وَمَا ورد من بروز النِّسَاء فَإِنَّمَا كَانَ قبل نزُول الْحجاب، وَكنت قصَّة أَفْلح مَعَ عَائِشَة بعد نزُول الْحجاب، كَمَا صرح بِهِ هُنَا. قَوْله: (فأبيت) أَي: امْتنعت، فِيهِ دَلِيل على أَن الْأَمر المتردد فِيهِ التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة لَيْسَ لمن لم يتَرَجَّح عِنْده أحد الطَّرفَيْنِ الْإِقْدَام عَلَيْهِ، خُصُوصا بعد نزُول الْحجاب، وَتردد عَائِشَة فِيهِ هَل هُوَ محرم فتأذن لَهُ؟ أَو لَيْسَ بِمحرم فتمنعه؟ فامتنعت تَغْلِيبًا للتَّحْرِيم على الْإِبَاحَة. قَوْله: (فَأمرنِي أَن آذن لَهُ) وَفِي رِوَايَة شُعَيْب الْمَاضِيَة فِي الشَّهَادَات: إئذني لَهُ فَإِنَّهُ عمك تربت يَمِينك، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان: يداك أَو يَمِينك، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة: إِنَّه عمك فليلج عَلَيْك، وَفِي رِوَايَة الحكم: صدق أَفْلح إئذني لَهُ.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على أَن من ادّعى الرَّضَاع وَصدقه الرَّضِيع يثبت حكم الرَّضَاع بَينهمَا فَلَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة لِأَن أَفْلح ادَّعَاهُ وصدقته عَائِشَة وَأذن الشَّارِع بِمُجَرَّد ذَلِك، ورد هَذَا بِاحْتِمَال أَن الشَّارِع اطلع على ذَلِك من غير دَعْوَى أَفْلح وَتَسْلِيم عَائِشَة، وَاسْتدلَّ بِهِ أَيْضا على أَن قَلِيل الرَّضَاع يحرم كَمَا يحرم كَثِيره. وَقَالَ بَعضهم: وألزم بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث الْحَنَفِيَّة الْقَائِلين: إِن الصَّحَابِيّ إِذا رُوِيَ حَدِيثا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَحَّ عَنهُ، ثمَّ صَحَّ عَنهُ الْعَمَل بِخِلَافِهِ، أَن الْعَمَل بِمَا رأى لَا بِمَا روى، لِأَن عَائِشَة صَحَّ عَنْهَا أَن الِاعْتِبَار بِلَبن الْفَحْل، وَأخذ الْجُمْهُور مِنْهُم الْحَنَفِيَّة بِخِلَاف ذَلِك وَعمِلُوا بروايتها فِي قصَّة أخي أبي القعيس وحرموا بِلَبن الْفَحْل، وَكَانَ يلْزمهُم على قاعدتهم أَن يتبعوا عَائِشَة ويعرضوا عَن رِوَايَتهَا، وَهَذَا إِلْزَام قوي انْتهى. قلت: لَو علم هَذَا الْقَائِل مدرك مَا قالته الْحَنَفِيَّة فِي ذَلِك لما صدر مِنْهُ

(20/98)


هَذَا الْكَلَام، وَلَكِن عدم الْفَهم وأريحية العصبية يحْملَانِ الرجل على أَن أخبط من هَذَا، وَقَاعِدَة أَصْحَابنَا فِيمَا قَالُوهُ لَيست على الْإِطْلَاق بل هِيَ لَا يَخْلُو الصَّحَابِيّ فِي عمله بِمَا رأى لَا بِمَا رُوِيَ أَنه إِن كَانَ عمله أَو فتواه قبل الرِّوَايَة أَو قبل بُلُوغه إِلَيْهِ كَانَ الحَدِيث حجَّة، وَإِن كَانَ بعد ذَلِك لم يكن حجَّة، لِأَنَّهُ ثَبت عِنْده أَنه مَنْسُوخ، فَلذَلِك عمل بِمَا رَآهُ لَا بِمَا رَوَاهُ، على أَن ابْن عبد الْبر قد ذكر أَن عَائِشَة أَيْضا كَانَت مِمَّن حرم لبن الْفَحْل.