عمدة القاري شرح صحيح البخاري

{بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيم}

74 - ( {كِتابُ الأشْرِبَةِ} )

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْأَشْرِبَة مَا يحرم من ذَلِك وَمَا يُبَاح، وَهِي جمع شراب وَهُوَ إسم لما يشرب وَلَيْسَ بمصدر لِأَن الْمصدر: هُوَ الشّرْب بِتَثْلِيث الشين يُقَال: شرب المَاء وَغَيره شربا وشربا. وقرىء (فشاربون شرب الهيم) بالوجوه الثَّلَاثَة قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الشّرْب بِالْفَتْح مصدر، وبالخفض وَالضَّم إسمان من شرب.

(21/162)


وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسَرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على الْأَشْرِبَة المجرورة بِالْإِضَافَة، وَالْآيَة بِتَمَامِهَا مَذْكُورَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: (رِجْس) الْآيَة. وَأول الْآيَة: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} (الْمَائِدَة: 90) الْآيَة وَذكر البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة تمهيدا لما يذكرهُ من الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي الْخمر، وَقد ذَكرنَاهَا فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَسبب نُزُولهَا مَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا خلف بن الْوَلِيد حَدثنَا إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي ميسرَة عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: لما نزل تَحْرِيم الْخمر، قَالَ: اللَّهُمَّ بيِّن لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا فَنزلت هَذِه الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة: {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير} (الْبَقَرَة: 129) فدعي عمر فقرئت عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بيّن لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا. فَنزلت الْآيَة الَّتِي فِي النِّسَاء: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} (النِّسَاء: 43) فَكَانَ مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة يُنَادي أَن لَا يقرب الصَّلَاة سَكرَان فدعى عمر فقرئت عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بيِّن لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا فَنزلت الَّتِي فِي الْمَائِدَة فدعي عمر فقرئت عَلَيْهِ فَلَمَّا بلغ: {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} (الْمَائِدَة: 61) قَالَ عمر: انتهينا انتهينا، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من طرق عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، وَصحح هَذَا الحَدِيث التِّرْمِذِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ. قَوْله: (الْخمر) ، اخْتلف أهل اللُّغَة فِي اشتقاق اسْم الْخمر على أَلْفَاظ قريبَة الْمعَانِي، فَقيل: سميت خمرًا لِأَنَّهَا تخمر الْعقل أَي: تغطيه وتستره، وَمِنْه خمار الْمَرْأَة لِأَنَّهُ يُغطي رَأسهَا وَقيل: مُشْتَقَّة من المخامرة. وَهِي المخالطة لِأَنَّهَا تخالط الْعقل، وَقيل: سميت خمرًا لِأَنَّهَا تركت حَتَّى أدْركْت يُقَال: خمر الْعَجِين أَي: بلغ إِدْرَاكه، وَقيل: سميت خمرًا لتغطيتها الدِّمَاغ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ مُؤَنّثَة وَقد ذكر ذَلِك الْفراء، وَأنْشد قَول الْأَعْشَى:
(وَكَانَ الْخمر الْعَتِيق من الإسف ... ط ممزوجة مَاء زلال)

وَذكرهَا حَيْثُ قَالَ: الْعَتِيق لإِرَادَة الشَّرَاب، وَلها أَسمَاء كَثِيرَة وَذكر صَاحب (التَّلْوِيح) مَا يناهز تسعين اسْما، وَذكر ابْن المعتز مائَة وَعشْرين اسْما وَذكر ابْن دحْيَة مائَة وَتِسْعين أسما قَوْله: (وَالْميسر) الغمار، وَعَن عَطاء وَمُجاهد وطاووس كل شَيْء من الْقمَار فَهُوَ الميسر حَتَّى لعب الصّبيان بالجوز، وَقَالَ رَاشد بن سعيد وَحَمْزَة بن حبيب: حَتَّى الكعاب والجوز وَالْبيض الَّتِي يلْعَب بهَا الصّبيان وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الميسر الْقمَار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهمَا، يُقَال: يسرته إِذا قمرته واشتقاقه من الْيُسْر لِأَنَّهُ أَخذ مَال الرجل بيسر ومهولة من غير تَعب وَلَا كد أَو من الْيَسَار لِأَنَّهُ يسلب يسَاره. قَوْله: (والأنصاب) ، جمع نصب بِضَم الصَّاد وسكونها وَهُوَ حجر كَانُوا ينصبونه فِي الْجَاهِلِيَّة ويتخذونه صنما فيعبدونه. وَقيل: كَانُوا ينصبونه ويذبحون عَلَيْهِ فيحمر بِالدَّمِ. قَوْله: (والأزلام) جمع زلم وَهُوَ بِفَتْح الزَّاي، وَهِي عبارَة عَن قداح ثَلَاثَة على أَحدهَا: أَمرنِي رَبِّي، وعَلى الآخر: نهاني رَبِّي، وَالثَّالِث: عطل لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء فَإِذا خرج الْأَمر فعله، وَإِذا خرج الناهي تَركه، وَإِن طلع الفارغ أعَاد الاستقسام، وَقيل: نعتت الْخمر بِأَنَّهَا رِجْسٌ أَي: نَجِسَة وقذرة وَلَا عين تُوصَف بذلك إلاَّ وَهِي مُحرمَة يدل على ذَلِك الْميتَة وَالدَّم، والرجس قد ورد فِي كتاب الله عزّ وجلّ وَالْمرَاد بِهِ الْكفْر. قَالَ الله تَعَالَى: {فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم} (التَّوْبَة: 125) يَعْنِي: الْكفْر، وَلَا يَصح أَن يكون الرجس الْمَذْكُور فِي آيَة الْخمر يُرَاد بِهِ الْكفْر لِأَن الْأَعْيَان لَا يَصح أَن تكون أيمانا وَلَا كفر أَو لِأَن الْخمر لَو كَانَت كفرا لوَجَبَ أَن يكون الْعصير أيمانا لِأَن الْكفْر وَالْإِيمَان طريقهما الِاعْتِقَاد وَالْقَوْل، وَإِنَّمَا أطلق عَلَيْهَا الرجس لكَونهَا أقوى فِي التَّحْرِيم وأوكد عِنْد الْعلمَاء، وَقد مر فِي التَّفْسِير بأبسط من هَذَا.

5575 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنا مَالِكٌ عَنْ نِافَعٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُما. أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتِبْ مِنْها حُرِمَها فِي الآخِرَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن القعني وَيحيى بن يحيى فرقهما. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة وَغَيره.
قَوْله: (حرمهَا) بِضَم الْحَاء وَكسر الرَّاء المخففة على صِيغَة الْمَجْهُول وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى المفعولين لِأَنَّهُ

(21/163)


ضد أَعْطَتْ أَي: لَا يشْربهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وأنهار من خمر لَذَّة للشاربين} (مُحَمَّد: 15) فَإِن قلت: الْمعْصِيَة لَا توجب حرمَان الْجنَّة. قلت: يدخلهَا وَلَا يشرب من نهرها فَإِنَّهَا من فاخر شراب أَهلهَا. فَإِن قلت: فِيهَا كل مَا تشْتَهي الْأَنْفس. قلت قيل: إِنَّه ينسى شهوتها، وَقيل: لَا يشتهيها وَإِن ذكرهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر الحَدِيث تأبيد التَّحْرِيم، فَإِن دخل الْجنَّة شرب من جَمِيع أشربتها إلاَّ الْخمر، وَمَعَ ذَلِك فَلَا يتألم لعدم شربهَا وَلَا يحْسد من يشْربهَا وَيكون حَاله كَحال أَصْحَاب الْمنَازل فِي الْخَفْض والرفعة فَكَمَا لَا يَشْتَهِي منزلَة من هُوَ أرفع مِنْهُ لَا يشتهيها أَيْضا، وَلَيْسَ ذَلِك بعقوبة لَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا} (الْحجر: 47) وَقيل: إِنَّه يعذب فِي النَّار فَإِذا خرج من النَّار بِالرَّحْمَةِ وبالشفاعة وَدخل الْجنَّة لم يحرم شَيْئا. قَوْلنَا: فِي لبس الْحَرِير وَالشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ بعض من تقدم: إِن من شرب الْخمر ثمَّ لم يتب مِنْهَا لم يدْخل الْجنَّة وَهُوَ مَذْهَب غير مرضِي عندنَا إلاَّ إِذا كَانَ على الْقطع فِي إِنْفَاذ الْوَعيد، ومحمله عندنَا أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إلاَّ أَن يغْفر الله لَهُ إِذا مَاتَ غير تائب مِنْهَا كَسَائِر الْكَبَائِر، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة مَعْنَاهُ: عندنَا إلاَّ أَن يغْفر الله لَهُ فَيدْخل الْجنَّة ويشربها وَهُوَ عندنَا فِي الْمَشِيئَة، إِن شَاءَ غفر لَهُ وَإِن شَاءَ عذبه، فَإِن عذبه بِذَنبِهِ ثمَّ أدخلهُ الْجنَّة برحمته لم يحرمها إِن شَاءَ الله عز وَجل.

5576 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أخْبَرَنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أُُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإبْلياءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا ثُمَّ أخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ وَلَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قيل: مَحل التَّرْجَمَة قَوْله: (غوت أمتك) وَأَبُو الْيَمَان بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي.
والْحَدِيث أخرجه بَقِيَّة السِّتَّة بأسانيد مُخْتَلفَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رَوَاهُ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَلم يرفعهُ. وَفِيه نظر.
قَوْله: (أُتِي) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بإيلياء) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الْخَفِيفَة مَعَ الْمَدّ وَهُوَ اسْم مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس، وَقيل: بِالْقصرِ وَالْمعْنَى: عرض ذَلِك عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ بإيلياء، وَقيل: جِيءَ بِثَلَاثَة أقداح قدح من عسل وقدحان من خمر وَلبن، وَأجِيب بِأَن عرض القدحين فِي إيلياء وَعرض الثَّلَاثَة عِنْد رَفعه إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى. قَوْله: (للفطرة) أَي: لِلْإِسْلَامِ والاستقامة. قَوْله: (وَلَو أخذت الْخمر غوت أمتك) أَي: ضلت وانهمكت فِي الشّرْب وَلَكِن بلطف الله تَعَالَى اخْتَار اللَّبن لكَونه سهلاً طيبا طَاهِرا سائغا للشاربين سليم الْعَاقِبَة.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب حمد الله تَعَالَى عِنْد تجدّد النِّعْمَة وَحُصُول مَا كَانَ يتَوَقَّع حُصُوله. واندفاع مَا كَانَ يخَاف وُقُوعه.
{تَابَعَهُ مَعْمَر وَابْنُ الهَادِ وَعُثْمَانُ بنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ}
أَي: تَابع شعيبا فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ معمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد وَابْن الْهَاد وَيزِيد بن عبد الله بن أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ وَعُثْمَان بن عمر بن مُوسَى بن عبد الله بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيّ والزبيدي بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عَامر أَبُو الْهُذيْل الشَّامي الْحِمصِي، والزبيدي هَذَا مَا وَقع مَعَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين إلاَّ فِي غير رِوَايَة أبي ذَر، أما مُتَابعَة معمر فوصلها البُخَارِيّ فِي قصَّة مُوسَى من أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر إيلياء، وَفِيه إشرب أَيهمَا شِئْت فَأخذت اللَّبن وشربته، وَأما رِوَايَة ابْن الْهَاد فوصلها النَّسَائِيّ من طَرِيق اللَّيْث عَنهُ عَن عبد الْوَهَّاب بن بخت عَن ابْن شهَاب وَهُوَ الزُّهْرِيّ فعلى هَذَا قد سقط ذكر عبد الْوَهَّاب من الأَصْل بَين ابْن الْهَاد وَابْن شهَاب، عَليّ أَن ابْن الْهَاد قد روى عَن الزُّهْرِيّ أَحَادِيث بِغَيْر وَاسِطَة وَوَصله أَحْمد من طَرِيق ابْن الْهَاد عَن الزُّهْرِيّ بِغَيْر وَاسِطَة وَأما رِوَايَة عُثْمَان بن عمر فوصلها تَمام الرَّازِيّ فِي فَوَائده من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن عُثْمَان بن عمر، وَأما رِوَايَة الزبيدِيّ فوصلها النَّسَائِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن حَرْب عَنهُ لَكِن لَيْسَ فِيهِ ذكر إيلياء.

5577 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا هِشَامٌ حدَّثنا قَتَادَةُ عَنْ أنَسٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ

(21/164)


رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَدِيثا لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي. قَالَ: مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ العِلْمُ وَيَظْهَرَ الزِّنا وَتُشْرَبَ الخَمْرُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَتَكْثُرَ النِّسَاءَ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وتشرب الْخمر) وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، والْحَدِيث من أَفْرَاده وَقد مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل.
قَوْله: (لَا يُحَدثكُمْ بِهِ غَيْرِي) إِنَّمَا قَالَ هَذَا إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ آخر من بَقِي من الصَّحَابَة ثمَّة أَو لِأَنَّهُ عرف أَنه لم يسمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَيره. قَوْله: (من أَشْرَاط السَّاعَة) أَي: من علاماتها وَهُوَ جمع شَرط بِفَتْح الرَّاء. قَوْله: (وَيشْرب الْخمر) أَي: ظَاهرا عَلَانيَة. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، وَشرب الْخمر، بِلَفْظ المصدرين وبالإضافة وَرِوَايَة الْجَمَاعَة أولى للمشاكلة. قَوْله: (ويقل الرِّجَال) لِكَثْرَة الحروب ولقتال الرِّجَال فِيهَا. قَوْله: (حَتَّى يكون لخمسين) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَتَّى يكون خَمْسُونَ امْرَأَة (قيمهن رجل وَاحِد) .

5578 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ حدَّثنا ابنُ وَهَبٍ قَالَ: أخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهاب، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ وَابْنِ المُسَيَّبِ يَقُولانِ: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ الله عَنْهُ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
قَالَ ابنُ شِهابٍ: وَأخْبَرَنِي عَبْدَ المَلِكِ بنِ أبِي بَكْرٍ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ أنَّ أبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ أبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أبْصَارَهُمْ فِيها حِينَ يَنْتَهِبُها وَهُوَ مُؤْمِنٌ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن) وَأحمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ وَيُونُس بن يزِيد الايلي وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ والْحَدِيث مر فِي كتاب الْمَظَالِم فِي بَاب النَّهْي بِغَيْر إِذن صَاحبه فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى آخِره وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب إِلَى آخِره قَوْله وَابْن الْمسيب هُوَ سعيد بن السميب قَوْله يَقُولَانِ فِي مَوضِع الْحَال قَوْله لَا يزنى حِين يزنى وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات هَكَذَا بِلَا ذكر فَاعل لَا يزنى أَي لَا يزنى الْمُؤمن أَو لَا يزنى الزَّانِي أَو لَا يزنى الرجل وَقَالَ ابْن مَالك فِيهِ دلَالَة على جَوَاز حذف الْفَاعِل قلت الأَصْل عدم جَوَاز حذفه إِلَّا عِنْد قيام قرينَة قَطْعِيَّة تدل على ذَلِك وَهنا كَذَلِك قَوْله وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا أَشد مَا ورد فِي شرب الْخمر، وَبِه تعلق الْخَوَارِج فكفَّروا مرتكب الْكَبِيرَة عَامِدًا عَالما بِالتَّحْرِيمِ وَحمل أهل السّنة الْإِيمَان هُنَا على الْكَامِل أَي: لَا يكون كَامِلا فِي الْإِيمَان حَالَة كَونه فِي شرب الْخمر. قيل: هُوَ من بَاب التَّغْلِيظ والتهديد الْعَظِيم نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين} (آل عمرَان: 97) وَقَالَ الْخطابِيّ: أَي: من فعل ذَلِك مستحلاً لَهُ. قلت: وَكَذَلِكَ الْمَعْنى فِي كل مَا ورد من هَذَا الْقَبِيل فَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَنْدَه بِإِسْنَادِهِ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثَلَاثَة لَا يدْخلُونَ الْجنَّة: مدمن الْخمر، وقاطع الرَّحِم، ومصدق بِالسحرِ. وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث حَكِيم بن جُبَير عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ من لَقِي الله وَهُوَ مدمن خمر كَانَ كعابد الوثن، وروى ابْن أبي عدي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يرفعهُ مدمن الْخمر كعابد الوثن.
قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) هُوَ مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور قَوْله: (أَن أَبَا بكر) هُوَ وَالِد عبد الْملك قَوْله: (يلْحق) بِضَم الْيَاء من الْإِلْحَاق، وَمعنى الْإِلْحَاق أَنه كَانَ يزِيد ذَلِك فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (مَعَهُنَّ) أَي: مَعَ الْمَذْكُورَات، وَهِي الزِّنَا وَشرب الْخمر وَالسَّرِقَة. قَوْله: (نهبة) بِفَتْح النُّون وَهُوَ مصدر وبضم النُّون المَال المنهوب. قَوْله: (ذَات شرف) أَي: مَكَان عالٍ يَعْنِي: لَا يَأْخُذ الرجل مَال النَّاس قهرا أَو ظلما مُكَابَرَة وعلو أَو عيَانًا وهم ينظرُونَ إِلَيْهِ

(21/165)


فيتضرعون وَلَا يقدرُونَ على دَفعه وَقد مرت مباحثه فِي كتاب الْمَظَالِم.

2 - (بابٌ الخَمْرُ مِنَ العِنَبِ)

قَوْله: (الْخمر من الْعِنَب) يحْتَمل وَجْهَيْن من حَيْثُ الْإِعْرَاب: أَحدهمَا: أَن يكون لفظ بَاب مُضَافا إِلَى الْخمر، فالتقدير: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخمر من الْعِنَب، أَي: الْخمر الكائنة من الْعِنَب وَهَذَا لَا يُنَافِي أَن يكون خمر من غير الْعِنَب. وَالْآخر: أَن يكون الْخمر مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ، وَمن الْعِنَب، خَبره، وَهَذَا صورته صُورَة الْحصْر وَهُوَ يمشي على مَذْهَب أبي حنيفَة، فَإِن مذْهبه: الْخمر هِيَ مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد، وَالْخمر من غير الْعِنَب لَا يُسمى خمرًا حَقِيقَة، وعَلى مَذْهَب غَيره لَا يُرَاد مِنْهُ الْحصْر، وَإِن كَانَت صورته صُورَة الْحصْر كَمَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة والعنبة، رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي أَن ينْحَصر الْخمر على هَاتين الشجرتين، لِأَن قَوْله: الْخمر اسْم للْجِنْس فاستوعب بذلك جَمِيع مَا يُسمى خمرًا، فَانْتفى بذلك أَن يكون الْخَارِج مِنْهُمَا أَن يُسمى باسم الْخمر، مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث ابْن عمر: نزل تَحْرِيم الْخمر: وَهِي من خَمْسَة أَشْيَاء: الْعِنَب وَالتَّمْر وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَالْعَسَل، على مَا يَجِيء عَن قريب، فَإِن كَانَ الْأَمر كَذَلِك يؤل الحَدِيث. وَقد أولوه بتأويلات.
الأول: أَن يكون المُرَاد من قَوْله: من هَاتين الشجرتين، إِحْدَاهمَا كَمَا فِي قَوْله عز وَجل: { (6) يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} (الْأَنْعَام: 130) . وَالرسل من الْإِنْس لَا من الْجِنّ، وَقَوله عز وَجل: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} (الرَّحْمَن: 22) ، وَإِنَّمَا يخرج من أَحدهمَا فَيكون الْمَقْصُود من قَوْله: الْخمر، هِيَ الكائنة من الْعِنَب لَا من النَّخْلَة، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور.
الثَّانِي: أَن يكون عَنى بِهِ الشجرتين جَمِيعًا، وَيكون مَا خمر من ثمرهما خمرًا.
وَالثَّالِث: أَن يكون المُرَاد كَون الْخمر من هَاتين الشجرتين وَإِن كَانَت مُخْتَلفَة، وَلَكِن المُرَاد من الْعِنَب هُوَ الَّذِي يفهم مِنْهُ الْخمر حَقِيقَة، وَلِهَذَا يُسمى خمرًا سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا، أسكر أَو لم يسكر، أَو يكون المُرَاد من التَّمْر مَا يكون مُسكرا فَلَا يكون غير الْمُسكر مِنْهُ دَاخِلا فِيهِ، وَكَذَا الْكَلَام فِي كل مَا جَاءَ من إِطْلَاق الْخمر على غير الْعِنَب. فَإِن قلت: كل مَا أسكر يُطلق عَلَيْهِ أَنه خمر، أَلا ترى حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: كل مُسكر خمر، وكل مُسكر حرَام. قلت: الْمَعْنى فِي هَذَا الْخَبَر وَفِيمَا جَاءَ مثله من الْأَخْبَار أَنه يُسمى خمرًا حَالَة وجود السكر دون غَيره، بِخِلَاف مَاء الْعِنَب المشتد فَإِنَّهُ خمر سَوَاء أسكر أَو لم يسكر، وَالدَّلِيل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: الْخمر مَا خامر الْعقل، على مَا يَجِيء عَن قريب، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُسمى خمرًا عِنْد مخامرته الْعقل، بِخِلَاف مَاء الْعِنَب المشتد، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام، فَإِنِّي مَا رَأَيْت أحدا من الشُّرَّاح حرر هَذَا الْموضع، بل أَكْثَرهم غضوا عَنهُ عيونهم، غير أَنِّي رَأَيْت فِي (شرح ابْن بطال) كَذَا ذكر بَاب الْخمر من الْعِنَب وَغَيره، فَإِن صَحَّ هَذَا من البُخَارِيّ فَلَا يحْتَاج إِلَى كَلَام أصلا وإلاَّ فالمخلص فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ مِمَّا فتح لنا من الْفَيْض الإلهي، فَلهُ الشُّكْر والْمنَّة.

5579 - حدّثنا الحَسَنُ بنُ صَبَّاحٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ سابِقٍ حَدثنَا مالِكٌ هُوَ ابنُ مِغْوَل عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: لَقدْ حُرِّمَتِ الخَمْرُ وَمَا بالْمَدِينَةِ مِنْها شَيْءٌ. (انْظُر الحَدِيث: 4616) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُطلق لَا يحمل إلاَّ على الْمَأْخُوذ من الْعِنَب.
وَالْحسن بن صباح، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الْبَزَّار بالزاي ثمَّ الرَّاء الوَاسِطِيّ، وَمُحَمّد بن سَابق من شُيُوخ البُخَارِيّ، وروى عَنهُ هُنَا بالواسطة، وَمَالك هُوَ ابْن مغول بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو وباللام البَجلِيّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم المفتوحتين، وَذكره دفعا للالتباس بِمَالك بن أنس.
قَوْله: (لقد حرمت) على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّحْرِيم وَتَحْرِيم الْخمر كَانَ فِي سنة الْفَتْح قبل الْفَتْح، وَجزم الدمياطي أَنه كَانَ فِي سنة الْحُدَيْبِيَة، وَالْحُدَيْبِيَة كَانَت سنة سِتّ، وَذكر ابْن إِسْحَاق أَنه كَانَ فِي وقْعَة بني النَّضِير، وَهِي بعد أحد وَذَلِكَ سنة أَربع على الرَّاجِح، وَفِيه نظر لِأَن أنسا كَانَ الساقي يَوْم حرمت وَأَنه لما سمع تَحْرِيمهَا بَادر، فأراقها فَلَو كَانَ ذَلِك سنة أَربع لَكَانَ أنس يصغر عَن ذَلِك. قَوْله: (وَمَا بِالْمَدِينَةِ) أَي: وَمَا فِي الْمَدِينَة (مِنْهَا) ، أَي: من الْخمر (شَيْء) وَمرَاده الْخمر الَّتِي من مَاء الْعِنَب لِأَن غَيرهَا من الأنبذة من غير الْعِنَب كَانَت مَوْجُودَة حينئذٍ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيث أنس الْآتِي عَقِيبه، أَو أَن ابْن عمر نفى بِمُقْتَضى علمه من ذَلِك، أَو أَرَادَ الْمُبَالغَة فِي النَّفْي كَمَا يُقَال: فلَان لَيْسَ بِشَيْء.

(21/166)


5580 - حدّثناأحْمَدُ بنُ يُونُسَ حَدثنَا أبُو شِهابٍ عبْدُ رَبِّهِ بنُ نافِعٍ عنْ يُونُسَ عنْ ثابِتٍ البُنانِيِّ عنْ أنَسٍ، قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنا الخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ يَعْني: بالمَدِينَةِ خَمْرَ الأعْنابِ إلاَّ قَلِيلاً، وعامَّةُ خَمْرِنا البُسْرُ والتَّمْرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَأَبُو شهَاب هُوَ كنية عبد ربه بِإِضَافَة العَبْد إِلَى الرب ابْن نَافِع الحناط بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة المدايني، وَيُونُس هُوَ ابْن عبيد الْبَصْرِيّ، وثابت ضد الزائل ابْن أسلم الْبَصْرِيّ أَبُو مُحَمَّد ونسبته إِلَى بنانة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النونين، وَهِي زَوْجَة سعد بن لؤَي بن غَالب بن فهر، فنسب بنوها إِلَيْهَا وَقيل: كَانَت أمة لسعد حضنت بنيه، وَقيل: كَانَت حاضنة بنته. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (وَمَا نجد بِالْمَدِينَةِ) أَي: فِي الْمَدِينَة. قَوْله: (وَعَامة خمرنا الْبُسْر وَالتَّمْر) الْبُسْر هُوَ الْمرتبَة الرَّابِعَة لثمرة النّخل: أَولهَا طلع ثمَّ خلال ثمَّ بلح ثمَّ بسر ثمَّ رطب، والخلال بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة جمع خلالة بِالْفَتْح، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ الْبُسْر أول إِدْرَاكه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْخمر مَائِع والبسر جامد فَكيف يكون هُوَ إِيَّاه؟ قلت: هُوَ مجَاز عَن الشَّرَاب الَّذِي يُؤْخَذ مِنْهُ عكس: أَرَانِي أعصر خمرًا، أَو ثمَّة إِضْمَار أَي: عَامَّة أصل خمرنا. فَإِن قلت: تقدم أَنه قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ فِيهَا شَيْء، فَكيف قَالَ: عَامَّة خمرنا؟ قلت: المُرَاد بقوله فِيهَا خمر الْعِنَب إِذْ هُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن عِنْد الْإِطْلَاق، أَو الْمُطلق مَحْمُول عَلَيْهَا. وَفِي (التَّوْضِيح) فِي هَذَا الحَدِيث، وَفِي الَّذِي بعده رد على الْكُوفِيّين فِي قَوْلهم: إِن الْخمر من الْعِنَب خَاصَّة، وَإِن كل شراب يتَّخذ من غَيره فَغير محرم مَا دون الْمُسكر مِنْهُ. قلت: فِيمَا ذكرنَا فِي أول الْبَاب يرد مَا قَالَه فراجع إِلَيْهِ، تعرف الْمَرْدُود مَا هُوَ، وَقَالَ الْمُهلب أَيْضا: لَيْسَ لأحد أَن يَقُول: إِن الْخمر من الْعِنَب وَحده فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَة فصحاء الْعَرَب والفهماء عَن الله وَرَسُوله، قَالُوا: إِن الْخمر من خَمْسَة أَشْيَاء، وَقد أخبر الْفَارُوق بذلك حِكَايَة عَمَّا نزل من الْقُرْآن، وَقَالَ: الْخمر مَا خامر الْعقل، وخطب بذلك على منبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحَضْرَة الصَّحَابَة من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَغَيرهم وَلم يُنكره أحد فَصَارَ كالإجماع. قلت: كل من لَا يفهم دقة مَا قَالَه الْكُوفِيُّونَ رد عَلَيْهِم برد مَرْدُود، وَقَول الْكُوفِيّين: الْخمر من الْعِنَب وَحده لَا يُنَافِي قَول الصَّحَابَة إِن الْخمر من خَمْسَة أَشْيَاء وَلَا يضر فصاحتهم لأَنهم استعملوا فِي كَلَامهم الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَهُوَ عين الفصاحة، وَلَا يفرق بَينهمَا من كَلَام الصَّحَابَة إلاَّ من لَهُ ذوق من إِدْرَاك دقائق الْكَلَام. وَقَوله: (فَصَارَ كالإجماع) فِيهِ نظر قوي، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي نَقِيع التَّمْر: إِنَّه خمر، وَقَالَ الشّعبِيّ وَابْن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن إِدْرِيس وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَعَامة أهل الحَدِيث، الْمُسكر خمر. قلت: إِطْلَاقهم الْخمر على هَذِه الْأَشْيَاء لَيْسَ من طَرِيق الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا قَالُوا: خمر، لمخامرته الْعقل، وَنحن نقُول بِهِ من هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَقد مر تَحْقِيقه عَن قريب، وَقَالَ أَيْضا: قَالَ أَبُو حنيفَة: الْمحرم عصير الْعِنَب النيء فَمن شرب مِنْهَا وَلَو نقطة حد وَمَا عَداهَا لَا يحد إلاَّ بالسكر، وَمَوْضِع الرَّد عَلَيْهِ من الحَدِيث أَنهم كَانُوا يشربون بِالْمَدِينَةِ الفضيخ، وَهُوَ مَا يتَّخذ من الْبُسْر وَالتَّمْر، فَلَمَّا جَاءَهُم مُنَادِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْخمر قد حرمت، امْتَنعُوا وكسروا الجرار وَلم ينكروا، وَلَا قَالُوا: كُنَّا نشرب الفضيخ، بل امْتَنعُوا، فلولا أَنه عِنْدهم خمر لما امْتَنعُوا مِنْهُ. قلت: هُوَ لم يحرر مَوضِع الرَّد، حَتَّى رد على الإِمَام، والفضيخ الَّذِي كَانُوا يشربونه حينئذٍ كَانَ مُسكرا، والمسكر يُطلق عَلَيْهِ اسْم الْخمر بِاعْتِبَار مخامرته الْعقل لِأَن حَقِيقَة الْخمر من الْعِنَب النيء المشتد حَتَّى يتَعَلَّق بِهِ الْحَد فِي قَلِيله، وَغير مَاء الْعِنَب من الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَا يتَعَلَّق الْحَد إلاَّ بالمسكر مِنْهَا.

5581 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيىَ عنْ أبي حَيَّانَ حَدثنَا عامِرٌ عَن ابنِ عُمَرَ، رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قامَ عُمَرُ عَلى المِنْبَرِ، فَقَالَ: أمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وهْيَ مِنْ خَمْسَةٍ: العِنَبِ والتَّمْرِ والعَسَلِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ، والخمْرُ مَا خامَرَ العَقْلَ.

(21/167)


مطابقته للتَّرْجَمَة على تَقْدِير صِحَة النُّسْخَة: بَاب الْخمر من الْعِنَب وَغَيره، كَمَا فِي (شرح ابْن بطال) ظَاهِرَة. وَأما على غَالب النّسخ بِدُونِ لفظ: وَغَيره، فعلى كَون لفظ: بَاب، مُضَافا إِلَى الْخمر من الْعِنَب، وَلَا يُرَاد بِهِ الْحصْر كَمَا ذكرنَا وَجهه فِي أول الْبَاب، وَيدخل فِيهِ كل مَا يخَامر الْعقل.
وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَأَبُو حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون اسْمه يحيى بن سعيد التَّيْمِيّ الْكُوفِي، وعامر هُوَ الشّعبِيّ يروي عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا.
والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (أما بعد نزل) وَالْقِيَاس أَن يُقَال: فقد نزل، وَلَكِن جَاءَ حذف الْفَاء كَمَا فِي كتاب الْحَج، قَالَ: فَأَما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة طافوا طَوافا وَاحِدًا. قَوْله: (مَا خامر الْعقل) أَي: كتم وغطى، وَهَذَا تَعْرِيف بِحَسب الْعرف وَأما بِحَسب اللُّغَة فَهُوَ مَا يخَامر الْعقل من عصير الْعِنَب خَاصَّة.

3 - (بابٌ نَزَلَ تَحْرِيِمُ الخَمْرِ وهْيَ مِنَ البُسْرِ والتّمْرِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَنه نزل تَحْرِيم الْخمر إِلَى آخِره. قَوْله: وَهِي أَي: وَالْحَال أَن الْخمر كَانَ يصنع من الْبُسْر وَالتَّمْر.

5582 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عبْدِ الله، قَالَ: حدّثني مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ إسْحاقَ بنِ عبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ، رضيَ الله عَنهُ، قَالَ: كُنْتُ أسقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبا طَلْحَةَ وأُُبَيَّ بنَ كَعْبٍ مِن فَضيخِ زَهْوٍ وتَمْرٍ، فَجاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أنَسُ فأهْرِقْها، فأهْرَقْتُها.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من فضيخ زهو) والفضيخ بِفَتْح الْفَاء وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالخاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ اسْم للبسر إِذا شدخ ونبذ، وَقد يُقَال: الفضيخ، من الفضخ وَهُوَ الشدخ وَالْكَسْر: شراب يتَّخذ من الْبُسْر وَيصب عَلَيْهِ المَاء وَيتْرك حَتَّى يغلي. قَوْله: (زهو) بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْهَاء وبالواو، وَقد يضم الزَّاي وَهُوَ الْبُسْر الملون الَّذِي ظهر فِيهِ الْحمرَة والصفرة.
واسماعيل هُوَ ابْن أبي أويس واسْمه عبد الله ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَقد تكَرر ذكره. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي خبر الْوَاحِد عَن يحيى بن قزعة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح.
قَوْله: (أَبَا عُبَيْدَة) هُوَ ابْن الْجراح واسْمه عَامر أحد الْعشْرَة المبشرة، وَأَبُو طَلْحَة زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ زوج أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَاسم أم أنس: أم سليم، كَذَا اقْتصر فِي هَذِه الرِّوَايَة على هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، فَأَما أَبُو طَلْحَة فلكون الْقِصَّة كَانَت فِي منزله، وَأما أَبُو عُبَيْدَة فَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، آخى بَينه وَبَين أبي طَلْحَة، وَأما أبي بن كَعْب فَلِأَنَّهُ كَانَ كَبِير الْأَنْصَار وعالمهم، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس فِي تَفْسِير الْمَائِدَة: إِنِّي لقائم أَسْقِي أَبَا طَلْحَة وَفُلَانًا وَفُلَانًا، كَذَا وَقع بالإبهام، وسمى فِي رِوَايَة مُسلم مِنْهُم أَبَا أَيُّوب، وَسَيَأْتِي بعد أَبْوَاب من رِوَايَة هِشَام عَن قَتَادَة عَن أنس: إِنِّي لأسقي أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة وَسُهيْل بن بَيْضَاء، وَأَبُو دُجَانَة بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْجِيم وَبعد الْألف نون اسْمه سماك بن خَرشَة بمعجمتين بَينهمَا رَاء مفتوحات وَلمُسلم من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة نَحوه وسمى فيهم: معَاذ بن جبل، وَلأَحْمَد عَن يحيى الْقطَّان عَن حميد عَن أنس كنت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة وَأبي بن كَعْب وَسُهيْل بن بَيْضَاء وَنَفَرًا من الصَّحَابَة عِنْد أبي طَلْحَة وَوَقع عِنْد عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ثَابت وَقَتَادَة وَغَيرهمَا عَن أنس أَن الْقَوْم كَانُوا أحد عشر رجلا، وَوَقع عِنْد ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من طَرِيق عِيسَى بن طهْمَان عَن أنس أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَا فيهم وَهُوَ مُنكر جدا، وَقيل: إِنَّه غلط، وَقد أخرج أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَت: حرم أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْخمر على نَفسه فَلم يشْربهَا فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام، فَإِن قلت: سَنَد حَدِيث ابْن مرْدَوَيْه جيد. قلت: إِن كَانَ مَحْفُوظًا يحْتَمل أَن أَبَا بكر وَعمر زارا أَبَا طَلْحَة فِي ذَلِك الْيَوْم وَلم يشربا. قَوْله: (من فضيخ زهو) وَقد فسرناه عَن قريب. قَوْله: (فَجَاءَهُمْ آتٍ) لم يدر من هُوَ. قَوْله: (فَأَهْرقهَا) أَمر من الإهراق، وَأَصله أرِقها من الإراقة، ويروى: فهرقها، بِفَتْح الْهَاء وَكسر الرَّاء أَي: أرقها فأبدلت الْهمزَة هَاء، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: أهرقها وهرقتها، وَوَقع فِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس فِي التَّفْسِير بِلَفْظ: فإهراقها، وَمن رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، فَقَالُوا: أرِق هَذِه القلال يَا أنس، وَهَذَا مَحْمُول على أَن الْمُخَاطب لَهُ بذلك أَبُو طَلْحَة، وَرَضي الْبَاقُونَ بذلك، فنسب الْأَمر بالإراقة إِلَيْهِم جَمِيعًا.

(21/168)


5583 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا مُعْتَمِرٌ عنْ أبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أنَساً قَالَ: كُنْتُ قَائِما عَلى الحَيِّ أسْقِيهِمْ عُمُومَتي وَأَنا أصْغَرُهُمُ الفَضِيخَ، فَقيلَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ، فقالُوا: إكْفِئْها، فَكفَأْنا. قُلْتُ لأنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وبُسْرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْر بنُ أنَسٍ: وكانَتْ خَمْرُهُمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ أنَسٌ.
وحدّثني بَعْضُ أصْحابي أنَّهُ سَمِعَ أنَساً يَقُولُ: كانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئذٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَبسر) . ومعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان يروي عَن أَبِيه سُلَيْمَان بن طرخان الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن يحيى بن أَيُّوب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْوَلِيمَة عَن سُوَيْد بن نصر. قَوْله: (كنت قَائِما على الْحَيّ أسقيهم عمومتي) الْحَيّ: وَاحِد أَحيَاء الْعَرَب. قَوْله: (عمومتي) جمع عَم، قَالَ الْكرْمَانِي: عمومتي بدل عَن الضَّمِير، أَو مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، وَفِي رِوَايَة مُسلم. إِنِّي لقائم على الْحَيّ على عمومتي أسقيهم من فضيخ لَهُم وَأَنا أَصْغَرهم سنا، وَهَذَا أحسن من ذَاك. وَفِيه: أَن الصَّغِير يخْدم الْكَبِير. قَوْله: إكفئها) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْكَاف وَكسر الْفَاء وَسُكُون الْهمزَة بِمَعْنى: إقلبها يَعْنِي: أرقها. قَوْله: (فكفأنا) لجَماعَة الْمُتَكَلّم من الْمَاضِي أَي: قلبناها قَوْله: (قلت لأنس) الْقَائِل هُوَ سُلَيْمَان والدمعتمر الرَّاوِي. قَوْله: (وَقَالَ أَبُو بكر) هُوَ ابْن أنس بن مَالك فِي حُضُور أَبِيه، فَكَانَت خمرهم أَي: الفضيخ كَانَت خمرهم، وَوجه التَّأْنِيث مَعَ أَن الْمَذْكُور الشَّرَاب بِاعْتِبَار أَنه خمر. قَوْله: فَلم يذكر أنس) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَلم يُنكر أنس ذَلِك، وَكَأن أنسا لم يُحَدِّثهُمْ بِهَذِهِ الزِّيَادَة وَهِي قَوْله: (وَكَانَت خمرهم) إِمَّا نِسْيَانا وَإِمَّا اختصاراً، فَذكره بِهِ ابْنه أَبُو بكر فأقره عَلَيْهَا أنس.
قَوْله: (وحَدثني بعض أَصْحَابِي) الْقَائِل بِهَذَا أَيْضا سُلَيْمَان الْمَذْكُور، ويروي: بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ مَوْصُول بالسند الأول الْمَذْكُور، قيل: هَذَا الْمُبْهم يحْتَمل أَن يكون بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، فَإِن رِوَايَته فِي آخر الْبَاب تومىء إِلَى ذَلِك، وَيحْتَمل أَن يكون قَتَادَة، وَسَيَأْتِي بعد أَبْوَاب من طَرِيقه عَن أنس بِلَفْظ: وَأَنا نعدها يَوْمئِذٍ الْخمر.

5584 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ حَدثنَا يُوسُفُ أبُو مَعْشَرٍ البَرَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعيدَ بنَ عُبَيْدِ الله: قَالَ حدَّثني بكر بنُ عبد الله أنَّ أنسَ بن مالِكٍ حدَّثَهُمْ: أنَّ الخَمْرَ حُرِّمَتْ والخَمْرُ يَوْمَئِذٍ البُسرُ والتَّمْرُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والمقدَّمي بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة مر عَن قريب، ويوسف هُوَ ابْن يزِيد وكنيته أَبُو معشر وَهُوَ مَشْهُور بكنيته أَكثر من اسْمه، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الْقطَّان، وَكَانَ مَشْهُورا أَيْضا بالبراء بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء وبالمد، وَكَانَ يبري السِّهَام وَهُوَ بَصرِي وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي الطِّبّ سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَسَعِيد ابْن عبيد الله بن جُبَير بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة ابْن حَيَّة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَمَا لَهُ أَيْضا فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَآخر تقدم فِي الْجِزْيَة، وَبكر بن عبد الله الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده.
قَوْله: (حرمت) على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّحْرِيم. قَوْله: (وَالْخمر) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَفِي (التَّوْضِيح) : هَذَا الحَدِيث أَيْضا حجَّة على الْعِرَاقِيّين، إِنَّمَا الْخمر من الْعِنَب وَحده لِأَن الصَّحَابَة الْقدْوَة فِي علم اللِّسَان وَلَا يجوز عَلَيْهِم أَن يفهموا أَن الْخمر إِنَّمَا هِيَ من الْعِنَب خَاصَّة، قلت: قد تكَرر هَذَا الْكَلَام فِي هَذِه الْأَبْوَاب بِلَا فَائِدَة، وَالَّذِي قَالَه نقص فِي حَقهم لنسبته إيَّاهُم إِلَى عدم الْمعرفَة بفنون الْكَلَام وهم الْقدْوَة فِي فنون الْكَلَام، وَإِنَّمَا قَالُوا الْغَيْر الْمُتَّخذ من الْعِنَب خمرًا للتشبيه بالمتخذ مِنْهُ فِي مُخَالطَة الْعقل، وَقد حققنا هَذَا الْموضع فِيمَا مضى عَن قريب.

4 - (بابٌ الخَمْرُ منَ العَسَلِ وهْوَ البِتعُ)

الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: بَاب الْخمر من الْعِنَب فِي الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا. قَوْله (وَهُوَ البتع) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالعين الْمُهْملَة، قَالَ الْقَزاز: وَهُوَ يتَّخذ من عسل النَّحْل صلب يكره شربه لدُخُوله فِي جملَة

(21/169)


مَا يكره من الْأَشْرِبَة لفعله وصلابته وَفِي كتاب (الواعي) صلابته كصلابة الْخمر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: البتع خمر يَمَانِية وَأهل الْيمن يفتحون تاءه، وَقَالَ ابْن محيريز: سَمِعت أَبَا مُوسَى يخْطب على مِنْبَر الْبَصْرَة: أَلا إِن خمر أهل الْمَدِينَة الْبُسْر وَالتَّمْر، وخمر أهل فَارس الْعِنَب، وخمر أهل الْيمن البتع، وخمر الْحَبَش السكركة وَهُوَ الْأرز.
وَقَالَ مَعْنٌ: سألْتُ مالِكَ بنَ أنَسٍ عنِ الفُقَّاعِ؟ فَقَالَ: إِذا لَمْ يُسْكِرْ فَلاَ بأسَ، وَقَالَ ابنُ الدَّرَاوَردْيِّ سألْنا عَنْهُ فَقَالُوا: لَا يُسْكِرُ لَا بَأْس بهِ.
معن بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالنون ابْن عِيسَى الْقَزاز بِالْقَافِ وَتَشْديد الزَّاي الأولى، قَالَ ابْن سعد: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا التَّعْلِيق أَخذه البُخَارِيّ عَن معن مذا كرة فِيمَا قَالَه بعض الْعلمَاء. قلت: كَيفَ يتَصَوَّر أَخذ البُخَارِيّ عَن معن ومولده فِي شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، وَكَانَ عمره يَوْم مَاتَ معن أَربع سِنِين؟ وَكَأَنَّهُ غره مَا حَكَاهُ ابْن الصّلاح فِي تعاليق البُخَارِيّ عَن شُيُوخه مُطلقًا، لَا فِي خُصُوص هَذَا الْأَثر، وَأَرَادَ بِبَعْض الْعلمَاء ابْن الصّلاح، وَأبْعد صَاحب (التَّوْضِيح) حَيْثُ قَالَ: أَخذ البُخَارِيّ هَذَا التَّعْلِيق عَن معن مذا كرة، وَهُوَ قلد صَاحب (التَّلْوِيح) وَزَاد فِي الْبعد مَسَافَة، قَوْله: (عَن الفقاع) بِضَم الْفَاء وَتَشْديد الْقَاف وبالعين الْمُهْملَة، قَالَ الْكرْمَانِي: المشروب الْمَشْهُور. قلت: الفقاع لَا يشرب بل يمص من كوزه، وَقَالَ بَعضهم: الفقاع مَعْرُوف قد يصنع من الْعَسَل، وَأكْثر مَا يصنع من الزَّبِيب. قلت: لم يقل أحد إِن الفقاع يصنع من الْعَسَل، بل أهل الشَّام يصنعونه من الدبس، وَفِي عَامَّة الْبِلَاد مَا يصنع إلاَّ من الزَّبِيب المدقوق، وَحكم شربه مَا قَالَه مَالك: إِن لم يسكر لَا بَأْس بِهِ، والفقاع لَا يسكر، نعم إِذا بَات فِي إنائه الَّذِي يصنعونه فِيهِ لَيْلَة فِي الصَّيف أَو لَيْلَتَيْنِ فِي الشتَاء يشْتَد جدا، وَمَعَ هَذَا لَا يسكر، وَقد سُئِلَ بعض مَشَايِخنَا: مَا قَول السَّادة الْعلمَاء فِي فقاع يتَّخذ من زبيب بِحَيْثُ أَنه إِذا قلع سداد كوزه لَا يبْقى فِيهِ شَيْء من شدته يخرج وينتثر؟ فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَأما إِذا صَار بِحَال بِحَيْثُ إِنَّه يسكر من شدته فَيحرم حينئذٍ قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا. قَوْله: (وَقَالَ ابْن الدَّرَاورْدِي) هُوَ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، وَهَذَا من رِوَايَة معن بن عِيسَى عَنهُ أَيْضا. وَالظَّاهِر أَن ابْن الدَّرَاورْدِي سَأَلَ عَن فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة فِي زَمَانه، وَهُوَ قد شَارك مَالِكًا فِي لِقَاء أَكثر مشايخه الْمَدَنِيين.

5585 - حدّثناعبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مالِكٌ عَن ابنِ شهَابٍ عنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ: سئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن البِتْعِ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أسْكَرَ فهْوَ حرَامٌ. (انْظُر الحَدِيث: 242 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب لَا يجوز الْوضُوء بالنبيذ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام، وَلم يعرف اسْم السَّائِل صَرِيحًا. قيل: يحْتَمل أَن يكون السَّائِل أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه إِلَى الْيمن فَسَأَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَام عَن أشربة تصنع بهَا، فَقَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: البتع والمزر، فَقَالَ: كل مُسكر حرَام.

5586 - حدّثناأبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخبرَنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عبْد الرَّحْمانِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنِ البِتْعِ، وهْوَ نَبِيذُ العَسَلِ، وكانَ أهْلُ اليَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلُّ شَرَابٍ أسْكَر فهْوَ حرامٌ. (انْظُر الحَدِيث: 242 وطرفه) .

وعَنِ الزُّهْريِّ قَالَ: حدّثني أنَسُ بنُ مالِكٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تَنْتَبِذُوا فِي الدُّباءِ وَلَا فِي المُزَفَّتِ.
وكانَ أبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ معَهما الحَنْتَمَ والنَّقِيرَ.

(21/170)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث مضى فِي الطَّهَارَة مُخْتَصرا فِي: بَاب لَا يجوز الْوضُوء بالنبيذ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
قَوْله: (كل شراب أسكر) من جَوَامِع الْكَلم لِأَنَّهُ سُئِلَ عَن البتع وَأجَاب عَن جنس المشروب الْمُسكر.
قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) هُوَ من رِوَايَة شُعَيْب أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فِي الدُّبَّاء) بِضَم الدَّال وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد وَهُوَ القرع. قَوْله: (والمزفت) بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة وَهُوَ الْإِنَاء المزفت بالزفت، وَهُوَ شَيْء كالقير.
قَوْله: (وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ الزُّهْرِيّ، وَقع ذَلِك عِنْد شُعَيْب عَنهُ مُرْسلا. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي عُيَيْنَة عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا تنتبذوا فِي الدُّبَّاء وَلَا فِي المزفت، ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة: (وَاجْتَنبُوا الحناتم) ، وَرَفعه من طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَزَاد فِيهِ: والدباء. قَوْله: (يلْحق) بِضَم الْيَاء من الْإِلْحَاق. قَوْله: (مَعَهُمَا) أَي: مَعَ الدُّبَّاء والمزفت. قَوْله: (الحنتم) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهِي الجرة الخضراء، والنقير بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وَهُوَ الْخشب المنقور، وخصت هَذِه الظروف بِالنَّهْي لِأَنَّهَا ظروف منبذة فَإِذا انتبذ صَاحبهَا كَانَ على خطر مِنْهَا لِأَن الشَّرَاب فِيهَا قد يصير مُسكرا وَهُوَ لَا يشْعر بهَا.

5 - (بابُ مَا جاءَ فِي أنَّ الخَمْرَ مَا خامَرَ العَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الْأَخْبَار فِي أَن الْخمر هُوَ مَا خامر الْعقل من شرب الشَّرَاب.

5588 - حدّثناأحْمَدُ بنُ أبي رَجاءٍ حَدثنَا يَحْياى عنْ أبي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَن الشَّعْبِيِّ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلى مِنْبَرِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ نَزَلَ تحْرِيمُ الخَمْرِ، وهْيَ مِنْ خَمْسَةِ أشْياءَ: العِنَبِ والتمْر والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعسَلِ. والخَمْرُ مَا خامَرَ العَقْلَ، وثَلاَثٌ وَدِدْتُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يُفارِقْنا حَتَّى يَعْهَدَ إلَيْنا. عَهْداً: الجَدُّ والكَلاَلَةُ وأبْوَابُ مِنْ أبْوابِ الرِّبا؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍ وأفَشَيءٌ يُصْنَعُ بالسِّنْدِ منَ الرُّزِّ؟ قَالَ: ذَاكَ لمْ يَكُنْ عَلى عهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ قَالَ: عَلى عهْدِ عُمَرَ.
وَقَالَ حجَّاجٌ عنْ حمَّادٍ عنْ أبي حَيَّانَ مكانَ العِنَبِ: الزَّبِيبَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالْخمر مَا خامر الْعقل) وَأحمد بن أبي رَجَاء بِالْجِيم اسْمه عبد الله بن أَيُّوب أَبُو الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَأَبُو حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون واسْمه يحيى بن سعيد التَّيْمِيّ، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ إِلَى قَوْله: (وَالْخمر مَا خامر الْعقل) وَأخرجه أَيْضا فِي الِاعْتِصَام. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة غير ابْن ماجة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (قد نزل تَحْرِيم الْخمر) أَرَادَ بِهِ عمر رَضِي الله عَنهُ نزُول الْآيَة الْمَذْكُورَة فِي أول كتاب الْأَشْرِبَة وَهِي آيَة الْمَائِدَة. {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} (الْمَائِدَة: 90) الْآيَة. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى. عَنهُ، التَّنْبِيه على أَن المُرَاد بِالْخمرِ فِي هَذِه الْآيَة لَيْسَ خَاصّا بالمتخذ من الْعِنَب، بل يتَنَاوَل الْمُتَّخذ من غَيرهَا. قلت: نعم يتَنَاوَل غير الْمُتَّخذ من الْعِنَب من حَيْثُ التَّشْبِيه لَا من حَيْثُ الْحَقِيقَة. قَوْله: (وَهِي من خَمْسَة أَشْيَاء) جملَة حَالية لَا تَقْتَضِي الْحصْر وَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاق الخمرية على نَبِيذ الذّرة والأرز وَغَيرهمَا، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا عد عمر رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَنْوَاع الْخَمْسَة لاشتهار أسمائها فِي زَمَانه وَلم يكن بوجد بِالْمَدِينَةِ الْوُجُود الْعَام فَإِن الْحِنْطَة كَانَت عزيزة وَالْعَسَل مثلهَا أَو أعز، فعد عمر رَضِي الله عَنهُ مَا عرف مِنْهَا، وَجعل مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا يتَّخذ من الْأرز وَغَيره خمر بمثابتها إِن كَانَ مِمَّا يخَامر الْعقل ويسكر كإسكارها. قَوْله: (وَالْخمر مَا خامر الْعقل) أَي: غطاه وخالطه، وَلم يتْركهُ على حَاله، وَهُوَ من مجَاز التَّشْبِيه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ دَلِيل على إِحْدَاث الِاسْم بِالْقِيَاسِ وَأَخذه من طَرِيق الِاشْتِقَاق. قلت: هَذَا

(21/171)


الْبَاب فِيهِ خلاف. وَقيل: هَذَا تَعْرِيف بِحَسب اللُّغَة لَا بِحَسب الْعرف فَإِنَّهُ بِحَسبِهِ مَا يخَامر الْعقل من عصير الْعِنَب خَاصَّة. قلت: لَا نسلم أَن هَذَا التَّعْرِيف بِحَسب اللُّغَة، بل هُوَ تَعْرِيف بِحَسب الْعرف، وَهَذَا الْقَائِل عكس الْأَمر فِيهِ لِأَن الأَصْل فِي خمر الْعِنَب رِعَايَة الْمَعْنى اللّغَوِيّ، وَفِي الْعرف لَا يسْتَعْمل فِي غَيره إلاَّ بطرِيق الْمجَاز. قَوْله: (وَثَلَاث) قَالَ بَعضهم: هِيَ صفة مَوْصُوف أَي: أُمُور أَو أَحْكَام. قلت: الموجه أَن يُقَال: أَي ثَلَاث قضايا أَو ثَلَاث مسَائِل. قَوْله: (وددت) أَي: تمنيت، وَإِنَّمَا تمنى ذَلِك لِأَنَّهُ أبعد من مَحْذُور الِاجْتِهَاد فِيهِ وَهُوَ الْخَطَأ فِيهِ على تَقْدِير وُقُوعه، وَلَو كَانَ مأجوراً عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يفوتهُ بذلك الْأجر الثَّانِي، وَالْعَمَل بِالنَّصِّ إِصَابَة مَحْضَة. قَوْله: (لم يفارقنا حَتَّى يعْهَد إِلَيْنَا عهدا) أَي: حَتَّى يبين لنا، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عهدا ننتهي إِلَيْهِ قَوْله: (الْجد) أَي: الأول من الثَّلَاث الْجد أَي: مَسْأَلَة الْجد فِي أَنه يحجب الْأَخ أَو ينحجب بِهِ أَو يقاسمه وَفِي قدر مَا يَرِثهُ لِأَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا فَروِيَ عَن عُبَيْدَة أَنه قَالَ: حفظت عَن عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْجد سبعين قَضِيَّة كلهَا يُخَالف بَعْضهَا بَعْضًا، وَعَن عمر أَنه جمع الصَّحَابَة ليجتمعوا فِي الْجد على قَول، فَسَقَطت حَيَّة من السّقف فَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَبى الله إلاَّ أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْجد، وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: من أَرَادَ أَن يفتح جراثيم جَهَنَّم فليقض فِي الْجد، يُرِيد أُصُولهَا، والجراثيم جمع جرثومة وَهِي الأَصْل. وَقَالَ أَبُو بكر وَابْن الزبير وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأَبُو مُوسَى رَضِي الله عَنْهُم: هُوَ يحجب الْأُخوة. وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة، وَقَالَ زيد: هُوَ كَأحد الْأُخوة مَا لم تنقصه الْمُقَاسَمَة، فَإِذا أنقصته أعطي الثُّلُث وقسموا للأخوة مَا بَقِي، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: هُوَ أَخ مَعَهم مَا لم تنقصه الْمُقَاسَمَة من الثُّلُث. قَوْله: (والكلالة) أَي: وَالثَّانِي من الثَّلَاث مَسْأَلَة الْكَلَالَة، بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام: وَهُوَ من لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد قَالَه أَبُو بكر وَعمر وَعلي وَزيد وَابْن مَسْعُود والمدنيون والبصريون والكوفيون، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ من لَا ولد لَهُ وَإِن كَانَ لَهُ وَالِد، وَقَالَ شَيخنَا أَمِين الدّين فِي (شَرحه للسراجية) : الْكَلَالَة تطلق على ثَلَاثَة: على من لم يخلف ولدا وَلَا والداً، وعَلى من لَيْسَ يُولد وَلَا وَالِد من الْمُخلفين، وعَلى الْقَرَابَة من جِهَة الْوَلَد وَالْوَالِد، قَالَ: وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر بِمَعْنى الكلال وَهُوَ ذهَاب الْقُوَّة من الإعياء فاستعيرت لِلْقَرَابَةِ من غير جِهَة الْوَلَد وَالْوَالِد لِأَنَّهَا بِالْإِضَافَة إِلَى قرابتهما ضَعِيفَة، وَإِذا جعل صفة للموروث أَو الْوَارِث فبمعنى ذِي كَلَالَة، كَمَا يُقَال: فلَان من قَرَابَتي أَي: من ذِي قَرَابَتي. قَوْله: (وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا) الثَّالِث من الثَّلَاث، وأبواب الرِّبَا كَثِيرَة غير محصورة حَتَّى قَالَ بَعضهم: لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ: وأبواب، يدل على أَنه كَانَ عِنْده نَص فِي بعض أبوابه دون بعض وَلِهَذَا تمنى معرفَة الْبَعْض. قَوْله: (يَا أَبَا عمر) وَأَصله يَا أَبَا عمر وحذفت الْألف للتَّخْفِيف وَهُوَ كنية الشّعبِيّ، وَالْقَائِل بِهَذَا أَبُو حَيَّان التَّيْمِيّ. قَوْله: (وَشَيْء) مُبْتَدأ تخصص بِالصّفةِ وَهُوَ قَوْله: (يصنع) وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: وَشَيْء يصنع بالسند من الْأرز مَا حكمه؟ والسند بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون، وبالدال الْمُهْملَة وَهِي بِلَاد بِالْقربِ من الْهِنْد. قَوْله: (من الرز) ويروى: من الْأرز. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْأرز حب وَفِيه سِتّ لُغَات: أرز وأرز تتبع الضمة الضمة، وأرز وأرز مثل رسل ورسل، ورز ورنز، وَهِي لعبد الْقَيْس. قلت: وَفِيه لُغَة سابعة: أرز بِفَتْح الْهمزَة مَعَ تَخْفيف الزَّاي، كعضد. قَوْله: (ذَاك) أَي: الَّذِي يصنع من الرز لم يكن مَوْجُودا فِي الْمَدِينَة أَو مَعْرُوفا على زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَو قَالَ) شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: (وَقَالَ حجاج عَن حَمَّاد) أَي: حجاج بن منهال، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي حَيَّان الْمَذْكُور فِي الحَدِيث مَكَان الْعِنَب الزَّبِيب، يَعْنِي: روى هَذَا الحَدِيث عَن أبي حَيَّان بِهَذَا السَّنَد والمتن فَذكر الزَّبِيب عوض الْعِنَب وَذكر البُخَارِيّ هَذَا عَن الْحجَّاج مذاكرة، وَوَصله عَليّ بن عبد الْعَزِيز فِي (مُسْنده) عَن حجاج بن منهال كَذَلِك.

5589 - حدّثناحَفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ عبْدِ الله بنِ أبي السَّفَرِ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ عُمَر. قَالَ: الخَمْرُ تُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الزبِيبِ والتمْرِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعَسَلِ.
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن حَفْص بن عمر بن الْحَارِث أَبُو عمر الحوضي النمري الْأَزْدِيّ عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن

(21/172)


عبد الله بن أبي السّفر ضد الْحَضَر واسْمه سعيد مُحَمَّد الْهَمدَانِي الْكُوفِي يروي عَن عَامر الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا وَمر الْكَلَام فِي: بَاب الْخمر من الْعِنَب، فِي حَدِيث عمر مثل هَذَا، لَكِن هُنَاكَ الْعِنَب أحد الْخَمْسَة، وَهنا الزَّبِيب، وَقد قُلْنَا غير مرّة: إِن التَّنْصِيص على عدد معِين لَا يُنَافِي مَا عداهُ، وَإِن إِطْلَاق الْخمر على غير مَاء الْعِنَب المشتد لَيْسَ بطرِيق الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ من: بَاب التَّشْبِيه، وَقَالَ بَعضهم: وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) من الْحَنَفِيَّة: الْخمر عندنَا مَا اعتصر من مَاء الْعِنَب إِذا اشْتَدَّ وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة وَأهل الْعلم. قَالَ: وَقيل: هُوَ اسْم لكل مُسكر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل مُسكر خمر، وَقَوله: (الْخمر من هَاتين الشجرتين) وَلِأَنَّهُ من مخامرة الْعقل وَذَلِكَ مَوْجُود فِي كل مُسكر، وَلنَا: إطباق أهل اللُّغَة على تَخْصِيص الْخمر بالعنب، وَلِهَذَا اشْتهر اسْتِعْمَالهَا فِيهِ، وَلِأَن تَحْرِيم الْخمر قَطْعِيّ وَتَحْرِيم مَا عدا الْمُتَّخذ من الْعِنَب ظَنِّي، قَالَ: وَإِنَّمَا سمي الْخمر خمرًا لتخمره لَا لمخامرة الْعقل. قَالَ: وَلَا يُنَافِي ذَلِك كَون الِاسْم خَاصّا بِهِ، كَمَا فِي النَّجْم فَإِنَّهُ مُشْتَقّ من الظُّهُور ثمَّ هُوَ خَاص بِالثُّرَيَّا. انْتهى. ثمَّ قَالَ: هَذَا الْقَائِل: وَالْجَوَاب عَن الْحجَّة الأولى وَأطَال الْكَلَام بِهِ كَمَا نذكرهُ ونرد عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: وَعَن الثَّانِيَة وَعَن الثَّالِثَة كَذَلِك نذكرهما ونرد عَلَيْهِ. قلت: أما أَولا فَذكر صَاحب (الْهِدَايَة) عشرَة أوجه فِي ثُبُوت مَا ادَّعَاهُ من إِطْلَاق اسْم الْخمر على عصير الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة. وَأهل الْعلم وَبَين وَجه كل وَجه من الْعشْرَة، وَهَذَا الْقَائِل الْمُعْتَرض اعْترض على ثَلَاثَة أوجه مِنْهَا وَسكت عَن الْبَاقِي لعدم الْإِدْرَاك الْكَامِل والفهم النَّاقِص. بَيَان الْوَجْه الأول: من ذَلِك هُوَ قَوْله: وَالْجَوَاب عَن الْحجَّة الأولى ثُبُوت النَّقْل عَن بعض أهل اللُّغَة بِأَن غير الْمُتَّخذ من الْعِنَب يُسمى خمرًا، وَقَالَ الْخطابِيّ: زعم قوم أَن الْعَرَب لَا تعرف الْخمر إلاَّ من الْعِنَب، فَيُقَال لَهُم: إِن الصَّحَابَة الَّذين سموا غير الْمُتَّخذ من الْعِنَب خمرًا عرب فصحاء، فَلَو لم يكن هَذَا الِاسْم صَحِيحا لما أَطْلقُوهُ. انْتهى قلت: سُبْحَانَ الله! كَيفَ يكون هَذَا الْكَلَام جَوَابا عَن الْحجَّة الأولى وَبَيَان بُطْلَانه من وُجُوه.
الأول: قَوْله ثُبُوت النَّقْل عَن بعض أهل اللُّغَة إِلَى آخِره، دَعْوَى مُجَرّدَة، فَمن هُوَ ذَلِك الْبَعْض من أهل اللُّغَة؟ بل الْمَنْقُول من أهل اللُّغَة أَن الْخمر من الْعِنَب والمتخذ من غَيره لَا يُسمى خمرًا إلاَّ مجَازًا، وَقد نفى أَبُو الْأسود الدؤَلِي الَّذِي هُوَ من أَعْيَان أهل اللُّغَة اسْم الْخمر عَن الطلاء، بقوله.
(دع الْخمر يشْربهَا الغواة فإنني ... رَأَيْت أخاها مغنياً لمكانها)

وَجعل الطلاء أَخا للخمر، وأخو الشَّيْء غَيره والطلاء كل مَا خثر من الْأَشْرِبَة وَهُوَ المثلث، وَيُقَال: الْمنصف، وكل ذَلِك بالطبخ من أَي عصير كَانَ. الثَّانِي: اسْتدلَّ بقول الْخطابِيّ، وَهُوَ لَيْسَ من أهل اللُّغَة، وَإِنَّمَا هُوَ ناقل. وَالثَّالِث: هُوَ أَن قَوْله: إِن الصَّحَابَة الَّذين سموا إِلَى آخِره، لَا يُنكره أحد وَلَا يُنكر أحد أَيْضا كَونهم فصحاء وأعيان أهل اللُّغَة، وَلَكِن مَا أطْلقُوا على الْعصير من غير الْعِنَب خمرًا بطرِيق الْوَضع اللّغَوِيّ بل بطرِيق التَّسْمِيَة وَالتَّسْمِيَة غير الْوَضع بِلَا خلاف، وَوجه تسميتهم من بَاب التَّشْبِيه وَالْمجَاز، وَمن جملَة مَا قَالَ فِي الْجَواب عَن الْحجَّة الأولى: وَقَالَ أهل الْمَدِينَة وَسَائِر الْحِجَازِيِّينَ وَأهل الحَدِيث كلهم: كل مُسكر خمر، فَنَقُول نَحن: لَا ننازع فِي هَذَا لِأَن مَعْنَاهُ: كل شراب أسكر فَحكمه حكم الْخمر فِي الْحُرْمَة وَبَقِيَّة الْأَحْكَام، فَلَا يدل هَذَا على إِطْلَاق الْخمر على الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب خمرًا على الْحَقِيقَة، بل بطرِيق التَّشْبِيه والتشبيه لَا عُمُوم لَهُ، وَقَالَ أَيْضا: وَمن الْحجَّة لَهُم أَن الْقُرْآن لما نزل بِتَحْرِيم الْخمر فهم الصَّحَابَة، وهم أهل اللِّسَان، أَن كل شَيْء يُسمى خمرًا يدْخل فِي النَّهْي، فأراقوا الْمُتَّخذ من التَّمْر وَالرّطب وَلم يخصوا ذَلِك بالمتخذ من الْعِنَب انْتهى. قُلْنَا: إِنَّمَا أراقوا الْمُتَّخذ من التَّمْر وَالرّطب لِأَنَّهُ كَانَ مُسكرا حينئذٍ، فأطلقوا عَلَيْهِ الْخمر من جِهَة إسكاره. وَالدَّلِيل على أَنه كَانَ مُسكرا حِين بَلغهُمْ الْخَبَر بِتَحْرِيم الْخمر مَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِم بِلَفْظ: حِين مَالَتْ رؤوسهم، فَدخل دَاخل فَقَالَ: إِن الْخمر حرمت. قَالَ: فَمَا خرج منا خَارج وَلَا دخل دَاخل حَتَّى كسرنا القلال وأهرقنا الشَّرَاب ... الحَدِيث، فَلَو كَانَ غير مُسكر لما فعلوا ذَلِك. وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أنس قَالَ: كَانَ أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَسُهيْل بن بَيْضَاء وَأبي بن كَعْب عِنْد أبي طَلْحَة وَأَنا أسقيهم من شراب حَتَّى كَاد يَأْخُذ فيهم ... الحَدِيث وَفِي آخِره: وَإِنَّهَا الْبُسْر وَالتَّمْر، وَإِنَّهَا لخمرنا يومئذٍ، وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَفِيه أَيْضا: حَتَّى كَاد الشَّرَاب أَن يَأْخُذ فيهم، وَفِي رِوَايَة للطحاوي: حَتَّى أسرعت فيهم، فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن مشروبهم يومئذٍ كَانَ مُسكرا، وَلما بَلغهُمْ الْخَبَر بِتَحْرِيم

(21/173)


الْخمر بطلوا الشَّرَاب وأراقوا مَا بَقِي مِنْهُ.
وَبَيَان الْوَجْه الثَّانِي من ذَلِك هُوَ قَوْله: وَعَن الثَّانِيَة يَعْنِي: الْجَواب عَن الْحجَّة الثَّانِيَة مَا تقدم من أَن اخْتِلَاف المشتركين فِي الحكم فِي الغلظ لَا يلْزم مِنْهُ افتراقهما فِي التَّسْمِيَة كَالزِّنَا مثلا، فَإِنَّهُ يصدق على من وطىء أَجْنَبِيَّة، وعَلى من وطىء امْرَأَة جَاره. وَالثَّانِي أغْلظ من الأول، وعَلى من وطىء محرما لَهُ وَهُوَ أغْلظ، وَاسم الزِّنَا مَعَ ذَلِك شَامِل للثَّلَاثَة. اهـ. قُلْنَا: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا الْجَواب بِشَيْء وَنحن قَائِلُونَ بِهِ، وَذَلِكَ أَن الِاشْتِرَاك فِي الحكم فِي الغلظ لَا يسْتَلْزم افتراقهما فِي التَّسْمِيَة عِنْد وجود السكر فِي الْعصير الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب، فَمن قَالَ: إِن الْعصير الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب قيل السكر مُشْتَرك مَعَ عصير الْعِنَب المشتد فِي الحكم وَكَيف يكون ذَلِك والعصير الْمُتَّخذ من غير الْعِنَب قبل السكر لَا يُسمى حَرَامًا فضلا عَن أَن يُسمى خمرًا، بِخِلَاف الْعصير من الْعِنَب المشتد فَإِنَّهُ حرَام أسكر أَو لم يسكر؟ فأنِّي يَشْتَرِكَانِ فِي الحكم، وَالزِّنَا حرَام فِي كل حَالَة مُطلقًا من غير تَفْصِيل.
وَبَيَان الْوَجْه الثَّالِث من ذَلِك هُوَ قَوْله وَعَن الثَّالِثَة: أَي الْجَواب عَن الْحجَّة الثَّالِثَة ثُبُوت النَّقْل عَن أعلم النَّاس بِلِسَان الْعَرَب بِمَا نَفَاهُ هُوَ، كَيفَ؟ وَهُوَ يستجيز أَن يَقُول: لَا لمخامرة الْعقل مَعَ قَول عمر رَضِي الله عَنهُ بِمحضر الصَّحَابَة: الْخمر مَا خامر الْعقل، وَكَانَ مُسْتَنده مَا ادَّعَاهُ من اتِّفَاق أهل اللُّغَة فَيحمل قَول عمر على الْمجَاز. اهـ. قُلْنَا: قَول صَاحب (الْهِدَايَة) فَإِنَّمَا سمى خمرًا لتخمره لَا لمخامرته الْعقل غير معَارض لكَلَام عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِن مُرَاده من حَيْثُ الِاشْتِقَاق لِأَن الْخمر ثلاثي فَكيف يشتق من المخامرة الَّذِي هُوَ مزِيد الثلاثي؟ وإنكاره من هَذِه الْجِهَة على أَنه قَالَ بعد ذَلِك: على أَن مَا ذكرْتُمْ لَا يُنَافِي كَون اسْم الْخمر خَاصّا فِي النيء من مَاء الْعِنَب إِذا أسكر، فَإِن النَّجْم مُشْتَقّ من الظُّهُور وَهُوَ اسْم خَاص للنجم الْمَعْرُوف وَهُوَ الثريا، وَلَيْسَ هُوَ باسم لكل مَا ظهر، وَهَذَا كثير النَّظَائِر نَحْو: القارورة فَإِنَّهَا مُشْتَقَّة من الْقَرار وَلَيْسَت اسْما لكل مَا يُقرر فِيهِ شَيْء وَلم أر أحدا من شرَّاح (الْهِدَايَة) حرر هَذَا الْموضع كَمَا يَنْبَغِي، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة وَللَّه الْحَمد.
وَمُلَخَّص الْكَلَام بِمَا فِيهِ الرَّد على كل من رد على أَصْحَابنَا فِيمَا قَالُوهُ من إِطْلَاق الْخمر حَقِيقَة على النيء من مَاء الْعِنَب المشتد وعَلى غَيره مجَازًا وتشبيهاً، مِنْهُم: أَبُو عمر والقرطبي والخطابي وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: حرمت الْخمْرَة بِعَينهَا والمسكر من كل شراب، وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن شهَاب عَن ابْن أبي ليلى عَن عِيسَى: أَن أَبَاهُ بَعثه إِلَى أنس رَضِي الله عَنهُ فِي حَاجَة فأبصر عِنْده طلاء شَدِيدا، والطلاء مِمَّا يسكر كَثِيره. فَلم يكن عِنْد أنس ذَلِك خمرًا وَإِن كَثِيره يسكر فَثَبت بذلك أَن الْخمر لم يكن عِنْد أنس من كل شراب يسكر، وَلكنهَا من خَاص من الْأَشْرِبَة، وَهَذَا يدل على أَن أنسا كَانَ يشرب الطلاء، وَمَعَ هَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: ذهب أَكثر الشَّافِعِيَّة إِلَى أَن الْخمر حَقِيقَة فِيمَا يتَّخذ من الْعِنَب مجَاز فِي غَيره، وَقَالَ بَعضهم: وَخَالفهُ ابْن الرّفْعَة فَنقل عَن الْمُزنِيّ وَابْن أبي هُرَيْرَة وَأكْثر الْأَصْحَاب أَن الْجَمِيع يُسمى خمرًا حَقِيقَة. قلت: هَذَا الْقَائِل لم يدر الْفرق بَين الرَّافِعِيّ وَابْن الرّفْعَة، وَالله سُبْحَانَهُ وَأعلم.

6 - (بابُ مَا جاءَ فِيمَن يَسْتَحِلُّ الخَمْرَ ويُسَمِّيه بِغَيْرِ اسْمِه)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي حق من يرى الْخمر حَلَالا. قَوْله: (ويسميه) أَي: يُسَمِّي الْخمر أَي: وَفِي بَيَان من يُسمى الْخمر بِغَيْر اسْمه، وَإِنَّمَا ذكر ضمير الْخمر بالتذكير مَعَ أَن الْخمر مؤنث سَمَاعي بِاعْتِبَار الشَّرَاب. قَالَ الْكرْمَانِي: ويروى يسميها بِغَيْر اسْمهَا يَعْنِي: بتأنيث الضَّمِير على الأَصْل.

5590 - وَقَالَ هِشامُ بنُ عَمَّارٍ: حَدثنَا صَدَقَةُ بنُ خالِدٍ حَدثنَا عبدُ الرَّحْمانِ بنُ يَزِيدَ بنِ جابِرٍ حَدثنَا عَطِيَّةُ بنُ قَيْسٍ الكِلاَبِيُّ حَدثنَا عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ غَنْمٍ الأشْعَرِيُّ قَالَ: حدّثني أبُو عامِرٍ. أوْ أبُو مالِكٍ الأشْعَرِيُّ. وَالله مَا كَذَبَنِي، سَمِعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: لِيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ والخَمْرَ والمَعازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَليْهِمْ بِسارِحَةٍ لَهُمْ يأْتِيهِمْ يَعْني: الفَقِيرَ لحاجَةٍ، فَيَقُولُون: ارْجِعْ إلَيْنا غَداً فَيُبَيِّتُهُمُ الله وَيَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ.

(21/174)


مُطَابقَة الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُطَابق الْجُزْء الثَّانِي قيل: أَشَارَ بقوله (ويسميه) بِغَيْر اسْمه إِلَى حَدِيث رُوِيَ فِي ذَلِك، وَلكنه لم يُخرجهُ لكَونه على غير شَرطه، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من طَرِيق مَالك بن أبي مَرْيَم عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليشربنَّ ناسٌ الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا، وَصَححهُ ابْن حبَان، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: يشرب نَاس من أمتِي الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا، وَصَححهُ ابْن حبَان، وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: يشرب نَاس من أمتِي الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا يضْرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأَرْض، وَيجْعَل مِنْهُم القردة والخنازير.
قَوْله: وَقَالَ هِشَام بن عمار بن نصير بن ميسرَة أَبُو الْوَلِيد السّلمِيّ الدِّمَشْقِي، وَهُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ وروى عَنهُ فِي فضل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَفِي الْبيُوع أسْند عَنهُ فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي ثَلَاث مَوَاضِع يَقُول: قَالَ هِشَام بن عمار فِي الْأَشْرِبَة هَذَا، وَفِي الْمَغَازِي: إِن النَّاس كَانُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْحُدَيْبِيَة تفَرقُوا فِي ظلال شجر، وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تكن مثل فلَان، كَانَ يقوم اللَّيْل، فَفِي هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة لَا يَقُول: حَدثنَا وَلَا أخبرنَا، وَالظَّاهِر أَنه أَخذ هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام هَذَا مذاكرة.
والْحَدِيث صَحِيح وَإِن كَانَت صورته صُورَة التَّعْلِيق، وَقد تقرر عِنْد الْحفاظ أَن الَّذِي يَأْتِي بِهِ البُخَارِيّ من التَّعَالِيق كلهَا بِصِيغَة الْجَزْم يكون صَحِيحا إِلَى من علقه عَنهُ، وَلَو لم يكن من شبوخه. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع فِيمَا بَين البُخَارِيّ وَصدقَة بن خَالِد والمنقطع لَا تقوم بِهِ حجَّة. قلت: وهم ابْن حزم فِي هَذَا، فَالْبُخَارِي إِنَّمَا قَالَ: قَالَ هِشَام بن عمار: حَدثنَا صَدَقَة وَلم يقل: قَالَ صَدَقَة بن خَالِد. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وليته أعله بِصَدقَة فَإِن يحيى قَالَ فِيهِ: لَيْسَ بِشَيْء، رَوَاهُ ابْن الْجُنَيْد عَنهُ، وروى الْمروزِي عَن أَحْمد: لَيْسَ بِمُسْتَقِيم وَلم يرضه. قلت: هَذَا تمنٍ غير مرجو فِيهِ، المُرَاد فَإِن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ عَن أَبِيه، فَقِيه ثِقَة لَيْسَ بِهِ بَأْس، أثبت من الْوَلِيد بن مُسلم صَالح الحَدِيث. وَقَالَ دُحَيْم وَالْعجلِي وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وروى عَن يحيى أَيْضا، وَذهل صَاحب (التَّوْضِيح) وَظن أَنه الْمَنْقُول عَن أَحْمد وَيحيى فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك فِي صَدَقَة بن عبد السمين وَهُوَ أقدم من صَدَقَة بن خَالِد، وَقد شَاركهُ فِي كَونه دمشقياً، وَفِي رِوَايَة عَن بعض شُيُوخه كزيد بن وَاقد وَهُوَ صَدَقَة بن خَالِد الْقرشِي الْأمَوِي أَبُو الْعَبَّاس الدِّمَشْقِي مولى أم الْبَنِينَ أُخْت مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَالَه البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم، وَقيل: مولى أم الْبَنِينَ أُخْت عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ قَالَه هِشَام بن عمار الرَّاوِي عَنهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَآخر تقدم فِي مَنَاقِب أبي بكر، وَصدقَة هَذَا يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن جَابر الْأَزْدِيّ مر فِي الصَّوْم وَهُوَ يروي عَن عطيةِ بن قيس الْكلابِي الشَّامي التَّابِعِيّ يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون: ابْن كريب بن هانىء مُخْتَلف فِي صحبته، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ أَبوهُ مِمَّن قدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُحْبَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَذكر ابْن يُونُس أَن عبد الرَّحْمَن كَانَ مَعَ أَبِيه حِين وَفد، وَقَالَ أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي وَغَيره من حفاظ الشَّام: إِنَّه أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه. وَقَالَ أَبُو عمر عبد الرَّحْمَن بن غنم الْأَشْعَرِيّ جاهلي: كَانَ مُسلما على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره، وَلم يفد عَلَيْهِ، ولازم معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ مُنْذُ بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن إِلَى أَن مَاتَ فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ وَسمع من عمر بن الْخطاب، وَكَانَ أفقه أهل الشَّام، وَهُوَ الَّذِي فقه عَامَّة التَّابِعين بِالشَّام، وَمَات بِالشَّام سنة ثَمَان وَسبعين.
قَوْله: (قَالَ حَدثنِي أَبُو عَامر، أَو أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ) هَكَذَا رَوَاهُ أَكثر الْحفاظ عَن هِشَام بن عمار بِالشَّكِّ، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة بشر بن بكر، لَكِن وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من رِوَايَة بشر بن بكر حَدثنِي أَبُو مَالك بِغَيْر شكّ، وَالرَّاجِح أَنه عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور، قيل: اسْمه كَعْب، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: عبد الله، وَقيل: عبيد يعد فِي الشاميين، وَأما أَبُو عَامر الْأَشْعَرِيّ فَقَالَ الْمزي: اخْتلف فِي اسْمه، فَقيل: عبيد الله بن هانىء وَقيل: عبد الله بن وهب، وَقيل: عبيد بن وهب، سكن الشَّام وَلَيْسَ بعم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، ذَاك قتل أَيَّام حنين فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واسْمه عبيد بن حضار، وَهَذَا بَقِي إِلَى زمن عبد الْملك بن مَرْوَان. فَإِن قلت: قَالَ الْمُهلب: هَذَا حَدِيث ضَعِيف لِأَن البُخَارِيّ لم يسْندهُ من أجل شكّ الْمُحدث فِي (الصاحب) فَقَالَ أَبُو عَامر أَو أَبُو مَالك: قلت:

(21/175)


هَذَا لَيْسَ بِشَيْء إِذْ الترديد فِي الصَّحَابِيّ لَا يضر إِذْ كلهم عدُول. قَوْله (وَالله مَا كَذبَنِي) هَذَا تَأْكِيد ومبالغة فِي صدق الصَّحَابِيّ لِأَن عَدَالَة الصَّحَابَة مَعْلُومَة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا يُؤَيّد رِوَايَة الْجَمَاعَة أَنه عَن وَاحِد لَا عَن اثْنَيْنِ قيل: هَذَا كَلَام سَاقِط لِأَنَّهُ من قَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث من اثْنَيْنِ حَتَّى يُؤَيّد بِهَذَا اللَّفْظ أَنه من وَاحِد. قلت: لَا بل هُوَ كَلَام موجه لِأَن ابْن حبَان روى عَن الْحُسَيْن بن عبد الله عَن هِشَام بِهَذَا السَّنَد إِلَى عبد الرَّحْمَن بن غنم أَنه سمع أَبَا عَامر وَأَبا مَالك الْأَشْعَرِيين يَقُولَانِ فَذكر الحَدِيث، كَذَا قَالَ، وَالْمَحْفُوظ رِوَايَة الْجَمَاعَة بِالشَّكِّ. قَوْله (من أمتِي) قَالَ ابْن التِّين. قَوْله (من أمتِي) يحْتَمل أَن يُرِيد من تسمى بهم ويستحل مَا لَا يحل فَهُوَ كَافِر إِن أظهر ذَلِك، ومنافق إِن أسره أَو يكون مرتكب الْمَحَارِم تهاوناً واستخفافاً فَهُوَ يُقَارب الْكفْر، وَالَّذِي يُوضح فِي النّظر أَن هَذَا لَا يكون إلاَّ مِمَّن يعْتَقد الْكفْر ويتسمَّ بِالْإِسْلَامِ، لِأَن الله عز وَجل لَا يخسف من تعود عَلَيْهِ رَحمته فِي الْمعَاد، وَقيل: كَونهم من الْأمة يبعد مَعَه أَن يستحلوها بِغَيْر تَأْوِيل وَلَا تَحْرِيف، فَإِن ذَلِك مجاهرة بِالْخرُوجِ عَن الْأمة إِذْ تَحْرِيم الْخمر مَعْلُوم ضَرُورَة. قَوْله: (يسْتَحلُّونَ الْحر) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء أَي: الْفرج، وَأَصله: الْجرْح، فحذفت إِحْدَى الحائين مِنْهُ، كَذَا ضَبطه ابْن نَاصِر، وَكَذَا هُوَ فِي مُعظم الرِّوَايَات من (صَحِيح البُخَارِيّ) وَقَالَ ابْن التِّين: هُوَ بالمعجمتين يَعْنِي: الْخَزّ وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ تَصْحِيف، وَإِنَّمَا روينَاهُ بالمهملتين وَهُوَ الْفرج، وَالْمعْنَى: يسْتَحلُّونَ الزِّنَا، وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي: إِن فِي كتاب أبي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ مَا يَقْتَضِي أَنه الْخَزّ بالزاي وَالْخَاء الْمُعْجَمَة، وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ الْفرج وَلَيْسَ كَمَا أَوله من صحفه، فَقَالَ: الْخَزّ من أجل مقارنته الْحَرِير فَاسْتعْمل التَّصْحِيف بالمقارنة، وَحكى عِيَاض فِيهِ تَشْدِيد الرَّاء، وَقَالَ ابْن قرقول: مخفف الرَّاء، فرج الْمَرْأَة وَهُوَ الأصوب، وَقيل: أَصله بِالتَّاءِ بعد الرَّاء فحذفت، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَحسب أَن قَوْله: (من الْخَزّ) لَيْسَ بِمَحْفُوظ لِأَن كثيرا من الصَّحَابَة لبسوه، وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: أورد أَبُو دَاوُد هَذَا الْخَبَر فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي الْخَزّ، كَذَا الرِّوَايَة فَدلَّ أَنه عِنْده كَذَلِك وَكَذَا وَقع فِي البُخَارِيّ، وَهِي ثِيَاب مَعْرُوفَة لبسهَا غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، فَيكون النَّهْي عَنهُ لأجل التَّشَبُّه. قلت: الصَّوَاب مَا قَالَه ابْن بطال، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث يرويهِ أَبُو ثَعْلَبَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَحل الْخَزّ وَالْحَرِير، يُرَاد بِهِ استحلال الْحَرَام من الْفرج. قَوْله: (وَالْحَرِير) قَالَ ابْن بطال: واستحلالهم الْحَرِير أَي: يسْتَحلُّونَ النَّهْي عَنهُ، وَالنَّهْي عَنهُ فِي كتاب الله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} (النُّور: 63) . قَوْله وَالْمَعَازِف الملاهي جمع معزفة، يُقَال: هِيَ آلَات الملاهي، وَنقل الْقُرْطُبِيّ عَن الْجَوْهَرِي: إِن المعازف القيان، وَالَّذِي ذكره فِي (الصِّحَاح) أَنَّهَا آلَات اللَّهْو، وَقيل: أصوات الملاهي، وَفِي (حَوَاشِي الدمياطي) : المعازف الدفوف وَغَيرهَا مِمَّا يضْرب بِهِ، وَيُطلق على الْغناء عزف، وعَلى كل لعب عزف، وَوَقع فِي رِوَايَة مَالك بن أبي مَرْيَم تَغْدُو عَلَيْهِم القيان وَتَروح عَلَيْهِم المعازف. قَوْله (علم) بِفتْحَتَيْنِ الْجَبَل وَالْجمع أَعْلَام، وَقيل: الْعلم رَأس الْجَبَل. قَوْله: (يروح عَلَيْهِم) فَاعل يروح مَحْذُوف أَي: يروح عَلَيْهِم الرَّاعِي بِقَرِينَة السارحة لِأَن السارحة هِيَ الْغنم الَّتِي تسرح لَا بُد لَهَا من الرَّاعِي، ويروى: تروح عَلَيْهِم سارحة، بِدُونِ حرف الْبَاء، فعلى هَذَا سارحة مَرْفُوع بِأَنَّهُ فَاعل يروح أَي: تروح سارحة كائنة لَهُم، الْمَعْنى: أَن الْمَاشِيَة الَّتِي تسرح بِالْغَدَاةِ إِلَى رعيها، وَتَروح أَي: ترجع بالْعَشي إِلَى مألفها. قَوْله (يَأْتِيهم) فَاعله (الْفَقِير) وَلِهَذَا قَالَ: يَعْنِي الْفَقِير، وَفِي رِوَايَة يَأْتِيهم فَقَط فَاعله مَحْذُوف، وَهُوَ الْفَقِير يدل عَلَيْهِ قَوْله (لحَاجَة) وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض المخرجات: يَأْتِيهم رجل لحَاجَة، تَصْرِيحًا بِلَفْظ: رجل، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فيأتيهم طَالب حَاجَة. قَوْله: (فيبيتهم الله) أَي: يُهْلِكهُمْ بِاللَّيْلِ، والبيات هجوم الْعَدو لَيْلًا. قَوْله: (وَيَضَع الْعلم) أَي: يضع الْجَبَل بِأَن يدكدكه عَلَيْهِم ويوقعه على رؤوسهم، ويروى: وَيَضَع الْعلم عَلَيْهِم بِزِيَادَة لفظ: عَلَيْهِم. قَوْله: (ويمسخ آخَرين) أَي: يمسخ جمَاعَة آخَرين مِمَّن لم يُهْلِكهُمْ البيات، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يحْتَمل الْحَقِيقَة كَمَا وَقع فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة، وَيحْتَمل أَن يكون كِنَايَة عَن تبدل أَخْلَاقهم، وَقَالَ ابْن بطال: المسخ فِي حكم الْجَوَاز فِي هَذِه الْأمة إِن لم يأتِ خبر يُهْلِكهُمْ يرفع جَوَازه، وَقد وَردت أَحَادِيث بَيِّنَة الْأَسَانِيد أَنه يكون فِي هَذِه الْأمة خسف ومسخ، وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث أَن الْقُرْآن يرفع من الصُّدُور، وَأَن الْخُشُوع وَالْأَمَانَة ينزعان مِنْهُم، وَلَا مسخ أَكثر من هَذَا، وَقد يكون الحَدِيث على ظَاهره فيمسخ الله من أَرَادَ تَعْجِيل عُقُوبَته، كَمَا أهلك قوما بالخسف، وَقد رَأينَا ذَلِك عيَانًا، فَكَذَلِك المسخ يكون، وَزعم

(21/176)


الْخطابِيّ أَن الْخَسْف وَالْمَسْخ يكونَانِ فِي هَذِه الْأمة كَسَائِر الْأُمَم، خلافًا لمن زعم أَن ذَلِك لَا يكون، وَإِنَّمَا مسخها بقلوبها، وَفِي كتاب سعيد بن مَنْصُور: حَدثنَا أَبُو دَاوُد وَسليمَان بن سَالم الْبَصْرِيّ حَدثنَا حسان بن سِنَان عَن رجل عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: يمسخ قوم من أمتِي آخر الزَّمَان قردة وَخَنَازِير، قَالُوا: يَا رَسُول الله! وَيشْهدُونَ أَنَّك رَسُول الله وَأَن لَا إِلَه إِلَّا الله؟ قَالَ: نعم، وَيصلونَ وَيَصُومُونَ ويحجون. قَالُوا: فَمَا بالهم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: اتَّخذُوا المعازف والقينات والدفوف وَيَشْرَبُونَ هَذِه الْأَشْرِبَة فَبَاتُوا على لهوهم وشرابهم فَأَصْبحُوا قردة وَخَنَازِير، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، وَفِي (النَّوَادِر) لِلتِّرْمِذِي: حَدثنَا عَمْرو بن أبي عمر حَدثنَا هِشَام بن خَالِد الدِّمَشْقِي عَن اسماعيل بن عَيَّاش عَن أَبِيه عَن ابْن سابط عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تكون فِي أمتِي فزعة، فَيصير النَّاس إِلَى عُلَمَائهمْ، فَإِذا هم قردة وَخَنَازِير.

7 - (بابُ الأنْتباذِ فِي الأوْعِيَةِ والتَّوْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الانتباذ أَي: اتِّخَاذ النَّبِيذ فِي الأوعية وَهُوَ جمع وعَاء. قَوْله: والتور، من عطف الْخَاص على الْعَام، وَهُوَ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْوَاو وبالراء، وَهُوَ ظرف من صفر، وَقيل: هُوَ قدح كَبِير كالقدر، وَقيل: مثل الأجانة، وَقيل: هُوَ مثل الطشت، وَقيل: هُوَ من الْحجر، وَيُقَال: لَا يُقَال لَهُ تور إلاَّ إِذا كَانَ صَغِيرا، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَكَانَ هَذَا التور الَّذِي ينتبذ فِيهِ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حِجَارَة.

5591 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا يَعْقُوبُ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي حازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ: أتَى أبُو أُُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عُرُسِهِ فَكانَتِ امْرَأتُهُ خادِمَهُمْ وهْيَ العَرُوسُ، قَالَ: أتَدْرُونَ مَا سَقَتْ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أنْقَعَتْ لهُ ثَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار وَسَهل هُوَ ابْن سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، كَانَ اسْمه حزنا، فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سهلاً، وَكَانَ آخر من مَاتَ بِالْمَدِينَةِ من الصَّحَابَة سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَقيل: ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَأَبُو أسيد بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين مصغر أَسد اسْمه مَالك بن ربيعَة السَّاعِدِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب قيام الْمَرْأَة على الرِّجَال فِي الْعرس.
قَوْله: (خادمهم) وَالْخَادِم يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (قَالَ: أَتَدْرُونَ؟) الْقَائِل هُوَ سهل. قَوْله: (انقعت لَهُ) أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْمُهلب: النقيع حَلَال مَا لم يشْتَد، فَإِذا اشْتَدَّ وغلا حرم، وَشرط الْحَنَفِيَّة أَن يقذف بالزبد. قلت: لم يشْتَرط الْقَذْف بالزبد إلاَّ أَبُو حنيفَة فِي عصير الْعِنَب، وَعند صَاحِبيهِ: لَا يشْتَرط الْقَذْف، فبمجرد الغليان والاشتداد يحرم. قَوْله (من اللَّيْل) قَالَ الْمُهلب: ينقع من اللَّيْل وَيشْرب يَوْمًا آخر، وينقع بِالنَّهَارِ وَيشْرب من ليلته.

8 - (بابُ تَرْخِيصِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الأوْعِيَةِ والظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ترخيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الانتباذ فِي الأوعية، والظروف جمع ظرف وَفِي (الْمغرب) : الظّرْف الْوِعَاء، فعلى قَوْله، لَا فرق بَين الْوِعَاء والظرف، وَوجه الْعَطف على هَذَا بِاعْتِبَار اخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ، وَيُقَال: الظّرْف هُوَ الزق، فَإِن صَحَّ هَذَا فالعطف من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام.

5592 - حدّثنا يُوسُفُ بنُ مُوسَى حَدثنَا مُحَمدُ بنُ عبْدِ الله أبُو أحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ مَنْصُور عنْ سالِمٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الظروفِ، فقالَتِ الأنْصارُ: إنَّهُ لَا بدَّ لَنا مِنْها، قَالَ: فَلاَ إِذا.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من آخر الحَدِيث. ويوسف بن مُوسَى بن رَاشد الْقطَّان الْكُوفِي سكن بَغْدَاد وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، والزبيري نِسْبَة إِلَى زبير أحد أجداده، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَسَالم هُوَ

(21/177)


ابْن أبي الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن مُسَدّد عَن يحيى بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان وَكَذَلِكَ النَّسَائِيّ.
قَوْله: (عَن الظروف) أَي: عَن الانتباذ فِي الظروف: قَوْله: (إِنَّه) أَي: الشَّأْن (لَا بُد لنا مِنْهَا) أَي: من الظروف، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: فشكت إِلَيْهِ الْأَنْصَار فَقَالُوا: لَيْسَ لنا وعَاء. قَوْله: (قَالَ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (فَلَا إِذن) جَوَاب وجزاءُ أَي: إِذا كَانَ لَا بُد لكم مِنْهَا فَلَا نهي عَنْهَا، وَحَاصِله أَن النَّهْي كَانَ على تَقْدِير عدم الإحتياج إِلَيْهَا، فَلَمَّا ظَهرت الضَّرُورَة إِلَيْهَا قررهم على استعمالهم إِيَّاهَا، أَو نسخ ذَلِك بِوَحْي نزل إِلَيْهِ فِي الْحَال، أَو كَانَ الحكم فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة مفوضاً إِلَى رَأْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن بطال: النَّهْي عَن الأوعية إِنَّمَا كَانَ قطعا للذريعة، فَلَمَّا قَالُوا: لَا بُد لنا، قَالَ: انتبذوا فِيهَا وَكَذَلِكَ كل نهي كَانَ لِمَعْنى النّظر إِلَى غَيره، كنهيه عَن الْجُلُوس فِي الطرقات، فَلَمَّا ذكرُوا أَنهم لَا يَجدونَ بدا من ذَلِك قَالَ: إِذا أَبَيْتُم فأعطوا الطَّرِيق حَقه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: الانتباذ فِي جَمِيع الأوعية كلهَا مُبَاح وَأَحَادِيث النَّهْي عَن الانتباذ مَنْسُوخَة بِحَدِيث جَابر هَذَا، أَلا ترى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام أطلق لَهُم جَمِيع الأوعية والظروف حِين قَالَ لَهُ الْأَنْصَار: لَا بُد لنا مِنْهَا، فَقَالَ: فَلَا إِذا، وَلم يسْتَثْن مِنْهَا شَيْئا.
وَقَالَ لي خلِيفَةُ: حَدثنَا يَحْياى بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ سالِمٍ بن أبي الجَعْدِ عنْ جابِرٍ بِهَذَا.
خَليفَة هُوَ ابْن خياط أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ رَوَاهُ عَنهُ مذاكرة عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن سَالم بن أبي الْجَعْد، واسْمه رَافع الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، ويروى عَن سَالم بن أبي الْجَعْد عَن جَابر بِهَذَا، وَأفَاد هَذَا أَن سالما الَّذِي ذكر مُجَردا فِي الحَدِيث السَّابِق هُوَ ابْن أبي الْجَعْد، وَأَن سُفْيَان هُنَاكَ الثَّوْريّ وَهَاهُنَا ابْن عُيَيْنَة.

ح دّثنا عبْدُ لله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا سُفْيانُ بِهَذَا، وَقَالَ فِيهِ: لمَّا نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الأوْعِيَةِ.

هَذَا وَقع فِي بعض النّسخ فِي آخر الْبَاب ويروى: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي يروي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهَذَا أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور. قَوْله: وَقَالَ، أَي: قَالَ سُفْيَان فِي رِوَايَته. قَوْله: وَقَالَ: لما نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الأوعية أَرَادَ بِهَذَا أَن قَول جَابر رَضِي الله عَنهُ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكر من رِوَايَة يُوسُف بن مُوسَى عَن مُحَمَّد بن عبد الله عَنهُ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكر عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن سَالم عَن جَابر، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الظروف، وَقع فِي رِوَايَة عبد الله بن مُحَمَّد عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن سَالم عَن جَابر، قَالَ: لما نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الأوعية، قَالَ: قَالَت الْأَنْصَار: إِنَّه لَا بُد لنا، قَالَ: فَلَا إِذا. وَهَذِه رِوَايَة أبي دَاوُد فِي (سنَنه) أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان إِلَى آخِره، مثل مَا ذكرنَا.

5593 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حدّثنا سُفْيانُ عنْ سُلَيْمانَ بنِ أبي مُسْلِمٍ الأحْوَلِ عنْ مُجاهِدٍ عنْ أبي عياضٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عَمْرو، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: لمَّا نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الأسْقِيَةِ قِيل لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ كلُّ النَّاس يَجِدُ سِقاءً، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الجَرِّ غَيْرِ المُزَفَّتِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَرخص لَهُم) وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو عِيَاض بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف ضاد مُعْجمَة، وَاخْتلف فِي اسْمه فَقَالَ النَّسَائِيّ فِي (الكنى) : أَبُو عِيَاض عَمْرو بن الْأسود الْعَبْسِي، وَقيل: قيس بن ثَعْلَبَة، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: إِن لم يكن اسْم أبي عِيَاض قيس بن ثَعْلَبَة فَلَا أَدْرِي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: اسْمه عَمْرو، وَيُقَال عُمَيْر بن الْأسود العنبسي بالنُّون بَين الْمُهْمَلَتَيْنِ الزَّاهِد، وروى أَحْمد فِي (الزّهْد) أَن عمر أثنى على أبي عِيَاض، وَذكره أَبُو مُوسَى فِي (ذيل الصَّحَابَة) وَعَزاهُ لِابْنِ أبي عَاصِم، وَكَأَنَّهُ أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن لم يثبت لَهُ صُحْبَة، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) عَمْرو بن الْأسود الْعَنسِي أدْرك الْجَاهِلِيَّة وروى عَن عمر وَسكن داريا، وَيُقَال لَهُ: عُمَيْر، وَقد عمر دهراً طَويلا ثمَّ قَالَ: عَمْرو بن الْأسود ذكره بَعضهم فِي الصَّحَابَة، وَلَعَلَّه الَّذِي قبله، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة قَلِيل الحَدِيث، وَقَالَ

(21/178)


ابْن عبد الْبر: أَجمعُوا على أَنه كَانَ من الْعلمَاء الثِّقَات، وَقيل: إِذا ثَبت هَذَا فالراجح أَن الَّذِي روى عَنهُ مُجَاهِد عَمْرو بن الْأسود وَأَنه شَامي، وَأما قيس بن ثَعْلَبَة فَهُوَ أَبُو عِيَاض آخر، وَهُوَ كُوفِي ذكره ابْن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين، وَقَالَ: إِنَّه يرْوى عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَغَيرهم، روى عَنهُ أهل الْكُوفَة، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نسخ البُخَارِيّ، وَوَقع فِي بعض نسخ مُسلم: عبد الله بن عمر، بِضَم الْعين وَهُوَ تَصْحِيف نبه عَلَيْهِ أَبُو عَليّ الجياني.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن أبي عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْوَلِيمَة عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد مُخْتَصرا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرخص فِي الْجَرّ غير المزفت.
قَوْله: (عَن الأسقية) قَالَ الْكرْمَانِي: السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يُقَال: إلاَّ عَن الأسقية، بِزِيَادَة إلاَّ على سَبِيل الِاسْتِثْنَاء، أَي: نهى عَن الانتباذ إلاَّ عَن الانتباذ فِي الأسقية، وَقَالَ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: لما نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْأَلَة الأنبذة عَن الجرار بِسَبَب الأسقية وَعَن جِهَتهَا كَقَوْلِه.
(يرْمونَ عَن أكل وَعَن شرب)

أَي: يسمنون بِسَبَب الْأكل وَالشرب ويتباهون فِي السّمن بِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي مثله فِي قَوْله تَعَالَى: {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا} (الْبَقَرَة: 2) أَي: بِسَبَبِهَا. وَقَالَ الْحميدِي: وَلَعَلَّه نقص مِنْهُ عِنْد الرِّوَايَة وَكَانَ أَصله: نهى عَن النَّبِيذ إلاَّ فِي الأسقية، وَكَذَا فِي رِوَايَة عبد الله بن مُحَمَّد: عَن الأوعية، وَقَالَ عِيَاض: ذكر الأسقية وهم من الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ: عَن الأوعية، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه قطّ عَن الأسقية، وَإِنَّمَا نهى عَن الظروف قلت: الأسقية جمع سقاء وَهُوَ ظرف المَاء من الْجلد، وَقَالَ ابْن السّكيت: السقاء يكون للبن وَالْمَاء، والوطب للبن خَاصَّة، والنحي للسمن، والقربة للْمَاء. قلت: لَا وهم هُنَا لِأَن سُفْيَان كَانَ يرى اسْتِوَاء اللَّفْظَيْنِ، أَعنِي: الأوعية والأسقية، فَحدث بِأَحَدِهِمَا مرّة وبالأُخرى مرّة، أَلا ترى أَن البُخَارِيّ لم يعد هَذَا وهما خُصُوصا على قَول من يرى جَوَاز الْقيَاس فِي اللُّغَة؟ لَا اعْتِرَاض أصلا هَاهُنَا، فَافْهَم. قَوْله: (قيل للنَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل: الْقَائِل بذلك أَعْرَابِي. قَوْله: (فَرخص) ، وَفِي رِوَايَة: (فأرخص) ، وَهِي لُغَة يُقَال: رخص وأرخص، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة، (وأذنْ لَهُم فِي شَيْء مِنْهُ) . قَوْله: (فِي الْجَرّ) بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ جمع جرة وَهِي الْإِنَاء الْمَعْمُول من الفخار، وَإِنَّمَا قَالَ: (غير المزفت) لِأَن المزفت أسْرع فِي الشدَّة والتخمير، والمزفت المطلي بالزفت.

5594 - حدّثنامُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْياى عنْ سُفْيانَ حدّثني سُلَيْمانُ عنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنِ الحارِثِ بنِ سُوَيْدٍ عَن علِيٍّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الدُّبَّاءِ والمُزَفَّتِ.

وَجه ذكر هَذَا فِي هَذَا الْبَاب لمطابقته لقَوْله فِي الحَدِيث السَّابِق: فِي الْجَرّ غير المزفت، وَصرح هُنَا بِالنَّهْي عَن المزفت، أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان، يحْتَمل أَن يكون سُفْيَان هَذَا هُوَ الثَّوْريّ، وَيحْتَمل أَن يكون ابْن عُيَيْنَة لِأَن يحيى الْقطَّان روى عَن السفيانين كليهمَا، وكل مِنْهُمَا روى عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَالْأَعْمَش روى عَن إِبْرَاهِيم بن يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ عَن الْحَارِث بن سُوَيْد التَّيْمِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن سعيد بن عَمْرو وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن يحيى الْقطَّان بِهِ، وَتَفْسِير الدُّبَّاء قد مر غير مرّة.
حدّثنا عُثْمانُ حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ بِهاذَا.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش بِهَذَا أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور وَبِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَى عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عُثْمَان إِلَى آخِره نَحوه.

5595 - حدّثني عُثْمانُ حَدثنَا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ قُلْتُ لِ لأسْوَدِ: هَلْ سألْتَ عائِشَةَ أُُمَّ المُؤْمِنينَ عمَّا يُكْرَهُ أنْ يُنْتَبذَ فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ! عَمَّا نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ

(21/179)


وَسلم أنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ قالَتْ: نَهانا فِي ذَلِكَ أهْلَ البَيْتِ أنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ والمزَفّتِ. قُلْتُ: أما ذَكرَت الجَرَّ والحَنْتَم؟ قَالَ: إنَّما أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ أحَدِّثُ مَا لَمْ أسْمَعْ.

وَجه ذكر هَذَا أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق. أخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن خَالِد الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْوَلِيمَة عَن مَحْمُود بن غيلَان.
قَوْله: (عَمَّا يكره) أَصله: عَن مَا فادغمت الْمِيم فِي الْمِيم بَعْدَمَا قلبت النُّون ميماً، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ مَا نهى بِحَذْف عَن قَوْله: (أَن ينتبذ فِيهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَوْله: (أهل الْبَيْت) مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، وَيجوز أَن يكون نصبا على الْبَدَل من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي نَهَانَا. قَوْله: (قلت: أما ذكرت) ، الْقَائِل إِبْرَاهِيم يُخَاطب الْأسود بذلك. قَوْله: (والحنتم) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَهِي جرار خضر مدهونة كَانَت تحمل الْخمر فِيهَا إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ اتَّسع فِيهَا، فَقيل للخزف كُله: حنتم، واحدتها حنتمة، وَإِنَّمَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الانتباذ فِيهَا لِأَنَّهَا تسرع الشدَّة فِيهَا لأجل دهنها، وَقيل: لِأَنَّهَا كَانَت تعْمل من طين يعجن بِالدَّمِ، فَنهى عَنْهَا ليمتنع عَن عَملهَا. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْأول أوجه. قَوْله (أحدث مَا لم أسمع؟) أَصله أأحدث؟ بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام الإنكاري وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (أفأ حدث؟) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أفنحدث؟ بنُون الْجمع، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: أفأحدثك مَا لم أسمع؟ .

5596 - حدّثنامُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا عبْدُ الوَاحِدِ حَدثنَا الشَّيْبانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عبدَ الله بنَ أبي أوْفَى رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: نَهى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الجَرِّ الأخْضَرِ، قُلْتُ: أنَشْرَبُ فِي الأبْيَضِ؟ قَالَ: لَا.
وَجه ذكر هَذَا أَيْضا هُنَا مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. أخرجه عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ عَن سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَيْرُوز الشَّيْبَانِيّ بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون عَن عبد الله بن أبي أوفى رَضِي الله عَنْهُمَا وَاسم أبي أوفى: عَلْقَمَة، لَهُ ولأبيه صُحْبَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَشْرِبَة عَن مَحْمُود بن غيلَان وَغَيره. قَوْله: (عَن الْجَرّ الْأَخْضَر) أَي: عَن نَبِيذ الْجَرّ الْأَخْضَر. قَوْله: (قلت: أنشرب؟) الْقَائِل عبد الله بن أبي أوفى. قَوْله: (قَالَ: لَا) يَعْنِي: أَن حكمه حكم الْأَخْضَر، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: قلت: والأبيض؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. وَفِي رِوَايَة: نهى عَن نَبِيذ الْجَرّ الْأَخْضَر والأبيض. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَفْهُوم الْأَخْضَر يَقْتَضِي مُخَالفَة حكم الْأَبْيَض لَهُ، وَأجَاب بِأَن شَرط اعْتِبَار الْمَفْهُوم أَن لَا يكون الْكَلَام خَارِجا مخرج الْغَالِب، وَكَانَت عَادَتهم الانتباذ فِي الجرار الْخضر، فَذكر الْأَخْضَر لبَيَان الْوَاقِع لَا للِاحْتِرَاز. وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يعلق الحكم فِي ذَلِك بخضرة الْجَرّ وبياضه، وَإِنَّمَا يعلق بالإسكار، وَذَلِكَ أَن الجرار أوعية مُنْتِنَة قد يتَغَيَّر فِيهَا الشَّرَاب وَلَا يشْعر بِهِ فنهوا عَن الانتباذ فِيهَا، وَأمرُوا أَن ينتبذوا فِي الأسقية لزفتها، فَإِذا تغير الشَّرَاب فِيهَا يعلم حَالهَا فيجتنب عَنهُ، وَأما ذكر الخضرة فَمن أجل أَن الجرار الَّتِي كَانُوا ينتبذون فِيهَا كَانَت خضرًا والأبيض بمثابته فِيهِ والآنية لَا تحرم شَيْئا وَلَا تحلله، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا عِنْدِي كَلَام خرج على جَوَاب سُؤال، كَأَنَّهُ قيل: الْجَرّ الْأَخْضَر؟ فَقَالَ: لَا تنتبذوا فِيهِ، فَسَمعهُ الرَّاوِي فَقَالَ: نهى عَن الْجَرّ الْأَخْضَر، وَأخرجه الشَّافِعِي، رَحمَه الله، عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن ابْن أبي أوفى: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نَبِيذ الْجَرّ الْأَخْضَر والأبيض والأحمر. قلت: حَاصِل الْكَلَام أَن النَّهْي يتَعَلَّق بالإسكار لَا بالخضرة وَلَا بغَيْرهَا، وَقد أخرج ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي أوفى: أَنه كَانَ يشرب نَبِيذ الْجَرّ الْأَخْضَر. وَأخرج أَيْضا بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن مَسْعُود: أَنه كَانَ ينتبذ لَهُ فِي الْجَرّ الْأَخْضَر.

9 - (بابُ نَقِيع التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شرب نَقِيع التَّمْر مَا لم يسكر قيد بقوله: مَا لم يسكر، لِأَنَّهُ مُبَاح وَإِذا أسكر يكون حَرَامًا.

حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا يَعْقُوبُ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ القارِيُّ عنْ أبي حازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ

(21/180)


سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السّاعِدِيَّ أنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعُرُسِهِ فَكانَتِ امْرَأتُهُ خادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وهْيَ العَرُوسُ، فقالَتْ: مَا تَدْرُونَ مَا أنْقَعْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ أنْقَعْتُ لهُ تَمَرَاتِ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والقارى بِالْقَافِ وَالرَّاء وَالْيَاء الْمُشَدّدَة نِسْبَة إِلَى القارة قَبيلَة، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي سَلمَة بن دِينَار، وَأَبُو أسيد بِضَم الْهمزَة وَفتح السِّين الْمُهْملَة السَّاعِدِيّ، واسْمه مَالك بن ربيعَة. والْحَدِيث قد تقدم عَن قريب فِي: بَاب الانتباذ فِي الأوعية، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

10 - (بابُ الباذَقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الباذق بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة، وَنقل عَن الْقَابِسِيّ أَنه حدث بِهِ بِكَسْر الذَّال، وَسُئِلَ عَن فتحهَا فَقَالَ: مَا وقفنا عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين: هُوَ اسْم فَارسي عربته الْعَرَب، وَقَالَ الجواليقي: باذه أَي: باذق وَهُوَ الْخمر الْمَطْبُوخ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ يشبه الفقاع إلاَّ أَنه رُبمَا يشْتَد، وَقَالَ ابْن قرقول: الباذق الْمَطْبُوخ من عصير الْعِنَب إِذا أسكر أَو إِذا طبخ بعد أَن اشْتَدَّ، وَقَالَ ابْن سَيّده: إِنَّه من أَسمَاء الْخمر، وَيُقَال: الباذق المثلث وَهُوَ الَّذِي بالطبخ ذهب ثُلُثَاهُ، وَقَالَ الْقَزاز: هُوَ ضرب من الْأَشْرِبَة، وَيُقَال: هُوَ الطلاء الْمَطْبُوخ من عصير الْعِنَب، كَانَ أول من صنعه وَسَماهُ بَنو أُميَّة لينقلوه عَن اسْم الْخمر، وَكَانَ مُسكرا، وَالِاسْم لَا ينْتَقل عَن مَعْنَاهُ الْمَوْجُود فِيهِ. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: الْعصير الْمُسَمّى بالطلاء إِذا طبخ فَذهب أقل من ثُلثَيْهِ يحرم شربه، وَقيل: الطلاء هُوَ الَّذِي ذهب ثلثه فَإِن ذهب نصفه فَهُوَ الْمنصف وَإِن طبخ أدنى طبخه فَهُوَ الباذق، وَالْكل حرَام إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد، وَكَذَا يحرم نَقِيع الرطب، وَهُوَ الْمُسَمّى بالسكر إِذا غلا وَاشْتَدَّ، وَقذف بالزبد وَكَذَا نَقِيع الزَّبِيب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد، وَلَكِن حُرْمَة هَذِه الْأَشْيَاء دون حُرْمَة الْخمر حَتَّى لَا يكفر مستحلها وَلَا يجب الْحَد بشربها مَا لم يسكر ونجاستها خَفِيفَة، وَفِي رِوَايَة: غَلِيظَة، وَيجوز بيعهَا عِنْد أبي حنيفَة، وَيضمن قيمتهَا بالاتلاف، وَقَالَ: لَا يحرم بيعهَا وَلَا يضمنهَا بِالْإِتْلَافِ.
{ومَنْ نَهَى عنْ كلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الأشْرِبَةِ}
أَي: وَفِي بَيَان من نهى عَن كل مُسكر من الْأَشْرِبَة بأنواعها لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل مُسكر حرَام، وَيدخل فِيهِ سَائِر مَا يتَّخذ من الْحُبُوب وَمن النَّبَات كالحشيش وَجوز الطّيب وَلبن الخشخاش إِذا أسكر.
{وَرَأى عُمَرُ وأبُو عُبَيْدَةَ ومُعاذٌ شُرْبَ الطِّلاَءِ عَلى الثُّلُثِ}
أَي: رأى عمر بن الْخطاب وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح ومعاذ بن جبل رَضِي الله عَنْهُم جَوَاز شرب الطلاء إِذا طبخ فَصَارَ على الثُّلُث، وَنقص مِنْهُ الثُّلُثَانِ، أما أثر عمر، رَضِي الله عَنهُ فَأخْرجهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) من طَرِيق مَحْمُود بن لبيد الْأنْصَارِيّ أَن عمر بن الْخطاب حِين قدم الشَّام شكى إِلَيْهِ أهل الشَّام وباء الأَرْض وثقلها، وَقَالُوا: لَا يُصْلِحنَا إلاَّ هَذَا الشَّرَاب، فَقَالَ: اشربوا الْعَسَل، قَالُوا: لَا يُصْلِحنَا، فَقَالَ رجل من أهل الأَرْض: هَل لَك أَن نجْعَل لَك من هَذَا الشَّرَاب شَيْئا لَا يسكر؟ فَقَالَ: نعم، فطبخوه حَتَّى ذهب مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَبَقِي الثُّلُث وَأتوا بِهِ عمر فَأدْخل فِيهِ إصبعه ثمَّ رفع يَده فتبعها يتمطط، فَقَالَ: هَذَا الطلاء مثل طلاء الْإِبِل، فَأَمرهمْ عمر أَن يشربوه، وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: لَا أحل لَهُم شَيْئا حرم عَلَيْهِم، وَأما أثر أبي عُبَيْدَة ومعاذ فَأخْرجهُ أَبُو مُسلم الْكَجِّي وَسَعِيد بن مَنْصُور وَابْن أبي شيبَة من طَرِيق قَتَادَة عَن أنس أَن أَبَا عُبَيْدَة ومعاذ بن جبل، وَأَبا طَلْحَة كَانُوا يشربون من الطلاء مَا طبخ على الثُّلُث وَذهب ثُلُثَاهُ.
{وشَرِبَ البرَاءُ وأبُو جُحَيْفَةَ عَلى النِّصْفِ}
أَي: شرب الْبَراء بن عَازِب وَأَبُو جُحَيْفَة وهب بن عبد الله على النّصْف أَي: إِذا طبخ فَصَارَ على النّصْف وَأثر الْبَراء أخرجه ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة عدي بن ثَابت عَنهُ أَنه كَانَ يشرب الطلاء على النّصْف وَأثر أبي جُحَيْفَة أخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا من طَرِيق حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: رَأَيْت أَبَا جُحَيْفَة ... فَذكر مثله.
{وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: اشْرَبِ العَصِيرَ مَا دامَ طَرِيًّا}
هَذَا وَصله النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي ثَابت الثَّعْلَبِيّ، قَالَ: كنت عِنْد ابْن عَبَّاس فَجَاءَهُ رجل يسْأَله عَن عصير؟ فَقَالَ:

(21/181)


اشربه مَا كَانَ طرياً قَالَ: إِنِّي طبخت شرابًا، وَفِي نَفسِي مِنْهُ شَيْء، قَالَ: أَكنت شَاربه قبل أَن تطبخه؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِن النَّار لَا تحل شَيْئا قد حرم.
{وَقَالَ عُمَرُ: وجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ الله رِيحَ شَرَابٍ وَأَنا سائِلٌ عنْهُ، فإنْ كانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ} .
أَي: قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ إِلَى آخِره، وَعبيد الله بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ وَوَصله مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن السَّائِب بن يزِيد أَنه أخبرهُ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ خرج عَلَيْهِم فَقَالَ: إِنِّي وجدت من فلَان ريح شراب فَزعم أَنه شرب الطلاء، وَإِنِّي سَائل عَمَّا يشرب فَإِن كَانَ يسكر جلدته، فجلده عمر الْحَد تَاما، وَسَنَده صَحِيح وَفِيه حذف تَقْدِيره: فَسَأَلَ عَنهُ فَوَجَدَهُ يسكر فجلده، وَأخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ: سمع السَّائِب بن يزِيد يَقُول: قَامَ عمر رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر فَقَالَ: ذكر لي أَن عبيد الله بن عمر وَأَصْحَابه شربوا شرابًا، وَأَنا سَائل عَنهُ، فَإِن كَانَ يسكر جلدته، قَالَ ابْن عُيَيْنَة: فَأَخْبرنِي معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن السَّائِب قَالَ: رَأَيْت عمر يجلدهم. وَاخْتلف فِي جَوَاز الْحَد بِمُجَرَّد وجدان الرّيح، وَالأَصَح لَا، وَاخْتلف فِي السَّكْرَان فَقيل: من اخْتَلَط كَلَامه المنظوم وانكشف ستره المكتوم، وَقيل: من لَا يعرف السَّمَاء من الأَرْض وَلَا الطول من الْعرض.

5598 - حدّثنامُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرَنا سُفْيانُ عنْ أبي الجُوَيْرِيَةِ قَالَ: سألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ عنِ الباذَقِ، فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الباذَقَ، فَما أسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ. قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ؟ قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إلاَّ الحَرَامُ الخَبِيثُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَأَبُو الجويرية بِالْجِيم مصغر واسْمه حطَّان بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الطَّاء وبالنون ابْن خفاف بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء الأولى الْجرْمِي بِفَتْح الْجِيم وَالرَّاء.
قَوْله: (سبق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: سبق حكمه بِتَحْرِيمِهِ حَيْثُ قَالَ: كل مَا أسكر فَهُوَ حرَام. وَقَالَ ابْن بطال: أَي سبق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّحْرِيمِ للخمر قبل تسميتهم لَهَا بالباذق وَهُوَ من شراب الْعَسَل، وَلَيْسَ تسميتهم لَهَا بِغَيْر اسْمهَا بِنَافِع إِذا أسكرت، وَرَأى ابْن عَبَّاس أَن سائله أَرَادَ استحلال الشَّرَاب الْمحرم بِهَذَا الِاسْم فَمَنعه بقوله: (فَمَا أسكر فَهُوَ حرَام) وَأما معنى: (لَيْسَ بعد الْحَلَال الطّيب إِلَّا الْحَرَام الْخَبيث) فَهُوَ أَن الشُّبُهَات تقع فِي حيّز الْحَرَام وَهِي الْخَبَائِث، وَقيل: قَوْله: (الشَّرَاب الطّيب) إِلَى آخِره، هَكَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ الْمَشْهُورَة بَين النَّاس وَلم يعين الْقَائِل هَل هُوَ قَول ابْن عَبَّاس أَو قَول غَيره من بعده، وَالظَّاهِر أَنه من قَول ابْن عَبَّاس، وَبِذَلِك جزم القَاضِي إِسْمَاعِيل فِي أَحْكَامه فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق.

5599 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ أبي شَيْبَةَ حَدثنَا أبُو أُسامَةَ حَدثنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الَّذِي يحل من الْمَطْبُوخ هُوَ مَا كَانَ فِي معنى الْحَلْوَاء، وَالَّذِي يجوز شربه من عصير الْعِنَب بِغَيْر طبخ فَهُوَ مَا كَانَ فِي معنى الْعَسَل، والْحَدِيث قد تقدم فِي الْأَطْعِمَة فِي: بَاب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل.

11 - (بابُ مَنْ رَأى أنْ لَا يَخْلِطَ البُسْرَ والتَّمْرَ إذَا كانَ مُسْكِراً وأنْ لَا يَجْعَلَ إدَامَيْنِ فِي إدَامٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من رأى أَن لَا يخلط الْبُسْر وَالتَّمْر إِذا كَانَ أَي: خلطهما مُسكرا فَقَالَ ابْن بطال. قَوْله: إِذا كَانَ مُسكرا خطأ، لِأَن النَّهْي عَن الخليطين عَام وَإِن لم يسكر كثيرهما لسرعة سريان الْإِسْكَار إِلَيْهِمَا من حَيْثُ لَا يشْعر صَاحبه، وَلَيْسَ النَّهْي عَن الخليطين لِأَنَّهُمَا يسكران حَالا، بل لِأَنَّهُمَا يسكران مَآلًا، فَإِنَّهُمَا إِذا كَانَا مسكرين فِي الْحَال لَا خلاف فِي النَّهْي عَنْهُمَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ خطأ بل غَايَته أَنه أطلق مجَازًا مَشْهُورا، وَقيل: لَا يلْزم البُخَارِيّ ذَلِك، إِمَّا لِأَنَّهُ يرى جَوَاز الخليطين قبل

(21/182)


الْإِسْكَار، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ترْجم على مَا يُطَابق الحَدِيث الأول فِي الْبَاب، وَهُوَ حَدِيث أنس، لِأَنَّهُ لَا شكّ أَن الَّذِي كَانَ يسْقِيه حينئذٍ للْقَوْم مُسكرا، وَلِهَذَا دخل عِنْدهم فِي عُمُوم تَحْرِيم الْخمر. وَقد قَالَ أنس: وَإِنَّا لنعدها يومئذٍ الْخمر، دلّ على أَنه مُسكر. قلت: وَمِمَّنْ يرى جَوَاز الخليطين قبل الْإِسْكَار أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنهُ قَالَا: وكل مَا طبخ على الِانْفِرَاد حل، كَذَلِك إِذا طبخ مَعَ غَيره، ويروى مثل ذَلِك عَن ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ. قَوْله: (وَأَن لَا يَجْعَل إدامين فِي إدام) أَي: وَمِمَّنْ رأى أَن لَا يَجْعَل إدامين فِي إدام، نَحْو أَن يخلط التَّمْر وَالزَّبِيب فيصيران كإدام وَاحِد لوُرُود الحَدِيث الصَّحِيح بِالنَّهْي عَن الخليطين، رَوَاهُ أَبُو سعيد. وَفِي حَدِيث أبي قَتَادَة: نهى أَن يجمع بَين التَّمْر وَالزَّبِيب، وَفِي حَدِيث جَابر: بَين الزَّبِيب وَالتَّمْر، والبسر وَالرّطب، وَالْعلَّة فِيهِ إِمَّا توقع الْإِسْكَار بالاختلاط، وَإِمَّا تحقق الْإِسْكَار بالكثير، وَإِمَّا الْإِسْرَاف والشره، وَالتَّعْلِيل بالإسراف مُبين فِي حَدِيث النَّهْي عَن الْقُرْآن فِي التَّمْر، هَذَا وَالتَّمْرَتَانِ نوع وَاحِد فَكيف بالتعدد؟

5600 - حدّثنامُسْلِمٌ حَدثنَا هشامٌ حَدثنَا قَتادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إنِّي لأسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَأَبا دُجانَةَ وسُهَيْلَ بنَ البَيْضاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وتَمْرٍ إذْ حُرِّمَتِ الخَمْرُ فَقَذَفْتُها وَأَنا ساقِيهِمْ وأصْغَرُهُمْ، وإنَّا نَعُدُّها يَوْمَئِذٍ الخَمْرَ. وَقَالَ عَمْرُو بنُ الحارِثِ: حَدثنَا قَتادَةُ سَمِعَ أنَساً
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (خليط بسر وتمر) وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا كَانَا خليطين وَقت شرب هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين فِي الحَدِيث، فَلَمَّا بَلغهُمْ تَحْرِيم الْخمر قَذَفُوهُ وتركوه فصاروا مِمَّن رأى أَن لَا يخلط الْبُسْر وَالتَّمْر.
وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي.
والْحَدِيث عَن أنس قد تقدم فِي أَوَائِل الْكتاب فِي: بَاب نزل تَحْرِيم الْخمر وَهِي من الْبُسْر وَالتَّمْر بِوُجُوه مُخْتَلفَة فِي الْمَتْن والإسناد، وَهُنَاكَ قَالَ أنس: أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة وَأبي بن كَعْب، وَهنا ذكر أَبَا دُجَانَة وسهيلاً، وَلَا يضر ذَلِك على مَا لَا يخفى، وَأَبُو دُجَانَة سماك بن خَرشَة.
قَوْله: (وَقَالَ عَمْرو بن الْحَارِث) إِلَى آخِره، تَعْلِيق أَرَادَ بِهِ بَيَان سَماع قَتَادَة لِأَنَّهُ فِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة بالعنعنة، وَوَصله أَبُو نعيم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن سعد حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا أَبُو الطَّاهِر حَدثنَا بن وهب أخبرنَا عَمْرو فَذكره.

5601 - حدّثنا أبُو عاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ أخْبرني عَطاءٌ أنَّهُ سَمِعَ جابِراً رَضِي الله عَنهُ يَقُولُ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الزَّبِيبِ والتَّمْرِ والبُسْرِ والرُّطَبِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد الْبَصْرِيّ يروي عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْوَلِيمَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم. قَوْله: (عَن الزَّبِيب) إِلَى آخِره لَيْسَ فِيهِ بَيَان الْخَلْط صَرِيحًا، وَقد بَينه مُسلم بِلَفْظ: (لَا تجمعُوا بَين الرطب والبسر وَبَين الزَّبِيب وَالتَّمْر) ، وَحِكْمَة النَّهْي خوف إسراع الشدَّة إِلَيْهِ مَعَ الْخَلْط. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لِأَن أَحدهمَا لَا يصير نبيذاً حلواً حَتَّى يشْتَد الآخر فيسرع إِلَى الشدَّة فَيصير خمرًا، وهم لَا يظنون.
وَاخْتلف هَل ترك ذَلِك وَاجِب أَو مُسْتَحبّ؟ فَقَالَ مُحَمَّد يُعَاقب عَلَيْهِ، وَقَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: أَسَاءَ فِي تخليطه، فَإِن لم تحدث الشدَّة المطربة جَازَ شربه، وَعَن بعض الْعلمَاء أَنه كره أَن يخلط للْمَرِيض شرابان مثل شراب ورد وَغَيره، وَأنكر ذَلِك غَيره، وَسُئِلَ الشَّافِعِي عَن رجل شرب خليطين مُسكرا فَقَالَ: هَذَا بِمَنْزِلَة رجل أكل لحم خِنْزِير ميت، فَهُوَ حرَام من جِهَتَيْنِ: الْخِنْزِير حرَام، وَالْميتَة حرَام، وَالسكر حرَام.
قلت: فِي هَذَا الْبَاب أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يحرم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي مُوسَى الْأنْصَارِيّ وَأنس وَجَابِر وَأبي سعيد رَضِي الله عَنْهُم وَمن التَّابِعين عَطاء وطاووس، وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَالثَّانِي: يحرم خليط كل نَوْعَيْنِ مِمَّا ينتبذ فِي الانتباذ، وَبعد الانتباذ لَا يخص شَيْء من شَيْء، وَهُوَ قَول بعض الْمَالِكِيَّة. وَالثَّالِث: أَن النَّهْي مَحْمُول على التَّنْزِيه وَأَنه لَيْسَ بِحرَام مَا لم يصر مُسكرا، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: حَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن مَذْهَبنَا، وَأَنه قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَالرَّابِع: رُوِيَ عَن اللَّيْث أَنه قَالَ: لَا بَأْس أَن يخلط نَبِيذ الزَّبِيب ونبيذ التَّمْر ثمَّ يشربان جَمِيعًا، وَإِنَّمَا

(21/183)


جَاءَ النَّهْي عَن أَن ينتبذا جَمِيعًا، لِأَن أَحدهمَا يشد صَاحبه. وَالْخَامِس: أَنه لَا كَرَاهَة فِي شَيْء من ذَلِك، وَلَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة فِي رِوَايَة عَن أبي يُوسُف: قَالَ النَّوَوِيّ: أنكر عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَقَالُوا: هَذِه منابذة لصَاحب الشَّرْع، فقد ثبتَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة فِي النَّهْي عَنهُ، فَإِن لم يكن حَرَامًا كَانَ مَكْرُوها. قلت: هَذِه جرْأَة شنيعة على إِمَام أجل من ذَلِك، وَأَبُو حنيفَة لم يكن قَالَ ذَلِك بِرَأْيهِ، وَإِنَّمَا مُسْتَنده فِي ذَلِك أَحَادِيث مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله الْحَرْبِيّ عَن مسعر عَن مُوسَى بن عبد الله عَن امْرَأَة من بني أَسد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ ينْبذ لَهُ زبيب فيلقي فِيهِ تمر، أَو تمر فَيلقى فِيهِ زبيب، وروى أَيْضا عَن زِيَاد الحساني: حَدثنَا أَبُو بَحر حَدثنَا عتاب بن عبد الْعَزِيز حَدَّثتنِي صَفِيَّة بنت عَطِيَّة قَالَت: دخلت مَعَ نسْوَة من عبد الْقَيْس على عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فسألنا عَن التَّمْر وَالزَّبِيب، فَقَالَت: كنت أَخذ قَبْضَة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه فِي الْإِنَاء فأمرسه ثمَّ أسقيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى مُحَمَّد بن الْحسن فِي (كتاب الْآثَار) أخبرنَا أَبُو حنيفَة عَن ابْني إِسْحَاق وَسليمَان الشَّيْبَانِيّ عَن ابْن زِيَاد: أَنه أفطر عِنْد عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَسَقَاهُ شرابًا فَكَأَنَّهُ أَخذ مِنْهُ، فَلَمَّا أصبح غَدا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الشَّرَاب؟ مَا كدت أهتدي إِلَى منزلي. فَقَالَ ابْن عمر: مَا زدناك على عَجْوَة وزبيب. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: فِي الحَدِيث الأول لأبي دَاوُد امْرَأَة لم تسم، وَفِي الثَّانِي أَبُو بَحر لَا يدْرِي من هُوَ عَن عتاب، وَهُوَ مَجْهُول عَن صَفِيَّة وَلَا يدْرِي من هِيَ؟ قلت: هَذِه ثَلَاثَة أَحَادِيث بشد بَعْضهَا بَعْضًا على أَن ابْن عدي قَالَ: أَبُو بَحر مَشْهُور مَعْرُوف وَله أَحَادِيث غرائب عَن شُعْبَة وَغَيره من الْبَصرِيين، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه، وَفِي (كتاب السَّاجِي) : قَالَ يحيى بن سعيد: هُوَ صَدُوق صَاحب حَدِيث، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن أُميَّة بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة البكراوي، وَذكره ابْن شاهين وَابْن حبَان فِي كتاب الثِّقَات، وَقَالَ البُخَارِيّ: لم يستبن لي طَرحه. وَقَالَ أَبُو عمر وَأحمد بن صَالح الْعجلِيّ: هُوَ ثِقَة بَصرِي، وَفِي (كتاب الصريفيين) ذكره ابْن حبَان فِي كتاب (الثِّقَات) وَخرج حَدِيثه فِي (صَحِيحه) كَذَلِك الْحَاكِم وعتاب بن عبد الْعَزِيز، روى عَنهُ يزِيد بن هَارُون وَأحمد بن سعيد الدَّارمِيّ وَآخَرُونَ، وَذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) .

5602 - حدّثنامُسْلِمٌ حَدثنَا هِشامٌ أخبرنَا يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ عنْ عبْدِ الله بن أبي قَتادةَ عنْ أبِيهِ، قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ والزَّهْوِ والتَّمْرِ والزَّبِيبِ ولْيُنْبَذْ كلُّ واحِدٍ مِنْهُما عَلى حِدَةٍ.

مُطَابقَة الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث يدل على منع الْجمع بَين الإدامين، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة بقوله: وَأَن لَا يَجْعَل إدامين فِي إدام.
وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي وَأَبُو قَتَادَة اسْمه الْحَارِث بن ربعي الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن يحيى بن أَيُّوب وَعَن آخَرين. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن يحيى بن درست. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن هِشَام بن عمار.
قَوْله: (والزهو) بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْهَاء وَهُوَ الملون من الْبُسْر. قَوْله: (ولينبذ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة مُسلم: لَا تنتبذوا الزهو وَالرّطب جَمِيعًا، وَلَا تنتبذوا الزَّبِيب وَالتَّمْر جَمِيعًا وانتبذوا كل وَاحِد مِنْهُمَا على حِدته. قَوْله: (مِنْهُمَا) إِنَّمَا ثنى الضَّمِير وَلم يقل: مِنْهَا بِاعْتِبَار أَن الْجمع بَين الِاثْنَيْنِ لَا بَين الثَّلَاثَة أَو الْأَرْبَعَة أَي من كل اثْنَيْنِ مِنْهَا، فَيكون الْجمع بَين أَكثر بطرِيق الأولى. قَوْله: (على حِدة) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الدَّال أَي على انْفِرَاده. وَقَالَ بَعضهم: بعْدهَا هَاء تَأْنِيث. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هَذِه التَّاء عوض عَن الْوَاو الَّتِي فِي أَوله، لِأَن أَصله: وحد، فَلَمَّا حذفت الْوَاو عوضت عَنْهَا التَّاء كَمَا فِي: عدَّة أَصْلهَا: وعد، فَلَمَّا حذفت الْوَاو تبعا لفعله عوضت عَنْهَا التَّاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على حِدته، بِالْهَاءِ بعد التَّاء.
وَفِيه: كَرَاهَة الْجمع بَين الإدامين وَلَكِن كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تَحْرِيم. وَاخْتلف فِي وَجه النَّهْي، فَقيل: لضيق الْعَيْش، وَقيل: للسرف، وَقَالَ الْمُهلب: لَا يَصح عَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن خلط الْأدم، وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِك عَن عمر رَضِي الله عَنهُ من أجل السَّرف لِأَنَّهُ كَانَ يُمكن أَن يأتدم بِأَحَدِهِمَا وَيرْفَع الآخر إِلَى مرّة أُخرى.

(21/184)


12 - (بابُ شُرْبِ اللَّبَنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب اللَّبن. وضع هَذِه التَّرْجَمَة للرَّدّ على قَول من قَالَ: إِن الْكثير من شرب اللَّبن يسكر، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء. قَالَ الْمُهلب: شرب اللَّبن حَلَال بِكِتَاب الله تَعَالَى، وَلَيْسَ قَول من قَالَ: إِن الْكثير مِنْهُ يسكر، بِشَيْء. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا كَانَ السكر مِنْهُ لصناعة تدخله.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {من بَين فرث وَدم لَبَنًا خَالِصا سائغاً للشاربين} (النَّحْل: 66) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: شرب اللَّبن، وَوَقع فِي مُعظم النّسخ يخرج {من بَين فرث وَدم} هَذَا الْمِقْدَار، وَزَاد فِي رِوَايَة أبي ذَر لَبَنًا خَالِصا، وَفِي رِوَايَة غير موقع تَمام الْآيَة وَقَوله يخرج، لَيْسَ فِي الْقُرْآن، وَالَّذِي فِي الْقُرْآن {نسقيكم مِمَّا فِي بطونه من بَين فرث وَدم} وَلَفظ: يخرج، فِي آيَة أُخرى من السُّورَة {يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه} وَالظَّاهِر أَن زِيَادَة لفظ: يخرج، هُنَا لَيست من البُخَارِيّ، بل هِيَ مِمَّن دونه، وَبِدُون لفظ. يخرج، جرى الْإِسْمَاعِيلِيّ وَابْن بطال وَغَيرهمَا، وَهَذِه الْآيَة صَرِيحَة فِي إحلال شرب ألبان الْأَنْعَام بِجَمِيعِ أَنْوَاعهَا لوُقُوع الامتنان بِهِ، والفرث مَا يجمع فِي الكرش، وَقَالَ الْقَزاز: هُوَ مَا ألقِي من الكرش، يُقَال: فرثت الشَّيْء إِذا أخرجته من وعائه، وَبعد خُرُوجه يُقَال لَهُ السرجين وزبل. وَأخرج عَن ابْن عَبَّاس: أَن الدَّابَّة إِذا أكلت الْعلف واستقل فِي كرشها فَكَانَ أَسْفَله فرثاً وأوسطه لَبَنًا وَأَعلاهُ دَمًا، والكبد مسلطة عَلَيْهِ فتقسم الدَّم وتجريه فِي الْعُرُوق وتجري اللَّبن فِي الضَّرع وَيبقى الفرث فِي الكرش وَحده. قَوْله: (خَالِصا) أَي: من حمرَة الدَّم وقذارة الفرث. قَوْله: (سائغاً) أَي: لذيذاً هَنِيئًا لَا يغص بِهِ شَارِب.

5603 - حدّثناعَبْدانَ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا يُونُسُ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أُُتِيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَةَ أُُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحٍ لَبَنٍ وقَدَحِ خَمْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أُتِي لَيْلَة الْإِسْرَاء بِلَبن وخمر اخْتَار اللَّبن، وَهُوَ من أعظم نعم الله على عبيده. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير ليلتئذٍ بَين اللَّبن وَالْخمر مَعَ أَن اللَّبن حَلَال وَالْخمر حرَام؟ قلت: لِأَن الْخمر كَانَت من الْجنَّة وخمر الْجنَّة لَيست بِحرَام. وَقيل: لِأَن الْخمر حينئذٍ لم تكن حرمت.
وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي وَقد تكَرر ذكره، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} قَوْله (لَيْلَة) قَالَ الْكرْمَانِي بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمه، وَقَالَ بَعضهم: حكى فِيهِ تَنْوِين لَيْلَة، وَالَّذِي أعرفهُ فِي الرِّوَايَة الْإِضَافَة. قلت: إِذا جَازَ الْوَجْهَانِ فإسناد هَذَا الْقَائِل مَعْرفَته إِلَى الْإِضَافَة تعمق فِي الْمُفَاخَرَة الْبَارِدَة.

5604 - حدّثناالحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيانَ أخبرنَا سالِمٌ أبُو النَّضْرِ أنَّهُ سَمِعَ عُمَيْراً مَوْلَى أمِّ الفَضْلِ يُحَدِّثُ عنْ أمِّ الفَضْلِ قالَتْ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيامِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فأرْسَلْتُ إلَيْهِ بإناءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ، فَكانَ سُفْيانُ رُبما قالَ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيامِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فأرْسَلَتْ إليْهِ أُُمُّ الفَضْلِ، فإِذا وُقِّفَ عَلَيْهِ، قَالَ: هُوَ عنْ أُُمِّ الفَضْلِ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِيهِ لبن فَشرب) والْحميدِي عبد الله بن الزبير نِسْبَة إِلَى أحد أجداده حميد، وَقد تكَرر ذكره، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو النَّضر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَعُمَيْر مصغر عمر وَمولى أم الْفضل زَوْجَة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب. وَقد مر الحَدِيث فِي الْحَج وَالصَّوْم.
قَوْله: (فَإِذا وقف عَلَيْهِ) بِضَم الْوَاو وَكسر الْقَاف الْمُشَدّدَة وبالفاء، مَعْنَاهُ: أَن سُفْيَان رُبمَا كَانَ أرسل الحَدِيث فَلم يقل فِي الْإِسْنَاد: عَن أم الْفضل، فَإِذا سُئِلَ عَنهُ، هَل هُوَ مَوْصُول أَو مُرْسل؟ قَالَ: هُوَ عَن أم

(21/185)


الْفضل، وَهُوَ فِي قُوَّة هُوَ مَوْصُول. وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: فَإِذا أوقف، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وَكسر الْقَاف من الإيقاف وَالْأول يجوز أَن يكون من التَّوْقِيف، وَيجوز أَن يكون من الْوَقْف.

5605 - حدّثناقُتَيْبَةُ حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي صالِحٍ وَأبي سُفْيان عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ: جاءَ أبُو حُمَيْدٍ بقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ منَ النَّقِيعِ، فَقَالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألاَّ خَمَّرْتَهُ ولوْ أنْ تَعْرُضَ عليْهِ عُوداً؟ . (انْظُر الحَدِيث: 5605 طرفه فِي: 5606) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بقدح من لبن) وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح ذكْوَان، وَأَبُو سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع الْقرشِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن أبي شيبَة عَن جرير، وَأَبُو حميد مصغر حمد عبد الرَّحْمَن، وَقيل: الْمُنْذر بن سعد السَّاعِدِيّ.
قَوْله: (من النقيع) بِفَتْح النُّون وَكسر الْقَاف وبالعين الْمُهْملَة وَهُوَ مَوضِع بوادي العقيق وَهُوَ الَّذِي حماه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرعي الْغنم، وَقيل: إِنَّه غير الْحمى، وَقد تقدم فِي الْجُمُعَة: نَقِيع الْخُصُومَات، وَهُوَ يدل على التَّعَدُّد، وَكَانَ وَاديا يجْتَمع فِيهِ المَاء، وَالْمَاء الناقع هُوَ الْمُجْتَمع، وَقيل: كَانَت تعْمل فِيهِ الْآنِية. وَقَالَ ابْن التِّين: رَوَاهُ أَبُو الْحسن يَعْنِي: الْقَابِسِيّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَكَذَا نَقله عِيَاض عَن أبي بَحر سُفْيَان بن الْعَاصِ وَهُوَ تَصْحِيف، فَإِن البقيع مَقْبرَة الْمَدِينَة. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْأَكْثَر على النُّون وَهُوَ من نَاحيَة العقيق على عشْرين فرسخاً من الْمَدِينَة. قَوْله: (ألاَّ) بِفَتْح الْهمزَة وَتَشْديد اللَّام بِمَعْنى: هلا. قَوْله: خمرته بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم أَي هلا عطيته وَمِنْه خمار الْمَرْأَة لِأَنَّهُ يَسْتُرهَا قَوْله: (وَلَو أَن تعرض) بِضَم الرَّاء، قَالَه الْأَصْمَعِي، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، وَأَجَازَ أَبُو عبيد كسر الرَّاء وَهُوَ مَأْخُوذ من الْعرض، أَي: تجْعَل الْعود عَلَيْهِ بِالْعرضِ، وَالْمعْنَى: إِن لم تغطه فَلَا أقل من عود تعرض بِهِ عَلَيْهِ، أَي: تمده عرضا لَا طولا.
وَمن فَوَائده: صيانته من الشَّيْطَان فَإِنَّهُ لَا يكْشف الغطاء، وَمن الوباء الَّذِي ينزل من السَّمَاء فِي لَيْلَة من السّنة، وَمن النَّجَاسَة والمقذورات، وَمن الهامة والحشرات وَنَحْوهَا.

5606 - حدّثناعُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صالِحٍ يَذْكُرُ أُُرَاهُ عنْ جابِرٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: جاءَ أبُو حُمَيْدٍ رجُلٌ مِنَ الأنْصارِ مِنَ النَّقِيعِ بإناءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألاَّ خَمَّرْتَهُ ولوْ أنْ تَعْرُضَ عليْهِ عُوداً
وحدّثني أبُو سُفْيانَ عنْ جابِرٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهاذَا. (انْظُر الحَدِيث: 5605) .

هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان.
قَوْله: (أرَاهُ) أَي: أَظُنهُ.
قَوْله: (وحَدثني) كَلَام الْأَعْمَش أَي: حَدثنِي أَبُو سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر، وَعَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْمَحْفُوظ: عَن جَابر.

5607 - حدّثني مَحْمُودٌ أخبرنَا النَّضْرُ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ البَراءَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْ مَكَّةَ وأبُو بَكْرٍ مَعَهُ: قَالَ أبُو بَكْرٍ: مَرَرْنا بِراعٍ وقَدْ عَطِشَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله عَنهُ فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَن فِي قَدَحٍ فَشَرِبَ حتَّى رَضِيتُ، وأتانا سُراقَةُ بنُ جُعْشُمٍ عَلى فَرَس فَدَعا عَلَيهِ، فَطَلَبَ إلَيْه سُراقَةُ أنْ لَا يَدْعُوَ عَليهِ وأنْ يَرْجِعَ، فَفَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(21/186)


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فحلبت كثبة من لبن فِي قدح فَشرب) .
ومحمود هُوَ ابْن غيلَان، وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة هُوَ ابْن شُمَيْل، وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ عَمْرو السبيعِي، والبراء هُوَ ابْن عَازِب.
وَمضى الحَدِيث فِي: بَاب هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَأَبُو بكر مَعَه) الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَلِكَ الْوَاو فِي قَوْله: (وَقد عَطش) قَوْله: (فحلبت) أسْند هُنَا الْحَلب إِلَى نَفسه مجَازًا، وَتقدم هُنَاكَ: فَأمرت الرَّاعِي فَحلبَ. قَوْله: (كثبة) بِضَم الْكَاف وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ ابْن فَارس: هِيَ الْقطعَة من اللَّبن أَو التَّمْر، وَقَالَ الْخَلِيل: كل قَلِيل جمعته فَهُوَ كثبة، وَقَالَ أَبُو زيد: هِيَ من اللَّبن ملْء الْقدح، وَقيل: قدر حلبة تَامَّة. قَوْله: (حَتَّى رضيت) أَي: حَتَّى علمت أَنه شرب حَاجته وكفايته، فَإِن قيل: كَيفَ شرب هَذَا اللَّبن من مَال الْغَيْر؟ (أُجِيب) بأجوبة (مِنْهَا) أَن صَاحبه كَانَ حَرْبِيّا لَا أَمَان لَهُ، أَو كَانَ صديق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو صديق أبي بكر رَضِي الله عَنهُ يحب شربهما، أَو كَانَ فِي عرفهم التسامح بِمثلِهِ، أَو كَانَ صَاحب الْغنم أجَاز لِلرَّاعِي مثل ذَلِك أَو كَانَا مضطرين. قَوْله: (سراقَة) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالقاف ابْن مَالك بن جعْشم بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الشين الْمُعْجَمَة الْكِنَانِي بالنونين المدلجي، أسلم آخرا وَحسن إِسْلَامه. قَوْله: (فَدَعَا عَلَيْهِ) أَي: فَأَرَادَ أَن يَدْعُو عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ سراقَة: لَا تدع عَليّ وَأَنا أرجع، فَترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدُّعَاء عَلَيْهِ، وَقد مر فِي المناقب مطولا.

5608 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حَدثنَا أبُو الزِّنادِ عنْ عَبْد الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّفْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحةً، والشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، تَغْدُو بِإناء وتَرُوحُ بآخَرَ. (انْظُر الحَدِيث: 2629) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث على مَا لَا يخفى، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز الْأَعْرَج.
والْحَدِيث قد مضى فِي الْعَارِية فِي: بَاب فضل المنحة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن بكير عَن أبي الزِّنَاد، وَعَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (اللقحة) بِكَسْر اللَّام وَيجوز فتحهَا وَسُكُون الْقَاف وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، قَالَ الْكرْمَانِي: هِيَ الحلوب من النَّاقة، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ الَّتِي قرب عهدها بِالْولادَةِ. قلت: الأول أولى وَأظْهر. قَوْله: (الصفي) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء، أَصله صفي بياءين على وزن فعيل بِمَعْنى مفعول، وَمَعْنَاهُ: المختارة، وَقيل: غزيرة اللَّبن، وفعيل إِذا كَانَ بِمَعْنى مفعول يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث. قَوْله: (منحة) بِكَسْر الْمِيم وَهِي الْعَطِيَّة، نصب على التَّمْيِيز نَحْو: نعم الزَّاد زَاد أَبِيك زاداً، وَهِي نَاقَة تعطيها غَيْرك ليحتلبها ثمَّ يردهَا عَلَيْك. قَوْله: (تَغْدُو) من الغدو وَهُوَ أول النَّهَار، (وَتَروح) من الرواح وَهُوَ آخر النَّهَار، وَهَذِه كِنَايَة عَن كَثْرَة اللَّبن.

5609 - حدّثناأبُو عاصِمٍ عنِ الأوْزاعِيِّ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْد الله بنِ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرِبَ لَبناً فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: إنَّ لَهُ دَسَماً. (انْظُر الحَدِيث: 211) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب هَل يمضمض من اللَّبن؟ وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

5610 - وَقَالَ إبْراهِيمُ بنُ طَهْمانَ: عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رُفِعَتْ إليَّ السِّدْرَةُ فإِذا أرْبَعَةُ أنْهارٍ: نَهْرانِ ظاهِرانِ ونَهْرانِ باطِنانِ، فأمَّا الظَّاهِرانِ: فالنِّيلُ والفُراتُ، وأمَّا الباطِنانِ: فَنَهْرانِ فِي الجنَّةِ فأُتِيتُ بِثَلاثَةِ أقْداحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ، وقَدَحٌ فيهِ عَسَلٌ،

(21/187)


وقَدَحٌ فيهِ خَمْرٌ، فأخَذْت الَّذِي فيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ فَقِيلَ لي: أصَبْتَ الفِطْرَةَ أنْتَ وأُُمَّتُكَ.
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء الْهَرَوِيّ أَبُو سعيد، سكن نيسابور ثمَّ سكن مَكَّة، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة، وتعليقه رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: أخبرنَا أَبُو حَاتِم مكي بن عَبْدَانِ وَأَبُو عمرَان مُوسَى الْعَبَّاس قَالَا أخبرنَا أَحْمد بن يُوسُف السّلمِيّ أخبرنَا مُحَمَّد بن عقيل أخبرنَا حَفْص بن عبد الله أَنبأَنَا ابْن طهْمَان بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم أَيْضا: حَدثنَا أَبُو بكر الْآجُرِيّ أخبرنَا عبد الله بن عَبَّاس الطَّيَالِسِيّ أخبرنَا مُحَمَّد بن عقيل أخبرنَا حَفْص بن عبد الله بن طهْمَان.
قَوْله: (رفعت) فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِضَم الرَّاء وَكسر الْفَاء وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (إِلَيّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (السِّدْرَة) مَرْفُوع بقوله: (رفعت) وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: دفعت، بِالدَّال مَوضِع الرَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول للمتكلم. وَقَوله: إِلَى، حرف جر، والسدرة مجرور بِهِ، وَهِي سِدْرَة الْمُنْتَهى سميت بهَا لِأَن علم الْمَلَائِكَة يَنْتَهِي إِلَيْهَا. قَوْله (فَإِذا) كلمة مفاجأة. قَوْله (النّيل) هُوَ نهر مصر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (والفرات) نهر بَغْدَاد. قلت: لَيْسَ كَذَلِك بل الْفُرَات نهر الْكُوفَة، قَالَه الْجَوْهَرِي، وَأَصله من أَطْرَاف إرمينية يَأْتِي ويمر بِأَرْض ملطية على مسيرَة ميلين مِنْهَا، ثمَّ على سميساط وقلعة الرّوم والبيرة وجسر منبج وبالس وقلعة حَصِير والرقة والرحبة وقرقيسيتا وعانة والحديثة وهيت والأنبار، ثمَّ يمر بالطفوف ثمَّ بالحلة ثمَّ بِالْكُوفَةِ وَيَنْتَهِي إِلَى البطائح وَيصب فِي الْبَحْر الشَّرْقِي، وَأما نهر بَغْدَاد فَهُوَ دجلة يخرج من أصل جبل بِقرب آمد ثمَّ يَمْتَد إِلَى ميا فارقين ثمَّ إِلَى حصن كيفا ثمَّ إِلَى جَزِيرَة ابْن عمر ثمَّ إِلَى الْموصل وَينصب فِيهِ الزابان ومنهما يعظم إِلَى بَغْدَاد ثمَّ إِلَى وَاسِط ثمَّ إِلَى الْبَصْرَة ثمَّ ينصب فِي بَحر فَارس. قَوْله: (فنهران فِي الْجنَّة) قيل: هما السلسبيل والكوثر، وهما النهران الباطنان، وَقَالَ ابْن بطال: فِي حَدِيث أنس: إِذا بدلت الأَرْض ظهرا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (فَأتيت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِثَلَاثَة أقداح) وَقد مر عَن قريب أَنه قدحان فلاتنا فِي بَينهمَا لِأَن مَفْهُوم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ مَعَ احْتِمَال أَن القدحين كَانَا قبل رَفعه إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَالثَّلَاثَة بعده. قَوْله: (قدح فِيهِ لبن) يجوز فِي: قدح، الرّفْع والجر، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: أَحدهَا قدح فِيهِ لبن، وَأما الْجَرّ فعلى أَنه بَيَان لقَوْله (بِثَلَاثَة أقداح) هُوَ وَمَا عطف عَلَيْهِ من قدحين، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي (قدح فِيهِ عسل، وقدح فِيهِ خمر) قَوْله: (أصبت الْفطْرَة) أَي: عَلامَة الْإِسْلَام والاستقامة. قَوْله: (أَنْت) تَأْكِيد للضمير الَّذِي فِي: (أصبت) قَوْله: (وَأمتك) أَي: ولتصب أمتك، وَإِعْرَابه كإعراب قَوْله تَعَالَى: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} تَقْدِيره: وليسكن زَوجك.
قَالَ هِشامٌ وسَعِيدٌ وهمَّامٌ عنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ مالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ عنْ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الأنْهارِ نَحْوَهُ، ولَمْ يَذْكُرُوا ثَلاثَةَ أقْداحٍ.
أَي: قَالَ هِشَام الدستوَائي، وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة وَهَمَّام بتَشْديد الْمِيم ابْن يحيى يَعْنِي: كلهم رووا الحَدِيث الْمَذْكُور عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك، وَزَادُوا فِي الْإِسْنَاد: مَالك بن صعصعة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَبُو عمر: مَالك بن صعصعة الْأنْصَارِيّ الْمَازِني من بني مَازِن بن النجار، روى عَنهُ أنس بن مَالك حَدِيث الْإِسْرَاء، وَتَعْلِيق هِشَام وَسَعِيد وَهَمَّام قد وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب بَدْء الْخلق فِي: بَاب ذكر الْمَلَائِكَة، مطولا أخرجه عَن هدبة بن خَالِد عَن همام عَن قَتَادَة وَعَن خَليفَة عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد وَهِشَام كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك عَن مَالك بن صعصعة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فِي الْأَنْهَار نَحوه) أَرَادَ أَنهم توافقوا فِي الْمَتْن على ذكر الْأَنْهَار نحوالمذكور فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (وَلم يذكرُوا الأقداح) أَي: لم يذكر هَؤُلَاءِ ثَلَاثَة الأقداح فِي روايتهم، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَلم يذكر ثَلَاثَة أقداح، بإفراد: لم يذكر، فَظَاهر هَذَا أَنه لم يَقع ذكر الأقداح أصلا فِي رِوَايَة هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة. فَإِن قلت: قد ذكرت ثَلَاثَة أقداح فِي رِوَايَة همام، ثمَّ أتيت بِإِنَاء من خمر وإناء من لبن، وإناء من عسل قلت: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِالنَّفْيِ ذكر لفظ الأقداح بخصوصها، وَيحْتَمل أَن تكون رِوَايَة الْكشميهني هِيَ الصَّحِيحَة أَعنِي لم يذكر بِالْإِفْرَادِ، وَيكون فَاعل: لم يذكر، هِشَام الدستوَائي، فَإِنَّهُ تقدم فِي بَدْء الْخلق من طَرِيق يزِيد بن زُرَيْع عَن سعيد

(21/188)


وَهِشَام جَمِيعًا عَن قَتَادَة بِطُولِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْآنِية أصلا.

13 - (بابُ اسْتِعْذَاب المَاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان استعذاب المَاء أَي: فِي طلب المَاء العذب، أَي: الحلو.

5611 - حدّثناعَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله أنهُ سمِع أنَسَ بنَ مالِك يَقُولُ: كانَ أبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ أنْصارِيّ بالمَدِينَةِ مَالا منْ نَخْلٍ، وكانَ أحَبَّ مالِهِ إلَيْهِ بَيْرُحاءٍ، وكانَتْ مُسْتَقْبِلَ المَسْجِدِ، وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُها ويَشْرَبُ منْ ماءٍ فِيها طَيِّبٍ، قَالَ أنَسٌ: فَلمَّا نَزَلَتْ: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} (آل عمرَان: 92) . قامَ أبُو طَلْحَة فَقَالَ: يَا رسولَ الله! إنَّ الله يَقُولُ: {لَنْ تنالُو البِرَّ حتاى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحَبَّ مَالِي إلَيَّ بَيْرُحاءَ، وإنَّها صَدَقَةٌ لله أرْجُو بِرَّها وذُخْرَها عِنْدَ الله، فَضَعْها يَا رسُولَ الله حَيْثُ أراكَ الله. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بَخِ ذالِكَ مالٌ رابِحٌ أوْ: رايِحٌ شَكَّ عَبْدُ الله، وقدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَها فِي الأقْرَبِينَ. فَقَالَ أبُو طَلحَةَ: أفْعَلُ يَا رسُولَ الله، فَقَسَمَها أبُو طَلْحَةَ فِي أقارِبِهِ وَفِي بَني عَمِّه، وَقَالَ إسْماعيلُ ويَحْياى بنُ يَحْياى: رايِحٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يدخلهَا وَيشْرب من مَاء فِيهَا طيب) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يستعذب ماءها، وَذكر الْوَاقِدِيّ من حَدِيث سلمى امْرَأَة أبي رَافع كَانَ أَبُو أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ حِين نزل عِنْده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستعذب لَهُ المَاء من بِئْر مَالك بن النَّضر والدانس، ثمَّ كَانَ أنس وَهِنْد وحارثة أَبنَاء أَسمَاء يحملون المَاء إِلَى بيُوت نِسَائِهِ من بيُوت السقيا، وَكَانَ رَبَاح الْأسود عِنْده يَسْتَقِي لَهُ من بِئْر عروس مرّة وَمن بيُوت سقيا مرّة، وَقَالَ ابْن بطال: استعذاب المَاء لَا يُنَافِي الزّهْد وَلَا يدْخل فِي الترفه المذموم، بِخِلَاف تطيب المَاء بالمسك وَنَحْوه، فقد كرهه مَالك لما فِيهِ من السَّرف، وَأما شرب المَاء الحلو وَطَلَبه فمباح قد فعله الصالحون، وَلَيْسَ فِي شرب المَاء الْملح فَضِيلَة.
والْحَدِيث مضى فِي الزَّكَاة فِي: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ أَيْضا فِي الْوَصَايَا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي الْوكَالَة عَن يحيى بن يحيى، وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل، وَفِي تَفْسِير بيرحاء وُجُوه تقدّمت فِي الزَّكَاة، وَهُوَ اسْم بُسْتَان.
قَوْله: (بخ) بِفَتْح الْمُوَحدَة وبالخاء الْمُعْجَمَة كلمة تقال عِنْد الْمَدْح وَالرِّضَا بالشَّيْء، وتكرر للْمُبَالَغَة، فَإِن وصلت خففت ونونت وَرُبمَا شددت. قَوْله: (رابح أَو: ريَاح شكّ عبد الله) بن مسلمة فِيهِ فَالْأول بِالْبَاء الْمُوَحدَة من الرِّبْح، وَالثَّانِي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف من الرواح. قَوْله: (وَقَالَ إِسْمَاعِيل) هُوَ ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس، وَيحيى بن يحيى بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا التَّمِيمِي الْحَنْظَلِي. قَوْله: (رَايِح) يَعْنِي بِالْيَاءِ من الرواح.

14 - (بَاب شُرْبِ اللّبَنِ بالمَاء)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب اللَّبن ممزوجاً بِالْمَاءِ، وَقَيده بالشرب احْتِرَازًا عَن الْخَلْط عِنْد البيع، فَإِنَّهُ غش، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: بَاب شوب اللَّبن بِالْمَاءِ، بِالْوَاو بدل الرَّاء، والشوب الْخَلْط. قيل: مَقْصُود البُخَارِيّ أَن ذَلِك لَا يدْخل فِي النَّهْي عَن الخليطين، وَإِنَّمَا كَانُوا يمزجون اللَّبن بِالْمَاءِ عِنْد الشّرْب، لِأَن اللَّبن عِنْد الْحَلب يكون حاراً، وَتلك الْبِلَاد فِي الْغَالِب حارة فَكَانُوا يكسرون حر اللَّبن بِالْمَاءِ الْبَارِد.

5612 - حدّثنا عبْدانُ أخبرنَا عبْدُ الله أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ أنَّهُ رَأي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرِبَ لَبَناً وأتَى دَاره فَحَلبْتُ شَاة فَشُبْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِن البِئْرِ، فَتَناوَل القَدح فَشَربَ وعنْ يَسارِهِ أبُو بَكْرٍ وعنْ يَمِينِهِ أعْرَابيُّ فأعْطَى الأعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ، قَالَ: الأيْمَنَ فالأيْمَنَ.

(21/189)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَقد تكَرر ذكره وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْهِبَة، وَلَكِن من رِوَايَة أبي طوالة عَن أنس.
قَوْله: (وأتى دَاره) أَي: دَار أنس، وَالْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فشبت) أَي: خلطت لأجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاء من الْبِئْر وَهُوَ من الشوب بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: شيب، بِكَسْر الشين وَسُكُون الْيَاء وَفتح الْبَاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَعَن يسَاره أَبُو بكر) وَفِي رِوَايَة أبي طوالة عَن يُونُس الَّتِي تقدّمت فِي الْهِبَة: وَعمر رَضِي الله عَنهُ تجاهه. قَوْله: (فَأعْطى الْأَعرَابِي فَضله) أَي: فضل اللَّبن الَّذِي فضل مِنْهُ فِي الْإِنَاء بعد شربه، قيل: الْأَعرَابِي هُوَ خَالِد بن الْوَلِيد، وَلم يَصح لِأَنَّهُ لَا يُقَال لمثل خَالِد أَعْرَابِي قَوْله: (الْأَيْمن) تَقْدِيره يقدم الْأَيْمن، أَو الْأَيْمن مقدم لفضل الْأَيْمن على الْأَيْسَر.

5613 - حدّثناعبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا أبُو عامِرٍ حَدثنَا فُليْحُ بن سُليْمانَ عَن سَعيدِ بنِ الحارثِ عنْ جابِر بنِ عبْدِ الله رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَخَلَ عَلى رجُلٍ مِنَ الأنْصارِ ومَعَهُ صاحبٌ لهُ، فَقَالَ لهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن كَانَ عِنْدَكَ ماءٌ باتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنةٍ وإلاَّ كَرَعْنا، قَالَ: والرَّجُلُ يُحَوِّلُ الماءَ فِي حائِطِهِ قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رسُولَ الله! عِنْدِي ماءٌ بائِتٌ، فانْطَلِقْ إِلَى العَرِيشِ، قَالَ: فانْطَلَقَ بِهِما فَسَكَبَ فِي قَدَح ثمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ منْ دَاجِنٍ لهُ، قَالَ: فَشَرِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جاءَ مَعَهُ. (انْظُر الحَدِيث: 5613 طرفه فِي 5621) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَأَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو الْعَقدي بِفتْحَتَيْنِ.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي عَامر أَيْضا، وَعَن يحيى بن صَالح. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أَحْمد بن مَنْصُور الزيَادي.
قَوْله: (على رجل من الْأَنْصَار) قيل: إِنَّه أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (وَمَعَهُ) أَي: وَمَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاحب لَهُ، وَهُوَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ. (قَوْله: (فِي شنة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون، وَهِي الْقرْبَة الْخلقَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الَّتِي زَالَ شعرهَا من الْبلَاء بِكَسْر الْبَاء. قلت: من كَثْرَة الِاسْتِعْمَال. قَوْله: (وإلاَّ كرّ عَنَّا) فِيهِ حذف تَقْدِيره: إِن كَانَ عنْدك إِنَاء فاسقنا وإلاَّ كرعنا، من الكرع، وَهُوَ تنَاول المَاء بالفم من غير إِنَاء وَلَا كف، وَقَالَ ابْن النين: حكى عبد الْملك أَنه الشّرْب باليدين مَعًا، قَالَ: وَأهل اللُّغَة على خِلَافه، وكرع بِفَتْح الرَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي بِالْكَسْرِ أَيْضا: يكرع كرعاً، وَالنَّهْي عَن الشّرْب بالكرع لِئَلَّا يعذب نَفسه بكراهته فِي كَثْرَة الجرعات. قَوْله: (وَالرجل يحول المَاء فِي حَائِطه) أَيْضا أَي: ينْقل المَاء من مَكَان إِلَى مَكَان آخر من الْبُسْتَان ليعم أشجاره بالسقي. قَوْله: (إِلَى الْعَريش) أَرَادَ بِهِ مَا يستظل بِهِ. وَقيل: هُوَ خيمة من خشب وثمام بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة مخففاً، وَهُوَ نَبَات ضَعِيف لَهُ خوص، وَقد يَجْعَل من الجريد كالقبة أَو من العيدان، ويظلل عَلَيْهَا وَلَيْسَ منافياً للزهد. قَوْله: (فسكب فِي قدح) فِي رِوَايَة أَحْمد: فسكب مَاء فِي قدح. قَوْله: (من دَاجِن) بِكَسْر الْجِيم وَهُوَ الشَّاة الَّتِي تألف الْبيُوت. قَوْله: (ثمَّ شرب الرجل) فِي رِوَايَة أَحْمد: شرب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَقَى صَاحبه.
وَفِيه: أَنه لَا بَأْس بِطَلَب المَاء الْبَارِد فِي سموم الْحر. وَفِيه: قصد الرجل الْفَاضِل بِنَفسِهِ حَيْثُ يعرف موَاضعه عِنْد إخوانه، وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد يَوْم الْقِيَامَة أَن يُقَال لَهُ: ألم أصح جسمك وأرويك من المَاء الْبَارِد؟ وَفِيه: جَوَاز خلط اللَّبن بِالْمَاءِ عِنْد الشّرْب، وَلَا يجوز عِنْد البيع: وَفِيه: أَن من قدم إِلَيْهِ طَعَام لَا يلْزمه أَن يسْأَل من أَيْن صَار إِلَيْهِ؟ إلاَّ إِذا علم أَن أَكثر مَاله حرَام، فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلهُ فضلا عَن أَن يسْأَله.

15 - (بابُ شَرَابِ الحَلْوَاءِ والعَسلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شراب الْحَلْوَاء، وَهُوَ بِالْمدِّ عِنْد الْمُسْتَمْلِي، وَعند غَيره بِالْقصرِ، وَقيل: هما لُغَتَانِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقصر أظهر لِأَنَّهُ لَا يشرب غَالِبا، وَقَالَ ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ: هُوَ النقيع الحلو، وَعَلِيهِ يدل تبويب البُخَارِيّ: بشراب الْحَلْوَاء، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْحَلْوَاء مَا يعْقد من الْعَسَل وَنَحْوه، وَيُقَال: الْعَرَب لَا تعرف هَذِه الْحَلْوَاء المعقودة الَّتِي هِيَ الْآن معهودة، فَتعين أَن

(21/190)


الْمَقْصُود مَا يُمكن شربه وَهُوَ المَاء المنبوذ فِيهِ التَّمْر، وَنَحْوه وَكَذَلِكَ الْعَسَل. فَإِن قلت: قَوْله: (الْحَلْوَاء) يَشْمَل الْعَسَل وَغَيره من كل حُلْو، فَمَا فَائِدَة ذكر الْعَسَل بالخصوصية؟ قلت: هَذَا من قبيل التَّخْصِيص بعد التَّعْمِيم كَمَا فِي قَوْله: تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} (الرَّحْمَن: 68) . وَيحْتَمل أَن يكون ذكره للتّنْبِيه على جَوَاز شرب الْعَسَل إِذْ قد يتخيل أَن شربه من السَّرف.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَحِلُّ شُرب بوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ لأنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ الله تَعَالَى: {أحل لكم الطَّيِّبَات} (الْمَائِدَة: 5) .
قيل: ترْجم البُخَارِيّ على شَيْء ثمَّ أعقبه بضده، قلت: أَرَادَ هَذَا الْقَائِل أَن البُخَارِيّ قَالَ: بَاب شراب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل، ثمَّ قَالَ عَن الزُّهْرِيّ: لَا يحل شرب بَوْل النَّاس إِلَى آخِره، وَبَينهمَا تضَاد. أَقُول: مَقْصُود البُخَارِيّ من إِيرَاد قَول الزُّهْرِيّ، هُوَ قَوْله: قَالَ الله تَعَالَى: {أحل لكم الطَّيِّبَات} والحلواء وَالْعَسَل، وكل شَيْء يُطلق عَلَيْهِ أَنه حول من الطَّيِّبَات، وَهَذَا فِي معرض التَّحْلِيل للتَّرْجَمَة غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه ذكر أَولا عَن الزُّهْرِيّ مَسْأَلَة شرب الْبَوْل تَنْبِيها على أَنه لَيْسَ من الطَّيِّبَات، وَتَعْلِيق الزُّهْرِيّ هَذَا أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ. قَوْله: (لشدَّة) أَي: لضَرُورَة، وَهَذَا خلاف مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وتعليله بقوله: (لِأَنَّهُ رِجْس) أَي: لِأَن الْبَوْل نجس غير ظَاهر، لِأَن الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير رِجْس أَيْضا مَعَ أَنه يجوز التَّنَاوُل مِنْهَا عِنْد الضَّرُورَة. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: يجوز التَّدَاوِي بالبول وَنَحْوه من النَّجَاسَات خلا الْخمر والمسكرات، وَقَالَ مَالك: لَا يشْربهَا لِأَنَّهَا لَا تزيده إلاَّ عطشاً وجوعاً، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة أَن يشرب مِنْهَا مِقْدَار مَا يمسك بِهِ رمقه.
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إنَّ الله لَمْ يَجْعَلْ شِفاءَكُمْ فِيما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
الَّذِي قيل فِي إِيرَاد أثر الزُّهْرِيّ قيل: هُنَا أَيْضا: وَالْجَوَاب من جِهَة الزُّهْرِيّ قد مر، وَأما الْجَواب عَن إِيرَاده أثر ابْن مَسْعُود هُنَا، فَهُوَ أَنه أَشَارَ بِذكر هَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} (النَّحْل: 69) . فَدلَّ على ضِدّه أَن الله لم يَجْعَل الشِّفَاء فِيمَا حرمه، وَأما تعْيين السكر هُنَا من دون سَائِر الْمُحرمَات من هَذَا الْجِنْس فَهُوَ أَن ابْن مَسْعُود سُئِلَ عَن ذَلِك على التَّعْيِين، فَلذَلِك قَالَ: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم، وأوضح ذَلِك عَليّ بن حَرْب الطَّائِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل، قَالَ: اشْتَكَى رجل منا يُقَال لَهُ: خَيْثَم بن العدا دَاء ببطنه يُقَال لَهُ الصفر، فنعت لَهُ السكر، فَأرْسل إِلَى ابْن مَسْعُود يسْأَله فَذكره، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور وَسَنَده صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، فَهَذَا وَجه تعْيين السكر فِي هَذَا الْأَثر، وَالسكر بِفتْحَتَيْنِ الْخمر فِيمَا نَقله ابْن التِّين عَن بَعضهم، وَقيل: هُوَ نَبِيذ التَّمْر إِذا اشْتَدَّ، وَقيل: المُرَاد من السكر والمسكر، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) ونقيع التَّمْر وَهُوَ السكر، ونقيع الزَّبِيب إِذا اشْتَدَّ، وغلا عد هذَيْن الْقسمَيْنِ من أَنْوَاع الْأَشْرِبَة الْمُحرمَة الْأَرْبَعَة، وعد قبلهمَا اثْنَيْنِ آخَرين، وهما الْخمر والطلاء وَفِي (الْمُحِيط) والمتخذ من التَّمْر ثَلَاثَة: السكر والفضيخ والنبيذ، وَقَالَ أَبُو الْحسن: إِن كَانَ البُخَارِيّ أَرَادَ سكر الْأَشْرِبَة فَيمكن أَن يكون سقط من الْكَلَام، شَيْء، وَهُوَ ذكر السُّؤَال عَن ذَلِك، وَإِن كَانَ أَرَادَ السكر بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْكَاف، فَهُوَ الَّذِي يسد بِهِ النَّهر فَيكون السُّؤَال من ابْن مَسْعُود عَن السكر عِنْد التَّدَاوِي بِشَيْء من الْمُحرمَات، فَقَالَ: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم.

5614 - حدّثنا علِيُّ بن عبدِ الله حَدثنَا أبُو أُسامَةَ، قَالَ: أَخْبرنِي هِشامٌ عنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُعْجِبُهُ الحَلْوَاءُ والعَسَلُ.
هَذَا يُطَابق التَّرْجَمَة من غير تعسف، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَأَبُو أُسَامَة هُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة يروي عَن هِشَام بن عُرْوَة، يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي بَاب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

16 - (بابُ الشُّرْبِ قائِماً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّرْب حَال كَونه قَائِما، وَقَالَ ابْن بطال: أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَرَاهَة الشّرْب قَائِما لم تصح عِنْده، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ بجيد، بل إِذا تَعَارَضَت عِنْده الْأَحَادِيث لَا يتَعَرَّض إِلَى الحكم.

(21/191)


قلت: كَلَام ابْن بطال فِي وَاد وَكَلَام هَذَا الْقَائِل فِي وَاد آخر، وَلَيْسَ بجيد نِسْبَة كَلَامه إِلَى عدم الْجَوْدَة، وَإِنَّمَا عَادَته فِي الْغَالِب أَنه يبهم الحكم فِي التَّرْجَمَة وَلَا يُصَرح بِالْجَوَازِ وَلَا بِالْعدمِ على عَادَته فِي ذَلِك اعْتِمَادًا على مَا يفهم من الحكم فِي أَحَادِيث الْبَاب.

5615 - حدّثناأبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا مسْعَرٌ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ مَيْسَرَةَ عنِ النّزَّالِ. قَالَ: أتَى عَلِيُّ رَضِي الله عَنهُ علَى بابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قائِماً، فَقَالَ: إنَّ نَاسا يَكْرَهُ أحَدُهُمْ أنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قائِمٌ، وإِنِّي رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَلَ كَما رَأيْتُمُوني فَعَلْتُ. (انْظُر الحَدِيث: 5615 طرفه فِي: 5616) .

هَذَا الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة فِي الشّرْب قَائِما، ويوضح الحكم بِأَنَّهُ جَائِز أخرجه عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن مسعر بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالراء ابْن كدام الْكُوفِي عَن عبد الله بن ميسرَة ضد الميمنة الزراد بالزاي وَالرَّاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ عَن النزال بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الزَّاي بن سُبْرَة بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء، وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة كلهم هلاليون كوفيون وَأَبُو نعيم أَيْضا كُوفِي، وَعلي أَيْضا نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا، والنزال تقدّمت لَهُ رِوَايَة عَن ابْن مَسْعُود فِي فَضَائِل الْقُرْآن وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هذَيْن الْحَدِيثين.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن عَمْرو بن يزِيد الْجرْمِي.
قَوْله: (على بَاب الرحبة) أَرَادَ بِهِ رحبة مَسْجِد الْكُوفَة، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة أَنه صلى الظّهْر ثمَّ قعد فِي حوائج النَّاس فِي رحبة الْكُوفَة، والرحبة بِفَتَحَات: الْمَكَان الْوَاسِع والرحب بِسُكُون الْحَاء أَيْضا الْمَكَان المتسع. قَوْله: (أَن يشرب) أَي: بِأَن يشرب، وَأَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: يكره الشّرْب وَهُوَ قَائِم أَي: فِي حَالَة الْقيام. قَوْله: (فعل) أَي: شرب قَائِما. قَوْله: (كَمَا رَأَيْتُمُونِي) أَي: كرؤيتكم إيَّايَ فعلت، أَي: شربت.
وَاعْلَم أَن لفظ: فعل، أَعم الْأَفْعَال، يسْتَعْمل فِي معنى كل فعل، وَلِهَذَا عينه أهل الصّرْف فِي الأوزان. وَاعْلَم أَنه قد وَردت أَحَادِيث بِجَوَاز الشّرْب قَائِما، ووردت أَحَادِيث بِمَنْعه.
(فَمن أَحَادِيث الْجَوَاز) حَدِيث عَليّ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس. رَوَاهُمَا البُخَارِيّ هُنَا، وَحَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث نَافِع عَنهُ، وَقَالَ: كُنَّا نَأْكُل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنحن نمشي وَنَشْرَب وَنحن قيام، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه ابْن ماجة وَابْن حبَان، وَحَدِيث سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَنهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشرب قَائِما، وَإِسْنَاده حسن، وَحَدِيث عَائِشَة أخرجه النَّسَائِيّ من حَدِيث مَسْرُوق عَنْهَا، قَالَت: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشرب قَائِما وَقَاعِدا ... الحَدِيث، وَحَدِيث أنس رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل وقربة معلقَة فَشرب من فَم الْقرْبَة وَهُوَ قَائِم الحَدِيث، وَحَدِيث الْحُسَيْن بن عَليّ روينَاهُ عَن شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله، رَوَاهُ فِي الْجُزْء الْعَاشِر من (فَوَائِد أبي بكر الشَّافِعِي) من رِوَايَة زِيَاد بن الْمُنْذر عَن بشير بن غَالب عَن حُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشرب قَائِما، وَحَدِيث خباب بن الْأَرَت. روينَاهُ عَن شَيخنَا، وَهُوَ يرويهِ عَن مُجَاهِد من حَدِيث الطَّبَرَانِيّ عَنهُ قَالَ: بعثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَرِيَّة فأصابنا الْعَطش وَلَيْسَ مَعنا مَاء، فتنوخت نَاقَة لبعضنا فَإِذا بَين رِجْلَيْهَا مثل السقاء فشربنا من لَبنهَا، فَهَذَا من فعل الصَّحَابَة فِي زَمَنه فَيكون فِي حكم الْمَرْفُوع، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ روينَاهُ عَن شَيخنَا وَهُوَ يرْوى من حَدِيث سعيد بن جُبَير فِي (المعجم الصَّغِير) للطبراني أَنه قَالَ: حَدثنِي أَبُو هُرَيْرَة أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشرب من زَمْزَم قَائِما، وَحَدِيث أم سليم روينَاهُ عَن شَيخنَا وَهُوَ يرْوى من حَدِيث أنس عَن أمه فِي (مُسْند أَحْمد) قَالَت: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الْبَيْت قربَة معلقَة فَشرب مِنْهَا قَائِما، وَحَدِيث كَبْشَة أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة عَنْهَا، قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشرب من فِي قربَة معلقَة قَائِما، وَحَدِيث كلثم رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب (معرفَة الصَّحَابَة) قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَشرب من قربَة معلقَة وَهُوَ قَائِم، وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرب قَائِما وَقَاعِدا، وَحَدِيث عبد الله بن السَّائِب بن خباب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ:

(21/192)


رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ إِلَى فخارة فِيهَا مَاء فَشرب قَائِما، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم الرَّازِيّ بِسَنَد صَحِيح.
(وَمن أَحَادِيث الْمَنْع) مَا رَوَاهُ الْأَثْرَم عَن معمر عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: لَو يعلم الَّذِي يشرب وَهُوَ قَائِم لاستتاء وروى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يشربن أحدكُم قَائِما، فَمن نسي فليستقىء، وروى من حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن الشّرْب قَائِما، وروى أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن الشّرْب قَائِما، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْجَارُود بن الْمُعَلَّى: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الشّرْب قَائِما، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
وَاسْتدلَّ أهل الظَّاهِر بِهَذِهِ الْأَحَادِيث على تَحْرِيم الشّرْب قَائِما ثمَّ كَيْفيَّة الْجمع بَينهمَا على أَقْوَال: أَحدهَا: أَن النَّهْي مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم، وَهُوَ الَّذِي صَار إِلَيْهِ الْأَئِمَّة الجامعون بَين الحَدِيث وَالْفِقْه كالخطابي وَأبي مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَأبي عبد الله الْمَازرِيّ، وَالْقَاضِي عِيَاض وَأبي الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ، وَأبي زَكَرِيَّا النَّوَوِيّ، رَحِمهم الله تَعَالَى. الثَّانِي: أَن المُرَاد بالقائم هُنَا الْمَاشِي لِأَن الْمَاشِي يُسمى قَائِما، قَالَ الله عز وَجل: {إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} (آل عمرَان: 75) . أَي: مواظباً بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ، وَالْعرب تَقول: قُم فِي حاجتنا أَي: امش فِيهَا، قَالَه ابْن التِّين. الثَّالِث: أَنه مَحْمُول على أَن يَأْتِي الرجل أَصْحَابه بشراب فَيبْدَأ قبل أَصْحَابه فيشرب قَائِما، ذكره أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ والمازري. الرَّابِع: تَضْعِيف أَحَادِيث النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما، قَالَه جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، مِنْهُم: أَبُو عمر بن عبد الْبر، وَفِيه نظر. الْخَامِس: أَن أَحَادِيث النَّهْي مَنْسُوخَة قَالَه أَبُو حَفْص بن شاهين وَابْن حبَان فِي صَحِيحه. السَّادِس: مَا قَالَه ابْن حزم أَن أَحَادِيث النَّهْي ناسخة لأحاديث الشّرْب قَائِما، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : الصَّوَاب أَن النَّهْي مَحْمُول على كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَأما شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما فبيانه للْجُوَاز فَلَا إِشْكَال وَلَا تعَارض، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يتَعَيَّن الْمصير إِلَيْهِ، قَالَ: وَأما من زعم نسخا أَو غَيره فقد غلط غَلطا فَاحِشا، وَكَيف يُصَار إِلَى النّسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع لَو ثَبت التَّارِيخ؟ وأنَّى لَهُ بذلك، وَالله أعلم. قلت: جزم النَّوَوِيّ هُنَا بِالْكَرَاهَةِ، وَخَالف ذَلِك فِي (الرَّوْضَة) تبعا للرافعي، فَقَالَ: إِن الشّرْب قَائِما لَيْسَ بمكروه.

5616 - حدّثناآدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ حَدثنَا عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بنَ سَبرَةَ يُحَدِّثُ عنِ عَلِيٍّ رَضِي الله عَنهُ أنَّهُ صلَّى الظُّهْرَ ثمَّ قَعَدَ فِي حَوائِجِ الناسِ فِي رَحَبَةِ الكُوفَةِ حتَّى حَضَرَتْ صَلاة العَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِماءٍ فَشَرِبَ وغَسَلَ وجْهَهُ ويَدَيْهِ، وذَكَرَ رأسَهُ ورِجْلَيْهِ، ثُمَّ قامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وهْوَ قائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ نَاسا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قائِماً، وإنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. (انْظُر الحَدِيث: 5615) .

هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ أخرجه عَن آدم بن أبي إِيَاس إِلَى آخِره.
قَوْله: (فِي حوائج النَّاس) الْحَوَائِج جمع حَاجَة على غير الْقيَاس، وَذكر الْأَصْمَعِي أَنه مولد، وَالْجمع حاجات وحاج، وَقَالَ ابْن ولاد: الحوجاء الْحَاجة وَجَمعهَا حواجي بتَشْديد الْيَاء، وَيجوز التخيف، قَالَ: فَلَعَلَّ حوائج مَقْلُوبَة من حواجي مثل: سوايع من سواعي، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: قيل: الأَصْل حائجة فَيصح الْجمع على حوائج. قَوْله: (ثمَّ أَتَى بِمَاء) وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن مَرْزُوق عَن شُعْبَة عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَدَعَا بِوضُوء، وللترمذي من طَرِيق الْأَعْمَش عَن عبد الْملك بن ميسرَة: ثمَّ أُتِي عَليّ بكوز من مَاء، وَمثله فِي رِوَايَة بهز بن أَسد عِنْد النَّسَائِيّ، وَكَذَا لأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة. قَوْله: (وَذكر رَأسه) أَي: وَذكر آدم رَأسه وَرجلَيْهِ، وَكَانَ آدم توقف فِي سِيَاقه فَعبر بقوله: (وَذكر رَأسه وَرجلَيْهِ) وَفِي رِوَايَة بهز: فَأخذ مِنْهُ كفا فَمسح وَجهه وذراعيه وَرَأسه وَرجلَيْهِ، وَعند الطَّيَالِسِيّ: فَغسل وَجهه وَيَديه وَمسح على رَأسه وَرجلَيْهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَعْمَش: فَغسل يَدَيْهِ ومضمض واستنشق وَمسح بِوَجْهِهِ وذراعيه وَرَأسه، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَمسح بِوَجْهِهِ وَرَأسه وَرجلَيْهِ، وَقد ثَبت فِي آخر الحَدِيث قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ: هَذَا وضوء من لم يحدث، وَقعت هَذِه الزِّيَادَة فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ والإسماعيلي من طَرِيق شُعْبَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ فصل الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ عَمَّا تقدم وَلم يذكرهَا على وتيرة وَاحِدَة؟ قلت: حَيْثُ لم يكن الرَّأْس مغسولاً بل ممسوحاً فَصله عَنهُ وَعطف الرجل عَلَيْهِ وَإِن كَانَت مغسولة، على نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (لمائدة: 6) إِذْ كَانَ

(21/193)


لابس الْخُف فمسحه أَيْضا، وَقيل ذَلِك لِأَن الرَّاوِي الثَّانِي نسي مَا ذكره الرَّاوِي الأول فِي شَأْن الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ. قَوْله: (فَضله) أَي: فضل المَاء الَّذِي تَوَضَّأ مِنْهُ. قَوْله: (قَائِما) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: قيَاما، وَهَذِه أولى، وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ: أَن يشْربُوا قيَاما. قَوْله: (صنع مثل مَا صنعت) ويروى: صنع كَمَا صنعت، أَي: من الشّرْب قَائِما، وَصرح بِهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته، فَقَالَ: شرب فضل وضوئِهِ. قَائِما كَمَا شربت.

5617 - حدّثناأبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عاصِمٍ الأحْوَلِ عنِ الشَّعْبيِّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَرِبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قائِماً مِنْ زَمْزَمَ. (انْظُر الحَدِيث: 1637) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن روى عَن سُفْيَان، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ الكلاباذي: أَبُو نعيم سمع الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وهما سمعا عَاصِمًا الْأَحول، فَهَذَا سُفْيَان يحْتَمل أَن يكون هَذَا وَأَن يكون ذَاك، وَقَالَ بَعضهم بعد نَقله كَلَام الْكرْمَانِي: لَيْسَ الاحتمالان فيهمَا هُنَا على السوَاء، فَإِن أَبَا نعيم مَشْهُور بالرواية عَن الثَّوْريّ مَعْرُوف بملازمته وَرِوَايَته عَن ابْن عُيَيْنَة قَليلَة وَإِذا أطلق اسْم شَيْخه حمل على من هُوَ أشهر بِصُحْبَتِهِ وَرِوَايَته أَكثر انْتهى قلت بعد أَن ثبتَتْ رِوَايَة أبي نعيم عَن ابْن عُيَيْنَة الِاحْتِمَال باقٍ وَلَا تَرْجِيح لأحد الِاحْتِمَالَيْنِ على الآخر بِمَا ذكره، لِأَن ابْن عُيَيْنَة روى هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه عِنْد مُسلم وَأحمد فِي (مُسْنده) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا هشيم أخبرنَا عَاصِم الْأَحول ومغيرة عَن الشّعبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شرب من زَمْزَم وَهُوَ قَائِم، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا، وَفِي لفظ: سقيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَمْزَم فَشرب وَهُوَ قَائِم.

17 - (بابُ مَنْ شَرِبَ وَهُوَ واقِفٌ عَلى بَعِيرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من شرب وَالْحَال أَنه وَاقِف على بعيره، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: لَا حجَّة فِي هَذَا على الشّرْب قَائِما، لِأَن الرَّاكِب على الْبَعِير قَاعد غير قَائِم، وأُجيب بِأَن البُخَارِيّ أَرَادَ بِهَذَا بَيَان حكم هَذِه الْحَالة، وَلَيْسَ فِي صدد بَيَان الِاسْتِدْلَال بِهِ على جَوَاز الشّرْب قَائِما. وَبَين حكم هَذِه الْهَيْئَة بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الرَّاكِب يشبه الْقَائِم من حَيْثُ كَونه سائراً، وَيُشبه الْقَاعِد من حَيْثُ كَونه مُسْتَقرًّا على الدَّابَّة.

5618 - حدّثنامالِكُ بنُ إسْماعيلَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي سَلَمَةَ أخْبرنا أبُو النَّضْرِ عنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنْ أمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ أَنَّهَا أرْسَلَتْ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ واقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فأخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ.
زَادَ مالِكٌ عنْ أبي النَّضْرِ: عَلى بَعِيرِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمَالك بن إِسْمَاعِيل أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ الْكُوفِي من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، وروى مُسلم عَن هَارُون بن عبد الله عَنهُ فِي الْحُدُود، قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة بِفتْحَتَيْنِ الْمَاجشون وَاسم أبي سَلمَة دِينَار وَهُوَ جد عبد الْعَزِيز لِأَنَّهُ ابْن عبد الله بن أبي سَلمَة، وَأَبُو النَّضر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة، واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة مولى عمر بن عبيد الله بن معمر الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمدنِي، وَعُمَيْر مصغر عَمْرو مولى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَأم الْفضل بنت الْحَارِث وَاسْمهَا لبَابَة بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى وَالثَّانيَِة، زوج الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.
والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب شرب اللَّبن، أخرجه عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن سَالم أبي النَّضر إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا أَنه أخرجه أَيْضا فِي الْحَج عَن القعْنبِي، وَفِي الصَّوْم عَن عبد الله بن يُوسُف، وَعَن مُسَدّد. فَإِن قلت: ذكر فِي: بَاب شرب اللَّبن، أَن عُمَيْرًا مولى أم الْفضل، وَذكر هُنَا أَنه مولى ابْن عَبَّاس. قلت: أم الْفضل أم ابْن عَبَّاس، وَلما كَانَ عُمَيْر مولى للْأُم وملازماً للِابْن صحت النسبتان، وَالْإِضَافَة صَحِيحَة بِأَدْنَى مُلَابسَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (زَاد مَالك عَن أبي النَّضر) أَي: زَاد مَالك بن أنس فِي رِوَايَته عَن أبي النَّضر سَالم لفظ: (على بعيره) يَعْنِي: شرب وَهُوَ على بعيره،

(21/194)


وبهذه الزِّيَادَة تتضح الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، فَإِذا جَازَ الشّرْب قَائِما على الأَرْض فالشرب على الدَّابَّة أَحْرَى بِالْجَوَازِ لِأَن الرَّاكِب أشبه بالحالين.

18 - (بابٌ الأيْمَنُ فالأيْمَنُ فِي الشُّرْبِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ يقدم الَّذِي على يَمِين الشَّارِب، فارتفاع الْأَيْمن بِالْفِعْلِ الْمُقدر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَيجوز أَن يكون مَرْفُوعا على أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، وَالتَّقْدِير: الْأَيْمن أَحَق لفضيلة الْيَمين على الشمَال. قَوْله: (فالأيمن) عطف عَلَيْهِ، وَيجوز فيهمَا النصب أَيْضا أَي: أعْط الْأَيْمن. فالأيمن. قَوْله: (فِي الشّرْب) أَعم من شرب المَاء وَغَيره من المشروبات، وَنقل عَن مَالك وَحده أَنه خصّه بِالْمَاءِ قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك.

5619 - حدّثنا إسْماعيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهاب عنْ أنَسِ ابْن مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِماءٍ وعَنْ يَمينِه أعْرَابِيُّ وعَنْ شِمالهِ أبُو بَكرٍ، فَشَرِبَ ثمَّ أعْطَى الأعْرَابِيَّ، وَقَالَ: الأيْمَنَ فالأيْمَنَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس. والْحَدِيث مر عَن قريب فِي أول شرب اللَّبن بِالْمَاءِ.
قَوْله: (قد شيب) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي من الشوب وَهُوَ الْخَلْط، وأصل شيب شوب قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا. قَوْله: (وَعَن يَمِينه أَعْرَابِي) الْوَاو فِيهِ للْحَال أَي: وَالْحَال أَن الَّذِي عَن يَمِينه أَعْرَابِي، وَالَّذِي عَن شِمَاله أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِن قلت: يُقَال: عَن يَمِينه وعَلى يَمِينه، وَعَن شِمَاله وعَلى شِمَاله، فَمَا الْفرق بَينهمَا؟ قلت: معنى: على يَمِينه، أَنه تمكن من جِهَة الْيَمين تمكن المستعلي من المستعلى عَلَيْهِ، وَمعنى: عَن يَمِينه، أَنه جلس متجافياً عَن صَاحب الْيَمين، ثمَّ كثر اسْتِعْمَاله فِي المتجافي وَغَيره، وَقَالَ الملهب: التَّيَامُن فِي الْأكل وَالشرب وَجَمِيع الْأَشْيَاء من السّنَن، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يحب التَّيَامُن استشعاراً مِنْهُ بِمَا شرف الله عز وَجل بِهِ أهل الْيَمين. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا أعْطى الْأَعرَابِي لِأَنَّهُ كَانَ من كبار قومه، وَلذَلِك جلس عَن يَمِينه. قلت: الْأَظْهر أَنه سنة، أَو لَعَلَّه سبق إِلَى الْيَمين، فَلذَلِك لم يقمه لأجل الصدِّيق، فَإِنَّهُ سبقه بِهِ بِخِلَاف الصَّلَاة، لقَوْله: ليلني مِنْكُم أولو الأحلام والنهى، وَإِن لم يكن فِي الْيَمين أحد فالأكبر الْأَكْبَر، كَمَا مضى فِي مَوْضِعه.

19 - (بابٌ هَلْ يَسْتَأذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الأكْبَر)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ: هَل يسْتَأْذن الرجل أَي: يطْلب الْإِذْن من الَّذِي هُوَ جَالس على يَمِينه، وَقَوله: من، بِفَتْح الْمِيم مَوْصُولَة، وَإِنَّمَا لم يجْزم الحكم وَذكره بِصُورَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار لكَونهَا وَاقعَة عين فيتطرق إِلَيْهَا احْتِمَال التَّخْصِيص، فَلَا يطرد الحكم فِيهَا لكل جليس.

5620 - حدّثناإسْماعيلُ قَالَ: حَدثنِي مالِكٌ عنْ أبي حازِمِ بنِ دِينارٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وعنْ يَمِينِهِ غُلامٌ وعنْ يَسارِهِ الأشْياخُ، فَقَالَ لِلْغُلامِ: أتأذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَ هاؤلاءِ؟ فَقَالَ الغُلامُ: وَالله يَا رسولَ الله لَا أُوثِرُ بِنَصِيبي منْكَ أحَداً. قَالَ: فَتَلَّهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَدِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي واسْمه سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا أذن لَهُ أَو أحله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره نَحوه سواهُ وَمضى أَيْضا فِي الْهِبَة عَن يحيى بن قزعة وقتيبة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب الْمَظَالِم.
قَوْله: (غُلَام) الْأَصَح أَنه كَانَ عبد الله بن عَبَّاس، والأشياخ: خَالِد بن الْوَلِيد وَغَيره. قَوْله: (أتأذن لي؟) فَإِن قلت: لم يقل فِي حَدِيث أنس: أتأذن لي؟ قلت: أجَاب النَّوَوِيّ وَغَيره بِأَن السَّبَب فِيهِ أَن الْغُلَام كَانَ ابْن عَمه وَله عَلَيْهِ إدلال، وَكَانَ من الْيَسَار أقَارِب الْغُلَام أَيْضا

(21/195)


وَطيب نَفسه مَعَ ذَلِك بالإستئذان لبَيَان الحكم وَأَن السّنة تَقْدِيم الْأَيْمن، وَلَو كَانَ مفضولاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى من على الْيَسَار. فَإِن قلت: قد يُعَارض حَدِيث سهل هَذَا وَحَدِيث أنس الَّذِي مضى عَن قريب حَدِيث سهل بن أبي خَيْثَمَة الْآتِي فِي الْقسَامَة: كَبركبر، وَتقدم فِي الطَّهَارَة حَدِيث ابْن عمر فِي الْأَمر بمناولة السِّوَاك الْأَكْبَر، وأخص من هَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي أخرجه أَبُو يعلى بِسَنَد قوي قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سقِِي قَالَ: ابدأوا بالأكبر. قلت: الْجَواب فِي هَذَا أَنه مَحْمُول على الْحَالة الَّتِي يَجْلِسُونَ فِيهَا متساويين، إِمَّا بَين يَدي الْكَبِير أَو عَن يسَاره كلهم أَو خَلفه أَو حَيْثُ لَا يكون فيهم، فيخص هَذِه الصُّورَة من عُمُوم تَقْدِيم الْأَيْمن، أَو يخص من عُمُوم هَذَا الْأَثر بالبداءة بالكبير مَا إِذا جلس بعض عَن يَمِين الرئيس وَبَعض عَن يسَاره، فَفِي هَذِه الصُّورَة يقدم الصَّغِير على الْكَبِير والمفضول على الْفَاضِل، وَيظْهر من هَذَا أَن الْأَيْمن مَا امتاز بِمُجَرَّد الْجُلُوس فِي الْجِهَة الْيُمْنَى، بل لحُصُول كَونهَا يَمِين الرئيس، فالفضل إِنَّمَا فاض عَلَيْهِ من الْأَفْضَل. قَوْله أتأذن لي؟ ظَاهره أَنه لَو أذن لَهُ لأعطاهم، وَيُؤْخَذ من ذَلِك جَوَاز الإيثار بِمثل ذَلِك. قيل: إِنَّه مُشكل على مَا اشْتهر من أَنه لَا إِيثَار بِالْقربِ، وَإِنَّمَا الإيثار الْمَحْمُود مَا كَانَ من حظوظ النَّفس دون الطَّاعَات، وَقد اقْتصر القَاضِي فِي النَّقْل عَن الْعلمَاء على كَرَاهَة الإيثار بِالْقربِ بِخِلَاف مَا يتوهمه كثير من النَّاس أَنه يحرم الإيثار بِالْقربِ. قَوْله: (فتله) بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد اللَّام أَي: وَضعه، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَضعه بعنف، وَأَصله من الرَّمْي على التل وَهُوَ الْمَكَان العالي الْمُرْتَفع، ثمَّ اسْتعْمل فِي كل شَيْء يرْمى بِهِ وَفِي كل إِلْقَاء.

20 - (بابُ الكَرْعِ فِي الحَوْضِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الكرع بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الرَّاء وَهُوَ الشّرْب من الْحَوْض أَو من النَّهر بالفم، وَهُوَ من كرع يكرع من بَاب فتح يفتح، وَقد جَاءَ بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي من بَاب علم يعلم، وَقَالَ ابْن سَيّده: كرع تنَاول بِفِيهِ من غير إِنَاء، وَقيل: هُوَ أَن يدْخل النَّهر فيشرب، وَقيل: هُوَ أَن يصوب رَأسه فِي المَاء وَإِن لم يشرب، وَفِي (الْجَامِع) : كل خائض فِي المَاء فَهُوَ كارع شرب أَو لم يشرب، وَفِي (التَّهْذِيب) : كرع فِي الْإِنَاء إِذا أمال نَحوه عينه فَشرب مِنْهُ.

5621 - حدّثنايَحياى بنُ صالِحِ حدَّثنا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ عنْ سَعِيدِ بنِ الحارِثِ عنْ جابِرِ ابنِ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَخَلَ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَار ومَعَه صاحِبٌ لهُ، فَسَلَّمَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحِبُهُ، فَرَدَّ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رسولَ الله {بِأبي أنْتَ وأُمِّي، وهْيَ ساعَةٌ حارَّةٌ، وهْوَ يُحَوِّلُ فِي حائِطٍ لَهُ يَعْنِي المَاء فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن كانَ عندِكَ مَاء بَات فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كرعنا وَالرجل يحول الماءَ فِي حَائِط. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رسولَ الله} عِنْدِي ماءٌ باتَ فِي شَنَّةٍ، فانْطَلَقَ إِلَى العَرِيشِ فَسكَبَ فِي قَدَحٍ مَاء ثُمَّ حَلَبَ عليْه مِنْ داجِنٍ لهُ فَشَرِبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثُمَّ أعادَ فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جاءَ مَعَهُ. (انْظُر الحَدِيث: 5643) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وإلاَّ كرعنا) وَيحيى بن صَالح الوحاظي أَبُو زَكَرِيَّا، وَيُقَال: أَبُو صَالح الشَّامي الدِّمَشْقِي، وَيُقَال: الْحِمصِي وَهُوَ من جملَة الْأَئِمَّة الْحَنَفِيَّة وَأَصْحَاب الإِمَام أبي حنيفَة وَكَانَ عديل مُحَمَّد بن الْحسن إِلَى مَكَّة وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب شرب اللَّبن بِالْمَاءِ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أَحْمد بن مَنْصُور الزيَادي.
قَوْله: (فَرد الرجل) أَي: السَّلَام. قَوْله (بِأبي أَنْت وَأمي) أَي: أَنْت مفدًى بِأبي وَأمي. قَوْله: (وَالرجل يحول المَاء) إِنَّمَا كَرَّرَه لِأَنَّهُمَا حالان بِاعْتِبَار فعلين مُخْتَلفين، والتحويل هُوَ النَّقْل من قَعْر الْبِئْر إِلَى ظَاهره، أَو إِجْرَاء المَاء من جَانب إِلَى جَانب فِي بستانه.

21 - (بابُ خِدْمَةِ الصِّغارِ الكِبارَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خدمَة الصغار الْكِبَار.

5622 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ أبيهِ وَقَالَ: سَمِعْتُ أنَساً رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كُنْتُ قَائِما عَلى

(21/196)


الحَيِّ أسْقِيهِمْ عُمُومَتي وَأَنا أصْغَرُهُمُ الفَضِيخَ، فَقيلَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ، فَقَالَ: اكْفِئْها، فَكفَأنا. قُلْتُ. لأنَسٍ: مَا شَرَابهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وبُسْرٌ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ بنُ أنَسٍ: وكانَتْ خَمْرَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ أنَسٌ.
وحدَّثني بَعْضُ أصْحابي أنَّهُ سَمِعَ أنَساً يَقُولُ: كانتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومعتمر يرْوى عَن أَبِيه سُلَيْمَان. والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل الْأَشْرِبَة فِي: بَاب نزل تَحْرِيم الْخمر وَهِي من الْبُسْر وَالتَّمْر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا االإسناد وَعين هَذَا الْمَتْن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (عمومتي) بدل أَو مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، والفضيخ بالمعجمتين.