عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 18 - (كتاب الرَّقاق)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان الرقَاق، وَهُوَ جمع رَقِيق من
الرقة، قَالَ ابْن سَيّده: الرقة الرَّحْمَة، ورققت لَهُ
أرق، ورق وَجهه اسْتَحى، وَيُقَال: الرقة ضد الغلظة،
يُقَال: رق يرق رقا فَهُوَ رَقِيق ورقاق، وَفِي
(التَّوْضِيح) : كتاب الرقَاق، كَذَا فِي الْأُصُول،
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : عبر جمَاعَة من الْعلمَاء
فِي كتبهمْ الرَّقَائِق، وَكَذَا، فِي نُسْخَة مُعْتَمدَة
من رِوَايَة النَّسَفِيّ عَن البُخَارِيّ، وَهُوَ جمع
رَقِيقه وَالْمعْنَى وَاحِد، وَفِي بعض النّسخ: مَا جَاءَ
فِي الرقَاق، وَسميت أَحَادِيث الْبَاب بذلك لِأَن فِي كل
مِنْهَا مَا يحدث فِي الْقلب رقّه.
1 - (بابُ مَا جاءَ فِي الصِّحَّةِ والفَراغِ وأنْ: لَا
عَيشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ. . الخ، كَذَا فِي
رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ، وَفِي رِوَايَته عَن
الْمُسْتَمْلِي والكشميهني سقط لفظ: الصِّحَّة والفراغ،
وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي رِوَايَة
كَرِيمَة عَن الْكشميهني: مَا جَاءَ فِي الرقَاق، وَأَن
لَا عَيْش إلاَّ عَيْش الْآخِرَة. وَفِي (شرح
(23/30)
ابْن بطال) : بَاب لَا عَيْش إِلَّا عَيْش
الْآخِرَة، كَرِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي،
وَهَذِه التَّرْجَمَة مَذْكُورَة فِي حديثين من أَحَادِيث
الْبَاب على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2146 - حدّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ أخبرنَا عَبْدُ
الله بنُ سَعِيدٍ هُوَ ابنُ أبي هِنْدٍ عنْ أبِيهِ عنِ
ابنِ عبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نِعْمَتَان مَغْبُونٌ فِيهما
كَثيرٌ مِنَ النَّاس: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ) .
مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والمكي كَذَا
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِالْألف وَاللَّام وَهُوَ اسْم
بِلَفْظ النِّسْبَة وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ
الْكِبَار، وَقد روى أَحْمد هَذَا الحَدِيث عَنهُ
بِعَيْنِه، وَعبد الله بن سعيد من صغَار التَّابِعين
لِأَنَّهُ لَقِي بعض صغَار الصَّحَابَة وَهُوَ أَبُو
أُمَامَة بن سهل وَهُوَ يروي عَن أَبِيه سعيد بن أبي هِنْد
الْفَزارِيّ مولى سَمُرَة بن جُنْدُب، وأوضح هَذَا يحيى
الْقطَّان فِي رِوَايَته حَيْثُ قَالَ: عَن عبد الله بن
سعيد حَدثنِي أبي أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ. وَالضَّمِير
فِي قَوْله: (هُوَ ابْن أبي هِنْد) يرجع إِلَى سعيد لَا
لعبد الله وَهُوَ من تَفْسِير البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن صَالح بن
عبد الله وسُويد بن نصر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرقَاق
عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الزّهْد عَن عَبَّاس بن عبد الْعَظِيم، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَرَوَاهُ غير وَاحِد عَن عبد الله بن سعيد
ورفعوه. وَوَقفه بَعضهم.
قَوْله: (نعمتان) تَثْنِيَة نعْمَة وَهِي الْحَالة
الْحَسَنَة وَبِنَاء النِّعْمَة الَّتِي يكون عَلَيْهَا
الْإِنْسَان كالجلسة، وَقَالَ الإِمَام فَخر الدّين:
النِّعْمَة عبارَة عَن الْمَنْفَعَة المفعولة على جِهَة
الْإِحْسَان إِلَى الْغَيْر. قَوْله: (مغبون) إِمَّا
مُشْتَقّ من الْغبن بِسُكُون الْبَاء وَهُوَ النَّقْص فِي
البيع، وَإِمَّا من الْغبن بِفَتْح الْبَاء وَهُوَ
النَّقْص فِي الرَّأْي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَانِ
الْأَمْرَانِ إِذا لم يستعملا فِيمَا يَنْبَغِي فقد غبن
صَاحبهمَا فيهمَا، أَي: باعهما ببخس لَا تحمد عاقبته، أَو:
لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِك رَأْي أَلْبَتَّة فَإِن الْإِنْسَان
إِذْ لم يعْمل الطَّاعَة فِي زمن صِحَّته فَفِي زمن
الْمَرَض بِالطَّرِيقِ الأولى، وعَلى ذَلِك حكم الْفَرَاغ
أَيْضا فَيبقى بِلَا عمل خاسراً مغبوناً، هَذَا وَقد يكون
الْإِنْسَان صَحِيحا وَلَا يكون متفرغاً لِلْعِبَادَةِ
لاشتغاله بِأَسْبَاب المعاش وَبِالْعَكْسِ فَإِذا اجْتمعَا
فِي العَبْد وَقصر فِي نيل الْفَضَائِل فَذَلِك هُوَ
الْغبن لَهُ كل الْغبن، وَكَيف لَا وَالدُّنْيَا هِيَ سوق
الأرباح وتجارات الْآخِرَة؟ قَوْله: (كثير) مَرْفُوع
بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره هُوَ قَوْله: (مغبون) مقدما
وَالْجُمْلَة خبر قَوْله: (نعمتان) قَوْله: (الصِّحَّة)
أَي إِحْدَى النعمتين: الصِّحَّة فِي الْأَبدَان. قَوْله:
(والفراغ) أَي: الْأُخْرَى مِنْهُمَا الْفَرَاغ، وَهُوَ
عدم مَا يشْغلهُ من الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة.
قَالَ عَباسٌ العَنْبَرِيُّ: حَدثنَا صَفْوَانُ بنُ عِيسَى
عنْ عبْدِ الله بنِ سَعِيدِ بنِ أبي هِنْدٍ عنْ أبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... مِثْلَهُ.
هَذَا تَعْلِيق أوردهُ البُخَارِيّ عَن عَبَّاس بتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الْعَظِيم الْعَنْبَري أحد
مَشَايِخ البُخَارِيّ عَن صَفْوَان بن عِيسَى الزُّهْرِيّ
عَن عبد الله بن سعيد الْمَذْكُور فِي السَّنَد السَّابِق
عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن عَبَّاس
الْعَنْبَري الْمَذْكُور.
4146 - حدّثني أحْمَدُ بنُ المِقْدَامِ حَدثنَا الفُضَيْلُ
بنُ سُلَيْمانَ حَدثنَا أبُو حازِمِ حَدثنَا سَهْلُ بنُ
سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رسولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الخَنْدَقِ، وهْوَ يَحْفِر ونَحْن
نَنْقُلُ التُّرَابَ،
(23/31)
ويَمُرُّ بِنا فَقَالَ اللَّهُمَّ:
(لاَ عَيْشَ إلاّ عِيْشُ الآخِرَهْ ... فاغْفِرْ
لِلأنْصارِ والمُهاجِرَهْ)
(انْظُر الحَدِيث 7973 وطرفه) .
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأحمد بن
الْمِقْدَام بِكَسْر الْمِيم الْعجلِيّ والفضيل بن
سُلَيْمَان النميري بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم مصغر
النمر، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي
سَلمَة بن دِينَار.
والْحَدِيث مضى فِي فضل الْأَنْصَار. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن
بزيغ.
قَوْله: (وَهُوَ يحْفر) أَي: رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يحْفر الخَنْدَق. فَإِن قلت: تقدم فِي فضل
الْأَنْصَار: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وهم يحفرون؟ .
قلت: الْجمع بَينهمَا بِأَن يُقَال: كَانَ مِنْهُم من
يحْفر مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمِنْهُم
من كَانَ ينْقل التُّرَاب.
تابَعَهُ سَهْلُ بنُ سَعْدٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِثْلَهُ
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا يحْتَاج إِلَى نظر،
وَقَالَ غَيره: هَذَا لَيْسَ بموجود فِي نسخ البُخَارِيّ
فَيَنْبَغِي إِسْقَاطه.
2 - (بابُ مَثَلِ الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب مترجم بقوله: مثل الدُّنْيَا فِي
الْآخِرَة. قَوْله: (مثل الدُّنْيَا) كَلَام إضافي
مُبْتَدأ، وَقَوله: فِي الْآخِرَة مُتَعَلق بِمَحْذُوف
تَقْدِيره: مثل الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَة،
وَكلمَة: فِي تأتى بِمَعْنى: إِلَى، كَافِي قَوْله
تَعَالَى: { (14) فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم}
(إِبْرَاهِيم: 9) أَي: إِلَى أَفْوَاههم. وَالْخَبَر
مَحْذُوف تَقْدِيره: كَمثل لَا شَيْء، أَلا ترى أَن قدر
سَوط فِي الْجنَّة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا! على
مَا يَجِيء فِي حَدِيث الْبَاب؟ وَقَالَ بَعضهم: هَذِه
التَّرْجَمَة بعض لفظ حَدِيث أخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم عَن
الْمُسْتَوْرد بن شَدَّاد رَفعه: (وَالله مَا الدُّنْيَا
فِي الْآخِرَة إلاَّ مثل مَا يَجْعَل أحدكُم إصبعه فِي
اليم فَلْينْظر بِمَ يرجع) .
قلت: لَا وَجه أصلا فِي الَّذِي ذكره، وَلَا خطر ببال
البُخَارِيّ هَذَا، وَإِنَّمَا وضع هَذِه التَّرْجَمَة
ثمَّ ذكر حَدِيث سهل لِأَنَّهُ يطابقها فِي الْمَعْنى،
وَلَا يخفى ذَلِك إلاَّ على الْقَاصِر فِي الْفَهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {اعْلَمُو اْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ
الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلْادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً
وَفِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ
مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الْحَدِيد: 02) [/ ح.
وَقَوله بِالرَّفْع عطف على قَوْله: مثل الدُّنْيَا،
وَهَذَا هَكَذَا بِالسوقِ إِلَى قَوْله: {مَتَاع الْغرُور}
فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {إِنَّمَا
الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو} إِلَى قَوْله: {مَتَاع
الْغرُور} وَأول الْآيَة: {اعلموا أَنما الْحَيَاة
الدُّنْيَا} وَالْمرَاد بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا هُنَا مَا
يخْتَص بدار الدُّنْيَا من تصرف، وَأما مَا كَانَ فِيهَا
من الطَّاعَة وَمَا لَا بدل مِنْهُ مِمَّا يُقيم الأود
ويعين على الطَّاعَة فَلَيْسَ مرَادا هُنَا. قَوْله:
{وزينة} وَهِي مَا يتزين بِهِ مِمَّا هُوَ خَارج عَن ذَات
الشَّيْء مِمَّا يحسن بِهِ الشَّيْء. قَوْله: {وتفاخر}
هَذَا غَالِبا يكون بِالنّسَبِ كعادة الْعَرَب. قَوْله:
{وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} حَيْثُ
يَقُولُونَ: نَحن أَكثر مَالا وَولدا من بني فلَان،
فيتفاخرون بذلك. قَوْله: {كَمثل غيث} أَي: زرع {أعجب
الْكفَّار} أَي: الزراع {نَبَاته} وهم الَّذين يكفرون
الْبذر أَي يغطونه، وَقيل: هم من كفر لِأَن الدُّنْيَا
تعجبهم. قَوْله: {ثمَّ يهيج} أَي: يجِف وَيبقى حطاماً
يتحطم، وَهَذَا مثل الدُّنْيَا وزوالها. قَوْله: {عَذَاب
شَدِيد} أَي: الْأَعْدَاء الله تَعَالَى. قَوْله: {ومغفرة}
أَي: لأوليائه. قَوْله: {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا
إِلَّا مَتَاع الْغرُور} تَأْكِيد لما سبق أَي: تغر من ركن
إِلَيْهَا وَأما التقى فَهِيَ لَهُ بَلَاغ إِلَى
الْآخِرَة.
5146 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَة حَدثنَا عبْدُ
العَزِيزِ بنُ أبي حازِمِ عنْ أبيهِ عنْ سَهْلِ قَالَ:
سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ:
(مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا
وَمَا فِيها، ولَغَدْوَةٌ فِي سَبيلِ الله أوْ رَوْحَةٌ
خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيها.
(23/32)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى
الحَدِيث من حَيْثُ إِن قدر مَوضِع سَوط إِذا كَانَ خيرا
من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا تكون الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْآخِرَة كلا شَيْء كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَعبد الْعَزِيز يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد
بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى.
قَوْله: (ولغدوة) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (فِي
سَبِيل الله) أَعم من الْجِهَاد. قَوْله: (أَو رَوْحَة) ،
كلمة: أَو: للتنويع لَا لشك الرَّاوِي.
3 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كُنْ
فِي الدُّنْيا كأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عابِرُ سَبِيلٍ))
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (كن فِي الدُّنْيَا)
إِلَى آخِره، وَهَذِه تَرْجَمَة بِبَعْض حَدِيث الْبَاب.
قيل: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن حَدِيث الْبَاب مَرْفُوع،
وَأَن من رَوَاهُ مَوْقُوفا قصر فِيهِ.
4 - (بابٌ فِي الأمَلِ وطُولِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْهَاء الأمل عَن الْعَمَل،
والأمل مَذْمُوم لجَمِيع النَّاس إلاَّ الْعلمَاء فلولا
أملهم وَطوله لما صنفوا وَلما ألفوا، وَقد نبه عَلَيْهِ
ابْن الْجَوْزِيّ بقوله:
(وآمال الرِّجَال لَهُم فضوح ... سوى أمل المُصَنّف ذِي
الْعُلُوم)
وَالْفرق بَين الأمل وَالتَّمَنِّي أَن الأمل مَا يقوم
بِسَبَب وَالتَّمَنِّي بِخِلَافِهِ، وَقَالَ بعض
الْحُكَمَاء: إِن الْإِنْسَان لَا يَنْفَكّ عَن الأمل
فَإِن فَاتَهُ الأمل عول على التَّمَنِّي وَقيل: كَثْرَة
التَّمَنِّي تخلق الْعقل وتفسد الدّين وتطرد القناعة،
وَقَالَ الشَّاعِر:
(23/33)
(الله أصدق والآمال كَاذِبَة ... وَجل
هَذَا المنى فِي الصَّدْر وسواس)
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: { (3) فَمن زحزح عَن النَّار
وادخل الْجنَّة. . مَتَاع الْغرُور} (آل عمرَان: 581) .
إِلَى قَوْله: {ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل
فَسَوف يعلمُونَ} (الْحجر: 3) .
هَاتَانِ الْآيَتَانِ: الأولى: مسوقة بِتَمَامِهَا فِي
رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ هَكَذَا:
{فَمن زحزح عَن النَّار وادخل الْجنَّة فقد فَازَ}
الْآيَة. وَالثَّانيَِة: فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا
مسوقة. إِلَى آخرهَا. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر هَكَذَا
{ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا} ... الْآيَة وَبَين
الْآيَتَيْنِ سقط لفظ: قَوْله، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه مُنَاسبَة الْآيَة الأولى
بالترجمة صدرها وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {كل نفس ذائقة
الْمَوْت} أَو عجزها وَهُوَ {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا
الامتاع الْغرُور} وَهَذَا يبين أَن مُتَعَلق الأمل لَيْسَ
بِشَيْء قَوْله: {فَمن زحزح} أَي: أبعد قَوْله: {فَازَ}
أَي: نجا. قَوْله: {ذرهم} الْأَمر فِيهِ للتهديد أَي: ذَر
الْمُشْركين يَا مُحَمَّد يَأْكُلُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا
ويتمتعوا من لذاتها إِلَى أَجلهم الَّذِي أجل لَهُم،
وَفِيه زجر عَن الانهماك فِي ملاذ الدُّنْيَا. قَوْله:
{ويلههم الأمل} أَي: يشغلهم عَن عمل الْآخِرَة.
وَقَالَ عَلِيٌّ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيا مُدْبِرَةً
وارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَة ولِكُلِّ واحِدَةٍ
مِنْهُما بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أبْناءِ الآخِرَةِ وَلَا
تَكُونُوا مِنْ أبْناءِ الدُّنْيا، فإنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ
وَلَا حِسابَ، وغَداً حِسابٌ وَلَا عَمَلَ.
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَهَكَذَا وَقع فِي بعض
النّسخ، ومطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من أَوله لِأَن
الدُّنْيَا لما كَانَت مُدبرَة فالأمل فِيهَا مَذْمُوم،
وَمن كَلَام عَليّ هَذَا أَخذ بعض الْحُكَمَاء قَوْله:
الدُّنْيَا مُدبرَة وَالْآخِرَة مقبلة فَعجب لمن يقبل على
الْمُدبرَة وَيُدبر عَن الْمُقبلَة. وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : روينَا فِي كتاب أبي اللَّيْث
السَّمرقَنْدِي، رَحمَه الله قَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (صَلَاح أول هَذِه الْأمة بالزهد وَالْيَقِين
وَيهْلك آخرهَا بالبخل والأمل) قلت: روى هَذَا الحَدِيث
عبد الله بن عَمْرو رَفعه، أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن
أبي الدُّنْيَا، وَأثر عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أخرجه ابْن الْمُبَارك فِي (رقائقه) وَرَوَاهُ نعيم بن
حَمَّاد عَن سُلَيْمَان ابْن خَلاد: حَدثنَا سُفْيَان عَن
زبيد اليامي عَن مهَاجر الطَّبَرِيّ عَنهُ. قَوْله: (فَإِن
الْيَوْم عمل) ، قيل الْيَوْم لَيْسَ عملا بل فِيهِ
الْعَمَل وَلَا يُمكن تَقْدِير: فِي وإلاَّ وَجب نصب عمل.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ جعله نفس الْعَمَل مُبَالغَة
كَقَوْلِهِم: أَبُو حنيفَة فقه ونهاره صَائِم. قَوْله:
(وَلَا حِسَاب) بِالْفَتْح أَي: لَا حِسَاب فِيهِ. وَيجوز
بِالرَّفْع أَي: لَيْسَ فِي الْيَوْم حِسَاب، وَمثله شَاذ
عِنْد النُّحَاة، وَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم.
7146 - حدّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخبرنَا يَحْيَى عنْ
سُفْيانَ قَالَ: حدّثني أبي عنْ مُنذرٍ عنْ رَبِيعِ بنِ
خُثَيْمٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: خَط
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطا مُرَبَّعاً، وخَطَّ
خَطًّا فِي الوَسَطِ خارِجاً منْهُ، وخَطَّ خُطُطاً
صِغاراً إِلَى هاذا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جانبِهِ
الّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: (هاذَا الإنْسانُ وهاذَا
أجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَو: قَدْ أحاطَ بِهِ: وهاذَا الذِي
هُوَ خارِجٌ أمَلُهُ وهاذِهِ الخَطُطُ الصِّغَارُ
الأعْرَاضُ، فإنْ أخْطأهُ هاذَا نَهَشَهُ هاذَا وإنْ
أخْطأهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مِثَال أمل
الْإِنْسَان وأجله والأعراض الَّتِي تعرض عَلَيْهِ وَمَوته
عِنْد وَاحِد مِنْهَا، فَإِن سلم مِنْهَا فيأتيه الْمَوْت
عِنْد انْقِضَاء أَجله.
ويحيي هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ يروي عَن أَبِيه سعيد بن مَسْرُوق، وَسَعِيد بن
مَسْرُوق، وَسَعِيد يروي عَن مُنْذر على صِيغَة اسْم
الْفَاعِل من الْإِنْذَار ابْن يعلى على وزن يرضى بِفَتْح
الْيَاء الثَّوْريّ الْكُوفِي يروي عَن ربيع بِفَتْح
الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خثيم بِضَم
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالميم الثَّوْريّ
أَيْضا.
وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة ثوريون كوفيون، وَعبد الله هُوَ
ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن ابْن
بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرقَاق عَن عَمْرو بن
عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن
(23/34)
أبي بشر بكر بن خلف وَأبي بكر بن خَلاد
خمستهم عَن يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان الثَّوْريّ.
قَوْله: (خطّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخط)
الرَّسْم والشكل. قَوْله: (مربعًا) هُوَ المستوي الزوايا
قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من الْخط المربع. قَوْله: (وَخط
خططاً) بِضَم الْخَاء وَكسرهَا جمع الخطة. قَوْله:
(وَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(هَذَا الْإِنْسَان) مُبْتَدأ وَخبر أَي: هَذَا الْخط هُوَ
الْإِنْسَان هَذَا على سَبِيل التَّمْثِيل وَهَذِه صفته.
أجل
::
: إِنْسَان 111111:
:: أمل
: 111111:
::
وَقيل هَكَذَا:
أجل
::
: إِنْسَان 111111: 111111
:: أمل
: 111111: 111111
::
: وَقَالَ الْكرْمَانِي: الخطوط ثَلَاثَة لِأَن الصغار
كلهَا فِي حكم وَاحِد والمشار إِلَيْهِ أَرْبَعَة فَكيف
ذَلِك؟ .
قلت: الدَّاخِل لَهُ اعتباران إِذْ نصفه دَاخل وَنصفه مثلا
خَارج، فالمقدار الدَّاخِل مِنْهُ هُوَ الْإِنْسَان فرضا
وَالْخَارِج أمله. قَوْله: (وَهَذِه الخطط الصغار
الْأَعْرَاض) أَي: الْآفَات الْعَارِضَة لَهُ، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: وَهَذِه الخطوط. وَهِي
الشطبات على الْخط الْخَارِج من وسط المربع من فَوْقه وَمن
أَسْفَله وَهِي الْأَعْرَاض أَي: الْآفَات فَإِن أخطأه
هَذَا أَي فَإِن تجَاوز عَنهُ هَذَا الْعرض نهشه هَذَا أَي
الْعرض الآخر، ونهشه بالنُّون والشين الْمُعْجَمَة
وَمَعْنَاهُ أَصَابَهُ. وَقَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ
بِالْمُعْجَمَةِ والمهملة، وَمَعْنَاهُ: أَخذ الشَّيْء
بِمقدم الْأَسْنَان والحية تنهس إِذا عضت. قَوْله: (وَإِن
أَخطَأ هَذَا) أَي: وَإِن أَخطَأ الْإِنْسَان هَذَا الْعرض
نهشه هَذَا أَي: عرض آخر وَهُوَ الْأَجَل، يَعْنِي: إِن
يمت بِالْمَوْتِ الاخترامي لَا بُد أَن يَمُوت بِالْمَوْتِ
الطبيعي، وَحَاصِله: أَن ابْن آدم يتعاطى الأمل ويختلجه
الْأَجَل دون الأمل.
8146 - حدّثنا مُسْلمٌ حَدثنَا هَمَّامٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ
عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ: خَطَّ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُطُوطًا فَقَالَ: (هاذَا
الأمَلُ وهاذَا أجَلُهُ فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ إذْ
جاءَهُ الخَطُّ الأقْرَبُ) .
هَذَا وَجه آخر فِي مِثَال الْأَمر وَالْأَجَل أخرجه مُسلم
بن إِبْرَاهِيم عَن همام بن يحيى عَن إِسْحَاق بن عبد الله
بن أبي طَلْحَة واسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي
أنس بن مَالك يكنى أَبَا يحيى يروي عَن أنس بن مَالك رَضِي
الله عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الرقَاق عَن عبيد الله
بن سعيد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (خطّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُطُوطًا)
وَهَذِه صفتهَا
أجل
::
: إِنْسَان: 111111
:: أمل
:: 111111
::
وَهَذِه الخطوط
الْآفَات الَّتِي تعرض فَبَيْنَمَا الْإِنْسَان كَذَلِك
فِي هَذِه الْآفَات الَّتِي تعرض فَبَيْنَمَا الْإِنْسَان
كَذَلِك فِي هَذِه الْآفَات (إِذْ جَاءَهُ الْخط
الْأَقْرَب) وَهُوَ الْأَجَل، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
قَالَ: خُطُوطًا فِي مجملة، وَذكر اثْنَيْنِ فِي مفصله.
قلت: فِيهِ اخْتِصَار عَن مطول والخطوط الْأُخَر الْآفَات
والخط الْأَقْرَب يَعْنِي الْأَجَل إِذْ لَا شكّ أَن الْخط
الْمُحِيط هُوَ أقرب من الْخط الْخَارِج مِنْهُ.
5 - (بابٌ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذَرَ
الله إلَيْهِ فِي العُمُرِ لِقَوْلِهِ: { (35) أَو لم
نُعَمِّركُمْ. . مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم
النذير} (فاطر: 73) يَعْنِي: الشَّيْبَ.)
(23/35)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من بلغ
سِتِّينَ سنة من الْعُمر قَوْله: (فقد أعذر الله إِلَيْهِ)
أَي أَزَال الله عذره فَلَا يَنْبَغِي لَهُ حينئذٍ إِلَّا
الاسْتِغْفَار وَالطَّاعَة والإقبال على الْآخِرَة
بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يكون لَهُ على الله عد ذَلِك
حجَّة، فالهمزة فِي أعذر للسلب، وَحَاصِل الْمَعْنى:
أَقَامَ الله عذره فِي تَطْوِيل عمره وتمكينه من الطَّاعَة
مُدَّة مديدة، وَاحْتج فِي ذَلِك بقوله عز وَجل: {أَو لم
نُعَمِّركُمْ} ... الْآيَة. قَوْله: (يَعْنِي: الشيب) لم
يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده. قَوْله: {أَو لم
نُعَمِّركُمْ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هَذَا توبيخ من الله
تَعَالَى يَعْنِي فَيَقُول لَهُم وَهُوَ متناول لكل عمر
تمكن فِيهِ الْمُكَلف من إصْلَاح شَأْنه وَإِن قصر إلاَّ
أَن التوبيخ فِي المتطاول أعظم. انْتهى. وَاخْتلفُوا فِي
المُرَاد بالتعمير فِي الْآيَة على أَقْوَال فَعَن
مَسْرُوق: أَنه أَرْبَعُونَ سنة، وَعَن مُجَاهِد عَن ابْن
عَبَّاس: سِتّ وَأَرْبَعُونَ سنة، وَعَن ابْن عَبَّاس:
سَبْعُونَ سنة، وَعَن سهل بن سعد: سِتُّونَ سنة، وَعَن أبي
هُرَيْرَة: من عمر سِتِّينَ سنة أَو سبعين سنة، فقد أعذر
الله إِلَيْهِ فِي الْعُمر. قَوْله: {وَجَاءَكُم النذير}
اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَعَن زيد بن عَليّ: الْقُرْآن، وَعَن عِكْرِمَة
وسُفْيَان بن عُيَيْنَة ووكيع: الشيب، وَهُوَ الْأَصَح.
9146 - حدّثنا عَبْدُ السَّلام بنُ مُطَهَّرٍ حَدثنَا
عُمَرُ بن عَليّ عنْ مَعْنِ بنِ مُحَمَّدٍ الغِفارِيِّ عنْ
سَعِيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ
عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أعْذَرَ الله
إِلَى أمرْىءٍ أخَّرَ أجَلَهُ حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ
سَنَةً) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد السَّلَام بن مطهر
بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء وَتَشْديد الْهَاء
الْمَفْتُوحَة ابْن حسام أَبُو ظفر الْأَزْدِيّ
الْبَصْرِيّ مَاتَ فِي رَجَب سنة أَربع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعمر بن عَليّ بن
عَطاء بن مقدم الْمقدمِي أَبُو حَفْص الْبَصْرِيّ، ومعن
بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالنون ابْن
مُحَمَّد الْغِفَارِيّ بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَتَخْفِيف الْفَاء نِسْبَة إِلَى غفار بن مقبل قَبيلَة
مِنْهُم أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ، وَسَعِيد بن أبي سعيد
ذكْوَان المَقْبُري، نِسْبَة إِلَى مَقْبرَة
بِالْمَدِينَةِ كَانَ يسكن عِنْدهَا.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه
بِحَدِيث آخر مضى فِي كتاب الْإِيمَان.
قَوْله: (أعذر الله) من الْإِعْذَار وَهُوَ إِزَالَة
الْعذر. قَوْله: (أخر أَجله) أَي: أَطَالَ الله حَيَاته
حَتَّى بلغه سِتِّينَ سنة. قَالَ الْأَطِبَّاء:
الْأَسْنَان أَرْبَعَة: سنّ الطفولة وَسن الشَّبَاب وَسن
الكهولة وَسن الشيخوخة فَإِذا بلغ السِّتين وَهُوَ آخر
الْأَسْنَان. فقد ظهر فِيهِ ضعف الْقُوَّة وَتبين فِيهِ
النَّقْص والانحطاط وَجَاء نَذِير الْمَوْت فَهُوَ وَقت
الْإِنَابَة إِلَى الله عز وَجل.
تابَعَهُ أبُو حازِمٍ وابنُ عَجْلانَ عنِ المَقْبُرِيِّ
أَي: تَابع معن بن مُحَمَّد فِي رِوَايَته عَن سعيد بن أبي
سعيد المَقْبُري أَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة
وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار، وروى هَذِه الْمُتَابَعَة
النَّسَائِيّ عَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد
الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن أبي
هُرَيْرَة قَوْله: (وَابْن عجلَان) . أَي: وَتَابعه أَيْضا
مُحَمَّد بن عجلَان فِي رِوَايَته عَن المَقْبُري، وروى
هَذِه الْمُتَابَعَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن
مُحَمَّد بن عجلَان عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة.
0246 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدّثنا أبُو
صَفْوانَ عَبْدُ الله بنُ سَعِيدٍ حدّثنا يُونُسُ عنِ ابنِ
شِهابٍ قَالَ: أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (لَا يَزالُ قَلْبُ
الكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيا
وطُولِ الأمَلِ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قَالَ الْكرْمَانِي:
وَكَانَ الْأَنْسَب أَن يذكر هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب
الْمُتَقَدّم.
وعَلى ابْن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَيُونُس
هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي الطَّاهِر
بن السَّرْح وَغَيره. . وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرقَاق
عَن هَارُون بن سعيد.
قَوْله: (قلب الْكَبِير) أَي: الشَّيْخ. قَوْله: (فِي
اثْنَتَيْنِ) أَي: فِي خَصْلَتَيْنِ. قَوْله: (شَابًّا)
سَمَّاهُ شَابًّا لقُوَّة استحكامه فِي محبَّة المَال.
قَوْله: (وَطول الأمل) : المُرَاد بالأمل هُنَا طول
الْعُمر.
(23/36)
قَالَ لَيْثُ بنُ سَعْدٍ: حدّثني يُونُس
وابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شهابٍ قَالَ: أَخْبرنِي
سَعِيدٌ وأبُو سَلَمَة.
وَقَالَ لَيْث بن سعد بِدُونِ الْألف وَاللَّام حَدثنِي
يُونُس هُوَ ابْن يزِيد. قَوْله: (وَابْن وهب) ، هُوَ عبد
الله بن وهب وَهُوَ عطف على لَيْث، وَسَعِيد هُوَ ابْن
الْمسيب، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أما
رِوَايَة لَيْث فوصلها الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي
صَالح كَاتب اللَّيْث حَدثنَا اللَّيْث حَدثنِي يُونُس
هُوَ ابْن يزِيد عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي سعيد وَأَبُو
سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظِهِ إلاَّ أَنه قَالَ:
المَال، بدل: الدُّنْيَا، وَأما رِوَايَة ابْن وهب فوصلها
مُسلم عَن حَرْمَلَة عَنهُ بِلَفْظ: قلب الشَّيْخ شَاب على
حب اثْنَتَيْنِ: طول الْحَيَاة وَحب المَال.
1246 - حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْراهِيمَ حدّثنا هِشامٌ
حدّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَكْبَرُ ابنُ آدَم
ويَكْبرُ مَعَهُ اثْنانِ: حُبُّ المَالِ وطُولُ العُمْرِ)
. [/ نه
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يكبر ابْن آدم)
وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مُسلم،
غير مَنْسُوب، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي.
والحدبث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي غَسَّان
المسمعي وَأبي مُوسَى.
قَوْله: (يكبر) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: يطعن فِي
السن. قَوْله: (وَيكبر مَعَه) بِضَم الْبَاء أَي: يعظم،
وَلَو صحت الرِّوَايَة فِي الْكَلِمَة الثَّانِيَة
بِالْفَتْح فالتلفيق بَينه وَبَين الحَدِيث السَّابِق
الَّذِي ذكر فِيهِ الشَّبَاب أَن المُرَاد بالشباب
الزِّيَادَة فِي الْقُوَّة وبالكبر الزِّيَادَة فِي
الْعدَد، فَذَاك بِاعْتِبَار الكيف وَهَذَا بِاعْتِبَار
الْكمّ، قَالُوا: التَّخْصِيص بِهَذَيْنِ الْأَمريْنِ هُوَ
أَن أحب الْأَشْيَاء إِلَى ابْن آدم نَفسه، فَأحب بقاءها
وَهُوَ الْعُمر وَسبب بقاءها هُوَ المَال، فَإِذا أحس
بِقرب الرحيل قوي حبه لذَلِك.
(والكرى عِنْد الصَّباح بِطيب.)
رَواهُ شُعْبَةُ عنْ قَتَادَة
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور شُعْبَة بن حجاج عَن
قَتَادَة وَوَصله مُسلم من رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر
عَن شُعْبَة، وَلَفظه: سَمِعت قَتَادَة يحدث عَن أنس
بِنَحْوِهِ، قيل: فَائِدَة هَذَا التَّعْلِيق دفع توهم
الِانْقِطَاع فِيهِ لكَون قَتَادَة مدلساً، وَقد عنعنه.
لَكِن شُعْبَة: لَا يحدث عَن المدلسين إلاَّ بِمَا علم
أَنه دَاخل فِي سماعهم، فيستوي فِي ذَلِك التَّصْرِيح
والعنعنة، بِخِلَاف غَيره.
6 - (بابُ العَمَلِ الّذِي يُبْتَغِي بِهِ وجْهُ الله
تَعَالَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اعْتِدَاد الْعَمَل الَّذِي
يَبْتَغِي بِهِ، أَي: يطْلب بِهِ وَجه الله أَي: ذَات
الله، لَا للرياء والسمعة، أسقط ابْن بطال هَذِه
التَّرْجَمَة فأضاف حَدِيثهَا للَّذي قبله.
فِيهِ سَعْدٌ
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، وَهَذَا
سقط فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ والإسماعيلي وَغَيرهمَا،
وَحَدِيثه قد مضى فِي الْجَنَائِز مطولا فِي: بَاب رثاء
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سعد بن خَوْلَة.
2246 - حدّثنا مُعاذ بنُ أسَدٍ أخبرنَا عَبْدُ الله
أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي
مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ، وَزَعَمَ مَحْمُودٌ أنَّهُ
عقَلَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ:
وعَقَلَ مَجَّةً مَجَّها مِنْ دَلوٍ كانَتْ فِي دَرَاهِم.
قَالَ: سَمِعْتُ عتْبانَ بنَ مالِكٍ الأنْصارِيَّ ثُمَّ
أحَدَ بَنِي سالِمٍ قَالَ: غَدا عَلَيَّ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ: (لَنْ يُوافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ
القِيامَةِ يَقُولُ: لَا إلاهَ إِلَّا الله، يَبْتَغِي
بِهِ وجْهَ الله، إلاَّ حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارَ) .
[/ ح.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَبْتَغِي بِهِ وَجه
الله) .
ومعاذ بِضَم الْمِيم ابْن أَسد الْمروزِي. وَعبد الله هُوَ
ابْن الْمُبَارك الْمروزِي
(23/37)
وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة مطولا فِي: بَاب الْمَسَاجِد
فِي الْبيُوت فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن عفير
عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب، قَالَ: أَخْبرنِي
مَحْمُود بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَزعم) أَي: قَالَ قَوْله: إِنَّه عقل، إِنَّمَا
قَالَ: عقل لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا حِين دخل رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَارهم وَشرب مَاء وَمَج من
ذَلِك المَاء مجة على وَجهه.
قَوْله: (عتْبَان) بِكَسْر الْعين على الْأَصَح. قَوْله:
(ثمَّ أحد بني سَالم) بِالنّصب عطف على قَوْله:
(الْأنْصَارِيّ) وَقد تكلم الْكرْمَانِي هُنَا كلَاما لَا
حَاجَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يشوش بذلك على من لَيْسَ لَهُ
إتقان فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ أَنه قَالَ: ذكر فِي كتاب
الصَّلَاة أَن الزُّهْرِيّ هُوَ الَّذِي سَأَلَ الْحصين
وَسمع مِنْهُ، وَالْمَفْهُوم هُنَا هُوَ مَحْمُود.
قلت: توضيح هَذَا أَن الحَدِيث الَّذِي مضى فِي الصَّلَاة
مطول كَمَا ذكرنَا فِي آخِره، قَالَ ابْن شهَاب: وَهُوَ
الزُّهْرِيّ، ثمَّ سَأَلت الْحصين بن مُحَمَّد
الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ أحد بني سَالم وَهُوَ من سراتهم عَن
حَدِيث مَحْمُود بن الرّبيع فَصدقهُ بذلك، هَذَا
الْمِقْدَار إِن لم يقف عَلَيْهِ أحد لَا يظْهر لَهُ
سُؤَاله الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ فِي جَوَابه: إِن كَانَت
الرِّوَايَة بِالرَّفْع يَعْنِي: بِرَفْع قَوْله: ثمَّ أحد
بني سَالم فَهُوَ عطف على مَحْمُود أَي أَخْبرنِي مَحْمُود
ثمَّ أَخْبرنِي سَالم فَلَا إِشْكَال وَإِن كَانَ بِالنّصب
يَعْنِي قَوْله ثمَّ أَخْبرنِي سَالم فَالْمُرَاد: سَمِعت
عتْبَان الْأنْصَارِيّ ثمَّ السالمي، إِذْ عتْبَان كَانَ
سالمياً أَيْضا، أَو يُقَال: بِأَن السماع من الْحصين
كَانَ حَاصِلا لَهما، وَلَا مَحْذُور فِي ذَلِك لجَوَاز
سَماع الصَّحَابِيّ من التَّابِعِيّ، أَو المُرَاد من
الْأَحَد غير الْحصين انْتهى. قَوْله: (عدا على) بتَشْديد
الْيَاء. قَوْله: (لن يوافي) من الموافاة وَهِي
الْإِتْيَان يُقَال: وافيت الْقَوْم أَي أتيتهم. قَوْله:
(وَجه الله) أَي: ذَات الله عز وَجل.
والْحَدِيث من المتشابهات، وَيُقَال: لفظ الْوَجْه زَائِد،
أَو المُرَاد: وَجه الْحق وَالْإِخْلَاص لَا الرِّيَاء
وَنَحْوه. قَوْله: (إلاَّ حرمه الله على النَّار) وَفِي
الحَدِيث الْمُتَقَدّم فِي الصَّلَاة: فَإِن الله قد حرم
على النَّار من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَالَ ثمَّة: حرمه على النَّار،
وَهَهُنَا: حرم عَلَيْهِ النَّار، فَمَا الْفرق بَين
التركيبين؟ .
قلت: الأول حَقِيقَة بِاعْتِبَار أَن النَّار آكِلَة لما
يلقى فِيهَا، وَالتَّحْرِيم يُنَاسب الْفَاعِل، وَأما
المعنيان فهما متلازمان.
قلت: تبعه على هَذَا بَعضهم فَنقل مَا قَالَه
الْكرْمَانِي، وَلَكِن التركيبان ليسَا كَمَا ذكرَاهُ،
لِأَن اللَّفْظ الَّذِي فِي الصَّلَاة نَحْو مَا
ذَكرْنَاهُ الْآن، وَاللَّفْظ الَّذِي هُنَا: إلاَّ حرمه
الله على النَّار.
4246 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ عمْرٍ وعنْ سَعِيدٍ المَقْبَرِيِّ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (يَقُولُ الله تَعَالَى: مَا لِعْبْدِي المُؤْمِنِ
عِنْدِي جَزاءٌ إِذا قَبَضْتُ صَفِيَّةُ مِنْ أهْلِ
الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلاَّ الجَنَّةُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ثمَّ احتسبه)
لِأَن مَعْنَاهُ: صَبر على فقد صَفِيَّة وابتغى الْأجر من
الله تَعَالَى، والاحتساب طلب الْأجر من الله تَعَالَى
خَالِصا، واحتسب بِكَذَا أجرا عِنْد الله أَي: نوى بِهِ
وَجه الله، والحسبة بِالْكَسْرِ الْأُجْرَة وَاسم من
الاحتساب.
وقتيبة هُوَ ابْن سعيد، وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن
الإسْكَنْدراني، وَعَمْرو بن أبي عَمْرو بِالْوَاو فيهمَا
مولى الْمطلب المَخْزُومِي. . والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (صَفيه) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر
الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ الحبيب
المصافي كَالْوَلَدِ والأخر وكل من يُحِبهُ الْإِنْسَان.
قَوْله: (إلاّ الْجنَّة) يتَعَلَّق بقوله: (مَا لعبدي
الْمُؤمن) .
7 - (بَابُ مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيا
والتَّنافُسِ فِيها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحذر على صِيغَة
الْمَجْهُول من الحذر وَفِي بعض النّسخ: مَا يحذر،
بِالتَّشْدِيدِ من التحذير. قَوْله: من زهرَة الدُّنْيَا،
أَي بهجتها ونضارتها وحسنها. قَوْله: والتنافس فِيهَا،
وَهُوَ من النفاسة وَهِي الرَّغْبَة فِي الشَّيْء ومحبة
الِانْفِرَاد بِهِ والمغالبة عَلَيْهِ، وَأَصلهَا من
الشَّيْء النفيس فِي نَوعه، يُقَال: نافست فِي الشَّيْء
مُنَافَسَة ونفاسة ونفاساً، وَنَفس الشَّيْء بِالضَّمِّ
نفاسة: صَار مرغوباً فِيهِ، ونفست بِهِ بِالْكَسْرِ بخلت
بِهِ، ونفست عَلَيْهِ لم أره أَهلا لذَلِك.
(23/38)
5246 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عَبْدِ الله
قَالَ: حَدثنِي إسْمَاعِيلُ بنُ إبْراهِيمَ بنِ عُقْبَةَ
عنْ مُوساى ابنِ عُقْبَةَ قَالَ ابنُ شِهابٍ: حدّثني
عُرْوَةُ بنُ الزُّبيرِ أنَّ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ
أخبرَهُ أنَّ عَمْرَو بنَ عَوْفٍ وهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي
عامِرِ بنِ لُؤَيٍّ. كَانَ شَهِدَ بَدْراً مَعَ رَسولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرَه أنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ
الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِها،
وَكَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ صَالَحَ
أهْلَ البَحْرَيْنِ وأمَّرَ عَليْهِمُ العَلاَءَ بنَ
الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أبُو عُبَيْدَةَ بمالٍ مِنَ
البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصارُ بِقُدُومِهِ
فَوَافَتْهُ صَلاة الصُّبْحِ مَعَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَلمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لهُ
فَتَبَسَّمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ
رآهُمْ، وَقَالَ: (أظُنُكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدومِ أبي
عُبَيْدَةَ وأنّهُ جاءَ بِشَيْءٍ؟) قَالُوا: أجلْ يَا
رَسُول الله! قَالَ: (فأبْشِرُوا وأمِّلُوا مَا
يَسُرُّكُمْ فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ
ولاكِنْ أخْشَى عَلَيْكُمْ أَن تُبْسَطَ عَليْكِمُ
الدُّنْيا كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ،
فَتنافَسُوها كَمَا تَنافَسُوها وتُلْهِيَكُمْ كَمَا
ألْهَتْهُمْ) . طابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
(فتنافسوها)
إِلَى آخِره. وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله بن أبي أويس
وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة ابْن أبي عَيَّاش
يروي عَن عَمه مُوسَى بن أبي عَيَّاش الْأَسدي مولى الزبير
بن الْعَوام، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ. والمسور بِكَسْر الْمِيم ابْن مخرمَة بِفَتْح
الْمِيم، وَعَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ.
وَفِي هَذَا السَّنَد: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين
فِي نسق وهم: مُوسَى وَابْن شهَاب وَعُرْوَة بن الزبير
وَفِيه: صحابيان وهما: الْمسور وَعَمْرو بن عَوْف وَكلهمْ
مدنيون.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب الْجِزْيَة وَالْمُوَادَعَة مَعَ
أهل الذِّمَّة وَالْحَرب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي
الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن
الزبير عَن الْمسور بن مخرمَة عَن عَمْرو بن عَوْف
الْأنْصَارِيّ. . إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
مستقصًى هُنَاكَ.
قَوْله: (إِلَى الْبَحْرين) سقط لفظ: إِلَى الْبَحْرين،
وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَثَبت فِي رِوَايَة
الْكشميهني. قَوْله: (فَقدم أَبُو عُبَيْدَة بِمَال) كَانَ
قدوم أبي عُبَيْدَة سنة عشر، قدم بِمِائَة ألف
وَثَمَانِينَ ألف دِرْهَم كَذَا فِي (جَامع الْمُخْتَصر)
وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ المَال ثَمَانِينَ ألفا، وَقَالَ
الزُّهْرِيّ: قدم بِهِ لَيْلًا، وَقَالَ ابْن حبيب: هُوَ
أَكثر مَال قُدم بِهِ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَقَالَ قَتَادَة: وصب على حَصِير وفرقه وَمَا أحرم
مِنْهُ سَائِلًا، وَكَانَ أهل الْبَحْرين مجوساً.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس.
وَفِيه خلاف بَين الْفُقَهَاء. قَوْله: (فوافته) ويروى:
فوافت، بِدُونِ الضَّمِير وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
والكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا. فَوَافَقت من
الْمُوَافقَة، ووافت من الموافاة، وَهُوَ الْإِتْيَان.
قَوْله: (فابشروا) بِهَمْزَة الْقطع. قَوْله: (وأملوا) من
التأميل من الأمل وَهُوَ الرَّجَاء. قَوْله: (مَا يسركم)
فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول: أملوا قَوْله: (مَا
الْفقر) مَنْصُوب بِتَقْدِير: مَا أخْشَى الْفقر، وَحذف
لِأَن أخْشَى عَلَيْكُم مُفَسّر لَهُ، وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: فَائِدَة تَقْدِيم الْمَفْعُول هُنَا
الاهتمام بشأن الْفقر، قيل: يجوز رفع الْفقر بِتَقْدِير
ضمير أَي: مَا الْفقر أخشاه عَلَيْكُم، وَقيل: هَذَا
مَخْصُوص بالشعر، وَمضى تَفْسِير التنافس عَن قريب،
قَوْله: (وتلهيكم) أَي: تشغلكم عَن الْآخِرَة.
6246 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا اللَّيْثُ
عَن يَزِيدَ بنِ أبِي حَبِيبٍ عنْ أبي الخَيْرِ عنْ
عُقْبَةَ ابنِ عامرٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خَرَجَ يَوْماً فَصَلَّى عَلى أهْلِ أُحُدٍ
صَلاَتَهُ على المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى
المِنْبَرِ فَقَالَ: (إنِّي فَرَطُكُمْ وَأَنا شَهِيدٌ
عَلَيْكُمْ وإنِّي وَالله لأنظرُ إِلَى حَوْضِي الْآن،
وإنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفاتِيح خَزَائنِ الأرْضِ أوْ:
مَفاتِيحَ الأرْضِ وإنِّي وَالله مَا أخافُ عَلَيْكُمْ
(23/39)
أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، ولَكِنِّي أخافُ
أنْ تَنَافَسُوا فِيها) .
طابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَخَاف أَن تنافسوا
فِيهَا) . قَوْله: اللَّيْث هُوَ ابْن سعد، ويروى: لَيْث،
بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن
أبي حبيب واسْمه سُوَيْد، وَأَبُو الْخَيْر مرْثَد بِفَتْح
الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الله.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الصَّلَاة
على الشَّهِيد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن
يُوسُف عَن اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب إِلَى آخِره.
قَوْله: (فصلى) أَي: دَعَا لَهُم بِدُعَاء صَلَاة
الْمَيِّت وَلَا بُد من هَذَا التَّأْوِيل لما تقدم فِي
الْجَنَائِز أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دفن شُهَدَاء
أحد قبل أَن يُصَلِّي عَلَيْهِم. قَوْله: (فَرَطكُمْ)
الفرط بِفتْحَتَيْنِ الْمُتَقَدّم فِي طلب المَاء. أَي
سابقكم إِلَيْهِ كالمهيء لَهُ. قَوْله: (أَو مَفَاتِيح
الأَرْض) شكّ من الرَّاوِي.
وَفِيه: إِثْبَات الْحَوْض المورود وَأَنه مَخْلُوق
الْيَوْم. وَفِيه: إِخْبَار بِالْغَيْبِ معْجزَة لَهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
7246 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عَن:
زَيْدِ بنِ أسْلَم عنْ عَطاءِ بنِ يسَار عنْ أبي سَعيدٍ
الخدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إنَّ أكْثَرَ مَا أخافُ عَليْكُمْ مَا يُخْرِجُ
الله لَكُمْ مِنْ بَرَكاتِ الأرْضِ) . قيل: وَمَا بَرَكاتُ
الأرْضِ؟ قَالَ: (زَهْرَةُ الدُّنْيا) فَقَالَ لهُ رجُلٌ:
هَلْ يأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَصَمتَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ظَنَنَّا أنَّهُ يُنْزَلُ علَيْهِ، ثُمَّ
جَعَلَ يَمْسَحُ عنْ جَبِينِه، فَقَالَ: (أيْنَ
السَّائِلُ؟) قَالَ: أَنا. قَالَ: أبُو سَعِيد: لَقَدْ
حَمدْناهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ، قَالَ: (لَا يأتِي
الخَيْرُ ... إِلَّا بالخَيْرِ، إنَّ هاذَا المالَ
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وإنَّ كلَّ مَا أنْبَتَ الرَّبِيعُ
يَقْتُلُ حبَطاً أوْ يُلِمُّ إلاّ آكِلَةَ الخَضرةِ أكلتْ
حتَّى إذَا امْتَدَّتْ خاصِرَتاها اسْتَقْبَلتِ الشَّمْسَ
فاجْتَرَّتْ وثَلَطَت وبالَتْ ثُمَّ عادَتْ فأكَلَتْ،
وإنَّ هاذَا المالَ حُلْوَةٌ مَنْ أخَذَهُ بِحَقِّهِ
وَوضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعح المَعُونَةُ هُوَ، ومَنْ
أخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كانَ كالّذِي يأكُلُ وَلَا
يَشْبَعُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (زهرَة الدُّنْيَا)
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك بن سِنَان ونسبته إِلَى
خدر بطن من الْأَنْصَار.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الصَّدَقَة
على الْيَتَامَى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن معَاذ بن
فضَالة عَن هِشَام عَن يحيى عَن هِلَال بن أبي مَيْمُونَة
عَن عَطاء بن يسَار أَنه سمع أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ إِلَى
آخِره.
قَوْله: (إِن أَكثر مَا أَخَاف عَلَيْكُم) وَفِي رِوَايَة
الزَّكَاة: (إِن مِمَّا أَخَاف عَلَيْكُم من بعدِي مَا
يفتح عَلَيْكُم) وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: (إِنِّي
مِمَّا أَخَاف) . قَوْله: (مَا يخرج) بِضَم الْيَاء من
الْإِخْرَاج وَهُوَ خبر، إِن قيل: هَذَا لَا يصلح أَن يكون
خَبرا للأكثره. وَأجِيب: بِأَن فِيهِ إضماراً تَقْدِيره:
مَا أَخَاف بِسَبَبِهِ عَلَيْكُم أَو مِمَّا يخرج. قَوْله:
(زهرَة الدُّنْيَا) وَفِي كتاب الزَّكَاة زَاد هِلَال:
وَزينتهَا، وَهُوَ عطف تفسيري والزهرة بِفَتْح الزَّاي
وَسُكُون الْهَاء، وَقد قرىء فِي الشاذ عَن الْحسن وَغَيره
بِفَتْح الْهَاء، فَقيل: هما بِمَعْنى وَاحِد. وَقيل:
بِالتَّحْرِيكِ جمع زَاهِر كفاجر وفجرة وَالْمرَاد بالزهرة
الزِّينَة والبهجة مَأْخُوذ من زهرَة الشَّجَرَة وَهُوَ
نورها بِفَتْح النُّون، وَالْمرَاد مَا فِيهَا من أَنْوَاع
الْمَتَاع وَالْعين وَالثيَاب والزروع وَغَيرهَا مِمَّا
يغتر النَّاس بحسنه مَعَ قلَّة الْبَقَاء. قَوْله:
(فَقَالَ رجل) لم يدر اسْمه. قَوْله: (هَل يَأْتِي
الْخَيْر بِالشَّرِّ؟) أَي: هَل تصير النِّعْمَة عُقُوبَة؟
قَوْله: (حَتَّى ظننا) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني،
وَفِي رِوَايَة غَيره: حَتَّى ظَنَنْت أَنه أَي: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينزل عَلَيْهِ بِصِيغَة
الْمَجْهُول أَي: الْوَحْي. قَوْله: (ثمَّ جعل يمسح عَن
جَبينه) أَي: الْعرق، وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْله: (لقد حمدناه حِين طلع ذَلِك)
أَي: حمدنا الرجل حِين ظهر، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره كَذَلِك، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: تقدم فِي الزَّكَاة أَنهم ذموه، وَقَالُوا
لَهُ: لم تكلم النَّبِي وَلَا يكلمك؟ وَأجَاب بِأَنَّهُم
ذموه أَو لَا حَيْثُ رَأَوْا سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وحمدوه آخرا حَيْثُ صَار سُؤَاله سَببا لاستفادتهم
مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لَا يَأْتِي
الْخَيْر إلاَّ بِالْخَيرِ) زَاد فِي رِوَايَة
الدَّارَقُطْنِيّ: تكْرَار ذَلِك ثَلَاث مَرَّات. قَوْله:
(خضرَة) التَّاء فِيهِ إِمَّا للْمُبَالَغَة نَحْو: رجل
عَلامَة، أَو هُوَ صفة الْمَوْصُوف مَحْذُوف
(23/40)
نَحْو: بقلة خضرَة، أَو بِاعْتِبَار
أَنْوَاع المَال. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هَذَا
لَيْسَ بِصفة لِلْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ للتشبيه
كَأَنَّهُ قَالَ: المَال كالبقلة الخضرة الحلوة. قَوْله:
(الرّبيع) أَي: الْجَدْوَل وَهُوَ النَّهر الصَّغِير وَجمع
الرّبيع الْأَرْبَعَاء، وَإسْنَاد الإنبات إِلَى الرّبيع
مجَاز، والمنبت هُوَ الله عز وَجل فِي الْحَقِيقَة.
قَوْله: (حَبطًا) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة وَهُوَ: انتفاخ
الْبَطن من كَثْرَة الْأكل، يُقَال: حبطت الدَّابَّة تحبط
حَبطًا إِذا أَصَابَت مرعى طيبا فأمعنت فِي الْأكل حَتَّى
تنتفخ فتموت، وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من التخبط
وَهُوَ الِاضْطِرَاب. قَوْله: (أويلم) بِضَم أَوله أَي:
يقرب أَن يقتل. قَوْله: (إلاّ آكِلَة الخضرة) كلمة: إلاّ
بِالتَّشْدِيدِ للاستثناء، ويروى بِفَتْح الْهمزَة
وَتَخْفِيف اللَّام للاستفتاح. وآكلة، بِالْمدِّ وَكسر
الْكَاف، والخضرة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر
الضَّاد الْمُعْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني بِضَم الْخَاء وَسُكُون الضَّاد وبتاء
التَّأْنِيث، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: الخضراء بِفَتْح
أَوله وَسُكُون ثَانِيه وبالمد، ولغيرهم بِضَم أَوله وَفتح
ثَانِيه جمع خضرَة وَقَالَ الْكرْمَانِي: الخضرة بِفَتْح
الْخَاء البقلة الخضراء أَو ضرب من الْكلأ، وَقيل: مَا
بَين الشّجر والبقل. قَوْله: (خاصرتاها) تَثْنِيَة خاصرة
وهما جانبا الْبَطن من الْحَيَوَان، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني خَاصرتهَا، بِالْإِفْرَادِ. قَوْله: (فاجترت)
بِالْجِيم من الاجترار وَهُوَ أَن يجر الْبَعِير من الكرش
مَا أكله إِلَى فَمه فيمضغه مرّة ثَانِيَة، وكل لقْمَة
مِنْهُ تسمى: جرة، وَيصير كل وَاحِدَة بَعرَة. قَوْله:
(وثلطت) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح اللَّام
والطاء الْمُهْملَة وضبطها ابْن التِّين بِكَسْر اللَّام،
أَي: أَلْقَت مَا فِي بَطنهَا رَقِيقا، وَالْغَرَض من
هَذَا أَن جمع المَال غير محرم لَكِن الاستكثار مِنْهُ ضار
بل يكون سَببا للهلاك. قَوْله: (فَنعم المعونة هُوَ) أَي:
المَال يَعْنِي: حَيْثُ كَانَ دخله وخرجه بِالْحَقِّ فَنعم
العون للرجل فِي الدَّاريْنِ وَقَالَ صَاحب (الْمغرب) :
المعونة العون.
قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه مصدر ميمي.
وَفِيه: مثل لِلْمُؤمنِ أَن لَا يَأْخُذ من الدُّنْيَا،
إلاَّ قدر حَاجته وَلَا تغره زهرتها فتهلكه.
9246 - حدّثنا عَبْدَانُ عنْ أبي حَمْزَةَ عَن الأعْمَشِ
عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَبِيدَةَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله
عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ
ثُمَّ الّذِينَ
(23/41)
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ
بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبقَ شَهادَتُهُمْ أيْمانَهُمْ
وأيْمَانُهُمْ شَهادَتُهُمْ.
طابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَلم تنقصهم
الدُّنْيَا)
إِلَى آخِره يستخرجها من أمعن النّظر فِيهِ.
وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه الْبَلْخِي يُقَال لَهُ: خت،
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد، وَقيس هُوَ ابْن أبي
حَازِم، وخباب هُوَ ابْن الْأَرَت.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب المرضى فِي: بَاب تمني الْمَرِيض
الْمَوْت، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم عَن شُعْبَة
عَن إِسْمَاعِيل الخ.
قَوْله: (وَلم تنقصهم الدُّنْيَا) أَي: لم تدخل الدُّنْيَا
فيهم نقصا بِوَجْه من الْوُجُوه، أَي: لم يشتغلوا بِجمع
المَال بِحَيْثُ يلْزم فِي كمالهم نُقْصَان. قَوْله: (إلاّ
التُّرَاب) أَرَادَ بِهِ بِنَاء الْحِيطَان، بِقَرِينَة
قَوْله فِي الحَدِيث الَّذِي يَلِيهِ: وَهُوَ يَبْنِي
حَائِطا، ول وَلَا ذَلِك لَكَانَ اللَّفْظ مُحْتملا
لإِرَادَة الْكَنْز وَدفن الذَّهَب فِي الأَرْض، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: يَعْنِي لَا يكَاد ينجو من فتْنَة المَال
إلاَّ من مَاتَ وَصَارَ إِلَى التُّرَاب.
19 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا يحيى عَن
إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنِي قيس قَالَ أتيت خبابا وَهُوَ
يَبْنِي حَائِطا لَهُ فَقَالَ إِن أَصْحَابنَا الَّذين
مضوا لم تنقصهم الدُّنْيَا شَيْئا وَإِنَّا أصبْنَا من
بعدهمْ شَيْئا لَا نجد لَهُ موضعا إِلَّا التُّرَاب) هَذَا
طَرِيق آخر فِي الحَدِيث السَّابِق عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى ضد الْمُفْرد عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن
إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد إِلَى آخِره قَوْله شَيْئا
ويروى بِشَيْء
20 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن
الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن خباب رَضِي الله عَنهُ
قَالَ هاجرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: قصه) مُحَمَّد بن كثير ضد الْقَلِيل
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان
وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة قَوْله قصه كَذَا لأبي
ذَر أَي قصّ الحَدِيث رَاوِيه وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا
أخرجه بِتَمَامِهِ فِي أول الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة
عَن مُحَمَّد بن كثير بالسند الْمَذْكُور هَهُنَا
(بَاب قَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد
الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور إِن الشَّيْطَان لكم عَدو
فاتخذوه عدوا إِنَّمَا يَدْعُو حزبه ليكونوا من أَصْحَاب
السعير} )
(23/42)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى الخ
وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة هَكَذَا سقيت الْآيَتَانِ
المذكورتان وَفِي رِوَايَة أبي ذَر هَكَذَا {يَا أَيهَا
النَّاس إِن وعد الله حق} الْآيَة إِلَى قَوْله {السعير}
قَوْله {إِن وعد الله حق} أَي بِالْبَعْثِ وَالثَّوَاب
وَالْعِقَاب قَوْله {وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور}
وَهُوَ أَن يغتر بِاللَّه فَيعْمل الْمعْصِيَة ويتمنى
الْمَغْفِرَة وَيُقَال الْغرُور الشَّيْطَان وَقد نهى الله
عَن الاغترار بِهِ وَبَين لنا عداوته لِئَلَّا نلتفت إِلَى
تسويله وتزيينه لنا الشَّهَوَات الرَّديئَة قَوْله
{فاتخذوه عدوا} أَي أنزلوه من أَنفسكُم منزلَة الْأَعْدَاء
وتجنبوا طَاعَته قَوْله {إِنَّمَا يَدْعُو حزبه} أَي شيعته
إِلَى الْكفْر قَوْله {ليكونوا من أَصْحَاب السعير} أَي
النَّار
(جمعه سعر) أَي جمع السعير سعر على وزن فعل بِضَمَّتَيْنِ
والسعير على وزن فعيل بِمَعْنى مفعول من السّعر بِفَتْح
السِّين وَسُكُون الْعين وَهُوَ التهاب النَّار
(قَالَ مُجَاهِد الْغرُور الشَّيْطَان) أثر مُجَاهِد هَذَا
لم يثبت هُنَا إِلَّا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده
وَوَصله الْفرْيَابِيّ فِي تَفْسِيره عَن وَرْقَاء عَن
ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد وَهُوَ تَفْسِير قَوْله
تَعَالَى {وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} وَهُوَ على
وزن فعول بِمَعْنى فَاعل تَقول غررت فلَانا أصبت غرته ونلت
مَا أردْت مِنْهُ والغرة بِالْكَسْرِ غَفلَة فِي
الْيَقَظَة والغرور كل مَا يغر الْإِنْسَان وَإِنَّمَا فسر
بالشيطان لِأَنَّهُ رَأس ذَلِك
21 - (حَدثنَا سعد بن حَفْص حَدثنَا شَيبَان عَن يحيى عَن
مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْقرشِي قَالَ أَخْبرنِي معَاذ
بن عبد الرَّحْمَن أَن ابْن أبان أخبرهُ قَالَ أتيت
عُثْمَان بِطهُور وَهُوَ جَالس على المقاعد فَتَوَضَّأ
فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأ وَهُوَ فِي هَذَا
الْمجْلس فَأحْسن الْوضُوء ثمَّ قَالَ من تَوَضَّأ مثل
هَذَا الْوضُوء ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد فَرَكَعَ
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جلس غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه قَالَ
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَا تغتروا) مطابقته لِلْآيَةِ الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة
فِي قَوْله لَا تغتروا وَسعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد
الطلحي الْكُوفِي يُقَال لَهُ الضخم وشيبان بن عبد
الرَّحْمَن أَبُو مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ وَيحيى هُوَ ابْن
أبي كثير ضد الْقَلِيل وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم بن
الْحَارِث بن خَالِد التَّيْمِيّ ولجده الْحَارِث صُحْبَة
ومعاذ بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن عبيد الله
التَّيْمِيّ وَعُثْمَان جده هُوَ أَخُو طَلْحَة بن عبيد
الله الصَّحَابِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان صَحَابِيّ
أَيْضا أخرج لَهُ مُسلم وَكَانَ يلقب بشارب الذَّهَب وَقتل
مَعَ ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم بِمَكَّة
فِي يَوْم وَاحِد وَأما عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن
عُثْمَان أَخُو طَلْحَة بن عبيد الله فَلهُ صُحْبَة أَيْضا
قتل يَوْم الْجمل وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة
سِتّ وَثَلَاثِينَ وَابْن أبان كَذَا وَقع لأبي ذَر
والنسفي وَغَيرهمَا أَن ابْن أبان أخبرهُ وَوَقع لِابْنِ
السكن أَن حمْرَان بن أبان وَوَقع للجرجاني وَحده أَن أبان
أخبرهُ وَهُوَ خطأ والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة
عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَغَيره وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد
قَوْله " بِطهُور " بِفَتْح الطَّاء وَهُوَ المَاء الَّذِي
يتَطَهَّر بِهِ قَوْله " وَهُوَ جَالس " الْوَاو فِيهِ
للْحَال قَوْله " على المقاعد " بِوَزْن الْمَسَاجِد
بِالْقَافِ والمهملتين مَوضِع بِالْمَدِينَةِ قَوْله "
فَأحْسن الْوضُوء " وَفِي رِوَايَة نَافِع بن جُبَير عَن
حمْرَان " فأسبغ الْوضُوء " قَوْله " ثمَّ قَالَ من
تَوَضَّأ " أَي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَوْله " مثل هَذَا الْوضُوء " المثلية لَا
تَسْتَلْزِم أَن يكون وضوؤه مثل وضوء النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من كل وَجه لتعذر ذَلِك
قَوْله " فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ " هَكَذَا أطلق من غير
تَقْيِيد بالمكتوبة وَقَيده مُسلم فِي رِوَايَته من طَرِيق
نَافِع بن جُبَير عَن حمْرَان بِلَفْظ " ثمَّ مَشى
(23/43)
إِلَى الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة فَصلاهَا
مَعَ النَّاس أَو فِي الْمَسْجِد " وَكَذَا وَقع فِي
رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن حمْرَان
فَيصَلي الْمَكْتُوبَة وَفِي رِوَايَة أبي صَخْرَة عَن
حمْرَان " مَا من مُسلم يتَطَهَّر فَيتم الطّهُور الَّذِي
كتب عَلَيْهِ فَيصَلي هَذِه الصَّلَوَات الْخمس إِلَّا
كَانَت كَفَّارَة لما بَينهُنَّ " قَوْله غفر لَهُ مَا
تقدم من ذَنبه يَعْنِي الذَّنب الَّذِي بَينه وَبَين الله
تَعَالَى وَأما مَا بَينه وَبَين الْعباد فَلَا يغْفر
إِلَّا بإرضاء الْخصم قَوْله لَا تغتروا فتجسرون على
الذُّنُوب معتمدين على الْمَغْفِرَة للذنوب فَإِن ذَلِك
بِمَشِيئَة الله عز وَجل
(بَاب ذهَاب الصَّالِحين)
أَي هَذَا بَاب فِي ذكر ذهَاب الصَّالِحين أَي مَوْتهمْ
وَذَهَاب الصَّالِحين من أَشْرَاط السَّاعَة وَقرب فنَاء
الدُّنْيَا
(وَيُقَال الذّهاب الْمَطَر) ثَبت هَذَا فِي رِوَايَة
السَّرخسِيّ وَحده وَقَالَ بَعضهم مُرَاده أَن لفظ الذّهاب
مُشْتَرك بَين الْمُضِيّ والمطر قلت لَيْسَ كَذَلِك لِأَن
الذّهاب بِمَعْنى الْمُضِيّ بِفَتْح الذَّال والذهاب
بِمَعْنى الْمَطَر بِكَسْرِهَا قَالَ صَاحب الْمُحكم
الذهبة بِالْكَسْرِ المطرة الضعيفة وَالْجمع الذّهاب
22 - (حَدثنِي يحيى بن حَمَّاد حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن
بَيَان عَن قيس بن أبي حَازِم عَن مرداس الْأَسْلَمِيّ
قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - يذهب الصالحون الأول فَالْأول وَتبقى حفالة كحفالة
الشّعير أَو التَّمْر لَا يباليهم الله بالة) مطابتقه
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَيحيى بن حَمَّاد الشَّيْبَانِيّ
الْبَصْرِيّ روى البُخَارِيّ عَنهُ فِي الْحيض بِوَاسِطَة
الْحسن بن مدرك وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَالنُّون واسْمه الوضاح
بن عبد الله الْيَشْكُرِي وَبَيَان بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون
ابْن بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالشين
الْمُعْجَمَة الأحمسي بالمهملتين وَقيس بن أبي حَازِم
بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي ومرداس بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون الرَّاء ابْن مَالك الْأَسْلَمِيّ وَكَانَ مِمَّن
بَايع تَحت الشَّجَرَة ثمَّ سكن الْكُوفَة وَهُوَ مَعْدُود
فِي أَهلهَا والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي عَن
إِبْرَاهِيم بن مُوسَى عَن عِيسَى بن يُونُس الخ قَوْله
يذهب وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ يقبض بدل يذهب أَي يقبض
أَرْوَاحهم قَوْله الأول أَي يذهب الأول فَالْأول عطف
عَلَيْهِ قَوْله حفالة بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف الْفَاء وَهِي الرذائل من كل شَيْء وَيُقَال
هِيَ مَا يبْقى من آخر الشّعير وَمن التَّمْر أردؤه
وَقَالَ ابْن التِّين الحفالة سقط النَّاس وَأَصلهَا مَا
يتساقط من قشور التَّمْر وَالشعِير وَغَيرهمَا وَقَالَ
الدَّاودِيّ الحفالة مَا يسْقط من الشّعير عِنْد الغربلة
وَيبقى من التَّمْر بعد الْأكل قَوْله أَو التَّمْر
يحْتَمل الشَّك والتنويع وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الحميد
كحثالة الشّعير فَقَط وَفِي رِوَايَة يحيى لَا يبْقى
إِلَّا مثل حثالة التَّمْر وَالشعِير والحثالة بالثاء
الْمُثَلَّثَة مثل الحفالة يتعاقبان كَقَوْلِهِم فوم وثوم
قَوْله لَا يباليهم الله قَالَ الْخطابِيّ أَي لَا يرفع
لَهُم قدر أَو لَا يُقيم لَهُم وزنا وَفِي رِوَايَة عِيسَى
بن يُونُس عَن بَيَان تقدّمت فِي الْمَغَازِي بِلَفْظ لَا
يعبأ الله بهم شَيْئا وَفِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد لَا
يُبَالِي الله عَنْهُم وَكلمَة عَن هَهُنَا بِمَعْنى
الْبَاء يُقَال مَا باليت بِهِ وَمَا باليت عَنهُ قَوْله
بالة اسْم لمصدر وَلَيْسَ مصدرا لباليت وَقيل أَصله بالية
فحذفت الْيَاء تَخْفِيفًا كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت
يُقَال باليت بالشَّيْء مبالاة وبالة وبالية
(قَالَ أَبُو عبد الله يُقَال حفالة وحثالة) أَبُو عبد
الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه وَأَرَادَ بِهِ أَن حفالة
وحثالة بِالْفَاءِ والثاء الْمُثَلَّثَة بِمَعْنى وَاحِد
(بَاب مَا يتقى من فتْنَة المَال)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يتقى على صِيغَة
الْمَجْهُول قَوْله " من فتْنَة المَال " أَي الِانْتِهَاء
بِهِ وَمعنى الْفِتْنَة فِي كَلَام الْعَرَب الاختبار
(23/44)
والابتلاء والفتنة الإمالة عَن الْقَصْد
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك}
أَي ليميلونك والفتنة أَيْضا الاحتراق وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى {يَوْم هم على النَّار يفتنون} أَي يحرقون قَالَه
ابْن الْأَنْبَارِي والامتلاء والاختبار يجمع ذَلِك كُله
(وَقَول الله تَعَالَى {أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ
فتْنَة} ) وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله من
فتْنَة المَال وَقد أخبر الله تَعَالَى عَن الْأَمْوَال
وَالْأَوْلَاد أَنَّهَا فتْنَة لِأَنَّهَا تشغل النَّاس
عَن الطَّاعَة قَالَ الله تَعَالَى {أَلْهَاكُم التكاثر}
أَي شغلكم التكاثر وَخرج لفظ الْخطاب بذلك على الْعُمُوم
لِأَن الله تَعَالَى فطر الْعباد على حب المَال
وَالْأَوْلَاد وَقد روى التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان
وَالْحَاكِم وصححوه من حَدِيث كَعْب بن عِيَاض سَمِعت
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَقُول إِن لكل أمة فتْنَة وفتنة أمتِي المَال
23 - (حَدثنِي يحيى بن يُوسُف أخبرنَا أَبُو بكر عَن أبي
حُصَيْن عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ
قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - تعس عبد الدِّينَار وَالدِّرْهَم والقطيفة
والخيمصة إِن أعطي رَضِي وَإِن لم يُعْط لم يرض) مطابقته
للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث وَيحيى بن يُوسُف
الزمي بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الْمِيم نِسْبَة إِلَى
بَلْدَة يُقَال لَهَا زم وَيُقَال لَهُ ابْن أبي كَرِيمَة
فَقيل هُوَ كنية أَبِيه وَقيل هُوَ جده واسْمه كنيته أخرج
عَنهُ البُخَارِيّ بِغَيْر وَاسِطَة فِي الصَّحِيح وبواسطة
خَارج الصَّحِيح وَأَبُو بكر هُوَ ابْن عَيَّاش بتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة القارىء
الْمُحدث وَأَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد
الْمُهْمَلَتَيْنِ عُثْمَان بن عَاصِم وَأَبُو صَالح
ذكْوَان الزيات والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد عَن يحيى
أَيْضا متْنا وإسنادا فِي بَاب الحراسة فِي الْغَزْو
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن الْحسن بن حَمَّاد عَن يحيى بِهِ
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَافق أَبَا بكر على رَفعه شريك
القَاضِي وَقيس بن الرّبيع عَن أبي حُصَيْن وَخَالفهُم
إِسْرَائِيل فَرَوَاهُ عَن أبي حُصَيْن مَوْقُوفا قَوْله
تعس بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَفتحهَا أَي سقط
وَالْمرَاد هُنَا هلك وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي التعس
الشَّرّ قَالَ تَعَالَى {فتعسا لَهُم} أَرَادَ ألزمهم
الشَّرّ وَقيل التعس الْبعد أَي بعدا لَهُم وَقيل قَوْلهم
تعسا لَهُ نقيض قَوْلهم لعا لَهُ فتعسا دُعَاء عَلَيْهِ
بالعثرة ولعا دُعَاء لَهُ بالانتعاش قَوْله عبد الدِّينَار
أَي طَالبه وخادمه والحريص على جمعه والقائم على حفظه
فَكَأَنَّهُ لذَلِك عَبده وَقَالَ شيخ شَيخنَا
الطَّيِّبِيّ خص العَبْد بِالذكر ليؤذن بانغماسه فِي
محبَّة الدُّنْيَا وشهواتها كالأسير الَّذِي لَا يجد خلاصا
وَلم يقل مَالك الدِّينَار وَلَا جَامع الدِّينَار لِأَن
المذموم من الْملك وَالْجمع الزِّيَادَة على قدر الْحَاجة
قَوْله والقطيفة الدثار المخمل وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي
لَهُ خمل والخميصة الكساء الْأسود المربع قَوْله إِن أعطي
على صِيغَة الْمَجْهُول وَكَذَا وَإِن لم يُعْط قَالَ الله
تَعَالَى {فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا
مِنْهَا إِذا هم يسخطون}
24 - (حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ
سَمِعت ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُول سَمِعت
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول
لَو كَانَ لِابْنِ آدم واديان من مَال لابتغى ثَالِثا
وَلَا يمْلَأ جَوف ابْن آدم إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب
الله على من تَابَ) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى
الحَدِيث لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أَشَارَ بِهَذَا الْمثل إِلَى ذمّ الْحِرْص على
الدُّنْيَا والشره والازدياد وَهَذِه آفَة يجب الاتقاء
مِنْهَا وَأَبُو عَاصِم هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل
الْبَصْرِيّ وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز
بن جريج الْمَكِّيّ وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح يروي
بِالسَّمَاعِ عَن ابْن عَبَّاس يَقُول سَمِعت النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا من
الْأَحَادِيث الَّتِي صرح فِيهَا ابْن عَبَّاس بِسَمَاعِهِ
من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِي
قَليلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مرويه عَنهُ فَإِنَّهُ أحد
المكثرين وَمَعَ ذَلِك فتحمله كَانَ أَكْثَره عَن كبار
الصَّحَابَة والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن
زُهَيْر بن حَرْب وَهَارُون بن عبد الله قَوْله لَو كَانَ
لِابْنِ آدم واديان وَفِي الحَدِيث يَلِيهِ لَو كَانَ
لِابْنِ آدم مثل وَاد مَالا وَفِي الحَدِيث الآخر لَو أَن
ابْن آدم أعطي وَاديا وَفِي الآخر
(23/45)
لَو أَن لِابْنِ آدم واديان قَوْله من مَال
وَفِي الحَدِيث الثَّالِث مَلأ من ذهب وَفِي الحَدِيث
الرَّابِع وَاديا من ذهب وَعند أَحْمد فِي حَدِيث زيد بن
أَرقم " من ذهب وَفِضة " قَوْله " لابتغى " بالغين
الْمُعْجَمَة من الابتغاء وَهُوَ الطّلب وَفِي الحَدِيث
الثَّانِي " لأحب أَن لَهُ إِلَيْهِ مثله " وَفِي حَدِيث
أنس " لتمنى مثله ثمَّ تمنى مثله حَتَّى يتَمَنَّى أَوديَة
" وَفِي الحَدِيث الثَّالِث " أحب إِلَيْهِ ثَانِيًا "
وَفِي الرَّابِع أحب إِلَيْهِ أَن يكون لَهُ وَاديا
وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي قَوْله لابتغى لَهما ثَالِثا
فَزَاد لَفْظَة لَهما فِي شَرحه ثمَّ قَالَ فَإِن قلت
الابتغاء لَا يسْتَعْمل بِاللَّامِ قلت هَذَا مُتَعَلق
بقوله ثَالِثا أَي ثَالِثا لَهما أَي مثلثهما انْتهى
قَوْله وَلَا يمْلَأ جَوف ابْن آدم وَفِي الحَدِيث
الثَّانِي " وَلَا يمْلَأ عين ابْن آدم " وَفِي الثَّالِث
" وَلَا يسد جَوف ابْن آدم " وَفِي الرَّابِع " وَلنْ
يمْلَأ فَاه " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن
جريج لَا يمْلَأ نفس ابْن آدم وَفِي مُرْسل جُبَير بن
يُغير وَلَا يشْبع جَوف ابْن آدم بِضَم الْيَاء من الإشباع
وَفِي حَدِيث زيد بن أَرقم " وَلَا يمْلَأ بطن ابْن آدم "
وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا وَجه ذكره فِي الرِّوَايَة
الأولى الْجوف وَفِي الثَّانِيَة الْعين وَفِي الثَّالِثَة
الْفَم قلت لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ الْحَقِيقَة
بِقَرِينَة عدم الانحصار على التُّرَاب إِذْ غَيره يملؤه
أَيْضا بل هُوَ كِنَايَة عَن الْمَوْت لِأَنَّهُ
مُسْتَلْزم للامتلاء فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يشْبع سنّ
الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوت فالغرض من الْعبارَات كلهَا
وَاحِد لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التفنن فِي الْكَلَام وَقَالَ
بَعضهم هَذَا يحسن فِيمَا إِذا اخْتلفت مخارج الحَدِيث
وَأما إِذا اتّحدت فَهُوَ من تصرف الروَاة انْتهى قلت
إحالته على كَلَام الشَّارِع أولى من إحالته إِلَى تصرف
الروَاة مَعَ أَن فِيهِ تَغْيِير لفظ الشَّارِع فَإِن قلت
نِسْبَة الامتلاء إِلَى الْجوف والبطن وَاضِحَة فَمَا
وَجههَا إِلَى النَّفس والفم وَالْعين قلت أما النَّفس
فَعبر بهَا عَن الذَّات وَأَرَادَ الْبَطن من قبيل
إِطْلَاق الْكل وَإِرَادَة الْجُزْء وَأما الْفَم فلكونه
الطَّرِيق إِلَى الْوُصُول إِلَى الْجوف وَأما الْعين
فَلِأَنَّهَا الأَصْل فِي الطّلب لِأَنَّهُ يرى مَا
يُعجبهُ فيطلبه ليحوزه إِلَيْهِ وَخص الْبَطن فِي أَكثر
الرِّوَايَات لِأَن أَكثر مَا يطْلب المَال لتَحْصِيل
المستلذات وأكثرها تكْرَار للْأَكْل وَالشرب وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ وَقع قَوْله وَلَا يمْلَأ إِلَى آخِره موقع
التذييل والتقرير للْكَلَام السَّابِق كَأَنَّهُ قيل وَلَا
يشْبع من خلق من التُّرَاب إِلَّا بِالتُّرَابِ قَوْله
وَيَتُوب الله على من تَابَ أَي من الْمعْصِيَة وَرجع
عَنْهَا يَعْنِي يوفقه للتَّوْبَة أَو يرجع عَلَيْهِ من
التَّشْدِيد إِلَى التَّخْفِيف أَو يرجع عَلَيْهِ بقبوله
25 - (حَدثنَا مُحَمَّد أخبرنَا مخلد أخبرنَا ابْن جريج
قَالَ سَمِعت عَطاء يَقُول سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول
سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يَقُول لَو أَن لِابْنِ آدم مثل وَاد مَالا لأحب أَن
لَهُ إِلَيْهِ مثله وَلَا يمْلَأ عين ابْن آدم إِلَّا
التُّرَاب وَيَتُوب الله على من تَابَ: قَالَ ابْن عَبَّاس
فَلَا أَدْرِي من الْقُرْآن هُوَ أم لَا قَالَ وَسمعت ابْن
الزبير يَقُول ذَلِك على الْمِنْبَر) هَذَا طَرِيق آخر عَن
مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام وَصرح بذلك فِي رِوَايَة أبي زيد
الْمروزِي وَهُوَ يروي عَن مخلد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام ابْن يزِيد من
الزِّيَادَة أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي الْجَزرِي مَاتَ
سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة قَوْله مثل وَاد ويروى ملْء
وَاد قَوْله قَالَ ابْن عَبَّاس فَلَا أَدْرِي من
الْقُرْآن هُوَ أم لَا يَعْنِي الحَدِيث الْمَذْكُور
يَعْنِي من الْقُرْآن الْمَنْسُوخ تِلَاوَته قَوْله قَالَ
وَسمعت ابْن الزبير أَي قَالَ عَطاء سَمِعت عبد الله بن
الزبير وَهُوَ مُتَّصِل بالسند الْمَذْكُور قَوْله يَقُول
ذَلِك إِشَارَة إِلَى الحَدِيث وَقَالَ الْكرْمَانِي وَعبد
الله بن الزبير كَانَ يَقُول قَالَ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ ذَلِك يَعْنِي لَو
أَن لِابْنِ آدم إِلَى آخِره وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ
قَول لَا أَدْرِي أَيْضا قَوْله على الْمِنْبَر أَي
بِمَكَّة كَمَا يَأْتِي الْآن
26 - (حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن
سُلَيْمَان بن الغسيل عَن عَبَّاس بن سهل بن سعد قَالَ
سَمِعت ابْن الزبير على الْمِنْبَر بِمَكَّة فِي خطبَته
يَقُول يَا أَيهَا النَّاس إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُول لَو أَن ابْن آدم أعطي
وَاديا مَلأ من ذهب أحب إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَو أعطي
ثَانِيًا أحب إِلَيْهِ ثَالِثا وَلَا يسد جَوف ابْن آدم
إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب الله على من تَابَ) أَبُو نعيم
الْفضل بن دُكَيْن وَعبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان بن عبد
الله بن حَنْظَلَة بن الغسيل أَي مغسول الْمَلَائِكَة حِين
اسْتشْهد وَهُوَ
(23/46)
جنب والغسيل هُوَ حَنْظَلَة بن أبي عَامر
الأوسي وَعبد الله من صغَار الصَّحَابَة قتل يَوْم
الْحرَّة وَكَانَ الْأَمِير على طَائِفَة الْأَنْصَار
يَوْمئِذٍ وحَنْظَلَة اسْتشْهد بِأحد وَهُوَ من كبار
الصَّحَابَة وَأَبوهُ أَبُو عَامر يعرف بِالرَّاهِبِ
وَهُوَ الَّذِي بني مَسْجِد الضرار بِسَبَبِهِ وَنزل فِيهِ
الْقُرْآن وَعبد الرَّحْمَن مَعْدُود من صغَار التَّابِعين
وَهَذَا الْإِسْنَاد من أَعلَى مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ
لِأَنَّهُ فِي حكم الثلاثيات وَإِن كَانَ رباعيا كَذَا
قَالَه بَعضهم وَلكنه من الرباعيات حَقِيقَة وَقَوله فِي
حكم الثلاثيات فِيهِ نظر وعباس بن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ
وَسَهل من الصَّحَابَة الْمَشْهُورين والْحَدِيث من
أَفْرَاده قَوْله أعطي على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله مَلأ
ويروى ملآن قَوْله ثَانِيًا أَي وَاديا ثَانِيًا -
9346 - حدّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عبْدِ الله حَدثنَا
إبْرَاهيِمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ:
أَخْبرنِي أنَسُ بنُ مالِكٍ أنَّ رسُولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وادِياً
مِنْ ذَهَب أحَبَّ أنْ يَكُونَ لهُ وادِيان، ولَنْ يَمْلأُ
فاهُ إلاّ التُّرَابُ ويَتُوبُ الله عَلى مَنْ تابَ) .
عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي الْمَدِينِيّ،
وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، كَانَ
على قَضَاء بَغْدَاد، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن
شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن عبد الله
بن الحكم.
قَوْله: (أحب) وَقع كَذَا بِغَيْر اللَّام. قَوْله: (وَلنْ
يمْلَأ) ويروي: وَلَا يمْلَأ.
0446 - وَقَالَ لَنا أبُو الوَلِيدِ: حدّثنا حَمَّادُ بنُ
سَلَمَة عنْ ثابِت عنْ أنَسٍ عَن أُبّيٍّ قَالَ: كُنَّا
نُرَى هاذَا مِنَ القُرْآنِ حتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمُ
التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1) .
أَبُو الْوَلِيد هُوَ هِشَام بن عبد الْملك
الطَّيَالِسِيّ، ذهب الْحَافِظ الْمزي إِن هَذَا تَعْلِيق،
وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم، قَالَ: هَذَا صَرِيح فِي
الْوَصْل لقَوْله: (وَقَالَ لنا) وَإِن كَانَ التَّصْرِيح
بِالتَّحْدِيثِ أَشد اتِّصَالًا. انْتهى.
قلت: الصَّوَاب مَا قَالَه الْمزي، لِأَن فِيهِ حَمَّاد بن
سَلمَة وَهُوَ لم يعد فِيمَن، أخرج لَهُ البُخَارِيّ
مَوْصُولا وَلَيْسَ هُوَ على شَرطه فِي الِاحْتِجَاج على
أَن عِنْد الْبَعْض: قَالَ فلَان، أَو: قَالَ فلَان،
للمذاكرة غَالِبا، وَرُبمَا يكون للإجازة أَو للمناولة.
قَوْله: (عَن ثَابت) بِالتَّاءِ الْمُثَلَّثَة فِي أَوله
وَهُوَ ابْن أسلم الْبنانِيّ أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (عَن أبي) هُوَ أبي بن كَعْب الْأنْصَارِيّ.
وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
قَوْله: (كُنَّا نرى) بِضَم النُّون أَي: كُنَّا نظن،
وَيجوز فتحهَا من الرَّأْي، أَي: كُنَّا نعتقد. قَوْله:
(هَذَا) لم يبين الْمشَار إِلَيْهِ، وَقد بَينه
الْإِسْمَاعِيلِيّ حَيْثُ قَالَ فِي رِوَايَته: كُنَّا نرى
هَذَا الحَدِيث من الْقُرْآن. لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا
من مَال. . الحَدِيث. حَتَّى نزلت: {أَلْهَاكُمُ
التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1) وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل زَاد: إِلَى آخر السُّورَة. قيل: مَا وَجه
التَّخْصِيص بِسُورَة التكاثر وَهِي لَيست ناسخة لَهُ،
إِذْ لَا مُعَارضَة بَينهمَا؟ وَأجِيب: بِأَن شَرط نسخ
الحكم الْمُعَارضَة، وَأما نسخ اللَّفْظ فَلَا يشْتَرط
فِيهِ ذَلِك، فمقصوده أَنه لما نزلت السُّورَة الَّتِي
هِيَ بِمَعْنَاهُ أعلمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بنسخ تِلَاوَته والاكتفاء بِمَا هُوَ فِي
مَعْنَاهُ. وَأما مُوَافَقَته لِمَعْنى فَلِأَن بَعضهم فسر
زِيَارَة الْمَقَابِر بِالْمَوْتِ يَعْنِي شغلكم التكاثر
فِي الْأَمْوَال إِلَى أَن متم. وَقيل: يحْتَمل أَن
يُقَال: مَعْنَاهُ كُنَّا نظن أَنه قُرْآن حَتَّى نزلت
السُّورَة الَّتِي بِمَعْنَاهُ، فحين المقايسة بَينهمَا
عرفنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه لَيْسَ
قُرْآنًا. فَلَا يكون من بَاب النّسخ فِي شَيْء. وَالله
أعلم. وَقيل: كَانَ قُرْآنًا وَنسخت تِلَاوَته. وَلما
نزلت: {آلهاكم التكاثر} واستمرت تلاوتها كَانَت ناسخة
لتلاوة ذَلِك، وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا رَوَاهُ أَحْمد من
حَدِيث أبي وَاقد اللَّيْثِيّ قَالَ: كُنَّا نأتي النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا نزل عَلَيْهِ فيحدثنا،
فَقَالَ لنا ذَات يَوْم: أَن الله قَالَ: إِنَّمَا أنزلنَا
المَال لإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة، وَلَو كَانَ
لِابْنِ آدم وادٍ لأحب أَن يكون لَهُ ثانٍ. . الحَدِيث
ظَاهره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر بِهِ عَن الله
تَعَالَى بِأَنَّهُ من الْقُرْآن. على أَنه يحْتَمل أَن
يكون من الْأَحَادِيث القدسية، فعلى الْوَجْه الأول نسخت
تِلَاوَته قطعا، وَإِن كَانَ حكمه مستمراً.
11 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هاذا
المالُ خَضِرَةٌ حُلوَةٌ)
(23/47)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر قَول
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا المَال ...
أَشَارَ بِهِ إِلَى المَال الَّذِي يتَصَرَّف فِيهِ
النَّاس. قَوْله: خضرَة، التَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة أَو
بِاعْتِبَار أَنْوَاع المَال، وَكَذَا الْكَلَام فِي:
حلوة.
وَقَالَ الله تَعَالَى: {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من
النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب
وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث ذَلِك
مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} (آل عمرَان: 41) [/ ح.
سيقت هَذِه الْآيَة كلهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من
النِّسَاء والبنين} ... الْآيَة، وَفِي رِوَايَة أبي زيد
الْمروزِي {حب الشَّهَوَات} ... الْآيَة وَكَانَت رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ مثل رِوَايَة أبي ذَر. وَزَاد إِلَى
قَوْله: {ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} .
قَوْله: {زين للنَّاس} أَي: فِي هَذِه الدُّنْيَا من
أَنْوَاع الملاذ من النِّسَاء، فَبَدَأَ بِهن لِأَن
الْفِتْنَة بِهن أَشد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
(الصَّحِيح) : مَا تركت بعدِي فتْنَة أضرّ على الرِّجَال
من النِّسَاء، فَإِذا كَانَ الْقَصْد بِهن الإعفاف
وَكَثْرَة الْأَوْلَاد فَهَذَا مَطْلُوب مَرْغُوب فِيهِ
مَنْدُوب إِلَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(الدُّنْيَا مَتَاع وَخير متاعها الْمَرْأَة الصَّالِحَة)
الحَدِيث، ثمَّ ذكر الْبَنِينَ، فَلَا يَخْلُو حبهم إِمَّا
أَن يكون للتفاخر والزينة فَهُوَ دَاخل فِيهَا، وَإِمَّا
أَن يكون لتكثير النَّسْل وتكثير أمة مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. فَهَذَا مَحْمُود ممدوح، كَمَا فِي
الحَدِيث: (تزوجوا الْوَدُود الْوَلُود فَإِنِّي مُكَاثِر
بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة) . قَوْله: {القناطير
المقنطرة} اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي مِقْدَار القنطار
على أَقْوَال: فَقَالَ الضَّحَّاك. المَال الجزيل، وَقيل:
ألف دِينَار، وَقيل: ألف ومائتان، وَقيل: اثْنَا عشر ألفا،
وَقيل: أَرْبَعُونَ الْفَا، وَقيل: سَبْعُونَ ألفا، وَقيل:
ثَمَانُون ألفا. وروى الإِمَام أَحْمد من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: القنطار اثْنَا عشر ألف أُوقِيَّة، كل أُوقِيَّة
خير مِمَّا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَرَوَاهُ ابْن
مَاجَه أَيْضا، وروى ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا
عَارِم عَن حَمَّاد عَن سعيد الْحَرَشِي عَن أبي نصْرَة
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: القنطار ملْء مسك الثور ذَهَبا، وَرُوِيَ عَن
حَمَّاد مَرْفُوعا، وَالْمَوْقُوف أصح، وَعَن سعيد بن
جُبَير: القنطار مائَة ألف دِينَار. قَوْله: {المقنطرة}
مَبْنِيَّة من لفظ القنطار للتوكيد كَقَوْلِهِم: ألف
مؤلفة، وبدرة مبدرة. قَوْله: {وَالْخَيْل المسومة} أَي:
المعلمة {والأنعام} الْأزْوَاج الثَّمَانِية. قَوْله:
{والحرث} بِمَعْنى الْأَرَاضِي المتخدة للغراس والزراعة،
وروى أَحْمد من حَدِيث سُوَيْد بن هُبَيْرَة عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ (خير مَال امرىء مهرَة
مأمورة أَو سكَّة مأبورة) . الْمَأْمُورَة الْكَثِيرَة
النَّسْل، وَالسِّكَّة النخيل الْمُصْطَفّ، والمأبورة
الملقحة. قَوْله: {ذَلِك} أَي: الْمَذْكُور {مَتَاع
الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: إِنَّمَا هَذِه زهرَة
الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا الفانية الزائلة. قَوْله:
{وَالله عِنْده حسن المآب} أَي: حسن الْمرجع وَالثَّوَاب.
قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ! إنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إلاّ أنْ
نَفْرَحَ بِما زَيَّنْتَهُ لنا، اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ
أنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقَّهِ.
أَي: قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي
الْآيَة الْمَذْكُورَة: إِنَّا لَا نستطيع أَي: لَا نقدر
إِلَّا أَن نفرح بِمَا زينته لنا، أَي: بِمَا حصل لنا
مِمَّا فِي آيَة {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من
النِّسَاء} ثمَّ لما رأى أَن فتْنَة المَال والغنى مسلطة
على من فَتحه الله عَلَيْهِ لتزيين الله تَعَالَى لَهُ
ولشهوات الدُّنْيَا فِي نفوس الْعباد، دَعَا الله تَعَالَى
بقوله: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك أَن أنفقهُ فِي حَقه،
لِأَن من أَخذ المَال من حَقه وَوَضعه فِي حَقه فقد سلم من
فتنته، وَهَذَا الْأَثر وَصله الدَّارَقُطْنِيّ فِي (غرائب
مَالك) من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن
يحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ: أَن عمر بن الْخطاب،
أُتِي بِمَال من الْمشرق يُقَال لَهُ: نفل كسْرَى، فَأمر
بِهِ فصُب وغُطي، ثمَّ دَعَا النَّاس فَاجْتمعُوا، ثمَّ
أَمر بِهِ فكُشف عَنهُ فَإِذا هُوَ حلي كثير وجواهر ومتاع،
فَبكى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَحمد الله عز وَجل،
فَقَالُوا: مَا يبكيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ هَذِه
غَنَائِم غنمها الله لنا ونزعها من أَهلهَا. فَقَالَ: مَا
فتح الله من هَذَا على قوم إلاَّ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ
وَاسْتَحَلُّوا حرمتهم، قَالَ: فَحَدثني زيد بن أسلم أَنه
بَقِي من ذَلِك المَال مناطق وخواتم، فَرفع فَقَالَ لَهُ
عبد الله بن أَرقم: حَتَّى مَتى تحبسه لَا تقسمه؟ قَالَ:
بلَى إِذا رَأَيْتنِي فَارغًا فاذني بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ
فَارغًا بسط شَيْئا فِي حش نَخْلَة ثمَّ جَاءَ بِهِ فِي
مكتل فَصَبَّهُ فَكَأَنَّهُ استكثره، ثمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ أَنْت قلت: {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} ...
الْآيَة حَتَّى فرغ مِنْهَا، ثمَّ قَالَ: لَا نستطيع ألاَّ
أَن نحب مَا زينت لنا، فقني شَره وارزقني أَن أنفقهُ فِي
حَقك، فَمَا قَامَ حَتَّى مَا بَقِي مِنْهُ شَيْء، وَهَذَا
التَّعْلِيق قد سقط فِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي.
(23/48)
1446 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله
حدّثنا سُفْيانُ، قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ:
أَخْبرنِي عُرْوَةُ وسَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ عَنْ حَكِيمِ
بنِ حِزَامٍ قَالَ: سألْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فأعْطانِي، ثُمَّ سألْتُهُ فأعْطانِي، ثُمَّ
سألْتُهُ فأعْطانِي، ثُمَّ قَالَ: (هاذَا المالُ) ورُبَّما
قَالَ سُفْيان: قَالَ لي: (يَا حَكِيمُ {إنَّ هاذَا
المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ
بُورِكَ لهُ فِيهِ، ومنْ أخَذهُ بإشْرَافِ نفْسٍ لَمْ
يُبارَكْ لهُ فِيهِ، وكانَ كالَّذِي يأكُلُ وَلَا
يَشْبَعُ، واليَدُ العُلْيا خيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ
ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام، وَحَكِيم بِفَتْح
الْحَاء ابْن حزَام بِكَسْر الْحَاء وبالزاي الْخَفِيفَة
ابْن خويلد الْأَسدي.
والْحَدِيث مضى فِي الْوَصَايَا وَفِي الْخمس عَن مُحَمَّد
بن يُوسُف عَن الْأَوْزَاعِيّ. وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (وَرُبمَا قَالَ) الْقَائِل بربما هُوَ
عَليّ بن الْمَدِينِيّ رِوَايَة عَن سُفْيَان،
وَالْقَائِل: (قَالَ لي) هُوَ حَكِيم بن حزَام. يَعْنِي
قَالَ: قَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا
يظنّ سُفْيَان هُوَ الْقَائِل. بقوله: (قَالَ لي: يَا
حَكِيم) } لِأَن سُفْيَان لم يدْرك حكيماً لِأَن بَين
وَفَاة حَكِيم ومولد سُفْيَان نَحْو خمسين سنة. قَوْله:
(يَا حَكِيم) ، بِالرَّفْع بِغَيْر تَنْوِين لِأَنَّهُ
منادى مُفْرد معرفَة، وَتَفْسِير الخضرة الحلوة قد مضى عَن
قريب. قَوْله: (بإشراف نفس) الإشراف على الشَّيْء الإطلاع
عَلَيْهِ والتعرض لَهُ بِنَحْوِ بسط الْيَد. قَوْله:
(كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع) أَي: كمن بِهِ الْجُوع
الْكَاذِب، وَقد يُسمى بجوع الْكَلْب كلما ازْدَادَ أكلا
ازْدَادَ جوعا. قَوْله: (وَالْيَد الْعليا) قد مضى
الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب الاستعفاف.
21 - (بَاب مَا قدَّمَ مِنْ مالِهِ فَهْوَ لَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من قدم أَي: الْإِنْسَان
الْمُكَلف من مَاله فَهُوَ لَهُ يجد ثَوَابه يَوْم
الْقِيَامَة، وَالْمرَاد: بالتقديم صرف مَاله قبل مَوته
فِي مَوَاضِع القربات، وَهَذِه التَّرْجَمَة مَعَ حَدِيث
الْبَاب تدل على أَن إِنْفَاق المَال فِي وُجُوه الْبر
أفضل من تَركه لوَرثَته. فَإِن قلت: هَذَا يُعَارض قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسعد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
(إِنَّك أَن تذر وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تتركهم
عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس) قلت: لَا تعَارض بَينهمَا
لِأَن سَعْدا أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِمَالِه كُله فِي
مَرضه. وَكَانَ وَارثه بنته، وَلَا طَاقَة لَهَا على
الْكسْب فَأمره أَن يتَصَدَّق مِنْهُ بِثُلثِهِ وَيكون
بَاقِيه لابنته وَبَيت المَال، وَحَدِيث الْبَاب إِنَّمَا
خَاطب بِهِ أَصْحَابه فِي صحتهم وحرضهم على تَقْدِيم شَيْء
من مَالهم لينفعهم يَوْم الْقِيَامَة، وَلَيْسَ المُرَاد
مِنْهُ أَن تَقْدِيم جَمِيع مَاله عِنْد مَرضه، فَإِن
ذَلِك تَحْرِيم للْوَرَثَة وتركهم فُقَرَاء يسْأَلُون
النَّاس، وَإِنَّمَا الشَّارِع جعل لَهُ التَّصَرُّف فِي
مَاله بِالثُّلثِ فَقَط.
2446 - حدّثني عُمَرُ بنُ حَفْصِ حدّثني أبي حَدثنَا
الأعْمَش قَالَ: حدّثني إبْراهِيمُ التَّيْمِيُّ عنِ
الحارِثِ بنِ سُوَيْدٍ قَالَ عَبْدُ الله: قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أيُّكُمْ مالُ وارِثهِ أحَبُّ
إلَيْهِ مِنْ مالِهِ؟) . قَالُوا: يَا رَسُول الله! مَا
مِنَّا أحَدٌ إلاّ مالُهُ أحَبُّ إليْهِ. قَالَ: (فإنَّ
مالَهُ مَا قَدَّمَ ومالُ وارِثِهِ مَا أخَّرَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعمر بن حَفْص يروي عَن
أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن
إِبْرَاهِيم بن يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ تيم الربَاب
العابد عَن الْحَارِث بن سُوَيْد التَّيْمِيّ، وكل
هَؤُلَاءِ كوفيون، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَصَايَا عَن هناد
بن السّري.
قَوْله: (مَا قدم) أَي: على مَوته بِأَن صرفه فِي حَيَاته
فِي مصارف الْخَيْر. قَوْله: (وَمَال وَارثه مَا أخر) أَي:
مَا أَخّرهُ من المَال الَّذِي يتْركهُ وَلَا يتَصَدَّق
مِنْهُ حَتَّى يَمُوت.
31 - (بابُ المكْثِرُون هُم المْقِلُّونَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكرفيه: المكثرون هم المقلون كَذَا هُوَ
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: هم
الأقلون، وَوَقع فِي
(23/49)
رِوَايَة أبي ذَر: (المكثرون هم الأخسرون)
وَمَعْنَاهُ: المكثرون من المَال هم المقلون فِي الثَّوَاب
يَعْنِي كَثْرَة المَال تؤول بِصَاحِبِهِ إِلَى الإقلال من
الْحَسَنَات يَوْم الْقِيَامَة إِذا لم يُنْفِقهُ فِي
طَاعَة الله تَعَالَى، فَإِن أنفقهُ فِيهَا كَانَ غَنِيا
من الْحَسَنَات يَوْم الْقِيَامَة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَائِكَ
الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ} (هود: 51 61) [/ ح.
سيقت هَاتَانِ الْآيَتَانِ بتمامهما فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر {من كَانَ
يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا} ... الْآيَتَانِ
وَفِي رِوَايَة أبي زيد بعد قَوْله: {وَزينتهَا نوف
إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} ... الْآيَة وَمثله
للإسماعيلي، لَكِن قَالَ إِلَى قَوْله: {وباطل مَا كَانُوا
يعْملُونَ} قَوْله: {من كَانَ} . . إِلَى آخِره على عمومها
فِي الْكفَّار وفيمن يرائي بِعَمَلِهِ من الْمُسلمين،
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: الْآيَة فِيمَن عمل عملا يُرِيد
بِهِ غير الله جوزي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَعَن أنس:
هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِن أعْطوا سَائِلًا أَو وصلوا
رحما عجل لَهُم جَزَاء ذَلِك بتوسعة فِي الرزق وَصِحَّة
فِي الْبدن، وَقيل: هم الَّذين جاهدوا من الْمُنَافِقين
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَسْهم لَهُم
من الْغَنَائِم، وَقَالَ الضَّحَّاك: يَعْنِي الْمُشْركين
إِذا عمِلُوا عملا جوزوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا
أبين لقَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم
فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار} قَوْله: (نوف إِلَيْهِم
أَعْمَالهم) أَي: نوصل إِلَيْهِم أجور أَعْمَالهم كَامِلَة
وافية، وَهُوَ من التوفية، وقرىء. . يوف، بِالْيَاءِ على
أَن الْفِعْل لله، وبالياء على صِيغَة الْمَجْهُول، ويوفي
بِالتَّخْفِيفِ وَإِثْبَات الْيَاء. قَوْله: (فِيهَا) أَي:
فِي الدُّنْيَا. قَوْله: {لَا يبخسون} من البخس وَهُوَ
النَّقْص. قَوْله: (وحبط) أَي: بَطل يُقَال: حَبط عمله
يحبط، وأحبطه غَيره، وَمعنى حَبط عَمَلهم لَيْسَ لَهُم
ثَوَاب لأَنهم لم يُرِيدُوا بِهِ الْآخِرَة. قَوْله:
{وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: عَمَلهم فِي نَفسه
بَاطِل، وقرىء: وَبَطل، على الْفِعْل، وَعَن عَاصِم:
وباطلاً، بِالنّصب.
3446 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدّثنا جَرِيرٌ عنْ
عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ عنْ زَيْدِ بنِ وَهْبٍ عنْ
أبي ذَرٍّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ
اللَّيالِي فَإِذا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَمْشِي وحْدَهُ ولَيْسَ مَعَهُ إنْسانٌ قَالَ: فَظَنَنْتُ
أنَّهُ يَكْرَهُ أنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أحَدٌ، قَالَ:
فَجَعَلْتُ أمْشِي فِي ظِلِّ القمَرِ فالْتَفَتَ فَرآنِي.
فَقَالَ: (مَنْ هاذا؟) قُلْتُ: أبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي الله
فِدَاءَكَ، قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ {تَعَالَهْ) قَالَ:
فَمَشَيْتُ مَعَهُ ساعَةَ، فَقَالَ: (إنَّ المُكْثِرِينَ
هُمُ المُقِلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ مَنْ أعْطَاهُ
الله خَيْراً فَنَفَخَ فِيهِ يَمِينَهُ وشِمالَهُ وبَيْنَ
يَدَيْهِ وَوَراءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْراً) . قَالَ:
فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَة، فَقَالَ لِي: (اجْلِسْ هاهُنا)
. قَالَ: فأجْلَسَنِي فِي قاعٍ حَوْلَهُ حِجارَةٌ فَقَالَ
لِي: (إجْلِسْ هاهُنا حتَّى أرْجِعَ إلَيْكَ) قَالَ:
فانْطَلَقَ فِي الحَرَّةِ حتَّى لَا أراهُ، فَلَبِثَ
عَنِّي فأطالَ اللُّبَّثَ، ثُمَّ إنِّي سَمِعْتُهُ وهْوَ
مُقْبِلٌ وهْوَ يَقُولُ: (وَإنْ سَرَقَ وإنْ زَنَى) قَالَ:
فَلمَّا جاءَ لَمْ أصْبِرْ حتَّى قُلْتُ: يَا نَبِيَّ
الله} جَعَلَنِي الله فِداءَكَ {مَنْ تُكَلِّمُ فِي جانِب
الحَرَّةِ؟ مَا سَمعْتُ أحَداً يَرْجِعُ إلَيْكَ شَيْئاً.
قَالَ: (ذالِكَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السلامُ، عَرَضَ لِي
فِي جانِبِ الحَرَّةِ قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَّكَ أنَّه
مَنْ ماتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّه شَيْئاً دَخَلَ الجنَّةَ.
قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وإنْ سَرَقَ وإنْ زَنَى؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وإنْ سَرَقَ وإنْ زَنَى؟ قَالَ:
نَعْمَ} وإنْ شَرِبَ الخَمْرَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والمطابقة أَيْضا بَين
الحَدِيث وَالْآيَة الْمَذْكُورَة هِيَ أَن الْوَعيد
الَّذِي فِيهَا مَحْمُول على التَّأْقِيت فِي حق من وَقع
لَهُ ذَلِك من الْمُسلمين لَا على التَّأْبِيد لدلَالَة
الحَدِيث على أَن المرتكب لجنس الْكَبِيرَة من الْمُسلمين
يدْخل الْجنَّة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي أَنه يعذب قبل
ذَلِك، كَمَا أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يَنْفِي أَنه قد
يدْخل الْجنَّة بعد التعذيب على مَعْصِيّة الزِّنَا.
(23/50)
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد وَعبد
الْعَزِيز بن رفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة الْأَسدي
الْمَكِّيّ سكن الْكُوفَة وَهُوَ من صغَار التَّابِعين سمع
أنس بن مَالك، وَزيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي
الْكُوفِي من قضاعة خرج إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَقبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي
الطَّرِيق وَأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ اسْمه فِي الْأَشْهر
جُنْدُب بن جُنَادَة.
والْحَدِيث بِزِيَادَة ونقصان مضى فِي مَوَاضِع كَثِيرَة
فِي الاستقراض وَفِي الاسْتِئْذَان. وَأخرجه مُسلم فِي
الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ، فِي
الْإِيمَان عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَبدة بن عبد الرَّحْمَن
وَغَيره.
قَوْله: (خرجت لَيْلَة من اللَّيَالِي) وَفِي رِوَايَة
الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب عَنهُ: كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حرَّة الْمَدِينَة
عشَاء، فَبين فِيهِ الْمَكَان وَالزَّمَان. قَوْله: (فِي
ظلّ الْقَمَر) أَي: فِي مَكَان لَيْسَ للقمر فِيهِ ضوء
ليخفي نَفسه، وَإِنَّمَا اسْتمرّ يمشي لاحْتِمَال أَن
يطْرَأ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَاجَة فَيكون
قَرِيبا مِنْهُ. قَوْله: (قلت: أَبُو ذَر) أَي: أَنا أَبُو
ذَر. قَوْله: (تعاله) أَمر بهاء السكت هَكَذَا فِي
رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (تعال) ، قَالَ
ابْن التِّين: فَائِدَة هَاء السكت أَن لَا يقف على ساكنين
وَهُوَ غير مطرد. قَوْله: (إِن المكثرين هم المقلون) قد مر
الْكَلَام فِيهِ آنِفا. قَوْله: (خيرا) . أَي: مَالا قَالَ
تَعَالَى: {إِن ترك خيرا} قَوْله: (فنفح فِيهِ) بِالْحَاء
الْمُهْملَة يُقَال: نفح فلَان فلَانا بِشَيْء أَي:
أعطَاهُ، والنفحة الدفعة. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) :
نفح بالعطاء أعْطى، وَالله نفاح بالخيرات، وَقَالَ صَاحب
(الْعين) : نفح بِالْمَالِ وَالسيف، ونفحت الدَّابَّة رمت
بحافرها الأَرْض. قَوْله: (ووراءه) ، قيل: مَعْنَاهُ يُوصي
فِيهِ ويبقيه لوَارِثه، وَحبس بحبسه. قَوْله: (فِي قاع)
هُوَ أَرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عَنْهَا الْجبَال.
قَوْله: (فِي الْحرَّة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد الرَّاء، أَرض ذَات حِجَارَة سود كَأَنَّهَا
احترقت بالنَّار. قَوْله: (وَهُوَ مقبل) ، الْوَاو فِيهِ
للْحَال. قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) ، كَذَلِك الْوَاو فِيهِ
للْحَال. قَوْله: (دخل الْجنَّة) أَي: كَانَ مصيره
إِلَيْهَا وَإِن ناله عُقُوبَة جمعا بَينه وَبَين مثل
{وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم} من
الْآيَات الموعدة للفساق. قَوْله: (وَإِن سرق وَإِن زنى) ،
قيل: يحْتَمل مَعْنيين، أَحدهمَا: أَن هَذِه الْأمة يغْفر
لجميعها. وَالثَّانِي: أَن يكون يدْخل الْجنَّة من عُوقِبَ
بِبَعْض ذنُوبه فَأدْخل النَّار ثمَّ أخرج مِنْهَا بذنوبه.
قَالَ النَّضْرُ: أخبرنَا شُعْبَةُ وحدّثنا حَبيبُ بنُ أبي
ثابِتٍ والأعْمَشُ وعَبْدُ العَزِيزِ بنُ رُفَيْعٍ حدّثنا
زَيْدُ بنُ وَهْبٍ بِهاذَا.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل ... إِلَى آخِره. قَوْله:
(بِهَذَا) أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، قيل: الْغَرَض
بِهَذَا التَّعْلِيق تَصْرِيح الشُّيُوخ الثَّلَاثَة
الْمَذْكُورين بِأَن زيد بن وهب حَدثهمْ، قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي حَدِيث شُعْبَة قصَّة
المكثرين والمقلين إِنَّمَا فِيهِ: (من مَاتَ لَا يُشْرك
بِهِ شَيْئا) ، وَالْعجب من أبي عبد الله كَيفَ أطلق هَذَا
الْكَلَام، أخبرنيه الْحسن حَدثنَا حميد يَعْنِي: ابْن
زَنْجوَيْه، حَدثنَا النَّضر بن شُمَيْل أَنا شُعْبَة
حَدثنَا حبيب بن أبي ثَابت وَالْأَعْمَش وَعبد الْعَزِيز
بن رفيع قَالُوا: سمعنَا زيد بن وهب عَن أبي ذَر، قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام أَتَانِي فبشرني أَن من مَاتَ لَا
يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة.
قلت: وَإِن زنى وسرق؟ قَالَ: وَإِن زنى وسرق) . قَالَ
سُلَيْمَان يَعْنِي: الْأَعْمَش، وَإِنَّمَا يروي هَذَا
الحَدِيث عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: أما أَنا فَإِنَّمَا
سمعته من أبي ذَر أخبرنيه يحيى بن مُحَمَّد الحنائي
حَدثنَا عبيد الله بن معَاذ حَدثنَا أبي حَدثنَا شُعْبَة
عَن حبيب وبلال وَالْأَعْمَش وَعبد الْعَزِيز الْمَكِّيّ
سمعُوا زيد بن وهب عَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث. قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُد عَن شُعْبَة فَذكرهمْ وَلم يذكر بِلَالًا وَلم يزدْ
على هَذِه الْقِصَّة: أخبرنيه الْهَيْثَم الدوري حَدثنَا
زيد بن أخزم حَدثنَا أَبُو دَاوُد حَدثنَا شُعْبَة عَن
بِلَال وَهُوَ أبي مرداس وَيُقَال ابْن معَاذ تفرد بِهَذَا
الحَدِيث عَنهُ، وَرَوَاهُ شُعْبَة أَيْضا عَن الْمَعْرُور
بن سُوَيْد سمع أَبَا ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مثل قصَّة: من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا،
أخبرنيه الحنائي حَدثنَا عبيد الله حَدثنَا أبي حَدثنَا
شُعْبَة، وَقَالَ بَعضهم: وَقد تبع الْإِسْمَاعِيلِيّ على
أعتراضه الْمَذْكُور جمَاعَة. مِنْهُم: مغلطاي وَمن بعده.
قلت: فِيهِ إساءة الْأَدَب حَيْثُ قَالَ: مغلطاي، بطرِيق
الاستهتار وَأَرَادَ بقوله: وَمن بعده. صَاحب
(التَّوْضِيح) الشَّيْخ سراج الدّين بن الملقن وَهُوَ
شَيْخه، والكرماني أَيْضا، ثمَّ تصدى للجواب عَن
الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور بقوله: الْجَواب عَن البُخَارِيّ
وَاضح على طَريقَة أهل الحَدِيث، لِأَن مُرَاده أصل
الحَدِيث
(23/51)
فَإِن الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الأَصْل قد اشْتَمَل على
ثَلَاثَة أَشْيَاء فَيجوز إِطْلَاق الحَدِيث على كل وَاحِد
من الثَّلَاثَة إِذا أفرد، فَقَوْل البُخَارِيّ: بِهَذَا
أَي: بِأَصْل الحَدِيث لَا خُصُوص اللَّفْظ المساق انْتهى.
قلت: الِاعْتِرَاض باقٍ على مَا لَا يخفى لِأَن
الْإِطْلَاق فِي مَوضِع التَّقْيِيد غير جَائِز. وَقَوله:
بِهَذَا، أَي: بِأَصْل الحَدِيث ... إِلَى آخِره غير سديد
لِأَن الْإِشَارَة بِلَفْظ: هَذَا، تكون للحاضر، والحاضر
هُوَ اللَّفْظ المساق، وَالْمرَاد من ثَلَاثَة أَشْيَاء
ثَلَاثَة أَحَادِيث. الأول: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: مَا يسرني أَن عِنْدِي مثل أحد هَذَا ذَهَبا.
الثَّانِي: حَدِيث: (المكثرين والمقلين) وَالثَّالِث:
حَدِيث: (من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل
الْجنَّة) .
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: حَدِيث أبي صالحٍ عنْ أبي
الدَّرْداءِ مُرْسَلٌ لَا يَصحُّ، إِنَّمَا أرَدْنا
لِلْمَعْرِفَةِ، والصَّحِيحُ حَدِيثُ أبي ذَرٍّ، قِيلَ
لأبي عَبْدِ الله: حَدِيثُ عَطاءِ بنِ يَسار عنْ أبي
الدَّرْداءِ؟ قَالَ: مُرْسَلٌ أيْضاً لَا يَصِحُّ
والصَّحيحُ حَديثُ أبي ذرٍّ. وَقَالَ: اضْرِبُوا عَلى
حَدِيثِ أبي الدَّرْدَاءِ هاذا، إِذا ماتَ قَالَ: لَا
إلاهَ إلاَّ الله، عِنْدَ المَوْتِ.
هَذَا: أَعنِي، قَالَ أَبُو عبد الله ... إِلَى آخِره لَا
يُوجد فِي كثير من النّسخ. وَأَبُو عبد الله هُوَ
البُخَارِيّ. قَوْله: (حَدِيث أبي صَالح) هُوَ ذكْوَان
الزيات عَن أبي الدَّرْدَاء عُوَيْمِر بن مَالك مُرْسل لَا
يَصح، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ نظر من حَيْثُ
إِن النَّسَائِيّ رَوَاهُ بِسَنَد صَحِيح على شَرط أبي
الْحجَّاج الْقشيرِي، فَقَالَ: حَدثنِي قُتَيْبَة عَن عبد
الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْحسن بن عبيد الله عَن زيد بن
وهب وَعَن عَمْرو بن هِشَام عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن
ابْن إِسْحَاق عَن عِيسَى بن مَالك عَن زيد، عَن أبي
الدَّرْدَاء، قَوْله: (إِنَّمَا أردنَا للمعرفة) أَي:
لنعرف أَنه قد روى عَنهُ لَا لِأَنَّهُ يحْتَج بِهِ
قَوْله: (قيل لأبي عبد الله هُوَ البُخَارِيّ أَيْضا.
قَوْله: حَدِيث عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين عَن أبي
الدَّرْدَاء، قَالَ: مُرْسل أَي: هُوَ مُرْسل أَيْضا لَا
يَصح. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فِيهِ نظر أَيْضا،
لِأَن الطَّبَرَانِيّ قد أخرجه بِإِسْنَاد جيد: حَدثنَا
يحيى بن أَيُّوب العلاف حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم
حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي
حَرْمَلَة عَن عَطاء بن يسَار، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو
الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ...
فَذكره قَوْله: هَذَا، أَي: هَذَا الَّذِي رُوِيَ عَن أبي
الدَّرْدَاء، وَهُوَ قَوْله: (من مَاتَ لَا يُشْرك
بِاللَّه شَيْئا) فِي حق من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله،
عِنْد الْمَوْت. |