عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 22 - (بابُ تَغْطِيَةِ الإناءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَغْطِيَة الْإِنَاء.
5623 - حدّثناإسْحاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنَا رَوْحُ بنُ
عُبادَةَ أخبرَنا ابنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبرنِي عَطاءٌ
أنَّهُ سَمِعَ جابرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنْهُمَا
يَقُولُ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا
كانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أوْ أمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا
صِبْيانَكُمْ، فإنَّ الشَّياطينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ،
فإِذا ذَهَبَ ساعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ
وأغْلِقُوا الأَبْوابَ واذْكُرُوا اسْمَ الله، فإِنَّ
الشَّيْطانَ لاَ يَفْتَحُ بَابا مُغْلَقاً، وأوْكُوا
قِرَبَكُمْ واذْكُرُوا اسْمَ الله، وخَمِّرُوا آنيَتَكُمْ
واذْكُروا اسْمَ الله، ولوْ أنْ تَعْرُضُوا عَلَيْها
شَيْئاً، وأطْفِؤوا مَصابِيحَكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وخمروا آنيتكم)
لِأَن مَعْنَاهُ: غطوا آنيتكم.
وَإِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج أَبُو يَعْقُوب
الْمروزِي، انْتقل بِآخِرهِ إِلَى نيسابور، وَابْن جريج
عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء بن أبي
رَبَاح.
والْحَدِيث قد مر فِي صفة إِبْلِيس فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن يحيى بن جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن عبد الله
الْأنْصَارِيّ عَن ابْن جريج إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام
فِيهِ.
قَوْله: (جنح اللَّيْل) بِكَسْر الْجِيم وَضمّهَا الظلام
مَعْنَاهُ طَائِفَة من ظلام اللَّيْل. قَوْله: (أَو
أمسيتم) أَي: دَخَلْتُم فِي الْمسَاء. قَوْله: (فكفوا
صِبْيَانكُمْ) أَي: امنعوهم من الْخُرُوج فِي هَذَا
الْوَقْت أَي: يخَاف عَلَيْهِم حينئذٍ لِكَثْرَة
الشَّيَاطِين وإيذائهم، وَقَالَ ابْن بطال: خشِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على الصّبيان عِنْد انتشار الْجِنّ أَن تلم
بهم فتصرعهم، فَإِن الشَّيْطَان قد أعطَاهُ الله تَعَالَى
قُوَّة عَلَيْهِ. وَأَعْلَمنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن التَّعَرُّض للفتن. مِمَّا لَا
يَنْبَغِي وَأَن الاحتراس مِنْهَا أحزم على أَن ذَلِك
الاحتراس لَا يرد قدرا، وَلَكِن ليبلغ النَّفس عذرها،
وَلِئَلَّا يتسبب لَهُ الشَّيْطَان إِلَى لوم نَفسه فِي
التَّقْصِير. قَوْله: (فحلوهم) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة،
وَقَالَ: الْكرْمَانِي: فحلوهم بإعجام الْخَاء. قَوْله:
(وأوكوا) من أوكى مَا فِي سقائه إِذا شده بالوكاء وَهُوَ
مَا يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة. قَوْله: (وخمروا) من التخمير
وَهُوَ التغطية. قَوْله: (وَلَو أَن تعرضوا) بِضَم الرَّاء
وَكسرهَا أَي: إِن لم يَتَيَسَّر التغطية بكمالها فَلَا
أقل من وضع عود على عرض الْإِنَاء، وَجَوَاب: لَو مَحْذُوف
نَحْو: لَكَانَ كَافِيا. وَإِنَّمَا أَمر بالتغطية لِأَن
فِي السّنة لَيْلَة ينزل فِيهَا وباء وبلاء لَا يمر
بِإِنَاء مَكْشُوف إلاَّ نزل فِيهِ من ذَلِك، والأعاجم
يتوقعون ذَلِك فِي كانون الأول. قَوْله: (واطفئوا
مصابيحكم) وَهُوَ جمع مِصْبَاح، وَذَلِكَ لأجل الْفَأْرَة
فَإِنَّهَا تضرم على النَّاس بُيُوتهم، وَأما الْقَنَادِيل
الْمُعَلقَة فِي الْمَسَاجِد والبيوت فَإِن خيف مِنْهَا
أَيْضا فتطفأ وإلاَّ فَلَا.
5624 - حدّثنامُوسَى بنُ إسْماعيلَ حَدثنَا هَمَّامٌ عنْ
عَطاءٍ عنْ جابِرٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: أطْفِئُوا المَصابِيحَ إذَا رقَدْتُمْ،
وغَلِّقُوا الأبْوَابَ وأوْكُوا الأسْقِيَةَ وخَمِّرُوا
الطَّعامَ والشَّرَابَ، وأحْسِبُهُ قَالَ: ولَوْ بِعُودٍ
تَعْرُضُهُ عليْهِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور أخرجه عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي عَن همام
بن يحيى
(21/197)
عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن جَابر رَضِي
الله عَنهُ قَوْله: (الأسقية) جمع سقاء بِكَسْر السِّين
وَهُوَ ظرف المَاء. قَوْله: (خمروا) أَي: غطوا من التخمير.
23 - (بَاب اخْتِناثِ الأسْقِيَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اختناث الأسقية الاختناث
من اختنث السقاء إِذا ثنيته إِلَى خَارج فَشَرِبت مِنْهُ،
وَأَصله التكسر والانطواء، وَمِنْه سمي الرجل المتشبه
بِالنسَاء فِي أَفعاله مخنثاً، والأسقية جمع سقاء وَهُوَ
ظرف مَاء.
5625 - حدّثنا آدَمُ حَدثنَا ابنُ أبي ذِئْبٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ
عُتْبَةَ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عنهُ
قَالَ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ
اخْتِناثِ الأسْقِيَةِ، يَعْنِي: أنْ تُكْسَرَ أفْوَاهُها
فَيَشْرَبَ مِنْها. (انْظُر الحَدِيث: 5625 طرفه فِي:
5626) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وآدَم هُوَ ابْن أبي
إِيَاس، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
بن الْمُغيرَة بن الْحَارِث، فَقِيه أهل الْمَدِينَة
مِمَّن كَانَ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ، وَاسم أبي سعيد
الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن عمر والناقد
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن ماجة من رِوَايَة
يُونُس.
قَوْله: (يَعْنِي: أَن تكسر أفواهها) المُرَاد من كسرهَا
ثنيها لَا كسرهَا حَقِيقَة وَلَا إبانتها، ولأفواه جمع فَم
على سَبِيل الرَّد إِلَى الأَصْل لِأَن أصل فَم فوه حذفت
مِنْهُ الْهَاء لاستثقالها عِنْد الضَّمِير لَو قيل: فوهه،
فَلَمَّا حذفت عوضت عَنْهَا الْمِيم. وَقَالَ الْخطابِيّ:
أَحسب أَن قَوْله: يَعْنِي: أَن تكسر أفواهها عَن
الزُّهْرِيّ فَيكون هَذَا التَّفْسِير مدرجاً، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ أَن أَحْمد رَوَاهُ عَن أبي النَّضر عَن ابْن أبي
ذِئْب بِحَذْف لفظ: يَعْنِي وَقَالَ الْمُهلب: معنى هَذَا
النَّهْي وَالله أعلم على وَجه الْأَدَب لجَوَاز أَن يكون
فِي أفواهها حَيَّة أَو بعض الْهَوَام لَا يدريها
الشَّارِب فَيدْخل فِي جَوْفه. وروى ابْن ماجة وَالْحَاكِم
فِي (مُسْتَدْركه) من رِوَايَة زَمعَة بن صَالح عَن سَلمَة
بن وهرام قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن اختناث الأسقية وَأَن رجلا بَعْدَمَا نهى رَسُول الله
قَامَ من اللَّيْل إِلَى السقاء فاختنثه فَخرجت مِنْهُ
حَيَّة.
5626 - حدّثنامُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أخْبَرنا عبْدُ الله
أخْبرنا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدّثني عُبَيْدُ
الله بنُ عبْدِ الله أنَّهُ سمِعَ أَبَا سَعيدٍ
الخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَنْهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ.
قَالَ عبْدُ الله: قَالَ مَعْمَرٌ، أوْ غَيْرُهُ: هُوَ
الشُّرْبُ مِنْ أفْوَاهِها. (انْظُر الحَدِيث: 5625) .
هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث أبي سعيد أخرجه عَن مُحَمَّد
بن مقَاتل الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي
عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ، وَعَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة أَنه
سمع أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ، وَهنا صرح عبيد الله
بِالسَّمَاعِ عَن أبي سعيد، بِخِلَاف الطَّرِيق الأول،
فَإِنَّهُ بالعنعنة وَكَذَلِكَ صرح أَبُو سعيد هُنَا
بِالسَّمَاعِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بِخِلَاف الطَّرِيق الأول.
قَوْله: (قَالَ عبد الله) هُوَ ابْن الْمُبَارك وَقَالَ
معمر بن رَاشد أَو غَيره أَي: غير معمر: (هُوَ الشّرْب)
يَعْنِي اختناث الأسقية هُوَ الشّرْب من أَفْوَاه الأسقية،
وَشك عبد الله فِي هَذَا التَّفْسِير، هَل قَالَه معمر أَو
غَيره؟ وَأخرجه مُسلم من غير تردد: حَدثنِي حَرْمَلَة بن
يحيى أخبرنَا ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ
قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
اختناث الأسقية أَن يشرب من أفواهها، فَإِن قلت: قَالَ
ابْن حزم: فَإِن قيل: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرب
من فَم قربَة؟ قُلْنَا: لَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهُ، لِأَن
أَحدهمَا من طَرِيق الْحَارِث بن أبي أُسَامَة وَقد ترك،
وَفِيه الْبَراء ابْن بنت أنس وَهُوَ مَجْهُول، وَآخر من
طَرِيق رجل لم يسم قلت: أحد الْحَدِيثين اللَّذين ذكرهمَا
رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالتِّرْمِذِيّ فِي
الشَّمَائِل من رِوَايَة عبد الْكَرِيم الْجَزرِي عَن
الْبَراء ابْن بنت أنس بن مَالك عَن أنس بن مَالك: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل وقربة معلقَة فَشرب
من فَم الْقرْبَة ... الحَدِيث، والبراء هَذَا ذكره ابْن
حبَان فِي الثِّقَات، وَبَاقِي رُوَاته مُحْتَج بهم، وتابع
الْبَراء
(21/198)
عَلَيْهِ حميد الطَّوِيل، رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ فِي كتاب (شرح مَعَاني الْآثَار) من رِوَايَة
شريك عَن حميد عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم شرب من قربَة مَاء معلقَة وَهُوَ قَائِم ...
والْحَدِيث الآخر الَّذِي فِيهِ رجل لم يسم.
24 - (بابُ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ورد من النَّهْي عَن
الشّرْب من فَم السقاء، وَيجوز تَشْدِيد الْمِيم، ويروى:
من فِي السقاء، قيل: لم يكتف البُخَارِيّ بالترجمة الَّتِي
قبلهَا لِئَلَّا يظنّ أَن النَّهْي خَاص بِصُورَة
الاختناث، وَأَشَارَ بِأَن النَّهْي يعم مَا يُمكن اختناثه
وَمَا لَا يُمكن كالفخار مثلا. قلت: روى أَحَادِيث تدل على
جَوَاز الشّرْب من فَم السقاء، مِنْهَا: مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة عَن
جدته كَبْشَة، قَالَت: دخل على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَشرب من فِي قربَة معلقَة، وَقَالَ:
حَدِيث حسن صَحِيح. وَمِنْهَا: حَدِيث أنس بن مَالك
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل، وَقد ذَكرْنَاهُ
قبل هَذَا الْبَاب. وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن أنيس
عَن أَبِيه قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَامَ إِلَى قربَة معلقَة فخنقها ثمَّ شرب من فمها،
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد، وَقد صَحَّ عَن
جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فعل ذَلِك، فروى
ابْن أبي شيبَة فِي (المُصَنّف) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا بالشرب من فِي
الْإِدَاوَة، وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: رَأَيْت ابْن
عمر رَضِي الله عَنْهُمَا يشرب من فِي الْإِدَاوَة، وَعَن
نَافِع، أَن ابْن عمر كَانَ يشرب من فِي السقاء، وَعَن
عباد بن مَنْصُور قَالَ: رَأَيْت سَالم بن عبد الله بن عمر
يشرب من فِي الْإِدَاوَة.
فَإِن قلت: كَيفَ يجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي
تدل على الْجَوَاز وَبَين حَدِيثي الْبَاب اللَّذين يدلان
على الْمَنْع؟ قلت: قَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: لَو فرق
بَين مَا يكون لعذر كَأَن تكون الْقرْبَة معلقَة وَلم يجد
الْمُحْتَاج إِلَى الشّرْب إِنَاء متيسراً وَلم يتَمَكَّن
من التَّنَاوُل بكفه فَلَا كَرَاهَة حينئذٍ، وعَلى هَذَا
تحمل هَذِه الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة، وَبَين مَا يكون
لغير عذر فَيحمل عَلَيْهِ أَحَادِيث النَّهْي. قيل: لم يرد
حَدِيث من الْأَحَادِيث الَّتِي تدل على الْجَوَاز إلاَّ
بِفِعْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَحَادِيث النَّهْي
كلهَا من قَوْله فَهِيَ أرجح، وَالله أعلم.
5627 - حدّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ
حَدثنَا أيُّوبُ قَالَ: قَالَ لَنا عِكْرِمَةُ: ألاَ
أُخْبرُكُمْ بأشْياءَ قِصارٍ حَدثنَا بِها أبُو
هُرَيْرَةَ: نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ القِرْبَةِ أوِ السِّقاءِ وأنْ
يَمْنَعَ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 2463 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يُوضح
الْإِبْهَام الَّذِي فِيهَا وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن
الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَيوب
هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَعِكْرِمَة هُوَ مولى ابْن عَبَّاس
رَضِي الله عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه ابْن ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن بشر بن
هِلَال الصَّواف عَن عبد الْوَارِث بن سعيد عَن أَيُّوب
بِهِ.
قَوْله: (حَدثنَا) فَاعل حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة،
وَالضَّمِير فِي: بهَا، يرجع إِلَى قَوْله: (بأَشْيَاء)
وَالَّذِي أخبر بِهِ شَيْئَانِ، وَقد قَالَ: أَلا أخْبركُم
بأَشْيَاء؟ وَلَعَلَّه أخبر بهَا وَلم يذكرهَا بعض
الروَاة، وَيجوز أَن يكون ذَلِك عمدا أَو نِسْيَانا،
وَقيل: أَو يكون أقل الْجمع عِنْده اثْنَان، وَبَين
قَوْله: حَدثنَا، وَبَين قَوْله: أَلا أخْبركُم؟ شَيْء
مُقَدّر تَقْدِيره: أَلا أخْبركُم بأَشْيَاء قصار؟
قُلْنَا: نعم، أَو نَحْو ذَلِك، فَقَالَ: حَدثنَا بهَا.
قَوْله: (أَو السقاء) شكّ من الرَّاوِي، وَالْفرق بَين
الْقرْبَة والسقاء أَن الْقرْبَة للْمَاء والسقاء للْمَاء
وَاللَّبن. قَوْله: (وَأَن يمْنَع) أَي: وَنهى أَن يمْنَع
الشَّخْص جَاره أَن يغرز أَي: بِأَن يغرز، وَأَن
مَصْدَرِيَّة أَي: غرز خَشَبَة، بِإِضَافَة الْخشب إِلَى
الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْجَار، ويروى: خَشَبَة
بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (فِي دَاره) ويروى: فِي جِدَاره،
وَهَذَا أوضح (. وَفِي (التَّوْضِيح) : هُوَ عندنَا وَعند
مَالك مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب، وَالْقَدِيم عندنَا
وُجُوبه، وَبِه قَالَ ابْن حبيب وَغَيره.
5628 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا إسْماعيلُ أخبرنَا
أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ
يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقاءِ. (انْظُر الحَدِيث: 2463
وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث
السَّابِق. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: اتَّفقُوا على أَن
النَّهْي هُنَا للتنزيه لَا للتَّحْرِيم قيل فِي دَعْوَاهُ
الِاتِّفَاق نظر، لِأَن أَبَا بكر الْأَثْرَم صَاحب أَحْمد
أطلق أَن أَحَادِيث النَّهْي
(21/199)
ناسخة للْإِبَاحَة لأَنهم كَانُوا أَولا
يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى وَقع دُخُول الْحَيَّة فِي بطن
الَّذِي شرب من فَم السقاء، فنسخ الْجَوَاز. وَوجه
الْحِكْمَة فِي النَّهْي مَا قَالَه قوم من أَنه لَا يُؤمن
من دُخُول شَيْء من الْهَوَام مَعَ المَاء فِي جَوف السقاء
فَيدْخل فَم الشَّارِب وَلَا يدْرِي فعلى هَذَا لَو مَلأ
السقاء وَهُوَ يُشَاهد المَاء الَّذِي يدْخل فِيهِ، ثمَّ
ربطه ربطاً محكماً، ثمَّ لما أَرَادَ أَن يشرب حلّه فَشرب
مِنْهُ لَا يتَنَاوَلهُ النَّهْي، وَقيل: مَا أخرجه
الْحَاكِم من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بِسَنَد
قوي بِلَفْظ: نهى أَن يشرب من فِي السقاء، لِأَن ذَلِك
ينتنه، وَهَذَا عَام، وَقيل: إِن الَّذِي يشرب المَاء من
فَم السقاء قد يغلبه المَاء فينصب مِنْهُ أَكثر من حَاجته
فَلَا يَأْمَن أَن يشرق بِهِ أَو تبتل ثِيَابه. وَقيل:
ينزل بِقُوَّة فَيقطع الْعُرُوق الضعيفة الَّتِي بِإِزَاءِ
الْقلب، فَرُبمَا كَانَ سَببا للهلاك.
5629 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ
حدَّثنا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسِ رَضِي
الله عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وخَالِد هُوَ الْحذاء.
والْحَدِيث أخرجه ابْن ماجة فِي الْأَشْرِبَة عَن بكر بن
خلف عَن يزِيد بن زُرَيْع بِهِ.
25 - (بابُ النَّهْيِ عنِ التَّنفُّسِ فِي الإِناء)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن التنفس فِي
الْإِنَاء عِنْد الشّرْب، والتنفس أَخذ النَّفس.
5630 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا شَيْبانُ عنْ يَحْيَى
عنْ عبْدِ الله بنِ أبي قَتادَةَ عنْ أبِيه قَالَ: قَالَ
رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إذَا شَرِبَ
أحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإناءِ، وإذَا بَال
أحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وإِذَا
تَمَسَّحَ أحَدُكُمْ فَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمينِهِ. (انْظُر
الحَدِيث: 153 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى
هُوَ ابْن أبي كثير، وَاسم أبي قَتَادَة الْحَارِث بن ربعي
الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب النَّهْي
عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ
عَن معَاذ بن فضَالة عَن هِشَام عَن يحيى بن أبي كثير
إِلَى آخِره، وَلَفظه هُنَاكَ: وَإِذا أَتَى الْخَلَاء
فَلَا يمس ذكره بِيَمِينِهِ وَلَا يتمسح بِيَمِينِهِ، وَمر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَرُوِيَ:
لَا يتنفس وَلَا يمسح وَلَا يتمسح، بِالنَّفْيِ
وَالنَّهْي. وَقَالَ الملهب: التنفس إِنَّمَا نهى عَنهُ
كَمَا نهى عَن النفخ فِي الطَّعَام وَالشرَاب وَالله أعلم
من أجل أَنه لَا بُد أَن يَقع فِيهِ شَيْء من رِيقه فيعافه
الطاعم لَهُ ويستقذر أكله فَنهى لذَلِك لِئَلَّا يفْسد على
من يُرِيد تنَاوله، وَهَذَا إِذا أكل أَو شرب مَعَ غَيره،
وَإِذا كَانَ وَحده أَو مَعَ من يعلم أَنه لَا يستقذر
شَيْئا مِنْهُ فَلَا بَأْس بالتنفس فِي الْإِنَاء.
26 - (بابُ الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أوْ ثَلاَثَةٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشّرْب بنفسين أَو ثَلَاثَة
أنفاس قيل: بَين الترجمتين مَعَ حديثيهما تعَارض، لِأَن
التَّرْجَمَة الأولى فِي النَّهْي عَن التنفس فِي
الْإِنَاء، وَهَذِه فِي ثُبُوت التنفس. وَأجِيب بأجوبة
مُخْتَلفَة، وأحسنها أَن البُخَارِيّ جعل الْإِنَاء فِي
التَّرْجَمَة الأولى ظرفا للتنفس، وَالنَّهْي عَنهُ
لاستقذاره، وَقَالَ فِي هَذِه التَّرْجَمَة: الشّرْب
بنفسين فَجعل التنفس للشُّرْب أَن لَا يقْتَصر على نفس
وَاحِد بل يفصل بَين الشربين بنفسين أَو ثَلَاثَة خَارج
الْإِنَاء، فَبِهَذَا يَنْتَفِي التَّعَارُض.
5631 - حدّثناأبُو عاصِمٍ وأبُو نُعَيْمٍ قَالَا: حَدثنَا
عَزْرَةُ بنُ ثابِتٍ قَالَ: أَخْبرنِي ثُمامَةُ بنُ عبْدِ
الله قَالَ: كانَ أنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإناءٍ
مرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً، وزَعَم أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك
بن مخلد النَّبِيل، وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وعزرة
بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي بعْدهَا رَاء
ابْن ثَابت بالثاء الْمُثَلَّثَة فِي أَوله الْأنْصَارِيّ
التَّابِعِيّ أَصله من الْمَدِينَة نزل الْبَصْرَة، وَقد
سمع من جده لأمه عبد الله بن يزِيد الخطمي، وَعبد الله بن
أبي أوفى وَغَيرهمَا، وثمامة بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَتَخْفِيف الْمِيم ابْن عبد الله بن أنس رَضِي الله عَنهُ
يروي عَن جده.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر
وقتيبة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار. وَأخرجه
(21/200)
النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن ابراهيم
بن مَسْعُود وَغَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أَو ثَلَاثًا) يحْتَمل أَن يكون أَو للتنويع أَي:
ثَلَاث مَرَّات، وَيحْتَمل أَن يكون للشَّكّ، وَقد أخرج
إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه الحَدِيث عَن عبد الرَّحْمَن بن
مهْدي عَن عزْرَة بِلَفْظ: كَانَ يتنفس ثَلَاثًا، وَلم
يقل: أَو، وروى التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب
حَدثنَا وَكِيع عَن يزِيد بن سِنَان الْجَزرِي عَن ابْن
عَطاء بن أبي رَبَاح عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تشْربُوا
وَاحِدًا كشرب الْبَعِير، وَلَكِن اشربوا مثنى وَثَلَاث
وَسموا إِذا أَنْتُم شربتم، واحمدوا إِذا أَنْتُم رفعتم.
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَقَالَ بَعضهم: سَنَده
ضَعِيف، فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا. فَهُوَ يقوى مَا تقدم من
التنويع. قلت: قَالَ شَيخنَا: حسّن التِّرْمِذِيّ حَدِيث
ابْن عَبَّاس، وَفِيه: من لم يسم، وَهُوَ ابْن عَطاء بن
أبي رَبَاح، وَكَانَ لَهُ ولدان روى كل وَاحِد مِنْهُمَا
عَنهُ وهما: خَلاد وَيَعْقُوب، وَيَعْقُوب روى لَهُ
النَّسَائِيّ باسمه، وَضَعفه أَحْمد وَابْن معِين وَأَبُو
زرْعَة وَالنَّسَائِيّ، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات.
وَأما خَلاد فَلَيْسَ لَهُ رِوَايَة فِي الْكتب السِّتَّة.
قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ وَيزِيد بن سِنَان: هُوَ أَبُو فَرْوَة
الرهاوي، وَقَالَ شَيخنَا: ضعفه أَحْمد وَابْن معِين
وَابْن الْمَدِينِيّ، وَتَركه النَّسَائِيّ، وَقَالَ
البُخَارِيّ: مقارب الحَدِيث، وَإِنَّمَا قَالَ
التِّرْمِذِيّ وَيزِيد بن سِنَان هُوَ أَبُو فَرْوَة
الرهاوي لِأَن لَهُم يزِيد بن سِنَان المقرىء الْبَصْرِيّ
ثِقَة، روى عَنهُ النَّسَائِيّ، مُتَأَخّر الطَّبَقَة عَن
هَذَا. قَوْله: (وَزعم) أَي: قَالَ: (أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتنفس ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث
مَرَّات. وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا شرب تنفس
مرَّتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيث حسن غَرِيب فَإِن
قلت: مَا التَّوْفِيق بَينهمَا؟ قلت: هَذَا لَيْسَ بِنَصّ
على الْمَرَّتَيْنِ بل هُوَ من بَاب الِاكْتِفَاء،
وَالْأَصْل أَن الْمُسْتَحبّ الشّرْب فِي ثَلَاثَة أنفاس.
وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور عَن قريب، وَهُوَ
قَوْله اشربوا مثنى وَثَلَاث، وَفِيه الِاقْتِصَار على
الشّرْب مرَّتَيْنِ إِذا حصل الِاكْتِفَاء بذلك، وَلَكِن
يَنْبَغِي أَن يزِيد ثَالِثَة، وَإِن اكْتفى بمرتين.
وَاخْتلفُوا: هَل يجوز الشّرْب بِنَفس وَاحِد؟ فَروِيَ عَن
ابْن الْمسيب وَعَطَاء بن أبي رَبَاح أَنَّهُمَا أجازاه
بِنَفس وَاحِد، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وطاووس
وَعِكْرِمَة كَرَاهَة الشّرْب بِنَفس وَاحِد، وَقَالَ ابْن
عَبَّاس: هُوَ شرب الشَّيْطَان، وَقَالَ الْأَثْرَم: هَذِه
الْأَحَادِيث فِي ظَاهرهَا مُخْتَلفَة وَالْوَجْه فِيهَا
عندنَا أَنه يجوز الشّرْب بِنَفس وباثنين وبثلاثة وبأكثر
مِنْهَا، لِأَن اخْتِلَاف الرِّوَايَة فِي ذَلِك يدل على
التسهيل فِيهِ، وَإِن اخْتَار الثَّلَاث فَحسن.
27 - (بابُ الشُّرْب فِي آنِيَةِ الذَّهَب)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّرْب فِي آنِية
الذَّهَب، وَلم يُصَرح بالحكم اكْتِفَاء بِمَا فِي
الحَدِيث من صَرِيح النَّهْي عَن ذَلِك.
5632 - حدّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ
الحَكَمِ عنِ ابنِ أبي لَيْلى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ
بالمَدَائِنِ فاسْتَسْقاى فأتاهُ دِهُقْانٌ بِقَدح فِضَّةٍ
فَرَماهُ بِهِ، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أرْمهِ إلاَّ أنِّي
نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وإنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نهنا عنِ الحَرِيرِ والدِّيباجِ والشُّرْبِ
فِي آنِيَةِ الذَّهَب والفِضَّة. وَقَالَ: هُنَّ لَهُمْ
فِي الدُّنْيا. وَهْيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ. ابقته
للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالشرب فِي آنِية الذَّهَب) .
وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ هُوَ ابْن عتيبة مصغر عتبَة
الدَّار وَابْن أبي ليلى هُوَ عبد الرَّحْمَن، وَحُذَيْفَة
بن الْيَمَان وَاسم الْيَمَان حسل بن جَابر واليمان لقب،
وَهُوَ من كبار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي: بَاب الْأكل
فِي إِنَاء مفضض، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي نعيم
عَن سيف بن أبي سُلَيْمَان عَن مُجَاهِد عَن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَانْظُر التَّفَاوُت بَينهمَا
فِي الْمَتْن والإسناد.
قَوْله: (بِالْمَدَائِنِ) وَهِي مَدِينَة عَظِيمَة على
دجلة بَينهَا وَبَين بَغْدَاد سَبْعَة فراسخ، وَكَانَت
مسكن مُلُوك الْفرس، وَبهَا إيوَان كسْرَى الْمَشْهُور،
وَكَانَ فتحهَا على يَد سعد بن أبي وَقاص فِي خلَافَة عمر،
رَضِي الله عَنهُ، سنة عشر. وَقيل قبل ذَلِك، وَكَانَ
حُذَيْفَة عَاملا عَلَيْهَا فِي خلَافَة عمر ثمَّ عُثْمَان
إِلَى أَن مَاتَ بعد قتل عُثْمَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ
فِي أول خلَافَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (فَاسْتَسْقَى) أَي طلب المَاء للشُّرْب. قَوْله:
(دهقان) بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا بعْدهَا
هَاء سَاكِنة ثمَّ قَاف وَبعد الْألف نون، وَهُوَ زعيم
الْقَوْم وكبير الْقرْيَة بِالْفَارِسِيَّةِ منصرفاً وَغير
منصرف، وَفِي
(21/201)
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: فَأَتَاهُ
إِنْسَان، وَقد مر فِي كتاب الْأَطْعِمَة: فَسَقَاهُ
مَجُوسِيّ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وَكِيع عَن شُعْبَة:
استسقى حُذَيْفَة من دهقان أَو علج. قَوْله: (بقدح فضَّة)
بِالْإِضَافَة مثل خَاتم فضَّة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد
عَن حَفْص شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: بِإِنَاء من فضَّة،
وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عبد الله بن عكيم: كُنَّا
عِنْد حُذَيْفَة فجَاء دهقان بشراب فِي إِنَاء من فضَّة،
وَيَأْتِي فِي اللبَاس عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن
شُعْبَة بِلَفْظ: بِمَاء فِي إِنَاء. قَوْله: (فَرَمَاهُ
بِهِ) أَي: رمى الدهْقَان بالقد، ويوضحه رِوَايَة وَكِيع:
فجذفه بِهِ، قَوْله: (إِنِّي لم أرمه) أَي الْقدح، وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: لم أكسره، وَهَذَا اعتذار من
حُذَيْفَة لِأَنَّهُ تقدم إِلَى دهقان مرّة أَو
مرَّتَيْنِ، وَيَقُول: لم أفعل بِهِ هَذَا، وَهُوَ معنى
قَوْله: (إلاَّ أَنِّي نهيته) أَي: الدهْقَان فَلم ينْتَه،
ويوضح هَذَا رِوَايَة يزِيد: لَوْلَا أَنِّي تقدّمت
إِلَيْهِ مرّة أَو مرَّتَيْنِ، وَرِوَايَة عبد الله بن
عكيم: إِنِّي أَمرته أَن لَا يسقيني فِيهِ، ثمَّ قَالَ:
إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَانَا ... إِلَى
آخِره. قَوْله: (والديباج) هُوَ الثِّيَاب المتخذة من
الإبريسم، وَهُوَ فَارسي مُعرب. قَوْله: (هن) كَذَا هُوَ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي رِوَايَة، أبي دَاوُد: هِيَ،
وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: هُوَ، أَي: جَمِيع مَا ذكر.
قَوْله: (لَهُم) أَي: للْكفَّار، والسياق يدل عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ المُرَاد بقوله: (هن
لَهُم فِي الدُّنْيَا) إِبَاحَة استعمالهم إِيَّاه،
وَإِنَّمَا الْمَعْنى بقوله: (لَهُم) أَي: هم يستعملونه
مُخَالفَة لزي الْمُسلمين، وَكَذَا قَوْله: (وَلكم فِي
الْآخِرَة) أَي: تستعملونه مُكَافَأَة لكم على تَركه فِي
الدُّنْيَا، ويمنعه أُولَئِكَ جَزَاء لَهُم على معصيتهم
بِاسْتِعْمَالِهِ. قلت: الظَّاهِر أَن الَّذِي
يَسْتَعْمِلهُ فِي الدُّنْيَا لَا يتعاطاه فِي الْآخِرَة،
كَمَا فِي شرب الْخمر. وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام
فِي الْخمر على الْوَجْه الَّذِي فِيهَا.
28 - (بابُ آنِيةَ الفِضَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم اسْتِعْمَال آنِية الْفضة.
وَإِنَّمَا أفرد هَذِه التَّرْجَمَة مَعَ أَنَّهَا
دَاخِلَة فِي التَّرْجَمَة السَّابِقَة لِأَن فِي حَدِيث
التَّرْجَمَة الأولى بيَّن حُرْمَة الذَّهَب وَالْفِضَّة
بِلَفْظ الْإِخْبَار بِالْفِعْلِ الْمَاضِي من النَّهْي،
وَهنا بيّن بِلَفْظ: لَا تشْربُوا، وَبَينهمَا فرق لَا
يخفى.
5633 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حَدثنَا ابنُ أبي
عَدِيٍّ عنِ ابنِ عَوْنٍ عنْ مُجاهدٍ عنِ ابنِ أبي
لَيْلَى، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ، وَذَكَر
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تَشْرِبُوا
فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وَلَا تَلْبِسُوا
الحَرِيرَ والدِّيباجَ فإنَّها لَهُمْ فِي الدُّنْيا
ولَكُمْ فِي الآخِرَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَابْن أبي عدي هُوَ
مُحَمَّد، وَاسم أبي عدي إِبْرَاهِيم الْبَصْرِيّ، وَابْن
عون عبد الله بن عون، وَابْن أبي ليلى عبد الرَّحْمَن.
قَوْله: (خرجنَا مَعَ حُذَيْفَة وَذكر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، وَكَذَا ذكره مُخْتَصرا، وَفِيه حذف
كثير بَينه الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: خرجنَا مَعَ
حُذَيْفَة إِلَى بعض السوَاد، فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ
دهقان بِإِنَاء من فضَّة فَرمى بِهِ فِي وَجهه، قَالَ:
فَقُلْنَا: اسْكُتُوا، فَإنَّا إِن سألناه لم يحدثنا،
قَالَ: فسكتنا، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك قَالَ:
أَتَدْرُونَ لِمَ رميت بِهَذَا فِي وَجهه؟ قُلْنَا: لَا.
قَالَ: ذَلِك أَنِّي كنت نهيته. قَالَ: فَذكر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَا تشْربُوا فِي آنِية
الذَّهَب وَالْفِضَّة) . الحَدِيث، وَأَصله فِي (صَحِيح
مُسلم) إلاَّ أَنه ذكر بعضه مقطعاً.
5634 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكُ بنُ أنَسٍ
عنْ نافِعٍ عنْ زَيْدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ
عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي بَكْرٍ
الصِّدِّيق عنْ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رسولَ الله قَالَ: الَّذِي يَشْرَبُ
فِي إناءٍ الفِضَّةِ إنَّما يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نارَ
جَهَنَّم.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي إِنَاء الْفضة)
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَزيد بن عبد الله بن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ تَابِعِيّ ثِقَة،
وَقد مَضَت رِوَايَته عَن أَبِيه فِي إِسْلَام عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى
هذَيْن الْحَدِيثين، وَهَذَا الْإِسْنَاد كُله مدنيون،
وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق هُوَ
ابْن أُخْت أم سَلمَة الَّتِي روى عَنْهَا هَذَا الحَدِيث،
وَأمه قريبَة بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة المخزومية،
وَهُوَ ثِقَة مَاله فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث،
وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا هِنْد بنت أبي
أُميَّة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن يحيى بن يحيى
عَن مَالك بِهِ، وَعَن آخَرين. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْوَلِيمَة عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن غَيره. وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
قَوْله: (يجرجر) بِضَم الْيَاء وَفتح الْجِيم وَسُكُون
الرَّاء
(21/202)
وَكسر الْجِيم الثَّانِيَة من الجرجرة،
وَهُوَ صَوت يردده الْبَعِير فِي حنجرته إِذا هاج نَحْو
صَوت اللجام فِي فك الْفرس، وَالْمعْنَى يصوت فِي بَطْنه
نَار جَهَنَّم، وَقَالَ الدَّاودِيّ: يتجرع نَار جَهَنَّم،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: اتَّفقُوا على كسر الْجِيم
الثَّانِيَة من يجرجر، قيل: رد عَلَيْهِ بِمَا حكى
الْمُوفق بن حَمْزَة الْفَتْح فِي كَلَامه على الْمُهَذّب،
وَجوز ابْن مَالك كَون: يجرجر على الْبناء للْفَاعِل
وَالْمَفْعُول، ورد عَلَيْهِ بِأَن أحدا من الْحفاظ
قَدِيما وحديثاً لم يرو على الْبناء للْمَفْعُول، مَعَ أَن
الأَصْل إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل. قَوْله: (نَار
جَهَنَّم) قَالَ الطَّيِّبِيّ: اخْتلفُوا فِي نَار
جَهَنَّم بِالنّصب أم بِالرَّفْع، وَالصَّحِيح الْمَشْهُور
النصب، وَرجحه الزّجاج والخطابي وَالْأَكْثَرُونَ،
وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الثَّانِيَة. قلت: أَرَادَ بِهِ
مَا رَوَاهُ مُسلم بِلَفْظ، فَإِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه
نَارا من جَهَنَّم، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْأَكْثَر
النصب، والشارب هُوَ الْفَاعِل، وَالنَّار مَفْعُوله.
يُقَال: جرجر فلَان المَاء إِذا جرعه جرعاً متواتراً صَوت،
فَالْمَعْنى: كَأَنَّمَا يجرع نَار جَهَنَّم، وَأما
الرّفْع فمجاز لِأَن جَهَنَّم على الْحَقِيقَة لَا تجرجر
فِي جَوْفه، وَلكنه جعل صَوت تجرع الْإِنْسَان للْمَاء فِي
هَذِه الْأَوَانِي الْمَخْصُوصَة لوُقُوع النَّهْي عَنْهَا
وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب على اسْتِعْمَالهَا كجرجرة نَار
جَهَنَّم فِي بَطْنه بطرِيق الْمجَاز، وَأَجَازَ
الْأَزْهَرِي النصب على أَن الْفِعْل عدى إِلَيْهِ وَابْن
السَّيِّد الرّفْع على أَنه خبر: أَن، وَاسْمهَا: مَا،
الموصولة. قَالَ: وَمن نصب جعل: مَا، زَائِدَة كَافَّة
لِأَن عَن الْعَمَل وَهُوَ نَحْو: {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد
سَاحر} (طه: 69) . فقرىء يرفع: كيد، ونصبه قيل: ويدفعه
أَنه لم يَقع فِي شَيْء من النّسخ بفصل: مَا، من: إِن قلت:
عدم وُقُوعه بِالْفَصْلِ لَا يدْفع مَا قَالَه، فَافْهَم.
5635 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حدَّثنا أبُو
عَوَانَةَ عنِ الأشْعَثِ بنِ سلَيْمٍ عنْ مُعاويَة بنِ
سُوَيْدِ بنِ مُقَرِّنٍ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قَالَ:
أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِسَبْعٍ
ونَهانا عنْ سَبْعٍ، أمَرَنا بِعِيادَة المَرِيضِ
واتِّباعِ الجنازَةِ وتَشْميتِ الْعاطِسِ وإجابَةِ الداعِي
وإفشاءِ السَّلامِ ونَصرِ المَظْلُوم وإبْرَارِ
المُقْسِمِ، ونهانا عنْ خواتِيمِ الذَّهَب وعنِ الشُّرْبِ
فِي الفِضَّةِ أَو قَالَ: آنِيةِ الفِضةِ وعنِ المَياثِرِ
والقَسِّيِّ وعنْ لُبْسِ الحَرِيرِ والدِّيباجِ
والإسْتَبْرَقِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو آنِية الْفضة) .
وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبالنون بعد
الْألف، اسْمه الوضاح الْيَشْكُرِي، والأشعث بالشين
الْمُعْجَمَة ثمَّ بِالْعينِ الْمُهْملَة ثمَّ بالثاء
الْمُثَلَّثَة ابْن سليم مصغر السّلم، وسُويد مصغر السود
ومقرن اسْم فَاعل من التقرين.
والْحَدِيث قد مضى فِي أوائيل الْجَنَائِز فِي: بَاب
الْأَمر بِاتِّبَاع الْجَنَائِز، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ
عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن الْأَشْعَث ... إِلَى
آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وتشميت الْعَاطِس) . بالشين الْمُعْجَمَة
والمهملة، وَهُوَ قَوْلك للعاطس: يَرْحَمك الله، وَهُوَ
سنة على الْكِفَايَة. قَوْله: (وإفشاء السَّلَام) من أفشى
كَلَامه إِذا أذاعه ونشره بَين النَّاس، وَذكر فِي كتاب
الْجِنَازَة: ورد السَّلَام، وَهنا قَالَ: وإفشاء
السَّلَام، لِأَن الْمَقْصُود من السَّلَام مَا يجْرِي
بَين الْمُسلمين عِنْد الملاقاة مِمَّا يدل على الدُّعَاء
لِأَخِيهِ الْمُسلم، وَإِرَادَة الْخَيْر لَهُ ثمَّ لَا
شكّ أَن بعض هَذِه الْأُمُور سنة وَبَعضهَا فَرِيضَة،
فالرد من الْوَاجِبَات والإفشاء من السّنَن، فصح
الاعتباران، وَإِنَّمَا جَازَ إِرَادَة الْفَرِيضَة
وَالسّنة بِإِطْلَاق وَاحِد وَهُوَ لفظ: أمرنَا،
بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز عِنْد الْحَنَفِيَّة وَجَوَاز
إِرَادَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز كليهمَا من لفظ وَاحِد
عِنْد الشَّافِعِيَّة. قَوْله: (وإبرار الْمقسم) بِضَم
الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَكسر السِّين وَهُوَ أَن يفعل
مَا سَأَلَهُ الملتمس. قَوْله: (وخواتيم الذَّهَب) قَالَ
الْجَوْهَرِي: الْخَاتم والخاتِم بِكَسْر التَّاء والخيتام
والخاتام كُله بِمَعْنى الْجمع وَالْخَوَاتِيم. قَوْله:
(أَو قَالَ: آنِية الْفضة) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله:
(والمياثر) جمع الميثرة بِكَسْر الْمِيم من الوثارة
بِالْمُثَلثَةِ يَعْنِي: اللين، وَهِي وطاء كَانَت
النِّسَاء تَصنعهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ على السُّرُوج وأكثرها
من الْحَرِير، وَقيل: هِيَ من الأرجوان الْأَحْمَر، وَقيل:
هِيَ جُلُود السبَاع. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المياثر
الْحمر كَانَت من مراكب الْأَعَاجِم من ديباج أَو حَرِير،
وَقَالَ ابْن التِّين، وَهَذَا أبين لِأَن الأرجوان لم
يَأْتِ فِيهِ تَحْرِيم وَلَا فِي جُلُود السبَاع إِذا
ذكيت. قَوْله: (وَعَن القسي) بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد
السِّين الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة، قَالَ الْكرْمَانِي:
القسي مَنْسُوب إِلَى بلد بِالشَّام: ثوب مضلع بالحرير.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا القسي ثِيَاب من كتَّان
مخلوط بحرير يُؤْتى بهَا من مصر، نسبت إِلَى قَرْيَة على
سَاحل الْبَحْر قَرِيبا من تنيس يُقَال لَهَا: القس،
بِفَتْح الْقَاف، وَبَعض أهل الحَدِيث يكسرها
(21/203)
كَذَا قَالَه ابْن الْأَثِير. قلت: القس
وتنيس والفرماء كلهَا كَانَت بلاداً على سَاحل الْبَحْر
بِالْقربِ من دمياط، وَقد خربَتْ واندرست، وَقيل: أصل
القسي القزي بالزاي مَنْسُوب إِلَى القز وَهُوَ ضرب من
الإبريسم، فأبدل من الزَّاي سين، وَقيل: مَنْسُوب إِلَى
القس، وَهُوَ الصقيع لبياضه. قَوْله: (والديباج) قد مر
تَفْسِيره، (والإستبرق) ضرب من الديباج غليظ، قيل: وَفِيه
ذهب وَهُوَ فَارسي مُعرب أَصله: استبره، وَالْمَعْرُوف أَن
الإستبرق غليظ الديباج، وَقَالَ الدَّاودِيّ: رَقِيقه.
29 - (بابُ الشُّرْبِ فِي الأقْدَاح)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الشّرْب فِي الأقداح
وَهُوَ جمع قدح، وَقَالَ فِي (الْمغرب) : الْقدح
بِفتْحَتَيْنِ الَّذِي يشرب بِهِ، وَقَالَ بَعضهم:
لَعَلَّه أَشَارَ إِلَى أَن الشّرْب فِيهَا وَإِن كَانَ من
شعار الفسقه لَكِن ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى المشروب وَإِلَى
الْهَيْئَة الْخَاصَّة. قلت: هَذَا كَلَام غير مُسْتَقِيم،
وَكَيف يَقُول: إِن الشّرْب فِيهَا من شَعَائِر الفسقة
وَقد وضع البُخَارِيّ عقيب هَذَا: بَاب الشّرْب من قدح
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَذكر فِيهِ أَن
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدحاً كَانَ عِنْد أنس،
على مَا يَأْتِي الْآن، وَذكروا أَيْضا أَنه كَانَ
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدح يُقَال لَهُ:
الريان، وَآخر يُقَال لَهُ: المغيث، وَآخر مضبب بِثَلَاث
ضبات من فضَّة، وَقيل: من حَدِيد، وَفِيه حَلقَة يعلق بهَا
أَصْغَر من الْمَدّ وَأكْثر من نصف الْمَدّ. وَعَن عَاصِم
قَالَ: رَأَيْت عِنْد أنس قدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِيهِ ضبة من فضَّة، رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد،
وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: وَكَانَ قد انصدع فسلسله من
فضَّة، قَالَ: وَهُوَ قدح عريض من نضار، والقدح الَّذِي
يشرب بِهِ الفسقة مَعْلُوم بَين النَّاس أَنه من زجاج وَمن
بلور وَمن فضَّة وَنَحْوهَا، وَكَانَت أقداح النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كلهَا من جنس الْخشب، فَإِن قلت: روى
الْبَزَّار من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْمُقَوْقس أهْدى
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدح قَوَارِير
فَكَانَ يشرب مِنْهُ؟ قلت: هَذَا حَدِيث ضَعِيف، وَلَئِن
سلمنَا صِحَّته فَنَقُول: لم يكن شرب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ مثل شرب غَيره من المترفين، وَلَا
شرابه مثل شرابهم.
5636 - حدّثني عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ حَدثنَا عَبْدُ
الرَّحْمانِ حَدثنَا سفْيانُ عنْ سالِمٍ أبي النَّضْرِ عنْ
عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الفَضْلِ عنْ أُمِّ الفَضْلِ:
أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْم النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَومَ عَرَفَة، فَبُعِثَ إليهِ بِقَدحٍ مِنْ لَبنٍ
فَشَرِبَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فشربه) وَعمر وبفتح
الْعين ابْن عَبَّاس بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْبَاء الْبَصْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن مهْدي،
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ: والْحَدِيث مضى عَن قريب فِي:
بَاب من شرب وَهُوَ وَاقِف على بعيره.
30 - (بابُ الشُّرْبِ منْ قَدَحِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وآنِيَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب جمَاعَة من قدح النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وآنيته) أَي: وَالشرب
من آنِية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من عطف
الْعَام على الْخَاص لِأَن الْآنِية أَعم من أَن تكون
قدحاً أَو قَصْعَة أَو مخضباً أَو طشتاً أَو نَحْو ذَلِك،
وَقيل: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة دفع
توهم من يَقع فِي خياله أَن الشّرْب فِي قدح النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بعد وَفَاته تصرف فِي ملك الْغَيْر
بِغَيْر إِذن، فَبين أَن السّلف كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك
لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُورث وَمَا
تَركه فَهُوَ صَدَقَة، وَلَا يُقَال: إِن الْأَغْنِيَاء
كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَالصَّدَََقَة لَا تحل للغني
لِأَن الْجَواب: أَن الْمُمْتَنع على الْأَغْنِيَاء من
الصَّدَقَة هُوَ الْمَفْرُوض مِنْهَا، وَهَذَا لَيْسَ من
الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة. قلت: الْأَحْسَن أَن يُقَال:
إِنَّمَا كَانُوا يشربون من قدح النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لأجل التَّبَرُّك بِهِ، أما فِي حَيَاته
فَلَا نزاع فِيهِ، وَأما بعد مَوته فَكَذَلِك للتبرك بِهِ،
وَلَا يُقَال: إِن من كَانَ عِنْده شَيْء من ذَلِك أَنه
استولى عَلَيْهِ بِغَيْر وَجه شَرْعِي، أَلا ترى أَنه
كَانَ عِنْد أنس قدح، وَعند سهل قدح، وَعند عبد الله بن
سَلام آخر؟ وَكَانَت جبته عِنْد أَسمَاء بنت أبي بكر
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا يُقَال:
إِنَّهُم حازوا هَذِه الْأَشْيَاء بِغَيْر وَجه شَرْعِي.
{وَقَالَ أبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِي عَبْدُ الله بنُ
سَلامٍ: أَلا أسْقِيكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فيهِ؟} .
(21/204)
أَبُو بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الرَّاء هُوَ ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه عَامر، وَعبد الله بن
سَلام بتَخْفِيف اللاّم صَحَابِيّ مَشْهُور، وَهُوَ طَرِيق
من حَدِيث سَيَأْتِي مَوْصُولا فِي كتاب الِاعْتِصَام.
قَوْله: (أَلا) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام للعرض
والحث، وَهَذَا يدل على أَن هَذَا الْقدح كَانَ للنَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن التَّرْجَمَة تدل عَلَيْهِ،
ثمَّ حازه عبد الله بن سَلام بِوَجْه شَرْعِي، وَلَا يظنّ
فِيهِ أَنه استولى عَلَيْهِ بِغَيْر طَرِيق شَرْعِي.
5637 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ حدَّثنا أبُو
غَسَّانَ قَالَ حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ،
رضيَ الله عَنهُ قَالَ: ذُكِرَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم امْرأةٌ منَ العَرَب، فأمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ
السَّاعِدِيَّ أنْ يُرْسِلَ إلَيْها، فأرْسلَ إلَيْها
فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ،
فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى جاءَها،
فَدَخَلَ عَلَيْها فإذَا امْرَأةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَها،
فَلمَّا كلَّمَها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ:
أعوذُ بِاللَّه مِنْكَ. فَقَالَ: قَدْ أعَذْتُكِ مِنِّي.
فقالُوا لَها: أتَدْرِينَ مَنْ هاذا؟ قالَتْ: لَا. قالُوا:
هاذا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ
لِيخْطُبَكِ. قالَتْ: كنْتُ أَنا أشْقَى مِنْ ذالِكَ.
فأقْبَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ
حتَّى جلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي ساعِدَةَ هُوَ
وأصْحابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِنا يَا سَهْلُ. فَخَرجْتُ
لَهُمْ بِهاذا القَدَحِ فأسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فأخْرَجَ
لَنا سَهْلٌ ذالكَ القَدَحَ فَشَربْنا مِنْهُ قَالَ: ثُمَّ
اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بنُ عبْدِ العَزِيزِ بعْدَ ذالكَ
فَوَهَبَهُ لهُ. (انْظُر الحَدِيث 5256) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَخرجت لَهُم
بِهَذَا الْقدح فأسقيتهم فِيهِ) وَوجه الْمُطَابقَة أَن
التَّرْجَمَة فِي شربهم من قدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَلَو لم يكن الْقدح فِي الأَصْل للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لم تُوجد الْمُطَابقَة، وَمِمَّا يدل
عَلَيْهِ استيهاب عمر بن عبد الْعَزِيز هَذَا الْقدح من
سهل لِأَنَّهُ إِنَّمَا استوهبه مِنْهُ لكَونه فِي الأَصْل
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأجل التَّبَرُّك بِهِ،
وَهَذَا شَيْء ظَاهر لَا يخفى، وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح
وَلَا مِمَّن يعتني بِبَيَان التراجم ومطابقة الْأَحَادِيث
لَهَا ذكر شَيْئا هُنَا.
بَيَان رِجَاله: سعيد بن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن
مُحَمَّد بن الحكم أَو الحكم بن مُحَمَّد بن أبي مَرْيَم،
وَاسم أبي مَرْيَم سَالم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ،
مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو غَسَّان
بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين
الْمُهْملَة وبالنون اسْمه مُحَمَّد بن مطرف على صِيغَة
اسْم الْفَاعِل من التطريف وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن
دِينَار، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ
الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو أسيد مصغر أَسد مَالك بن ربيعَة
السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن
مُحَمَّد بن سهل وَأبي بكر بن إِسْحَاق، كِلَاهُمَا عَن
ابْن أبي مَرْيَم بِهِ.
قَوْله: (ذكر امْرَأَة) وَهِي الْجَوْنِية بِفَتْح الْجِيم
وَسُكُون الْوَاو وبالنون، قيل: اسْمهَا أُمَيْمَة، بِضَم
الْهمزَة وَقد تقدّمت قصَّة خطبتها فِي أول كتاب
الطَّلَاق. قَوْله: (فِي أجم) بِضَم الْهمزَة وَالْجِيم،
هُوَ بِنَاء يشبه الْقصر وَهُوَ من حصون الْمَدِينَة،
وَالْجمع آجام مثل أَطَم وآطام. وَقَالَ الْخطابِيّ: الأجم
والأطم بِمَعْنى، وَأغْرب الدَّاودِيّ فَقَالَ: الآجام
الْأَشْجَار والحوائط، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الأجم جمع
أجمة وَهِي الغيضة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ حصن بناهُ
أهل الْمَدِينَة من الْحِجَارَة وَهُوَ الصَّوَاب. قَوْله:
(فَإِذا امْرَأَة) كَلمه: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (منكسة)
قَالَ الْكرْمَانِي: على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من الإنكاس
والتنكيس. قَوْله: (كنت أَشْقَى من ذَلِك) لَيْسَ أفعل
التَّفْضِيل هُنَا على بَابه، وَإِنَّمَا مرادها إِثْبَات
الشَّقَاء لَهَا لما فاتها من التَّزَوُّج برَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فِي سَقِيفَة بني
سَاعِدَة) وَهِي ساباط كَانَت لبني سَاعِدَة الأنصاريين،
وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي وَقعت فِيهِ الْبيعَة لأبي بكر
الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَخرجت لَهُم
بِهَذَا الْقدح) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة المستملى،
وَفِي رِوَايَة غَيره: فأخرجت لَهُم هَذَا الْقدح. قَوْله:
(فَأخْرج لنا سهل) قَائِل هَذَا أَبُو حَازِم الرَّاوِي،
وَصرح بذلك مُسلم. قَوْله: (ثمَّ استوهبه عمر بن عبد
الْعَزِيز) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ استيهابه
لما كَانَ هُوَ مُتَوَلِّي إمرة الْمَدِينَة) .
وَفِيه: أَن الشّرْب من قدحه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وآنيته من بَاب التَّبَرُّك بآثاره.
(لعَلي أَرَاهُم أَو أرى من يراهُمُ)
وَمن بَاب الْإِمْسَاك بفضله، كَمَا كَانَ ابْن عمر رَضِي
الله عَنْهُمَا، يُصَلِّي فِي الْمَوَاضِع
(21/205)
الَّتِي كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي فِيهَا، ويدور نَاقَته حَيْثُ أدارها تبركاً
بالاقتداء بِهِ وحرصاً على اقتفاء آثاره. وَفِيه: التبسط
على الصاحب واستدعاء مَا كَانَ عِنْده من مَأْكُول ومشروب،
وتعظيمه بدعائه بكنيته.
5638 - حدّثنا الحَسَنُ بنُ مُدْرِكٍ قَالَ: حدّثني يَحيى
بنُ حَمَّادٍ أخبرنَا أبُو عَوَانَةَ عنْ عاصِمٍ
الأحْوَلِ، قَالَ: رَأيْتُ قَدَحَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. عِنْدَ أنَسِ بنِ مالِكٍ، وكانَ قَدِ
انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ. قَالَ: وهْوَ قَدَحٌ
جَيِّدٌ عَرِيضٌ منْ نُضار، قَالَ: قَالَ أنَسٌ: لَقَدْ
سَقَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هاذا
القَدَحِ أكْثَرَ مِنْ كَذَا وكَذا.
قَالَ: وَقَالَ ابنُ سِيرينَ: إنَّهُ كانَ فيهِ حَلْقَة
مِنْ حَدِيدٍ فأرَادَ أنَسٌ أنْ يَجْعَلَ مَكَانَها
حلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، فَقَالَ لَهُ أبُو
طَلْحَةَ: لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئاً صَنَعَهُ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَتَرَكَهُ. (انْظُر الحَدِيث
3109) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو عوَانَة الوضاح
الْيَشْكُرِي.
والْحَدِيث قد مرت مِنْهُ قِطْعَة فِي أَوَاخِر كتاب
الْجِهَاد فِي: بَاب مَا جَاءَ من درع النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَعَصَاهُ وسيفه وقدحه وخاتمه، أخرجهَا عَن
عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن عَاصِم عَن ابْن سِيرِين
عَن أنس ابْن مَالك: أَن قدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم انْكَسَرَ فَاتخذ مَكَان الشّعب سلسلة من فضَّة،
قَالَ عَاصِم: رَأَيْت الْقدح وشربت مِنْهُ.
قَوْله: (قد انصدع) أَي: انْشَقَّ. قَوْله: (فسلسله
بِفِضَّة) ، أَي: وصل بعضه بِبَعْض، وَظَاهره أَن الَّذِي
وَصله هُوَ أنس، وَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ظَاهر رِوَايَة أبي حَمْزَة
الْمَذْكُورَة الْآن. قَوْله: (قَالَ: وَهُوَ قدح)
الْقَائِل هُوَ عَاصِم الْأَحول. قَوْله: (عريض) يَعْنِي:
لَيْسَ بمتطاول، بل طوله أقصر من عمقه. قَوْله: (من نضار)
بِضَم النُّون وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة وبالراء.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة بِضَم النُّون وَكسرهَا وَهُوَ أَجود
الْخشب للآنية وَيعْمل مِنْهُ مَا رقّ من الأقداح واتسع
وَمَا غلظ، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النضار النبع،
وَقَالَ أَيْضا: هُوَ شجر الأثل، والنضار الْخَالِص من كل
شَيْء، وَقَالَ ابْن سَيّده: من التبر والخشب. وَقَالَ
ابْن فَارس: النضار أثل يكون بالغور، وَقيل: إِنَّه من
الأثل الطَّوِيل الْمُسْتَقيم الغصون، وَقَالَ الْقَزاز:
الْعَرَب تَقول: قدح نضار، مُضَاف إِلَى هَذَا الْخشب،
وَإِنَّمَا سمى الأثل نضاراً لِأَنَّهُ ينْبت فِي
الْجَبَل، وَذكر شمر أَن النضار هَذِه الأقداح الْحمر
الحبشانية. قَوْله: (قَالَ: قَالَ أنس) أَي: قَالَ عَاصِم
الْأَحول: قَالَ أنس بن مَالك: (لقد سقيت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) وروى مُسلم من حَدِيث ثَابت عَن أنس
قَالَ: لقد سقيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بقدحي هَذَا الشَّرَاب كُله: الْعَسَل والنبيذ وَالْمَاء
وَاللَّبن.
قَوْله: (قَالَ: وَقَالَ ابْن سِيرِين) أَي: قَالَ عَاصِم:
وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين، مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمُتَقَدّم. قَوْله: (أَو فضَّة) شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: (قَالَ أَبُو طَلْحَة) هُوَ زيد بن سهل
الْأنْصَارِيّ زوج أم سليم وَالِدَة أنس. قَوْله: (لَا
تغيرن) كَذَا بنُون التَّأْكِيد فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين: وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا تغير،
بِدُونِ نون التَّأْكِيد. وَكَلَام أبي طَلْحَة هَذَا إِن
كَانَ سَمعه ابْن سِيرِين من أنس وإلاَّ فَيكون أرْسلهُ
عَن أبي طَلْحَة لِأَنَّهُ لم يلقه.
وَفِي الحَدِيث: جَوَاز اتِّخَاذ ضبة الْفضة، وَكَذَلِكَ
السلسلة وَالْحَلقَة، وَلَكِن فِيهِ اخْتِلَاف. فَقَالَ
الْخطابِيّ: مَنعه مُطلقًا جمَاعَة من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث، وَعَن
مَالك: يجوز من الْفضة إِذا كَانَ يَسِيرا، وَكَرِهَهُ
الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: فَلَا
بَأْس إِذا اتَّقى وَقت الشّرْب مَوضِع الْفضة، وَبِه
قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَتحرم ضبة
الذَّهَب مُطلقًا وَمِنْهُم من سوّى بَين ضبتي الْفضة
وَالذَّهَب. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم
وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق زَكَرِيَّاء ابْن إِبْرَاهِيم
بن عبد الله بن مُطِيع عَن أَبِيه عَن ابْن عمر: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من شرب فِي
إِنَاء من ذهب أَو فضَّة، أَو فِي إِنَاء فِيهِ شَيْء من
ذَلِك، فَإِنَّمَا يجر جر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم. قلت:
قَالَ أَبُو الْحسن بن الْقطَّان: زَكَرِيَّاء وَأَبوهُ
لَا يعرف لَهما حَال، وَقيل: الحَدِيث مَعْلُول بإبراهيم،
فَإِنَّهُ مَجْهُول وَكَذَا وَلَده وروى الطَّبَرَانِيّ
فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أم عَطِيَّة: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن لبس الذَّهَب وتفضيض
الأقداح، ثمَّ رخص فِي تفضيض الأقداح، وَهُوَ حجَّة على
الشَّافِعِي.
31 - (بابُ شُرْبِ البَرَكَةِ والماءِ المُبَارَكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب الْبركَة، وَأَرَادَ
بِالْبركَةِ المَاء، وَأطلق عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم لِأَن
الْعَرَب تسمي الشَّيْء الْمُبَارك فِيهِ: بركَة،
(21/206)
وَلَا شكّ أَن المَاء مبارك فِيهِ: فَلذَلِك قَالَ جَابر
فِي حَدِيث الْبَاب: فَعلمت أَنه بركَة، وَمِنْه قَول
أَيُّوب، عَلَيْهِ السَّلَام: لَا غنى لي عَن بركتك، فَسمى
الذَّهَب بركَة، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
بَيْنَمَا أَيُّوب يغْتَسل عُريَانا خر عَلَيْهِ جَراد من
ذهب، فَجعل أَيُّوب يحثي فِي ثَوْبه، فناداه ربه عز وَجل:
يَا أَيُّوب {ألم أكن أغنيتك عَمَّا ترى؟ قَالَ: بلَى يَا
رب، وَلَكِن لَا غنى لي عَن بركتك.
5639 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا جَرِيرٌ عَن
الأعْمَشِ قَالَ: حدّثني سالِمُ بنُ أبي الجَعْدِ عنْ
جابِرِ بن عبْدِ الله، رَضِي الله عَنْهُمَا، هاذَا
الحَدِيثَ قَالَ: قَدْ رَأيْتُنِي مَعَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ حَضَرَتِ العَصْرُ ولَيْسَ مَعَنا
ماءٌ غَيْر فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إناءٍ فأُتِيَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِهِ فأدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ
وفَرَّجَ أصابِعَهُ ثُمَّ قَالَ: حيَّ عَلى أهْلِ
الوَضُوءِ} البَرَكَةُ مِنَ الله، فَلَقَدْ رأيْتُ الماءَ
يتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أصابِعهِ فَتَوَضَّأ النَّاسُ
وشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لَا آلُوا مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي
مِنْهُ، فَعَلِمْتُ أنَّهُ بَرَكَةٌ.
قُلْتُ لِجابِرٍ: كمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: ألْفاً
وأرْبَعَمِائَةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَعلمت أَنه بركَة)
وَيُمكن أَن يجل قَوْله: (الْبركَة من الله) مطابقاً للجزء
الثَّانِي للتَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (وَالْمَاء
الْمُبَارك) .
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش هُوَ
سُلَيْمَان.
والْحَدِيث قد مر فِي عَلَامَات النُّبُوَّة من رِوَايَة
حُصَيْن عَن سَالم بن أبي الْجَعْد عَن جَابر.
قَوْله: (هَذَا الحَدِيث) أَشَارَ بِهِ إِلَى الَّذِي
بعده. قَوْله: (قد رَأَيْتنِي) أَي: قد رَأَيْت نَفسِي،
وَهَذَا يعد من بَاب التَّجْرِيد. قَوْله: (وَقد حضرت
الْعَصْر) أَي: صَلَاة الْعَصْر، وَكَانَ ذَلِك فِي
الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (غير فضلَة) ، الفضلة مَا فضل من
الشَّيْء. قَوْله: (فَأتي) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (حَيّ على أهل الْوضُوء) هَكَذَا فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: حَيّ على
الْوضُوء، بِإِسْقَاط لفظ: أهل، وَهَذِه أصوب، وَوجه الأول
أَن: حَيّ، مَعْنَاهُ: أَسْرعُوا، وَأهل الْوضُوء مَنْصُوب
على النداء، وَحذف مِنْهُ حرف النداء. وَقَالَ بَعضهم:
كَأَنَّهُ قَالَ: حَيّ على الْوضُوء الْمُبَارك يَا أهل
الْوضُوء. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل تَقْدِيره: حَيّ عَليّ،
بتَشْديد الْيَاء يَعْنِي: أَسْرعُوا إِلَيّ يَا أهل
الْوضُوء، وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو اسْم لما يتَوَضَّأ
بِهِ. قَوْله: (يتفجر) من التفجر، وَهُوَ التفتح
بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَة. قَوْله: (من بَين أَصَابِعه)
يحْتَمل أَن يكون الانفجار من نفس الْأَصَابِع يَنْبع
مِنْهَا وَأَن يخرج من بَين الْأَصَابِع لَا من نَفسهَا،
وعَلى كل تَقْدِير فَالْكل معْجزَة عَظِيمَة لرَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْأول أقوى لِأَنَّهُ من
اللَّحْم. قَوْله: (لَا آلو) أَي: لَا أقصر فِي الاستكثار
من شربه، وَلَا أفتر فِيمَا أقدر أَن أجعله فِي بَطْني من
ذَلِك المَاء.
وَفِيه: من الْفِقْه: أَن الْإِسْرَاف فِي الطَّعَام
وَالشرَاب مَكْرُوه إِلَّا الْأَشْيَاء الَّتِي أرى الله
فِيهَا بركَة غير معهودة، وَأَنه لَا بَأْس بالاستكثار
مِنْهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِك سرف وَلَا استكثار وَلَا
كَرَاهِيَة.
قَوْله: (قلت لجَابِر) الْقَائِل هُوَ سَالم بن أبي
الْجَعْد. قَوْله: (ألفا وَأَرْبَعمِائَة) بِالنّصب على
أَنه خبر: كَانَ، وَالتَّقْدِير: كُنَّا ألفا
وَأَرْبَعمِائَة، وَعند الْأَكْثَرين: ألف
وَأَرْبَعمِائَة، بِالرَّفْع تَقْدِيره: نَحن يومئذٍ ألف
وَأَرْبَعمِائَة، فَيكون ارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، وَقد مر الْكَلَام على الِاخْتِلَاف على جَابر
فِي عَددهمْ يَوْم الْحُدَيْبِيَة. |