عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 23 - (بابُ مَا يُتَّقى مِنْ مُحَقَّراتِ
الذُّنُوبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يتقى أَي: مَا يجْتَنب من
محقرات الذُّنُوب، وَجَاء هَذَا اللَّفْظ فِي حَدِيث أخرجه
النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَة! إياك
ومحقرات الذُّنُوب فَإِن لَهَا من الله طَالبا) . وَصَححهُ
ابْن حبَان، والمحقرات جمع محقرة وَهِي الذُّنُوب الَّتِي
يحتقرها فاعلها.
2946 - حدّثنا أبُو الوَلِيد حدّثنا مَهْدِيُّ عنْ
غَيْلانَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إنَّكُمْ
لَتَعْمَلُونَ أعْمالاً هِيَ أدَقُّ فِي أعْيُنِكُمْ مِنَ
الشَّعَرِ إنْ كُنَّا نَعدُّ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم المُوبِقاتِ.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله: يَعْنِي بِذالِكَ المُهْلِكاتِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث. وَأَبُو
الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، ومهدي
هُوَ ابْن مَيْمُون الْأَزْدِيّ، وغيلان بِفَتْح
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن جرير،
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ غيلَان بن جَامع، وَهُوَ غلط صَرِيح
لِأَن غيلَان بن جرير من أهل الْبَصْرَة، وغيلان بن جَامع
كُوفِي قَاضِي الْكُوفَة.
وَرِجَال السَّنَد كلهم بصريون. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (لتعملون) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله:
(هِيَ أدق) أفعل التَّفْضِيل من الدقة بِكَسْر الدَّال،
وَأَرَادَ بِهِ أَنهم كَانُوا يحقرونها ويهونونها. قَوْله:
(إِن كُنَّا تعدها) إِن مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَجَاز
اسْتِعْمَالهَا بِدُونِ اللَّام الفارقة بَينهَا وَبَين
النافية عِنْد الْأَمْن من الالتباس، وتعدها، بِدُونِ
اللَّام فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي، وَعند الْأَكْثَرين: لنعدها، بلام
التَّأْكِيد وَأَيْضًا بالضمير وَعِنْدَهُمَا بِحَذْف
الضَّمِير أَيْضا، وَلَفْظهمَا: إِن كُنَّا نعد. قَوْله:
(على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: فِي
زَمَنه وأيامه. قَوْله: (الموبقات)
(23/80)
أَي: المهلكات هَكَذَا فسره البُخَارِيّ
على مَا يَجِيء الْآن، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: من
الموبقات، وَسُقُوط كلمة: من، فِي رِوَايَة السَّرخسِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه،
(يَعْنِي بذلك) أَي بِلَفْظ الموبقات يَعْنِي أَرَادَ
بهَا: المهلكات، وَهِي جمع موبقة أَي: مهلكة، وثلاثيه: وبق
يبْق فَهُوَ وبق إِذا هلك، وأوبقه غَيره فَهُوَ موبق،
فالفاعل بِكَسْر الْبَاء وَالْمَفْعُول بِفَتْحِهَا وَمعنى
الحَدِيث رَاجع إِلَى قَوْله عز وَجل: {وتحسبونه هينا
وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} (النُّور: 51) وَكَانَت
الصَّحَابَة يعدون الصَّغَائِر من الموبقات لشدَّة خشيتهم
لله وَلم تكن لَهُم كَبَائِر، والمحقرات، إِذا كثرت صَارَت
كَبَائِر للإصرار عَلَيْهَا.
33 - (بابٌ الأعْمالُ بِالخَواتِيمِ وَمَا يخافُ مِنْها)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ الْأَعْمَال بالخواتيم أَي:
بالعواقب، وَهُوَ جمع خَاتِمَة. وَفِي (التَّوْضِيح) :
يُقَال: خَاتم بِفَتْح التَّاء وَكسرهَا، وعد اللُّغَات
السِّت الَّتِي فِيهِ ثمَّ قَالَ: وَالْجمع الخواتيم.
قلت: هَذَا تصرف عَجِيب فَإِنَّهُ ظن أَن الخواتيم هُنَا
جمع الْخَاتم الَّذِي يلبس، وَلَيْسَ لهَذَا هُنَا دخل،
وَإِنَّمَا المُرَاد بالخواتيم الْأَعْمَال الَّتِي يخْتم
بهَا عمل الرجل عِنْد مَوته.
3946 - حدّثنا عَلِيُّ بن عَيَّاشٍ حدّثنا أبُو غَسَّانَ
قَالَ: حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِيِّ قَالَ: نَظَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى رَجلٍ يُقاتِلُ المُشْرِكِينَ، وكانَ مِنْ
أعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَناءً عَنْهُمْ، فَقَالَ: (مَنْ
أحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أهْلِ النَّارِ
فَلْيَنْظرْ إِلَى هاذا) فَتَبَعهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ
عَلى ذالِكَ حتَّى جُرِحَ فاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، وَقَالَ
بِذُبابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ
فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْه،
فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّ العَبْدَ
لَيَعْمَلُ فِيما يَرى النَّاسُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ
وإنهُ لِمَنْ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ فِيمَا يَرى
النَّاسُ عَمَلَ أهْلِ النَّارِ وهْوَ مِنْ أهْلِ الجنةِ،
وإنَّما الأعْمالُ بِخَواتِيمها) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَعلي بن عَيَّاش
بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة
الْأَلْهَانِي بالنُّون الْحِمصِي، وَأَبُو غَسَّان
بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين
الْمُهْملَة مُحَمَّد بن مطرف، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة ابْن دِينَار.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد مطولا فِي: بَاب لَا يُقَال:
فلَان شَهِيد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة عَن
يَعْقُوب بن عبد الرحمان عَن أبي حَازِم ... إِلَى آخِره،
وَمضى الْكَلَام فِيهِ. وَمضى أَيْضا فِي الْمَغَازِي،
وَسَيَأْتِي فِي الْقدر أَيْضا.
قَوْله: (إِلَى رجل) اسْمه قزمان بِضَم الْقَاف وبالزاي
... قَوْله: (غناء) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالمد
يُقَال: غنى عَن فلَان غناء نَاب عَنهُ، وأجرى مجْرَاه.
قَوْله: (وَقَالَ بذبابة سَيْفه) يَعْنِي: طعن بذبابة
سَيْفه، وَهُوَ حَده وطرفه بَين ثدييه، وَقد تقدم فِيمَا
مضى: بنصل سَيْفه، فَلَا مُنَافَاة لِإِمْكَان الْجمع
بَينهمَا. قَوْله: (فتحامل عَلَيْهِ) أَي: اتكأ عَلَيْهِ
بقوته.
43 - (بابٌ العُزْلَةُ راحَةٌ مِنْ خُلاَّطِ السُّوءِ)
أَي: هَذَا بَاب مترجم بترجمة هِيَ الْعُزْلَة أَي:
الاعتزال والانفراد رَاحَة من خلاط السوء بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام جمع خليط وَهُوَ جمع
غَرِيب وخليط الرجل الَّذِي يخالطه ويعاشره يَسْتَوِي
فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع وَيجمع الخليط أَيْضا على خالط
بِضَمَّتَيْنِ، ذكره الصغاني فِي اللّبَاب، وَقَالَ
بَعضهم: ذكره الْكرْمَانِي بِلَفْظ: خلط بِغَيْر ألف،
يَعْنِي مثل مَا ذكره الصغاني.
قلت: لم يذكر الْكرْمَانِي هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ:
خلاط بِضَم الْخَاء وَتَشْديد اللَّام جمع خليط وبكسرها
وَالتَّخْفِيف مصدر أَي: المخالطة، هَذَا الَّذِي ذكره
الْكرْمَانِي وَلم يرد بقوله: وبكسرها ... إِلَى آخِره
أَنه التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا لزِيَادَة
الْفَائِدَة، على أَنه يجوز أَن يكون أَشَارَ بِهِ إِلَى
جَوَاز الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْله: من خلاط السوء.
أَحدهمَا: أَن يكون جمعا وَالْآخر: إِن يكون مصدرا من خالط
يخالط مُخَالطَة وخلاطاً. قَوْله: (رَاحَة، أَصله رَوْحَة
قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، قَالَ
الْجَوْهَرِي: الرّوح والراحة من الاسْتِرَاحَة وَهُوَ
سُكُون النَّفس مَعَ سَعَة من غير تنكد بِشَيْء، وَهَذِه
مَادَّة وَاسِعَة تسْتَعْمل لمعان كَثِيرَة.
وَفِي الْعُزْلَة عَن النَّاس فَوَائِد كَثِيرَة وأقلها
الْبعد من شرِّهم وَقد قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: وجدت
النَّاس أكبر ثقلة، وروى ابْن الْمُبَارك: أخبرنَا
(23/81)
شُعْبَة عَن حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن
حَفْص بن عَاصِم: أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: خُذُوا حظكم من الْعُزْلَة، وَفِي رِوَايَة
قَالَ عمر: الْعُزْلَة رَاحَة من خليط السوء، وروى
الطَّحَاوِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: أَلا أخْبركُم بِخَير النَّاس منزلا؟ قُلْنَا: بلَى
يَا رَسُول الله {قَالَ: رجل أَخذ بعنان فرسه فِي سَبِيل
الله} وأخبركم بِالَّذِي يَلِيهِ؟ رجل معتزل فِي شعب يُقيم
الصَّلَاة ويؤتي الزَّكَاة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قَالَ
قَائِل: أَيْن مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، من قَوْله: الْمُسلم الَّذِي يخالط النَّاس ويصبر
على أذاهم خير من الْمُسلم الَّذِي لَا يخالط النَّاس
وَلَا يصبر على أذاهم؟ وَيُجَاب بِأَنَّهُ لَا تضَاد
بَينهمَا لِأَن قَوْله: رجل أَخذ بعنان فرسه، خرج مخرج
الْعُمُوم، وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص فَالْمَعْنى فِيهِ
أَنه من خير النَّاس، كَمَا ذكره غَيره بِمثل ذَلِك،
فَقَالَ: خير النَّاس من طَال عمره وَحسن عمله، أَو يكون
المُرَاد بتفضيله فِي وَقت من الْأَوْقَات لَا فِي كل
الْأَوْقَات.
4946 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدثنِي عَطاءُ بنُ يَزِيدَ أنَّ
أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ: حَدثنَا الأوْزاعِيُّ
حَدثنَا الزُّهْرِيُّ عنْ عَطاءٍ ابنِ يَزِيدَ اللّيْثِيِّ
عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: جاءَ أعْرابِيٌّ إِلَى
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رسولَ الله!
أيُّ الناسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (رَجلٌ جاهَدَ بِنَفْسِهِ
ومالِهِ، ورَجْلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشّعابِ يَعْبُدُ
رَبَّهُ ويَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) . (انْظُر
الحَدِيث 6872) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَرجل فِي شعب)
إِلَى آخِره.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعَطَاء بن يزِيد من
الزِّيَادَة وَاسم أبي سعيد سعد بن مَالك،
وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل الْجِهَاد فِي: بَاب أفضل
النَّاس مُؤمن مُجَاهِد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي
الْيَمَان ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَقَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف) هُوَ الْفرْيَابِيّ
قرنه هُنَا بِرِوَايَة أبي الْيَمَان وأفرد أَبَا
الْيَمَان فِي الْجِهَاد، وَرَوَاهُ مُسلم عَن عبيد الله
بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف.
قَوْله: (أَعْرَابِي) لم يدر اسْمه. قَوْله: (أَي النَّاس
خير؟) وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة بِلَفْظ: أفضل.
قَوْله: (رجل جَاهد) أَي: خير النَّاس رجل جَاهد، وَلَا
يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خَيركُمْ من
تعلم الْقُرْآن وَعلمه) ، وَمثل ذَلِك، لِأَن اخْتِلَاف
هَذَا بِحَسب اخْتِلَاف الْأَوْقَات والأقوام
وَالْأَحْوَال. قَوْله: (فِي شعب) ، بِكَسْر الشين
الْمُعْجَمَة: الطَّرِيق فِي الْجَبَل ومسيل المَاء وَمَا
انفرج بَين الجبلين. قَوْله: (ويدع) أَي: يتْرك.
تابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وسُلَيْمانُ بنُ كَثِيرٍ
والنُّعْمانُ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع شعيباً فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ
الزبيدِيّ، وَكَذَا تَابع الْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَته
عَن الزُّهْرِيّ، والزبيدي هُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد
السَّامِي نِسْبَة إِلَى زبيد بِضَم الزاء وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ
مُنَبّه بن صَعب وَهُوَ زبيد الْأَكْبَر، وَإِلَيْهِ يرجع
قبائل زبيد، وروى مُتَابَعَته مُسلم عَن مَنْصُور بن أبي
مُزَاحم: حَدثنَا يحيى بن حَمْزَة عَن الزبيدِيّ. قَوْله:
وَسليمَان، بِالرَّفْع عطف على: الزبيدِيّ، وروى
مُتَابَعَته أَبُو دَاوُد عَن أبي الْوَلِيد
الطَّيَالِسِيّ عَن سُلَيْمَان بِهِ. قَوْله: والنعمان
هُوَ ابْن رَاشد الْجَزرِي وروى مُتَابَعَته أَحْمد عَن
وهب بن جرير: حَدثنَا أبي سَمِعت النُّعْمَان بن رَاشد
بِهِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَن الزُّهْريِّ عنْ عَطاءِ أوْ
عُبَيْدِ الله عنْ أبي سَعِيدٍ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم.
أَي قَالَ معمر بن رَاشد: عَن مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد أَو عبيد الله بِالشَّكِّ،
وَهُوَ عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود
الْهُذلِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَحْمد
عَن عبد الرَّزَّاق، وَقَالَ فِي سِيَاقه: معمر، يشك،
وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي حميد: حَدثنَا عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن مُحَمَّد عَن عَطاء، بِغَيْر شكّ.
(23/82)
وَقَالَ يُونُسُ وابنُ مُسافِرِ ويَحْيَاى
بنُ سَعِيدٍ: عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عَطاءٍ عنْ بَعْضِ
أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
يُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن مُسَافر أَبُو
خَالِد، وَيُقَال: أَبُو الْوَلِيد التَّمِيمِي الْمصْرِيّ
وَالِي مصر لهشام سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وعزل عَنْهَا
سنة تسع عشرَة وَمِائَة، وَهُوَ مولى اللَّيْث بن سعد،
وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ النجاري الْمَدِينِيّ قَاضِي
الْمَدِينَة، رأى أنس بن مَالك. وَتَعْلِيق يُونُس أخرجه
عبد الله بن وهب فِي (جَامعه) ، وَتَعْلِيق ابْن مُسَافر
أخرجه الذهلي فِي (الزهريات) : من طَرِيق اللَّيْث ابْن
سعد عَنهُ. وَتَعْلِيق يحيى أخرجه الذهلي الْمَذْكُور من
طَرِيق سُلَيْمَان بن بِلَال عَنهُ. قَوْله: عَن بعض
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ
الْكرْمَانِي: لَعَلَّه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.
5946 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا المَاجشُونُ عنْ
عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي صَعْصَعَة عنْ أبِيهِ عنْ أبي
سَعِيدٍ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (يَأْتِي عَلى النَّاس
زَمانٌ خَيْرُ مالِ الرَّجُلِ المُسْلِمِ الغَنَمُ
يَتْبَعُ بهَا شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ يَفِرُّ
بِدِينهِ منَ الفِتْنَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ. وَأَبُو نعيم
هُوَ الْفضل بن دُكَيْن وَهُوَ الْفضل بن عَمْرو بن
حَمَّاد الْأَحول التَّيْمِيّ الْكُوفِي. ودكين لقب.
عَمْرو مَاتَ سنة ثَمَان أَو تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ،
والماجشون بِكَسْر الْجِيم وَضم الشين الْمُعْجَمَة هُوَ
عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة، وَعبد
الرَّحْمَن بن أبي صعصعة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله
بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، يروي عَن أَبِيه، وَفِي
رِوَايَة يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن عبد الرَّحْمَن
هَذَا: أَنه سمع أَبَاهُ أخرجه أَحْمد والإسماعيلي
وَأَخُوهُ عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن عبد الله انْفَرد
البُخَارِيّ بهما وبأبيهما.
والْحَدِيث مضى فِي الْإِيمَان فِي: بَاب من الدّين
الْفِرَار من الْفِتَن، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد
الله بن مسلمة عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور،
وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (شعف الْجبَال) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
وَالْعين الْمُهْملَة جمع شعفة، وَهِي رَأس الْجَبَل.
قَوْله: (ومواقع الْقطر) يَعْنِي: بطُون الأودية.
وَفِيه: أَن اعتزال النَّاس عِنْد ظُهُور الْفِتَن والهرب
عَنْهُم أسلم للدّين من مخالطتهم.
53 - (بابُ رَفْعِ الأمانَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان رفع الْأَمَانَة من بَين
النَّاس. وَالْمرَاد برفعها ذهابها بِحَيْثُ إِن لَا يُوجد
الْأمين، وَالْأَمَانَة ضد الْخِيَانَة.
6946 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ حدّثنا فُلَيْحُ بنُ
سُلَيْمانَ حدّثنا هِلالُ بنُ عَلِيٍّ عنْ عَطاءٍ بن
يَسارٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا ضُيِّعَتِ
الأمانَةُ فانْتَظِر السَّاعَةَ) . قَالَ: كَيْف إضاعَتُها
يَا رسولَ الله؟ قَالَ: (إِذا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى
غَيْرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ) . (انْظُر الحَدِيث
95) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (إِذا ضيعت
الْأَمَانَة) وَمُحَمّد بن سِنَان بِكَسْر السِّين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى.
والْحَدِيث قد مضى فِي أول كتاب الْعلم بِهَذَا
الْإِسْنَاد.
قَوْله: (كَيفَ إضاعتها) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ
الْأَعرَابِي، سَأَلَ: مَتى السَّاعَة؟ لِأَن أول الحَدِيث
عَن أبي هُرَيْرَة: بَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي مجْلِس يحدث الْقَوْم جَاءَ أَعْرَابِي فَقَالَ:
مَتى السَّاعَة؟ ... الحَدِيث. قَوْله: (قَالَ: إِذا
أسْند) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِذا أسْند الْأَمر إِلَى غير أَهله) وَالْمرَاد من
الْأَمر جنس الْأُمُور الَّتِي تتَعَلَّق بِالدّينِ
كالخلافة والسلطنة والإمارة وَالْقَضَاء والإفتاء، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أسْند الْأَمر، أَي: فوض المناصب إِلَى غير
مستحقيها كتفويض الْقَضَاء إِلَى غير الْعَالم
بِالْأَحْكَامِ كَمَا هُوَ فِي زَمَاننَا.
قلت: يَا لَيْت أَن يتَوَلَّى الْجَاهِل بِلَا رشوة
لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون دينا يستفتي فِيمَا يجهله،
فالمصيبة الْعُظْمَى أَن يتَوَلَّى الْجَاهِل بالرشوة،
فلعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الراشي والمرتشي
والرائش، حَيْثُ قَالَ: لعن الله الراشي ... إِلَى آخر
الحَدِيث، رَوَاهُ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَلَا
شكّ أَن من لَعنه الله لَعنه رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأعظم المصائب أَن الديار
(23/83)
المصرية الَّتِي هِيَ كرْسِي الْإِسْلَام
لَا يتَوَلَّى فِيهَا الْقُضَاة والحكام وَسَائِر أَصْحَاب
المناصب إِلَّا بالرشي والبراطيل، وَلَا يُوجد هَذَا فِي
بِلَاد الرّوم وَلَا فِي بِلَاد الْعَجم.
7946 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيانُ
حدّثنا الأعْمَشُ عنْ زَيْدِ بن وَهْبٍ حدّثنا حُذَيْفَةُ
قَالَ: حدّثنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَدِيثَيْنِ رَأيْتُ أحَدَهُما، وَأَنا أنْتَظرُ الآخَرَ.
حدّثنا: أنَّ الأمانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ
الرِّجالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا
مِنَ السُّنَّةِ، وحدّثنا عنْ رَفْعِها، قَالَ: (يَنامُ
الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمانَةُ منْ قَلْبِهِ
فَيظلُّ أثَرُها مِثْلَ أثَرِ الوكْتِ، ثُمَّ يَنامُ
النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقاى أثَرُها مِثْلَ المَجْلِ
كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ
مُنْتَبِراً ولَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ
يَتَبايَعُوَنَ فَلا يَكادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمانَةَ.
فَيُقالُ: إِن فِي بَني فُلانٍ رَجُلاً أمِيناً، ويُقالُ
لِلرَّجُلِ: مَا أعْقَلهُ وَمَا أظْرَفَهُ وَمَا
أجْلَدَهُ، وَمَا فِي قلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ
مِنْ إيمانٍ) ولقدْ أتَى عَلَيَّ زَمانٌ وَمَا أُبالي
أيَّكُمْ بايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِماً رَدَّهُ
عَلَيَّ الإسْلامُ، وإنْ كَانَ نَصْرانِيًّا رَدَّهُ
عَلَيَّ ساعِيهِ، فأمَّا اليَوْمَ، فَما كُنْتُ أُبايعُ
إلاَّ فُلاناً وفُلاناً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن
أبي بكر وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن
هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن
مُحَمَّد عَن وَكِيع بِهِ.
قَوْله: (حديثين) أَي: فِي بَاب الْأَمَانَة. أَحدهمَا:
فِي نزُول الْأَمَانَة. وَالْآخر: فِي رَفعهَا قَوْله:
(حَدثنَا) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَوْله: (فِي جذر قُلُوب الرِّجَال) بِفَتْح الْجِيم:
وَكسرهَا وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الأَصْل
فِي كل شَيْء. قَالَه أَبُو عبيد، وَقَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: الجذر أصل الْحسب وَالنّسب، وأصل
الشَّجَرَة. قَوْله: (ثمَّ علمُوا) أَي: بعد نُزُولهَا فِي
قُلُوب الرِّجَال بالفطرة علموها من الْقُرْآن. قَالَ الله
تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَوَات
وَالْأَرْض} (الْأَحْزَاب: 27) الْآيَة. قَالَ ابْن
عَبَّاس: هِيَ الْفَرَائِض الَّتِي على الْعباد، وَقيل:
هِيَ مَا أمروا بِهِ ونهوا عَنهُ، وَقيل: هِيَ الطَّاعَة،
نَقله الواحدي عَن أَكثر الْمُفَسّرين. قَوْله: (ثمَّ
علمُوا من السّنة) أَي: سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الْأَمَانَة كَانَت لَهُم
بِحَسب الْفطْرَة وحصلت لَهُم بِالْكَسْبِ أَيْضا، بِسَبَب
الشَّرِيعَة. قَوْله: (وَحدثنَا) أَي: رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَن رَفعهَا) أَي: عَن رفع
الْأَمَانَة. قَوْله: (ينَام الرجل) إِلَى آخِره بَيَان
رَفعهَا وَهُوَ أَنه (ينَام نومَة فتقبض الْأَمَانَة من
قلبه) يَعْنِي: تقبض من قوم ثمَّ من قوم ثمَّ شَيْئا بعد
شَيْء فِي وَقت بعد وَقت على قدر فَسَاد الدّين. قَوْله:
(فيظل أَثَرهَا) أَي: فَيصير أَثَرهَا. (مثل أثر الوكت)
بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْكَاف وبالتاء الْمُثَنَّاة
وَهُوَ أثر النَّار وَنَحْوه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
الوكتة الْأَثر فِي الشَّيْء كالنقطة من غير لَونه
وَالْجمع وكت، وَمِنْه قيل للبسر: إِذا وَقعت فِيهِ نقطة
من الإرطاب وكت، وَمِنْه حَدِيث حُذَيْفَة الْمَذْكُور،
وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي فصل الْوَاو من بَاب التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق: الوكتة كالنقطة فِي الشَّيْء،
يُقَال فِي عينه وكتة، وَضَبطه صَاحب (التَّلْوِيح) بالثاء
الْمُثَلَّثَة وَهُوَ غلط. قَوْله: (مثل المجل) بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفتحهَا هُوَ التنفط الَّذِي
يحصل فِي الْيَد من الْعَمَل بفأس وَنَحْوه، وَهُوَ مصدر:
مجلت يَده تمجل مجلاً، وَيُقَال: هُوَ أَن يكون بَين
الْجلد وَاللَّحم مَاء وَكَذَلِكَ الْمجلة، وَهُوَ من بَاب
علم يعلم ومصدره مجل بِفتْحَتَيْنِ: وَمن بَاب نصر ينصر
ومصدره مجل بِسُكُون الْجِيم ومجول، وَقَالَ الْأَصْمَعِي:
هُوَ تفتح يشبه الْبِئْر من الْعَمَل. قَوْله: (فنفط)
بِكَسْر الْفَاء قَالَ ابْن فَارس: النفط قرح يخرج فِي
الْيَد من الْعَمَل وَإِنَّمَا قَالَ: نفط مَعَ أَن
الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الرجل وَهُوَ مؤنث، وَذكره
بِاعْتِبَار الْعُضْو أَو بِاعْتِبَار لفظ الرجل. قَوْله:
(منتبرا) أَي: مرتفعاً، من الانتبار وَهُوَ الِارْتفَاع،
وَمِنْه انتبر الْأَمِير: صعد على الْمِنْبَر، وَمِنْه سمي
الْمِنْبَر منبراً لارتفاعه، وكل شَيْء ارْتَفع فقد نبره
وَقَالَ أَبُو عبيد: منتبراً أَي: متنفطاً. وَحَاصِله أَن
الْقلب يَخْلُو عَن الْأَمَانَة بِأَن تَزُول عَنهُ شَيْئا
فَشَيْئًا، فَإِذا زَالَ جُزْء مِنْهَا
(23/84)
زَالَ نورها وخلفته ظلمَة كالوكت، وَإِذا
زَالَ شَيْء آخر مِنْهُ صَار كالمجل وَهُوَ أثر حكم لَا
يكَاد يَزُول إلاَّ بعد مُدَّة، ثمَّ شبه زَوَال ذَلِك
النُّور بعد ثُبُوته فِي الْقلب وَخُرُوجه مِنْهُ واعتقابه
إِيَّاه بجمر تدحرجه على رجلك حَتَّى يُؤثر فِيهَا، ثمَّ
يَزُول الْجَمْر وَيبقى التنفط. قَوْله: (يتبايعون) أَي:
من البيع وَالشِّرَاء. قَوْله: (فَلَا يكَاد أحد) كَذَا
فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَلَا
يكَاد أحدهم. قَوْله: (أَتَى عَليّ) بتَشْديد الْيَاء
قَوْله: (وَمَا أُبَالِي أَيّكُم بَايَعت) وَقَالَ ابْن
التِّين: تَأَوَّلَه بعض النَّاس على بيعَة الْخلَافَة،
وَهُوَ خطأ، فَكيف يكون ذَلِك وَهُوَ يَقُول: لَئِن كَانَ
نَصْرَانِيّا ... إِلَى آخِره؟ وَالَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُور وَهُوَ الصَّحِيح أَنه أَرَادَ بِهِ البيع
وَالشِّرَاء المعروفين، يَعْنِي: كنت أعلم أَن الْأَمَانَة
فِي النَّاس: فَكنت أقدم على مُعَاملَة من أَثِق غير باحث
عَن حَاله وثوقاً بأمانته، فَإِنَّهُ إِن كَانَ مُسلما
فدينه يمنعهُ من الْخِيَانَة ويحمله على أَدَاء
الْأَمَانَة. وَإِن كَانَ كَافِرًا فساعيه، وَهُوَ
الْوَالِي الَّذِي يسْعَى لَهُ. أَي الْوَالِي عَلَيْهِ
يقوم بالأمانة فِي ولَايَته فينصفني ويستخرج حَقي مِنْهُ،
وكل من ولى شَيْئا على قوم فَهُوَ ساعيهم مثل سعاة
الزَّكَاة، وَأما الْيَوْم فقد ذهبت الْأَمَانَة فلست
أَثِق الْيَوْم بِأحد أأتمنه على بيع أَو شِرَاء إلاَّ
فلَانا وَفُلَانًا يَعْنِي أَفْرَاد من النَّاس قَلَائِل
أعرفهم وأثق بهم. قَوْله: (رده عَليّ الْإِسْلَام) وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بِالْإِسْلَامِ. قَوْله: (وَإِن
كَانَ نَصْرَانِيّا) ذكر النَّصْرَانِي على سَبِيل
التَّمْثِيل، وإلاَّ فاليهودي أَيْضا، كَذَلِك صرح فِي
(صَحِيح مُسلم) بهما.
8946 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن
الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي سالِمُ بنُ عَبْدِ الله
أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ:
سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ:
(إنَّما النَّاسُ كالإبِلِ المِائَةُ لَا تَكادُ تَجِدُ
فِيها راحِلَةً) .
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن توجه من حَيْثُ إِن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر فِي هَذَا الحَدِيث
بِأَن النَّاس كَثِيرُونَ والمرضي فيهم قَلِيل بِمَنْزِلَة
الرَّاحِلَة فِي الْإِبِل الْمِائَة، وَغير المرضي هم
الَّذين ضيعوا الْفَرَائِض الَّتِي عَلَيْهِم، وَقد ذكرنَا
أَن ابْن عَبَّاس فسر الْأَمَانَة بالفرائض، فَمن هَذِه
الْحَيْثِيَّة تحصل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة
والْحَدِيث.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
والْحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد من أَفْرَاده، وَفِي
رِوَايَة مُسلم من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: تَجِدُونَ
النَّاس كإبل مائَة لَا يجد الرجل فِيهَا رَاحِلَة.
وَاخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الحَدِيث فَقيل: إِنَّمَا
يُرَاد بِهِ الْقُرُون المذمومة فِي آخر الزَّمَان،
وَلذَلِك ذكره البُخَارِيّ هُنَا وَلم يرد بِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، زمن أَصْحَابه، وتابعيهم لِأَنَّهُ قد شهد
لَهُم بِالْفَضْلِ، فَقَالَ: خير الْقُرُون ... الحَدِيث،
وَنقل الْكرْمَانِي هَذَا فِي (شَرحه) بقوله: وَقَالَ
بَعضهم: المُرَاد بِهِ الْقُرُون المذمومة ... إِلَى آخر
مَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ بَعضهم: نقل الْكرْمَانِي هَذَا
عَن مغلطاي ظنا مِنْهُ أَنه كَلَامه لكَونه لم يعزه.
قلت: لم يقل الْكرْمَانِي إلاَّ: قَالَ بَعضهم، وَلم يذكر
لفظ مغلطاي أصلا، فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكره بِمَا فِيهِ من
سوء الْأَدَب وَنسبَة الظَّن إِلَيْهِ وَبَعض الظَّن
إِثْم، وَقيل: يحْتَمل أَن يُرِيد كل النَّاس فَلَا يكون
مُؤمن إلاَّ فِي مائَة أَو أَكثر، وَقيل: إِن النَّاس فِي
أَحْكَام الدّين سَوَاء لَا فضل فِيهَا لشريف على مشروف
وَلَا لرفيع على وضيع، كَالْإِبِلِ الْمِائَة الَّتِي لَا
تكون فِيهَا رَاحِلَة، وَقيل: إِن أَكثر النَّاس أهل نقص
وَأهل الْفضل عَددهمْ قَلِيل بِمَنْزِلَة الرَّاحِلَة فِي
الْإِبِل الحمولة. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَكِن ثر
النَّاس لَا يعلمُونَ} (الْأَعْرَاف: 781 وَغَيرهَا)
وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون} (الْأَنْعَام: 111)
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي يُنَاسب التَّمْثِيل أَن
الرجل الجوادالذي يتَحَمَّل أثقال النَّاس والحمالات
عَنْهُم ويكشف كربهم عَزِيز الْوُجُود كالراحلة فِي
الْإِبِل الْكَثِيرَة.
قلت: الْأَنْسَب من كل الْأَقْوَال هُوَ القَوْل الَّذِي
ذَكرْنَاهُ أَولا، وَفِيه أَيْضا مُطَابقَة الحَدِيث
للتَّرْجَمَة كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (كَالْإِبِلِ الْمِائَة) وصف لفظ الْإِبِل الَّذِي
هُوَ مُفْرد بقوله: الْمِائَة، لِأَن الْعَرَب يَقُول
للمائة من الْإِبِل، وَيُقَال لفُلَان إبل أَي: مائَة من
الْإِبِل وإبلان إِذا كَانَ لَهُ مِائَتَان. قَوْله:
(رَاحِلَة) هِيَ النجيبة المختارة الْكَامِلَة الْأَوْصَاف
الْحَسَنَة المنظر، وَقيل: الرَّاحِلَة الْجمل النجيب،
وَالْهَاء للْمُبَالَغَة.
63 - (بابُ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ الرِّيَاء، بِكَسْر
الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالمد هُوَ
إِظْهَار الْعِبَادَة لقصد رُؤْيَة النَّاس لَهَا
(23/85)
فيحمدوا صَاحبهَا، والسمعة بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم قَالَ بَعضهم: هِيَ
مُشْتَقَّة من السماع.
قلت: السمعة اسْم، وَالسَّمَاع مصدر، وَالِاسْم لَا يشتق
من الْمصدر، وَمعنى: السمعة، التنويه بِالْعَمَلِ وتشهيره
ليراه النَّاس ويسمعوا بِهِ، وَالْفرق بَينهمَا أَن
الرِّيَاء يتَعَلَّق بحاسة الْبَصَر، والسمعة بحاسة
السّمع.
9446 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا يَحْيَى اعنْ سفْيانَ
حدّثني سَلَمةُ بنُ كُهَيْلٍ.
(ح) وحدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدّثنا سفْيانُ عنْ سَلَمَة
قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ: قَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ أسْمَعْ أحَداً يَقُولُ: قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيْرَهُ فَدَنَوْتُ
مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، ومَنْ
يُرائِي يُرائِي الله بِهِ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيحيى هُوَ ابْن سعيد
الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ فِي الطَّرِيقَيْنِ،
وَأَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، وجندب بِضَم الْجِيم
وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا ابْن
عبد الله البَجلِيّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْجِيم
المفتوحتين وَهُوَ من صغَار الصَّحَابَة.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين، والسند الثَّانِي
أَعلَى من الأول.
وَرِجَاله كوفيون وَلم يكتف بِهِ مَعَ علوه لِأَن فِي
الرِّوَايَة الأولى مَا لَيْسَ فِي الثَّانِيَة وَهُوَ
جلالة الْقطَّان، وتصريح سُفْيَان بِالتَّحْدِيثِ عَن
سَلمَة وَلَفظ (ح) بَين الطَّرِيقَيْنِ إِشَارَة إِلَى
التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر قبل ذكر
الحَدِيث، أَو إِلَى الْحَائِل، أَو إِلَى صَحَّ أَو إِلَى
الحَدِيث، ويتلفظ عِنْد الْقِرَاءَة بِلَفْظَة: (حا) ،
مَقْصُورا.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي بكر عَن
وَكِيع عَن الثَّوْريّ وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن
أبي نعيم بِهِ وَعَن غَيرهمَا، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الزّهْد عَن هَارُون بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن عبد
الْوَهَّاب عَن الثَّوْريّ بِهِ.
قَوْله: (وَلم أسمع أحدا يَقُول: قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غَيره) أَي: قَالَ سَلمَة بن كهيل: لم أسمع
أحدا ... إِلَى آخِره، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لم أسمع.
أَي: لم يبْق من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حينئذٍ غَيره فِي ذَلِك الْمَكَان. ورد عَلَيْهِ
بَعضهم بِأَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن جندباً كَانَ
بِالْكُوفَةِ إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ بهَا فِي حَيَاة
جُنْدُب أَو جُحَيْفَة السوَائِي وَكَانَت وَفَاته بعد
جُنْدُب بست سِنِين، وَعبد الله بن أبي أوفى وَكَانَت
وَفَاته بعد جُنْدُب بِعشْرين سنة، وَقد روى سَلمَة بن
كهيل عَن كل مِنْهُمَا، فَيتَعَيَّن أَن يكون مُرَاده أَنه
لم يسمع مِنْهُمَا وَلَا من أَحدهمَا وَلَا من غَيرهمَا
مِمَّن كَانَ مَوْجُودا من الصَّحَابَة بِغَيْر الْكُوفَة
بعد أَن سمع من جُنْدُب الحَدِيث الْمَذْكُور عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا. انْتهى.
قلت: إِنَّمَا رد هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه بعد أَن
قَالَ: احْتَرز بقوله: (وَذَلِكَ عَمَّن كَانَ من
الصَّحَابَة مَوْجُودا إِذْ ذَاك) بِغَيْر الْمَكَان
الَّذِي كَانَ فِيهِ جُنْدُب، ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ
كَذَلِك ... إِلَى آخِره. وَفِيه نظر، لِأَن للكرماني أَن
يَقُول: مرادي من قولي فِي ذَلِك الْمَكَان الْمَكَان
الَّذِي كَانَ جُنْدُب معداً فِيهِ لإسماع الحَدِيث، وَلم
يكن هُنَاكَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، حينئذٍ غَيره، وَإِن كَانَ أَبُو جُحَيْفَة وَابْن
أبي أوفى موجودين فِي الْكُوفَة حينئذٍ وَالْعجب من هَذَا
الْقَائِل يُفَسر كَلَام الْكرْمَانِي بِحَسب مَا يفهمهُ
ثمَّ يرد عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحَابَة من يُسمى بجندب خَمْسَة أنفس: جُنْدُب
بن جُنَادَة أَبُو ذَر الْغِفَارِيّ، وجندب بن مكين
الْجُهَنِيّ، وجندب بن ضَمرَة الجندعي، وجندب بن كَعْب
الْعَبْدي، وجندب بن عبد الله البَجلِيّ وَهُوَ الَّذِي
روى عَنهُ سَلمَة بن كهيل، وَالْأَشْهر مِنْهُم أَبُو ذَر
الْغِفَارِيّ، فَقَالَ خَليفَة بن خياط: مَاتَ جُنْدُب
يَعْنِي: أَبَا ذَر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بالربذة،
قَرْيَة من قرى الْمَدِينَة فِي خلَافَة عُثْمَان رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود. وَأما
جُنْدُب الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث فَلم يذكر أحد
تَارِيخ وَفَاته، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: وَكَانَت
وَفَاة أبي جُحَيْفَة بعد جُنْدُب بست سِنِين؟ وَكَانَت
وَفَاة أبي جُحَيْفَة فِي سنة أَربع وَسبعين؟ وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: توفّي فِي ولَايَة بشر بن مَرْوَان وَكَانَت
وَفَاة ابْن أبي أوفى سنة سبع وَثَمَانِينَ قَالَه
البُخَارِيّ، فَكيف يَقُول. وَكَانَت وَفَاته بعد جُنْدُب
بِعشْرين سنة؟ فأحسب التَّفَاوُت بَين تاريخي وَفَاة أبي
جُحَيْفَة وَابْن أبي أوفى وَبَين تَارِيخ جُنْدُب.
قَوْله: (من سمع) بتَشْديد الْمِيم من التسميع وَهُوَ
التشهير وَإِزَالَة الخمول بنشر الذّكر، وَقَالَ
الْخطابِيّ: أَي عمل عملا على غير إخلاص، وَإِنَّمَا
يُرِيد أَن يرَاهُ النَّاس ويسمعوه جوزي على ذَلِك بِأَن
يشهره الله تَعَالَى ويفضحه وَيظْهر مَا كَانَ يبطنه،
وَقيل: إِن قصد بِعَمَلِهِ الجاه والمنزلة عِنْد النَّاس
وَلم يرد بِهِ وَجه الله تَعَالَى فَإِن الله يَجعله
حَدِيثا عِنْد
(23/86)
النَّاس الَّذين أَرَادَ نيل الْمنزلَة
عِنْدهم، وَلَا ثَوَاب لَهُ فِي الْآخِرَة. قَوْله: (وَمن
يرائي) بِضَم الْيَاء وبالمد وَكسر الْهمزَة وَالثَّانيَِة
مثلهَا وَثبتت الْيَاء فِي آخر كل مِنْهُمَا للإشباع أَي:
من يرائي بِعَمَلِهِ النَّاس (يرائي الله بِهِ) أَي يطلعهم
على أَنه فعل ذَلِك لَهُم لَا لوجهه فَاسْتحقَّ سخط الله
عَلَيْهِ. وَفِيه: من المشاكلة مَا لَا يخفى.
73 - (بابُ مَنْ جاهَدَ نَفْسَهُ فِي طاعَةِ الله)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من جَاهد من المجاهدة،
وَهِي: كف النَّفس عَن إرادتها مِمَّا يشغلها بِغَيْر
الْعِبَادَة.
0056 - حدّثنا هُدْبَةُ بنُ خالِدٍ حدّثنا هَمَّامٌ حدّثنا
قَتادَة حدّثنا أنَسُ بنُ مالِكٍ عنْ مُعاذٍ ابنِ جَبَلٍ
رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: بَيْنَما أَنا رَدِيفُ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنهُ إلاَّ
آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعاذُ {) . قُلْتُ:
لَبَّيْكَ يَا رسولَ الله وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سارَ ساعَةً
ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعاذُ} ) قُلْتُ: لبيْكَ رسولَ الله
وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سارَ ساعَةً ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعاذُ
بنَ جَبَلٍ {) قُلْتُ: لَبَّيْكَ رسولَ الله وسَعْديْكَ.
قَالَ: (هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الله عَلى عِبادِهِ؟)
قُلْتُ: الله ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: (حَقُّ الله عَلى
عِبادِهِ أنْ يعْبُدُوهُ وَلَا يشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)
ثُمَّ سارَ ساعَةً، ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعاذُ بن جَبَلٍ)
قُلْتُ: لَبَّيْكَ رسُولَ الله وسَعْدَيْك. قَالَ: (هَلْ
تَدْرِي مَا حَقُّ العِبادِ عَلى الله إِذا فَعَلُوهُ؟)
قُلْتُ: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: (حَقُّ العِبادِ
على الله أنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مجاهدة النَّفس
بِالتَّوْحِيدِ، وَجِهَاد الْمَرْء نَفسه هُوَ الْجِهَاد
الْأَكْبَر.
وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن قد مر
فِي كتاب اللبَاس فِي بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب حمل صَاحب
الدَّابَّة غَيره بَين يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ
عَن هدبة بن خَالِد عَن همام بن يحيى عَن قَتَادَة ...
إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَنَظِيره
مضى عَن أنس فِي آخر كتاب الْعلم فِي: بَاب من خص
بِالْعلمِ قوما.
قَوْله: (رَدِيف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الرديف
هُوَ الرَّاكِب خلف الرَّاكِب. قَوْله: (إلاَّ آخِرَة
الرحل) الْآخِرَة على وزن الفاعلة وَهِي الْعود الَّذِي
يسْتَند إِلَيْهِ الرَّاكِب من خَلفه، وَأَرَادَ بِذكرِهِ
الْمُبَالغَة فِي شدَّة قربه ليَكُون أوقع فِي نفس سامعه
لكَونه أضبط، وَأما تكريره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَلَيْهِ ثَلَاثًا فلتأكيد الاهتمام بِمَا يُخبرهُ ولتكميل
تنبه معَاذ فِيمَا يسمعهُ، والرحل سرج الْجمل. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الرحل رَحل الْجمل وَهُوَ أَصْغَر من القتب.
قَوْله: (لبيْك) قد مضى الْكَلَام فِيهِ مرَارًا أَنه من
التَّلْبِيَة وَهِي إِجَابَة الْمُنَادِي أَي: إجَابَتِي
لَك يَا رَسُول الله} مَأْخُوذ من لب بِالْمَكَانِ وألب
إِذا قَامَ بِهِ، وَلم يسْتَعْمل إلاَّ على لفظ
التَّثْنِيَة فِي معنى التكرير، أَي: إِجَابَة بعد
إِجَابَة وَهُوَ مَنْصُوب على الْمصدر بعامل لَا يظْهر،
كأنّك قلت: ألب إلباباً بعد إلباب. قَوْله: (وَسَعْديك)
أَي: ساعدت طَاعَتك مساعدة بعد مساعدة وإسعاداً بعد إسعاد،
وَلِهَذَا ثنى، وَهُوَ أَيْضا من المصادر المنصوبة بِفعل
لَا يظْهر فِي الِاسْتِعْمَال، وَقَالَ الْجرْمِي: لم يسمع
سعدك مُفردا. قَوْله: (لبيْك رَسُول الله) أَي: يَا رَسُول
الله، حذف فِيهِ حرف النداء، وَفِي الْعلم بإثباته.
قَوْله: (فَقَالَ: يَا معَاذ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
ثمَّ قَالَ: يَا معَاذ، قَوْله: (هَل تَدْرِي مَا حق الله
على عباده) الْحق كل مَوْجُود مُتَحَقق أَو: مَا سيوجد لَا
محَالة. قَوْله: (أَن يعبدوه) أَي: أَن يوحدوه. قَوْله:
(وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا) ، تَفْسِيره وَقيل: المُرَاد
بِالْعبَادَة عمل الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي.
قَوْله: (مَا حق الْعباد على الله؟) يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون خرج مخرج الْمُقَابلَة فِي اللَّفْظ
كَقَوْلِه تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} (آل عمرَان: 45)
وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ حَقًا شَرْعِيًّا لَا
وَاجِبا بِالْعقلِ كَقَوْل الْمُعْتَزلَة، وَقيل: معنى
الْحق الْمُسْتَحق الثَّابِت أَو الجدير، وَهُوَ كالواجب
فِي تحَققه، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: حق الْعباد على الله
هُوَ مَا وعدهم بِهِ من الثَّوَاب وَالْجَزَاء.
83 - (بابُ التَّواضُعِ)
(23/87)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل
التَّوَاضُع، وَهُوَ إِظْهَار التنزل عَن مرتبته. وَقيل:
هُوَ تَعْظِيم من فَوْقه من أَرْبَاب الْفَضَائِل، وَفِي
(رقائق) : ابْن الْمُبَارك عَن معَاذ بن جبل أَنه قَالَ:
لن يبلغ ذرْوَة الْإِيمَان حَتَّى تكون الضعة أحب إِلَيْهِ
من الشّرف، وَمَا قل من الدُّنْيَا أحب إِلَيْهِ مِمَّا
كثر.
1056 - حدّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ حدّثنا زُهَيْرٌ
حدّثنا حُمَيْدٌ عنْ أَنسٍ رَضِي الله عَنهُ: كَانَ لِ
لنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناقَةٌ.
قَالَ: وحدّثني مُحَمَّدٌ أخبرنَا الفَزارِيُّ وأبُو
خالِدٍ الأحْمَرُ عنْ حُمَيْدٍ الطَّويلِ عنْ أنَس قَالَ:
كانَتْ ناقَةٌ لِرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
تُسَمَّى العَضْباءَ، وكانَتْ لَا تُسْبَقُ فَجاءَ
أعْرابِيٌّ عَلى قَعُودٍ لهُ فَسَبَقَها، فاشْتَدَّ ذالِكَ
عَلى المُسْلِمِينَ، وقالُوا: سُبِقَتِ العَضْباءُ،
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّ حَقًّا
عَلى الله أنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيا إلاَّ
وَضَعَهُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي طرق هَذَا
الحَدِيث عِنْد النَّسَائِيّ بِلَفْظ: حق على الله أَن لَا
يرفع شَيْء نَفسه فِي الدُّنْيَا إلاَّ وَضعه، فَفِيهِ
إِشَارَة إِلَى ذمّ الترفع والحض على التَّوَاضُع،
والإعلام بِأَن أُمُور الدُّنْيَا نَاقِصَة غير كَامِلَة.
وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا:
عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد أبي غَسَّان
النَّهْدِيّ الْكُوفِي عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن حميد
الطَّوِيل بن أبي حميد عَن أنس بن مَالك. وَالْآخر: عَن
مُحَمَّد بن سَلام، قَالَه الكلاباذي: عَن مَرْوَان بن
مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف
الزَّاي وبالراء عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر سُلَيْمَان بن
حَيَّان بتَشْديد الْيَاء، آخر الْحُرُوف الْأَزْدِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب نَاقَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ أخرجه
بِالطَّرِيقِ الأول بِعَين إِسْنَاده وَمَتنه عَن مَالك بن
إِسْمَاعِيل عَن زُهَيْر عَن حميد عَن مَالك ... إِلَى
آخِره.
قَوْله: (العضباء) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
الضَّاد الْمُعْجَمَة وبالمد النَّاقة المشقوقة الْأذن،
وَلَكِن نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم
تكن مشقوقة الْأذن لَكِن صَار هَذَا لقبالها. قَوْله: (لَا
تسبق) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (على قعُود)
بِفَتْح الْقَاف وَهُوَ الْبكر من الْإِبِل حِين يُمكن
ظَهره للرُّكُوب وَأدنى ذَلِك سنتَانِ.
2056 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ عُثْمانَ حدّثنا خالِدُ بنُ
مَخْلَدٍ حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ بِلالٍ حَدثنِي شَرِيكُ
بنُ عَبْدِ الله بن أبي نَمِرٍ عنْ عَطاءٍ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إنَّ الله قَالَ: مَنْ عاداى لِي وَليًّا فَقَدْ
آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي
بِشْيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا
يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى
أحِبَّهُ، فَإِذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الّذِي
يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويدَهُ
الّتي يَبْطُشُ بِها، وَرِجْلَهُ الّتي يَمْشِي بهَا، وإنْ
سألَنِي لأعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي وَمَا
تَرَدَّدْتُ عنْ شَيْءٍ أَنا فاعِلُهُ تَرَدّدِي عنْ
نَفْسِ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ الموْتَ وَأَنا أكْرَهُ
إساءَتَهُ لأعِيذَنَّهُ) .
قيل: لَا مُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث والترجمة حَتَّى
قَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ هَذَا الحَدِيث من التَّوَاضُع
فِي شَيْء. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : لَا أَدْرِي مَا
مطابقته لَهَا لِأَنَّهُ لَا ذكر فِيهِ للتواضع وَلَا لما
يقرب مِنْهُ، وَقيل: الْمُنَاسب إِدْخَاله فِي الْبَاب
الَّذِي قبله، وَهُوَ: مجاهدة الْمَرْء نَفسه فِي طَاعَة
الله، وَأَجَابُوا عَن ذَلِك، فَقَالَ الْكرْمَانِي:
التَّقَرُّب بالنوافل لَا يكون إلاَّ بغاية التَّوَاضُع
والتذلل للرب تَعَالَى.
قلت: قد سبقه بِهَذَا صَاحب (التَّلْوِيح) : فَإِنَّهُ
قَالَ: التَّقَرُّب إِلَى الله بالنوافل حَتَّى يستحقوا
الْمحبَّة من الله تَعَالَى لَا يكون إلاَّ بغاية
التَّوَاضُع والتذلل للرب عز وَجل، ثمَّ قَالَ: وَفِيه
بعد، لِأَن النَّوَافِل إِنَّمَا يُزكي ثَوَابهَا عِنْد
الله لمن حَافظ على فَرَائِضه، وَقيل: التَّرْجَمَة
مستفادة مِمَّا قَالَ: كنت سَمعه، وَمن التَّرَدُّد،
وَقَالَ بَعضهم: تستفاد التَّرْجَمَة من لَازم قَوْله: (من
عادى لي
(23/88)
وليا) لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الزّجر عَن
معاداة الْأَوْلِيَاء المستلزم لموالاتهم، وموالاة جَمِيع
الْأَوْلِيَاء لَا تتأتى إلاَّ بغاية التَّوَاضُع، إِذْ
فيهم الْأَشْعَث الأغبر الَّذِي لَا يؤبه لَهُ. انْتهى.
قلت: دلَالَة الإلتزام مهجورة، لِأَنَّهَا لَو كَانَت
مُعْتَبرَة لزم أَن يكون للفظ الْوَاحِد مدلولات غير
متناهية، وَيُقَال لهَذَا الْقَائِل: تُرِيدُ اللُّزُوم
الْبَين أَو مُطلق اللُّزُوم؟ وأيّاماً كَانَ فدلالة
الِالْتِزَام مهجورة، فَإِن أردْت اللُّزُوم الْبَين
فَهُوَ يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص، فَلَا يكَاد ينصبط
الْمَدْلُول، وَإِن أردْت مُطلق اللُّزُوم فاللوازم لَا
تتناهى، فَيمْتَنع إِفَادَة اللَّفْظ إِيَّاهَا، فَلَا
يَقع كَلَامه جَوَابا.
وَمُحَمّد بن عُثْمَان بن كَرَامَة بِفَتْح الْكَاف
وَتَخْفِيف الرَّاء الْعجلِيّ بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة
الْكُوفِي مَاتَ بِبَغْدَاد سنة سِتّ وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من صغَار شُيُوخ البُخَارِيّ، وَقد
شَاركهُ فِي كثير من مشايخه. مِنْهُم: خَالِد بن مخلد
شَيْخه فِي هَذَا الحَدِيث فقد أخرج عَنهُ البُخَارِيّ
بِغَيْر وَاسِطَة أَيْضا فِي: بَاب الِاسْتِعَاذَة من
الْجُبْن فِي كتاب الدَّعْوَات. وخَالِد بن مخلد بِفَتْح
الْمِيم وَاللَّام البَجلِيّ، وَيُقَال الْقَطوَانِي
الْكُوفِي مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي محرم سنة ثَلَاث عشرَة
وَمِائَتَيْنِ، وَسليمَان بن بِلَال أَبُو أَيُّوب
الْقرشِي التَّيْمِيّ مَاتَ سنة سبع وَسبعين وَمِائَة،
وَشريك بن عبد الله بن أبي نمر بِلَفْظ الْحَيَوَان
الْمَشْهُور الْقرشِي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ، مَاتَ سنة
أَرْبَعِينَ وَمِائَة. فَإِن قلت: خَالِد فِيهِ مقَال،
فَعَن أَحْمد لَهُ مَنَاكِير، وَعَن أبي حَاتِم: لَا
يحْتَج بِهِ. وَأخرج ابْن عدي عشرَة أَحَادِيث من حَدِيثه
استنكرها مِنْهَا حَدِيث الْبَاب، وَشريك أَيْضا فِيهِ
مقَال، وَهُوَ رَاوِي حَدِيث الْمِعْرَاج الَّذِي زَاد
فِيهِ وَنقص وَقدم وَأخر وَتفرد بأَشْيَاء لم يُتَابع
عَلَيْهَا.
قلت: أما خَالِد فَعَن ابْن معِين: مَا بِهِ بَأْس،
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه، وَقَالَ أَبُو
دَاوُد: صَدُوق وَلكنه تشيع وَهُوَ عِنْدِي، إِن شَاءَ
الله، لَا بَأْس بِهِ. وَأما شريك فَعَن يحيى بن معِين
وَالنَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَقَالَ مُحَمَّد بن
سعد: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، وَعَطَاء هُوَ ابْن يسَار
ضد الْيَمين وَوَقع فِي بعض النّسخ كَذَلِك، وَقيل: هُوَ
ابْن أبي رَبَاح، وَالْأول أصح. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (إِن الله قَالَ) هَذَا من الْأَحَادِيث الإلهية
الَّتِي تسمى: القدسية، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا عَن
قريب، وَقد وَقع فِي بعض طرقه: أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، حدث بِهِ عَن جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام، عَن الله عز وَجل. قَوْله: (لي) ، صفة لقَوْله:
وليا، لكنه لما قدم صَار حَالا. قَوْله: (وليا) ،
الْوَلِيّ: هُوَ الْعَالم بِاللَّه المواظب على طَاعَته
المخلص فِي عِبَادَته. فَإِن قلت: قَوْله: (عادى) من
المعاداة وَهُوَ من بَاب المفاعلة الَّتِي تقع من
الْجَانِبَيْنِ، وَمن شَأْن الْوَلِيّ الْحلم والاجتناب
عَن المعاداة والصفح عَمَّن يجهل عَلَيْهِ.
قلت: أُجِيب بِأَن المعاداة لم تَنْحَصِر فِي الْخُصُومَة،
والمعاداة الدُّنْيَوِيَّة مثلا، بل تقع عَن بغض ينشأ عَن
التعصب: كالرافضي فِي بغضه لأبي بكر رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، والمبتدع فِي بغضه للسني، فَتَقَع المعاداة من
الْجَانِبَيْنِ، أما من جَانب الْوَلِيّ فللَّه، وَفِي
الله وَأما من الْجَانِب الآخر فَظَاهر. انْتهى.
قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف، فَإِذا
قُلْنَا: إِن فَاعل يَأْتِي بِمَعْنى فعل كَمَا فِي قَوْله
عز وَجل: {وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم} (آل عمرَان:
331) بِمَعْنى: اسرعوا يحصل الْجَواب. قَوْله: (فقد آذنته)
بِالْمدِّ وَفتح الْمُعْجَمَة بعد هانون أَي: أعلمته من
الإيذان، وَهُوَ الْإِعْلَام. قَوْله: (بِالْحَرْبِ) ،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بِحَرب، وَوَقع فِي حَدِيث
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (من عادى لي والياً
فقد اسْتحلَّ محاربتي) وَفِي حَدِيث معَاذ: (فقد بارز الله
بالمحاربة) ، وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة وَأنس: (فقد
بارزني) . فَإِن قيل: الْمُحَاربَة من الْجَانِبَيْنِ
والمخلوق فِي أسر الْخَالِق؟ قيل لَهُ: أطلق الْحَرْب
وَأَرَادَ لَازمه، أَي: أعمل بِهِ مَا يعمله الْعَدو
الْمُحَارب. قَوْله: (أحب) بِالرَّفْع وَالنّصب، قَالَه
الْكرْمَانِي.
قلت: وَجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي:
هُوَ أحب، وَوجه النصب وَالْمرَاد بِهِ الْفَتْح صفة
لقَوْله: (بِشَيْء) فَيكون مَفْتُوحًا فِي مَوضِع الْجَرّ
وَيدخل فِي قَوْله: (مِمَّا افترضت عَلَيْهِ) جَمِيع
الْفَرَائِض فَرَائض الْعين وفرائض الْكِفَايَة. قَوْله:
(وَمَا يزَال) كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة غَيره: وَمَا زَالَ، بِصِيغَة الْمَاضِي. قَوْله:
(يتَقرَّب إِلَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء، وَفِي حَدِيث أبي
أُمَامَة: يتحبب، والتقرب طلب الْقرب، وَقَالَ الْقشيرِي:
قرب العَبْد من ربه يَقع أَولا بإيمانه ثمَّ بإحسانه،
وَقرب الرب من عَبده مَا يَخُصُّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا من
عرفانه، وَفِي الْآخِرَة من رضوانه، وَفِيمَا بَين ذَلِك
من وُجُوه لطفه وامتنانه، وَلَا يتم قرب العَبْد من الْحق
إلاَّ ببعده من الْخلق. قَالَ: وَقرب الرب بِالْعلمِ
وَالْقُدْرَة عَام للنَّاس، وباللطف والنصرة خَاص بالخواص،
وبالتأنيس خَاص بالأولياء. قَوْله: (بالنوافل) ، المُرَاد
بهَا: مَا كَانَت حاوية للفرائض مُشْتَمِلَة عَلَيْهَا
ومكملة لَهَا، وَلَيْسَ المُرَاد كَون النَّوَافِل
مُطلقًا. قَوْله: (أحبه) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني،
وَفِي رِوَايَة غَيره: حَتَّى أحببته. قَوْله: (كنت
(23/89)
سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ) لَفْظَة: بِهِ،
فِي رِوَايَة الْكشميهني لَا غَيره. قَالَ الدَّاودِيّ:
هَذَا كُله من الْمجَاز، يَعْنِي أَنه، يحفظه كَمَا يحفظ
العَبْد جوارحه لِئَلَّا يَقع فِي مهلكة. وَقَالَ
الْخطابِيّ: هَذِه أَمْثَال وَالْمعْنَى: وَالله أعلم
توفيقه فِي الْأَعْمَال الَّتِي بَاشَرَهَا بِهَذِهِ
الْأَعْضَاء وتيسير الْمحبَّة لَهُ فِيهَا بِأَن يحفظ
جوارحه عَلَيْهِ ويعصمه من مُوَافقَة مَا يكره الله
تَعَالَى من الإصغاء إِلَى اللَّهْو مثلا، وَمن النّظر
إِلَى مَا نهى عَنهُ، وَمن الْبَطْش بِمَا لَا يحل لَهُ،
وَمن السَّعْي فِي الْبَاطِل بِرجلِهِ، أَو بِأَن يسْرع
فِي إِجَابَة الدُّعَاء، والإلحاح فِي الطّلب وَذَلِكَ أَن
مساعي الْإِنْسَان إِنَّمَا تكون بِهَذِهِ الْجَوَارِح
الْأَرْبَع. قَوْله: (وبصره الَّذِي يبصر بِهِ) وَفِي
حَدِيث عَائِشَة فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد: عينه الَّتِي
يبصر بهَا، وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب بن مُجَاهِد:
عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ يبصر بهما، وَكَذَا قَالَ فِي
الْأذن وَالْيَد وَالرجل، وَزَاد عبد الْوَاحِد فِي
رِوَايَته: (وفؤاده الَّذِي يعقل بِهِ، وَلسَانه الَّذِي
يتَكَلَّم بِهِ) وَقيل: الْمَعْنى: إجعل لَهُ مقاصده
كَأَنَّهُ ينالها بسمعه وبصره ... إِلَى آخِره، وَقيل: كنت
لَهُ فِي النُّصْرَة كسمعه وبصره وَيَده وَرجله فِي
المعاونة على عدوه، وَقيل فِيهِ: مُضَاف مَحْذُوف،
وَالتَّقْدِير: كنت حَافظ سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ فَلَا
يسمع إلاَّ مَا يحل سَمَاعه، وحافظ بَصَره كَذَلِك إِلَى
آخِره، قيل: إِن الاتحادية زَعَمُوا أَنه على حَقِيقَته
وَأَن الْحق عين العَبْد، وَاحْتَجُّوا بمجيء جِبْرِيل
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صُورَة دحْيَة،
قَالُوا: فَهُوَ روحاني خلع صورته وَظهر بمظهر الْبشر،
قَالُوا: فَالله أقدر على أَن يظْهر فِي صُورَة الْوُجُود
الْكُلِّي أَو بِبَعْضِه تَعَالَى الله سُبْحَانَهُ عَمَّا
يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا. قَوْله: (يبطش)
بِكَسْر الطَّاء. قَوْله: (وَإِن سَأَلَني) أَي: عَبدِي،
وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد. قَوْله:
(لأعطينه) اللَّام للتَّأْكِيد والهمزة مَضْمُومَة
وَالْفِعْل مُؤَكد بالنُّون الثَّقِيلَة. قَوْله: (استعاذ
بِي) بِالْبَاء الْمُوَحدَة بعد الذَّال الْمُعْجَمَة،
وَقيل: بالنُّون مَوضِع الْبَاء. قَوْله: (لأعيذنه) أَي:
مِمَّا يخَاف، فَإِن قيل: كثير من الصلحاء والعباد دعوا
وبالغوا وَلم يجابوا. قيل لَهُ: الْإِجَابَة تتنوع،
فَتَارَة يَقع الْمَطْلُوب بِعَيْنِه على الْفَوْر،
وَتارَة يَقع وَلَكِن يتَأَخَّر الحكم، وَتارَة قد تقع
الْإِجَابَة وَلَكِن بِغَيْر الْمَطْلُوب حَيْثُ لَا يكون
فِي الْمَطْلُوب مصلحَة ناجزة، وَفِي الْوَاقِع مصلحَة
ناجزة، أَو أصلح مِنْهَا. قَوْله: (وَمَا ترددت عَن شَيْء
التَّرَدُّد) مثل لِأَنَّهُ محَال على الله، وَقَالَ
الْخطابِيّ: التَّرَدُّد فِي حق الله غير جَائِز، والبداء
عَلَيْهِ فِي الْأُمُور غير سَائِغ، لَكِن لَهُ
تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن العَبْد قد يشرف على
الْهَلَاك فِي أَيَّام عمره من دَاء يُصِيبهُ أَو فاقة
تنزل بِهِ، فيدعو الله فيشفيه مِنْهَا وَيدْفَع عَنهُ
مكروهها. فَيكون ذَلِك من فعله كترديد من يُرِيد أمرا ثمَّ
يَبْدُو لَهُ فِيهِ فيتركه ويعرض عَنهُ، وَلَا بُد من
لِقَائِه إِذا بلغ الْكتاب أَجله، لِأَن الله قد كتب
الفناء على خلقه واستأثر بِالْبَقَاءِ لنَفسِهِ.
وَالثَّانِي: أَن يكون مَعْنَاهُ: مَا رددت رُسُلِي فِي
شَيْء أَنا فَاعله، كترديدي إيَّاهُم فِي نفس الْمُؤمن
كَمَا روى فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَا
كَانَ من لطمه عين ملك الْمَوْت، وتردده إِلَيْهِ مرّة بعد
أُخْرَى. قَالَ: وَحَقِيقَة الْمَعْنى على الْوَجْهَيْنِ
عطف الله على العَبْد ولطفه بِهِ وشفقته عَلَيْهِ. قَوْله:
(وإساءته) ، ويروى: مساءته، أَي: حَيَاته لِأَنَّهُ
بِالْمَوْتِ يبلغ إِلَى النَّعيم الْمُقِيم لَا فِي
الْحَيَاة، أولأن حَيَاته تُؤدِّي إِلَى أرذل الْعُمر.
وتنكيس الْخلق وَالرَّدّ إِلَى أَسْفَل سافلين أَو أكره
مكروهه الَّذِي هُوَ الْمَوْت فَلَا أسْرع بِقَبض روحه
فَأَكُون كالمتردد. [/ شَرّ
93 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(بُعِثْتُ أَنا والسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (بعثت)
إِلَى آخِره. قَالَ الْكرْمَانِي: السَّاعَة بِالرَّفْع
وَالنّصب، وَاخْتصرَ على هَذَا.
قلت: وَجه النصب أَن الْوَاو بِمَعْنى: مَعَ، وَمِنْهُم من
منع الرّفْع لفساد الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَا يُقَال: بعثت
السَّاعَة، وَجزم عِيَاض بِأَن الرّفْع أحسن لِأَنَّهُ عطف
على ضمير الْمَجْهُول فِي: بعثت قَوْله: (كهاتين) أَي:
الإصبعين السبابَة وَالْوُسْطَى.
{وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب
إِن الله على كل شَيْء قدير} (النَّحْل: 77)
تَقْدِيره: وَقَول الله عز وَجل: {وَمَا أَمر السَّاعَة}
الْآيَة بِتَمَامِهَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر {وَمَا أَمر السَّاعَة إلاّ كلمح
الْبَصَر} ... الْآيَة، وَإِنَّمَا قُلْنَا: تَقْدِيره:
وَقَول الله عز وَجل، لِأَنَّهُ يُوهم أَن تكون بَقِيَّة
الحَدِيث، على أَن فِي بعض النّسخ. وَقَول الله مَوْجُود.
قَوْله: {وَمَا أَمر السَّاعَة} أَي: وَمَا شَأْن
الْقِيَامَة إلاَّ كلمح الْبَصَر، اللمح سرعَة إبصار
الشَّيْء. أَو هُوَ أَي أَمر السَّاعَة أقرب من لمح
الْبَصَر.
(23/90)
3056 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ
حَدثنَا أبُو غَسَّانَ حَدثنَا أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلٍ
قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعثت
أَنا والسَّاعَةَ هاكَذَا) ويشِيرُ بإصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّ
بِهِما. بش
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يتَضَمَّن معنى
التَّرْجَمَة. وَسَعِيد بن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن
مُحَمَّد بن الحكم بن مَرْيَم الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان
بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين
الْمُهْملَة مُحَمَّد بن مطرف، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن
دِينَار، وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (عَن سهل) وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي
حَازِم: سَمِعت سهل بن سعد صَاحب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فيمد بهما) أَي: ليمتازا عَن
سَائِر الْأَصَابِع، ويروى: فيمدهما.
4056 - حدّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الجُعْفِيُّ
حَدثنَا وَهْبُ بنُ جَرِيرٍ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ قَتادَةَ
وَأبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسِ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بُعِثْتُ أَنا والسَّاعَةَ
كَهَاتَيْنِ) .
هَذَا الحَدِيث هُوَ عين التَّرْجَمَة. والجعفي بِضَم
الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالفاء نِسْبَة
إِلَى جعف بن سعد الْعَشِيرَة من مذْحج، قَالَ
الْجَوْهَرِي: هُوَ أَبُو قَبيلَة من الْيمن وَالنِّسْبَة،
إِلَيْهِ كَذَلِك، وَأَبُو التياح بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة واسْمه يزِيد من الزِّيَادَة
ابْن حميد الضبعِي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن عبد الله بن
معَاذ وَغَيره، وَقَالَ ابْن التِّين: اخْتلف فِي معنى
قَول: كهاتين، فَقيل: كَمَا بَين السباية وَالْوُسْطَى فِي
الطول، وَقيل: الْمَعْنى لَيْسَ بَينه وَبَينهَا شَيْء.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: حَاصِل معنى الحَدِيث تقريب أَمر
السَّاعَة وَسُرْعَة مجيئها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: معنى
الحَدِيث إِشَارَة إِلَى قرب الْمُجَاورَة، ثمَّ قَالَ:
فَإِن قلت: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} (لُقْمَان:
43) وَلَا يُعلمهُ غَيره. فَكيف يعلم أَنَّهَا قَرِيبه؟ .
قلت: الْمَعْلُوم قربهَا والمجهول ذَاتهَا فَلَا
مُعَاوضَة.
04 - (بابٌ)
كَذَا ذكر مُجَردا عَن التَّرْجَمَة فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين وَهُوَ كالفصل وَحَدِيثه دَاخل فِيمَا قبله،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بَاب طُلُوع الشَّمْس من
مغْرِبهَا، وعَلى الْوَجْهَيْنِ الْمُنَاسبَة بَين هَذَا
الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله ظَاهِرَة، لِأَن طُلُوع
الشَّمْس من الْمغرب إِنَّمَا يَقع عِنْد إشراف قرب
السَّاعَة وقيامها.
6056 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حدّثنا أبُو
الزِّنادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ،
رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها
(23/91)
فَإِذا طَلَعَتْ فَرَآها النَّاسُ آمَنُوا
أجْمَعُونَ فَذالِكَ حِينَ {لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم
تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا}
(الْأَنْعَام: 851) وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقَدْ
نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُما بَيْنَهُما فَلا
يَتَبايَعانِهِ وَلَا يَطْوِيانِهِ، ولَتَقُومَنَّ
السَّاعَةُ وقَدِ انْصَرَفَ الرَّجلُ بِلَبَنِ لِقْحْتِهِ
فَلا يَطْعَمُهُ، ولَتَقْومَنَّ السَّاعَةُ وهْو يَلِيطُ
حَوْضَهُ فَلا يَسْقِي فِيهِ، ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ
وقَدْ رَفَعَ أحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا
يَطْعَمُها.
مطابقته للتَّرْجَمَة على رِوَايَة الْكشميهني ظَاهِرَة،
وعَلى رِوَايَة غَيره هُوَ دَاخل فِيمَا قبله.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن
أبي حَمْزَة، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله
بن ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز
الْأَعْرَج.
والْحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث سَيَأْتِي فِي أَوَاخِر
كتاب الْفِتَن بِهَذَا الْإِسْنَاد بِتَمَامِهِ وأوله:
(لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقتتل فئتان عظيمتان) . وَذكر
فِيهِ نَحْو عشرَة أَشْيَاء من هَذَا الْجِنْس، ثمَّ ذكر
مَا فِي هَذَا الْبَاب مُقْتَصرا على مَا يتَعَلَّق
بِطُلُوع الشَّمْس.
قَوْله: (من مغْرِبهَا) قَالَ الْكرْمَانِي: أهل
الْهَيْئَة بينوا أَن الفلكيات بسيطة لَا تخْتَلف
مقتضياتها وَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهَا خلاف مَا هِيَ
عَلَيْهِ، ثمَّ أجَاب بقوله: قواعدهم منقوضة ومقدماتهم
مَمْنُوعَة. وَلَئِن سلمنَا صِحَّتهَا فَلَا امْتنَاع فِي
انطباق منْطقَة البروج على معدل النَّهَار بِحَيْثُ يصير
الْمشرق مغرباً وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (آمنُوا
أَجْمَعُونَ) وَفِي رِوَايَة أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة
فِي التَّفْسِير. (فَإِذا رَآهَا النَّاس آمن من
عَلَيْهَا) أَي: من على الأَرْض من النَّاس. قَوْله:
(فَذَلِك) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني. وَفِي رِوَايَة
غَيره: (فَذَاك) وَوَقع فِي رِوَايَة التَّفْسِير:
وَذَلِكَ، بِالْوَاو وَيَعْنِي: عِنْد طُلُوع الشَّمْس من
مغْرِبهَا لَا ينفع نفسا، إيمَانهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ:
معنى الْآيَة: لَا ينفع كَافِرًا لم يكن آمن قبل الطُّلُوع
إِيمَان بعد الطُّلُوع، لِأَن حكم الْإِيمَان وَالْعَمَل
الصَّالح حينئذٍ حكم من آمن أَو عمل عِنْد الغرغرة،
وَذَلِكَ لَا يُفِيد شَيْئا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:
{فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا}
(غَافِر: 58) وكما ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (تقبل
تَوْبَة العَبْد مَا لم يبلغ الغرغرة) وَقَالَ ابْن
عَطِيَّة: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن المُرَاد
بِالْبَعْضِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَأْتِي بعض
آيَات رَبك} (الْأَنْعَام: 851) طُلُوع الشَّمْس من
الْمغرب وَإِلَى ذَلِك ذهب الْجُمْهُور، وَاعْلَم أَن
الشَّمْس تجْرِي بقدرة الله تَعَالَى وتغرب فِي عين حمثة
ثمَّ تبلغ الْعرض فتسجد ثمَّ تستأذن فَيُؤذن لَهَا فتعود
إِلَى المطلع، فَإِذا كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة لم يُؤذن
لَهَا إِلَى مَا شَاءَ الله. ثمَّ يُؤذن لَهَا وَقد مضى
وَقت طُلُوعهَا فتسير سيراً فتعلم أَنَّهَا لَا تبلغ إِلَى
المطلع فِي بَاقِي لَيْلَتهَا فتعود إِلَى مغْرِبهَا
فَتَطلع مِنْهُ، فَمن كَانَ قبل كَافِرًا لم يَنْفَعهُ،
إيمَانه وَمن كَانَ مُؤمنا مذنباً لم تَنْفَعهُ تَوْبَته.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث صَفْوَان بن غَسَّان قَالَ:
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِن
بالمغرب بَابا مَفْتُوحًا للتَّوْبَة مسيرَة سبعين سنة لَا
يغلق حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا) . وَقَالَ:
حَدِيث حسن صَحِيح. قَوْله: (وَقد نشر الرّجلَانِ) الْوَاو
فِيهِ للْحَال. قَوْله: (بِلَبن لقحته) بِكَسْر اللَّام
وَهِي: النَّاقة الحلوب. قَوْله: (يليط حَوْضه) من لَاطَ
حَوْضه وألاطه إِذا أصلحه وطينه. قَوْله: (أَكلته) أَي:
لقمته وَهِي بِالضَّمِّ، وَأما بِالْفَتْح فَهِيَ الْمرة
الْوَاحِدَة، هَذَا كُله إِخْبَار عَن السَّاعَة أَنَّهَا
تَأتي فَجْأَة وأسرع من دفع اللُّقْمَة إِلَى الْفَم.
14 - (بابٌ مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ الله أحَبَّ الله
لِقاءَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من
أحب) الخ هَذَا جُزْء من الحَدِيث الأول فِي الْبَاب،
وَقَالَ الْخطابِيّ: محبَّة اللِّقَاء إِيثَار العَبْد
الْآخِرَة على الدُّنْيَا، فَلَا يحب طول الْقيام فِيهَا
لَكِن يستعد للارتحال عَنْهَا، وكراهته ضد ذَلِك، ومحبة
الله لِقَاء عَبده إِرَادَة الْخَيْر لَهُ وهدايته
إِلَيْهِ، وكراهته ضد ذَلِك.
7056 - حدّثنا حَجَّاجٌ حَدثنَا هَمَّامٌ حَدثنَا قَتادَةُ
عنْ أنَسٍ عنْ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ أحَبَّ لِقاءَ الله
أحَبَّ الله لِقاءَهُ ومَنْ كَرِهَ لِقاءَ الله كَرِهَ
الله لِقاءَهُ) قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ:
إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ قَالَ: (لَيْسَ ذاكِ ولاكِنَّ
المُؤْمِنَ إِذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ
الله وكَرامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا
أمامَهُ، فأحَبَّ لِقاءَ الله وأحَبَّ الله لِقاءَهُ،
وإنَّ
(23/92)
الكافِرَ إِذا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ
الله وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ
مِمَّا أمامَهُ، كَرِهَ لِقاءَ الله وكَرِهَ الله
لِقَاءَهُ) .
قد ذكرنَا أَن التَّرْجَمَة جُزْء الحَدِيث فَلَا
مُطَابقَة أوضح من هَذَا.
وحجاج هُوَ ابْن الْمنْهَال الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من كبار
شُيُوخ البُخَارِيّ مَاتَ سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ،
وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى، وَفِيه رِوَايَة الصَّحَابِيّ
عَن الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن هدبة بن
خَالِد وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن
مَحْمُود بن غيلَان وَفِي الْجَنَائِز عَن أبي الْأَشْعَث
أَحْمد بن الْمُقدم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز
عَن أبي الْأَشْعَث.
قَوْله: (من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه) قَالَ
الْكرْمَانِي: لَيْسَ الشَّرْط سَببا للجزاء بل الْأَمر
بِالْعَكْسِ، ثمَّ قَالَ: مثله يؤول بالأخبار أَي: من أحب
لِقَاء الله أخبرهُ الله بِأَن الله أحب لقاءه، وَكَذَلِكَ
الْكَرَاهَة. انْتهى.
وَقيل: من، خبرية وَلَيْسَت بشرطية، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ:
أَن سَبَب حب الله لِقَاء العَبْد حب لِقَائِه وَلَا
الْكَرَاهَة، وَلكنه صفة حَال الطَّائِفَتَيْنِ فِي أنفسهم
وَعند رَبهم، وَالتَّقْدِير: من أحب لِقَاء الله فَهُوَ
الَّذِي أحب الله لقاءه، وَكَذَا الْكَرَاهَة. انْتهى.
قلت: حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي يَأْتِي فِي
التَّوْحِيد مَرْفُوع، قَالَ الله تَعَالَى: (إِذا أحب
عَبدِي لقائي أَحْبَبْت لقاءه) يدل على أَن: من،
شَرْطِيَّة فَلَا وَجه لنفيها. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
الْكَرَاهَة الْمُعْتَبرَة هِيَ الَّتِي تكون، عِنْد النزع
فِي حَالَة لَا تقبل التَّوْبَة، فحينئذٍ يكْشف لكل
إِنْسَان مَا هُوَ صائر إِلَيْهِ، فَأهل السَّعَادَة
يحبونَ الْمَوْت ولقاء الله لينتقلوا إِلَى مَا أعد الله
لَهُم. وَيُحب الله لقاءهم ليجزل لَهُم الْعَطاء والكرامة،
وَأهل الشقاوة يكرهونه لما علمُوا من سوء مَا ينتقلون
إِلَيْهِ وَيكرهُ الله لقاءهم أَي: يبعدهم عَن رَحمته
وَلَا يُرِيد لَهُم الْخَيْر وَقَالَ الْخطابِيّ:
اللِّقَاء على وُجُوه. مِنْهَا: الرُّؤْيَة وَمِنْهَا:
الْبَعْث كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد خسر الَّذين كذبُوا
بلقاء الله} (الْأَنْعَام: 13 وَيُونُس: 54) أَي:
بِالْبَعْثِ: وَمِنْهَا: الْمَوْت كَقَوْلِه: من كَانَ
يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) : المُرَاد بلقاء الله هُنَا
الْمصير إِلَى الدَّار الْآخِرَة وَطلب مَا عِنْد الله،
وَلَيْسَ الْغَرَض بِهِ الْمَوْت، لِأَن كلا يكرههُ، فَمن
ترك الدُّنْيَا وأبغضها أحب لِقَاء الله، وَمن آثرها وركن
إِلَيْهَا كره لِقَاء الله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يصل
إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ. قَوْله: (أَو بعض أَزوَاجه) كَذَا
فِي هَذِه الرِّوَايَة بِالشَّكِّ، وَجزم سعيد بن هِشَام
فِي رِوَايَته عَن عَائِشَة بِأَنَّهَا هِيَ قَالَت ذَلِك
وَلم يتَرَدَّد فِيهِ.
قلت: روى مُسلم هَذَا الحَدِيث عَن هداب ابْن خَالِد عَن
همام مُقْتَصرا على أصل الحَدِيث وَلم يذكر فِي هَذِه
الرِّوَايَة هَذِه الزِّيَادَة أعنى قَوْله: (قَالَت
عَائِشَة أَو بعض أَزوَاجه) إِلَى آخِره، ثمَّ أخرجه من
رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة مَوْصُولا فَكَأَن مُسلما
حذف الزِّيَادَة عمدا لكَونهَا مُرْسلَة من هَذَا
الْوَجْه، وَاكْتفى بإيرادها مَوْصُولَة من طَرِيق سعيد بن
أبي عرُوبَة، وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك حَيْثُ
علق رِوَايَة شُعْبَة بقوله: اخْتَصَرَهُ ... إِلَى آخِره
على مَا يَأْتِي، وَكَذَا أَشَارَ إِلَى رِوَايَة سعيد بن
أبي عرُوبَة تَعْلِيقا، وَهَذَا من الْعِلَل الْخفية جدا.
فَإِن قلت: هَذِه الزِّيَادَة لَا تظهر صَرِيحًا: هَل هِيَ
من كَلَام عبَادَة على معنى أَنه سمع الحَدِيث من النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسمع مُرَاجعَة عَائِشَة رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، أَو من كَلَام أنس على معنى أَنه
حضر ذَلِك، أَو من كَلَام قَتَادَة أرْسلهُ فِي رِوَايَة
همام وَوَصله فِي رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة، فَيكون
فِي رِوَايَة همام إدراج.
قلت: هَذِه الِاحْتِمَالَات لَا ترد، فَلذَلِك قَالَ
البُخَارِيّ عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور: اخْتَصَرَهُ أَبُو
دَاوُد ... إِلَى آخِره، وَهَذَا من صَنِيعه العجيب.
قَوْله: (مِمَّا أَمَامه) بِفَتْح الْهمزَة أَي: مِمَّا
قدامه من اسْتِقْبَال الْمَوْت، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
مِمَّا أَمَامه متناول للْمَوْت أَيْضا ثمَّ قَالَ: فَإِن
قلت: قد نَفَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خُصُوصا وأثبته عُمُوما فَمَا وَجهه؟ .
قلت: نفى الْكَرَاهَة الَّتِي هِيَ حَال الصِّحَّة وَقبل
الِاطِّلَاع على حَاله، وَأثبت الَّتِي هِيَ فِي حَال
النزع وَبعد الإطلاع على حَاله، فَلَا مُنَافَاة. قَوْله:
(حضر) على صِيغَة الْمَجْهُول وَكَذَلِكَ قَوْله: (بشر) ،
قَوْله: (كره لِقَاء الله) ويروى: فكره، بِالْفَاءِ.
اخْتَصَرَهُ أبُو دَاوُدَ وعَمْرٌ وعنْ شُعْبَةَ
وَقَالَ سَعِيدٌ: عنْ قَتادَةَ عنْ زُرارَةَ عنْ سَعْدٍ
عنْ عائِشَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: اختصر الحَدِيث الْمَذْكُور أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان
الطَّيَالِسِيّ، وَعَمْرو بن مَرْزُوق الْبَاهِلِيّ،
فرواية أبي دَاوُد أخرجهَا التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن
غيلَان عَن أبي دَاوُد بِلَفْظ أبي مُوسَى الَّذِي يَأْتِي
هُنَا من غير زِيَادَة لَا نُقْصَان، وَرِوَايَة عَمْرو بن
مَرْزُوق أخرجهَا
(23/93)
الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن أبي
مُسلم الْكشِّي، ويوسف بن يَعْقُوب القَاضِي قَالَا:
حَدثنَا عَمْرو بن مَرْزُوق حَدثنَا شُعْبَة ... فَذكره
مثل لفظ أبي دَاوُد سَوَاء. قَوْله: وَقَالَ سعيد، يَعْنِي
ابْن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن زُرَارَة بن أبي أوفى
العامري: كَانَ يؤم الصَّلَاة فَقَرَأَ فِيهَا: {فَإِذا
نقر فِي الناقور} (المدثر: 8) فشهق فَمَاتَ سنة ثَلَاث
وَتِسْعين، وَهُوَ يروي عَن سعد بن هِشَام الْأنْصَارِيّ
ابْن عَم أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قتل
بِأَرْض مكران. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم عَن
مُحَمَّد بن عبد الله: حَدثنَا خَالِد وَحدثنَا ابْن بشار
وَحدثنَا مُحَمَّد بن بكر كِلَاهُمَا عَن سعيد بِهِ.
8056 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ العَلاءِ حدّثنا أبُو
أُسامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسى اعن
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ أحَبَّ
لِقاءَ الله أحَبَّ الله لِقاءَهُ، ومَنْ كَرَهَ لِقاءَ
الله كَرِهَ الله لِقاءَهُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد
بن أُسَامَة، وبريد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح
الرَّاء مصغر برد ابْن عبد الله بن أبي بردة بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء واسْمه الْحَارِث أَو: عَامر
يروي بريد عَن جده أبي بردة، وَأَبُو بردة يروي عَن أَبِيه
أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن أبي بكر
وَغَيره، وَهَذَا مثل حَدِيث عبَادَة غير قَوْله:
(فَقَالَت عَائِشَة)
إِلَى آخِره، فَكَأَنَّهُ أوردهُ استظهاراً لصِحَّة
الحَدِيث.
9056 - حدّثنا يحْيَاى بنُ بُكَيْرٍ حدّثنا اللَّيْثُ عنْ
عُقَيْلَ عنِ ابنِ شهابٍ أَخْبرنِي سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ
وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجالٍ مِنْ أهْل العِلْمِ
أنَّ عائِشَةَ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قالَتْ: كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ
وهْوَ صَحِيحٌ (إنَّهُ: لَمْ يُقَبَضْ نَبِيٌّ. قَطُّ
حتَّى يَرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ)
فَلمَّا نُزِلَ بِهِ ورأسُهُ عَلى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ
ساعَةً ثُمَّ أفلق فأشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ
ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلَى) قُلْتُ:
إِذا لَا يَخْتَارُنا، وعَرَفْتُ أنَّهُ الحَدِيثُ الّذِي
كَانَ يُحَدِّثُنا بِهِ. قالتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ
كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأعْلى) . طابقته
للتَّرْجَمَة من جِهَة اخْتِيَار النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لِقَاء الله بعد أَن خير بَين الْمَوْت
والحياة فَاخْتَارَ الْمَوْت لمحبته لِقَاء الله تَعَالَى.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، ووفاته عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر وَعَن مُسلم
عَن شُعْبَة وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ، وَمضى أَيْضا فِي كتاب الدَّعْوَات فِي: بَاب
دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اللَّهُمَّ
الرفيق الْأَعْلَى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن
عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب: أَخْبرنِي
سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة بن الزبير فِي رجال من أهل
الْعلم أَن عَائِشَة ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (فِي رجال) أَي: فِي جملَة رجال أخر رووا ذَلِك.
قَوْله: (وَهُوَ صَحِيح) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله:
(ثمَّ يُخَيّر) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: بَين حَيَاة
الدُّنْيَا وموتها. قَوْله: (فَلَمَّا نزل بِهِ) بِضَم
النُّون على صِيغَة الْمَجْهُول يَعْنِي: لما حَضَره
الْمَوْت. قَوْله: (وَرَأسه) الْوَاو للْحَال. قَوْله:
(غشي عَلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول جَوَاب: لما
قَوْله: (فأشخص بَصَره) أَي: رفع قَوْله: (الرفيق)
مَنْصُوب بمقدر وَهُوَ نَحْو: أخْتَار أَو أُرِيد، والأعلى
صفته وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة أَو إِلَى:
{الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين والصدقين
وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} (النِّسَاء: 96) قَوْله:
(لَا يختارنا) بِالنّصب أَي: حِين اخْتَار مرافقة أهل
السَّمَاء لَا يَبْغِي أَن يخْتَار مرافقتنا من أهل
الأَرْض.
قلت: هَكَذَا أعربه الْكرْمَانِي فَلَا مَانع من أَن يكون
مَرْفُوعا لِأَن معنى قَوْله: (إِذا) يَعْنِي: حينذٍ هُوَ
لَا يختارنا. قَوْله: (وَعرفت أَنه) أَي: أَن الْأَمر
الَّذِي حصل لَهُ هُوَ قَوْله: (الحَدِيث الَّذِي كَانَ
يحدثنا بِهِ) وَهُوَ صَحِيح وَهُوَ: قَوْله: (إِنَّه لم
يقبض نَبِي قطّ حَتَّى يُخَيّر) . قَوْله: (فَكَانَت
تِلْكَ) أَي: تِلْكَ الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ قَوْله:
(اللَّهُمَّ الرفيق الْأَعْلَى) وَهِي اسْم: كَانَت.
قَوْله: (آخر كلمة) بِالنّصب: خَبَرهَا. قَوْله: (تكلم
بهَا النَّبِي) صفتهَا. قَوْله: (قَوْله) مَنْصُوب على
الِاخْتِصَاص. أَي: أَعنِي قَوْله: اللَّهُمَّ الرفيق
الْأَعْلَى.
24 - (بابُ سَكَراتِ المَوْتِ)
(23/94)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَكَرَات
الْمَوْت، وَهِي جمع سكرة بِفَتْح السِّين وَسُكُون
الْكَاف وَهِي شدَّة الْمَوْت وغمه وَغَشيتهُ، وَالسكر
بِضَم السِّين حَالَة تعرض بَين الْمَرْء وعقله وَهُوَ
اسْم والمصدر: سكر بفحتين يسكر سكرا، قَالَ الْجَوْهَرِي:
وَقد سكر يسكر سكرا مثل: بطر يبطر بطراً، وَالِاسْم السكر
بِالضَّمِّ. انْتهى: وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي الشَّرَاب
وَيُطلق فِي الْغَضَب والعشق وَالنُّعَاس والغشي الناشىء
عَن الْأَلَم، وَالسكر بِالْفَتْح وَسُكُون الْكَاف مصدر
سكرت النَّهر أسكره سكرا إِذا سددته، وَالسكر
بِفتْحَتَيْنِ نَبِيذ التَّمْر.
0156 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ مَيْمُونٍ
حدّثنا عِيسى بنُ يُونُسَ عنْ عُمَرَ بنِ سَعِيد قَالَ:
أَخْبرنِي ابنُ أبي مُلَيْكَةَ أنَّ أَبَا عَمْرٍ
وذَكْوانَ مَوْلى عائِشَةَ أخْبرَهُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي
الله عَنْهَا، كانَتْ تَقُولُ: إنَّ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أوْ
عُلْبَةٌ فِيها ماءٌ، شَكَّ عُمَرُ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ
يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِما وَجْهَهُ
ويَقُولُ: (لَا إلاهَ إلاَّ الله إنَّ لِلْمَوْت سَكَراتٍ)
، ثُمَّ نَصِبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّقِيقِ
الأعْلى) حتَّى قُبِضَ ومالَتْ يَدُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن للْمَوْت سَكَرَات)
وَعمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن الْمَكِّيّ، وَابْن أبي
مليكَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي مليكَة بِضَم
الْمِيم واسْمه زُهَيْر التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ
القَاضِي على عهد ابْن الزبير، وَأَبُو عَمْرو بِالْوَاو
ذكْوَان بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة.
والْحَدِيث مُخْتَصر من حَدِيث أخرجه فِي الْمَغَازِي
بِهَذَا الْإِسْنَاد الْمَذْكُور بعضه.
قَوْله: (ركوة) بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ إِنَاء صَغِير من
جلد يشرب فِيهِ المَاء، وَالْجمع ركاء. قَوْله: (أَو علبة)
بِضَم الْعين الْمُهْملَة، قَالَ أَبُو عبيد: العلبة من
الْخشب والركوة من الْجلد، وَقَالَ العسكري فِي (تلخيصه) :
العلبة قدح الْأَعْرَاب يتَّخذ من جلد ويعلق بِجنب
الْبَعِير، وَالْجمع علاب. وَفِي (الموعب) : لِابْنِ
التياني: العلبة على مِثَال ركوة الْقدح الضخم من جلد
الْإِبِل، وَعَن أبي ليلى: العلبة أَسْفَلهَا جلد وأعلاها
خشب مدور لَهَا إطار كإطار المنخل والغربال وَتجمع على
علب. وَفِي (الْمُحكم) : هِيَ كَهَيئَةِ الْقَصعَة من جلد
لَهَا طوق من خشب. قَوْله: (شكّ عمر) ، يَعْنِي: عمر بن
سعيد الْمَذْكُور، وَفِي بَاب وَفَاة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: يشك عمر، بِلَفْظ الْمُضَارع، وَفِي
يرواية الْإِسْمَاعِيلِيّ: شكّ ابْن أبي حُسَيْن قَوْله:
(يدْخل يَدَيْهِ) من الإدخال، وَيَديه بالتثنية رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره بِالْإِفْرَادِ، وعَلى
هَذَا قَوْله: (بهما) بالتثنية أَو بِالْإِفْرَادِ.
قَوْله: (فِي الرفيق) أَي: أدخلني فِي جُمْلَتهمْ، أَي:
اخْتَرْت الْمَوْت.
وَقَالَ أبُو عَبْدِ الله) ؛ العُلْبَةُ مِنَ الخَشَبِ،
والرَّكْوَةُ مِنَ الأدَمِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَقد فسر العلبة
بِمَا فسره أَبُو عبيد كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَهَذَا
ثَبت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده.
98 - (حَدثنِي صَدَقَة أخبرنَا عَبدة عَن هِشَام عَن
أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت كَانَ رجال من الْأَعْرَاب
جُفَاة يأْتونَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فيسألونه مَتى السَّاعَة فَكَانَ ينظر إِلَى
أَصْغَرهم فَيَقُول إِن يَعش هَذَا لَا يُدْرِكهُ الْهَرم
حَتَّى تقوم عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ قَالَ هِشَام يَعْنِي
مَوْتهمْ) يُمكن أَن يُؤْخَذ وَجه الْمُطَابقَة من قَوْله
مَوْتهمْ لِأَن كل موت فِيهِ سكرة وَصدقَة هُوَ ابْن
الْفضل الْمروزِي وَعَبدَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة هُوَ ابْن سُلَيْمَان
وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن
الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَنَظِيره حَدِيث أنس مضى فِي
كتاب الْأَدَب فِي بَاب مَا جَاءَ فِي قَول الرجل وَيلك
قَوْله الْأَعْرَاب هم ساكنو الْبَادِيَة من الْعَرَب
الَّذين لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا
يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل
الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه
وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن وَالنِّسْبَة
إِلَيْهِمَا أَعْرَابِي وعربي وَقَالَ الْجَوْهَرِي
(23/95)
لَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا لعرب كَمَا أَن
الأنباط جمع لنبط إِنَّمَا الْعَرَب اسْم جنس قَوْله جفاتا
بِضَم الْجِيم جمع جَاف من الْجفَاء وَهُوَ الغلظ فِي
الطَّبْع لقلَّة مُخَالطَة النَّاس ويروى بِالْحَاء
الْمُهْملَة جمع حاف وَهُوَ الَّذِي يمشي بِلَا شَيْء فِي
رجلَيْهِ وكلا الْمَعْنيين غَالب على أهل الْبَادِيَة
قَوْله ينظر إِلَى أَصْغَرهم وَفِي رِوَايَة مُسلم وَكَانَ
ينظر إِلَى أحدث أَسْنَان مِنْهُم قَوْله لَا يُدْرِكهُ
مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الشَّرْط قَوْله " قَالَ هِشَام "
يَعْنِي ابْن عُرْوَة رَاوِي الحَدِيث وَهُوَ مَوْصُول
بالسند الْمَذْكُور يَعْنِي فسر السَّاعَة بِالْمَوْتِ
قَالَ الْكرْمَانِي يُرِيد بساعتهم مَوْتهمْ وانقراض عصرهم
إِذْ من مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته وَكَيف وَالْقِيَامَة
الْكُبْرَى لَا يعلمهَا إِلَّا الله عز وَجل ثمَّ قَالَ
فَإِن قلت السُّؤَال عَن الْكُبْرَى وَالْجَوَاب عَن
الصُّغْرَى فَلَا مُطَابقَة قلت هُوَ من بَاب أسلوب
الْحَكِيم قلت مَعْنَاهُ دعوا السُّؤَال عَن وَقت
الْقِيَامَة الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يعلمهَا إِلَّا
الله عز وَجل واسألوا عَن الْوَقْت الَّذِي يَقع فِيهِ
انْقِرَاض عصركم فَهُوَ أولى لكم لِأَن معرفتكم إِيَّاه
تبعثكم على مُلَازمَة الْعَمَل الصَّالح قبل فَوته لِأَن
أحدكُم لَا يدْرِي من الَّذِي يسْبق الآخر وَقيل هُوَ
تَمْثِيل لتقريب السَّاعَة لَا يُرَاد بهَا حَقِيقَة
قِيَامهَا أَو الْهَرم لَا حد لَهُ أَو علم - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ذَلِك الْمشَار
إِلَيْهِ لَا يعمر وَلَا يعِيش -
2156 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ
مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَلْحَلَةَ عَن مَعْبَدِ بنِ
كَعْبِ بن مالِكٍ عنْ أبي قَتادَةَ بنِ رِبْعِيّ
الأنْصاريِّ أنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنازَةٍ فَقَالَ:
(مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَراحٌ مِنَهُ) قالُوا: يَا رسولَ الله!
مَا المُسْتَرِيحُ والمُسْتَراحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (العَبْدُ
المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيا وأذاها
إِلَى رَحْمَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ، والعَبْدُ الفاجِرُ
يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العبادُ والبِلادُ والشَّجَرُ
والدَّوابُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَخذهَا من قَوْله: (يستريح من
نصب الدُّنْيَا) وَمن جملَة النصب: سكرة الْمَوْت.
وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس واسْمه عبد الله الْمدنِي ابْن
أُخْت مَالك بن أنس الَّذِي روى عَنهُ، وَمُحَمّد بن
عَمْرو بن حلحلة بِفَتْح الحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ
وَإِسْكَان اللَّام الأولى وَلَيْسَ لَهُ عَن معبد غَيره،
ومعبد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ،
وَأَبُو قَتَادَة اسْمه الْحَارِث بن ربعي بِكَسْر الرَّاء
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْيَاء.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة عَن
مَالك بِهِ وَعَن غَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا
فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (مر عَلَيْهِ بِجنَازَة) على صِيغَة (الْمَجْهُول)
. قَوْله: (ومستراح) الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى: أَو، أَو
هِيَ للتقسيم على مَا صرح بِمُقْتَضَاهُ فِي جَوَاب
سُؤَالهمْ. قَوْله: (من نصب الدُّنْيَا) النصب التَّعَب
وَالْمَشَقَّة. قَوْله: (وأذاها) من عطف الْعَام على
الْخَاص، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يُرَاد
بِالْمُؤمنِ المتقي خَاصَّة، وَيحْتَمل كل مُؤمن، والفاجر
يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْكَافِر، وَيحْتَمل أَن يدْخل
فِيهِ العَاصِي، أما رَاحَة الْعباد مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ
لَهُم من ظلمه، وَأما رَاحَة الْبِلَاد فَلَمَّا كَانَ من
غصبهَا ومنعها من حَقّهَا وَصرف مَا يحصل مِنْهَا إِلَى
غير أَهله فِي غير وَجهه، وَأما رَاحَة الشّجر فَلَمَّا
كَانَ من قلعة إِيَّاهَا بِالْغَصْبِ، أَو من أَخذ ثمره
كَذَلِك لَكِن الرَّاحَة هُنَا لصَاحب الشّجر وَإسْنَاد
الرَّاحَة إِلَيْهِ مجَاز، وَأما رَاحَة الدَّوَابّ
فَلَمَّا كَانَ من اسْتِعْمَالهَا فَوق طاقتها
وَالتَّقْصِير فِي أكلهَا وشربها.
3156 - حدّثنا مُسَدِّدٌ حَدثنَا يحْيَاى عنْ عَبْدِ
رَبِّهِ بنِ سَعِيدٍ عنِ محَمَّدِ بنِ عَمْرو بنِ
حَلْحَلَةَ حدّثني بنُ كَعْبٍ عَن ابي قَتَادَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مستريح ومستراح
مِنْهُ الْمُؤمن يستريح
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان
عَن عبد ربه بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ كَذَا وَقع
هُنَا لأبي ذَر عَن شُيُوخه الثَّلَاثَة فِي رِوَايَة عنْ
أبي زيد الْمروزِي، وَوَقع عِنْد مُسلم عَن عبد الله بن
سعيد بن أبي هِنْد. وَقَالَ الغساني: عبد ربه بن سعيد وهم،
وَالصَّوَاب الْمَحْفُوظ عبد الله، وَكَذَا روه ابْن السكن
عَن الْفربرِي فَقَالَ فِي رِوَايَته: عبد الله بن سعيد
هُوَ
(23/96)
ابْن أبي هِنْد، والْحَدِيث مَحْفُوظ لَهُ
لَا لعبد ربه.
قَوْله: (حَدثنِي ابْن كَعْب) هُوَ معبد بن كَعْب بن مَالك
الْمَذْكُور فِي السَّنَد الأول. قَوْله: (مستريح)
إِلَى آخِره أخرجه مُخْتَصرا هَكَذَا بِدُونِ السُّؤَال
وَالْجَوَاب.
4156 - حدّثنا الحُمَيْدِيُّ حدّثنا سُفْيانُ حَدثنَا
عَبْدُ الله بنُ أبي بَكْرِ بنِ عَمْرو بنِ حَزْمٍ سَمِعَ
أنَسَ بنَ مالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ فَيَرْجِعُ
اثْنانِ ويَبْقى مَعَهُ واحِدٌ، يتبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ
وَعَمله فَيرجع أَهله وَمَاله ويَبْقى عَمَلُهُ) .
تؤخذه مطابقته للتَّرْجَمَة من قَوْله: (يتبع الْمَيِّت) .
لِأَن كل ميت يقاسي سكرة الْمَوْت.
والْحميدِي هُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى مَنْسُوب
إِلَى أحد أجداده حميد مصغر حمد وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة وَلَيْسَ لشيخه عبد الله بن أبي بكر عَن أنس غير
هَذَا الحَدِيث.
وَأخرجه مُسلم فِي الزّهْد عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر بن
حَرْب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّقَائِق عَن سُوَيْد بن نصر
وَفِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (يتبع الْمَيِّت) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين والسرخسي، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
يتبع الْمَرْء، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْكشميهني:
يتبع الْمُؤمن، وَالْأول هُوَ الْمَحْفُوظ. قيل:
التّبعِيَّة فِي بَعْضهَا حَقِيقَة وَفِي بَعْضهَا مجَاز
فَكيف جَازَ اسْتِعْمَال لفظ وَاحِد فيهمَا؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ يجوز عِنْد الشَّافِعِيَّة ذَلِك، وَأما عِنْد
غَيرهم فَيحمل على عُمُوم الْمجَاز. قَوْله: (يتبعهُ
أَهله)
إِلَى آخِره توضيح قَوْله ثَلَاثَة، وَهَذَا يَقع فِي
الْأَغْلَب، وَرب ميت لَا يتبعهُ إلاَّ عمله فَقَط.
قَوْله: (وَمَاله) مثل رَقِيقه ودوابه على مَا جرت بِهِ
عَادَة الْعَرَب. قَوْله: (وَيبقى عمله) وَمعنى بَقَاء
عمله أَنه إِن كَانَ صَالحا يَأْتِيهِ فِي صُورَة رجل حسن
الْوَجْه حسن الثِّيَاب حسن الرَّائِحَة فَيَقُول: أبشر
بِالَّذِي يَسُرك، فَيَقُول: من أَنْت؟ فَيَقُول: أَنا
عَمَلك الصَّالح. وَقَالَ فِي الحَدِيث فِي حق الْكَافِر:
ويأتيه رجل قَبِيح الْوَجْه فَيَقُول: أَنا عَمَلك
الْخَبيث. هَذَا وَقع هَكَذَا فِي حَدِيث الْبَراء بن
عَازِب أخرجه أَحْمد وَغَيره.
5156 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ حَدثنَا حَمَّادُ بنُ
زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله
عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِذا ماتَ أحَدُكُمْ عُرضَ علَيْهِ مَقْعَدُهُ
غُدوَةَ وعَشِيا، إمَّا النَّارُ وإمَّا الجَنَّةُ،
فَيُقالُ: هاذا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ) . (انْظُر
الحَدِيث 9731 وطرفه) .
تُؤْخَذ مطابقته للتَّرْجَمَة من قَوْله: (إِذا مَاتَ)
لِأَن الَّذِي يَمُوت لَا بُد لَهُ من سكرة الْمَوْت.
وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي
الْبَصْرِيّ يُقَال لَهُ عَارِم، وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (عرض عَلَيْهِ مَقْعَده) كَذَا فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي: عرض على مَقْعَده، وَالْأول هُوَ
الأَصْل وَالثَّانِي من بَاب الْقلب نَحْو: عرض النَّاقة
على الْحَوْض. قَوْله: (غدْوَة وعشياً) أَي: أول النَّهَار
وَآخره بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل الدُّنْيَا، وَالَّذِي
يعرض على الْمُؤمن مقعدان يراهما جَمِيعًا. وَفَائِدَة
الْعرض لِلْمُؤمنِ نوع من الْفَرح وللكافر نوع من
الْعَذَاب، وَالْعرض على الرّوح حَقِيقَة وعَلى مَا يتَّصل
بِهِ من الْبدن الِاتِّصَال الَّذِي يُمكن بِهِ إِدْرَاك
التَّنْعِيم أَو التعذيب. وَقَالَ ابْن بطال حاكياً عَن
غَيره: إِن المُرَاد بِالْعرضِ هُنَا الْإِخْبَار بِأَن
هَذَا مَوضِع جزائكم على أَعمالكُم عِنْد الله، لِأَن
الْعرض لَا يَقع على شَيْء فانٍ، فالعرض الَّذِي يَدُوم
إِلَى يَوْم الْقِيَامَة هُوَ الْعرض الَّذِي على
الْأَرْوَاح خَاصَّة، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن حمل الْعرض
على الْإِخْبَار عدُول عَن الظَّاهِر بِغَيْر مُقْتَضى
لذَلِك، فَلَا يجوز الْعُدُول إلاَّ بصارفٍ يصرفهُ عَن
الظَّاهِر. انْتهى.
قلت: فِيهِ نظر لِأَن الْأَبدَان تفنى وَالَّذِي يفنى حكمه
حكم المعدم وَلَا يتَصَوَّر الْعرض على الْمَعْدُوم.
وَقَوله: (عدُول عَن الظَّاهِر بِغَيْر مُقْتَضى، غير
مُسلم لِأَن الحكم بِالظَّاهِرِ مُتَعَذر، والصارف عَن
الظَّاهِر مَوْجُود وَهُوَ امْتنَاع الْعرض على
الْمَعْدُوم، وَقَالَ بَعضهم: يُؤَيّد الْحمل على
الظَّاهِر أَن الْخَبَر ورد على الْعُمُوم فِي الْمُؤمن
وَالْكَافِر، فَلَو اخْتصَّ الْعرض بِالروحِ لم يكن للشهيد
فِي ذَلِك كثير فَائِدَة لِأَن روحه منعمة جزما، كَمَا فِي
الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَكَذَا روح الْكَافِر معذبة
فِي النَّار جزما، فَإِذا حمل على الرّوح الَّتِي لَهَا
اتِّصَال بِالْبدنِ ظَهرت فَائِدَة ذَلِك فِي حق
الشَّهِيد، وَفِي حق الْكَافِر أَيْضا. انْتهى.
قلت: كَون عُمُوم الْخَبَر يُؤَيّد الْحمل على الظَّاهِر
غير مُسلم لما ذكرنَا. ثمَّ تَقْوِيَة ذَلِك بقوله: فَلَو
اخْتصَّ
(23/97)
الْعرض بِالروحِ ... إِلَى آخِره غير مُسلم
أَيْضا، لِأَن الْعرض فِي حق الشَّهِيد زِيَادَة فَرح
وسرور وَفِي حق الْكَافِر زِيَادَة جزع وتحسر، وَيُؤَيّد
هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيّ
وَصَححهُ ابْن حبَان من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي فتْنَة
السُّؤَال فِي الْقَبْر. وَفِيه: ثمَّ يفتح لَهُ بَاب من
أَبْوَاب الْجنَّة، فَيُقَال لَهُ: هَذَا مَقْعَدك وَمَا
أعده الله لَك فِيهَا، فَيَزْدَاد غِبْطَة وسروراً، ثمَّ
يفتح لَهُ بَاب من أَبْوَاب النَّار فَيُقَال لَهُ: هَذَا
مَقْعَدك وَمَا أعده الله لَك فِيهَا لَو عصيته،
فَيَزْدَاد غِبْطَة وسروراً ... الحَدِيث. وَفِيه فِي حق
الْكَافِر: ثمَّ يفتح لَهُ بَاب من أَبْوَاب النَّار،
وَفِيه: فَيَزْدَاد حسرة وثبوراً فِي الْمَوْضِعَيْنِ،
وَفِيه: لَو أطعته. قَوْله: (إِمَّا النَّار وَإِمَّا
الْجنَّة) ، قيل كلمة: إِمَّا، التفصيلية تمنع الْجمع
بَينهمَا. وَأجِيب بِأَنَّهُ قد يكون لمنع الْخُلُو
عَنْهُمَا. فَإِن قلت: هَذَا الْعرض لِلْمُؤمنِ المتقي
وَالْكَافِر ظَاهر، فَكيف الْأَمر فِي الْمُؤمن المخلص؟ .
قلت: يحْتَمل أَن يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده من الْجنَّة
الَّتِي سيصير إِلَيْهَا. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة التكرر
فِي الْعرض؟ .
قلت: فَائِدَته تذكارهم بذلك. قَوْله: (حَتَّى تبْعَث
إِلَيْهِ) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَتَّى تبْعَث
عَلَيْهِ، وَفِي طَرِيق مَالك: حَتَّى يَبْعَثك الله
إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا
معنى الْغَايَة الَّتِي فِي ... حَتَّى تبْعَث؟ ثمَّ أجَاب
بقول: مَعْنَاهَا أَنه يرى بعد الْبَعْث من عِنْد الله
كَرَامَة ينسى عِنْدهَا هَذَا المقعد، وَقَالَ
الْكرْمَانِي أَيْضا: وَفِيه إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر
وَالأَصَح أَنه للجسد وَلَا بُد من اعادة الرّوح فِيهِ
لِأَن الْأَلَم لَا يكون إِلَّا للحي قلت إِثْبَات عَذَاب
الْقَبْر لَا تداع وَأما قَوْله وَالأَصَح أَنه للجسد،
فَغير مُسلم لِأَن الْجَسَد يفنى وتعذيب الَّذِي فني غير
مُتَصَوّر، وَأما قَوْله: وَلَا بُد من إِعَادَة الرّوح
فِيهِ، فَفِيهِ اخْتِلَاف: هَل تعود الرّوح فِيهِ حَقِيقَة
أَو تقرب من الْبدن بِحَسب مَا يعذب الْبدن بِوَاسِطَة أَو
بِغَيْر ذَلِك؟ فحقيقة ذَلِك عِنْد الله، وَقد ضرب بعض
الْعلمَاء لتعذيب الرّوح مثلا بالنائم فَإِن روحه تتنعم
أَو تعذب والجسد لَا يحس بِشَيْء من ذَلِك، وَاعْلَم أَن
نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة ويعرض
عَلَيْهِ مقعدها غدْوَة وعشيا، وأرواح الْكفَّار فِي
أَجْوَاف طيور سود تَغْدُو على جَهَنَّم وَتَروح كل يَوْم
مرَّتَيْنِ، فَذَلِك عرضهَا. وَقد قيل: إِن أَرْوَاحهم فِي
صَخْرَة سَوْدَاء تَحت الأَرْض السَّابِعَة على شَفير
جَهَنَّم فِي حواصل طيور سود.
6156 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ أخبرنَا شُعْبَةُ عَن
الأعْمَشِ عَنْ مُجاهِدٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ: قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَوْله: (لَا تَسُبُّوا
الأمْواتَ فإنَّهُمْ قَدْ أفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا)
(انْظُر الحَدِيث 3931) .
ذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا لكَونه فِي أَمر الْأَمْوَات
الَّذين ذاقوا سَكَرَات الْمَوْت وَقد مضى فِي آخر كتاب
الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا ينْهَى عَن سبّ الْأَمْوَات،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَا ك عَن آدم عَن شُعْبَة عَن
الْأَعْمَش وَهُوَ سُلَيْمَان عَن مُجَاهِد ... إِلَى
آخِره.
عَليّ بن الْجَعْد بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة ابْن عبيد أَبُو الْحسن الْجَوْهَرِي
الْبَغْدَادِيّ روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي كِتَابه اثْنَي
عشر حَدِيثا، وَقَالَ: مَاتَ بِبَغْدَاد آخر رَجَب سنة
ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (أفضوا) أَي: وصلوا إِلَى جَزَاء أَعْمَالهم من
الْخَيْر وَالشَّر.
34 - (بابُ نَفْخِ الصُّورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نفخ الصُّور، وَهُوَ بِضَم
الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو، وروى عَن الْحسن
أَنه قَرَأَهَا بِفَتْح الْوَاو جمع صُورَة، وتأوله على
أَن المُرَاد النفخ فِي الأجساد لتعاد إِلَيْهَا
الْأَرْوَاح. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي (الْمجَاز)
يُقَال: الصُّور، يَعْنِي بِسُكُون الْوَاو جمع صُورَة
كَمَا يُقَال: سور الْمَدِينَة، جمع سُورَة، وَحكى
الطَّبَرِيّ عَن قوم مثله: وَزَاد: كالصوف جمع صوفة، ورد
على هَذَا بِأَن الصُّور اسْم جنس لَا جمع. قَالَ: وَقَالَ
الْأَزْهَرِي: إِنَّه خلاف مَا عَلَيْهِ أهل السّنة
وَالْجَمَاعَة، وَيَأْتِي تَفْسِيره الْآن.
قَالَ مُجاهِدٌ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ البُوقِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْفرْيَابِيّ من طَرِيق ابْن أبي
نجيح عَن مُجَاهِد، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي
الصُّور} (الْكَهْف: 99 وَغَيرهَا) قَالَ: كَهَيئَةِ البوق
(23/98)
الَّذِي يزمر بِهِ وَهُوَ مَعْرُوف،
وَيُقَال: إِن الصُّور اسْم الْقرن بلغَة أهل الْيمن، قيل:
كَيفَ شبه الصُّور بالقرن الَّذِي هُوَ مَذْمُوم؟ وَأجِيب:
لَا مَانع من ذَلِك، أَلا يرى كَيفَ شبه صَوت الْوَحْي
بصلصلة الجرس مَعَ وُرُود النَّهْي عَن استصحابه. فَإِن
قلت: مماذا خلق الصُّور.
قلت: روى أَبُو الشَّيْخ فِي كتاب (العظمة) من طَرِيق وهب
بن مُنَبّه من قَوْله: قَالَ: خلق الصُّور من لؤلؤة
بَيْضَاء فِي صفاء الزجاجة، ثمَّ قَالَ للعرش: خُذ الصُّور
فَتعلق بِهِ، ثمَّ قَالَ: كن فَكَانَ إسْرَافيل عَلَيْهِ
السَّلَام، فَأمره أَن يَأْخُذ الصُّور فَأَخذه وَبِه ثقب
بِعَدَد كل روح مخلوقة وَنَفس منفوسة، فَذكر الحَدِيث.
وَفِيه: ثمَّ يجمع الْأَرْوَاح كلهَا فِي الصُّور ثمَّ
يَأْمر الله عز وَجل إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام فينفخ
فِيهِ، فَتدخل كل روح فِي جَسدهَا، وَأخرج أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان
وَصَححهُ وَالْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن
الْعَاصِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ
أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: مَا الصُّور؟ قَالَ: قرن ينْفخ فِيهِ.
زَجْرَةٌ: صَيْحَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {فَإِنَّمَا
هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} (الصافات: 91 والنازعات: 31)
وَفسّر الزجرة بقوله: صَيْحَة، وَهُوَ من تَفْسِير
مُجَاهِد أَيْضا، وَصله الْفرْيَابِيّ أَيْضا من طَرِيق
ابْن أبي نجيح عَنهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الناقورُ الصُّورُ
أَرَادَ بِهِ أَن ابْن عَبَّاس فسر الناقور فِي قَوْله عز
وَجل: {فَإِذا نقر فِي الناقور} (المدثر: 8) بِأَنَّهُ
الصُّور، وَصله الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة،
وَمعنى نقر: نفخ) .
الرَّاجِفَةُ: النَّفْخَةُ الأُولى. والرَّادِفَةُ:
النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ
هَذَا من تَفْسِير ابْن عَبَّاس أَيْضا فِي قَوْله عز
وَجل: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ} (النازعات: 6 7) أَي: النفخة الأولى تتبعها
النفخة الثَّانِيَة، وَصله الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم
أَيْضا بالسند الْمَذْكُور، وَبِه فسر الْفراء فِي
(مَعَاني الْقُرْآن) : وَعَن مُجَاهِد الراجفة الزلزلة،
والرادفة الدكدكة. أخرجه الْفرْيَابِيّ وَغَيره عَنهُ،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاخْتلف فِي عَددهَا. وَالأَصَح
أَنَّهَا نفختان. قَالَ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ
فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ
إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى
فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر: 86) وَالْقَوْل
الثَّانِي: إِنَّهَا ثَلَاث نفخات: نفخة الْفَزع فَيفزع
أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض بِحَيْثُ تذهل كل مُرْضِعَة
عَمَّا أرضعت، ثمَّ نفخة الصَّعق، ثمَّ نفخة الْبَعْث،
فَأُجِيب: بِأَن الْأَوليين عائدتان إِلَى وَاحِدَة فزعوا
إِلَى أَن صعقوا، وَالْمَشْهُور أَن صَاحب الصُّور
إسْرَافيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَنقل فِيهِ
الْحَلِيمِيّ الْإِجْمَاع. فَإِن قلت: جَاءَ أَن الَّذِي
ينْفخ فِي الصُّور غير إسْرَافيل، فروى الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْأَوْسَط) : عَن عبد الله بن الْحَارِث: كُنَّا عِنْد
عَائِشَة فَقَالَت: يَا كَعْب! أَخْبرنِي عَن إسْرَافيل.
قيل ... فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: وَملك الصُّور جاثي على
إِحْدَى رُكْبَتَيْهِ، وَقد نصب الْأُخْرَى يلتقم الصُّور
محنياً ظَهره شاخصاً ببصره ينظر إِلَى إسْرَافيل، وَقد
أَمر إِذا رأى إسْرَافيل قد ضم جناحيه أَن ينْفخ فِي
الصُّور. فَقَالَت عَائِشَة: سمعته من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
قلت: فِيهِ زيد بن جدعَان وَهُوَ ضَعِيف. فَإِن قلت:
يُؤَيّد الحَدِيث الْمَذْكُور مَا أخرجه هناد بن السّري
فِي (كتاب الزّهْد) : مَا من صباح إِلَّا وملكان موكلان
بالصور ينتظران مَتى يؤمران فينفخان، يَعْنِي: فِي
الصُّور.
قلت: هَذَا مَوْقُوف على عبد الرحمان بن أبي عمْرَة. فَإِن
قلت: روى عَن الإِمَام أَحْمد من طَرِيق سُلَيْمَان
التَّيْمِيّ عَن أبي. . عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَو عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: النافخان فِي السَّمَاء
الثَّانِيَة رَأس أَحدهمَا بالمشرق وَرجلَاهُ بالمغرب،
وَالْآخر بِالْعَكْسِ ينتظران مَتى يؤمران أَن ينفخا فِي
الصُّور فينفخا، وَرِجَاله ثِقَات. وَأخرجه الْحَاكِم من
حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بِغَيْر شكّ، وروى ابْن مَاجَه
وَالْبَزَّار من حَدِيث أبي سعيد رَفعه: أَن صَاحِبي
الصُّور بأيديهما قرنان
(23/99)
يلاحظان النّظر مَتى يؤمران، وَقَالَ بعض
الْعلمَاء: الْملك الَّذِي إِذا رأى إسْرَافيل ضم جناحيه
فِي حَدِيث عَائِشَة ينْفخ النفخة الأولى، وإسرافيل ينْفخ
النفخة الثَّانِيَة، وَهِي نفخة الْبَعْث.
7156 - حدّثني عَبْدُ العَزيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ:
حدّثني إبْراهِيمُ بنُ سعْدٍ عَن ابْن شهَاب عنْ أبي
سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ وَعَبْدِ الرَّحْمانِ
الأعرَجِ أنَّهُما حدَّثاهُ: أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
اسْتَبَّ رَجُلانِ: رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ ورَجُلٌ مِنَ
اليَهُودِ، فَقَالَ المُسْلِمُ: والْذي اصْطَفى مُحَمَّداً
عَلى العالمِينَ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: والّذِي اصْطَفاى
مُوسى على العَالَمِينَ، قَالَ: فَغَضِبَ المُسْلِمُ
عِنْدَ ذالِكَ فَلَطَمَ وجْهَ اليَهُودِيِّ، فَذَهَبَ
اليَهُودِيُّ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فأخْبَرَهُ بِما كانَ مِنْ أمْرِه وأمْرِ المُسْلِمِ،
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا
تُخَيِّرُونِي عَلى مُوسى، فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ
يَوْمَ القِيامَةِ فأكونَ فِي أوَّلِ مَنْ يُفِيقُ فَإِذا
مُوسى باطِشٌ بِجانِبِ العَرْشِ فَلَا أدْري أكانَ مُوسى
فِيمَنْ صَعِقَ فأفاقَ قَبِلِي أوْ كانَ مِمَنْ اسْتَثْنى
الله) .
وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة يُمكن أَن
يُؤْخَذ من قَوْله: (فَإِن النَّاس يصعقون يَوْم
الْقِيَامَة)
إِلَى آخر الحَدِيث، وَلَكِن فِيهِ تعسف وَقد تكَرر ذكر
رِجَاله.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْأَشْخَاص،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن قزعة عَن إِبْرَاهِيم
بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة، وَعبد الرَّحْمَن
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة إِلَى آخِره، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (لَا تخيروني) أَي: لَا تفضلُونِي وَلَا تجعلوني
خيرا مِنْهُ. قيل: هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أفضل
الْمَخْلُوقَات، فَلم نهى عَن التَّفْضِيل؟ وَأجِيب بِأَن
مَعْنَاهُ: لَا تفضلُونِي بِحَيْثُ يلْزم نقص أَو غَضَاضَة
على غَيره من الْفضل، أَو بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى
خُصُومَة، أَو قَالَه تواضعاً، أَو كَانَ هَذَا قبل علمه
بِأَنَّهُ كَانَ سيد ولد آدم. وَقَالَ ابْن بطال: لَا
تفضلُونِي عَلَيْهِ فِي الْعَمَل فَإِنَّهُ أَكثر عملا
مني، وَالثَّوَاب بِفضل الله لَا بِالْعَمَلِ، أَو لَا
تفضلُونِي فِي الْبلوى والامتحان فَإِنَّهُ أَكثر محنة مني
وَأعظم (إِيذَاء وبلاء) . قَوْله: (يصعقون) بِفَتْح الْعين
فِي الْمُضَارع وبكسرها فِي الْمَاضِي من صعق إِذا غشي
عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّعق أَن يغشى على
الْإِنْسَان من صَوت شَدِيد يسمعهُ وَرُبمَا مَاتَ مِنْهُ،
ثمَّ اسْتعْمل فِي الْمَوْت كثيرا، أَو قَالَ القَاضِي:
يحْتَمل أَن هَذِه الصعقة صعقة فزع بعد الْبَعْث حَتَّى
تَنْشَق السَّمَوَات وَالْأَرْض، يدل عَلَيْهِ قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (فأفاق قبلي) لِأَنَّهُ إِنَّمَا
يُقَال: أَفَاق من الغشي، وَأما الْمَوْت فَيُقَال: بعث
مِنْهُ، وصعقة الطّور لم تكن موتا. وَأما قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَن صعق
فأفاق قبلي) فَيحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
ذَلِك قبل أَن علم أَنه أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض، إِن
كَانَ هَذَا اللَّفْظ على ظَاهره، وَأَن نَبينَا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَو شخص مِمَّن تَنْشَق عَنْهُم الأَرْض
فَيكون مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، من تِلْكَ الزمرة وَهِي
وَالله أعلم زمرة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام،
قَوْله: (أَو كَانَ مِمَّن اسْتثْنى الله) أَي: فِيمَا
قَالَ: {فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض
إِلَّا من شَاءَ الله} (الزمر: 86) وَفِيه عشرَة أَقْوَال.
الأول: أَنهم الْمَوْتَى لكَوْنهم لَا إحساس لَهُم.
وَالثَّانِي: الشُّهَدَاء. الثَّالِث: الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم السَّلَام، وَإِلَيْهِ مَال الْبَيْهَقِيّ،
وَجوز أَن يكون مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، مِمَّن
اسْتثْنى الله. الرَّابِع: جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل
وَملك الْمَوْت، ثمَّ يَمُوت الثَّلَاثَة ثمَّ يَقُول الله
لملك الْمَوْت مت فَيَمُوت، قَالَه يحيى بن سَلام فِي
(تَفْسِيره) : الْخَامِس: حَملَة الْعَرْش لأَنهم فَوق
السَّمَوَات. السَّادِس: مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَحده
أخرجه الطَّبَرِيّ بِسَنَد فِيهِ ضعف عَن أنس وَعَن
قَتَادَة، وَذكره الثَّعْلَبِيّ عَن جَابر. السَّابِع:
الْولدَان الَّذين فِي الْجنَّة والحور الْعين. الثَّامِن:
خزان الْجنَّة. التَّاسِع: خزان النَّار، وَمَا فِيهَا من
الْحَيَّات والعقارب، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ. الْعَاشِر:
الْمَلَائِكَة كلهم، جزم بِهِ ابْن حزم فِي (الْملَل
والنحل) : فَقَالَ: الْمَلَائِكَة أَرْوَاح لَا أَرْوَاح
فِيهَا فَلَا يموتون أصلا.
8156 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حدّثنا أبُو
الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ
يَصْعقُونَ فأكُونُ أوَّلَ مَنْ قَامَ فَإِذا مُوسَى آخِذٌ
بالعَرْشِ
(23/100)
فَما أدْرِي أكانَ مِمَّنْ صعِقِ) .
رَوَاهُ أبُو سَعِيدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أوردهُ
مُخْتَصرا وبقيته بعد قَوْله: مِمَّن صعق أم لَا.
وَرِجَاله بِهَذَا النسق قد مروا غير مرّة، وَأَبُو
الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي
وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز. فَإِن قيل: فَهَل صَار مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام، بِهَذَا التَّقَدُّم أفضل من نَبينَا
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قيل لَهُ: لَا يلْزم من فَضله من
هَذِه الْجِهَة أفضليته مُطلقًا، وَقيل: لَا يلْزم أحد
الْأَمريْنِ الْمَشْكُوك فيهمَا الْأَفْضَلِيَّة على
الْإِطْلَاق.
قَوْله: (رَوَاهُ أَبُو سعيد) أَي: روى الحَدِيث
الْمَذْكُور أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي: أصل الحَدِيث، وَقد تقدم
مَوْصُولا فِي كتاب الْأَشْخَاص وَفِي قصَّة مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام، من أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم
السَّلَام.
44 - (بابُ يَقْبِضُ الله الأرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ يقبض الله الأَرْض، معنى يقبض
يجمع، وَقد يكون معنى الْقَبْض فنَاء الشَّيْء وذهابه،
قَالَ تَعَالَى: {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم
الْقِيَامَة} (الزمر: 76) وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد
بِهِ، وَالْأَرْض جَمِيعًا ذَاهِبَة فانية يَوْم
الْقِيَامَة.
رَواهُ نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
أَي: روى قَوْله: يقبض الله الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة،
نَافِع عَن عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق سقط من بعض الروَاة
من شُيُوخ أبي ذَر، وَوَصله البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد
على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
9156 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِل أخبرنَا عَبْدُ الله
أخبرنَا يُونُسُ عَن الزُّهْرِيِّ حَدثنِي سَعيدُ بنُ
المُسَيَّبِ عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، عَن
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَقْبضُ الله
الأرْضَ ويطْوِي السَّماءَ بيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنا
المَلِكُ! أيْنَ مُلوكُ الأرْض؟) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أول الحَدِيث. وَمُحَمّد بن
مقَاتل الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك
الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ
مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن
أَحْمد بن صَالح. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن
حَرْمَلَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن سُوَيْد
بن نصر وَغَيره وَفِي التَّفْسِير عَن يُونُس بن عبد
الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن حَرْمَلَة
بن يحيى وَغَيره. والْحَدِيث من المتشابهات.
قَوْله: (ويطوي السَّمَاء) أَي: يذهبها ويفنيها وَلَا
يُرَاد بذلك طي بعلاج وانتصاب إِنَّمَا المُرَاد بذلك
الإذهاب والإفناء، يُقَال: انطوى عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ،
أَي: ذهب وَزَالَ، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة. قَوْله:
(بِيَمِينِهِ) أَي: بقدرته. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَده
عبارَة عَن قدرته وإحاطته بِجَمِيعِ مخلوقاته، وَالْيَد
تَأتي لمعان كَثِيرَة: بِمَعْنى الْقُوَّة وَمِنْه قَوْله
تَعَالَى: {وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد ذَا الأيد} (ص: 71)
وَبِمَعْنى الْملك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {قل إِن
الْفضل بيد الله} (آل عمرَان: 37) ، وَبِمَعْنى:
النِّعْمَة تَقول: كم يَد لي عِنْد فلَان، أَي: كم من
نعْمَة أسديتها إِلَيْهِ، وَبِمَعْنى الصِّلَة وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى: { (2) أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة
النِّكَاح} (الْبَقَرَة: 732) وَبِمَعْنى الْجَارِحَة،
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: { (38) وَخذ بِيَدِك ضغثا}
وَبِمَعْنى الذل وَمِنْه قَوْله تَعَالَى (حَتَّى يُعْطوا
الْجِزْيَة عَن يَد) قَالَ الْهَرَوِيّ أَي عَن ذل وَقَوله
تَعَالَى (يَد الله فَوق ايديهم) (ص: 44) قيل: فِي
الْوَفَاء، وَقيل: فِي الثَّوَاب. وَفِي الحَدِيث: (هَذِه
يَدي لَك) ، أَي: استسلمت لَك وانقدت لَك، وَقد يُقَال
ذَلِك للعاتب، وَالْيَد الاستسلام. قَالَ الشَّاعِر.
(أطَاع يدا بالْقَوْل فَهُوَ ذَلُول)
أَي: انْقَادَ واستسلم. وَالْيَد السُّلْطَان، وَالْيَد
الطَّاعَة، وَالْيَد الْجَمَاعَة، وَالْيَد الْأكل،
وَالْيَد النَّدَم: وَفِي الحَدِيث: (وَأخذ بهم يَد
الْبَحْر) ، يُرِيد طَرِيق السَّاحِل، وَيُقَال للْقَوْم
إِذا تفَرقُوا وتمزقوا فِي آفَاق: صَارُوا أَيدي سبأ،
وَالْيَد السَّمَاء، وَالْيَد الْحِفْظ والوقاية، وَيَد
الْقوس أَعْلَاهَا، وَيَد السَّيْف قَبضته وَيَد الرَّحَى
الْعود الَّذِي يقبض عَلَيْهِ الطاحن، وَيَد الطَّائِر
جنَاحه، وَقَالُوا: لَا آتيه يَد الدَّهْر أَي: الدَّهْر،
ولقيته أول ذَات يَدي أَي: أول شَيْء. وَفِي الحَدِيث:
(إجعل الْفُسَّاق يدا يدا ورجلاً رجلا) أَي: فرق بَينهمَا
فِي الْهِجْرَة، وَالْيَد الطَّاعَة، وابتعت الْغنم بيدين
أَي: بثمنين مُخْتَلفين، وَيَد الثَّوْب مَا فضل مِنْهُ
إِذا تعطفت بِهِ والتحقت وأعطاء عَن ظهر يَد أَي:
ابْتِدَاء لَا عَن بيع وَلَا مكافاة، وَيَد الشَّيْء
أَمَامه، وَهَذَا
(23/101)
عَيْش يَد أَي: وَاسع، وبايعته يدا بيد أَي
بِالنَّقْدِ. قَوْله: (ثمَّ يَقُول: أَنا الْملك أَيْن
مُلُوك الأَرْض؟) وَعند هَذَا القَوْل انْقِطَاع زمن
الدُّنْيَا وَبعده يكون الْبَعْث والحشر والنشر، وَقيل:
إِن الْمُنَادِي يُنَادى بعد حشر الْخلق على أَرض بَيْضَاء
مثل الْفضة لم يعْص الله عَلَيْهَا: لمن الْملك الْيَوْم؟
فَيُجِيبهُ الْعباد: لله الْوَاحِد القهار) . رَوَاهُ
أَبُو وَائِل عَن ابْن مَسْعُود. وَأخرجه النّحاس. فَإِن
قلت: جَاءَ فِي حَدِيث الصُّور الطَّوِيل إِن جَمِيع
الْأَحْيَاء إِذا مَاتُوا بعد النفخة الأولى وَلم يبْق
إلاّ الله، قَالَ سُبْحَانَهُ: (أَنا الْجَبَّار لمن
الْملك الْيَوْم؟ فَلَا يجِيبه أحد، فَيَقُول الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لله الوحد القهار) .
قلت: يُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن ذَلِك يَقع مرَّتَيْنِ.
0256 - حدّثنا يَحْيَاى بنُ بُكَيْرٍ حدّثنا اللَّيْثُ عنْ
خالِدٍ عنْ سَعِيدِ بنِ أبي هِلالٍ عنْ زيدِ بنِ أسْلَمَ
عنْ عَطاءٍ بنِ يَسارٍ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ:
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تَكُون الأرْضُ
يَوْمَ القِيامَةِ خُبْزَةً واحِدَةً يَتَكَفَّؤها
الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ
فِي السَّفَرِ نُزُلاً لأهْلِ الجَنَّةِ) فأتَى رَجُلٌ
مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ: بارَكَ الرَّحْمانُ عَليْكَ يَا
أَبَا الْقَاسِم! أَلا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أهْلِ
الجَنَّةِ يَوْمَ القيامَةِ؟ قَالَ: (بَلَى) . قَالَ:
تَكُونُ الأرْضُ خُبُزَةً واحِدَةً كَمَا قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَظَر النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلَيْنا ثُمَّ ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ
نَواجِذهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بإِدامِهِمْ؟
قَالَ: إدامُهُمْ بالامٌ ونُونٌ، قالُوا: وَمَا هاذا؟
قَالَ: ثَوْرٌ ونُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زائِدَةِ كَبِدِهما
سَبْعُونَ ألْفاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الله عز وَجل يقبض
الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يصيرها خبْزَة.
وخَالِد هُوَ ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الجُمَحِي بِضَم
الْجِيم وَفتح الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. والسند
إِلَى سعيد مصريون وَمِنْه إِلَى آخِره مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عبد الْملك بن
شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده.
قَوْله: (تكون الأَرْض) يَعْنِي أَرض الدُّنْيَا. قَوْله:
(خبْزَة) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة وَفتح الزَّاي قَالَ الْخطابِيّ: الخبزة
الطلمة بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام،
وَهُوَ عجين يَجْعَل وَيُوضَع فِي الحفيرة بعد إيقاد
النَّار فِيهَا. قَالَ: وَالنَّاس يسمونها: الْملَّة،
بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد اللَّام، وَإِنَّمَا الْملَّة
الحفرة نَفسهَا، وَالَّتِي تمل فِيهَا هِيَ الطلمة والخبزة
والمليل. قَوْله: (يَتَكَفَّؤُهَا) بِفَتْح التَّاء لمثناة
من فَوق وبفتح الْكَاف وَتَشْديد الْفَاء الْمَفْتُوحَة
بعْدهَا همزَة أَي: يميلها ويقلبها من كفأت الْإِنَاء إِذا
قلبته، وَفِي رِوَايَة مُسلم: يكفؤها. قَوْله: (كَمَا يكفؤ
أحدكُم خبزته فِي السّفر) أَرَادَ أَنه كخبزة الْمُسَافِر
الَّتِي يَجْعَلهَا فِي الرماد الْحَار يقلبها من يَد
إِلَى يَد حَتَّى تستوي لِأَنَّهَا لَيست منبسطة كالرقاقة،
وَمَعْنَاهُ: أَن الله عز وَجل يَجْعَل الأَرْض كالرغيف
الْعَظِيم الَّذِي هُوَ عَادَة الْمُسَافِرين فِيهِ
ليَأْكُل الْمُؤمن من تَحت قَدَمَيْهِ حَتَّى يفرغ من
الْحساب، وَقَالَ الْخطابِيّ: يَعْنِي خبز الْملَّة
الَّذِي يصنعه الْمُسَافِر فَإِنَّهَا لَا تدحى كَمَا تدحى
الرقاقة، وَإِنَّمَا تقلب على الْأَيْدِي حَتَّى تستوي،
وَهَذَا على أَن السّفر بِفَتْح الْمُهْملَة وَالْفَاء،
وَرَوَاهُ بَعضهم بِضَم أَوله جمع سفرة وَهُوَ الطَّعَام
الَّذِي يتَّخذ للْمُسَافِر، وَمِنْه سميت السفرة يَعْنِي
الَّتِي يُؤْكَل عَلَيْهَا. قَوْله: (نزلا لأهل الْجنَّة)
بِضَم النُّون وَالزَّاي وبسكونها أَيْضا، وَهُوَ مَا يعد
للضيف عِنْد نُزُوله، وَمَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى جعل
هَذِه الخبزة نزلا لمن يصير من أهل الْجنَّة يأكلونها فِي
الْموقف قبل دُخُول الْجنَّة حَتَّى لَا يعاقبون
بِالْجُوعِ فِي طول زمَان الْموقف، وَقَالَ الدَّاودِيّ:
إِن المُرَاد أَنه يَأْكُل مِنْهَا من سيصير إِلَى
الْجنَّة من أهل الْحَشْر لَا أَنهم لَا يأكلونها حَتَّى
يدخلُوا الْجنَّة. وَقَالَ بعضم: وَظَاهر الْخبز
يُخَالِفهُ.
قلت: كَانَ هَذَا الْقَائِل يَقُول: إِن قَوْله: (نزلا
لأهل الْجنَّة) أَعم من كَون ذَلِك يَقع قبل دُخُول
الْجنَّة أَو بعده، والداودي بنى كَلَامه على ظَاهر مَا
رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: تكون الأَرْض خبْزَة
بَيْضَاء يَأْكُل الْمُؤمن من تَحت قَدَمَيْهِ، رَوَاهُ
الطَّبَرِيّ، وَلَا يُنَافِي الْعُمُوم مَا قَالَه
الدَّاودِيّ، وَعَن الْبَيْضَاوِيّ أَن هَذَا الحَدِيث
مُشكل جدا لَا من جِهَة إِنْكَار صنع الله وَقدرته على مَا
يَشَاء، بل لعدم التَّوَقُّف على قلب جرم الأَرْض من
الطَّبْع الَّذِي عَلَيْهِ إِلَى طبع المطعوم والمأكول
مَعَ مَا ثَبت فِي الْآثَار أَن هَذِه الأَرْض تصير يَوْم
الْقِيَامَة نَارا وتنضم إِلَى جَهَنَّم، فَلَعَلَّ
الْوَجْه فِيهِ أَن معنى قَوْله: (خبْزَة وَاحِدَة)
(23/102)
أَي: كخبزة وَاحِدَة من نعتها كَذَا
وَكَذَا.
قلت: تكلم الطَّيِّبِيّ هُنَا بِمَا آل حَاصله وَحَاصِل
كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: أَن أَرض الدُّنْيَا تصير نَارا،
مَحْمُول على حَقِيقَته، وَأَن كَونهَا تصير خبْزَة
يَأْكُل مِنْهَا أهل الْموقف مَحْمُول على الْمجَاز.
قلت: الْأَثر الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن عَن سعيد بن جُبَير
وَغَيره يرد عَلَيْهِمَا، وَالْأولَى أَن يحمل على
الْحَقِيقَة مهما أمكن، وقدرة الله صَالِحَة لذَلِك،
وَالْجَوَاب عَن الحَدِيث الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ
الْبَيْضَاوِيّ من كَون الأَرْض تصير نَارا: أَن المُرَاد
بِهِ أَرض الْبَحْر لَا كل الأَرْض، فقد أخرج الطَّبَرِيّ
من طَرِيق كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: يصير مَكَان الْبَحْر
نَارا. وَفِي (تَفْسِير الرّبيع بن أنس) : عَن أبي
الْعَالِيَة عَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
تصير السَّمَوَات جفاناً وَيصير مَكَان الْبَحْر نَارا.
فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث فِي قَوْله
تَعَالَى: {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة}
(الحاقة: 41) قَالَ: يصيران غبرة فِي وُجُوه الْكفَّار.
قلت: قد قَالَ بَعضهم: يُمكن الْجمع بِأَن بَعْضهَا يصير
نَارا وَبَعضهَا غباراً، وَبَعضهَا يصير خبْزَة، وَفِيه
تَأمل، لِأَن لفظ حَدِيث الْبَاب: تكون الأَرْض يَوْم
الْقِيَامَة خبْزَة يُطلق على الأَرْض كلهَا، وَفِيمَا
قَالَه ارْتِكَاب الْمجَاز فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ
عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، وَلَا تعذر هُنَا من كَون كل
الأَرْض خبْزَة، لِأَن الْقُدْرَة صَالِحَة لذَلِك ولأعظم
مِنْهَا، بل الْجَواب الشافي هُنَا أَن يُقَال: إِن
المُرَاد من كَون الأَرْض نَارا هُوَ أَرض الْبَحْر كَمَا
مر، وَالْمرَاد من كَونهَا غبرة: الْجبَال، فَإِنَّهَا بعد
أَن تدك تصير غباراً فِي وُجُوه الْكفَّار. قَوْله: (ثمَّ
ضحك) يَعْنِي: تَعَجبا من الْيَهُودِيّ كَيفَ أخبر عَن
كِتَابهمْ نَظِير مَا أخبر بِهِ من جِهَة الْوَحْي.
قَوْله: (حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه) أَي: حَتَّى ظَهرت
نَوَاجِذه وَهُوَ جمع ناجذة بالنُّون والمعجمتين وَهِي
أخريات الْأَسْنَان إِذا الأضراس أَولهَا الثنايا ثمَّ
الرباعيات ثمَّ الضواحك ثمَّ الأرحاء ثمَّ النواجذ، وَجَاء
فِي كتاب الصَّوْم حَتَّى بَدَت أنيابه، وَلَا مُنَافَاة
بَينهمَا لِأَن النواجذ تطلق على الأنياب والأضراس أَيْضا،
قيل: مضى فِي كتاب الْأَدَب فِي: بَاب التبسم، أَنه مَا
كَانَ يزِيد على التبسم. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك بَيَان
عَادَته وَحكم الْغَالِب فِيهِ، وَهَذَا نَادِر وَلَا
اعْتِبَار لَهُ. قَوْله: (أَلا أخْبرك) وَفِي رِوَايَة
مُسلم: (أَلا أخْبركُم) . قَوْله: (ثمَّ قَالَ) وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: فَقَالَ. قَوْله: (بِالْأُمِّ)
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف اللَّام
وَالْمِيم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهِي مَوْقُوفَة
ومرفوعة منونة وَغير منونة، وَفِيه أَقْوَال وَالصَّحِيح
أَنَّهَا كلمة عبرانية مَعْنَاهَا بِالْعَرَبِيَّةِ:
الثور، وَبِهَذَا فسره وَلِهَذَا سَأَلُوا الْيَهُودِيّ
عَن تَفْسِيرهَا، وَلَو كَانَت عَرَبِيَّة لعرفتها
الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ
الْخطابِيّ لَعَلَّ الْيَهُودِيّ أَرَادَ التعمية
عَلَيْهِم وَقطع الهجاء وَقدم أحد الحرفيين على الآخر
وَهِي لَام الف وياء يُرِيد لأي على وزن وَهُوَ الثور
الوحشي فصحف الرَّاوِي الْمُثَنَّاة فَجَعلهَا مُوَحدَة
وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَأما البالام فقد تمحلوا لَهَا
شرحا غير مرضى لَعَلَّ اللَّفْظَة عبرانية، ثمَّ نقل
كَلَام الْخطابِيّ الَّذِي ذكره ثمَّ قَالَ: وَهَذَا أقرب
مَا وَقع لي فِيهِ. قَوْله: (وَنون) وَهُوَ الْحُوت
الْمَذْكُور فِي أول السُّورَة. قَوْله: (وَقَالُوا) ، أَي
الصَّحَابَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَقَالُوا. قَوْله:
(مَا هَذَا؟) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَمَا هَذَا؟
بِزِيَادَة وَاو. قَوْله: (من زَائِدَة كبدهما)
الزَّائِدَة هِيَ الْقطعَة المنفردة الْمُتَعَلّقَة
بالكبد، وَهِي أطيبها وألذها، وَلِهَذَا خص بأكلها
سَبْعُونَ ألفا، وَيحْتَمل أَن هَؤُلَاءِ هم الَّذين
يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَيحْتَمل أَن يكون
عبر بالسبعين عَن الْعدَد الْكثير وَلم يرد الْحصْر
فِيهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أول أكل أهل الْجنَّة
زَائِدَة الكبد يلْعَب الثور والحوت بَين أَيْديهم فيذكي
الثور الْحُوت بِذَنبِهِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، ثمَّ
يُعِيدهُ الله تَعَالَى فيلعبان فيذكي الْحُوت الثور
بِذَنبِهِ فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، كَذَلِك مَا شَاءَ الله،
وَقَالَ كَعْب: فِيمَا ذكره ابْن الْمُبَارك: أَن الله
يَقُول لأهل الْجنَّة إِذا دخلوها: إِن لكل ضيف جزوراً
وَإِنِّي أجزركم الْيَوْم حوتاً وثوراً، فيجزر لأهل
الْجنَّة، وروى مُسلم من حَدِيث ثَوْبَان: تحفة أهل
الْجنَّة زِيَادَة كبد النُّون، أَي: الْحُوت، وَفِيه
غذاؤهم على أَثَرهَا أَنه ينْحَر لَهُم ثَوْر الْجنَّة
الَّذِي يَأْكُل من أطرافها، وَفِيه: وشرابهم عَلَيْهِ من
عين تسمى سلسبيلاً.
108 - (حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم أخبرنَا مُحَمَّد بن
جَعْفَر قَالَ حَدثنِي أَبُو حَازِم قَالَ سَمِعت سهل بن
سعد قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَقُول يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة على
أَرض بَيْضَاء عفراء كقرصة نقي: قَالَ سهل أَو غَيره
لَيْسَ فِيهَا معلم لأحد)
(23/103)
مطابقته للتَّرْجَمَة مَا قَالَه
الْكرْمَانِي مُنَاسبَة القرصة للخبزة الْمَذْكُورَة فِي
الحَدِيث السَّابِق وَجعلهَا كالقرصة نوع من الْقَبْض قلت
فِيهِ نظر لِأَن جعلهَا كالقرصة إِلَى آخِره فِي أَرض
الدُّنْيَا وَهَذِه الأَرْض غير تِلْكَ الأَرْض وروى عبد
بن حميد من طَرِيق الحكم بن أبان عَن عِكْرِمَة قَالَ
بلغنَا أَن هَذِه الأَرْض يَعْنِي أَرض الدُّنْيَا تطوى
وَإِلَى جنبها أُخْرَى يحْشر النَّاس مِنْهَا إِلَيْهَا
وروى الْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب من طَرِيق عَمْرو بن
مَيْمُون عَن عبد الله بن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى
{يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض} الْآيَة قَالَ تبدل
الأَرْض أَرضًا كَأَنَّهَا فضَّة لم يسفك عَلَيْهَا دم
حرَام وَلم يعْمل عَلَيْهَا خَطِيئَة وَرِجَاله رجال
الصَّحِيح وَهُوَ مَوْقُوف وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من وَجه
آخر مَرْفُوعا وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق سِنَان بن سعيد
عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَرْفُوعا يبدلها الله
بِأَرْض من فضَّة لم تعْمل عَلَيْهَا الْخَطَايَا وَسَعِيد
بن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي
مَرْيَم الْمصْرِيّ وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير
وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار وَسَهل بن سعد بن مَالك
السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي
التَّوْبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة قَوْله عفراء
بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالْفَاء وَالرَّاء وبالمد
الْبَيْضَاء إِلَى حمرَة وَأَرْض بَيْضَاء لم تطَأ وَقَالَ
الْخطابِيّ العفر بَيَاض لَيْسَ بالناصع وَقَالَ عِيَاض
العفر بَيَاض يضْرب إِلَى حمرَة قَلِيلا وَمِنْه سمي عفر
الأَرْض وَهُوَ وَجههَا وَقَالَ ابْن فَارس يَعْنِي عفراء
خَالِصَة الْبيَاض قَوْله كقرصة نقي بِفَتْح النُّون وَكسر
الْقَاف وَهُوَ الدَّقِيق النقي من الْغِشّ والنخال ويروى
النقي بِالْألف وَاللَّام قَوْله قَالَ سهل أَو غَيره
مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور وَسَهل هُوَ رَاوِي الْخَبَر
الْمَذْكُور وَكلمَة أَو للشَّكّ قَوْله معلم بِفَتْح
الْمِيم وَاللَّام وَهُوَ بِمَعْنى الْعَلامَة الَّتِي
يسْتَدلّ بهَا أَي هَذِه الأَرْض مستوية لَيْسَ فِيهَا حدب
يرد الْبَصَر وَلَا بِنَاء يستر مَا وَرَاءه وَلَا عَلامَة
غَيره وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن أَرض الدُّنْيَا اضمحلت
وأعدمت وَأَن أَرض الْموقف تَجَدَّدَتْ -
54 - (بابٌ كَيْفَ الحَشْرُ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ بَيَان كَيْفيَّة الْحَشْر، وَفِي
بعض النّسخ: بَاب الْحَشْر بِدُونِ لفظ: كَيفَ، قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: الْحَشْر الْجمع والحشر على أَرْبَعَة
أوجه: حشران فِي الدُّنْيَا وحشران فِي الْآخِرَة.
أما أحد الحشرين اللَّذين فِي الدُّنْيَا فَهُوَ
الْمَذْكُور فِي سُورَة الْحَشْر، فِي قَوْله عز وَجل:
{هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من
دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر} (الْحَشْر: 2) قَالَ
الزُّهْرِيّ: كَانُوا من سبط لم يصبهم الْجلاء وَكَانَ
الله تَعَالَى قد كتبه عَلَيْهِم، فلولا ذَلِك لعذبهم فِي
الدُّنْيَا، وَكَانَ أول حشر حشروا فِي الدُّنْيَا إِلَى
الشَّام وَأما الْحَشْر الآخر فَهُوَ مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي هَذَا الْبَاب: يحْشر النَّاس على
ثَلَاث طرائق ... الحَدِيث، وَقَالَ قَتَادَة: الْحَشْر
الثَّانِي نَار تخرج من الْمشرق إِلَى الْمغرب، وَفِيه:
تَأْكُل مِنْهُم من تخلف. قَالَ عِيَاض: هَذَا قبل قيام
السَّاعَة.
وَأما أحد الحشرين اللَّذين فِي الْآخِرَة فَهُوَ حشر
الْأَمْوَات من قُبُورهم بعد الْبَعْث إِلَى الْموقف وَأما
الْحَشْر الآخر الَّذِي هُوَ الرَّابِع فَهُوَ حشرهم إِلَى
الْجنَّة أَو النَّار.
2256 - حدّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ حَدثنَا وُهَيْبٌ عنِ
ابْن طاوُوس عنْ أبِيهِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
قَوْله: (يُحْشَرُ النَّاسُ عَلى ثَلاَث طرائِقَ راغِبِينَ
وراهِبِينَ واثْنان عَلى بَعيرٍ وثَلاثَةٌ عَلى بَعِيرٍ
وأرْبَعَةٌ عَلى بَعِيرٍ وعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ،
ويَحْشِرُ بَقِيَّتَهُمُ، النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ
حَيْثُ قالُوا، وتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ باتُوا،
وتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أصْبَحُوا، وتُمْسِي مَعَهُمْ
حَيْثُ أمْسَوْا) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمعلى بِلَفْظ اسْم
الْمَفْعُول من التعلية ابْن أَسد الْبَصْرِيّ، ووهيب مصغر
وهب هُوَ ابْن خَالِد، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله يرْوى
عَن أَبِيه طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي: بَاب يحْشر النَّاس على
طرائق، عَن زُهَيْر ابْن حَرْب وَغَيره.
قَوْله: (ثَلَاث طرائق) ، أَي: ثَلَاث فرق، قَالَ
الْكرْمَانِي: قَالُوا: هَذَا الْحَشْر فِي آخر الدُّنْيَا
قبيل الْقِيَامَة، كَمَا يَجِيء فِي الحَدِيث الَّذِي
بعده: (إِنَّكُم ملاقو الله مشَاة) ، وَلما فِيهِ من ذكر
الْمسَاء والصباح، ولانتقال النَّار مَعَهم وَهِي نَار
تحْشر النَّاس
(23/104)
من الْمشرق إِلَى الْمغرب.
قلت: قَالَ الْخطابِيّ: هَذَا الْحَشْر قبيل قيام
السَّاعَة، يحْشر النَّاس أَحيَاء إِلَى الشَّام، وَأما
الْحَشْر من الْقُبُور إِلَى الْموقف فَهُوَ على خلاف
هَذِه الصُّورَة من الرّكُوب على الْإِبِل والتعاقب
عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ على مَا ورد فِي حَدِيث ابْن
عَبَّاس فِي الْبَاب: (حُفَاة عُرَاة مشَاة) . قَوْله:
(راغبين) ، هم السَّابِقُونَ. قَوْله: (وراهبين) هم
عَامَّة الْمُؤمنِينَ، وَالْكفَّار أهل النَّار وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (راهبين) بِغَيْر وَاو. قَوْله:
(وَاثْنَانِ على بعير) قَالَ الْكرْمَانِي: والأبعرة
إِنَّمَا هِيَ للراهبين والمخلصون حَالهم أَعلَى واجل من
ذَلِك، أَو هِيَ للراغبين، وَأما الراهبون فيكونون مشَاة
على أَقْدَامهم، أَو هِيَ لَهما بِأَن يكون اثْنَان من
الراغبين مثلاَ على بعير، وَعشرَة من الراهبين على بعير،
وَالْكفَّار يَمْشُونَ على وُجُوههم. وَقَالَ الْخطابِيّ:
قَوْله: (وَاثْنَانِ على بعير وَثَلَاثَة على بعير. .)
إِلَى آخِره، يُرِيد أَنهم يعتقبون الْبَعِير الوحد يركب
بعض وَيَمْشي بعض، وَإِنَّمَا لم يذكر الْخَمْسَة والستة
إِلَى الْعشْرَة إيجازاً واكتفاء بِمَا ذكر من
الْأَعْدَاد، مَعَ أَن الاعتقاب لَيْسَ مَجْزُومًا بِهِ،
وَلَا مَانع أَن يَجْعَل الله فِي الْبَعِير مَا يُقَوي
بِهِ على حمل الْعشْرَة. وَقَالَ بعض شرَّاح (المصابيح) :
حمله على الْحَشْر من الْقُبُور أقوى من أوجه، وَذكر
وُجُوهًا طوينا ذكرهَا، واكتفينا بِمَا قَالَه الْخطابِيّ
الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِيه كِفَايَة للرَّدّ
عَلَيْهِ، على أَنه قد وَردت عدَّة أَحَادِيث فِي وُقُوع
الْحَشْر فِي الدُّنْيَا إِلَى جِهَة الشَّام، مِنْهَا:
حَدِيث مُعَاوِيَة بن جَيِّدَة، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِنَّكُم تحشرون ونحا
بِيَدِهِ نَحْو الشَّام رجَالًا وركباناً، وتحشرون على
وُجُوهكُم) . أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. قَوْله:
(تقيل) . من القيلولة وَهِي استراحة نصف النَّهَار، وَإِن
لم يكن مَعهَا نوم، يُقَال: قَالَ يقيل قيلولة فَهُوَ
قَائِل، وَفِي قَوْله: يقيل ... إِلَى آخِره، دلَالَة على
أَنهم يُقِيمُونَ كَذَلِك أَيَّامًا. قَوْله: (وتبيت) ، من
البيتوتة. وتصبح من الإصباح، وتمسي من الإمساء.
3256 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا يُونُسُ
بنُ مُحَمَّد البَغْدَادِيُّ حدّثنا شَيْبانُ عنْ قَتادَةَ
حدّثنا أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رجُلاً
قَالَ: يَا نَبِيَّ الله {كَيْفَ يُحْشَرُ الكافِرُ على
وَجْهِهِ؟ قَالَ: (أليْسَ الّذِي أمْشاهُ عَلى
الرِّجْلِيْنِ فِي الدُّنْيا قادِراً عَلى أنْ يُمشِيَهُ
عَلى وجْهِهِ يَوْمَ القيامَةِ؟ قَالَ قَتادَةُ: بَلَى،
وعِزَّة ربِّنا) . (انْظُر الحَدِيث 0674) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن مُحَمَّد
هُوَ الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَيُونُس هُوَ ابْن
مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ، وشيبان بِفَتْح الشين
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء
الْمُوَحدَة ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي التَّفْسِير. وَأخرجه مُسلم فِي
التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن الْحُسَيْن بن مَنْصُور.
قَوْله: (كَيفَ يحْشر؟) على صِيغَة الْمَجْهُول وَهُوَ
إِشَارَة إِلَى قَوْله عز وَجل: {ونحشرهم يَوْم
الْقِيَامَة على وُجُوههم عميا وبكماً وصماً}
(الْإِسْرَاء: 79) وَوَقع فِي بعض النّسخ، قَالَ: يَا
نَبِي الله} يحْشر الْكَافِر على وَجهه؟ بِدُونِ لَفْظَة:
كَيفَ، كَأَنَّهُ اسْتِفْهَام حذف أداته، وَالْحكمَة فِي
حشر الْكَافِر على وَجهه أَنه يُعَاقب على عدم سُجُوده لله
تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فيسحب على وَجهه فِي الْقِيَامَة
إِظْهَارًا لهوانه. قَوْله: (أَن يمْشِيه) بِضَم الْيَاء
من الإمشاء وَالْمَشْي على حَقِيقَته فَلذَلِك استغربوه
خلافًا لمن زعم من الْمُفَسّرين أَنه مثل قَوْله: (قَالَ
قَتَادَة: بلَى وَعزة رَبنَا) مَوْصُول بالسند
الْمَذْكُور. فَإِن قلت: هَل ورد فِي الحَدِيث وُقُوع
الْمَشْي، على وُجُوههم فِي الدُّنْيَا أَيْضا؟ .
قلت: روى أَبُو نعيم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: ثمَّ
يبْعَث الله بعد قبض عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وأرواح
الْمُؤمنِينَ بِتِلْكَ الرّيح الطّيبَة نَارا تخرج من
نواحي الأَرْض تحْشر النَّاس وَالدَّوَاب إِلَى الشَّام،
وَعَن معَاذ: يحْشر النَّاس أَثلَاثًا. ثلثا على ظُهُور
الْخَيل، وَثلثا يحملون أَوْلَادهم على عواتقهم، وَثلثا
على وُجُوههم مَعَ القردة والخنازير إِلَى الشَّام، فَيكون
الَّذين يحشرون إِلَى الشَّام لَا يعْرفُونَ حَقًا وَلَا
فَرِيضَة وَلَا يعْملُونَ بِكِتَاب ولاسنة، يتهارجون هم
وَالْجِنّ مائَة سنة تهارج الْحمير وَالْكلاب، وَأول مَا
يفجأ النَّاس بعد من أَمر السَّاعَة أَن يبْعَث الله
لَيْلًا ريحًا فتقب كل دِينَار وَدِرْهَم، فَيذْهب بِهِ
إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ ينسف الله بُنيان بَيت
الْمُقَدّس فينبذه فِي الْبحيرَة المنتنة.
4256 - حدّثنا عَلِيٌّ حدّثنا سفْيانُ قَالَ عَمْرٌ و:
سَمِعْت سَعيدَ بنَ جُبَيْرٍ سَمِعْتُ ابنَ عبَّاسٍ
سَمِعْتُ
(23/105)
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ:
(إنَّكُمْ مُلاَقُو الله حُفَاة عُراةً مُشاةً غُرْلاً) .
قَالَ سُفْيانُ: هاذا مِمّا نَعُدُّ أنَّ ابنَ عبَّاس
سَمِعَهُ مِنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
طابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن ملاقاتهم الله
بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور يكون يَوْم الْحَشْر.
وَعلي هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ بن
عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة الْقِيَامَة عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (ملاقو الله) أَصله: ملاقون، فَلَمَّا أضيف إِلَى
لَفْظَة: الله، سَقَطت النُّون. قَوْله: (حُفَاة) ، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْفَاء جمع حاف أَي:
بِلَا نعل وَلَا خف وَلَا شَيْء يستر أَرجُلهم، والعراة
بِضَم الْعين جمع عَار، والغرل بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء جمع أغرل وَهُوَ الأقلف
يَعْنِي: الَّذِي لم يختن، وَالْمَقْصُود أَنهم يحشرون
كَمَا خلقُوا أول مرّة ويعادون كَمَا كَانُوا فِي
الِابْتِدَاء لَا يفقد شَيْء مِنْهُم حَتَّى الغرلة وَهُوَ
مَا يقطعهُ الْخِتَان من ذكر الصَّبِي. قَوْله: (هَذَا)
أَي: هَذَا الحَدِيث من مشاهير مسموعات ابْن عَبَّاس.
6256 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدّثنا غُنْدَرٌ
حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ المُغِيرَةِ بنِ النُّعمْانِ عنْ
سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قامَ فِينا
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْطُبُ فَقَالَ:
(إنّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفاةً عُرَاةً {كَمَا بدأنا أول
خلق نعيده} (الْأَنْبِيَاء: 401) الْآيَة ... وإنَّ أوَّلَ
الخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيامَةِ إبْراهيم، وإنَّه
سَيُجاءُ بِرِجالٍ مِنْ أمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذاتَ
الشِّمالِ، فأقُولُ: يَا ربِّ! أُصَيْحابي: فَيَقُولُ:
إنكَ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ. فأقُولُ كَمَا
قَالَ العَبْدُ الصَّالِحِ: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا
دمت فيهم} ... إِلَى قَوْله {الْحَكِيم} (الْمَائِدَة:
711) قَالَ: فَيُقالُ: إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا
مُرْتَدِّينَ على أعْقابِهِمْ) .
ذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس السَّابِق أخرجه
عَن مُحَمَّد بن بشار بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة وغندر بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون، وَقد مر غير مرّة وَهُوَ
لقب مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج عَن
الْمُغيرَة ابْن النُّعْمَان النَّخعِيّ.
قَوْله: (مَحْشُورُونَ) جمع محشور، اسْم مفعول من حشر
كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة
غَيره: تحشرون، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع.
فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد أَن أَبَا سعيد لما حَضَره
الْمَوْت دَعَا بِثِيَاب جدد فلبسها وَقَالَ: سَمِعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِن
الْمَيِّت يبْعَث فِي ثِيَابه الَّتِي يَمُوت فِيهَا.
قلت: التَّوْفِيق بَين الْحَدِيثين بِأَن يُقَال: إِن
بَعضهم يحْشر عَارِيا وَبَعْضهمْ كاسياً أَو يخرجُون من
الْقُبُور بالثياب الَّتِي مَاتُوا فِيهَا ثمَّ تتناثر
عَنْهُم عِنْد ابْتِدَاء الْحَشْر فيحشرون عُرَاة. قَوْله:
{كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} ... الْآيَة سَاق ابْن
الْمثنى الْآيَة كلهَا إِلَى قَوْله: {فاعلين} قَوْله:
(وَأَن أول الْخَلَائق يكسى يَوْم الْقِيَامَة إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قيل: مَا وَجه تقدمه
على سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَأجِيب:
أَنه لَعَلَّه بِسَبَب أَنه أول من وضع سنة الْخِتَان،
وَفِيه كشف لبَعض الْعَوْرَة فجوزي بالستر أَولا كَمَا أَن
الصَّائِم العطشان يجازى بالريان وَقيل الْحِكْمَة من
ذَلِك أَنه حِين ألقِي فِي النَّار. وَقيل: لِأَنَّهُ أول
من اسْتنَّ السّتْر بالسراويل وَقَالَ: الْقُرْطُبِيّ فِي
(شرح مُسلم) : يجوز أَن يُرَاد بالخلائق من عدا نَبينَا
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يدْخل هُوَ فِي عُمُوم خطاب
نَفسه وَقَالَ تِلْمِيذه الْقُرْطُبِيّ أَيْضا فِي
(التَّذْكِرَة) : هَذَا حسن لَوْلَا مَا جَاءَ من حَدِيث
عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي أخرجه ابْن
الْمُبَارك فِي (الزّهْد) : من طَرِيق عبد الله بن
الْحَارِث عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أول من
يكسى يَوْم الْقِيَامَة خَلِيل الله عَلَيْهِ السَّلَام،
قبطيتين ثمَّ يكسى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
حلَّة حبرَة عَن يَمِين الْعَرْش.
قلت: الْعجب من الْقُرْطُبِيّ كَيفَ يَقُول: يجوز أَن
يُرَاد بالخلائق من عدى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
... إِلَى آخِره، لِأَن الْعَام لَا يخص إلاَّ بِدَلِيل
مُسْتَقل لَفْظِي مقترن كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، على أَن
مَا رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك الْمَذْكُور يَدْفَعهُ.
(23/106)
وروى أَبُو يعلى عَن ابْن عَبَّاس مطولا
مَرْفُوعا نَحْو حَدِيث الْبَاب، وَزَاد: وَأول من يكسى من
الْجنَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، يكسى حلَّة من
الْجنَّة وَيُؤْتى بكرسي فيطرح عَن يَمِين الْعَرْش ثمَّ
يُؤْتى بِي فأكسى حلَّة من الْجنَّة لَا يقوم لَهَا
الْبشر، ثمَّ يُؤْتى بكرسي فيطرح عَن يَمِين الْعَرْش.
وَقيل: هَل فِيهِ دلَالَة على أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلَام، أفضل مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَأجِيب:
بِأَنَّهُ لَا يلْزم من اخْتِصَاص الشَّخْص بفضيلة كَونه
أفضل مُطلقًا. قَوْله: (ذَات الشمَال) أَي: طَرِيق
جَهَنَّم وجهتها. قَوْله: (أصيحابي) أَي: هَؤُلَاءِ
أَصْحَابِي ذكرهم بِالتَّصْغِيرِ وَهُوَ من بَاب تَصْغِير
الشَّفَقَة كَمَا فِي: يَا بني. قَوْله: (العَبْد
الصَّالح) أَرَادَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله: (لم يزَالُوا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لن
يزَالُوا. قَوْله: (مرتدين) قَالَ الْخطابِيّ: لم يرد
بقوله: مرتدين، الرِّدَّة عَن الْإِسْلَام، بل التَّخَلُّف
عَن الْحُقُوق الْوَاجِبَة، وَلم يرْتَد أحد بِحَمْد الله
من الصَّحَابَة، وَإِنَّمَا ارْتَدَّ قوم من جُفَاة
الْأَعْرَاب، وَقَالَ عِيَاض: هَؤُلَاءِ صنفان: إِمَّا
العصاة، وَإِمَّا المرتدون إِلَى الْكفْر، وَقيل: هُوَ على
ظَاهره من الْكفْر، وَالْمرَاد: بأمتي، أمة الدعْوَة لَا
أمة الْإِجَابَة، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن
يَكُونُوا منافقين أَو مرتكبي الْكَبَائِر، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: لَا يمْتَنع دُخُول أَصْحَاب الْكَبَائِر
والبدع فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: هم
المُنَافِقُونَ والمرتدون، فَيجوز أَن يحْشرُوا بالغرة
والتحجيل لكَوْنهم من جملَة الْأمة فيناديهم من السيماء
الَّتِي عَلَيْهِم، فَيُقَال: إِنَّهُم بدلُوا بعْدك، أَي:
لم يموتوا على ظَاهر مَا فَارَقْتهمْ عَلَيْهِ، قَالَ
عِيَاض وَغَيره: وعَلى هَذَا فتذهب عَنْهُم الْغرَّة
والتحجيل ويطفى نورهم، وَقَالَ الْفربرِي: ذكر عَن أبي عبد
الله البُخَارِيّ عَن قبيصَة قَالَ: هم الَّذين ارْتَدُّوا
على عهد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، فَقَاتلهُمْ أَبُو بكر
حَتَّى قتلوا أَو مَاتُوا على الْكفْر.
7256 - حدّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا خالدُ بنُ
الحارِث حَدثنَا حاتِمُ بنُ أبي صَغِيرَةَ عنْ عَبْدِ الله
بنِ أبي مُلَيْكَةَ قَالَ: حدّثني القاسمُ بنُ مُحَمَّدِ
بنِ أبي بَكْر أنَّ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تُحْشَرُونَ
حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً) قالَتْ عائِشَةُ: فَقُلْتُ: (يَا
رسولَ الله! الرِّجالُ والنِّساءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: (الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ
يُهْتَمَّ لِذالِكَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقيس بن حَفْص أَبُو
مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة سبع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ أَو نَحْوهَا، قَالَه البُخَارِيّ، وخَالِد
بن الْحَارِث أَبُو عُثْمَان الهُجَيْمِي مَاتَ سنة سِتّ
وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ،
وحاتم بن أبي صَغِيرَة بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر
الْغَيْن الْمُعْجَمَة ضد الْكَبِيرَة واسْمه مُسلم
الْقشيرِي، وَعبد الله بن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم هُوَ
عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة واسْمه زُهَيْر
الْأَحول الْمَكِّيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي أَوَاخِر الْكتاب فِي صفة
الْحَشْر عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن عمر بن عَليّ، وَفِي
التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الزّهْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (أَن يهتم) على صِيغَة الْمَجْهُول من الاهتمام،
ويروى: من أَن يهمهم، بِضَم الْيَاء وَكسر الْهَاء من
الإهمام وَهُوَ الْقَصْد، وَجوز ابْن التِّين فتح أَوله
وَضم ثَانِيه من: همه الشي إِذا أقلقه، وَفِي رِوَايَة
مُسلم: يَا عَائِشَة الْأَمر أَشد من أَن ينظر بعض إِلَى
بعض، وَفِي رِوَايَة أبي بكر بن أبي شيبَة: الْأَمر أهم من
أَن ينظر بَعضهم إِلَى بعض.
8256 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حَدثنَا غُنْدَرٌ
حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحاقَ عنْ عَمْرِو بنِ
مَيْمُونٍ عنْ عَبْدِ الله، قَالَ: كُنَّا مَعَ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قُبَّةٍ فَقَالَ:
(أتَرْضَوْنَ أنْ تكونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ؟)
قُلْنا: نَعَمْ. قَالَ: (أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ
أهْلِ الجَنَّةِ) قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: (أتَرْضَوْنَ أنْ
تَكُونُوا شَطْرَ أهْلِ الجَنَّةِ؟) قُلْنا: نَعَمْ.
قَالَ: (والّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنِّي لأرْجُو
أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ، وذالِكَ أنَّ
الجَنَّةَ لَا يَدْخُلُها إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَة، وَمَا
أنْتُمْ فِي أهْلِ الشِّرْكِ إلاّ كالشَّعَرَةِ البَيْضاءِ
فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ
(23/107)
أوْ كالشَّعَرَةِ السَّوْداءِ فِي جِلْدِ
الثَّوْرِ الأحْمَرِ) .
(الحَدِيث 8256 طرفه فِي: 2466) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن كَون هَذِه الْأمة نصف
أهل الْجنَّة لَا يكون إلاَّ بعد الْحَشْر. وَهَذَا بطرِيق
الِاسْتِثْنَاء.
وَرِجَال هَذَا الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم جدا. وغندر هُوَ
مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله
السبيعِي، وَعَمْرو بن مَيْمُون الْأَزْدِيّ أدْرك
الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ فِيمَن رجم القردة الزَّانِيَة،
وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور عَن
أَحْمد بن عُثْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى وَبُنْدَار وَغَيرهمَا. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي صفة الْجنَّة عَن مَحْمُود بن غيلَان.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن بنْدَار بِهِ.
قَوْله: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
وَفِي رِوَايَة مُسلم: نَحوا من أَرْبَعِينَ رجلا. قَوْله:
(فِي قبَّة) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي
إِسْحَاق: أسْند رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ظَهره بمنى إِلَى قبَّة من أَدَم. قَوْله: (أَتَرْضَوْنَ؟)
. ذكره بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام لإِرَادَة تَقْرِير
الْبشَارَة بذلك، وَذكره بالتدريج ليَكُون أعظم لسرورهم،
وَفِي رِوَايَة يُوسُف ابْن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق:
إِذْ قَالَ لأَصْحَابه: أَلا ترْضونَ؟ (وَفِي رِوَايَة
إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق: أَلَيْسَ ترْضونَ؟
وَوَقع فِي رِوَايَة مَالك بن مغول: أتحبون؟ . قَوْله:
(إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا شطر أهل الْجنَّة) وَفِي
رِوَايَة: إِسْرَائِيل: نصف، بدل: شطر. وَفِي حَدِيث أبي
سعيد: إِنِّي لأطمع، بدل: لارجو، وَوَقع لِابْنِ عَبَّاس
نَحْو حَدِيث أبي سعيد الَّذِي سَيَأْتِي من رِوَايَة
الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح: إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا
نصف أهل الْجنَّة، بل أَرْجُو أَن تَكُونُوا ثُلثي أهل
الْجنَّة. قَالُوا: لَا تصح هَذِه الزِّيَادَة لِأَن
الْكَلْبِيّ واهٍ، وَلَكِن وَقع فِي حَدِيث أخرجه أَحْمد
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: إِنِّي لأرجو أَن
تَكُونُوا ربع أهل الْجنَّة، بل أَنْتُم ثلث أهل الْجنَّة،
بل أَنْتُم نصف أهل الْجنَّة، وتقاسمونهم فِي النّصْف
الثَّانِي. وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث بُرَيْدَة رَفعه:
أهل الْجنَّة عشرُون وَمِائَة صف أمتِي مِنْهَا ثَمَانُون
صفا. قَوْله: (أَو كالشعرة السَّوْدَاء) قَالَ
الْكرْمَانِي: أَو إِمَّا تنويع من رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَإِمَّا شكّ من الرَّاوِي. قَوْله:
(الْأَحْمَر) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا
فِي رِوَايَة مُسلم. وَفِي رِوَايَة أبي أَحْمد
الْجِرْجَانِيّ عَن الْفربرِي: الْأَبْيَض، بدل:
الْأَحْمَر. وَقَالَ ابْن التِّين: أطلق الشعرة وَلَيْسَ
المُرَاد حَقِيقَة الْوحدَة لِأَنَّهُ لَا يكون ثَوْر فِي
جلده شَعْرَة وَاحِدَة من غير لَونه.
9256 - حدّثنا إسْماعِيلُ حدّثني أخِي عنْ سُلَيْمانَ عنْ
ثَوْرٍ عنْ أبي الغَيْثِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أوَّلُ مَنْ يُدْعَى
يَوْمَ القِيامَةِ آدَمُ فَتَرَاءَى ذُرِّيَتُهُ،
فَيُقالُ: هَذَا أبُوكُمْ آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ
وسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: أخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ
ذُرَّيَتِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبَّ كَمْ أُخْرِجُ؟
فَيَقُولُ: أخْرِجْ مِنْ كُلِّ مائَةٍ تِسْعَةً
وتِسْعِينَ، فقالُوا: يَا رسُولَ الله! إذَا أخُذَ مِنّا
مِنْ كُلِّ مائَةٍ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ فَماذَا يَبْقَى
مِنَّا؟ قَالَ: إنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كالشَّعَرَةِ
البَيْضاءِ فِي الثَّوْرِ الأسْوَدِ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن يُقَال من حَيْثُ إِن
الَّذِي تضمنه هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا يكون بعد الْحَشْر
يَوْم الْقِيَامَة.
إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ عبد الحميد،
وسلميان هُوَ ابْن بِلَال، وثور بالثاء الْمُثَلَّثَة هُوَ
ابْن زيد الديلمي، وَأَبُو الْغَيْث هُوَ سَالم مولى عبد
الله بن مُطِيع، وَهَؤُلَاء كلهم مدنيون.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَنَظِيره عَن أبي سعيد
الْخُدْرِيّ مر فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قصَّة
يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَيَجِيء الْآن أَيْضا.
قَوْله: (فتراءى) يُقَال: (ترَاءى لي: أَي ظهر وتصدى)
لِأَن اراه، وَتَفْسِير: لبيْك وَسَعْديك، قد مر عَن قريب
وَمضى فِي كتاب الْحَج أَيْضا. قَوْله: (فَيَقُول: أخرج)
أَي: يَقُول الله تَعَالَى: أخرج بِفَتْح الْهمزَة من
الْإِخْرَاج. قَوْله: (بعث جَهَنَّم) مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول: أخرج، وَبعث جَهَنَّم هم الَّذين استحقوا أَن
يبعثوا إِلَى النَّار، أَي: أخرج من جملَة النَّاس الَّذين
هم أهل النَّار وميزهم وابعثهم الى النَّار قَوْله: كم
أخرج بِضَم الْهمزَة من الْإِخْرَاج وَجل قَوْله فَيَقُول
أَي فَيَقُول الله عز وَجل، خرج بِفَتْح الْهمزَة من
الْإِخْرَاج أَيْضا.
64 - (بابُ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: { (22) إِن
زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم} (الْحَج: 1)
(23/108)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن
زَلْزَلَة السَّاعَة} أَي: اضْطِرَاب يَوْم الْقِيَامَة
{شَيْء عَظِيم} والساعة فِي أصل الْوَضع جُزْء من
الزَّمَان واستعيرت ليَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ الزّجاج:
معنى السَّاعَة الْوَقْت الَّذِي فِيهِ الْقِيَامَة.
وَقيل: سميت سَاعَة لوقوعها بَغْتَة، أَو لطولها، أولسرعة
الْحساب فِيهَا، أَو لِأَنَّهَا عِنْد الله خَفِيفَة مَعَ
طولهَا على النَّاس.
{ (53) أزفت الآزفة} (النَّجْم: 75)
أزف، الْمَاضِي مُشْتَقّ من الأزف بِفَتْح الزَّاي وَهُوَ
الْقرب، يُقَال: أزف الْوَقْت وحان الْأَجَل أَي: دنا
وَقرب.
{ (54) اقترتب السَّاعَة} (الْقَمَر: 1)
أَي: دنت الْقِيَامَة، وَقَالَ ابْن كيسَان فِي الْآيَة
تَقْدِيم وَتَأْخِير مجازها: انْشَقَّ الْقَمَر واقتربت
السَّاعَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: وسينشق الْقَمَر،
وَالْعُلَمَاء على خِلَافه.
0356 - حدّثني يُوسُفُ بنُ مُوسى احدّثنا جَرِيرٌ عنِ
الأعْمَشِ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَقُول الله: يَا
آدَمُ {فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ فِي
يَدَيْكَ، قَالَ: يَقُولُ: أخْرِجْ بَعْثَ النَّار. قَالَ:
وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ ألْفٍ
تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ، فذَاكَ حِينَ يَشِيبُ
الصَّغيرُ { (22) وتضع كل ذَات. . وَلَكِن عَذَاب الله
شَدِيد} (الْحَج: 2) فاشْتَدَّ ذالِكَ عَليْهِم فقالُوا:
يَا رسولَ الله} أيُّنا ذالِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ:
(أبْشِرُوا فإنَّ مِنْ يَأْجُوجَ ومَأْجوجَ ألْفٌ
ومِنْكُمْ رَجُلٌ) ثُمَّ قَالَ: (والّذِي نَفْسِي فِي
يَدِهِ إنِّي لأَطْمَعُ أنْ تَكونُوا ثُلُثَ أهْل
الجَنَّةِ) قَالَ: فَحَمِدْنا الله وكَبَّرْنا، ثُمَّ
قَالَ: (والّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إنِّي لأطْمَعُ أنْ
تَكُونوا شَطْرَ أهْلِ الجَنَّةِ إنَّ مَثلَكُمْ فِي
الأمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ البَيْضاءِ فِي جِلْدِ
الثَّوْرِ الأسْوَدِ، أَو الرَّقْمَةِ فِي ذِراعٍ
الحِمارِ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (يشيب الصَّغِير)
إِلَى آخِره الْآيَة.
ويوسف بن مُوسَى بن رَاشد الْقطَّان الْكُوفِي، مَاتَ
بِبَغْدَاد سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ،
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش هُوَ
سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان الزيات، وَأَبُو
سعيد هُوَ سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
والْحَدِيث مر فِي: بَاب قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق بن نصر عَن أبي
أُسَامَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي سعيد
الْخُدْرِيّ.
قَوْله: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين وَقع غير مَرْفُوع، وَوَقع فِيمَا مضى فِي:
بَاب قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج مَرْفُوعا، وَكَذَا فِي
رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (وَالْخَيْر فِي يَديك) خص بِهِ
لرعاية الْأَدَب، وإلاّ فالخير وَالشَّر كُله بيد الله،
وَقيل: الْكل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الله حسن وَلَا قَبِيح
فِي فعله، وَإِنَّمَا الْحسن والقبح بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْعباد. قَوْله: (من كل ألف) وَقد سبق فِي الحَدِيث
الَّذِي قبل هَذَا الْبَاب: من كل مائَة، والتفاوت
بَينهمَا كثير. (وَالْجَوَاب) : أَن مَفْهُوم الْعدَد لَا
اعْتِبَار لَهُ يَعْنِي التَّخْصِيص بِعَدَد لَا يدل على
نفي الزَّائِد، أَو الْمَقْصُود مِنْهُمَا، شَيْء وَاحِد
وَهُوَ تقليل عدد الْمُؤمنِينَ وتكثير عدد الْكَافرين
قَوْله: (وَمَا بعث النَّار) عطف على مُقَدّر تَقْدِيره:
سَمِعت وأطعت، وَمَا بعث النَّار؟ أَي: وَمَا مِقْدَار
مَبْعُوث النَّار؟ قَوْله: (فَذَاك) إِشَارَة إِلَى
الْوَقْت الَّذِي يشيب فِيهِ الصَّغِير وتضع كل ذَات حمل
حملهَا، وَظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن هَذَا يَقع فِي
الْموقف. وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: إِن ذَلِك قبل يَوْم
الْقِيَامَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حمل وَلَا وضع وَلَا
شيب، والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
هَذَا تَمْثِيل للتهويل. وَقيل: إِنَّه كِنَايَة عَن
اشتداد الْحَال بِحَيْثُ إِنَّه لَو كَانَت النِّسَاء
حوامل لوضعت حَملهنَّ ويشيب فِيهِ الطِّفْل كَمَا تَقول
الْعَرَب: أَصَابَنَا أَمر يشب فِيهِ الْوَلِيد. قَوْله:
أَيّنَا ذَلِك الرجل؟ إِشَارَة إِلَى الرجل الَّذِي
يسْتَثْنى من الْألف. قَوْله: (أَبْشِرُوا) وَفِي حَدِيث
ابْن عَبَّاس: إعملوا وَأَبْشِرُوا. وَفِي حَدِيث أنس
أخرجه التِّرْمِذِيّ: قاربوا وسددوا. قَوْله: (ومنكم رجل)
أَي: الْمخْرج مِنْكُم
(23/109)
رجل وَاحِد، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَوْله: (من يَأْجُوج
وَمَأْجُوج ألف) أَي: مِنْهُم وَمِمَّنْ كَانَ على الشّرك
مثلهم. قَوْله: (أَو الرَّقْمَة) بِفَتْح الْقَاف وسكونها.
الْخط، والرقمتان فِي الْحمار هما الأثران اللَّذَان فِي
بَاطِن عضديه، وَقيل: الدائرة فِي ذراعه، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْفرق كثير بَين الْمُشبه والمشبه بِهِ
الأول وَالثَّانِي، فَكيف يَصح التَّشْبِيه فِي
الْمِقْدَار بشيئين مختلفي الْقدر؟ وَأجَاب: بِأَن
الْغَرَض من التشبيهين أَمر وَاحِد وَهُوَ بَيَان قلَّة
عدد الْمُؤمنِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَافرين غَايَة
الْقلَّة، وَهُوَ حَاصِل مِنْهُمَا سَوَاء. |