عمدة القاري شرح صحيح البخاري

29 - (بابُ مَنْ خَرَجَ مِنْ أرْضٍ لَا تُلاَيِمُهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من خرج من أَرض لَا تلايمه، أَي: لَا توافقه، وأصل: لَا تلايمه، بِالْهَمْزَةِ وسهلت طلبا للتَّخْفِيف، وَفِي بعض النّسخ: من خرج من الأَرْض الَّتِي لَا تلايمه.
42 - (حَدثنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع حَدثنَا سعيد حَدثنَا قَتَادَة أَن أنس بن مَالك حَدثهمْ أَن نَاسا أَو رجَالًا من عكل وعرينة قدمُوا على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ وَقَالُوا يَا نَبِي الله إِنَّا كُنَّا أهل ضرع وَلم نَكُنْ أهل ريف واستوخموا الْمَدِينَة فَأمر لَهُم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذود وبراع وَأمرهمْ أَن يخرجُوا فِيهِ فيشربوا من أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا فَانْطَلقُوا حَتَّى كَانُوا نَاحيَة الْحرَّة كفرُوا بعد إسْلَامهمْ وَقتلُوا راعي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاسْتَاقُوا الذود فَبلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبعث الطّلب فِي آثَارهم وَأمر بهم فسمروا أَعينهم وَقَطعُوا أَيْديهم وَتركُوا فِي نَاحيَة الْحرَّة حَتَّى مَاتُوا على حَالهم) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله واستوخموا الْمَدِينَة فَإِنَّهُم لما استوخموا طلبُوا الْخُرُوج لِأَن الْمَدِينَة لم تلائمهم فَأَمرهمْ النَّبِي

(21/255)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْخرُوجِ وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَضم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة والْحَدِيث قد مر فِي الْمَغَازِي عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد أَيْضا فِي بَاب قصَّة عكل وعرينة وَفِي الْجِهَاد عَن مُعلى بن أَسد فِي بَاب إِذا حرق الْمُشرك الْمُسلم هَل يحرق وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى وعكل بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف وباللام وعرينة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وبالنون قبيلتان قَوْله أهل ضرع أَي أهل مواشي وَأهل ريف بِكَسْر الرَّاء أَي أهل أَرض فِيهَا زرع قَوْله واستوخموا من قَوْلهم بَلْدَة وخيمة إِذا لم توَافق ساكنها قَوْله " بذود " بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ من الْإِبِل مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْرَة قَوْله " وَأَبْوَالهَا " وَجه شربهَا إِمَّا أَنه كَانَ قبل التَّحْرِيم وَإِمَّا أَنه كَانَ للمداواة قَوْله " الْحرَّة " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالراء الْمُشَدّدَة أَرض ذَات حِجَارَة سود قَوْله فَبعث الطّلب بِفتْحَتَيْنِ جمع طَالب قَوْله فسمروا أَعينهم أَي كحلوا أَعينهم بالمسامير المحماة بالنَّار -
30 - (بابُ مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يذكر فِي أَمر الطَّاعُون وَهُوَ على وزن فاعول من الطعْن وضعوه على هَذَا الْوَزْن ليدل على الْمَوْت الْعَام. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الطَّاعُون الْمَرَض الْعَام الَّذِي يفْسد لَهُ الْهَوَاء وتفسد بِهِ الأمزجة والأبدان. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الطَّاعُون الْمَوْت الْعَام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الطَّاعُون بثر مؤلم جدا يخرج غَالِبا فِي الآباط مَعَ لهيب واسوداد حواليه وخفقان الْقلب والقيء. قلت: هَذَا من كَلَام النَّوَوِيّ، فنقله عَنهُ، يُقَال: طعن الرجل فَهُوَ مطعون وطعين إِذا أَصَابَهُ الطَّاعُون. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الطَّاعُون الوجع الْغَالِب الَّذِي يطعن الرّوح كالذبحة، سمي بذلك لعُمُوم مصابه وَسُرْعَة قَتله، وَقَالَ الْبَاجِيّ: وَهُوَ مرض يعم الْكثير من النَّاس فِي جِهَة من الْجِهَات بِخِلَاف الْمُعْتَاد من أمراض النَّاس، وَيكون مرضهم وَاحِدًا بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَوْقَات فَتكون الْأَمْرَاض مُخْتَلفَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الطَّاعُون حَبَّة تخرج فِي الأرفاغ وَفِي كل طي من الْجَسَد، وَالصَّحِيح أَنه الوباء، وَقَالَ عِيَاض: أصل الطَّاعُون القروح الْخَارِجَة فِي الْجَسَد، والوباء عُمُوم الْأَمْرَاض فسميت طاعوناً لشبهها بهَا فِي الْهَلَاك، وإلاَّ فَكل طاعون وباء وَلَيْسَ كل وباء طاعوناً، قَالَ: وَيدل على ذَلِك أَن وباء الشَّام الَّذِي وَقع فِي عمواس إِنَّمَا كَانَ طاعوناً.
وَمَا ورد فِي الحَدِيث: أَن الطَّاعُون وخز الْجِنّ. قلت: طاعون عمواس كَانَ فِي سنة ثَمَان عشرَة، وعمواس قَرْيَة بَين الرملة وَبَيت الْمُقَدّس، وطاعون عمواس هُوَ أول طاعون وَقع فِي الْإِسْلَام وَمَات فِي الشَّام فِي هَذَا الطَّاعُون ثَلَاثُونَ ألفا. وَأما الحَدِيث الْمَذْكُور فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي مُوسَى رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فنَاء أمتِي بالطعن والطاعون. قَالُوا: يَا رَسُول الله! هَذَا الطعْن قد عَرفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُون؟ قَالَ: وخز إخْوَانكُمْ من الْجِنّ، وَفِي كل شَهَادَة. وَرَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي (كتاب الطواعين) وَقَالَ فِيهِ: وخز أعدائكم من الْجِنّ، وَلَا تنَافِي بَين اللَّفْظَيْنِ لِأَن الْأُخوة فِي الدّين لَا تنَافِي الْعَدَاوَة لِأَن عَدَاوَة الْإِنْس وَالْجِنّ بالطبع، وَإِن كَانُوا مُؤمنين فالعداوة مَوْجُودَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الوخز طعن لَيْسَ بنافذ، وَقَالَ بَعضهم: لم أر لفظ: إخْوَانكُمْ، بعد التتبع الطَّوِيل الْبَالِغ فِي شَيْء من طرق الحَدِيث. قلت: هَذِه اللَّفْظَة ذكرهَا هُنَا ابْن الْأَثِير وَذكرهَا أَيْضا نَاقِلا من (مُسْند أَحْمد) قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين مُحَمَّد بن عبد الله أبي الْبَقَاء الشبلي الْحَنَفِيّ، وَكفى بهما الِاعْتِمَاد على صِحَّتهَا، وَعدم اطلَاع هَذَا الْقَائِل لَا يدل على الْعَدَم. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الطَّاعُون غُدَّة تخرج فِي المراق والآباط، وَقد تخرج فِي الْأَيْدِي والأصابع وَحَيْثُ شَاءَ الله تَعَالَى، وَقيل: الطَّاعُون انصباب الدَّم إِلَى عُضْو، وَقيل: هيجان الدَّم وانتفاخه، وَقَالَ الْمُتَوَلِي: وَهُوَ قريب من الجذام من أَصَابَهُ تآكلت أعضاؤه وتساقط لَحْمه. وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ انتفاخ جَمِيع الْبدن من الدَّم مَعَ الْحمى، أَو انصباب الدَّم إِلَى بعض الْأَطْرَاف، فينتفخ ويحمر وَقد يذهب ذَلِك الْعُضْو. وَقَالَ ابْن سينا: الطَّاعُون مَادَّة سميَّة تحدث ورماً قتالاً لَا يحدث إلاَّ فِي الْمَوَاضِع الرخوة والمغاير من الْبدن، وأغلب مَا يكون تَحت الْإِبِط أَو خلف الْأذن أَو عِنْد الأرنبة، قَالَ: وَسَببه دم رَدِيء مائل إِلَى العفونة وَالْفساد يَسْتَحِيل إِلَى جَوْهَر سمي يفْسد الْعُضْو ويغير مَا يَلِيهِ وَيُؤَدِّي إِلَى الْقلب كَيْفيَّة ردية فَيحدث الْقَيْء والغثيان والغشي والخفقان، وَهُوَ لرداءته لَا يقبل من الْأَعْضَاء إلاَّ مَا كَانَ أَضْعَف بالطبع، وأردؤه مَا يَقع فِي الْأَعْضَاء الرئيسة، وَالْأسود مِنْهُ قل من يسلم مِنْهُ، وأسلمه الْأَحْمَر ثمَّ الْأَصْفَر، فَإِن قلت إِن

(21/256)


الشَّارِع أخبر بِأَن الطَّاعُون من وخزالجن فبينه وَبَين مَا ذكر من الْأَقْوَال فِي تَفْسِير الطَّاعُون مُنَافَاة ظَاهرا أقلت: الْحق مَا قَالَه الشَّارِع، والأطباء تكلمُوا فِي ذَلِك على مَا افتضته قواعدهم، وَطعن الْجِنّ أَمر لَا يدْرك بِالْعقلِ فَلم يذكروه على أَنه يحْتَمل أَن تحدث هَذِه الْأَشْيَاء فِيمَن يطعن عِنْد وخز الْجِنّ، وَمِمَّا يُؤَيّد أَن الطَّاعُون من وخز الْجِنّ وُقُوعه غَالِبا فِي أعدل الْفُصُول وَفِي أصح الْبِلَاد هَوَاء وأطيبها مَاء، وَلَو كَانَ من فَسَاد الْهَوَاء لعم النَّاس الَّذين يَقع فيهم الطَّاعُون ولطعنت الْحَيَوَانَات أَيْضا.

5728 - حدّثنا حَفْصُ بن عُمَرَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبرنِي حَبيبُ بنُ أبي ثابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْرَاهيمَ بنَ سعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْداً عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنهُ قَالَ: إِذا سَمَعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأرْضٍ فَلا تَدْخُلُوها وَإِذا وَقَعَ بأرْض وأنْتُمْ بِها فَلا تَخرُجُوا مِنْها، فَقُلْتُ: أنْتَ سَمِعْتَهُ يحدِّثُ سَعْداً وَلَا يُنْكِرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. (انْظُر الحَدِيث: 3473 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مِمَّا ذكر فِي الطَّاعُون، وَسعد هُوَ ابْن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ أَيْضا عَن وهب بن بَقِيَّة.
قَوْله (يحدث سعد) أَي: وَالِد إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَعْمَش عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن ابراهيم بن سعد عَن أُسَامَة بن زيد، وَسعد أخرجه مُسلم.
قَوْله: (بِأَرْض) أَي: وَقع بِأَرْض. قَوْله: (وَأَنْتُم بهَا) جملَة حَالية قَوْله: (فَقلت) الْقَائِل هُوَ حبيب بن أبي ثَابت يُخَاطب إِبْرَاهِيم بن سعد. بقوله: (أَنْت سمعته) يَعْنِي أُسَامَة بن زيد يحدث سَعْدا وَلَا يُنكر ذَلِك، (قَالَ: نعم) .

5729 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عبْدِ الحَميدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بن زَيْدِ بنُ الخَطَّابِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عبْد الله بنِ الحارِث بنِ نَوْفَلٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حتَّى إِذا كَانَ بِسرْغَ لَقِيَهُ أُمَراءُ الأجنادِ: أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأصْحابُهُ، فأخْبرُوهُ أنَّ الوَباءَ قَدْ وقَعَ بأرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابنُ عبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهاجِرين الأوَّلِينَ، فَدَعاهُمْ فاسْتَشارَهُم وأخْبرَهُمْ أنَّ الْوَباءَ قَدْ وقَعَ بالشَّأْم فاختَلفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لإمْرٍ وَلَا نَرَى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُم: مَعَك بَقِيَّةُ النَّاسِ وأصْحابُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ عَلى هاذَا الْوَباءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأنْصارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فاسْتَشارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهاجِرِينَ واخْتَلَفُوا كاخْتِلافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كانَ هاهُنا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشِ منْ مُهاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَليهِ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلى هاذا الْوَباءِ، فَنادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إنِّي مُصبِّحٌ عَلى ظَهْرٍ فأصْبِحُوا عَليْهِ. قَالَ أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ: أفِراراً مِنْ قَدَرِ الله؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غيْرُكَ قالَها يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ الله إِلَى قَدَرِ الله، أرأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ إبِلٌ هَبَطَتْ وادِياً لهُ عُدْوَتانِ إحْدَاهُما خَصِبةٌ والأُخْرى جَدْبَة، ألَيْسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصِبَةَ رَعَيْتَها بِقَدَرِ الله؟ وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَها بِقَدرِ الله؟ قَالَ: فجاءَ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّباً فِي بَعْض حاجَتهِ، فَقَالَ: إنَّ عِنْدِي فِي هاذَا عِلْماً، سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ: إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ بأرْض فَلا تَقْدَمُوا عَليْهِ، وَإِذا وَقَعَ

(21/257)


بأرْضٍ وأنْتُمْ بِها فَلا تَخْرُجُوا فِراراً مِنْهُ، قَالَ: فَحَمِدَ الله عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. (
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ) إِلَى آخِره. وَعبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب بن نفَيْل بن عبد الْعُزَّى الْقرشِي الْعَدوي، كَانَ والياً لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ على الْكُوفَة، وَعبد الله بن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب لجد أَبِيه نَوْفَل ابْن عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُحْبَة وَكَذَا لوَلَده الْحَارِث، وَولد عبد الله بن الْحَارِث فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعد لذَلِك فِي الصَّحَابَة فهم ثَلَاثَة من الصَّحَابَة فِي نسق، وَكَانَ عبد الله بن الْحَارِث يلقب ببّه، بباءين موحدتين الثَّانِيَة مُشَدّدَة، وَمَعْنَاهُ: الممتلىء الْبدن من النِّعْمَة، ويكنى أَبَا مُحَمَّد، مَاتَ سنة أَربع وَثَمَانِينَ، وَأما وَلَده رَاوِي هَذَا الحَدِيث فَهُوَ مِمَّن وَافق اسْمه اسْم أَبِيه، وَكَانَ يكنى أَبَا يحيى، وَمَات سنة تسع وَتِسْعين وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث.
وَفِي هَذَا السَّنَد: ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وصحابيان فِي نسق، وَكلهمْ مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجَنَائِز عَن القعْنبِي عَن مَالك مُخْتَصرا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن هَارُون بن عبد الله وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين مُخْتَصرا.
قَوْله: (خرج إِلَى الشَّام) كَانَ ذَلِك فِي ربيع الآخر سنة ثَمَان عشرَة، وَذكر خَليفَة بن خياط: أَن خُرُوج عمر إِلَى الشَّام هَذِه الْمرة كَانَ سنة سبع عشرَة يتفقد فِيهَا أَحْوَال الرّعية وأمرائهم، وَكَانَ قد خرج قبل ذَلِك سنة سِتّ عشرَة لما حاصر أَبُو عُبَيْدَة بَيت الْمُقَدّس، فَقَالَ أَهله: يكون الصُّلْح على يَدي عمر رَضِي الله عَنهُ فَخرج لذَلِك. قَوْله: (بسرغ) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وبالغين الْمُعْجَمَة منصرفاً وَغير منصرف، قَرْيَة فِي طَرِيق الشَّام مِمَّا يَلِي الْحجاز، وَيُقَال: هِيَ مَدِينَة افتتحها أَبُو عُبَيْدَة هِيَ واليرموك والجابية متصلات، وَبَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ثَلَاث عشرَة مرحلة. وَقَالَ أَبُو عمر: قيل: إِنَّه وَادي تَبُوك، وَقيل: بِقرب تَبُوك، وَقَالَ الْحَازِمِي: هِيَ أول الْحجاز وَهِي من منَازِل حَاج الشَّام. قَوْله: (أُمَرَاء الأجناد أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح وَأَصْحَابه) هم خَالِد بن الْوَلِيد وَيزِيد بن أبي سُفْيَان وشرحبيل بن حَسَنَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قد قسم الْبِلَاد بَينهم وَجعل أَمر الْقِتَال إِلَى خَالِد، ثمَّ رده عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى أبي عُبَيْدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لأجناد. قيل: المُرَاد بهم أُمَرَاء مدن الشَّام الْخمس، وَهِي: فلسطين والأردن وحمص وقنسرين ودمشق. قَوْله: (فأخبروه) أَي: أخبروا عمر رَضِي الله عَنهُ أَن الوباء قد وَقع، وَفِي رِوَايَة يُونُس: أَن الوجع قد وَقع بِأَرْض الشَّام، والوباء بِالْمدِّ وَالْقصر، وَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الطَّاعُون، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمَرَض الْعَام، فَكل طاعون وباء دون الْعَكْس، وَهَذَا الوباء الْمَذْكُور هُنَا كَانَ طاعوناً، وَهُوَ طاعون عمواس. قَوْله: (قَالَ عمر: ادْع لي الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين) وهم الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَة يُونُس: إجمع لي الْمُهَاجِرين. قَوْله: (بَقِيَّة النَّاس) أَي: بَقِيَّة الصَّحَابَة وَإِنَّمَا قَالَ كَذَلِك تَعْظِيمًا لَهُم، أَي: كَانَ النَّاس لم يَكُونُوا إلاَّ الصَّحَابَة قَالَ الشَّاعِر.
(هم الْقَوْم كل الْقَوْم يَا أم خَالِد)

قَوْله: (وَأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) عطف تفسيري قَوْله: (أَن تقدمهم) بِضَم التَّاء من الْإِقْدَام بِمَعْنى التَّقْدِيم وَالْمعْنَى: لَا نرى أَن تجعلهم قادمين عَلَيْهِ. قَوْله: (فَقَالَ: ارتفعوا عني) أَي: فَقَالَ عمر: أخرجُوا عني، وَفِي رِوَايَة يُونُس: فَأَمرهمْ فَخَرجُوا عَنهُ. قَوْله: (فسلكوا سَبِيل الْمُهَاجِرين) أَي: مَشوا على طريقتهم فِيمَا قَالُوا. قَوْله: (من مشيخة قُرَيْش) ضَبطه بَعضهم بِوَجْهَيْنِ الأول بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَالثَّانِي بِفَتْح الْمِيم وَكسر الشين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف جمع شيخ. قلت: الَّذِي قَالَه أهل اللُّغَة هُوَ الْوَجْه الثَّانِي، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمع الشَّيْخ شُيُوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء، وَالْمَرْأَة شيخة. قَوْله: (من مهاجرة الْفَتْح) أَي: الَّذين هَاجرُوا إِلَى الْمَدِينَة عَام الْفَتْح، أَو المُرَاد: مسلمة الْفَتْح أَو أطلق على من تحول إِلَى الْمَدِينَة بعد فتح مَكَّة مُهَاجرا صُورَة وَإِن كَانَت الْهِجْرَة بعد الْفَتْح حكما قد ارْتَفَعت وَأطلق ذَلِك عَلَيْهِم احْتِرَازًا عَن غَيرهم من مشيخة قُرَيْش مِمَّن أَقَامَ بِمَكَّة وَلم يُهَاجر أصلا. قَوْله: (إِنِّي مصبح) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الصَّاد وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: مُسَافر فِي الصَّباح رَاكِبًا على ظهر الرَّاحِلَة رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة، فَأَصْبحُوا راكبين متأهبين للرُّجُوع إِلَيْهَا. قَوْله: (عَلَيْهِ) أَي على الظّهْر وَهُوَ الْإِبِل الَّذِي يحمل عَلَيْهِ ويركب. يُقَال: عِنْد فلَان ظهر أَي: إبل. قَوْله: (فِرَارًا من قدر الله؟) أَي: أترجع فِرَارًا من قدر الله تَعَالَى؟ وَفِي رِوَايَة هِشَام بن سعد: فَقَالَت طَائِفَة، مِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة: أَمن الْمَوْت نفر؟ إِنَّمَا نَحن نقدر {قل لن يصيبنا إلاَّ مَا كتب الله لنا} (التَّوْبَة: 51) فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين الْقَضَاء وَالْقدر؟ قلت: الْقَضَاء عبارَة عَن الْأَمر الْكُلِّي الإجمالي الَّذِي حكم الله بِهِ فِي الْأَزَل، وَالْقدر

(21/258)


عبارَة عَن جزئيات ذَلِك الْكُلِّي ومفصلات ذَلِك الْمُجْمل الَّتِي حكم الله بوقوعها وَاحِدًا بعد وَاحِد فِي الْإِنْزَال، قَالُوا: وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إلاَّ عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إلاَّ بِقدر مَعْلُوم} (الْحجر: 21) . قَوْله: (لَو غَيْرك قَالَهَا) جَزَاء: لَو، مَحْذُوف أَي: لَو قَالَ غَيْرك لأدبته، وَذَلِكَ لاعتراضه على مَسْأَلَة اجتهادية وَافقه عَلَيْهَا أَكثر النَّاس من أهل الْحل وَالْعقد، أَو لم أتعجب مِنْهُ، وَلَكِنِّي أتعجب مِنْك مَعَ علمك وفضلك كَيفَ تَقول هَذَا، أَو كلمة: لَو هُنَا لِلتَّمَنِّي. فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَالْمعْنَى: أَن غَيْرك مِمَّن لَا فهم لَهُ إِذا قَالَ ذَلِك يعْذر. قَوْله: (نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله) وَفِي رِوَايَة هِشَام بن سعد: إِن تقدمنا فبقدر الله وَإِن تأخرنا فبقدر الله، أطلق عَلَيْهِ فِرَارًا لشبهه فِي الصُّورَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ فِرَارًا شرعا، وَالْمرَاد أَن هجوم الْمَرْء على مَا يهلكه مَنْهِيّ عَنهُ، وَلَو فعل لَكَانَ من قدر الله وتجنبه مَا يُؤْذِيه مَشْرُوع، وَقد يقدر الله وُقُوعه فِيمَا فر مِنْهُ، فَلَو كَانَ فعله أَو تَركه لَكَانَ من قدر الله، وَحَاصِل الْكَلَام أَن شَيْئا مَا لَا يخرج عَن الْقدر. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي قَوْله: (لَهُ عدوتان) بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَكسرهَا يَعْنِي طرفان والعدوة هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع من الْوَادي وَهُوَ شاطئه. قَوْله: (خصبة) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة، كَذَا ضبط فِي كتب اللُّغَة، وَفِي (الْمطَالع) : خصبة بِكَسْر الْخَاء وَسُكُون الصَّاد وَالْخصب بِالْكَسْرِ نقيض الجدب، وَقَالَ بَعضهم: خصيبة على وزن عَظِيمَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، والخصبة بِفَتْح الْخَاء وَسُكُون الصَّاد وَاحِدَة الخصاب، وَهُوَ النّخل الْكثير الْحمل. قَوْله: (جدبة) بِسُكُون الدَّال وَكسرهَا يَعْنِي: الْكل بِتَقْدِير الله سَوَاء ندخل أَو نرْجِع، فرجوعنا أَيْضا بِقدر الله تَعَالَى، فعمر رَضِي الله عَنهُ اسْتعْمل الحذر وَأثبت الْقدر مَعًا فَعمل بالدليلين اللَّذين كل متمسك بِهِ من التَّسْلِيم للْقَضَاء والاحتراز عَن الْإِلْقَاء فِي التَّهْلُكَة. قَوْله: (فجَاء عبد الرَّحْمَن بن عَوْف) مَوْصُول عَن ابْن عَبَّاس بالسند الْمَذْكُور. قَوْله: (وَكَانَ متغيباً) من بَاب التفعل مَعْنَاهُ: لم يكن حَاضرا فِي الْمُشَاورَة. قَوْله: (علما) وَفِي رِوَايَة مُسلم: لعلما، بلام التَّأْكِيد. قَوْله: (إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ) أَي: بالطاعون. قَوْله: (فَلَا تقدمُوا) بِفَتْح الدَّال. قَوْله: (فِرَارًا) أَي: لأجل الْفِرَار، وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز الْخُرُوج لغَرَض آخر لَا بِقصد الْفِرَار مِنْهُ. قَوْله: (فَحَمدَ الله عمر رَضِي الله عَنهُ) يَعْنِي: على مُوَافقَة اجْتِهَاده واجتهاد مُعظم أَصْحَابه حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ ابْن بطال: فَإِن قيل: لَا يَمُوت أحد إلاَّ بأجله فَلَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر، فَمَا وَجه النَّهْي عَن الدُّخُول وَالْخُرُوج؟ قُلْنَا: لم ينْه عَن ذَلِك إلاَّ حذرا من أَن يظنّ أَن هَلَاكه كَانَ من أجل قدومه عَلَيْهِ وَأَن سَلَامَته كَانَت من أجل خُرُوجه، فَنهى عَن الدنو كَمَا نهى عَن الدنو من المجذوم مَعَ علمه بِأَنَّهُ لَا عدوى، وَقيل: إِذْنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للَّذين استوخموا الْمَدِينَة بِالْخرُوجِ حجَّة لمن أجَاز الْفِرَار. وَأجِيب بِأَنَّهُ: لم يكن ذَلِك فِرَارًا من الوباء إِذْ هم كَانُوا مستوخمين خَاصَّة دون سَائِر النَّاس، بل للاحتياج إِلَى الضَّرع ولاعتيادهم المعاش فِي الصَّحَارِي.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: خُرُوج الإِمَام بِنَفسِهِ لمشاهدة أَحْوَال رَعيته، وَإِزَالَة ظلم الْمَظْلُوم وكشف الكرب، وتخويف أهل الْفساد وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام، وتلقي الْأُمَرَاء والمشاورة مَعَهم، والاجتماع بالعلماء، وتنزيل النَّاس مَنَازِلهمْ، واجتهاد فِي الحروب، وَقبُول خبر الْوَاحِد، وَصِحَّة الْقيَاس، وَاجْتنَاب أَسبَاب الْهَلَاك.

5730 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عامِرٍ: أنَّ عمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأمِ، فَلَمَّا كانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أنَّ الْوَباءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فأخْبرَهُ عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ بأرْض فَلا تَقْدَمُوا عَليْهِ، وَإِذا وَقَعَ بأرْضٍ وأنْتُمْ بِها فَلا تَخْرُجُوا فِراراً مِنْهُ. (انْظُر الحَدِيث: 5729 وطرفه) .

هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث عبد الرحمان بن عَوْف: وَعبد الله بن عَامر بن ربيعَة الْأَصْغَر ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قيل: سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَحفظ عَنهُ وَهُوَ صَغِير، وَتُوفِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين، وَمَات سنة خمس وَثَمَانِينَ، وَأَبُو عَامر ابْن ربيعَة من كبار الصَّحَابَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا.

(21/259)


5731 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَدْخُلُ المدِينَةَ المَسِيحُ وَلَا الطَّاعُونُ. (انْظُر الحَدِيث: 1880 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا الطَّاعُون) ونعيم بِضَم النُّون وَفتح الْعين الْمُهْملَة ابْن عبد الله الْقرشِي الْمدنِي مولى عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ والمجمر بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وبالراء على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من الإجمار من أجمرت الثَّوْب إِذا بخرته بالبخور وَالطّيب، وَالَّذِي يتَوَلَّى ذَلِك مجمر ومجمر بِالتَّشْدِيدِ أَيْضا نعيم هَذَا وَكَانَ يجمر مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسُمي المجمر.
والْحَدِيث مضى فِي الْحَج فِي: بَاب لَا يدْخل الدَّجَّال الْمَدِينَة، أخرجه عَن اسماعيل عَن مَالك عَن نعيم بن عبد الله المجمر عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: على انقاب الْمَدِينَة مَلَائِكَة لَا يدخلهَا الطَّاعُون وَلَا الدَّجَّال، وَأخرجه هُنَا مُخْتَصرا، وَذكر هُنَاكَ الدَّجَّال وَهنا الْمَسِيح، والمسيح هُوَ الدَّجَّال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
فَإِن قلت: الطَّاعُون شَهَادَة، وَكَيف منعت من الْمَدِينَة وَمَا وَجه ذكر الْمَسِيح مُقَارنًا بالطاعون؟ قلت: قد تكلمُوا فِي الْجَواب بِكَلَام كثير، وَالْحَاصِل أَن المُرَاد بالطاعون هُوَ وخز الْجِنّ وكفار الْجِنّ وشياطينهم ممنوعون من دُخُول الْمَدِينَة، وَمن اتّفق دُخُوله إِلَيْهَا لَا يتَمَكَّن من طعن أحد مِنْهُم. فَإِن قلت: طعن الْجِنّ لَا يخْتَص بكفارهم بل قد يَقع من مؤمنيهم قلت: دُخُول كفار الْإِنْس الْمَدِينَة مَمْنُوع وَلَا يسكنهَا إِلَّا الْمُسلمُونَ، وَإِن كَانَ فيهم من لَيْسَ بخالص الْإِسْلَام فَيحصل الْأَمْن من وُصُول الْجِنّ إِلَى طعنهم فَلذَلِك لَا يحصل فِيهَا الطَّاعُون أصلا، وَقد روى أَحْمد من رِوَايَة أبي عسيب قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانِي جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام بالحمى والطاعون، فَأَمْسَكت الْحمى بِالْمَدِينَةِ وَأرْسلت الطَّاعُون إِلَى الشَّام، وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دخل الْمَدِينَة كَانَ فِي قلَّة من أَصْحَابه عددا ومدداً، وَكَانَت الْمَدِينَة وبئة، ثمَّ خير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمريْن يحصل بِكُل مِنْهُمَا الْأجر الجزيل فَاخْتَارَ الْحمى حينئذٍ لقلَّة الْمَوْت بهَا غَالِبا، بِخِلَاف الطَّاعُون، ثمَّ لما احْتَاجَ إِلَى جِهَاد الْكفَّار وَأذن لَهُ فِي الْقِتَال كَانَت قَضِيَّة اسْتِمْرَار الْحمى بِالْمَدِينَةِ أَن تضعف أجساد الَّذين يَحْتَاجُونَ إِلَى التقوية لأجل الْجِهَاد، فَدَعَا بِنَقْل الْحمى من الْمَدِينَة إِلَى الْجحْفَة، فَعَادَت الْمَدِينَة أصح بِلَاد الله بعد أَن كَانَت بِخِلَاف ذَلِك وَأَبُو عسيب، بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة، وَقَالَ أَبُو عمر: أَبُو عسيب مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ صُحْبَة وَرِوَايَة، أسْند عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حديثين أَحدهمَا فِي الْحمى والطاعون، قيل: اسْم أبي عسيب: أَحْمَر.

5732 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ حدَّثنا عبدُ الوَاحِد حَدثنَا عاصِمٌ حدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ قالَتْ: قَالَ لي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ: يَحْياى بِما ماتَ؟ قُلْتُ مِنَ الطَّاعُونِ. قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الطَّاعُونُ شَهادَةٌ لِكلِّ مُسْلِمٍ. (انْظُر الحَدِيث: 2830) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول.
والأسناد كُله بصريون، وَلَيْسَ لحفصة بنت سِيرِين عَن أنس فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَمضى الحَدِيث فِي الْجِهَاد عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطِّبّ.
قَوْله: (يحيى بِمَا مَاتَ؟) يحيى هُوَ ابْن سِيرِين أَخُو حَفْصَة الْمَذْكُورَة، سَأَلَهَا أنس: بِمَا مَاتَ يحيى؟ فَقَالَت. مَاتَ من الطَّاعُون، ويروى: بِمَ مَاتَ؟ بِحَذْف الْألف من رُبمَا يَعْنِي: من أَي شَيْء؟ وَهُوَ الْأَشْهر، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: يحيى بن أبي عمْرَة، وَهُوَ ابْن سِيرِين لِأَنَّهَا كنية سِيرِين، وَكَانَت وَفَاة يحيى فِي حُدُود التسعين من الْهِجْرَة. قَوْله: (شَهَادَة لكل مُسلم) يَعْنِي: إِذا مَاتَ مطعوناً صَار كالشهيد فِي سَبِيل الله لمشاركته إِيَّاه فِيمَا كابده من الشدَّة.

5733 - حدّثنا أبُو عاصِمٍ عَنْ مالِكٍ عَنْ سُميٍّ عَنْ أبي صالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: المَبْطُونُ شَهيدٌ، والمَطْعُونُ شَهِيدٌ.

(21/260)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله. (والمطعون شَهِيد) وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل، وَسمي بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان السمان.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد من رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك مطولا بِلَفْظ: الشُّهَدَاء خَمْسَة ... الحَدِيث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(والمبطون) الَّذِي مَاتَ بِمَرَض الْبَطن، (والمطعون) الَّذِي مَاتَ بالطاعون. أَي: لَهما ثَوَاب الشَّهَادَة. وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: من مَاتَ بالطاعون أَو بوجع الْبَطن مُلْحق بِمن قتل فِي سَبِيل الله لمشاركته إِيَّاه فِي بعض مَا يَنَالهُ من الْكَرَامَة بِسَبَب مَا كابده من الشدَّة، لَا فِي جملَة الْأَحْكَام والفضائل.

31 - (بابُ أجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر الصابر على الطَّاعُون سَوَاء وَقع بِهِ أَو وَقع فِي بلد هُوَ مُقيم بهَا، وَوَقع فِي (مُسْند أَحْمد) من حَدِيث جَابر رَفعه: الفار من الطَّاعُون كالفار من الزَّحْف، والصابر فِيهِ كالصابر فِي الزَّحْف، وَفِي رِوَايَة لَهُ: وَمن صَبر كَانَ لَهُ أجر شَهِيد، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة باللفظين فِي (كتاب التَّوَكُّل) .

5734 - حدّثنا إسْحاقُ أخبرَنا حَبَّانُ حدَّثنا داوُدُ بنُ أبي الفُراتِ حَدثنَا عبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيى بنِ يَعْمَرَ عَنْ عائِشَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا أخْبَرَتْنا أنَّها سألَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنِ الطّاعُونِ؟ فأخْبَرَها نَبيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ الله عَلى مَنْ يَشاءُ، فَجعَلَهُ الله رحْمَةً لِلْمؤْمِنينَ فَليْسَ مِنْ عبْدٍ يَقَعُ الطاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلاَّ مَا كَتَبَ الله لهُ إلاَّ كانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ الشهِيدِ. (انْظُر الحَدِيث: 3474 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَلَيْسَ من عبد) إِلَى آخِره. وَإِسْحَاق، قَالَ بَعضهم: ابْن رَاهَوَيْه، وَقَالَ الغساني: لَعَلَّه ابْن مَنْصُور. قلت: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج أَبُو يَعْقُوب الْمروزِي، انْتقل بِآخِرهِ إِلَى نيسابور وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وحبان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون ابْن هِلَال الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، وَمن جملَة من روى عَنهُ إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَهُوَ يدل على أَن الصَّوَاب مَعَ الغساني، وَدَاوُد بن أبي الْفُرَات بِضَم الْفَاء وبالراء المخففة وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، اسام أبي فرات عَمْرو، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبد الله بن بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء مصغر الْبردَة الْأَسْلَمِيّ التَّابِعِيّ الْبَصْرِيّ القَاضِي بمرو، وَيحيى بن يعمر بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَضمّهَا الْمروزِي قاضيها.
والْحَدِيث مضى فِي بني إِسْرَائِيل فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن دَاوُد بن أبي الْفُرَات إِلَى آخِره، وَمضى أَيْضا فِي التَّفْسِير، وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي بني إِسْرَائِيل.
قَوْله: (على من يَشَاء) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على من شَاءَ، بِلَفْظ الْمَاضِي، يَعْنِي: على من شَاءَ من كَافِر أَو عاصٍ. قَوْله: (رَحْمَة للْمُؤْمِنين) أَي: من هَذِه الْأمة، ويروى: رَحْمَة للْمُسلمين، وَهُوَ رَحْمَة من حَيْثُ إِنَّه يتَضَمَّن مثل (أجر الشَّهِيد) وَإِن كَانَ هُوَ محنة صُورَة. قَوْله: (فَلَيْسَ من عبد) أَي: مُسلم يَقع الطَّاعُون فِي أَي مَكَان هُوَ فِيهِ فيمكث فِي بَلَده، وَفِي رِوَايَة أَحْمد فِي بَيته. قَوْله: (فِي بَلَده) مِمَّا تنَازع الفعلان فِيهِ، أَعنِي: قَوْله: يَقع، وَقَوله: فيمكث، قَوْله: (صَابِرًا) حَال مُفْرد أَي: غير منزعج وَلَا قلق بل مُسلما الْأَمر الله رَاضِيا بِقَضَائِهِ. قَوْله: (يعلم) حَال جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل. قَوْله: (إلاَّ كَانَ لَهُ مثل أجر الشَّهِيد) فَإِن قلت: مَا معنى المثلية هُنَا مَعَ أَنه جَاءَ: من مَاتَ بالطاعون كَانَ شَهِيدا؟ قلت: معنى المثلية أَن من أتصف بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَوَقع بِهِ الطَّاعُون ثمَّ لم يمت مِنْهُ أَنه يحصل لَهُ مثل أجر الشَّهِيد، وَإِذا مَاتَ بالطاعون يحصل لَهُ أجر الشَّهِيد. قَوْله: (من مَاتَ بالطاعون كَانَ شَهِيدا) يَعْنِي: حكما لَا حَقِيقَة.
تابَعَهُ النَّضْرُ عنْ داوُدَ.
أَي: تَابع حبانَ بن هِلَال النضرُ بن شُمَيْل فِي رِوَايَته عَن دَاوُد.

32 - (بابُ الرُّقَى بالقُرْآنِ والمعَوِّذَاتِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرقى، بِضَم الرَّاء وبالقاف مَقْصُور، جمع رقية بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْقَاف، وَيُقَال: رقى بِالْفَتْح يرقي بِالْكَسْرِ

(21/261)


من بَاب رمى يَرْمِي، ورقيت فلَانا بِكَسْر الْقَاف أرقيه، واسترقى طلب الرّقية وَالْكل بِلَا همز، وَمعنى الرّقية: التعويذ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الرّقية والرقى والاسترقاء: العوذة الَّتِي يرقى بهَا صَاحب الآفة كالحمى والصرع وَغير ذَلِك من الْآفَات. قَوْله: (بِالْقُرْآنِ) أَي: بِقِرَاءَة شَيْء من الْقُرْآن. قَوْله: (والمعوذات) من عطف الْخَاص على الْعَام. قَالَ الْكرْمَانِي: وَكَانَ حَقه أَن يَقُول: والمعوذتين لِأَنَّهُمَا سورتان فَجمع إِمَّا لإِرَادَة هَاتين السورتين وَمَا يشبههما من الْقُرْآن، أَو بِاعْتِبَار أَن أقل الْجمع اثْنَان، وَيُقَال: المُرَاد بالمعوذات: سُورَة الفلق وَالنَّاس وَسورَة الْإِخْلَاص 7 لِأَنَّهُ جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يرقي بِسُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتين، وَهُوَ من بَاب التغليب.

5735 - حدّثني إبْرَاهيمُ بنُ مُوسَى أخبرنَا هِشامٌ عنْ مَعْمَرٍ عَن الزُّهْريِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كانَ يَنْفُثُ عَلى نَفْسِهِ فِي المَرَضِ الَّذِي ماتَ فيهِ بالمُعَوِّذاتِ، فَلَمّا ثَقُلَ كُنْتُ أنْفِثُ عنهُ بِهِنَّ، وأمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتها.
فَسَألْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ على يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِما وجْهَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بالمعوذات) وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الرَّازِيّ يعرف بالصغير، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد.
والْحَدِيث أخرجه فِي الْأَدَب أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (كَانَ ينفث) بِضَم الْفَاء وَكسرهَا والنفث شبه النفخ وَهُوَ أقل من التفل والتفل لَا بُد فِيهِ شَيْء من الرِّيق. قَوْله: (فِي الْمَرَض الَّذِي مَاتَ فِيهِ) أشارت بِهِ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى أَن ذَلِك وَقع فِي آخر حَيَاته: وَأَن ذَلِك لم ينْسَخ. قَوْله: (كنت أنفث عَنهُ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: عَلَيْهِ. قَوْله: (وامسح بيد نَفسه) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وامسح بِيَدِهِ نَفسه، وَنَفسه مَنْصُوب على المفعولية، أَي: أَمسَح بجسده بِيَدِهِ. قَوْله: (لبركتها) أَي: للتبرك بِتِلْكَ الرُّطُوبَة أَو الْهَوَاء وَالنَّفس الْمُبَاشر لتِلْك الرّقية وَالذكر، وَقد يكون على وَجه التفاؤل بِزَوَال الْأَلَم عَن الْمَرِيض وانفصاله عَنهُ، كَمَا ينْفَصل ذَلِك النفث عَن الراقي.
قَوْله: (فَسَأَلت الزُّهْرِيّ) السَّائِل هُوَ معمر وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
وَفِيه: التَّبَرُّك بِالرجلِ الصَّالح وَسَائِر أَعْضَائِهِ خُصُوصا الْيَد الْيُمْنَى.
ثمَّ الْكَلَام هُنَا على أَنْوَاع.
الأول: قَالَ ابْن الْأَثِير: وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَحَادِيث جَوَاز الرقى، وَفِي بَعْضهَا النَّهْي عَنْهَا، فَمن الْجَوَاز قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استرقوا لَهَا فَإِن بهَا النظرة، أَي: اطْلُبُوا لَهَا من يرقيها، وَمن النَّهْي قَوْله: لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَكْتَوُونَ، وَالْأَحَادِيث فِي الْقسمَيْنِ كَثِيرَة، وَوجه الْجمع بَينهمَا أَن الرقى يكره مِنْهَا مَا كَانَ بِغَيْر اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَبِغير أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته وَكَلَامه فِي كتبه الْمنزلَة، وَأَن يعْتَقد أَن الرّقية نافعة لَا محَالة، فيتكل عَلَيْهَا، وَإِيَّاهَا أَرَادَ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا توكل من استرقى، وَلَا يكره مِنْهَا مَا كَانَ بِخِلَاف ذَلِك، كالتعوذ بِالْقُرْآنِ وَأَسْمَاء الله تَعَالَى والرقى المروية. وَفِي (موطأ مَالك) رَضِي الله عَنهُ: أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ دخل على عَائِشَة وَهِي تَشْتَكِي وَيَهُودِيَّة ترقيها، فَقَالَ أَبُو بكر: إرقيها بِكِتَاب الله، يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل، وَلما ذكره ابْن حبَان ذكره مَرْفُوعا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل ... الحَدِيث.
الثَّانِي: هَل يجوز رقية الْكَافِر للْمُسلمِ؟ فَروِيَ عَن مَالك جَوَاز رقية الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ للْمُسلمِ إِذا رقى بِكِتَاب الله، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ: أكره رقي أهل الْكتاب وَلَا أحبه لأَنا لَا نعلم هَل يرقون بِكِتَاب الله أَو بالمكروه الَّذِي يضاهي السحر، وروى ابْن وهب أَن مَالِكًا سُئِلَ عَن الْمَرْأَة ترقي بالحديدة وَالْملح، وَعَن الَّذِي يكْتب الْكتاب يعلقه عَلَيْهِ، ويعقد فِي الْخَيط الَّذِي يرْبط بِهِ الْكتاب سبع عقد، وَالَّذِي يكْتب خَاتم سُلَيْمَان فِي الْكتاب، فكرهه كُله مَالك، وَقَالَ: لم يكن ذَلِك من أَمر النَّاس.
الثَّالِث: فِيهِ إِبَاحَة النفث فِي الرقى وَالرَّدّ على من أنكر ذَلِك من الإسلاميين، وَقد روى الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: إِذا رقيت بآي الْقُرْآن فَلَا تنفث. وَقَالَ الْأسود: أكره النفث، وَكَانَ لَا يرى بالنفخ بَأْسا، وَكَرِهَهُ أَيْضا عِكْرِمَة وَالْحكم وَحَمَّاد، قَالَ أَبُو عمر: أَظن حجَّة من كرهه ظَاهر قَوْله عز وَجل: {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} (الفلق: 4) ، وَذَلِكَ نفث سحر وَالسحر محرم، وَمَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أولى، وَفِيه الْخَيْر وَالْبركَة.
الرَّابِع: فِيهِ

(21/262)


الْمسْح بِالْيَدِ عِنْد الرّقية، وَفِي مَعْنَاهُ الْمسْح بِالْيَدِ على مَا يُرْجَى بركته وشفاؤه وخيره، مثل الْمسْح على رَأس الْيَتِيم وَشبهه.

33 - (بابُ الرُّقَى بِفاتِحَةِ الكِتابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الرّقية بِقِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب، أَرَادَ بِهِ جَوَاز ذَلِك. فَإِن قلت: روى شُعْبَة عَن الركين قَالَ: سَمِعت الْقَاسِم بن حسان يحدث عَن عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره الرقي إلاَّ بالمعوذات. قلت: قَالَ الطَّبَرِيّ: هَذَا حَدِيث لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِمثلِهِ إِذْ فِيهِ من لَا يعرف، ثمَّ إِنَّه لَو صَحَّ لَكَانَ إِمَّا غَلطا أَو مَنْسُوخا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا أَدْرَاك أَنَّهَا رقية.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عَبَّاس عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
يذكر على صِيغَة الْمَجْهُول وَهُوَ صِيغَة التمريض، وَلَا يذكر صِيغَة التمريض إلاَّ إِذا كَانَ الحَدِيث على غير شَرطه مَعَ أَنه ذكر حَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب وَهُوَ الَّذِي أخرجه فِي الْبَاب الَّذِي يَأْتِي عقيب هَذَا الْبَاب، وَهُوَ: بَاب الشَّرْط فِي الرّقية أخرجه عَن سيدان بن مضَارب، على مَا يَأْتِي عَن قريب، وَهَذَا يُعَكر عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا يرد قَول ابْن الصّلاح وَغَيره: إِن البُخَارِيّ إِذا علق بِصِيغَة التمريض يكون غير صَحِيح عِنْده. قلت: ابْن الصّلاح وَغَيره من أهل الحَدِيث على أَن الَّذِي يُورِدهُ البُخَارِيّ بِصِيغَة التمريض لَا يكون على شَرطه، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس على شَرطه كَمَا ذكرنَا، وَإِلَّا يُرَاد عَلَيْهِ بَاقٍ غير أَن أحد مَشَايِخنَا ساعد البُخَارِيّ، وَذكر أَنه قد يصنع ذَلِك إِذا ذكر الْخَبَر بِالْمَعْنَى، وَلَا شكّ أَن الَّذِي ذكره عَن ابْن عَبَّاس لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالرقية بِفَاتِحَة الْكتاب، وَفِيه نظر لَا يخفى.

5736 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي بُشْرٍ عنْ أبي المُتَوَكِّلِ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنهُ أنَّ نَاسا مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أتَوْا عَلى حيٍّ مِنْ أحْياءٍ العَرَب فلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَما هُم كَذالِكَ إذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولائِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَواءٍ أوْراقٍ؟ فَقَالُوا: إنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونا وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنا جُعْلاً، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ ويجْمَعُ بُزاقَهُ ويَتفِل، فَبَرَأ، فأتَوْا بالشَّاءِ فَقَالُوا: لَا نَأْخُذَهُ حتَّى نَسْألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَألوهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ: وَمَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَةٌ؟ خُذُوها واضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ. (انْظُر الحَدِيث: 2276) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَجعل يقْرَأ بِأم الْكتاب) وَهِي الْفَاتِحَة، وغندر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَفِي بعض النّسخ صرح باسمه، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة جَعْفَر بن أبي وحشية واسْمه إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، وَيُقَال: الوَاسِطِيّ، وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دَاوُد النَّاجِي بالنُّون وَالْجِيم السَّامِي بِالسِّين الْمُهْملَة من سامة بن لؤَي، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ سعد بن مَالك والْحَدِيث مضى فِي الْإِجَارَة فِي: بَاب مَا يعْطى فِي الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فَلم يقروهم) أَي: فَلم يضيفوهم. قَوْله: (فبيناهم) ويروى: فبينماهم، بِزِيَادَة الْمِيم. قَوْله: (أَو راقٍ) أَصله: راقي، فَاعل إعلال قاضٍ قَوْله: (جعلا) بِضَم الْجِيم مَا جعل للْإنْسَان الْغَيْر الْمعِين من الشَّيْء على عمل يعمله (والقطيع) بِفَتْح الْقَاف: الطَّائِفَة من الْغنم، وَقيل: كَانَ ثَلَاثِينَ. قَوْله: (بالشاء) جمع شَاة. قَوْله: (فَجعل يقْرَأ) أَي: طفق يقْرَأ أَبُو سعيد لما ثَبت أَنه كَانَ الراقي. قَوْله: (ويتفل) بِالْيَاءِ وَضم الْفَاء وَكسرهَا. قَوْله: (بِسَهْم) أَي: نصيب.

34 - (بَاب الشَّرطِ فِي الرُّقْيَةِ بِقَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشَّرْط فِي قِرَاءَة الرّقية بقطيع بطَائفَة من الْغنم لَيَأْتُونَ بِهِ.

5737 - حدّثني سِيدانُ بنُ مُضارِبٍ أبُو مُحَمَّدٍ الباهِلِيُّ حدَّثنا أبُو مَعْشَرٍ البَصْرِيُّ هُوَ صَدُوقٌ يُوسُفُ بنُ يَزِيدَ البَرَّاءُ، قَالَ: حدَّثني عُبَيْدُ الله بنُ الأخْنَسِ أبُو مالِكٍ عَن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنِ

(21/263)


ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ نَفراً مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرُّوا بِماءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أوْ: سَليمٌ فَعَرَض لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الماءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ راقٍ؟ إنَّ فِي الماءِ رَجُلاً لَدِيغاً أوْ: سَلِيماً، فانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأ بِفاتِحَةِ الكِتابِ عَلى شاءٍ فبَرَأ، فجاءَ بالشَّاءِ إِلَى أصحابِهِ، فَكرِهُوا ذالِكَ وَقَالُوا: أخَذْتَ عَلى كِتابِ الله أجْراً؟ حتَّى قَدِمُوا المَدينَةَ، فَقَالُوا: يَا رسولَ الله! أخَذَ عَلى كِتابِ الله أجْراً. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ أحَقَّ مَا أخَذْتُمْ عَليْهِ أجْراً كِتابُ الله.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَرَأَ بِفَاتِحَة الْكتاب على شَاءَ) وسيدان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة وبالنون ابْن مضَارب اسْم فَاعل من الْمُضَاربَة بالضاد الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة أَبُو مُحَمَّد الْبَاهِلِيّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْهَاء نِسْبَة إِلَى باهلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة قَبيلَة، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد الْأَسْمَاء غَرِيب، وَأَبُو معشر اسْمه يُوسُف بن يزِيد الْبَراء بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء، كَانَ يبري السهْم وَكَانَ عطاراً، أَو إِنَّمَا قَالَ: (هُوَ صَدُوق) لكَونه صَدُوقًا عِنْده فَلذَلِك خرج لَهُ، وَكَذَلِكَ خرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ يحيى بن معِين: ضَعِيف، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ الْمقدمِي: ثِقَة، وَعبيد الله بِضَم الْعين ابْن الْأَخْنَس بخاء مُعْجمَة سَاكِنة وَنون مَفْتُوحَة وسين مُهْملَة، نخعي كُوفِي يكنى أَبَا مَالك، وَثَّقَهُ الْأَئِمَّة، وَقَالَ ابْن حبَان: يخطىء كثيرا. وَمَا لهَؤُلَاء الثَّلَاثَة فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَلَكِن لِعبيد الله بن الْأَخْنَس حَدِيث آخر فِي الْحَج، وَلأبي معشر آخر فِي الْأَشْرِبَة، وَابْن أبي مليكَة عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة واسْمه: زُهَيْر قَاضِي ابْن الزبير.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَهَذَا وَحَدِيث أبي سعيد الْمَذْكُور فِي قصَّة وَاحِدَة، وَأَنَّهَا وَقعت لَهُم مَعَ الَّذِي لدغ.
قَوْله: (مروا بِمَاء) أَي: بِقوم نازلين على مَاء. قَوْله: (أَو: سليم) شكّ من الرَّاوِي، سمي اللديغ سليما على الْعَكْس تفاؤلاً، كَمَا قيل للمهلكة: مفازة. قَوْله: (إِن فِي المَاء رجلا) ويروى: رجل، بِالرَّفْع على لُغَة بني ربيعَة. قَوْله: (فَانْطَلق رجل مِنْهُم) وَهُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. قَوْله: (على شَاءَ) أَي: قَرَأَ مَشْرُوطًا على شَاءَ أَو مقرراً أَو مصالحاً عَلَيْهِ، وَالشَّاء جمع شَاة أَصله شاهة. فحذفت الْهَاء وَجَمعهَا: شِيَاه وَشاء وشوي. قَوْله: (إِن أَحَق مَا أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجرا كتاب الله) قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) فِيهِ: حجَّة على أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي مَنعه أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن. قلت: من لَهُ ذوق من مَعَاني الْأَحَادِيث لَا يتَلَفَّظ بِهَذَا الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ لَهُ معنى، وَلَيْسَ معنى هَذَا مَا فهمه هُوَ حَتَّى يُورِدهُ على الإِمَام، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ فِي أَخذ الْأُجْرَة على الرّقية بِالْفَاتِحَةِ أَو غَيرهَا من الْقُرْآن، فالإمام لَا يمْنَع هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يمنعهُ عَن أَخذ تَعْلِيم الْقُرْآن وَتَعْلِيم الْقُرْآن غير الرّقية بِهِ، وَمَعَ هَذَا أَبُو حنيفَة مَا انْفَرد بِهَذَا، وَهُوَ مَذْهَب عبد الله بن شَقِيق وَالْأسود بن ثَعْلَبَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعبد الله بن يزِيد وَشُرَيْح القَاضِي وَالْحسن بن حييّ، وَتَعْيِين هَذَا الْمُعْتَرض الإِمَام من بَين هَؤُلَاءِ من أريحة التعصب الْبَارِد وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عَفَّان بن مُسلم حَدثنَا أبان بن يزِيد الْعَطَّار حَدثنِي يحيى بن أبي كثير عَن زيد هُوَ ابْن أبي سَلام مَمْطُور الحبشي عَن أبي رَاشد الحبراني عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول؛ (تعلمُوا الْقُرْآن وَلَا تغلوا فِيهِ وَلَا تجفوا عَنهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ) . قَوْله: (لَا تغلوا) من الغلو بالغين الْمُعْجَمَة: وَهُوَ التشدد والمجاوزة عَن الْحَد. قَوْله: (وَلَا تجفوا) أَي: تعاهدوه وَلَا تبعدوا عَن تِلَاوَته وَهُوَ من الْجفَاء وَهُوَ الْبعد عَن الشَّيْء. قَوْله: (وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ) أَي: بِمُقَابلَة الْقُرْآن أَرَادَ: لَا تجْعَلُوا لَهُ عوضا من سحت الدُّنْيَا.

35 - (بابُ رُقْيَةِ العَيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رقية الْعين أَي: رقية الَّذِي يصاب بِالْعينِ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الرمد، بل الْإِضْرَار بِالْعينِ والإصابة بهَا كَمَا يتعجب الشَّخْص من الشَّيْء بِمَا يرَاهُ بِعَيْنِه فيتضرر ذَلِك الشَّيْء من نظره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أنْكرت طَائِفَة الْعين، قَالُوا: لَا أثر لَهَا، وَالدَّلِيل على فَسَاد قَوْلهم أَنه أَمر مُمكن، والصادق أخبر بذلك، يَعْنِي بِوُقُوعِهِ فَلَا يجوز رده، وَقَالَ بَعضهم: العائن تنبعث من عينه قُوَّة سمِّية تتصل بالمعين فَيهْلك، كَمَا تنبعث من الأفعى، وَالْمذهب أَن الله تَعَالَى أجْرى الْعَادة بِخلق الضَّرَر عِنْد مُقَابلَة هَذَا الشَّخْص

(21/264)


لشخص آخر، وَأما انبعاث شَيْء مِنْهُ إِلَيْهِ فَهُوَ من الممكنات. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْعين نظر باستحسان وَأَن يشوبه شَيْء من الْحَسَد وَيكون النَّاظر خَبِيث الطَّبْع كذوات السمُوم، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ كل عاشق يُصِيب معشوقه بِالْعينِ، يُقَال: عنت الرجل إِذا أصبته بِعَيْنِك فَهُوَ معِين ومعيون وَالْفَاعِل عائن.

5738 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيان قَالَ: حدّثني مَعْبَدُ بنُ خالِد قَالَ: سمِعْتُ عبْدَ الله بنَ شَدَّادٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: أمَرَني رسولِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوْ: أمَرَ أَن يُسْتَرْقَى مِن العَيْن.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن كثير، قَالَ الْكرْمَانِي ضد الْقَلِيل وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : شيخ البُخَارِيّ مُحَمَّد بن كَبِير بِالْبَاء الْمُوَحدَة بعد الْكَاف. قلت: هَذَا غلط، وَالظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ الْجَاهِل، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، ومعبد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد القَاضِي الْكُوفِي التَّابِعِيّ، وَعبد الله بن شَدَّاد هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْهَاد، لَهُ رُؤْيَة وَأَبوهُ صَحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن أبي بكر وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن مَنْصُور وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد.
قَوْله: (أَو أَمر) ، شكّ من الرَّاوِي، وَأخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) عَن شيخ البُخَارِيّ فِيهِ فَقَالَ: أَمرنِي، جزما، وَكَذَا أخرجه النَّسَائِيّ والإسماعيلي من طَرِيق أبي نعيم عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق عبد الله بن نمير عَن سُفْيَان: كَانَ يَأْمُرنِي أَن أسترقي، وَعِنْده من طَرِيق مسعر عَن معبد بن خَالِد: كَانَ يأمرها. قَوْله: (أَن يسترقي) أَي: بِطَلَب الرّقية مِمَّن يعرف الرقي بِسَبَب الْعين، وَقَالَ الْخطابِيّ: الرّقية الَّتِي أَمر بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ مَا يكون بقوارع الْقُرْآن، وَبِمَا فِيهِ ذكر الله تَعَالَى على ألسن الْأَبْرَار من الْخلق الطاهرة النُّفُوس، وَهُوَ الطِّبّ الروحاني، وَعَلِيهِ كَانَ مُعظم الْأَمر فِي الزَّمَان الْمُتَقَدّم الصَّالح أَهله، فَلَمَّا عز وجود هَذَا الصِّنْف من أبرار الخليقة مَال النَّاس إِلَى الطِّبّ الجسماني حَيْثُ لم يَجدوا الطِّبّ الروحاني نجوعاً فِي الأسقام لعدم الْمعَانِي الَّتِي كَانَ يجمعها الرقاة المقدسة من البركات، وَمَا نهى عَنهُ هُوَ رقية العزامين وَمن يدعى تسخير الْجِنّ.

5739 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ خالِدٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ وَهْبِ بنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أخبرنَا الزُّهْرِيُّ عنْ عُرْوَةَ بن الزُبَيْرِ عنْ زيْنَبَ ابْنَةِ أبي سَلَمَةَ عنْ أُُمِّ سَلَمَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَأى فِي بَيْتِها جارِيَةً فِي وَجْهِها سَفْعَةٌ، فَقَالَ: اسْتَرْقُوا لَها فإِنَّ بِها النَّظْرَةَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. قَوْله: (مُحَمَّد بن خَالِد) هُوَ مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن خَالِد الذهلي بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقد نسبه إِلَى جد أَبِيه، وَكَذَا قَالَ الْحَاكِم والجوزقي والكلاباذي وَأَبُو مَسْعُود وَمن تَبِعَهُمْ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ هُنَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد الذهلي، فَانْتفى الظَّن بِهَذَا أَن يذهب الْوَهم إِلَى مُحَمَّد بن خَالِد بن جبلة الرَّافِعِيّ الَّذِي ذكره ابْن عدي فِي شُيُوخ البُخَارِيّ، وَمُحَمّد بن وهب بن عَطِيَّة سلمي قد أدْركهُ البُخَارِيّ وَلَا يدْرِي لقبه، وَمَا لَهُ عِنْده إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَمُحَمّد بن حَرْب الْخَولَانِيّ الْحِمصِي كَانَ كَاتبا لمُحَمد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ وَهُوَ ثِقَة عِنْد الْجَمِيع.
وَفِي هَذَا السَّنَد نُكْتَة غَرِيبَة جدا، وَهِي أَنه اجْتمع من نفس البُخَارِيّ إِلَى عُرْوَة سِتَّة أنفس اسْم كل مِنْهُم مُحَمَّد فَهُوَ مسلسل بالمحمدين الأول: البُخَارِيّ اسْمه مُحَمَّد، وَالثَّانِي: مُحَمَّد بن خَالِد، وَالثَّالِث: مُحَمَّد بن وهب، وَالرَّابِع: مُحَمَّد بن حَرْب، وَالْخَامِس: مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَالسَّادِس: مُحَمَّد بن مُسلم، وَهُوَ الزُّهْرِيّ، وَمن روى البُخَارِيّ من طَرِيق الفراوي عَن الحفصي عَن الْكشميهني عَن الْفربرِي كَانُوا عشرَة، وَهَذَا السَّنَد مِمَّا نزل فِيهِ البُخَارِيّ فِي حَدِيث عُرْوَة ثَلَاث دَرَجَات فَإِنَّهُ أخرجه فِي (صَحِيحه) : حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، وَهُوَ فِي الْعتْق، فَكَانَ بَينه وَبَين

(21/265)


عُرْوَة رجلَانِ وَهَاهُنَا بَينه وَبَينه خَمْسَة أنفس.
وَأخرجه مُسلم عَالِيا بِالنِّسْبَةِ لرِوَايَة البُخَارِيّ هَذِه، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الرّبيع حَدثنَا مُحَمَّد بن حَرْب فَذكره.
قَوْله: (سفعة) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَبِضَمِّهَا وَسُكُون الْفَاء وبعين مُهْملَة، قَالَ الْكرْمَانِي: السفعة الصُّفْرَة والشحوب فِي الْوَجْه، وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: هُوَ سَواد فِي الْوَجْه، وَعَن أبي الْعَلَاء المعري: هِيَ بِفَتْح السِّين أَجود وَقد يضم سينها من قَوْلهم: رجل أسفع أَي: لَونه أسود، وأصل السفع الْأَخْذ بالناصية، قَالَ الله تَعَالَى {لنسفعاً بالناصية} (العلق: 15) ، وَقيل: كل أصفر أسفع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ سَواد فِي خد الْمَرْأَة الشاحبة. قَوْله: (استرقوا لَهَا) أَي: اطْلُبُوا من يرقي لَهَا. قَوْله: (فَإِن بهَا النظرة) أَي: أصابتها عين، يُقَال: رجل مَنْظُور إِذا أَصَابَته الْعين، وَقَالَ ابْن قرقول: النظرة بِفَتْح النُّون وَسُكُون الظَّاء أَي: عين من نظر الْجِنّ، وَقَالَ أَبُو عبيد: أَي: أَن الشَّيْطَان أَصَابَهَا وَقَالَ الْخطابِيّ: عُيُون الْجِنّ أنفذ من الأسنة، وَلما مَاتَ سعد سمع قَائِل من الْجِنّ يَقُول:
(نَحن قتلنَا سيد الْخَزْرَج سعد بن عبَادَة ... ورميناه بِسَهْم فَلم يخط فُؤَاده)

قَالَ: فتأوله بَعضهم أَي: أصبناه بِعَين.
وَقَالَ عُقَيْلٌ عنِ الزُّهْرِيِّ: أخْبرني عُرْوَةُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا تَعْلِيق مُرْسل لم يذكر فِي إِسْنَاده زَيْنَب وَلَا أم سَلمَة، وَعقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وروى رِوَايَة عقيل عبد الله بن وهب عَن أبي لَهِيعَة عَن عقيل، وَلَفظه: أَن جَارِيَة دخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي بَيت أم سَلمَة، فَقَالَ: كَانَ بهَا سفعة.
تابَعَهُ عبْدُ الله بنُ سالِمٍ عنِ الزُّبَيْدِيِّ
أَي: تَابع مُحَمَّد بن حَرْب عبد الله بن سَالم أَبُو يُوسُف الْحِمصِي فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ، وروى هَذِه الْمُتَابَعَة الذهلي فِي (الزهريات) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) من طَرِيق إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْعَلَاء الْحِمصِي عَن عَمْرو بن الْحَارِث الْحِمصِي عَن عبد الله بن سَالم بِهِ سنداً أَو متْنا.

36 - (بابٌ العَيْنُ حَقٌّ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْعين حق أَي: الْإِصَابَة بِالْعينِ ثَابِتَة مَوْجُودَة، وَلها تَأْثِير فِي النُّفُوس، وَأنكر طَائِفَة من الطبايعين الْعين وَأَنه لَا شَيْء إلاَّ مَا تُدْرِكهُ الْحَواس الْخمس وَمَا عَداهَا فَلَا حَقِيقَة لَهُ. والْحَدِيث يرد عَلَيْهِم، وروى مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَفعه: الْعين حق وَلَو كَانَ شَيْء سَابق الْقدر سبقته الْعين، وَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: كَانَ يُؤمر العائن فيتوضأ ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ الْمعِين، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عَامر بن ربيعَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا رأى أحدكُم من نَفسه أَو مَاله أَو أَخِيه شَيْئا يُعجبهُ فَليدع بِالْبركَةِ، فَإِن الْعين حق، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! إِن ولد جَعْفَر تسرع إِلَيْهِم الْعين أَو نسترقي لَهُم؟ قَالَ: نعم، فَإِنَّهُ لَو كَانَ شَيْء سَابق الْقدر لسبقته الْعين، وَفِي كتاب ابْن أبي عَاصِم من طَرِيق صعصعة: أَكثر مَا يحْفر لأمتي من الْقُبُور الْعين، وَقَالَ أَبُو عمر. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: علام يقتل أحدكُم أَخَاهُ؟ دَلِيل على أَن الْعين رُبمَا قتلت، وَكَانَت سَببا من أَسبَاب الْمنية وَقَوله: (وَلَو كَانَ شَيْء يسْبق الْقدر لسبقته الْعين) دَلِيل على أَن الْمَرْء لَا يُصِيبهُ إلاَّ مَا قدر لَهُ، وَأَن الْعين لَا تسبق الْقدر وَلكنهَا من الْقدر، قَوْله: فَليدع بِالْبركَةِ، فِيهِ دَلِيل على أَن الْعين لَا تضر وَلَا تعدو إِذا برك العائن فَوَاجِب على كل من أعجبه شَيْء أَن يبرك فَإِنَّهُ إِذا دَعَا بِالْبركَةِ صرف الْمَحْذُور لَا محَالة، والتبريك أَن يَقُول: تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارك فِيهِ، وَيُؤمر العائن بالاغتسال وَيجْبر إِن أَبى، لِأَن الْأَمر حَقِيقَة للْوُجُوب وَلَا يَنْبَغِي لأحد أَن يمْنَع أَخَاهُ مَا ينْتَفع بِهِ أَخُوهُ وَلَا يضرّهُ هُوَ لاسيما إِذا كَانَ سَببه، وَهُوَ الْجَانِي عَلَيْهِ، والاغتسال هُوَ أَن يغسل وَجهه وَيَديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجلَيْهِ وداخلة إزَاره فِي قدح ثمَّ صب عَلَيْهِ، ويروى: وَيَديه إِلَى الْمرْفقين والركبتين، وَقَالَ أَبُو عمر: وَأحسن شَيْء فِي تَفْسِير الِاغْتِسَال مَا وَصفه الزُّهْرِيّ رَاوِي الحَدِيث الَّذِي عِنْد مُسلم: يُؤْتى بقدح من مَاء ثمَّ يصب بِيَدِهِ الْيُسْرَى على كَفه الْيُمْنَى، ثمَّ بكفه الْيُمْنَى على كَفه الْيُسْرَى ثمَّ يدْخل يَده الْيُسْرَى فَيصب بهَا على مرفق يَده الْيُمْنَى ثمَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى على مرفق يَده الْيُسْرَى، ثمَّ يغسل قدمه الْيُمْنَى ثمَّ يدْخل الْيُمْنَى فَيغسل قدمه الْيُسْرَى، ثمَّ يدْخل يَده الْيُمْنَى فَيغسل الرُّكْبَتَيْنِ، ثمَّ يَأْخُذ دَاخِلَة إزَاره فَيصب على رَأسه صبة وَاحِدَة وَلَا يضع الْقدَم حَتَّى يفرغ، وَأَن يصب من خَلفه صبة وَاحِدَة يجْرِي على جسده، وَلَا يوضع الْقدح فِي الأَرْض، وَيغسل أَطْرَافه

(21/266)


وركبتيه وداخلة إزَاره فِي الْقدح. قَالَ النَّوَوِيّ: وَلَا يوضع الْقدح فِي الأَرْض وَلَا يغسل مَا بَين الْمرْفقين وَالْكَفَّيْنِ، وَاخْتلفُوا فِي دَاخِلَة إزَاره، فَقيل: هُوَ الطّرف المتدلى الَّذِي يَلِي حقوه الْأَيْمن، وَقيل: دَاخِلَة الْإِزَار هِيَ المئزر، وَالْمرَاد بداخلته مَا يَلِي الْجَسَد مِنْهُ، وَقيل: المُرَاد مَوْضِعه من الْجَسَد، وَقيل: مذاكره، وَقيل: المُرَاد وركه إِذْ هُوَ معقد الْإِزَار، قَالَ عِيَاض: قَالَ بعض الْعلمَاء يَنْبَغِي إِذا عرف وَاحِد بالإصابة بِالْعينِ أَن يتَجَنَّب ويحترز مِنْهُ، وَيَنْبَغِي للْإِمَام مَنعه من مداخلته النَّاس وَيلْزمهُ بِلُزُوم بَيته، وَإِن كَانَ فَقِيرا رزقه مَا يَكْفِيهِ فضرره أَكثر من آكل الثوم والبصل الَّذِي مَنعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من دُخُول الْمَسْجِد لِئَلَّا يُؤْذِي النَّاس، وَمن ضَرَر المجذوم الَّذِي مَنعه عمر، رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَو انْتَهَت إِصَابَة الْعين إِلَى أَن يعرف بذلك وَيعلم من حَاله أَنه كلما تكلم بِشَيْء مُعظما لَهُ أَو مُتَعَجِّبا مِنْهُ أُصِيب ذَلِك الشَّيْء، وتكرر ذَلِك بِحَيْثُ يصير ذَلِك عَادَة فَمَا أتْلفه بِعَيْنِه غرمه وَإِن قتل أحدا بِعَيْنِه عَامِدًا لقَتله قتل بِهِ كالساحر الْقَاتِل بسحره عِنْد من لَا يقْتله كفرا، وَأما عندنَا فَيقْتل على كل حَال، قتل بسحره أَو لَا لِأَنَّهُ كالزنديق.

5740 - حدّثنا إسحاقُ بنُ نَصْرٍ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: العَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عنِ الوشْمِ. (انْظُر الحَدِيث: 5740 طرفه فِي: 5944) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ كَانَ ينزل بِالْمَدِينَةِ بِبَاب بني سعد، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد، وَهَمَّام بتَشْديد الْمِيم ابْن مُنَبّه الْأَنْبَارِي الصَّنْعَانِيّ أَخُو وهب بن مُنَبّه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن يحيى وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَلم يذكر الوشم.
قَوْله: (الْعين حق) مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَنهى) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الوشم بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ غرز بالإبرة فِي الْعُضْو ثمَّ التحشية بالكحل فيخضر وَقَالَ بَعضهم لم تظهر الْمُنَاسبَة بَين هَاتين الجملتين فكأنهما حديثان مستقلان، وَلِهَذَا حذف مُسلم وَأَبُو دَاوُد الْجُمْلَة الثَّانِيَة من روايتيهما مَعَ أَنَّهُمَا أَخْرجَاهُ من رِوَايَة عبد الرَّزَّاق الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يُقَال: الْمُنَاسبَة بَينهمَا اشتراكهما فِي أَن كلاًّ مِنْهُمَا يحدث فِي الْعُضْو لوناً غير لَونه الْأَصْلِيّ. قلت: فِي كُله نظر أما قَوْله: فكأنهما حديثان مستقلان، زعم بِالظَّنِّ والتخمين أَن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا، واستدلاله على هَذَا الظَّن بِعَدَمِ إِخْرَاج مُسلم وَأبي دَاوُد الْجُمْلَة الثَّانِيَة اسْتِدْلَال فَاسد، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ نِسْبَة رِوَايَة البُخَارِيّ إِلَى زِيَادَة لم يقلها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث، وَنسبَة مُسلم وَأبي دَاوُد إِلَى نقص شَيْء مِنْهُ قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هَذَا حَدِيث مُسْتَقل كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، والاقتصار فِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد من الروَاة. وَأما قَوْله: (وَيحْتَمل أَن يُقَال) إِلَى آخِره، احْتِمَال بعيد لِأَن دَعْوَاهُ الْمُنَاسبَة بَين الجملتين بالاشتراك غير مطردَة لِأَن إِحْدَاث الْعين اللَّوْن غير اللَّوْن الْأَصْلِيّ غير مَقْصُور على عُضْو، بل إحداثها يعم الْبدن كُله، وَالْوَجْه فِي الْمُنَاسبَة بَين الجملتين أَن يُقَال: الظَّاهِر أَن قوما سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعين، وقوماً آخَرين سَأَلُوهُ عَن الوشم، فِي مجْلِس وَاحِد، فَأجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن سَأَلَهُ عَن الْعين بقوله: الْعين حق، وَنهى عَن الوشم تَنْبِيها لمن سَأَلَهُ عَنهُ بِأَنَّهُ: لَا يجوز، فَحصل الجوابان فِي مجْلِس وَاحِد، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة بالجملتين، وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: الْعين حق، وَحضر فِي مجْلِس آخر سَأَلُوهُ عَن الوشم فَنهى عَنهُ، ثمَّ إِن أَبَا هُرَيْرَة رَوَاهُ عِنْد رِوَايَته بِالْجمعِ بَينهمَا لكَونه سُئِلَ: هَل لَهُ علم من الْعين والوشم؟ فَقَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْعين حق وَنهى عَن الوشم.

37 - (بابُ رُقْيَةِ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الرّقية عِنْد لدغ الْحَيَّة وَالْعَقْرَب.

5741 - حدّثنا مُوسَى بنُ اسْماعيلَ حدَّثنا عبْدُ الواحدِ حدّثنا سُلَيْمانُ الشَّيْبانِيُّ حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ الأسْوَدِ عنْ أبِيهِ قَالَ: سَألْتُ عائِشَةَ عنِ الرُّقْيَةِ منَ الحُمَةِ؟ فقالتْ: رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ. (انْظُر الحَدِيث: 5740 طرفه فِي: 5944) .

(21/267)


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (الرّقية من كل ذِي حمة) لِأَن الْحمة كل شَيْء يلْدغ أَو يلسع، قَالَه الْخطابِيّ، وَقيل: هِيَ شَوْكَة الْعَقْرَب، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَهِي بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم بعْدهَا هَاء.
وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد وَسليمَان الشَّيْبَانِيّ بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة وبالنون، وكنيته أَبُو إِسْحَاق، وَعبد الرحمان بن الْأسود يرْوى عَن أَبِيه الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع وَغَيره.
قَوْله: (رخص) مشْعر بِأَنَّهُ كَانَ مَنْهِيّا، وَلَعَلَّه نَهَاهُم عَنْهَا لما عَسى أَن يكون فِيهَا من أَلْفَاظ الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا علم أَنَّهَا عَارِية عَنْهَا أَبَاحَ لَهُم، وروى ابْن وهب عَن يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب قَالَ: بَلغنِي عَن رجال من أهل الْعلم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الرقي حَتَّى قدم الْمَدِينَة، وَكَانَ الرقي فِي ذَلِك الزَّمن فِيهَا كثير من كَلَام الشّرك فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة لدغ رجل من أَصْحَابه، قَالُوا: يَا رَسُول الله! قد كَانَ آل حزم يرقون من الْحمة، فَلَمَّا نهيت عَن الرقى تركوها، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ادعوا لي عمَارَة، وَكَانَ قد شهد بَدْرًا، قَالَ: اعْرِض عَليّ رقيتك، فعرضها عَلَيْهِ وَلم ير بهَا بَأْسا وَأذن لَهُ فِيهَا.

38 - (بابُ رُقْيَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رقية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي كَانَ يرقي بهَا.

5742 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا عبْدُ الوارِثِ عنْ عَبدِ العَزِيزِ قَالَ: دَخَلْتُ أَنا وثابِتٌ عَلى أنَسِ بنِ مالِكٍ فَقَالَ ثابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ اشْتَكَيْتُ؟ فَقَالَ أنَسٌ: أَلا أرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: اللهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْباسِ إشْفِ أنْتَ الشَّافِي لَا شافِيَ إلاَّ أنْتَ شِفاءً لَا يُغادِرُ سَقَماً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعدو عبد الْعَزِيز هُوَ ابْن صُهَيْب وثابت بالثاء الْمُثَلَّثَة هُوَ ابْن أسلم الْبنانِيّ بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُسَدّد فِي الطِّبّ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة قَوْله (يَا با حَمْزَة) أَصله يَا أَبَا حَمْزَة فحذفت الْألف للتَّخْفِيف وَأَبُو حَمْزَة كنية أنس بن مَالك قَوْله (اشتكيت) أَي مَرضت قَوْله (أَلا) بتَخْفِيف اللَّام للعرض والتنبيه قَوْله (أرقيك) بِفَتْح الْهمزَة قَوْله (مَذْهَب الباس) على صُورَة اسْم الْفَاعِل ويروى اذْهَبْ الباس بِصُورَة الْأَمر من الأذهاب والباس الْهمزَة فِي الأَصْل فحذفت للمواخاة والباس الشدَّة وَالْعَذَاب قَوْله (اشف) أَمر من شفي يشفى قَوْله (أَنْت الشافي) قيل يُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز تَسْمِيَة الله تَعَالَى بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآن بِشَرْطَيْنِ (أَحدهمَا) أَن لَا يكون فِي ذَلِك مَا يُوهم نقصا وَالْآخر أَن يكون لَهُ أصل فِي الْقُرْآن وَهَذَا من ذَاك فَإِن فِي الْقُرْآن (وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين) قلت هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف مِنْهُم من قَالَ أَسمَاء الله توقيفية فَلَا يجوز أَن يُسمى بِمَا لم يسمع فِي الشَّرْع وَمِنْهُم من قَالَ غير توقيفية وَلَكِن اشترطوا الشَّرْط الأول فَقَط فَافْهَم قَوْله (لَا شافي إِلَّا أَنْت) إِشَارَة إِلَى أَن كل مَا يَقع من الدَّوَاء والتداوى إِن لم يُصَادف تَقْدِير الله عز وَجل فَلَا ينجح قَوْله (شِفَاء) مَنْصُوب بقوله اشف وَقَالَ بَعضهم يجوز الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ أَي هُوَ قلت هَذَا تصرف غير مُسْتَقِيم على مَا لَا يخفى قَوْله لَا يُغَادر سقماً هَذِه الْجُمْلَة صفة لقَوْله شِفَاء وَمعنى لَا يُغَادر لَا يتْرك وسقما بِفتْحَتَيْنِ مَفْعُوله وَيجوز فِيهِ ضم السِّين وتسكين الْقَاف.

5743 - حدَّثنا عُمْرُ بن عَليّ حدَّثنا سُفْيانُ حَدثنِي سَليْمان عَن مُسْلِمٍ عَن مسْرُوقٍ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أنَّ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ اليُمْنى ويَقُولُ اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ أذْهِبِ الباسَ اشْفِهْ وأنْتَ الشَّافِي لاَ شِفاءَ إِلاَّ شِفاؤكَ شِفاءَ إِلَّا يُغادِرُ سَقمَاً.
قَالَ سُفْيانُ: حدَّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدَّثَني عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوق عنْ عائِشَةَ نحْوَهُ.

(21/268)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن عَليّ بن بَحر الصَّيْرَفِي الْبَصْرِيّ، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش وَمُسلم بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين وَكسر اللَّام. قَالَ بَعضهم هُوَ أَبُو الضُّحَى مَشْهُور بكنيته أَكثر من اسْمه، ثمَّ قَالَ: وَجوز الْكرْمَانِي أَن يكون مُسلم بن عمرَان لكَونه يروي عَن مَسْرُوق ويروي الْأَعْمَش عَنهُ، وَهُوَ تَجْوِيز عَقْلِي مَحْض يمجه سمع الْمُحدث، على أَنِّي لم أر لمُسلم بن عمرَان البطين رِوَايَة عَن مسورق. قلت: الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل يمجه سمع كل أحد، ودعواه أَنه لم ير لمُسلم بن عمرَان رِوَايَة عَن مَسْرُوق بَاطِلَة، لِأَن جَامع (رجال الصَّحِيحَيْنِ) ذكر فِيهِ مُسلم بن أبي عمارن، وَيُقَال: ابْن عمرَان، وَيُقَال: ابْن أبي عبد الله البطين، يكنى أَبَا عبد الله سمع سعيد بن جُبَير عِنْدهمَا، يَعْنِي (: عِنْد الشَّيْخَيْنِ، ومسروقاً عِنْد البُخَارِيّ، وروى عَنهُ الْأَعْمَش عِنْدهمَا، وَتُوفِّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ وَكَيف يدعى هَذَا الْمُدعى بِدَعْوَاهُ الْفَاسِدَة ردا على من سبقه فِي شرح هَذَا الحَدِيث مشنعاً عَلَيْهِ بِسوء أدب قل كل يعْمل على شاكلته؟
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن شَيبَان بن فروخ وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن آخَرين.
قَوْله: (يعوذ) من التعويذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (يمسح) أَي: يمسح على مَوضِع الوجع بِيَدِهِ الْيُمْنَى، قَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ على طَرِيق التفاؤل لزوَال ذَلِك الوجع. قَوْله: (لَا شِفَاء) بِالْمدِّ مَبْنِيّ على الْفَتْح وَخَبره مَحْذُوف أَي: لَا شِفَاء حَاصِل لنا أَوله إلاَّ بشفائكِ قَوْله: (إلاَّ شفاؤك) بِالرَّفْع بَدَلا من مَوضِع: لَا شِفَاء قَوْله: (شِفَاء) بِالنّصب على أَنه مصدر: إشفه.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (حدثت بِهِ) أَي: بِهَذَا الحَدِيث منصوراً يَعْنِي: ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَالْحَاصِل أَن فِيهِ طَرِيقين: طَرِيق عَن مُسلم عَن مَسْرُوق، وَطَرِيق عَن إِبْرَاهِيم عَنهُ.

5744 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ أبي رجاءٍ حَدثنَا النَّضْرُ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَرْقِي، يَقُولُ: امْسَحِ الباسَ ربَّ النَّاسَ بِيَدِكَ الشِّفاءُ لَا كاشِفَ لهُ إلاَّ أنْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأحمد بن أبي رَجَاء بِالْجِيم وَالْمدّ واسْمه عبد الله أَبُو الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل، وَهِشَام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (يَقُول) حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: يرقي قَوْله: (رب النَّاس) أَي: يَا رب النَّاس. قَوْله: (لَا كاشف لَهُ) أَي: للمرض أَو للْمَرِيض الَّذِي يرقي لَهُ، فقرينة الْحَال تدل على ذَلِك.

5745 - حدّثناعَليُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ قَالَ: حدّثني عبْدُ ربِّهِ بنُ سَعيدٍ عنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: بِسْمِ الله تُرْبَةُ أرْضِنا بِرِيقَة بَعْضِنا يُشْفَى سَقِيمُنا بإِذْنِ رَبِّنا. (انْظُر الحَدِيث: 5745 طرفه فِي: 5746) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعلي بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبد ربه بِإِضَافَة عبد إِلَى ربه وَإِضَافَة الرب إِلَى الضَّمِير هُوَ الْأنْصَارِيّ أَخُو يحيى بن سعيد، وَعمرَة هِيَ بنت عبد الرَّحْمَن التابعية.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الطِّبّ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (كَانَ يَقُول للْمَرِيض) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: كَانَ يَقُول للْإنْسَان إِذا اشْتَكَى. قَوْله: (تربة أَرْضنَا) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذِه تربة أَرْضنَا أَو: هَذَا الْمَرِيض. قَوْله: (بريقة بَعْضنَا) فِيهِ دلَالَة على أَنه كَانَ يتفل عِنْد الرّقية، وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الحَدِيث أَنه إِذا أَخذ من ريق نَفسه على إصبعه السبابَة ثمَّ وَضعهَا على التُّرَاب فعلق بِهِ شَيْء مِنْهُ ثمَّ مسح بِهِ الْموضع العليل أَو الجريح قَائِلا الْكَلَام الْمَذْكُور فِي حَالَة الْمسْح، وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْموضع بِكَلَام كثير، وَأحسنه مَا قَالَه التوربشتي: بِأَن المُرَاد بالتربة الْإِشَارَة إِلَى فطْرَة آدم، والريقة الْإِشَارَة إِلَى النُّطْفَة، كَأَنَّهُ تضرع بِلِسَان الْحَال أَنَّك اخترعت الأَصْل الأول من التُّرَاب ثمَّ أبدعته مِنْهُ من مَاء مهين

(21/269)


فهين عَلَيْك أَن تشفي من كَانَت هَذِه نشأته. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل المُرَاد بأرضنا أَرض الْمَدِينَة خَاصَّة لبركتها، وبعضنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لشرف رِيقه، فَيكون ذَلِك مَخْصُوصًا، وَفِيه نظر لَا يخفى. قَوْله: (يشفي سقيمنا) على بِنَاء الْمَجْهُول، وسقيمنا مَرْفُوع، بِهِ ويروى: يشفي بِهِ سقيمنا، ويروى يشفي سقيمنا، على بِنَاء الْفَاعِل فَاعله مُقَدّر، وسقيمنا بِالنّصب على المفعولية.

5746 - حدّثني صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخبرَنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عبْدِ ربِّهِ بنِ سَعيدٍ عنْ عَمْرَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ: بسْمِ الله تُرْبَةُ أرْضِنا ورِيقَةُ بَعْضِنا يُشْفَى سَقِيمُنا بإِِذْنِ رَبِّنا. (انْظُر الحَدِيث: 5745) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن صَدَقَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره.

39 - (بابُ النفْثِ فِي الرُّقْيَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز النفث بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْفَاء وبالثاء الْمُثَلَّثَة فِي الرّقية، وَفِيه رد على من كره النفث فِيهَا كالأسود ابْن يزِيد التَّابِعِيّ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.

5747 - حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حَدثنَا سُليْمانُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلمَةَ، قَالَ: سَمِعتُ أَبَا قَتادَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: الرُّؤْيا من الله والْحُلُمُ مِنَ الشيْطانِ، فإِذَا رأى أحَدُكُمْ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ويَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّها، فإِِنَّها لَا تضُرُّهُ: وَقَالَ أبُو سَلَمَةَ: فإنْ كُنْتُ لأرَى الرُّويا أثْقَلَ عَليَّ منَ الجَبَلِ، فَما هُوَ إلاَّ أنْ سَمِعْتُ هاذَا الحَدِيثَ فَما أُُبالِيها.
قَالَ بَعضهم. قَوْله: (فلينفث) هُوَ المُرَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذِه التَّرْجَمَة. قلت: التَّرْجَمَة فِي النفث فِي الرّقية، وَفِي الحَدِيث: النفث فِي الرُّؤْيَا، فَلَا مُطَابقَة إلاَّ فِي مُجَرّد ذكر النفث، وَلَكِن النفث إِذا كَانَ مَشْرُوعا فِي هَذَا الْموضع، يكون مَشْرُوعا فِي غير هَذَا الْموضع أَيْضا قِيَاسا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يحصل التطابق بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلقه بالترجمة إِذْ لَيْسَ فِيهِ ذكر الرّقية؟ قلت التَّعَوُّذ هُوَ الرّقية انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا مثل كَلَام الْبَعْض الْمَذْكُور، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَاه مَا يشفي العليل، وَلَا مَا يروي الغليل، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (حَدثنَا خَالِد) ويروى: حَدثنِي خَالِد بن مخلد بِفَتْح الْمِيم، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَبُو قَتَادَة الْحَارِث بن ربعي الْأنْصَارِيّ، وَقيل غير ذَلِك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن أَحْمد بن يُونُس وَغَيره. وَأخرجه مُسلم فِي الرُّؤْيَا عَن عمر والناقد وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الرُّؤْيَا عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن آخَرين. وَأخرجه ابْن ماجة فِي الدِّيات عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
قَوْله: (الرُّؤْيَا) أَي: الصَّالِحَة من الله، يَعْنِي: بِشَارَة من الله يبشر بهَا عَبده ليحسن بِهِ ظَنّه وَيكثر عَلَيْهَا شكره. قَوْله: (والحلم) بِضَم اللَّام وسكونها أَي: الرُّؤْيَا الْمَكْرُوهَة هِيَ الَّتِي يريها الشَّيْطَان الْإِنْسَان ليحزنه فيسوء ظَنّه بربه، ويقل حَظه من الشُّكْر، فَلذَلِك أمره أَن ينفث أَي: يبصق من جِهَة شِمَاله ثَلَاث مَرَّات، ويتعوذ من شَره كَأَنَّهُ يقْصد بِهِ طرد الشَّيْطَان وتحقيره، واستقذاره. قَوْله: (ويتعوذ) بِالْجَزْمِ قَوْله: (وَقَالَ أَبُو سَلمَة) مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَإِن كنت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: إِن كنت بِدُونِ الْفَاء. قَوْله: (أثقل عَليّ من الْجَبَل) أَي: لأجل مَا كَانَ يتَوَقَّع من شَرها. قَوْله: (فَمَا هُوَ إلاَّ أَن سَمِعت) أَي: مَا الشَّأْن إلاَّ سَمَاعي، وَقَالَ الْمَازرِيّ: حَقِيقَة الرُّؤْيَا أَن الله تَعَالَى يخلق فِي قلب النَّائِم اعتقادات، فَإِن كَانَ ذَلِك الِاعْتِقَاد عَلامَة على الْخَيْر كَانَ خلقه بِغَيْر حَضْرَة الشَّيْطَان، وَإِن كَانَ على الشَّرّ فَهُوَ بِحَضْرَتِهِ، فنسب إِلَى الشَّيْطَان مجَازًا إِذْ لَا فعل لَهُ حَقِيقَة، إِذْ الْكل خلق الله تَعَالَى، وَقيل: أضيفت المحبوبة إِلَى الله تَعَالَى إِضَافَة تشريف بِخِلَاف الْمَكْرُوهَة وَإِن كَانَا بِخلق الله تَعَالَى.

5748 - حدّثنا عبدَ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله الأُوَيْسِيُّ، حَدثنَا سُليْمانُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهاب

(21/270)


ٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ. رضيَ الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أوَى إِلَى فِرَاشِه نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ {بِقَلْ هُوَ الله أحَدٌ} وبالمُعَوِّذَتَيْنِ جَميعاً، ثُمَّ يَمْسَح بِهِما وجْهَهُ، وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ منْ جَسَدِهِ، قالَتْ عائِشَةُ: فَلمَّا اشْتَكَى كانَ يأمُرُنِي أنْ أفْعَلَ ذالِكَ بِهِ.
قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أرَى ابْن شِهاب يَصْنَعُ ذَلِكَ إذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ. (انْظُر الحَدِيث: 5017 وطرفه) .

وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث. والترجمة هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عِنْد الحَدِيث السَّابِق، والأويسي نِسْبَة إِلَى أحد أجداده أويس بن سعد، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي عَن حبَان عَن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن أبي الطَّاهِر بن السرج وَغَيره.
قَوْله: {بقل هُوَ الله أحد) } أَي: يقْرؤهَا وَيقْرَأ مَعهَا المعوذتين بِكَسْر الْوَاو وينفث حَالَة الْقِرَاءَة. قَوْله: (فَلَمَّا اشْتَكَى) أَي: فَلَمَّا مرض. قَوْله: (كَانَ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَوْله: (قَالَ يُونُس) أَي: الرَّاوِي عَن ابْن شهَاب.

5749 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيل حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبي بِشْرٍ عنْ أبي المُتَوَكِّلِ عَنْ أبي سَعيدٍ أنَّ رَهْطاً مِنْ أصْحابِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْطَلَقُوا فِي سفْرَةٍ سافَرُوها حتَّى نَزَلُوا بِحَيٍ مِنْ أحْياءٍ العَرَبِ، فاسْتَضافُوهُمْ فأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ فَسَعَوْا لهُ بِكُلَ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لوْ أتَيْتُمْ هاؤُلاَءِ الرَّهْطَ الذِينَ قَدْ نزَلوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فأَتَوْهُمْ فقالُوا: يَا أيُّها الرَّهْطُ إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ فَسعَيْنا لهُ بِكُلِّ شَيءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيءٌ فَهَلْ عِنْدَ أحَدٍ مِنْكُمْ شَيءٌ؟ فقالَ بَعْضُهُمْ: نعَمْ، وَالله إنِّي لَرَاقٍ، ولاكِنْ وَالله لَقَدِ اسْتَضَفْناكَمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونا فَما أَنا بِرَاقٍ لَكُمْ حتَّى تَجْعَلُوا لَنا جُعْلاً، فَصالَحُوهُمْ عَلى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَم، فانْطلَقَ فَجَعَلَ يَتْفِلُ ويَقْرَأُ الحْمْدُ لله ربِّ العالَمِينَ حتَّى لَكأنَّما نُشِطَ مِنْ عِقال، فانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فأوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذي صالَحُوهُمْ عَليْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسمُوا. فَقَالَ الَّذِي رَقى: لَا تَفْعَلُوا حتَّى نأتِيَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَذْكُرَ لهُ الَّذِي كانَ فَنَنْظُرَ مَا يأمُرُنا، فَقَدِمُوا عَلى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرُوا لهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أصَبْتُمْ، اقْسِمُوا واضْرِبُوا لي مَعَكُمْ بِسَهْم.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَجعل يتفل) على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ عِنْد أول حَدِيث الْبَاب.
وَأَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة جَعْفَر بن أبي إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دَاوُد النَّاجِي بالنُّون وَالْجِيم.
والْحَدِيث قد مضى عَن قريب فِي: بَاب الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب.
قَوْله: (فَجعل يتفل) وَقد مضى أَن النفث دون التفل فَإِذا جَازَ التفل جَازَ النفث بِالطَّرِيقِ الأولى. قَوْله: (نشط) قيل: صَوَابه أنشط. قَالَ الْجَوْهَرِي: أنشطته أَي: حللته، ونشطته أَي: عقدته والعقال بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالقاف: الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ. قَوْله: (يمشي) حَال وَكَذَا قَوْله: (مَا بِهِ قلبة) بالفتحات وَمَعْنَاهُ: مَا بِهِ ألم يقلب على الْفراش لأَجله، وَقيل: أَصله من القلاب بِضَم الْقَاف وَهُوَ دَاء يَأْخُذ الْبَعِير فَيمسك على قلبه فَيَمُوت من يَوْمه. قَوْله: (فَقَالَ الَّذِي رقى) هُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. قَوْله: (فَذكرُوا لَهُ) أَي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (وَمَا يدْريك؟) أَي: أَي شَيْء دراك أَنَّهَا أَي: إِن قِرَاءَة الْفَاتِحَة رقية. قَوْله: (اقسموا) هَذِه الْقِسْمَة من بَاب المروآت والتبرعات وإلاَّ فَهُوَ ملك للراقي مُخْتَصّ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اضربوا إِلَى مَعكُمْ بِسَهْم) أَي: بِنَصِيب، تطييباً

(21/271)


لقُلُوبِهِمْ ومبالغة فِي تعريفهم أَنه حَلَال.

40 - (بابُ مَسْحِ الرَّاقِي الوَجَعَ بِيَدِهِ اليُمْنَى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مسح الَّذِي يرقي الوجع بِيَدِهِ.

5750 - حدّثني عبْدُ الله بنُ أبي شَيْبَةَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ سُفْيانَ عنِ الأعْمَشِ عنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَوِّذُ بَعْضَهُمْ يَمْسَحُهُ بيَمِينِهِ أذْهِبِ الباسَ ربَّ النَّاس واشْفِ أنْتَ الشَّافي لَا شِفاءً إلاّ شِفاؤُكَ شِفاءً لَا يُغَادِرُ سَقماً، فَذَكَرْتُهُ لِمَنْصُورٍ فَحَدَّثَني عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوق عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا بِنَحْوِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يمسحه بِيَمِينِهِ) وَعبد الله بن أبي شيبَة هُوَ أَبُو بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي شيبَة إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان الْعَبْسِي الْكُوفِي شيخ مُسلم أَيْضا، وَيحيى الْقطَّان، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَمُسلم هُوَ أَبُو الضُّحَى، ومسروق ابْن الأجدع. والْحَدِيث مر عَن قريب وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (يعوذ بَعضهم) وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: يعوذ بعض أَهله. قَوْله: (يمسحه بِيَمِينِهِ) جملَة حَالية، قَوْله: (أذهب الباس) مقول قَول مُقَدّر. قَوْله: (فَذَكرته) قَائِله سُفْيَان الثَّوْريّ أَي: فَذكرت الحَدِيث لمنصور بن مُعْتَمر فَحَدثني عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن مَسْرُوق. قَوْله: (بِنَحْوِهِ) أَي: بنحوالحديث الْمَذْكُور فِي رِوَايَة مُسلم عَن مَسْرُوق.

41 - (بابٌ المَرْأةُ تَرْقِي الرجُلَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَرْأَة ترقي الرجل.

5751 - حدّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ حَدثنَا هِشامٌ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كانَ يَنْفِثُ عَلى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ بالمُعوِّذَاتِ، فَلمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنا أنْفِثُ عليْهِ بِهِنَّ فأمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِها، فَسألْتُ ابنَ شِهابٍ: كَيْف كانَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: يَنْفِثُ عَلى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِما وجْهَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كنت أَنا أنفث عَلَيْهِ) وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف. والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب النفث فِي الرّقية.
قَوْله: (بالمعوذات) هِيَ سُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتان. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

42 - (بابُ مَنْ لَمْ يَرْق)

أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم يرقِ بِفَتْح الْيَاء وَكسر الْقَاف وبضم الْيَاء وَفتح الْقَاف أَعنِي على صِيغَة الْمَعْلُوم وَصِيغَة الْمَجْهُول.

5752 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا حُصَيْنُ بنُ نُميْرٍ عنْ حُصَيْنِ بنِ عَبْدِ الرحامانِ عَن سَعِيد بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ عَليْنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يوْماً، فَقَالَ: عُرِضَتْ عَليَّ الأُمَمُ فَجعَلَ يَمُرُّ النبيُّ ومعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيّ ومعَهُ الرَّجُلانِ، والنبيُّ ومَعَهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ لَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ، ورَأيْتُ سَواداً كَثيراً سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أنْ يَكُونَ أُمَّتي، فَقيلَ: هذَا مُوساى وقَوْمُهُ، ثُمَّ قِيل لي: انْظُرْ فَرَأيْتُ سَواداً كَثيراً سَدَّ الأُفُقَ، فَقيلَ لِي: انْظُرْ هاكَذَا وهاكَذَا، فرَأيْتُ سَواداً كَثيراً سَدَّ الأُفُقَ فقيلَ: هاؤُلاءِ أُمَّتُكَ ومعَ هاؤلاءِ سَبْعُونَ ألْفاً يَدْخُلُون الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ ولمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَتَذاكَرَ أصْحابُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: أما نحْنُ فَوُلدْنا فِي الشِّرْكِ ولاكِنَّا آمَنَّا بِاللَّه ورَسُولِهِ، ولاكِنْ هاؤُلاءِ هُمْ أبْناؤُنا، فَبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هُمُ الذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَسْتَرْقونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُون، فقامَ عُكَاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أمِنْهُمْ أَنا يَا رسولَ الله؟ قَالَ: نَعَمْ، فقامَ آخرُ فَقَالَ: أمِنْهُمْ أَنا؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ بِها عُكَاشَةُ.

(21/272)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يسْتَرقونَ) وحصين بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ وبنون ابْن نمير مصغر نمر الْحَيَوَان الْمَشْهُور الوَاسِطِيّ الضَّرِير، وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وحصين كَذَلِك ابْن عبد الرَّحْمَن الْكُوفِي.
والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب من اكتوى، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَمَعَهُ الرجل) ، هَذِه الْكَلِمَة فِي هَذِه الْمَوَاضِع جَاءَت بِالْوَاو وبدونها.

43 - (بابُ الطِّيَرَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الطَّيرَة بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَقد تسكن وَهُوَ التشاؤم بالشَّيْء، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَهُوَ مصدر تطير يُقَال تطير طيرة وتخير خيرة، وَلم يَجِيء من المصادر هَكَذَا غير هذَيْن. قلت: قد ذكر هُوَ أَيْضا طيبَة بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْيَاء فعلة من الطّيب، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه اسْم لَا مصدر كالتولة بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَفتح الْوَاو، وَجَاء فِي الحَدِيث التولة من الشّرك، وَهُوَ مَا يحبب الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا من السحر وَغَيره، وَجعله من الشّرك لاعتقادهم أَن ذَلِك يُؤثر وَيفْعل خلاف مَا قدره الله تَعَالَى.

5753 - حدّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ عَن سالِمٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ والشُّؤْمُ فِي ثلاثٍ. فِي المَرْأةِ والدارِ والدَّابَّةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا طيرة) وَعبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ المسندي، وَعُثْمَان بن عمر بن فَارس الْبَصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
قَوْله: (لَا عدوى) أَي: لَا تَعديَة للمرض من صَاحبه إِلَى غَيره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب قَوْله: (وَلَا طيرة) قد فسرناها الْآن. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: اخْتلفُوا فِي تَأْوِيل قَوْله: (لَا طيرة) فَمنهمْ من قَالَ مَعْنَاهُ الْأَخْبَار عَمَّا يَعْتَقِدهُ الْجَاهِلِيَّة، وَقيل: مَعْنَاهُ الْإِخْبَار عَن حكم الله الثَّابِت فِي الدَّار وَالْمَرْأَة وَالْفرس بِأَن الشؤم فِيهَا عَادَة، أجراها الله تَعَالَى وقضاه أنفذه يوجده حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا مَتى شَاءَ، وَالْأول سَاقِط لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْعَث ليخبر عَن النَّاس مَا كَانُوا يعتقدونه، وَإِنَّمَا بعث ليعلم النَّاس مَا يلْزمهُم أَن يعملوه ويعتقدوه، وأصل الطَّيرَة أَنهم كَانُوا ينفرون الظباء والطيور فَإِن أخذت ذَات الْيَمين تبركوا بِهِ ومضوا فِي حوائجهم، وَإِن أخذت ذَات الشمَال رجعُوا عَن ذَلِك وتشاءموا بهَا، فأبطله الشَّرْع، وَأخْبر بِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لَهُ فِي نفع أَو ضَرَر. وَيُقَال: إِنَّهُم كَانُوا يعتمدون فِي الْجَاهِلِيَّة على الطير فَإِذا كَانَ لأَحَدهم أَمر، فَإِن رأى الطير طَار يمنة تيمن بِهِ وَاسْتمرّ، وَإِن رَآهُ طَار يسرة تشاءم بِهِ وَرجع، وَكَانُوا يسمونه: السانح والبارح، فالسانح بسين مُهْملَة ثمَّ نون مَكْسُورَة وبحاء مُهْملَة وَهُوَ مَا والاك ميامنة بِأَن يمر عَن يسارك إِلَى يَمِينك، والبارح بباء مُوَحدَة وَرَاء مَكْسُورَة ثمَّ حاء مُهْملَة هُوَ بعكس ذَلِك. قَوْله: (والشؤم فِي ثَلَاث) أَي: فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء، هَذَا معَارض فِي الظَّاهِر لقَوْله: (لَا طيرة) وَدفع الْخطابِيّ هَذِه الْمُعَارضَة حَيْثُ قَالَ: هَذَا عَام مَخْصُوص إِذْ هُوَ فِي معنى الِاسْتِثْنَاء من الطَّيرَة، أَي: الطَّيرَة مَنْهِيّ عَنْهَا إلاَّ أَن يكون لَهُ دَار يكره سكناهَا، أَو امْرَأَة يكره صحبتهَا، أَو فرس كَذَلِك فليفارقهن، وَقيل: شُؤْم الدَّار ضيقها وَسُوء جارها، وشؤم الْمَرْأَة سلاطة لسانها وَعدم وِلَادَتهَا، وشؤم الْفرس أَن لَا يغزى عَلَيْهَا. وَقَالَ مَالك: هُوَ على ظَاهره، فَإِن الدَّار قد يَجْعَل الله سكناهَا سَببا للضَّرَر، وَكَذَا الْمَرْأَة الْمعينَة أَو الْفرس قد يحصل الضَّرَر عِنْده بِقَضَاء الله تَعَالَى، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ. قَوْله: (الشؤم فِي ثَلَاث) وَلم يقل فِيهِ إِن وَفِي رِوَايَة أُخرى: إِن كَانَ الشؤم فِي شَيْء، وَفِي أُخرى: إِن كَانَ فِي شَيْء فَفِي كَذَا وَكَذَا، فَكيف يجمع بَين هَذِه وَبَين قَوْله: (لَا طيرة؟) الْجَواب: إِن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قد غلظت على من روى هَذَا الحَدِيث، وَقَالَت: إِنَّمَا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ: الطَّيرَة فِي الْمَرْأَة وَالدَّار وَالدَّابَّة. قَالَ: وَهَذَا رد لصريح خبر رُوَاته ثِقَات، وَالصَّحِيح أَن الْمَعْنى إِن خيف من شَيْء أَن يكون سَببا لما يخَاف شَره ويتشاءم بِهِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاء لَا على السَّبِيل الَّذِي يَظُنهَا أهل الْجَاهِلِيَّة من الطَّيرَة والعدوى. وَقَالَ الْخطابِيّ: لما كَانَ الْإِنْسَان لَا يَسْتَغْنِي عَن هَذِه الْأَشْيَاء: الدَّار وَالْفرس وَالزَّوْجَة، وَكن لَا يسلمن من عَارض مَكْرُوه، فأضيف إِلَيْهَا الشؤم إِضَافَة مَحل، وَقَالَ ابْن التِّين: الشؤم مَهْمُوز وَيُسمى كل مَحْذُور ومكروه شؤماً ومشامة والشومى الْجِهَة الْيُسْرَى.

(21/273)


5754 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: لَا طِيرَةَ وخيْرُها الفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُها أحَدُكُمْ. (انْظُر الحَدِيث: 5754 طرفه فِي: 5755) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطِّبّ أَيْضا عَن عبد بن حميد وَغَيره.
قَوْله: (وَخَيرهَا) أَي: خير الطَّيرَة، قَالَ الطَّيِّبِيّ: وَقد علم أَن الطَّيرَة كلهَا لَا خير فِيهَا فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجنَّة يؤمئذٍ خير مُسْتَقرًّا} (الْفرْقَان: 24) . وَهُوَ مَبْنِيّ على زعمهم أَو هُوَ من بَاب قَوْلهم: الصَّيف خير من الشتَاء، أَي: الفال فِي بَابه أبلغ من الطَّيرَة فِي بَابهَا، وَمعنى التَّرَخُّص فِي الفأل وَالْمَنْع من الطَّيرَة هُوَ أَن الشَّخْص لَو رأى شَيْئا فَظَنهُ حسنا وحرضه على طلب حَاجته فَلْيفْعَل ذَلِك، وَإِن رأى مَا يعده مشئوماً ويمنعه من الْمُضِيّ إِلَى حَاجته فَلَا يجوز قبُوله، بل يمْضِي لسبيله، فَإِذا قبل وانْتهى عَن الْمُضِيّ فِي طلب حَاجته فِيهِ فَهُوَ الطبيعة لِأَنَّهَا اخْتصّت أَن تسْتَعْمل فِي الشؤم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِضَافَة الْخَيْر إِلَى الطَّيرَة مشعرة بِأَن الفأل من جملَة الطَّيرَة، ثمَّ قَالَ: الْإِضَافَة لمُجَرّد التَّوْضِيح فَلَا يلْزم أَن يكون مِنْهَا وَأَيْضًا الطَّيرَة فِي الأَصْل أَعم من أَن يكون فِي الشَّرّ، لَكِن الْعَرَب خصصته بِالشَّرِّ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الطَّيرَة بِمَعْنى الْجِنْس والفأل بِمَعْنى النَّوْع، وَمِنْه الحَدِيث: أصدق الطَّيرَة الفأل، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الفأل يسْتَعْمل فِيمَا يسر وَفِيمَا يسوء، وَالْغَالِب فِي السرُور، والطيرة لَا تكون إلاَّ فِي السوء، وَقد تسْتَعْمل مجَازًا فِي السرُور. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْفرق بَين الفأل والطيرة أَن الفأل إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق حسن الظَّن بِاللَّه، والطيرة إِنَّمَا هِيَ من طَرِيق الاتكال على مَا سواهُ. قَوْله: (قَالُوا) ويروى: قَالَ. قَوْله: (الْكَلِمَة الصَّالِحَة يسْمعهَا أحدكُم) مثل من خرج من دَاره لطلب حَاجَة فَسمع شخصا يَقُول للْآخر، يَا نجاح، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: سَأَلت ابْن عون عَن الفأل فَقَالَ: هُوَ أَن يكون مَرِيضا فَيسمع: يَا سَالم، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث بُرَيْدَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يتطير من شَيْء وَكَانَ إِذا بعث غُلَاما سَأَلَ عَن اسْمه، فَإِذا أعجبه اسْمه فَرح بِهِ وَإِن كره اسْمه رئي كَرَاهَة ذَلِك فِي وَجهه، وَإِذا دخل قَرْيَة سَأَلَ عَن اسْمهَا فَإِن أعجبه فَرح بِهِ ورئي بشر ذَلِك فِي وَجهه، وَإِن كره اسْمهَا رئي كَرَاهَة ذَلِك فِي وَجهه.

44 - (بابُ الفَأْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر الفأل وَأَصله الْهمزَة وَقد يسهل، وَالْجمع فؤول بِالْهَمْزَةِ جزما، يُقَال: تفاءلت وتفاولت على التَّخْفِيف وَالْقلب.

5755 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ أخبرنَا هِشامٌ أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا طِيَرَةَ وخَيْرُها الفأْلُ، قالَوا: وَمَا الفَأْلُ يَا رسُولَ الله؟ قَالَ: الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُها أحَدُكُمْ. (انْظُر الحَدِيث: 5754) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن مُحَمَّد المسندي، وَهِشَام الدستوَائي عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن عبد بن حميد وَمضى الْكَلَام فِيهِ الْآن. قَوْله: (قَالُوا) بِصِيغَة الْجمع رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: قَالَ، بِالْإِفْرَادِ.

5756 - حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْراهيمَ حدَّثنا هِشامٌ عنْ قَتادةَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا عَدْواى وَلَا طِيَرَةَ، ويُعْجِبُني الفأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ. (انْظُر الحَدِيث: 5756 طرفه فِي: 5776) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويعجبني الفأل) وَهِشَام هُوَ الدستوَائي كَمَا فِي الحَدِيث السَّابِق.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (الْكَلِمَة الْحَسَنَة) بَيَان لقَوْله: (الفأل الصَّالح) وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَحبّ الِاسْم الْحسن والفأل الصَّالح، وَقد جعل الله فِي النّظر محبَّة ذَلِك كَمَا جعل فيهم الارتياح بالمنظر

(21/274)


الأنيق وَالْمَاء الصافي وَإِن لم يشربه وَلم يَسْتَعْمِلهُ.

45 - (بابٌ لَا هامَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ورد فِي الحَدِيث: لَا هَامة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب لَا هَامة وَلَا صفر.

5757 - حدّثنامُحَمَّدُ بنُ الْحكَمِ حَدثنَا النَّضْرُ أخبرنَا إسْرائِيلُ أخبرنَا أبُو حَصَيْن عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لاَ عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هامَةَ وَلَا صفَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا هَامة) وَمُحَمّد بن الحكم بالفتحتين الْأَحول الْمروزِي وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَتَفْسِير هَذِه الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة قد مر فِي: بَاب الجذام، مستقصىً.

46 - (بابُ الكَهانةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أُمُور الكهانة وَوَقع لِابْنِ بطال: بَاب الكهانة وَالسحر وَقد ترْجم البُخَارِيّ للسحر بَابا مُفردا على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهِي بِكَسْر الْكَاف وَفتحهَا وَالْفَتْح أشهر، وَهِي ادِّعَاء علم الْغَيْب كالإخبار بِمَا سيقع فِي الأَرْض مَعَ الِاسْتِنَاد إِلَى سَبَب، وَيُقَال: هِيَ الْإِخْبَار بِمَا يكون فِي أقطار الأَرْض أما من جِهَة التنجيم أَو العرافة وَهِي الِاسْتِدْلَال على الْأُمُور بأسبابها أَو بالزجر أَو نَحوه، والكاهن يُطلق على العراف والمنجم الَّذِي يضْرب بالحصى، وَفِي (الْمُحكم) : الكاهن القَاضِي بِالْغَيْبِ. وَقَالَ فِي (الْجَامِع) : الْعَرَب تسمى كل من آذن بِشَيْء قبل وُقُوعه كَاهِنًا. وَقَالَ الْخطابِيّ: الكهنة قوم لَهُم أذهان حادة ونفوس شَدِيدَة وطباع نارية فألفتهم الشَّيَاطِين لما بَينهم من التناسب فِي هَذِه الْأُمُور وساعدتهم بِكُل مَا اتَّصَلت بِهِ قدرتهم إِلَيْهِ، وَكَانَت الكهانة فِي الْجَاهِلِيَّة فَاشِية خُصُوصا فِي الْعَرَب لانْقِطَاع النُّبُوَّة فيهم، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام ندر ذَلِك جدا حَتَّى كَاد يضمحل.

5758 - حدّثنا سَعيدُ بنُ عُفَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ قَالَ: حدّثني عَبْدُ الرحْمانِ بنُ خالِدٍ عنِ ابنِ شِهاب عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى فِي امْرَأتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتا، فَرَمَتْ إحْدَاهُما الأُخْرَى بحَجَر فأصابَتْ بَطْنَها وهْيَ حامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدهَا الّذي فِي بَطْنِها، فاخْتَصَمُوا إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضَى أنَّ دِيَّةَ مَا فِي بطْنِها غُرَّة عبْدٌ أوْ أمَةٌ فَقَالَ ولِيُّ المَرْأةِ الَّتِي غَرِمَتْ: كَيْفَ أغْرَمُ يَا رَسُول الله مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّما هَذَا منْ إخْوَانِ الكُهَّانِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان) وَسَعِيد بن عفير بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء. وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير الْمصْرِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (هُذَيْل) بِضَم الْهَاء وَفتح الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ ابْن مدركة بن الياس بن مُضر قَبيلَة. قَوْله: (اقتتلتا) أَي: تقاتلتا. قَوْله: (وَهِي حَامِل) جملَة حَالية. قَوْله: (فاختصموا) مثل قَوْله: {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا} (الْحَج: 19) . قَوْله: (غرَّة) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَهِي بَيَاض فِي الْوَجْه وَعبر بالغرة عَن الْجِسْم كُله إطلاقاً للجزء وَإِرَادَة الْكل وَلَفظ: غرَّة بِالتَّنْوِينِ وَلَفظ: عبد أَو أمة بدل مِنْهُ، ويروى بِالْإِضَافَة وَكلمَة: أَو، هُنَا للتقسيم لَا للشَّكّ. قَوْله: (فَقَالَ وليُّ الْمَرْأَة) هُوَ حمل بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم ابْن مَالك بن النَّابِغَة الْهُذلِيّ الصَّحَابِيّ نزل الْبَصْرَة وكنيته أَبُو فضلَة. قَوْله: (وَلَا اسْتهلّ) يُقَال اسْتهلّ الصَّبِي إِذا صَاح عِنْد الْولادَة. قَوْله: (يطلّ) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الطَّاء وَتَشْديد اللَّام، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَمَعْنَاهُ: يهدر، يُقَال: طل الدَّم بِضَم الطَّاء وَبِفَتْحِهَا، وَحكي: أطل. وَأنْكرهُ الْأَصْمَعِي، وَقَالَ أَبُو زيد: طل دَمه فَهُوَ مطلول وأطل دَمه وطله الله وأطله، قَالَ: وَلَا يُقَال: طل دَمه، بِالْفَتْح، وَأَبُو عُبَيْدَة وَالْكسَائِيّ يقولانه، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بَطل، بِالْبَاء الْمُوَحدَة من الْبطلَان

(21/275)


وَقَالَ عِيَاض: إِنَّه وَقع هُنَا للْجَمِيع بِالْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ: وبالوجهين فِي (الْمُوَطَّأ) وَقد رجح الْخطابِيّ أَنه من الْبطلَان، وَأنْكرهُ ابْن بطال فَقَالَ: كَذَا يَقُول أهل الحَدِيث من طل الدَّم إِذا هدر قيل: لَا وَجه لإنكاره بعد ثُبُوت الرِّوَايَة، وَمَعْنَاهُ يرجع إِلَى الرِّوَايَة الأُخرى. قَوْله: (إِنَّمَا هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان) شبهه بهم إِذْ الْأُخوة تَقْتَضِي المشابهة، وَذَلِكَ بِسَبَب السجع، وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يردهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأجل السجع نَفسه لكنه إِنَّمَا أعاب مِنْهُ رد الحكم وتزيينه بالسجع على مَذْهَب الْكُهَّان فِي ترويج أباطيلهم بالأسجاع الَّتِي يروجون بهَا الْبَاطِل ويوهمون النَّاس أَن تحتهَا طائلاً، والسجع هُوَ تناسب آخر الْكَلِمَة لفظا وَالْجمع أسجاع وأساجيع، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ ذمّ الْكُهَّان وَمن تشبه بهم فِي ألفاظهم حَيْثُ كَانُوا يستعملونه فِي الْبَاطِل، كَمَا أَرَادَ هُوَ بسجعه دفع مَا أوجبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْتحقَّ بذلك الذَّم إلاَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جبل على الصفح عَن الْجَاهِلين. فَإِن قلت: قد وَقع فِي كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الأسجاع مثل صدق الله وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده، وَغير ذَلِك. قلت: الْفرق أَنه عَارض بِهِ حكم الشَّرْع ورام إِبْطَاله، وَأَيْضًا أَنه تكلّف فِيهِ بِخِلَاف مَا فِي كَلَام الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: وجوب الْغرَّة عِنْد كَافَّة الْعلمَاء، وَخَالف فِيهِ قوم فَقَالُوا لَا شَيْء فِيهِ حَكَاهُ فِي (المعونة) وَهُوَ منابذة للنَّص فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ. وَفِيه: أَن الْغرَّة عبد أَو أمة، وَقَالَ مَالك: الحمران أحب إِلَيّ من السودَان، يُرِيد الْبيض، فَإِن لم يكن فِي الْبَلَد فالسود قَالَه الْأَبْهَرِيّ، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: لَا يُؤْخَذ إلاَّ من الْبيض لقَوْله: (غرَّة) وإلاَّ لقَالَ: عبدا ووليدة، وَقَالَ مَالك عَن ربيعَة: يقوم بِخَمْسِينَ دِينَارا أَو سِتّمائَة دِرْهَم. وَاخْتلف فِيمَن يَرث الْجَنِين، فَقَالَ مَالك: هُوَ موروث على فَرَائض الله، وَقَالَ أَيْضا: هُوَ كبضعة من أمه تَرثه وَحدهَا، وَقَالَ أَيْضا هُوَ بَيت أَبَوَيْهِ: الثُّلُثَانِ للْأَب وَللْأُمّ الثُّلُث، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.

5759 - حدّثنا قُتَيْبَةُ عنْ مالِكٍ عَن ابنِ شِهاب عنْ أبي سَلمةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ: أنَّ امْرَأتَيْنِ رَمَتْ إحْدَاهُما الأُخْرَى بِحَجَر، فَطَرَحَتْ جَنِينَها، فَقَضَى فِيهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغُرَّةِ عبْدٍ أوْ وَلِيدَةٍ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ مُخْتَصر.

5760 - وعنِ ابنِ شهابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى فِي الجَنين يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أوْ وَلِيدَةٍ، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ: كيْفَ أغْرَمُ مَالا أكَلَ وَلَا شَرِبَ ولاَ نَطَقَ وَلَا اسْتهَلَّ، ومِثْلُ ذَلِكَ بَطَلَ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّما هاذَا مِنْ إخُوَانِ الكُهَّانِ.
هَذَا مُرْسل. قَوْله: (يقتل) على صِيغَة الْمَجْهُول فِي مَحل الْحَال من الْجَنِين. قَوْله: (قضى عَلَيْهِ) أَي: على ولي الْمَرْأَة لِأَن الْغرَّة مَتى وَجَبت فَهِيَ على الْعَاقِلَة.

5761 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي بَكْرٍ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ الحارِثِ عنْ أبي مسْعُودٍ، قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثَمَنِ الكَلْبِ ومَهْرِ البغِيِّ وحُلُوَان الكاهِنِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَعبد الله بن مُحَمَّد المسندي وَابْن عُيَيْنَة سُفْيَان، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ عقبَة البدري الْأنْصَارِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث قد مر فِي البيع فِي: بَاب ثمن الْكَلْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مهر الْبَغي) الْبَغي فعيل أَو فعول، وَهِي الزَّانِيَة ومهرها هُوَ مَا تَأْخُذهُ على الزِّنَا، والحلوان بِالضَّمِّ مَا يعْطى على الكهانة.

5762 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ يَحْياى بنِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ عُرْوةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: سَأَلَ رسُولَ الله صلى الله

(21/276)


عَلَيْهِ وَسلم ناسٌ عنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيءٍ. فقالُوا: يَا رسولَ الله! إنهُمْ يُحَدِّثُونا أحْياناً بِشيءٍ فَيكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُها مِنَ الجِنِّيِّ فَيَقُرُّها فِي أُذُنِ ولِيِّه فَيَخْلِطُونَ مَعَها مائَةَ كَذْبَةٍ، قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ، الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ، ثُمَّ بَلغَني أنَّهُ أسْنَدَهُ بَعْدهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَن الْكُهَّان) وَعلي بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ، وَيحيى بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام الْقرشِي الْمدنِي، يروي عَن أَبِيه عُرْوَة، وَالظَّاهِر أَن الزُّهْرِيّ فَاتَهُ هَذَا الحَدِيث عَن عُرْوَة مَعَ كَثْرَة رِوَايَته عَن عُرْوَة، فَجعله عَن ابْنه يحيى وَلَيْسَ ليحيى فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَيحيى وَقع عَن ظهر بَيت تَحت أرجل الدَّوَابّ فقطعته.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن أَحْمد بن صَالح وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه مُسلم فِي الطِّبّ عَن عبد بن حميد وَغَيره.
قَوْله: (سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناسٌ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: سَأَلَ نَاس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعند مُسلم من رِوَايَة معقل مثله. قَوْله: (فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْء) أَي: لَيْسَ قَوْلهم بِشَيْء يعْتَمد عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: لَيْسُوا بِشَيْء. قَوْله: (يحدثونا) ويروى يحدثوننا بنونين على الأَصْل. قَوْله: (حَقًا) أَي: وَاقعا ثَابتا، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ ضد الْبَاطِل. قَوْله: (تِلْكَ الْكَلِمَة من الْحق) كَذَا بحاء مُهْملَة وقاف، وَوَقع فِي مُسلم: تِلْكَ الْكَلِمَة المسموعة من الْجِنّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كَذَا فِي نسخ: بِلَادنَا، بِالْجِيم وَالنُّون، أَي: الْكَلِمَة المسموعة من الْجِنّ، وَقَالَ: حكى عِيَاض أَنه وَقع فِي مُسلم بِالْحَاء وَالْقَاف. قَوْله: (يَخْطفهَا من الجني) هَكَذَا رِوَايَة السَّرخسِيّ أَن الكاهن يَخْطفهَا من الجني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: يَخْطفهَا الجني، والخطف الْأَخْذ بالسرعة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: يحفظها، بِتَقْدِيم الْفَاء بعْدهَا ظاء مُعْجمَة من الْحِفْظ. قَوْله: (فيقرها) بِفَتْح الْيَاء وَالْقَاف وَتَشْديد الرَّاء، أَي: يصبهَا، تَقول: قررت على رَأسه دلواً إِذا صببته فَكَأَنَّهُ صب فِي أُذُنه ذَلِك الْكَلَام، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَيصِح أَن يُقَال: مَعْنَاهُ ألفاها فِي أُذُنه بِصَوْت يُقَال: قر الطَّائِر إِذا صَوت، وَفِي رِوَايَة يُونُس: فَيقر قرها، أَي: يُرَدِّدهَا. يُقَال: قرقرت الدَّجَاجَة تقرقر قرقرة إِذا رددت صَوتهَا، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَيُقَال أَيْضا: قرت الدَّجَاجَة تقرقراً وقريراً، وَإِذا رجعت فِي صَوتهَا يُقَال: قرقرت قرقرة وقرقرية، وَالْمعْنَى أَن الجني إِذا ألْقى الْكَلِمَة لوَلِيِّه تسامع بهَا الشَّيَاطِين فيناقلوها كَمَا إِذا صوتت الدَّجَاجَة فَسَمعَهَا الدَّجَاج فجاوبتها. قَوْله: (فِي إِذن وليه) أَي: الكاهن إِنَّمَا عدل من الكاهن إِلَى قَوْله: (وليه) للتعميم فِي الكاهن وَغَيره مِمَّن يوالي الْجِنّ. قَوْله: (مائَة كذبة) وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: أَكثر من مائَة كذبة، وَيدل هَذَا على أَن ذكر الْمِائَة للْمُبَالَغَة لَا للتعيين. قَوْله: (كذبة) بِالْفَتْح وَحكي الْكسر، قَالَ بَعضهم: وَأنْكرهُ بَعضهم لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْهَيْئَة وَالْحَالة وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. قلت: هَذَا مَوْضِعه لِأَن كذبتهم بِالْكَسْرِ تدل على أَنْوَاع الكذبات، وَهَذَا أبلغ من معنى الْفَتْح على مَا لَا يخفى قَوْله: (قَالَ عَليّ) هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، (قَالَ عبد الرَّزَّاق: هُوَ مُرْسل الْكَلِمَة الْحق) أَرَادَ أَن ابْن الْمَدِينِيّ قَالَ: إِن عبد الرَّزَّاق كَانَ يُرْسل هَذَا الْقدر من الحَدِيث، ثمَّ إِنَّه بعد ذَلِك وَصله بِذكر عَائِشَة فِيهِ، وَقد أخرجه مُسلم عَن عبد بن حميد من حَدِيث عبد الرَّزَّاق مَوْصُولا كَرِوَايَة هِشَام بن يُوسُف عَن معمر.

47 - (بابُ السِّحْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السحر وَأَنه ثَابت مُحَقّق، وَلِهَذَا أَكثر البُخَارِيّ فِي الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَيْهِ. والْحَدِيث الصَّحِيح وَأكْثر الْأُمَم من الْعَرَب وَالروم والهند والعجم بِأَنَّهُ ثَابت وَحَقِيقَته مَوْجُودَة وَله تَأْثِير، وَلَا إستحالة فِي الْعقل فِي أَن الله تَعَالَى يخرق الْعَادة عِنْد النُّطْق بِكَلَام ملفق أَو تركيب أجسام وَنَحْوه على وَجه لَا يعرفهُ كل أحد، وَأما تَعْرِيف السحر فَهُوَ أَمر خارق للْعَادَة صادر عَن نفس شريرة لَا يتَعَذَّر معارضته، وَأنكر قوم حَقِيقَته وأضافوا مَا يَقع مِنْهُ إِلَى خيالات بَاطِلَة لَا حَقِيقَة لَهَا، وَهُوَ اخْتِيَار أبي جَعْفَر الاستراباذي من الشَّافِعِيَّة وَأبي بكر الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة وَابْن حزم الظَّاهِرِيّ، وَالصَّحِيح قَول كَافَّة الْعلمَاء يدل عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة. فَإِن قلت: مَا وَجه إِيرَاد: بَاب السحر، فِي كتاب الطِّبّ؟ قلت: لَا شكّ أَن السحر نوع من الْمَرَض وَهُوَ يمرض المسحور، وَلِهَذَا ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أما وَالله لقد شفاني) على مَا يَأْتِي عَن

(21/277)


قريب فِي: بَاب هَل يسْتَخْرج السحر، والشفاء يكون لمَرض مَوْجُود ثمَّ إِنَّه جمع بَين: بَاب السحر، وَبَاب الكهانة، لِأَن مرجع كل مِنْهُمَا الشَّيَاطِين، وكأنهما من وَاد وَاحِد، وَلَا يُقَال: لم قدم بَاب الكهانة على بَاب السحر؟ لِأَنَّهُ سُؤال دوري وَهُوَ غير وَارِد، فَافْهَم.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر مَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفْر فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَلَقَد على الْحق اشْتَرَاهُ مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق} (الْبَقَرَة: 2) ، وقوْلهِ تَعَالَى: {وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، وقَوْلهِ: {أفتأتون السحر وَأَنْتُم تبصرون} (الْأَنْبِيَاء: 3) ، وقَوْلهِ: {يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} (طه: 66) ، وقَوْلهِ: {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} (الفلق: 4) ، والنَّفَّاثاتُ: السَّوَاحِرُ، تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ.
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على السحر الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظ: بَاب، وَالتَّقْدِير: بَاب فِي بَيَان السحر وَفِي بَيَان قَول الله عز وَجل، وَذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة للاستدلال بهَا على تحقق وجود السحر وإثباته، وعَلى بَيَان حرمته أما الْآيَة الأولى وَهِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا} فَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} ... الْآيَة فَهَذَا الْمِقْدَار هُوَ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة سَاقهَا إِلَى قَوْله {من خلاق} فَفِي هَذِه الْآيَة بَيَان أصل السحر الَّذِي تعْمل بِهِ الْيَهُود ثمَّ هُوَ مِمَّا وَضعته الشَّيَاطِين على سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام وَمِمَّا أنزل الله تَعَالَى على هاروت وماروت بِأَرْض بابل وَهَذَا مُتَقَدم على الأول لِأَن قصَّة هاروت وماروت كَانَت من قبل زمن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ السحر أَيْضا فاشياً فِي زمن فِرْعَوْن، وَمُلَخَّص مَا ذكر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة مَا قَالَه السّديّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان} أَي: على عهد سُلَيْمَان، قَالَ: كَانَت الشَّيَاطِين تصعد إِلَى السَّمَاء فتقعد مِنْهَا مقاعد للسمع فيسمعون من كَلَام الْمَلَائِكَة مَا يكون فِي الأَرْض من موت أَو غيث أَو أَمر، فَيَأْتُونَ الكهنة فَيُخْبِرُونَهُمْ فَتحدث الكهنة النَّاس فيجدونه كَمَا قَالُوا، وَزَادُوا مَعَ كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب النَّاس ذَلِك الحَدِيث فِي الْكتب وَفَشَا فِي بني إِسْرَائِيل: أَن الْجِنّ تعلم الْغَيْب، فَبعث سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لجمع تِلْكَ الْكتب فَجَعلهَا فِي صندوق ثمَّ دَفنهَا تَحت كرسيه وَلم يكن أحد من النَّاس يَسْتَطِيع أَن يدنو من الْكُرْسِيّ إلاَّ احْتَرَقَ. وَقَالَ: لَا أسمع أحدا يذكر أَن الشَّيَاطِين يعلمُونَ الْغَيْب إلاَّ ضربت عُنُقه، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان وَذهب الْعلمَاء الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ أَمر سُلَيْمَان جَاءَ شَيْطَان فِي صُورَة إِنْسَان إِلَى نفر من بني إِسْرَائِيل فَقَالَ لَهُم: هَل أدلكم على كنز لَا تأكلونه أبدا؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فاحفروا تَحت الْكُرْسِيّ، فَحَفَرُوا ووجدوا تِلْكَ الْكتب، فَلَمَّا أخرجوها قَالَ الشَّيْطَان: إِن سُلَيْمَان إِنَّمَا كَانَ يضْبط الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير بِهَذَا السحر، ثمَّ طَار وَذهب وَفَشَا فِي النَّاس أَن سُلَيْمَان كَانَ ساحراً، فاتخذت بَنو إِسْرَائِيل تِلْكَ الْكتب، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاصموه بهَا فَذَلِك قَوْله: تَعَالَى: {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} فَقَوله: النَّاس: مفعول أول. وَالسحر مفعول ثَان، وَالْجُمْلَة حَال من فَاعل كفرُوا، أَي: كفرُوا معلمين، وَقيل: هِيَ بدل من كفرُوا. وَقَوله عز وَجل {وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ} كلمة: مَا، مَوْصُولَة ومحلها النصب عطفا على السحر، تَقْدِيره يعلمُونَ النَّاس السحر والمنزل على الْملكَيْنِ. قَوْله: (بِبَابِل) يتَعَلَّق: بأنزل، أَي: فِي بابل وَهِي مَدِينَة بناها نمْرُود بن كنعان وينسب إِلَيْهَا السحر وَالْخمر، وَهِي الْيَوْم خراب، وَهِي أقدم أبنية الْعرَاق وَكَانَت مَدِينَة الكنعانيين وَغَيرهم. وَقيل: إِن الضَّحَّاك أول من بنى بابل، وَقَالَ مؤيد الدولة: وببابل ألْقى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي النَّار. قَوْله: (هاروت وماروت) بدل من الْملكَيْنِ أَو عطف بَيَان وَفِيهِمَا اخْتِلَاف كثير، وَالأَصَح أَنَّهُمَا كَانَا ملكَيْنِ أنزلا من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فَكَانَ من أَمرهمَا مَا كَانَ، وقصتهما مَشْهُورَة. قَوْله: (وَمَا يعلمَانِ) وقرىء: يعلمَانِ، من الْإِعْلَام. قَوْله: (فتْنَة) أَي: محنة وابتلاء، وَقَالَ سنيد عَن حجاج عَن ابْن جريج فِي هَذِه الْآيَة: لَا يجترىء على السحر إلاَّ كَافِر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: عمل السحر حرَام، وَهُوَ

(21/278)


من الْكَبَائِر بِالْإِجْمَاع، وَقد عده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الموبقات وَمِنْه مَا يكون كفرا، وَمِنْه مَا لَا يكون كفرا، بل مَعْصِيّة كَبِيرَة فَإِن كَانَ فِيهِ قَول أَو فعل يَقْتَضِي الْكفْر فَهُوَ كفر وإلاَّ فَلَا وَأما تعلمه وتعليمه فَحَرَام، فَإِن كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكفْر كفر واستتيب مِنْهُ وَلَا يقتل، فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَإِن لم يكن فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكفْر عزّر، وَعَن مَالك: السَّاحر كَافِر يقتل بِالسحرِ وَلَا يُسْتَتَاب بل يتحتم قَتله كالزنديق، قَالَ عِيَاض: وَيَقُول مَالك: قَالَ أَحْمد وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَفِي (الْفَتَاوَى الصُّغْرَى) : السَّاحر لَا يُسْتَتَاب فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد خلافًا لأبي يُوسُف، والزنديق يُسْتَتَاب عِنْدهمَا، وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ وَعَن أبي حنيفَة: إِذا أتيت بزنديق استتبته، فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته، وَقَالَ ابْن بطال: وَاخْتلف السّلف هَل يسْأَل السَّاحر عَن حل من سحره فَأَجَازَهُ سعيد بن الْمسيب وَكَرِهَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقَالَ: لَا يعلم ذَلِك إلاَّ سَاحر، وَلَا يجوز إتْيَان السَّاحر لما روى سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن هُبَيْرَة عَن ابْن مَسْعُود: من مشي إِلَى سَاحر أَو كَاهِن فَصدقهُ بِمَا يَقُول فقد كفر بِمَا أنزل الله على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الطَّبَرِيّ: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إتْيَان السَّاحر إِنَّمَا هُوَ على التَّصْدِيق لَهُ فِيمَا يَقُول: فَأَما إِذا أَتَاهُ لغير ذَلِك، وَهُوَ عَالم بِهِ وبحاله، فَلَيْسَ بمنهي عَنهُ وَلَا عَن إِتْيَانه، وَقد أجَاز بعض الْعلمَاء تعلم السحر لأحد أَمريْن: إِمَّا لتمييز مَا فِيهِ كفر من غَيره، وَإِمَّا لإزالته عَمَّن. وَقع فِيهِ. قَوْله: {وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) فِيهِ نفي الْفَلاح وَهُوَ الْفَوْز عَن السَّاحر وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على كفره. قَوْله: {أفتأتون السحر وَأَنْتُم تبصرون} (الْأَنْبِيَاء: 3) هَذَا خطاب لكفار قُرَيْش يستبعدون كَون مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُولا لكَونه بشرا فَقَالَ قَائِلهمْ مُنْكرا على من اتبعهُ: {أفتأتون السحر} أَي: أفتتبعونه حَتَّى تصيروا كمن اتبع السحر، وَهُوَ يعلم أَنه سحر. قَوْله: {يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} (طه: 66) أَوله {فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} يَعْنِي: يخيل إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهَا حيات تسْعَى، وَذَلِكَ لأَنهم لطخوا حبالهم بالزيبق، فَلَمَّا حميت الشَّمْس اهتزت وتحركت فَظن مُوسَى أَنَّهَا تقصده احْتج بِهَذَا من زعم أَن السحر إِنَّمَا هُوَ تخييل وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا، لِأَن هَذِه وَردت فِي قصَّة سحرة فِرْعَوْن، وَكَانَ سحرهم كَذَلِك وَلَا يلْزم أَن جَمِيع أَنْوَاع السحر كَذَلِك تخييل. قَوْله: {وَمن شَرّ النفاثات} (الفلق: 4) قد فسر النفاثات: بالسواحر، وَهُوَ تَفْسِير الْحسن الْبَصْرِيّ، وَأُرِيد بِهِ السواحر ينفثن فِي عقد الخيوط للسحر قَوْله: (تسحرون) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سيقولون الله قل فَأنى تسحرون} (الْبَقَرَة: 102) أَي: كَيفَ تعمون عَن هَذَا وتصدون عَنهُ. قَوْله: (تعمون) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة، وَقيل بِسُكُون الْعين، وَقَالَ ابْن عَطِيَّة. السحر هُنَا مستعار لما وَقع مِنْهُم من التَّخْلِيط، وَوضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه كَمَا يَقع من المسحور.
فَإِن قلت: هَذَا لَا يقوم بِهِ الِاحْتِجَاج على مَا ذكر البُخَارِيّ فِي هَذِه الْآيَات للإحتجاج على تَحْرِيم السحر. قلت: السحر على أَنْوَاع: مِنْهَا: أَنه بِمَعْنى لطف ودق، وَمِنْه: سحرت الصَّبِي خدعته واستملته، فَكل من استمال شَيْئا فقد سحره، وَفِي هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى هَذَا النَّوْع. الثَّانِي: مَا يَقع بخداع أَو تخييلات لَا حَقِيقَة لَهَا، نَحْو مَا يَفْعَله المشعوذ من صرف الْأَبْصَار عَمَّا يتعاطاه بخفة يَده، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله: {يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} (طه: 66) . الثَّالِث: مَا يحصل بمعاونة الشَّيَاطِين بِضَرْب من التَّقَرُّب إِلَيْهِم وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} (الْبَقَرَة: 102) الرَّابِع: مَا يحصل بمخاطبة الْكَوَاكِب واستنزال روحانياتها. الْخَامِس: مَا يُوجد من الطلسمات.

5763 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخبرنَا عيسَى بنُ يُونُسَ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجُلٌ مِنْ بَني زُرَيْقٌ يُقالُ لهُ: لَبيدُ بنُ الأعْصَمِ حتَّى كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ كانَ يَفْعَلُ الشَّيءَ وَمَا فَعَلهُ، حَتَّى إذَا كانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَو ذَاتَ لَيْلةٍ وهْوَ عِنْدي لاكِنَّهُ دَعَا ودعا، ثُمَّ قَالَ: يَا عائِشَةُ أشَعَرْتِ أنَّ الله أفْتأني فِيمَا اسْتَفْتَيْتَهُ فيهِ؟ أتانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأسِي والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: مَا وجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ

(21/279)


مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ. قَالَ: فِي أيِّ شَي؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشاطةٍ وجُفِّ طَلْعِ نخْلَةٍ ذكَرٍ. قَالَ: وأيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوانَ، فَأَتَاهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي ناسِ مِنْ أصْحابِهِ فَجاءَ فَقَالَ: يَا عائِشةُ! كأنَّ ماءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ أوْ: كأنَّ رُؤُوسَ نَخْلِها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ قُلْتُ: يَا رسولَ الله أفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عافانِي الله فَكَرِهْتُ أنْ أُثَوِّرَ عَلى النَّاسِ فيهِ شرّاً، فأمَرَ بِها فَدُفِنَتْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل) وَعِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
والْحَدِيث مضى فِي صفة إِبْلِيس، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد.
قَوْله: (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنِي بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (عَن أَبِيه) وَقع فِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان عَن هِشَام: حَدثنِي أبي، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن جريج: حَدثنِي آل عُرْوَة عَن عُرْوَة، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: عَن سُفْيَان عَن ابْن جريج حَدثنِي بعض آل عُرْوَة عَن عُرْوَة. قَوْله: (من بني زُرَيْق) بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالقاف وهم بطن من الْأَنْصَار مَشْهُور من الْخَزْرَج، وَكَانَ بَين كثير من الْأَنْصَار وَبَين كثير من الْيَهُود قبل الْإِسْلَام حلف وود، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَدخل الْأَنْصَار فِيهِ تبرؤا مِنْهُم، وَالسّنة الَّتِي وَقع فِيهَا السحر سنة سبع، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَعَن الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَقَامَ فِيهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة، وَعند أَحْمد: سِتَّة أشهر، وَعَن السُّهيْلي: أَنه لبث سنة، ذكره فِي (جَامع معمر) عَن الزُّهْرِيّ. قَوْله: (حَتَّى كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخيل إِلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من التخييل وَبَعض المبتدعة أَنْكَرُوا هَذَا الحَدِيث وَزَعَمُوا أَنه يحط منصب النُّبُوَّة ويشكك فِيهَا لِأَن كل مَا أدّى إِلَى ذَلِك فَهُوَ بَاطِل، وتجويز هَذَا يعْدم الثِّقَة بِمَا شرعوه من الشَّرَائِع، ورد عَلَيْهِم ذَلِك بِقِيَام الدَّلِيل على صدقه فِيمَا بلغه من الله تَعَالَى وعَلى عصمته فِي التَّبْلِيغ، وَأما مَا يتَعَلَّق بِبَعْض أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لم يبْعَث لأَجلهَا فَهُوَ فِي ذَلِك عرضة لما يعْتَرض الْبشر: كالأمراض، وَقيل: لَا يلْزم من أَنه كَانَ يظنّ أَنه فعل الشَّيْء وَلم يكن فعله أَن يجْزم بِفِعْلِهِ ذَلِك، وَقَالَ عِيَاض: السحر تسلط على جسده وظواهر جوارحه لَا على تَمْيِيزه ومعتقده، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب: حَتَّى كَاد يُنكر بَصَره. قَوْله: (حَتَّى إِذا كَانَ ذَات يَوْم) لفظ: ذَات، مقحم للتَّأْكِيد. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ من إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذَات يَوْم، بِالرَّفْع، ويروى بِالنّصب. قَوْله: (أَو ذَات لَيْلَة) شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ بَعضهم: الشَّك من البُخَارِيّ لِأَنَّهُ أخرجه فِي صفة إِبْلِيس: حَتَّى كَانَ ذَات يَوْم، وَلم يشك. قلت: الشَّك من عِيسَى بن يُونُس فَإِن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أخرجه فِي (مُسْنده) عَنهُ على الشَّك. قَوْله: (لكنه دَعَا ودعا) قَالَ الْكرْمَانِي: لكنه، للاستدراك فَمَا الْمُسْتَدْرك مِنْهُ؟ فَأجَاب بقوله: إِمَّا هُوَ عِنْدِي أَي: كَانَ عِنْدِي، لَكِن لم يشْتَغل بِي بل بِالدُّعَاءِ، وَإِمَّا كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يَفْعَله أَي: كَانَ المتخيل فِي الْفِعْل لَا فِي القَوْل، وَالْعلم إِذْ كَانَ دعاؤه على الصَّحِيح والقانون الْمُسْتَقيم، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن نمير عِنْد مُسلم: فَدَعَا ثمَّ دَعَا ثمَّ دَعَا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُود مِنْهُ أَنه كَانَ يُكَرر الدُّعَاء ثَلَاثًا. قَوْله: (أشعرت؟) أَي: أعلمت. قَوْله: (أفتاني فِيمَا استفتيته) أَي: أجابني فِيمَا دَعوته، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: (أفتاني فِي أَمر استفتيته فِيهِ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة: (إِن الله أنبأني بمرضي) . قَوْله: (أَتَانِي رجلَانِ) وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ كِلَاهُمَا عَن هِشَام: (أَتَانِي ملكان) ، وسماهما ابْن سعد فِي رِوَايَة مُنْقَطِعَة: (جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام. قَوْله: (فَقعدَ أَحدهمَا عِنْد رَأْسِي) ، الظَّاهِر أَن الَّذِي قعد عِنْد رَأسه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لخصوصيته بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه مَا وجع الرجل؟) روى النَّسَائِيّ من حَدِيث زيد بن أَرقم: (سحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل من الْيَهُود فاشتكى لذَلِك أَيَّامًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِن رجلا من الْيَهُود سحرك. عقد لَك عقدا فِي بِئْر كَذَا) . فَدلَّ هَذَا على أَن المسؤول هُوَ جِبْرِيل والسائل مِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام. قَوْله: (مَا وجع الرجل؟) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (مَا بَال الرجل؟) وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الْبَيْهَقِيّ: مَا نرى فِيهِ. فَإِن قلت: هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب: هَل كَانَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَائِم أَو فِي الْيَقَظَة؟ قلت: قيل كَانَ ذَلِك فِي الْمَنَام: إِذْ لَو جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ يقظان كَانَا يخاطبانه، وَهُوَ يسمع، وَأطلق فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة أَنه كَانَ نَائِما، وَوَقع عِنْد ابْن سعد من حَدِيث ابْن عَبَّاس

(21/280)


بِسَنَد ضَعِيف جدا، فهبط عَلَيْهِ ملكان وَهُوَ بَين النَّائِم وَالْيَقظَان، وعَلى كل حَال رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَحي. قَوْله: (مطبوب) أَي: مسحور، يُقَال: طب الرجل بِالضَّمِّ إِذا سحر، فَقَالَ: كنوا عَن السحر بالطب تفاؤلاً، كَمَا قَالُوا للديغ: سليم، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي الطِّبّ من الأضداد، يُقَال لعلاج الدَّاء: طب، وَالسحر من الدَّاء، فَيُقَال لَهُ: طب. قَوْله: (فِي مشط ومشاطة) الْمشْط بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين وَبِضَمِّهَا وبكسر الْمِيم وَإِسْكَان الشين، وَأنكر أَبُو زيد كسر الْمِيم وأثبته أَبُو عبيد، وَهُوَ الْآلَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي يسرح بهَا الرَّأْس واللحية، والمشط الْعظم العريض فِي الْكَتف وسلاميات الْقدَم وَنبت صَغِير يُقَال لَهُ مشط الذِّئْب، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون الَّذِي سحر فِيهِ النَّبِي أحد هَذِه الْأَرْبَعَة. قلت: الْمَشْهُور هُوَ الأول والمشاطة بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة مَا يخرج من الشّعْر عِنْد التسريح، وَفِيه خلاف يَأْتِي فِي آخر الْبَاب. قَوْله: (وجف طلع نَخْلَة ذكر) بِإِضَافَة جف إِلَى طلع، وَإِضَافَة طلع إِلَى نَخْلَة، ويروى: طلعة نَخْلَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: التَّاء فِي طلعة ونخلة للْفرق بَين الْجِنْس ومفرده، كتمر وَتَمْرَة، وَقَالَ عِيَاض: وَقع للجرجاني فِي البُخَارِيّ، وللعذري فِي مُسلم: جف، بِالْفَاءِ ولغيرهما بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس هُنَا بِالْفَاءِ، وللكشميهني وَلغيره بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَته فِي بَدْء الْخلق بِالْفَاءِ للْجَمِيع، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة للمستملي بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وللكشميهني بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَة أبي ضَمرَة فِي الدَّعْوَات بِالْفَاءِ للْجَمِيع، وَهُوَ بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْفَاء وعَاء طلع النّخل: وَهُوَ الغشاء الَّذِي يكون عَلَيْهِ. وَذكر الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي هُوَ بِالْفَاءِ وعَاء الطّلع مثل مَا ذكرنَا، وبالباء الْمُوَحدَة دَاخل الطلعة إِذا خرج مِنْهَا الكفري، قَالَه شمر، وَيُطلق الجف على الذّكر وَالْأُنْثَى فَلذَلِك وَصفه بقوله (ذكر) و (الطّلع) مَا يطلع من النّخل وَهُوَ الكمء قبل أَن ينشق، وَيُقَال: مَا يَبْدُو من الكمء طلع أَيْضا وَهُوَ شَيْء أَبيض يشبه بلونه الْإِنْسَان وبرائحته الْمَنِيّ. قَالَه فِي (الْمغرب) قَوْله: (ذروان) بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء، وَحكى ابْن التِّين فتحهَا وَأَنه قَرَأَهُ كَذَلِك، قَالَ: وَلكنه بِالسُّكُونِ أشبه، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وَفِي بعض نسخه: ذِي أروان، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وبالواو وَالنُّون، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي بني زُرَيْق، وَوَقع فِي (كتاب الدَّعْوَات) : مِنْهُ ذروان فِي بني زُرَيْق وَعند الْأصيلِيّ عَن أبي زيد: ذِي أَوَان، بواو من غير رَاء، قَالَ ابْن قرقول: هُوَ وهم إِنَّمَا: ذُو أَوَان، مَوضِع آخر على سَاعَة من الْمَدِينَة وَبِه بنى مَسْجِد الضرار. وَفِي كتاب الْبكْرِيّ: قَالَ القتبي: هِيَ بِئْر أروان، بِالْهَمْزَةِ مَكَان الذَّال، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: وَبَعْضهمْ يخطىء وَيَقُول: ذروان قَوْله: (فَأَتَاهَا) أَي: فَأتى الْبِئْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (فجَاء) أَي: لما أَتَاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشاهدها، ثمَّ رَجَعَ فجَاء إِلَى عَائِشَة وأخبرها، وَفِي رِوَايَة وهيب: فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: يَا عَائِشَة، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: فَذهب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْبِئْر فَنظر إِلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَة. قَوْله: (نقاعة الْحِنَّاء) بِضَم النُّون وَتَخْفِيف الْقَاف، أَرَادَ أَن مَاء هَذَا الْبِئْر لَونه كلون المَاء الَّذِي ينقع فِيهِ الْحِنَّاء، يَعْنِي: أَحْمَر، والحناء بِالْمدِّ مَعْرُوف. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَانَ مَاء الْبِئْر تغير إِمَّا لرداءته وَطول إِقَامَته، وَإِمَّا لما خالطه من الْأَشْيَاء الَّتِي ألقيت فِي الْبِئْر. قَوْله: (وَكَانَ رُؤُوس نخلها رُؤُوس الشَّيَاطِين) وَفِي رِوَايَة بَدْء الْخلق كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين بِدُونِ ذكر النّخل، شبهها برؤوس الشَّيَاطِين فِي وحاشة منظرها وسماجة شكلها، وَهُوَ مثل فِي استقباح الصُّورَة، قَالَ الْفراء: فِيهِ ثَلَاثَة أوجه. أَحدهَا: أَن يشبه طلعها فِي قبحه برؤوس الشَّيَاطِين لأنهاموصوفة بالقبح. الثَّانِي: أَن الْعَرَب تسمى بعض الْحَيَّات شَيْطَانا الثَّالِث: نبت قَبِيح يُسَمِّي رُؤُوس الشَّيَاطِين، قيل إِنَّه يُوجد بِالْيَمِينِ فَإِن قلت: كَيفَ شبهه بهَا وَنحن لم نرها؟ قلت: على قَول من قَالَ: هِيَ نبت أَو حيات، ظَاهر. وعَلى القَوْل الثَّالِث: إِن الْمَقْصُود مَا وَقع عَلَيْهِ التعارف من الْمعَانِي، فَإِذا قيل: فلَان شَيْطَان، فقد علم أَن الْمَعْنى خَبِيث قَبِيح، وَالْعرب إِذا قبحت مذكراً شبهته بالشيطان، وَإِذا قبحت مؤنثاً شبهته بالغول، وَلم تَرَهَا. والشيطان نونه أَصْلِيَّة وَيُقَال: زَائِدَة. قَوْله: (قلت: يَا رَسُول الله) القائلة هِيَ عَائِشَة، ويروى: أَفلا استخرجته. قَوْله: (قد عافاني الله) يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: لما عافاني الله من مرض السحر فَلَا حَاجَة إِلَى استخراجه، وَالْآخر: عافاني الله من الِاشْتِغَال باستخراج ذَلِك، لِأَن فِيهِ تهييج الشَّرّ، وَمَا أَنا بفاعل لذَلِك. قَوْله: (أَن أثور) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْوَاو، ويروى: أَن أثير، من الإثارة، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (شرا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: أثور، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني سوء وَهُوَ تَعْلِيم الْمُنَافِقين السحر من ذَلِك ويؤذون الْمُسلمين بِهِ، وَهَذَا من بَاب ترك مفْسدَة لخوف مفْسدَة أعظم مِنْهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة أَنه استخرجه، وَأَن

(21/281)


سُؤال عَائِشَة إِنَّمَا وَقع عَن النشر فأجابها بِلَا، وَفِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة: فَنزل رجل فاستخرجه، وَفِيه من الزِّيَادَة أَنه وجد فِي الطلعة تمثالاً من شمع، تِمْثَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِذا فِيهِ إبر مغروزة وَإِذا وترفيه إِحْدَى عشرَة عقدَة، فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بالمعوذتين، فَكلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، وَكلما نزع إبرة وجد لَهَا ألماً، ثمَّ يجد بعْدهَا رَاحَة. وَقَوله: (على النَّاس) فِيهِ تَعْمِيم وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن نمير: على أمتِي، وَهُوَ أَيْضا قَابل للتعميم، لِأَن الْأمة تطلق على أمة الْإِجَابَة، وَأمة الدعْوَة، وعَلى مَا هُوَ أَعم، وَهُوَ يرد على من زعم: أَن المُرَاد بِالنَّاسِ هُنَا لبيد بن الأعصم، لِأَنَّهُ كَانَ منافقاً فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يثير عَلَيْهِ شرا، لِأَنَّهُ كَانَ يُؤثر الإغضاء عَمَّن يظْهر الْإِسْلَام وَلَو صدر مِنْهُ مَا صدر، وَوَقع فِي حَدِيث عمْرَة عَن عَائِشَة: فَقيل: يَا رَسُول الله! لَو قتلته. قَالَ: مَا وَرَاءه من عَذَاب الله أَشد، وَفِي رِوَايَة عمْرَة: فَأَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاعترف فَعَفَا عَنهُ، وَقد تقدم فِي كتاب الْجِزْيَة قَول ابْن شهَاب: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْتله. وَأخرج ابْن سعد من مُرْسل عِكْرِمَة: أَنه لم يقْتله، وَنقل عَن الْوَاقِدِيّ أَن ذَلِك أصح من رِوَايَة من قَالَ: إِنَّه قَتله. قَوْله: (فَأمر بهَا) أَي: بالبئر (فدفنت) .
تابَعَهُ أبُو أُسامَةَ وأبُو ضَمرَةَ وابنُ أبي الزِّناد عنْ هِشامٍ.
أَي: تَابع عِيسَى يُونُس هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فِي روايتهم عَن هِشَام بن عُرْوَة. الأول: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة وَيَأْتِي مَوْصُولا بعد بَابَيْنِ، وَهُوَ: بَاب السحر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن هِشَام إِلَى آخِره. الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْمِيم وبالراء: أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَسَيَأْتِي مَوْصُولا فِي كتاب الدَّعْوَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث: ابْن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن ذكْوَان مفتي بَغْدَاد.
وَقَالَ اللَّيْثُ وابنُ عُيَيْنَةَ عنْ هِشامٍ: فِي مُشْطٍ ومُشاقَةٍ.
أَي: قَالَ اللَّيْث بن سعد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي روايتهما عَن هِشَام بن عُرْوَة: فِي مشط ومشاقة، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة وبالقاف، قَالَ الْكرْمَانِي: مَا يغزل من الْكَتَّان. قلت: المشاقة مَا يتقطع من الْكَتَّان عِنْد تخليصه وتسريحه، وَقيل: المشاقة هِيَ المشاطة بِعَينهَا، وَالْقَاف بدل من الطَّاء لقرب الْمخْرج، وَفِيه نظر.
ويُقالُ: المُشاطَةُ مَا يخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذا مُشِطَ، والمُشاقَةُ مِنْ مُشاقَةِ الكَتّانِ.
وَهِي رِوَايَة أبي ذَر قَوْله: (مشط) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (والمشاقة من مشاقة الْكَتَّان) ، وَالصَّوَاب: المشاقة من الْكَتَّان، إلاَّ إِذا فتح الْمِيم من مشاقة الْكَتَّان، وَيكون معنى المشاقة من: مشق الْكَتَّان، وَهُوَ تَخْلِيص الْكَتَّان مِنْهُ.

48 - (بابٌ الشِّرْكُ والسِّحْرُ مِنَ المُوبقاتِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الشّرك بِاللَّه وَالسحر من الموبقات أَي: المهلكات، وَهُوَ جمع موبقة، من أوبق يُقَال: وبق يبْق من بَاب ضرب يضْرب، ووبق يوبق من بَاب علم إِذا هلك، وأوبقه غَيره فَهُوَ موبق بِفَتْح الْبَاء، وَالْفَاعِل موبق بِكَسْرِهَا، وَهَذَا الْبَاب لم يذكرهُ ابْن بطال وَغَيره، وَحذف الحَدِيث أَيْضا لكَونه سلف فِي الْوَصَايَا.

5764 - حدّثني عبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني سُلَيْمانُ عنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدٍ عنْ أبي الغيْثِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أَن رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا الْمُوبِقاتِ الشِّرْكُ بِاللَّه والسِّحْرُ. (انْظُر الحَدِيث: 2766 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي الْمدنِي، وَسليمَان هُوَ ابْن بِلَال، وثور بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَشْهُور ابْن زيد الدئلي الْمدنِي، وَأَبُو الْغَيْث بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالثاء الْمُثَلَّثَة سَالم مولى عبد الله بن مُطِيع، وَهَكَذَا أورد الحَدِيث مُخْتَصرا، وَقد تقدم فِي كتاب الْوَصَايَا فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} (النِّسَاء: 10) الْآيَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِكَمَالِهِ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن سُلَيْمَان الخ ... قَالَ بَعضهم: النُّكْتَة فِي اقْتِصَاره على اثْنَتَيْنِ من السَّبع هُنَا الرَّمْز إِلَى تَأْكِيد أَمر السحر، وَظن بعض النَّاس أَن هَذَا الْقدر جملَة الحَدِيث، فَقَالَ: ذكر الموبقات وَهُوَ صِيغَة جمع وفسرها بِاثْنَتَيْنِ فَقَط، وَهُوَ من قبيل قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام ابراهيم

(21/282)


وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 97) فاقتصر على اثْنَتَيْنِ فَقَط، فَهَذَا على أحد الْأَقْوَال فِي الْآيَة وَلَكِن لَيْسَ الحَدِيث كَذَلِك فَإِنَّهُ فِي الأَصْل: سَبْعَة، حذف مِنْهَا البُخَارِيّ خَمْسَة، وَلَيْسَ شَأْن الْآيَة كَذَلِك انْتهى. قلت: النُّكْتَة فِي اقْتِصَاره على اثْنَتَيْنِ من السَّبع هُنَا الرَّمْز إِلَى تَأْكِيد أَمر السحر كَلَام واهٍ جدا، لِأَنَّهُ لَو ذكر الحَدِيث كُله مَعَ وضع التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة لَهُ لما كَانَ فِيهِ رمز إِلَى تَأْكِيد أَمر السحر. قَوْله: (وَظن بعض النَّاس) الخ ... أَرَادَ بِهِ الْكرْمَانِي، وَلَكِن الَّذِي ذكره تَقول على الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ لم يقل أَن هَذَا الْقدر جملَة الحَدِيث بل صرح بقوله: هَذَا الَّذِي فِي الْكتاب مُخْتَصر من مطول، وَلِهَذَا ذكر الاثنتين فَقَط. وَقَوله: وَلَيْسَ شَأْن الْآيَة كَذَلِك، كَلَام مَرْدُود، وَكَيف لَا يكون كَذَلِك فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ أَولا. {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} فَهَذَا يتَنَاوَل الْعدَد الْكثير ثمَّ ذكر مِنْهُ اثْنَيْنِ فَقَط، وهما: مقَام ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: {وَمن دخله كَانَ آمنا} وَقد ذكر الزَّمَخْشَرِيّ فِيهِ وُجُوهًا كَثِيرَة، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَليرْجع إِلَيْهِ. قَوْله: (الشّرك بِاللَّه وَالسحر) قَالَ ابْن مَالك: يجوز الرّفْع فيهمَا على تَقْدِير: مِنْهُنَّ. قلت: الْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن التَّقْدِير الأول: الشّرك بِاللَّه وَالثَّانِي السحر، وَكَذَلِكَ يقدر فِي الْبَوَاقِي هَكَذَا فَيكون وَجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.

49 - (بابٌ هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: هَل يسْتَخْرج السحر، إِنَّمَا ذكره بِحرف الِاسْتِفْهَام إِشَارَة إِلَى الِاخْتِلَاف فِيهِ.
وَقَالَ قتادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيد بنِ المُسَيَّبِ: رجُلٌ بِهِ طِبُّ أوْ يُؤَخذُ عَن امْرَأتِهِ أيُحَلُّ عَنْهُ أوْ يُنَشَّرُ؟ قَالَ: لَا بأْسَ بِهِ، إنَّما يُرِيدُونَ بِهِ الإصْلاحَ، فَأَما مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ.
لما ذكر التَّرْجَمَة بالاستفهام أورد الَّذِي روى عَن قَتَادَة إِشَارَة إِلَى تَرْجِيح جَوَاز اسْتِخْرَاج السحر وعلقه عَن قَتَادَة، وَوَصله أَبُو بكر الْأَثْرَم فِي (كتاب السّنَن) من طَرِيق أبان الْعَطَّار مثله. قَوْله: (بِهِ طب) بِكَسْر الطَّاء وتشديدذ الْبَاء أَي: سحر. قَوْله: (أَو يُؤْخَذ) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْهمزَة على الْوَاو وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالذال الْمُعْجَمَة أَي: يحبس الرجل عَن مُبَاشرَة امْرَأَته وَلَا يصل إِلَى جِمَاعهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور بِعقد الرجل، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الأخذة بِالضَّمِّ الرّقية كالسحر، أَو حرزة يُؤْخَذ بهَا الرِّجَال عَن النِّسَاء من التأخيذ. قَوْله: (أَيحلُّ؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو ينشر؟) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة وبالراء على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا: من التنشير من النشرة، بِضَم النُّون وَسُكُون الشين وَهِي كالتعويذ والرقية يعالج بِهِ الْمَجْنُون ينشر عَنهُ تنشيراً، وَكلمَة: أَو، يحْتَمل أَن تكون شكا وَأَن تكون تنوعاً شَبِيها باللف والنشر، بِأَن يكون الْحل فِي مُقَابلَة الطِّبّ والتنشير فِي مُقَابلَة التأخيذ. قَوْله: (فَأَما) مَا ينفع، ويروى: مَا ينفع النَّاس فَلم ينْه عَنهُ على صِيغَة الْمَجْهُول.

5765 - حدّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمَعْتُ ابنَ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ: أوَّلُ مَنْ حَدَّثنا بِهِ ابنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: حَدَّثَني آلُ عُرْوَةَ عنْ عُرْوَةَ، فَسَألْتُ هِشاماً عَنْهُ فَحَدَّثَنا عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُحِرَ حتَّى كَانَ يَراى أنَّهُ يَأْتِي النِّساءَ وَلَا يَأتِيهِنَّ، قَالَ سفْيانُ: وهذَا أشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذا كانَ كَذاا، فَقَالَ: يَا عائِشَةُ! أعَلِمْتِ أنَّ الله قَدْ أفْتانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فيهِ؟ أتانِي رَجلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأسِي والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأسِي لِلآخَرِ: مَا بالُ الرَّجُل؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ أعْصَمَ، رَجُلٌ مِنْ بَني زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كانَ مُنافِقاً قَالَ: وفِيم؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشاقَةٍ. قَالَ: وأينَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرٍ ذَرْوانَ. قَالَتْ: فأتَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم البِئْرَ حتَّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ: هاذِهِ البِئْرُ الَّتي أُرِيتُها وكأنَّ ماءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ

(21/283)


وكأنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ. قَالَ: فاسْتُخْرِج. قالَتْ: فَقُلْتُ: أفَلا؟ أيْ: تَنَشَّرْتَ. فَقَالَ: أما وَالله فَقَدْ شَفانِي الله وأكْرَهُ أنْ أُثِيرَ عَلى أحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرّاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى استخرجه) وَفِي قَوْله: (فاستخرج) وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بَاب السحر، عَن قريب أخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن آل عُرْوَة إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَهُوَ مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور. قَوْله: (تَحت راعوفة) هَكَذَا بِزِيَادَة ألف فِي رعوفة رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: تَحت رعوفة، وَقَالَ ابْن التِّين: راعوفة رِوَايَة الْأصيلِيّ فَقَط، وَهُوَ عكس مَا قَالَه الْأَكْثَرُونَ، وَوَقع فِي مُرْسل عمر بن الحكم: ارعوفة، وَوَقع عِنْد أَحْمد: رعوثة، بثاء مُثَلّثَة بدل الْفَاء وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَات راعوفة،. وَهُوَ حجر يوضع على رَأس الْبِئْر لَا يُسْتَطَاع قلعه يقوم عَلَيْهِ المستقي، وَقد يكون فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا حفرت. وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ صَخْرَة تتْرك فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا حفر تجْلِس عَلَيْهَا الَّذِي ينظف الْبِئْر، وَقيل: هِيَ حجر تَأتي فِي بعض الْبِئْر صلباً لَا يُمكنهُم حفره فَيتْرك على حَاله، وَفِي (التَّلْوِيح) . راعوفة الْبِئْر وراعوفها وأرعوفتها. حجر تَأتي على رَأسهَا إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ أَولا وَقَالَ الزُّهْرِيّ: قَالَ شمر عَن خَالِد: راعوفة الْبِئْر النَّظَافَة، قَالَ: وَهِي مثل عين على قدر حجر الْعَقْرَب، نَيط فِي أَعلَى الرّكْبَة، فيجاوزونها فِي الْحفر خمس قيم، وَأكْثر فَرُبمَا وجدوا مَاء كثيرا، قَالَ شمر: من ذهب بالراعوفة إِلَى النَّظَافَة فَكَأَنَّهُ أَخذه من رُعَاف الْأنف وَهُوَ سيلان دَمه وقطراته، وَمن ذهب بالراعوفة إِلَى الْحجر الَّذِي يتَقَدَّم طي الْبِئْر فَهُوَ من رعف الرجل أَو الْفرس إِذا تقدم وَسبق، وَكَذَلِكَ: استرعف. قَوْله: (فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبِئْر حَتَّى استخرجه) إِلَى أَن قَالَ: (فاستخرج) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس: قلت: يَا رَسُول الله {أَفلا استخرجته؟ وَفِي رِوَايَة وهيب: فَقلت: يَا رَسُول الله} فَأخْرجهُ للنَّاس. وَفِي رِوَايَة ابْن نمير: أَفلا أخرجته؟ قَالَ: لَا، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة الَّتِي تَأتي بعد هَذَا الْبَاب. وَقَالَ ابْن بطال: ذكر الْمُهلب أَن الروَاة اخْتلفُوا على هِشَام فِي إِخْرَاج السحر الْمَذْكُور فأثبته سُفْيَان، وَجعل سُؤال عَائِشَة عَن النشرة ونفاه عِيسَى بن يُونُس، وَجعل سؤالها عَن الاستخراج وَلم يذكر الْجَواب. وَأجِيب: بِأَن رِوَايَة سُفْيَان مر جحة لتقدمه فِي الضَّبْط والإتقان، وَلَا سِيمَا أَنه كرر اسْتِخْرَاج السحر فِي رِوَايَته مرَّتَيْنِ، فَبعد من الْوَهم وَزَاد ذكر النشرة، وَالزِّيَادَة مِنْهُ مَقْبُولَة. وَقيل: اسْتِخْرَاج الْمَنْفِيّ غير اسْتِخْرَاج الْمُثبت فِي رِوَايَة سُفْيَان، فالمثبت هُوَ اسْتِخْرَاج الجف والمنفي اسْتِخْرَاج مَا حواه، وَوَقع فِي رِوَايَة عمْرَة: فاستخرج جف طلعة من تَحت راعوفة. فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: أَفلا أخرجته، وَوَقع عِنْد مُسلم عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة: أَفلا أحرقته؟ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف من الإحراق قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: كلتا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَة، كَأَنَّهَا أَي: كَأَن عَائِشَة طلبت أَن يُخرجهُ ثمَّ يحرقه، وَقيل: رِوَايَة أبي كريب شَاذَّة وَأغْرب من هَذَا أَن الْقُرْطُبِيّ جعل الضَّمِير فِي: أحرقته، للبيد بن أعصم. قَوْله: (الَّتِي أريتها) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: فَقلت: أَفلا؟ (أَي: تنشرت) وَوَقع فِي رِوَايَة الْحميدِي: فَقلت: يَا رَسُول الله! فَهَلا؟ قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي: تنشرت. قَوْله: (أَي تنشرت) تَفْسِير لقَوْله: (أَفلا) فَكَانَ سُفْيَان عين الَّذِي أَرَادَت بقولِهَا: أَفلا، فَلم يستحضر اللَّفْظ فَذكره بِالْمَعْنَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (أَفلا. أَي: تنشرت) بِزِيَادَة كلمة التَّفْسِير، ويروى أَفلا آتِي بنشرة، بِلَفْظ الْمَجْهُول ماضي الْإِتْيَان، ثمَّ قَالَ: والنشرة بِضَم النُّون وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، وَهِي الرّقية الَّتِي بهَا يحل عقد الرجل عَن مُبَاشرَة الْأَهْل، وَهَذَا يدل على جَوَاز النشرة، وَأَنَّهَا كَانَت مَشْهُورَة عِنْدهم وَمَعْنَاهَا اللّغَوِيّ ظَاهر فِيهَا، وَهُوَ نشر مَا طوى السَّاحر، وتفريق مَا جمعه. فَإِن قلت: روى عبد الرَّزَّاق عَن عقيل بن معقل عَن همام بن مُنَبّه قَالَ: سُئِلَ جَابر بن عبد الله عَن النشرة؟ فَقَالَ: من عمل الشَّيْطَان قلت: ترك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار على عَائِشَة لما ذكرت لَهُ النشرة دَلِيل الْجَوَاز، وَمَا رُوِيَ عَن جَابر فَمَحْمُول على نشرة بِأَلْفَاظ لَا يعلم مَعَانِيهَا. وَقَالَ الشّعبِيّ: لَا بَأْس بالنشرة الْعَرَبيَّة الَّتِي لَا تضر إِذا وطِئت، وَهِي أَن يخرج الْإِنْسَان فِي مَوضِع عضاء فَيَأْخُذ عَن يَمِينه وشماله من كل ثمَّ بذيبه وَيقْرَأ فِيهِ، ثمَّ يغْتَسل بِهِ، وَفِي كتب وهب بن مُنَبّه: أَن يَأْخُذ سبع وَرَقَات من سدر أَخْضَر فيدقها بَين حجرين ثمَّ يضْربهَا بِالْمَاءِ، ثمَّ يقْرَأ

(21/284)


فِيهِ آيَة الْكُرْسِيّ وَذَوَات: قل، ثمَّ يحسو مِنْهُ ثَلَاث حسوات ويغتسل بِهِ، فَإِنَّهُ يذهب عَنهُ كل عاهة وَهُوَ جيد للرجل إِذا حبس عَن أَهله.

50 - (بابُ السِّحْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السحر وَهُوَ مُكَرر بِلَا فَائِدَة لِأَنَّهُ ذكر فِيمَا قبل بَابَيْنِ فَلذَلِك بعض الروَاة أسْقطه، وَكَذَا ابْن بطال والإسماعيلي وَغَيرهمَا لم يذكروه، وَهُوَ الصَّوَاب.

5766 - حدّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعيلَ حَدثنَا أبُو أُسامَةَ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ، قالتْ: سُحِرَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيءَ وَمَا فَعَلَهُ، حتَّى إِذا كَانَ ذاتَ يَوْمٍ وهْوَ عِنْدِي دَعا الله ودَعاهُ، ثُمَّ قَالَ: أشَعَرْتِ يَا عائِشَةُ أنَّ الله قَدْ أفْتانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فيهِ؟ قُلْتُ: وَمَا ذاكَ يَا رسُولَ الله؟ قَالَ: جاءَنِي رَجُلانِ فَجَلَسَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأسِي والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ قَالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مطْبُوبٌ. قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبيدُ بنُ الأعْصَمِ اليَهُودِيُّ مِنْ بَني زُرَيْقٍ، قَالَ: فِيماذا؟ قَالَ: فِي مشْطٍ ومُشاطَةٍ وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: فأيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أرْوانَ. قالَ فَذَهَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أُناسٍ مِنْ أصْحابِهِ إِلَى البئْرِ فَنَظَرَ إلَيْها وعَلَيْها نخْلٌ، ثُمَّ رَجَع إِلَى عائِشَةَ فَقَالَ: وَالله لَكأنَّ ماءَها فُقاعَةُ الحِنَّاءِ ولَكأنَّ نخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ. قُلْتُ: يَا رسولَ الله! أفأخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: لَا، أمَّا أَنا فَقَدْ عافانِيَ الله وشَفانِي وخَشِيتُ أنْ أُثَوِّرَ عَلى النَّاس منْهُ شَرّاً وأمَرَ بِها فَدُفِنَتْ.
تكَرر هَذَا الحَدِيث على اخْتِلَاف رُوَاته وَأَلْفَاظه، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (أَنه يفعل الشَّيْء وَمَا فعله) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، هَذَا بِكَمَالِهِ إِلَى آخِره، وَكَذَا الْمُسْتَمْلِي كِلَاهُمَا من رِوَايَة أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، وَوَقع فِي هَذِه الرِّوَايَة ذِي أروان، وَقد مر الْكَلَام فِي بَيَان اختلافه.

51 - (بابٌ مِنَ البَيانِ سِحْرٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر يه من الْبَيَان سحر فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، والكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي السحر بِالْألف وَاللَّام.

5767 - حدّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ زَيْدِ بن أسْلم عنْ عبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّهُ قَدِمَ رجُلانِ مِنَ المشْرِقِ فَخَطَبا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيانِهِما، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْراً، أوْ: إنَّ بَعْضَ البَيانِ لَسِحْرٌ. (انْظُر الحَدِيث: 5146) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي لفظ: الْبَيَان سحر، فَقَط، لِأَن لفظ الحَدِيث: إِن من الْبَيَان إِلَى آخِره، وَمضى الحَدِيث أَيْضا فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب الْخطْبَة: إِن من الْبَيَان سحرًا، بِدُونِ لَام التَّأْكِيد فِي خبر: إِن، وَكَذَا لفظ أبي دَاوُد أخرجه فِي كتاب الْأَدَب فِي: بَاب رِوَايَة الشّعْر من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: إِن من الْبَيَان سحرًا، أَو: إِن بعض الْبَيَان سحر، أخرجه فِي أَبْوَاب الْبر عَن قُتَيْبَة عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن زيد بن أسلم، وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب النِّكَاح، ولنذكر بعض شَيْء. فَقَالَ ابْن بشكوال: رَوَاهُ أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) مُرْسلا لَيْسَ فِيهِ ابْن عمر، وَقَالَ ابْن بطال: الرّجلَانِ هما: عَمْرو بن الْأَهْتَم والزبرقان بن بدر، وَقَالَ أَبُو عمر وبن الْأَهْتَم التَّمِيمِي الْمنْقري أَبُو ربعي، والأهتم أَبوهُ اسْمه سِنَان بن خَالِد بن سمي، قدم وافداً فِي وُجُوه قومه من بني تَمِيم فَأسلم، وَذَلِكَ فِي سنة تسع من الْهِجْرَة، وَكَانَ فِيمَن قدم مَعَه الزبْرِقَان بن بدر بن امرىء الْقَيْس بن خلف بن بَهْدَلَة بن عَوْف بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم البهدلي السَّعْدِيّ التَّمِيمِي، يكنى أَبَا عَيَّاش، فَأسلم وولاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقَات قومه، وَأقرهُ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا على ذَلِك. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الزبْرِقَان الْقَمَر، والزبرقان الرجل الْخَفِيف

(21/285)


اللِّحْيَة واسْمه الْحصين بن بدر، وَإِنَّمَا سمى الزبْرِقَان لحسنه شبه بالقمر، وَقد ذكرنَا خطْبَة الزبْرِقَان فِي كتاب النِّكَاح وَمَا جرى لَهُ مَعَ عَمْرو بن الْأَهْتَم. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل الحَدِيث الْمَذْكُور، فَقَالَ قوم من أَصْحَاب مَالك: إِنَّه خرج على الذَّم للْبَيَان، وَلِهَذَا مَالك أدخلهُ فِي: بَاب مَا يكره من الْكَلَام، وَقَالُوا: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه الْبَيَان بِالسحرِ وَالسحر مَذْمُوم محرم قَلِيله وَكَثِيره، وَذَلِكَ لما فِي الْبَيَان من التفيهق وتصوير الْبَاطِل فِي صُورَة الْحق، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبغضكم إِلَيّ الثرثارون المتفيهقون، وَيُقَال: الرجل يكون على الْحق فيسحر الْقَوْم ببيانه فَيذْهب بِالْحَقِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَلَام خرج على مدح الْبَيَان، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بقوله فِي الحَدِيث. فَعجب النَّاس لبيانهما، قَالُوا. والإعجاب لَا يكون إلاَّ بِمَا يحسن ويطيب سَمَاعه، قَالُوا: وتشبيهه بِالسحرِ مدح لِأَن معنى السحر الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمِين النَّاس بِفضل البلاغة لبلاغته فأعجبه ذَلِك القَوْل وَاسْتَحْسنهُ، فَلذَلِك شبهه بِالسحرِ. وَيُقَال: أحسن مَا يُقَال فِي هَذَا الحَدِيث إِنَّه لَيْسَ بذم للْبَيَان كُله وَلَا بمدح لَهُ كُله، أَلا ترى أَن فِيهِ كلمة من للتَّبْعِيض؟ وَقد شكّ الْمُحدث أَنه قَالَ: إِن من الْبَيَان أَو: إِن من بعض الْبَيَان، وَكَيف يذم الْبَيَان كُله وَقد عده نعْمَة على عبيده؟ فَقَالَ: {خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} (الرَّحْمَن: 3 4) قَوْله: (من الْمشرق) أَرَادَ بِهِ النجد لِأَنَّهُ فِي شَرق الْمَدِينَة، وَهِي سُكْنى بني تَمِيم من جِهَة الْعرَاق. قَوْله: (سحرًا) أَي: هُوَ شَبيه بِالسحرِ فِي جلب الْعُقُول من حَيْثُ إِنَّه خارق للْعَادَة.

52 - (بابُ الدَّوَاءِ بالعَجُوَةِ لِلسِّحْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّدَاوِي بالعجوة لأجل السحر، أَي: لأجل دَفعه وتبطيله، والعجوة نوع من أَجود التَّمْر بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ من وسط التَّمْر، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ أكبر من التَّمْر الصيحاني يضْرب إِلَى السوَاد، وَهُوَ مِمَّا غرسه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيد فِي الْمَدِينَة.

5768 - حدّثنا عَليٌّ حدّثَنا مَرْوَانُ أخبرنَا هاشِمٌ أخبرَنا عامِرُ بنُ سَعْدٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنِ اصْطَبَحَ كلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجُوَةٍ لَمْ يضُرَّهُ سُمُّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ اليَوْمَ إِلَى الليْلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعَ تَمَرَاتٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي هُوَ ابْن عبد الله بن الْمَدِينِيّ فِيمَا ذكره أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) والمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي بعض النّسخ: عَليّ بن سَلمَة، بِفَتْح اللَّام اللبقى بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة وبالقاف، وَقَالَ بَعضهم: مَا عرفت سلفه فِيهِ. قلت: مَقْصُوده التشنيع على الْكرْمَانِي بِغَيْر وَجه لِأَنَّهُ مَا ادّعى فِيهِ جزما أَنه عَليّ بن سَلمَة، وَإِنَّمَا نَقله عَن نُسْخَة هَكَذَا، وَلَو لم تكن النُّسْخَة مُعْتَبرَة لما نَقله مِنْهَا، ومروان هُوَ ابْن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ، وهَاشِم هُوَ ابْن هَاشم بن عتبَة بن أبي وَقاص يرْوى عَن ابْن عمر عَن أَبِيه عَامر بن سعد بن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْأَطْعِمَة فِي: بَاب الْعَجْوَة. قَوْله: (من اصطبح) فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: من تصبح، وَكَذَا فِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي الْأَطْعِمَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث ابْن عَمْرو كِلَاهُمَا بِمَعْنى التَّنَاوُل صباحاً، وأصل الصبوح والاصطباح تنَاول الشَّرَاب صبحاً ثمَّ اسْتعْمل فِي الْأكل ومقابلة الصبوح الغبوق والاغتباق، وَحَاصِل معنى قَوْله: (من اصطبح) أَي: من أكل فِي الصَّباح (كل يَوْم تمرات) لم يذكر الْعدَد فِي رِوَايَة عَليّ الْمَذْكُور شيخ البُخَارِيّ، وَوَقع فِي غير هَذِه الرِّوَايَة مُقَيّدا بِسبع تمرات على مَا يَجِيء. قَوْله: (تمرات) مَنْصُوب بقوله: (اصطبح) قَوْله: (عَجْوَة) يجوز فِيهِ الْإِضَافَة بِأَن يكون تمرات مُضَافَة إِلَى الْعَجْوَة كَمَا فِي قَوْلك: ثِيَاب خزو وَيجوز فِيهَا التَّنْوِين على أَنه عطف بَيَان أَو صفة لتمرات، وَقَالَ بَعضهم: يجوز النصب منوناً على تَقْدِير فعل أَو على التَّمْيِيز. قلت: فِيهِ تَأمل لَا يخفى. قَوْله: (سم) بِتَثْلِيث السِّين فِيهِ. قَوْله: (ذَلِك الْيَوْم) أَي: فِي ذَلِك الْيَوْم. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير عَليّ شيخ البُخَارِيّ: (سبع تمرات) بِزِيَادَة لَفْظَة سبع.
ثمَّ الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: قيد بقوله: اصطبح، لِأَن المُرَاد تنَاوله بكرَة النَّهَار حَتَّى إِذا تعشى بتمرات لَا تحصل الْفَائِدَة الْمَذْكُورَة، هَذَا تَقْيِيد بِالزَّمَانِ، وَجَاء فِي رِوَايَة أبي ضَمرَة التَّقْيِيد بِالْمَكَانِ أَيْضا، وَلَفظه: من تصبح

(21/286)


بِسبع تمرات عَجْوَة من تمر الْعَالِيَة، والعالية الْقرى الَّتِي فِي جِهَة الْعَالِيَة من الْمَدِينَة، وَهِي جِهَة نجد، وَله شَاهد عِنْد مُسلم من طَرِيق ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة بِلَفْظ: فِي عَجْوَة الْعَالِيَة شِفَاء فِي أول البكرة.
الثَّانِي: قيد التمرات بالعجوة لِأَن السِّرّ فِيهَا أَنَّهَا من غرس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا ذكرنَا، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من حَدِيث جَابر رَفعه: الْعَجْوَة من الْجنَّة، وَهِي شِفَاء من السم، وَقَالَ الْخطابِيّ: كَون الْعَجْوَة تَنْفَع من السم وَالسحر إِنَّمَا هُوَ ببركة دَعْوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتمر الْمَدِينَة، لَا لخاصية فِي التَّمْر، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون نخلا خَاصّا من الْمَدِينَة لَا يعرف الْآن، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لخاصية فِيهِ، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك خَاصّا بِزَمَانِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا يردهُ وصف عَائِشَة لذَلِك بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ الْمَازرِيّ: هَذَا مِمَّا لَا يعقل مَعْنَاهُ فِي طَريقَة علم الطِّبّ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ لأهل زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة، أَو لأكثرهم.
الثَّالِث: التَّقْيِيد بِالْعدَدِ الْمَذْكُور، وَقَالَ النَّوَوِيّ: خُصُوص كَون ذَلِك سبعا لَا يعقل مَعْنَاهُ كأعداد الصَّلَوَات، وَنصب الزكوات، وَقد جَاءَ هَذَا الْعدَد فِي مَوَاطِن كَثِيرَة من الطِّبّ، كَحَدِيث: صبوا عَليّ من سبع قرب، وَقَوله للمفؤد الَّذِي وَجهه لِلْحَارِثِ بن كلدة أَن يلده بِسبع تمرات، وَجَاء تعويذه بِسبع مَرَّات، وَقيل: وَجه التَّخْصِيص فِيهِ لجمعه بَين الْأَفْرَاد والأشفاع لِأَنَّهُ زَاد على نصف الْعشْرَة، وَفِيه أشفاع ثَلَاثَة وأوتار أَرْبَعَة، وَهُوَ من نمط غسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب سبعا.
الرَّابِع: التَّقْيِيد بقوله: (ذَلِك الْيَوْم إِلَى اللَّيْل) مَفْهُومه أَن الْفَائِدَة الْمَذْكُورَة فِيهِ ترْتَفع إِذا دخل اللَّيْل فِي حق من تنَاوله فِي أول النَّهَار، لِأَن فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ تنَاوله على الرِّيق، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يلْحق بِهِ من يتَنَاوَلهُ أول اللَّيْل على الرِّيق كالصائم، قلت: فِي حَدِيث ابْن أبي مليكَة: شِفَاء فِي أول البكرة، أَو ترياق، وَهَذَا يدْفع الِاحْتِمَال الْمَذْكُور.

5769 - حدّثنا إسْحاقُ بنُ مَنْصُورٍ أخبرنَا أبُو أُسامَةَ حَدثنَا هاشِمُ بنُ هاشِمُ قَالَ: سَمِعْتُ عامِرَ بنَ سَعْدٍ سَمِعْتُ سَعْداً رَضِي الله عَنهُ يَقولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَات عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سُمُّ وَلَا سِحْرٌ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الْمروزِي عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (سبع تمرات) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بِسبع تمرات، بِزِيَادَة الْبَاء الْمُوَحدَة.

53 - (بابٌ لَا هامَة)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا هَامة، وَقد مر تَفْسِيره فِي: بَاب الجذام، وَهُوَ بتَخْفِيف الْمِيم فِي رِوَايَة الكافة، وَخَالفهُم أَبُو زيد فَقَالَ: هِيَ بِالتَّشْدِيدِ فَكَأَنَّهُ يَجعله من بَاب: هم بِالْأَمر إِذا عزم عَلَيْهِ، وَمِنْه الحَدِيث: كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام فَيَقُول: أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل سامة وَهَامة، والهامة كل ذَات سم تقتل، وَالْجمع: الْهَوَام، فَأَما مَا يسم وَلَا يقتل فَهُوَ السامة كالعقرب والزنبور، وَقد يَقع الْهَوَام على مَا يدب من الْحَيَوَان وَإِن لم يقتل كالحشرات.

5770 - حدّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هامَةَ، فَقَالَ أعْرَابيٌّ: يَا رسولَ الله! فَما بالُ الإبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كأنَّها الظِّباءُ، فَيُخالِطها البَعِيرُ الأجْرَبُ فَيُجْرِبها؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا هَامة) وَعبد الله بن مُحَمَّد المسندي، وَبَقِيَّة الرِّجَال قد تَكَرَّرت فِي الْكتاب.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب لَا صفر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن أبي صَالح عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة وَغَيره، وَأخرجه

(21/287)


أَبُو دَاوُد فِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل الْعَسْقَلَانِي وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (لَا عدوى) أَي: لَا سرَايَة للمرض عَن صَاحبه إِلَى غَيره، وَقد مر تَحْقِيقه غير مرّة، وَكَذَا مر تَفْسِير قَوْله: (وَلَا صفر وَلَا هَامة) فِي: بَاب الجذام. قَوْله: (فَمَا بَال الْإِبِل) بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَي: فَمَا شَأْنهَا. قَوْله: (كَأَنَّهَا الظباء) بِكَسْر الظَّاء الْمُعْجَمَة جمع ظَبْي، شبهها بهَا فِي صفاء بدنهَا وسلامتها من الجرب وَغَيره من الأدواء. قَوْله: (فيخالطها) من المخالطة، يَعْنِي: يدْخل الْبَعِير الأجرب بَين الْإِبِل الصِّحَاح عَن الجرب فيجربها، بِضَم الْيَاء، يَعْنِي: يعدي جربه إِلَيْهَا فتجرب. قَوْله: فَمن أعدى الأول؟ أَي من أجرب الْبَعِير الأُول، يَعْنِي مِمَّن سرى إِلَيْهِ الجرب؟ فَإِن قلت: من بعير آخر يلْزم التسلسل، وَإِن قلت: بِسَبَب آخر، فَعَلَيْك بَيَانه، وَإِن قلت: إِن الَّذِي فعله فِي الأول هُوَ الَّذِي فعله فِي الثَّانِي، ثَبت الْمُدَّعِي، وَهُوَ أَن الَّذِي فعل فِي الْجَمِيع ذَلِك هُوَ الله الْخَالِق الْقَادِر على كل شَيْء، وَهَذَا جَوَاب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَايَة البلاغة والرشاقة.

5771 - حدّثنا وعنْ أبي سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ. وأنْكَرَ أبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأوَّلِ، قُلْنا: ألَمْ تُحَدِّثْ أنَّهُ لَا عَدْوى؟ فَرَطَنَ بالحَبَشِيَّةِ.
قَالَ: أبُو سلَمَةَ: فَما رأيْتُهُ نسيَ حَدِيثاً غَيْرَهُ. (انْظُر الحَدِيث: 5771 طرفه فِي: 5774) .

قَوْله: وَعَن أبي سَلمَة سمع أَبَا هُرَيْرَة، عطف على قَوْله: عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (بعد) أَي بعد أَن سمع مِنْهُ لَا عدوى إِلَى آخِره. يَقُول: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يوردن ممرض) إِلَى آخِره. قَوْله: (لَا يوردن) بنُون التَّأْكِيد للنَّهْي عَن الْإِيرَاد وَفِي رِوَايَة مُسلم: لَا يُورد، بِلَفْظ النَّفْي وَهُوَ خبر بِمَعْنى النَّهْي، ومفعول: لَا يوردن مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يوردن ممرض مَاشِيَة على مَاشِيَة مصح. قَوْله: (ممرض) بِضَم الْمِيم الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وَكسر الرَّاء وبالضاد الْمُعْجَمَة، وَهُوَ اسْم فَاعل من الإمراض من أمرض الرجل إِذا وَقع فِي مَاله آفَة، وَالْمرَاد بالممرض هُنَا الَّذِي لَهُ إبل مرضى. قَوْله: (على مصح) بِضَم الْمِيم وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْحَاء، وَهُوَ الَّذِي لَهُ إبل صِحَاح، والتوفيق بَين الْحَدِيثين بِمَا قَالَه ابْن بطال وَهُوَ: أَن لَا عدوى، إِعْلَام بِأَنَّهَا لَا حَقِيقَة لَهَا، وَأما النَّهْي فلئلا يتَوَهَّم المصح أَن مَرضهَا من أجل وُرُود المرضى عَلَيْهَا فَيكون دَاخِلا بتوهمه ذَلِك فِي تَصْحِيح مَا أبْطلهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْعَدْوى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بقوله: (لَا عدوى) يَعْنِي: مَا كَانُوا يعتقدونه أَن الْمَرَض يعدي بطبعه، وَلم ينف حُصُول الضَّرَر عِنْد ذَلِك بقدرة الله تَعَالَى وَجعله، وَبِقَوْلِهِ: (لَا يوردن) الْإِرْشَاد إِلَى مجانبة مَا يحصل الضَّرَر عِنْده فِي الْعَادة بِفعل الله وَقدره، وَقيل: النَّهْي لَيْسَ للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة وَنَحْوهَا. قَوْله: (وَأنكر أَبُو هُرَيْرَة الحَدِيث الأول) وَهُوَ قَوْله: (لَا عدوى) إِلَى آخِره، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: حَدِيث الأول، بِالْإِضَافَة وَهُوَ من قبيل قَوْلهم: مَسْجِد الْجَامِع. قَوْله: (قُلْنَا ألم تحدِّث) عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (لَا عدوى) الخ ... الْقَائِل أَبُو سَلمَة وَمن مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت أَي: قُلْنَا لأبي هُرَيْرَة ألم تحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَا عدوى إِلَى آخِره. قَوْله: (فرطن بالحبشية) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي تكلم بالعجمية أَي: تكلم بِمَا لَا يفهم، وَالْحَاصِل فِي ذَلِك أَنه غضب فَتكلم بِمَا لَا يفهم، وَلَا رطانة بالحبشية هُنَا حَقِيقَة. قَوْله: (فَمَا رَأَيْته) أَي: أَبَا هُرَيْرَة. قَوْله: (غَيره) أَي: غير الحَدِيث الَّذِي هُوَ قَوْله: لَا عدوى إِلَى آخِره.
فَإِن قلت: قد مضى فِي: بَاب حفظ الْعلم، أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: فَمَا نسيت شَيْئا بعده أَي: بعد بسط الرِّدَاء بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: هُوَ قَالَ: مَا رَأَيْته نسي، وَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته النسْيَان نسيانه. وَقَالَ فِي (صَحِيح مُسلم) بِهَذِهِ الْعبارَة: لَا أَدْرِي أنسي أَبُو هُرَيْرَة أَو نسخ أحد الْقَوْلَيْنِ الآخر، وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ سمع هَذَا الحَدِيث قبل أَن يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث: من بسط رِدَاءَهُ ثمَّ ضمه إِلَيْهِ لم ينس شَيْئا سَمعه من مَقَالَتي، وَقيل: المُرَاد أَنه لَا ينسى تِلْكَ الْمقَالة الَّتِي قَالَهَا ذَلِك الْيَوْم، لَا أَنه يَنْتَفِي عَنهُ النسْيَان أصلا، وَقيل: كَانَ الحَدِيث الثَّانِي نَاسِخا للْأولِ فَسكت عَن الْمَنْسُوخ، وَفِيه نظر لَا يخفى.

54 - (بابٌ لَا عَدْواى)

(21/288)


أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر لَا عدوى، وَقد أسقط ابْن بطال هَذَا الْبَاب من أَصله وَالصَّوَاب مَعَه.

5772 - حدّثناسَعيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عبْدِ الله وحَمْزَةُ أنَّ عبدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لاَ عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ إنَّما الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الفَرَسِ والمَرْأةِ والدَّارِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا عدوى) والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب لَا طيرة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن عُثْمَان بن عمر عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر، وَزَاد فِي هَذِه الرِّوَايَة بعد سَالم حَمْزَة وَهُوَ أَخُو سَالم، وَتقدم فِي أَوَائِل النِّكَاح من طَرِيق مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة وَسَالم ابْني عبد الله بن عمر، وَفِي تَصْرِيح الزُّهْرِيّ فِيهِ بقوله: أَخْبرنِي سَالم، دفع لتوهم انْقِطَاعه بسب مَا رَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ، فَأدْخل بَين الزُّهْرِيّ وَسَالم رجلا وَهُوَ مُحَمَّد بن زيد بن قنفذ، فَيدل على أَن الزُّهْرِيّ حمله من مُحَمَّد بن زيد عَن سَالم ثمَّ سَمعه عَن سَالم، وَبَقِيَّة مَعْنَاهُ قد مرت هُنَاكَ.

5774 - ق ال أبُو سَلَمَةَ بنُ عبْدِ الرَّحْمانِ: سَمعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تُورِدُوا المُمْرِضَ عَلى المُصِحِّ (انْظُر الحَدِيث: 5771) .

5775 - وعنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي سِنانُ بنُ أبي سِنانٍ الدُّوَلِيُّ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا عَدْوى، فقامَ أعْرابيٌّ فَقَالَ: أرَأيْتَ الإبلَ تَكُونُ فِي الرِّمالِ أمْثالَ الظِّباءِ فَيأتِيهَا البَعِيرُ الأجْربُ فَتَجْرَبُ؟ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ؟ .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا عدوى) وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة:
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب لَا صفر، عَن قريب وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (لَا توردوا) ويروى على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) مَوْصُول بِمَا قبله وَسنَان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى ابْن أبي سِنَان واسْمه يزِيد بن أُميَّة، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة سوى هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد، وَله آخر عَن جَابر، والدؤلي بِضَم الدَّال وَكسر الْهمزَة نِسْبَة إِلَى الدئل بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة. قَوْله: (فتجرب) بِفَتْح الرَّاء على صِيغَة الْمَعْلُوم.

5776 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرةَ، ويُعْجبُنِي الفألُ. قالُوا: وَمَا الفألُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ طَيِّبةٌ. (انْظُر الحَدِيث: 5756) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا عدوى) وَابْن جَعْفَر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الْمَشْهُور بغندر وَفِي بعض النّسخ صرح باسمه. والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب الفأل عَن قريب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

55 - (بابُ مَا يُذْكَرُ فِي سَمِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يذكر من سم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِضَافَة السم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْإِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول وطوى فِيهِ ذكر الْفَاعِل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: سم، بالحركات الثَّلَاث. قلت: لَيْسَ فِي هَذَا الْمحل فَإِن السِّين فِيهِ مَفْتُوحَة جزما لِأَنَّهُ مصدر، والحركات الثَّلَاث عِنْد كَونه اسْما، فَافْهَم.

(21/289)


روَاهُ عُرْوَةُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى سم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد ذكره مُعَلّقا أَيْضا فِي آخر الْمَغَازِي، فَقَالَ: قَالَ يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ عُرْوَة. قَالَت عَائِشَة: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: يَا عَائِشَة! مَا أَزَال أجد ألم الطَّعَام الَّذِي أكلت بِخَيْبَر، فَهَذَا أَوَان انْقِطَاع أَبْهَري من ذَلِك السم. وَقد وَصله الْبَزَّار وَغَيره.

5777 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي سَعيدٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أنَّهُ قَالَ: لمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهُدِيَتْ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاةٌ فِيها سَمٌّ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إجْمَعُوا لي منْ كانَ هاهُنا مِنَ اليَهُودِ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنِّي سائِلكُمْ عنْ شَيءٍ، فَهَلْ أنْتُمْ صادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا القاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ أبُوكُمْ؟ قَالُوا: أبُونا فُلانٌ، فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَذَبْتُمْ، بَلْ أبُوكُمْ فُلانٌ فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: هَلْ أنْتُمْ صادِقِيَّ عنْ شَيءٍ إنْ سألْتُكُمْ عنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا القاسِمِ، وإنْ كَذَبْناكَ عَرَفْتَ كَذِبَنا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبينَا، فَقال لَهُمْ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَنْ أهْلُ النارِ؟ فَقَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَنا فِيها، فَقَالَ لَهُمْ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اخْسَؤُا فِيها وَالله لَا نَخْلُفُكُمْ فِيها أبَداً، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ أنْتُمْ صادِقي عنْ شَيءٍ إنْ سألْتُكُمْ عنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هاذِه الشَّاةِ سُمًّا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلى ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: أرَدْنا إنْ كُنْتَ كَذَّاباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وإنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. (انْظُر الحَدِيث: 3169 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (هَل جعلتم فِي هَذِه الشَّاة سما) والْحَدِيث مضى فِي الْجِزْيَة والمغازي. قَوْله: (أهديت) على صِيغَة الْمَجْهُول من الإهداء. وَقَوله: (شَاة) مَرْفُوع بِهِ وَلم يعرف الْمهْدي من هُوَ، وأوضح ذَلِك مَا تقدم فِي الْهِبَة من حَدِيث أنس أَن يَهُودِيَّة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهَا الحَدِيث، فَعلم من ذَلِك أَن الَّتِي أَهْدَت هِيَ امْرَأَة يَهُودِيَّة وَلَكِن لَيْسَ فِيهِ بَيَان اسْمهَا، وَقد تقدم فِي الْمَغَازِي أَنَّهَا زَيْنَب بنت الْحَارِث امْرَأَة سَلام بن مشْكم، فَعلم مِنْهُ أَن اسْمهَا زَيْنَب. قَوْله: (فَهَل أَنْتُم صادقي) بِكَسْر الدَّال وَالْقَاف وَتَشْديد الْيَاء وَأَصله، فَهَل أَنْتُم صادقونني، فَلَمَّا أضيف لفظ: (صَادِقُونَ) إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم حذفت النُّون لأجل الْإِضَافَة، فَالتقى ساكنان: وَاو الْجمع وياء الْمُتَكَلّم، فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: صادقي بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء، ثمَّ أبدلت ضمة الْقَاف كسرة لأجل الْيَاء، فَصَارَ: صادقي، بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد الْيَاء، وَوَقع فِي بعض النّسخ: فَهَل أَنْتُم صادقوني، فِي ثَلَاث مَوَاضِع، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ بَعضهم إِنْكَار ابْن التِّين الرِّوَايَة من جِهَة الْعَرَبيَّة لَيْسَ بجيد، ثمَّ ذكر عَن ابْن مَالك مَا حَاصله أَن نون الْجمع حذفت وَنون الْوِقَايَة أبقيت. قلت: ابْن التِّين لم يُنكر الرِّوَايَة، وَكَيف يشنع عَلَيْهِ بِمَا لم يقل بِهِ. وَقَوله: وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوَاعِد الْعَرَبيَّة، وَلكَون مَا ذكره هُوَ الأَصْل فِيهَا. قَوْله: (وبررت) بِكَسْر الرَّاء الأولى، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحكي فتحهَا، وَمَعْنَاهُ: أَحْسَنت. قَوْله: (ثمَّ تخلفوننا) بِضَم اللَّام المخففة أَي: تدخلون فتقيمون فِي الْمَكَان الَّذِي كُنَّا فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم: وَضَبطه الْكرْمَانِي بتَشْديد اللَّام. قلت: لم يضْبط الْكرْمَانِي كَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ: تخلفوننا، بالادغام والفك، وَقد أخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق عِكْرِمَة، قَالَ: خَاصَمت الْيَهُود رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فَقَالُوا: لن ندخل النَّار إلاَّ أَرْبَعِينَ لَيْلَة وسيخلفنا إِلَيْهَا قوم آخَرُونَ، يعنون مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه،

(21/290)


فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ على رؤوسهم: بل أَنْتُم خَالدُونَ مخلدون لَا يخلفنكم فِيهَا أحد، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَقَالُوا لن تمسنا إلاَّ أَيَّامًا معدودات} (آل عمرَان: 24) الْآيَة. قَوْله: (اخسؤا فِيهَا) من خسأت الْكَلْب إِذا طردته وخسا الْكَلْب بِنَفسِهِ يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى. قَوْله: (إِن كنت كذابا) هَكَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: إِن كنت كَاذِبًا. قَوْله: (وَإِن كنت نَبيا لم يَضرك) يَعْنِي: على الْوَجْه الْمَعْهُود من السم، وَفِي مُرْسل الزُّهْرِيّ: أَنَّهَا أكثرت السم فِي الْكَتف والذراع لِأَنَّهُ بلغَهَا أَن ذَلِك كَانَ أحب الْأَعْضَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه فَتَنَاول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَتف فنهس مِنْهَا، وَفِيه: فَلَمَّا ازدرد لقْمَة قَالَ: إِن الشَّاة تُخبرنِي، يَعْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَة، وَاخْتلفُوا: هَل قَتلهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو تَركهَا؟ وَوَقع فِي حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ فَقيل: أَلا تقتلها؟ قَالَ: لَا، وَمن المستغرب قَول ابْن سَحْنُون: أجمع أهل الحَدِيث على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا، وَاخْتلف فِيمَن سم طَعَاما أَو شرابًا لرجل فَمَاتَ مِنْهُ، فَذكر ابْن الْمُنْذر عَن الْكُوفِيّين أَنه لَا قصاص عَلَيْهِ وعَلى عَاقِلَته الدِّيَة، وَقَالَ مَالك: إِذا استكرهه فَسَقَاهُ سما فَقتله فَعَلَيهِ الْقود، وَعَن الشَّافِعِي: إِذا سقَاهُ سما غير مكره لَهُ فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه عَلَيْهِ الْقود، وَهُوَ أشبههما، وَثَانِيهمَا: لَا قَود عَلَيْهِ، وَهُوَ آثم.

56 - (بابُ شُرْبِ السَّمِّ والدَّواءِ بِهِ وبِما يُخافُ مِنْهُ والخَبِيثِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب السم إِلَى آخِره، وَأبْهم الحكم اكْتِفَاء بِمَا يفهم من حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ عدم جَوَازه لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى قتل نَفسه فَإِن قلت: أخرج ابْن أبي شيبَة وَغَيره: أَن خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ لما نزل الْحيرَة قيل لَهُ: احذر السم لَا يسقيكه الْأَعَاجِم، فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ، فَأتوهُ بِهِ فَأَخذه بِيَدِهِ، ثمَّ قَالَ: بِسم الله، واقتحمه فَلم يضرّهُ. قلت: وَقع هَكَذَا كَرَامَة لخَالِد فَلَا يتأسى بِهِ، ويؤكد عدم جَوَازه حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ قَوْله: (والدواء بِهِ) أَي: وَفِي بَيَان التَّدَاوِي بِهِ، وَهُوَ أَيْضا لَا يجوز لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم. قَوْله: (وَبِمَا يخَاف مِنْهُ) عطف على الْجَار وَالْمَجْرُور أَعنِي قَوْله: (بِهِ) وَإِنَّمَا جَازَ لإعادة الْجَار، وَفِي بعض النّسخ: وَمَا يخَاف، بِدُونِ حرف الْبَاء، فعلى هَذَا يكون عطفا على لفظ السم وَهُوَ بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَالَ بَعضهم: قَالَ الْكرْمَانِي: يجوز فَتحه، قلت: لم يذكر الْكرْمَانِي شَيْئا من ذَلِك، وَالْمعْنَى بِمَا يخَاف بِهِ من الْمَوْت أَو اسْتِمْرَار الْمَرَض. قَوْله: (والخبيث) أَي: والدواء الْخَبيث وَيَقَع هَذَا بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: من جِهَة نجاسبته كَالْخمرِ وَلحم الْحَيَوَان الَّذِي لَا يُؤْكَل، وَالْآخر: من جِهَة استقذاره، فَتكون كَرَاهَته لإدخال الْمَشَقَّة على النَّفس، قَالَه الْخطابِيّ. وَقد ورد النَّهْي عَن تنَاول الدَّوَاء الْخَبيث، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ ابْن حبَان.

5778 - حدّثنا عبْدُ الله بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حدّثنا خالِدُ بنُ الحارِثِ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوان يُحَدِّثُ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: منْ تَرَدَّى منْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهْوَ فِي نارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خالِداً مُخَلَّداً فِيها أبَداً، ومَنْ تَحَسَّى سَمّاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نارِ جهنَّمَ خَالِدا مُخَلّداً فِيهَا أبَداً، ومَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجاءُ بِها فِي بَطْنِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِداً مُخَلَّداً فِيهَا أبَداً. (انْظُر الحَدِيث: 1365) .

هَذَا الحَدِيث يُوضح إِبْهَام مَا فِي التَّرْجَمَة من الحكم، وَهُوَ وَجه الْمُطَابقَة بَينهمَا.
وَعبد الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحجي الْبَصْرِيّ، مَاتَ فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وخَالِد بن الْحَارِث بن سُلَيْمَان أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وذكوان بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة أَبُو صَالح الزيات السمان الْمَدِينِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (من تردى) أَي: أسقط نَفسه مِنْهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: تردى إِذا سقط فِي الْبِئْر. قَوْله: (وَمن تحسى) بالمهملتين من بَاب التفعل بِالتَّشْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: تجرع، وَأَصله من حسوت المرق حسواً، والحسوة بِالضَّمِّ الجرعة من الشَّرَاب بِقدر مَا يحسى مرّة وَاحِدَة، وبالفتح الْمرة. قَوْله: (يجاء) ، بِفَتْح

(21/291)


الْيَاء وَتَخْفِيف الْجِيم وَبعد الْألف همزَة، من وجأته بالسكين إِذا ضَربته وأصل يجاء يوجيء بِكَسْر الْجِيم فحذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة ثمَّ فتحت الْجِيم لأجل الْهمزَة. وَقَالَ ابْن التِّين: فِي رِوَايَة الشَّيْخ أبي الْحسن: يجاء بِضَم أَوله، وَلَا وَجه لذَلِك، وَإِنَّمَا يبْنى للْمَجْهُول بِإِعَادَة الْوَاو فَيُقَال: يوجأ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: يتوجأ على وزن يتكبر من بَاب التفعل. قَوْله: (خَالِدا مخلداً فِيهَا) أَي: فِي نَار جَهَنَّم، وجهنم اسْم لنار الْآخِرَة غير منصرف إِمَّا للعجمة والعلمية، وَإِمَّا للتأنيث والعلمية، وَالْمرَاد بذلك إِمَّا فِي حق المستحل أَو المُرَاد الْمكْث الطَّوِيل لِأَن الْمُؤمن لَا يبْقى فِي النَّار خَالِدا مُؤَبَّدًا. وَحكى ابْن التِّين عَن غَيره: أَن هَذَا الحَدِيث ورد فِي حق رجل بِعَيْنِه كَافِر، فَحَمله النَّاقِل على ظَاهره، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا بعيد. قلت: لَا بعد فِيهِ، فَمَا الْمَانِع من ذَلِك؟

5779 - حَدثنَا مُحَمَّدٌ أخبرنَا أحْمَدُ بنُ بَشِيرٍ أبُو بَكْرٍ أخْبرَنا هاشِمُ بنُ هاشِمٍ، قَالَ: أخبرنِي عامِرُ بنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أبي يَقُولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ.
لم أر أحدا من الشُّرَّاح ذكر وَجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، وَلَا سِيمَا الشَّارِح الَّذِي يَدعِي أَن فِي هَذَا الْفَنّ يُرجع إِلَيْهِ، وَظهر لي فِيهِ شَيْء من الْأَنْوَار الإلهية، وَإِن كَانَ فِيهِ تعسف، وَهُوَ أَن التَّرْجَمَة إِنَّمَا وضعت للنَّهْي عَن اسْتِعْمَال السم مُطلقًا. فَفِي الحَدِيث مَا يمْنَع ذَلِك من الأَصْل فَبين ذكرهمَا متعاقبين وَجه لَا يخفى.
قَوْله: (حَدثنِي مُحَمَّد) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين مُجَردا عَن نسبته، وَوَقع لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي: مُحَمَّد بن سَلام، وَأحمد بن بشير بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة أَبُو بكر مولى امْرَأَة عَمْرو بن حُرَيْث الْكُوفِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَقَالَ ابْن معِين: لَا بَأْس بِهِ، هَكَذَا رَوَاهُ عَبَّاس الدوري عَنهُ، وَقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ، عَن ابْن معِين: مَتْرُوك، ورد عَلَيْهِ الْخَطِيب، وَقَالَ: الْتبس على عُثْمَان بآخر، يُقَال لَهُ: أَحْمد بن بشير، لَكِن كنيته أَبُو جَعْفَر وَهُوَ بغدادي من طبقَة صَاحب التَّرْجَمَة، فلأجل ذَلِك قيد البُخَارِيّ أَحْمد بن بشير بِذكر كنيته أَبُو بكر دفعا للالتباس، مَاتَ هُوَ بعد وَكِيع بِخَمْسَة أَيَّام، وَمَات وَكِيع سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة.
والْحَدِيث قد مر عَن قريب فِي: بَاب الدَّوَاء بالعجوة.

57 - (بابُ ألْبانِ الأُُتُنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم ألبان الأتن، وَبَيَان الحكم فِي الحَدِيث. والأتن بِضَم الْهمزَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: جمع أتان، وَهِي الحمارة.

5780 - حدّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبي إدْرِيسَ الخَوْلاَنِيِّ عنْ أبي ثَعْلبَةَ الخُشَنِيِّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السَّبُع
قَالَ الزُّهْرِيُّ: ولَم أسْمَعْهُ حتَّى أتَيْتُ الشأْمَ. (انْظُر الحَدِيث: 5530 وطرقه) .

5781 - وزَادَ اللَّيْثُ، قَالَ: حدّثني يُونُس عنِ ابنِ شِهاب قَالَ: وسألْتُهُ: هَلْ نَتَوَضَّأُ أوْ نَشْرَبُ ألْبانَ الأُُتُنِ أوْ مَرَارَةَ السَّبُعُ أوْ أبْوَالَ الإبِلِ؟ قَالَ: قدْ كانَ المُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِها فَلاَ يَرَوْنَ بِذَلِكَ بأْساً، فأمَّا ألْبانُ الأُُتُنِ فَقَدْ بَلغَنا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ لُحومِها ولَمْ يَبْلُغْنا عنْ ألْبانِها أمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وأمَّا مَرارَةُ السَّبُعِ قَالَ ابنُ شِهابٍ: أَخْبرنِي أبُو إدْرِيسَ الخَوْلانِيُّ أنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهى عنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السَّبُع. (انْظُر الحَدِيث: 5530 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تخفى. وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ المسندي، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَأَبُو إِدْرِيس هُوَ عَائِذ الله بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة الْخَولَانِيّ، وَأَبُو ثَعْلَبَة بالثاء الْمُثَلَّثَة فِي اسْمه اخْتِلَاف كثير، وَالْأَكْثَر على أَنه جرهم بِالْجِيم وَالرَّاء.
والْحَدِيث مضى فِي الذَّبَائِح فِي: بَاب أكل كل ذِي نَاب من السبَاع.
قَوْله: (من السَّبع) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي بِلَفْظ الْإِفْرَاد، وَالْمرَاد الْجِنْس، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من السبَاع بِالْجمعِ. قَوْله: (وَلم أسمعهُ) أَي: الحَدِيث الْمَذْكُور.

(21/292)


قَوْله: (وَزَاد اللَّيْث) أَي: زَاد فِيهِ اللَّيْث بن سعد عَن يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ، وَهَذِه الزِّيَادَة أوردهَا أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق أبي ضَمرَة أنس بن عِيَاض عَن يُونُس بن يزِيد. قَوْله: (قَالَ: وَسَأَلته) أَي: قَالَ ابْن شهَاب: وَسَأَلت أَبَا إِدْرِيس. قَوْله: (هَل نَتَوَضَّأ أَو نشرب؟) فِيهِ نوع من تنَازع الْفِعْلَيْنِ. قَوْله: (بهَا) أَي: بأبوال الْإِبِل. قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي) ويروى: حَدثنِي، وَهُوَ الْأَصَح. وَقَالَ الْكرْمَانِي. فَإِن قلت: عُلم من الْجَواب جَوَاز التَّدَاوِي بِلَبن الْإِبِل، فَمَا الْمَفْهُوم من جَوَاب الآخرين؟ قلت: حُرْمَة لبن الأتان من جِهَة حُرْمَة لَحْمه لِأَن اللَّبن متولد من اللَّحْم، وَحُرْمَة مرَارَة السَّبع، إِذْ لفظ الحَدِيث عَام فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ، وَيحْتَمل أَن يكون غَرَضه أَنه لَيْسَ لنا نَص فيهمَا وَلَا يعرف حكمهَا.
وَقَالَ ابْن التِّين: اخْتلف فِي ألبان الأتن على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: على الْخلاف فِي لحومها. هَل هِيَ مُحرمَة أَو مَكْرُوهَة؟ وَالثَّانِي: بعد تَسْلِيم التَّحْرِيم هَل لبنهن حَلَال قِيَاسا على لبن الْآدَمِيَّة ومرارة السَّبع على الِاخْتِلَاف أَيْضا فِي لحومها؟ هَل هِيَ مُحرمَة أَو مَكْرُوهَة؟

58 - (بابٌ إذَا وقَع الذُّبابُ فِي الإِناءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي مَا إِذا وَقع الذُّبَاب فِي الْإِنَاء كَيفَ يكون حكمه، والذباب بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ أَبُو هِلَال العسكري: الذُّبَاب وَاحِد وَالْجمع ذبان كغربان يَعْنِي: بِكَسْر الذَّال، والعامة تَقول: ذُبَاب، للْجمع والواحدة: ذُبَابَة. كقردانة وَهُوَ خطأ، وَكَذَا نقل عَن أبي حَاتِم السّخْتِيَانِيّ: أَنه خطا، وَنقل ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) عَن أبي عُبَيْدَة عَن خلف الْأَحْمَر تَجْوِيز مَا زعم العسكري أَنه خطأ، وَحكى سِيبَوَيْهٍ فِي الْجمع ذب بِضَم أَوله وَالتَّشْدِيد، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الذُّبَاب مَعْرُوف، الْوَاحِدَة ذُبَابَة، وَلَا تقل: ذُبَابَة وَجمع الْقلَّة أذبة وَالْكثير ذُبَاب مثل غراب وأغربة وغربان، وَأَرْض مذبة ذَات ذُبَاب، وَقيل: سمي ذباباً لِكَثْرَة حركته واضطرابه. وَقد أخرج أَبُو يعلى بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: عمر الذُّبَاب أَرْبَعُونَ لَيْلَة، والذباب كُله فِي النَّار إلاَّ النَّحْل، وَقَالَ الجاحظ: كَونه فِي النَّار لَيْسَ تعذيباً لَهُ بل ليعذب أهل النَّار بِهِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: إِنَّه لَيْسَ شَيْء من الطُّيُور يلغ إلاَّ الذُّبَاب. وَقَالَ أفلاطون: الذُّبَاب أحرص الْأَشْيَاء حَتَّى إِنَّه يلقِي نَفسه فِي كل شَيْء وَلَو كَانَ فِيهِ هَلَاكه، ويتولد من العفونة، وَلَا جفن للذبابة لصِغَر حدقتها، والجفن يصقل الحدقة فالذبابة تصقل بِيَدَيْهَا فَلَا تزَال تمسح عيينها وَهُوَ من أَكثر الطُّيُور سفاداً، وَرُبمَا بَقِي عَامَّة الْيَوْم على الْأُنْثَى، وَأدنى الْحِكْمَة فِي خلقه: أَذَى الْجَبَابِرَة، وَقيل: لَوْلَا هِيَ لجافت الدُّنْيَا.

5782 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَني تَميمٍ عنْ عُبَيْدِ بنُ حُنَيْنٍ مَوْلَى بَني زُرَيْقٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إذَا وقَعَ الذُّبابُ فِي إناءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كلَّهُ ثُمَّ ليَطْرَحْهُ، فإنَّ فِي إحْدَى جَناحَيْهِ شِفاءً وَفِي الآخَرِ دَاء. (انْظُر الحَدِيث: 3320) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي صدر الحَدِيث. والْحَدِيث قد مر فِي بَدْء الْخلق فِي: بَاب إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم إِلَى آخِره. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن خَالِد بن مخلد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن عتبَة بن مُسلم إِلَى آخِره، وَلَفظه: إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم، وَلَفظ الْإِنَاء أشمل، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (كُله) تَأْكِيد رفع توهم الْمجَاز من الِاكْتِفَاء بغمس بعضه. قَوْله: (فَإِن فِي إِحْدَى جناحيه) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: فَإِن فِي أحد، والجناح يذكر وَيُؤَنث، وَقيل: أنث بِاعْتِبَار الْيَد وَحَقِيقَته للطائر، وَيُقَال لغيره على سَبِيل الْمجَاز كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {واخفض لَهما جنَاح الذل} (الْإِسْرَاء: 24) وَلم يَقع تعْيين الْجنَاح الَّذِي فِيهِ الشِّفَاء، وَذكر عَن بعض الْعلمَاء أَنه تَأمله فَوَجَدَهُ يَتَّقِي بجناحه الْأَيْسَر، فَعرف أَن الْأَيْمن هُوَ الَّذِي فِيهِ الشِّفَاء. قَوْله (دَاء) المُرَاد بِهِ السم الَّذِي فِيهِ، ويوضحه حَدِيث أبي سعيد، فَإِن فِيهِ أَنه يقدم السم وَيُؤَخر الشِّفَاء وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّخْرِيج الَّذِي تكلفه بعض الشُّرَّاح، فَقَالَ: إِن فِي اللَّفْظ مجَازًا، وَهُوَ كَون الدَّاء فِي أحد الجناحين فَهُوَ إِمَّا من مجَاز الْحَذف، وَالتَّقْدِير: فَإِن فِي أحد جناحيه سَبَب دَاء، وَإِمَّا مُبَالغَة بِأَن يَجْعَل كل الدَّاء فِي أحد جناحيه لما كَانَ سَببا لَهُ. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا مِمَّا يُنكره من لم يشْرَح الله قلبه

(21/293)


بِنور الْمعرفَة، وَلم يتعجب من النحلة جمع الله فِيهَا الشِّفَاء والسم مَعًا، فتعسل من أَعْلَاهَا وَتَسِم من أَسْفَلهَا بحمتها، والحية سمها قَاتل ولحمها مِمَّا يستشفى بِهِ من الترياق الْأَكْبَر من سمها، فريقها دَاء ولحمها دَوَاء، وَلَا حَاجَة لنا مَعَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّادِق الصدوق إِلَى النَّظَائِر، وأقوال أهل الطِّبّ الَّذين مَا وصلوا إِلَى علمهمْ إلاَّ بالتجربة، والتجربة خطر، وَالله على كل شَيْء قدير، وَإِلَيْهِ التَّوَكُّل والمصير.