عمدة القاري شرح صحيح البخاري

74 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 4 6)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى إِلَى آخِره. قَوْله: {أَلا يظنّ} أَي: أَلا يستيقن، وَالظَّن هُنَا بِمَعْنى الْيَقِين {أَنهم مبعوثون} فَيسْأَلُونَ عَمَّا فعلوا فِي الدُّنْيَا. قَوْله: {ليَوْم عَظِيم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} لفصل الْقَضَاء بَين يَدي رَبهم، وَقَالَ كَعْب: يقفون ثَلَاثمِائَة عَام، وَقَالَ مقَاتل: وَذَلِكَ إِذا خَرجُوا من قُبُورهم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {وتقطعت بهم الْأَسْبَاب} (الْبَقَرَة: 961) قَالَ: الوُصُلاتُ فِي الدُّنيا.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وتقطعت بهم الْأَسْبَاب} الوصلات فِي الدُّنْيَا، بِضَم الْوَاو وَالصَّاد الْمُهْملَة، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبطناه بِضَم الصَّاد وَفتحهَا وسكونها، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ جمع الوصلة، وَهِي الِاتِّصَال، وكل مَا اتَّصل بشي فَمَا بَينهمَا وصلَة، وَقَالَ أَبُو عبيد: الْأَسْبَاب هِيَ الوصلات الَّتِي كَانُوا يتواصلون بهَا فِي الدُّنْيَا، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْأَسْبَاب الْأَرْحَام، رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن جريج عَنهُ، هُوَ مُنْقَطع. وَأخرج عبد بن حميد من طَرِيق شَيبَان عَن قَتَادَة: الْأَسْبَاب الوصلات الَّتِي كَانَت بَينهم فِي الدُّنْيَا يتواصلون بهَا ويتحابون، فَصَارَت عَدَاوَة يَوْم الْقِيَامَة.

1356 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ أبانَ حدّثنا عِيسى بنُ يُونُسَ حدّثنا ابنُ عَوْن عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} (المطففين: 6) قَالَ: (يَقُومُ أحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أنْصافِ أُذُنَيْهِ) . (انْظُر الحَدِيث 8394) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل بن أبان بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة منصرفاً الْوراق الْوزان الْكُوفِي، وَعِيسَى بن يُونُس بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق السبيعِي الْكُوفِي، سكن نَاحيَة الشَّام موضعا يُقَال لَهُ الْحَدث، وَمَات بهَا أول سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد وَالتَّفْسِير عَن هناد عَن عِيسَى بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن أبي بكر بِهِ.
قَوْله: (فِي رشحه) الرشح الْعرق. قَوْله: (أَنْصَاف أُذُنَيْهِ) كَقَوْلِه: { (66) فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) وَيُمكن الْفرق بِأَنَّهُ لما كَانَ لكل شخص أذنان فَهُوَ من بَاب إِضَافَة الْجمع إِلَى مثله بِنَاء على أَن أقل الْجمع اثْنَان.
قلت: رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث مُخْتَلفَة، فروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: أَن الشَّمْس لَتَدْنُو حَتَّى يبلغ الْعرق نصف الْأذن، وروى الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو يعلى وَصَححهُ ابْن حبَان من حَدِيث أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الْكَافِر ليلجم بعرقه يَوْم الْقِيَامَة من طول ذَلِك الْيَوْم، حَتَّى يَقُول: يَا رب أرحني، وَلَو إِلَى النَّار. وروى مُسلم من حَدِيث سليم بن عَامر عَن الْمِقْدَاد: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أدنيت الشَّمْس من الْعباد حَتَّى تكون قيد ميل أَو ميلين قَالَ سليم: لَا أَدْرِي أَرَادَ أَي الميلين أمسافة الأَرْض أَو الَّذِي يكتحل بِهِ قَالَ: فتصهرهم الشَّمْس فيكونون فِي الْعرق بِقدر أَعْمَالهم، فَمنهمْ من يَأْخُذهُ إِلَى حقْوَيْهِ وَمِنْهُم من يلجمه إلجاماً. قَالَ: فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهُوَ يُشِير بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. وروى الْحَاكِم عَن عقبَة بن عَامر: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: تَدْنُو الشَّمْس من الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة فيعرق النَّاس، فَمن النَّاس من يبلغ عرقه عقبه، وَمِنْهُم من يبلغ نصف سَاقه، وَمِنْهُم من يبلغ رُكْبَتَيْهِ،

(23/110)


وَمِنْهُم من يبلغ فَخذه، وَمِنْهُم من يبلغ خاصرته، وَمِنْهُم من يبلغ مَنْكِبَيْه، وَمِنْهُم من يبلغ فَاه: فَأَشَارَ بِيَدِهِ فألجمها، وَمِنْهُم من يغطيه عرقه، وَضرب بِيَدِهِ على رَأسه هَكَذَا. وروى ابْن أبي شيبَة عَن سلمَان الْخَبَر قَالَ: تُعْطى الشَّمْس يَوْم الْقِيَامَة حر عشر سِنِين ثمَّ تدنى من جماجم النَّاس حَتَّى يكون قاب قوسين. قَالَ: فيعرقون حَتَّى يرشح الْعرق فِي الأَرْض قامة ثمَّ يرْتَفع حَتَّى يُغَرْغر الرجل. قَالَ سلمَان: حَتَّى يَقُول الرجل: غرغر. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن هَذَا لَا يضر مُؤمنا كَامِل الْإِيمَان أَو من استظل بالعرش. وَرُوِيَ عَن سلمَان: وَلَا يجد حرهَا مُؤمن وَلَا مُؤمنَة، وَأما الْكفَّار فتطبخهم طبخاً حَتَّى يسمع لإحراقهم عق عق. وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) : عَن عبد الله بن عمر وَبِسَنَد لَا بَأْس بِهِ قَالَ: يشْتَد كرب ذَلِك الْيَوْم حَتَّى يلجم الْكَافِر الْعرق. قيل لَهُ: فَأَيْنَ الْمُؤمن؟ قَالَ: على كرْسِي من ذهب، ويظل عَلَيْهِم الْغَمَام. وَعَن أبي ظبْيَان: قَالَ أَبُو مُوسَى: الشَّمْس فَوق رُؤُوس النَّاس وأعمالهم تظلهم.

2356 - حدّثني عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ: حدّثني سُلَيْمانُ عنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدٍ عنْ أبي الغَيْثِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهمْ فِي الأرْضِ سَبْعِينَ ذِراعاً، ويُلْجِمُهُمْ حتَّى يَبْلُغَ آذانَهُمْ) .

ذكر هَذَا عقيب حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لما أَنه يتَضَمَّن بعض مَا فِيهِ والمناسبة بِهَذَا الْمِقْدَار كَافِيَة.
عبد الْعَزِيز ابْن عبد الله بن يحيى الأويسي الْمَدِينِيّ، وَسليمَان بن بِلَال، وَأَبُو الْغَيْث سَالم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (يعرق) بِفَتْح الرَّاء: (ويلجمهم) بِضَم الْيَاء من ألْجمهُ المَاء إلجاماً إِذا بلغ فَاه، وَسبب كَثْرَة الْعرق تراكم الْأَهْوَال وَشدَّة الازدحام ودنو الشَّمْس. قَالَ الْكرْمَانِي: الْجَمَاعَة إِذا وقفُوا فِي الأَرْض المعتدلة أَخذهم المَاء أخذا وَاحِدًا بِحَيْثُ يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل إِلَى الْأذن مَعَ اخْتِلَاف قاماتهم طولا وقصراً، وَأجَاب بِأَنَّهُ خلاف الْمُعْتَاد، أَو لَا يكون فِي القامات حينئذٍ اخْتِلَاف. وَقد روى اخْتلَافهمْ أَيْضا على قدر أَعْمَالهم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب.

84 - (بَاب القِصاصِ يَوْمَ القِيامَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَيْفيَّة الْقصاص يَوْم الْقِيَامَة. وَالْقصاص بِكَسْر الْقَاف مَأْخُوذ من القص وَهُوَ الْقطع أَو من اقتصاص الْأَثر وَهُوَ تتبعه، لِأَن الَّذِي يطْلب الْقصاص بتبع جِنَايَة الْجَانِي ليَأْخُذ مثلهَا. وَفِي (الْمغرب) : الْقصاص مقاصة ولي الْمَقْتُول الْقَاتِل والمجروح الْجَارِح، وَهِي مساواته إِيَّاه فِي قتل أَو جرح ثمَّ عَم فِي كل مُسَاوَاة.
وهْيَ الحاقَّةُ لأنَّ فِيها الثَّوابَ وحَواقَّ الأُمُورِ الحَقَّةُ والحَاقَّةُ واحِدٌ
أَي: الْقِيَامَة تسمى الحاقة. قَوْله: (وحواق الْأُمُور) ، بِالنّصب أَي: وَلِأَن فِيهَا ثوابت الْأُمُور، يَعْنِي يتَحَقَّق فِيهَا الْجَزَاء من الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَسَائِر الْأُمُور الثَّابِتَة الحقة الصادقة. قَوْله: (الحقة والحاقة وَاحِد) ، يَعْنِي فِي الْمَعْنى، كَذَا نقل عَن الْفراء، وَقيل: سميت الحاقة لِأَنَّهَا تحاق الْكفَّار الَّذين خالفوا الْأَنْبِيَاء، يُقَال: حاققته فحققته أَي: خاصمته فَخَصمته، وَقيل: لِأَنَّهَا حق لَا شكّ فِيهَا.
والقارِعَةُ والغاشِيَةُ والصَّاحَةُ والتَّغابُن: غَبَنَ أهْلُ الجَنةِ أهْلَ النَّارِ
أَي: وَهِي القارعة لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب بأهوالها وَقَالَ الْجَوْهَرِي: القارعة الشَّدِيدَة من شَدَائِد الدَّهْر، وَهِي الداهية. وأصل معنى القرع الدق وَمِنْه قرع الْبَاب، وقرع الرَّأْس بالعصا. قَوْله: (والغاشية) ، سميت بذلك لِأَنَّهَا تغشى النَّار بإفزاعها. أَي: تعمهم بذلك، وَعَن سعيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن كَعْب: الغاشية النَّار. وَقَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: الغاشية الْقِيَامَة تغشى كل شَيْء بالأهوال. قَوْله: والصاخة، هِيَ فِي الأَصْل الداهية، وَفِي (الصِّحَاح) : الصاخة الصَّيْحَة، يُقَال: صخ الصَّوْت الْأذن يصخها صخاً، وَمِنْه سميت الْقِيَامَة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: الصاخة يَعْنِي: صخة الْقِيَامَة، سميت بذلك لِأَنَّهَا تصخ الأسماع أَي: تتَابع فِي إسماعها حَتَّى تكَاد تصمها. قَوْله: والتغابن، بِالرَّفْع عطف على مَا قبله، وَهُوَ تفَاعل من الْغبن، وَهُوَ فَوت الْحَظ وَالْمرَاد. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المغبون من غبن أَهله ومنازله

(23/111)


فِي الْجنَّة، وَيظْهر يومئذٍ غبن كل كَافِر بِتَرْكِهِ الْإِيمَان، وغبن كل مُؤمن بتقصيره فِي الْإِحْسَان وتضييعه الْأَيَّام. قَوْله: غبن أهل الْجنَّة، فَقَوله: غبن، فعل مَاض وَأهل الْجنَّة فَاعله، وَأهل النَّار بِالنّصب مَفْعُوله، وَمَعْنَاهُ: أَن أهل الْجنَّة ينزلون منَازِل الأشقياء الَّتِي كَانَت أعدت لَهُم لَو كَانُوا سعداء، وَقَالَ بَعضهم: فعلى هَذَا التغابن من طرف وَاحِد، وَلكنه ذكر بِهَذِهِ الصِّيغَة للْمُبَالَغَة. انْتهى.
قلت: لَا نسلم صِحَة مَا قَالَه، وَلم يقل أحد: إِن صِيغَة التفاعل تَجِيء للْمُبَالَغَة، والتفاعل هُنَا على أَصله وَهُوَ الِاشْتِرَاك بَين الْقَوْم، وَلَا شكّ أَنهم مشتركون فِي أصل الْغبن لِأَن كل غابن فَلهُ مغبون.

3356 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حفْصٍ حدّثنا أبي حدّثنا الأعْمَشُ حَدثنِي شَقِيقٌ قَالَ: سَمعْتُ عَبْدَ الله رَضِي الله عَنهُ، قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بالدِّماِء) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْقَضَاء يَوْم الْقِيَامَة هُوَ للْقصَاص.
وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَالرِّجَال كلهم كوفيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن عبيد الله بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدِّيات عَن أبي كريب وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث بِهِ وَعَن غَيره. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَغَيره.
قَوْله: (بالدماء) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فِي الدِّمَاء. وَالْمعْنَى: الْقَضَاء بالدماء الَّتِي كَانَت بَين النَّاس فِي الدُّنْيَا. فَإِن قلت: روى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا (أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد يَوْم الْقِيَامَة صلَاته) .
قلت: لَا تعَارض بَينهمَا، لِأَن الأول فِيمَا يتَعَلَّق بمعاملات الْخلق، وَالثَّانِي فِيمَا يتَعَلَّق بعباده الْخَالِق، وَفِي حَدِيث الصُّور الطَّوِيل عَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: (أول مَا يقْضى بَين النَّاس فِي الدِّمَاء، وَيَأْتِي كل قَتِيل قد حمل رَأسه فَيَقُول: رب سل هَذَا فيمَ قتلني؟) وَفِي حَدِيث نَافِع بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رَفعه: (يَأْتِي الْمَقْتُول مُعَلّق رَأسه بِإِحْدَى يَدَيْهِ ملبياً قَاتله بِيَدِهِ الْأُخْرَى تسخب أوداجه دَمًا حَتَّى يقفا بَين يَدي الله) .

4356 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ: حدّثني مالِكٌ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها فإنهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِنْ حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ لهُ حَسَناتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّآتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) . (انْظُر الحَدِيث 9442) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من قبل أَن يُؤْخَذ)
إِلَى آخِره وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عقيب حَدِيث زيد بن أبي أنيسَة.
قَوْله: (مظْلمَة) بِفَتْح اللَّام وَالْكَسْر وَهُوَ أشهر. وَهِي اسْم مَا أَخذ مِنْك بِغَيْر حق. قَوْله: (لِأَخِيهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من أَخِيه) . قَوْله: (فليتحلله) أَي: فليسأله أَن يَجعله حَلَاله وليطلب مِنْهُ بَرَاءَة ذمَّته قبل يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (فَإِنَّهُ لَيْسَ ثمَّ) أَي: فَإِن الشَّأْن لَيْسَ هُنَاكَ دِرْهَم، وَثمّ بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا لرأيت فِي قَوْله تَعَالَى: { (76) وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} (الْإِنْسَان: 02) قَوْله: (من حَسَنَاته) أَي: من ثَوَابهَا فيزاد على ثَوَاب الْمَظْلُوم، قيل: ثَوَاب الْحَسَنَة خَالِد أبدا غير متناه وَجَزَاء السَّيئَة من الظُّلم غَيره متناه، فَكيف يَقع غير المتناهي موقع المتناهي؟ وَكَيف يقوم مقَامه فَيصير الْمَظْلُوم ظَالِما؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يُعْطي خَصمه من أصل ثَوَاب الْحَسَنَة مَا يوازي، عُقُوبَة سيئته، إِذْ الزَّائِد عَلَيْهِ فضل من الله عز وَجل عَلَيْهِ خَاصَّة. قَوْله: (فَإِن لم تكن لَهُ) ، أَي: للظالم، حَسَنَات أَخذ من أصل سيئات أَخِيه فيحط عَلَيْهِ فيزاد فِي عِقَابه، قيل: مَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، وَغَيرهَا) وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا تعَارض بَينهمَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَاقب بِسَبَب ظلمه أَو مَعْنَاهُ: لَا تزر بِاخْتِيَارِهِ وإرادته.

5356 - حدّثني الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ حدّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْع {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل} (الْأَعْرَاف: 34 وَالْحجر: 74) قَالَ: حدّثنا سَعِيدٌ عنْ قَتادَة عنْ أبي المُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ أنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ

(23/112)


رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنةَ والنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظالِمُ كانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيا، حتَّى إِذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأحَدُهُمْ أهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كانَ فِي الدُّنْيا) . (الحَدِيث 0442) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فيقص) . والصلت بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام بعْدهَا تَاء مثناة من فَوق ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو همام الخاركي بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْكَاف الْبَصْرِيّ وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع أَبُو مُعَاوِيَة العيشي الْبَصْرِيّ، وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي عرُوبَة، وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دَاوُد النَّاجِي بالنُّون وبالجيم نِسْبَة إِلَى بني نَاجِية ابْن سامة بن لؤَي وَهِي قَبيلَة كَبِيرَة السَّاجِي بِالسِّين الْمُهْملَة البصرية، وَأَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَظَالِم فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل) ذكره بَين رجال الْإِسْنَاد لبَيَان أَن الحَدِيث كالتفسير لَهُ. دقوله: (يخلص) بِفَتْح الْيَاء وَضم اللَّام. قَوْله: (على قنطرة) قيل هَذَا يشْعر بِأَن فِي الْقِيَامَة جسرين، هَذَا وَالَّذِي على متن جَهَنَّم الْمَشْهُور بالصراط. وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا مَحْذُور فِيهِ، وَلَئِن ثَبت بِالدَّلِيلِ أَنه وَاحِد فتأويله أَن هَذِه القنطرة من تَتِمَّة الأول. قَوْله: (فيقص) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع ويروى: فيقتص، من الاقتصاص وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فيقص، بِفَتْح الْيَاء فعلى هَذَا اللَّام فِي لبَعْضهِم، زَائِدَة، وَبَعْضهمْ، فَاعل لَهُ أَو الْفَاعِل مَحْذُوف تَقْدِيره: فيقص الله لبَعْضهِم من بعض. قَوْله: (مظالم) غير منون. وَقَوله: (كَانَت بَينهم) صفة مظالم. قَوْله: (هذبوا) على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّهْذِيب وَهُوَ التنقية، يُقَال: رجل مهذب الأخلاقَ مطهر الْأَخْلَاق، قَالَه الْجَوْهَرِي. قَوْله: (ونقوا) على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا من التنقية، وَأَصله: نقيوا، استثقلت الضمة على الْيَاء فنقلت إِلَى مَا قبلهَا بعد حذف حركتها. قَوْله: (أذن لَهُم فِي دُخُول الْجنَّة) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذَا فِي الظَّاهِر مَرْفُوع مثل بَقِيَّة الحَدِيث، كَذَا فِي سَائِر الرِّوَايَات إلاَّ فِي رِوَايَة عَفَّان عِنْد الطَّبَرِيّ فَإِنَّهُ جعل هَذَا من كَلَام قَتَادَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقع فِي حَدِيث عبد الله بن سَلام: أَن الْمَلَائِكَة تدلهم على طَرِيق الْجنَّة يَمِينا وَشمَالًا، رَوَاهُ عبد الله بن الْمُبَارك فِي (الزّهْد) : وَصَححهُ الْحَاكِم. قَوْله: (لأَحَدهم) مُبْتَدأ وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَخَبره هُوَ قَوْله: (أهْدى) قَوْله: (بِمَنْزِلَة) قَالَ الطَّيِّبِيّ: أهْدى لَا يتَعَدَّى بِالْبَاء، بل بِاللَّامِ أَو بإلى فَكَأَنَّهُ ضمن معنى اللصوق بمنزله هادياً إِلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَن مَنَازِلهمْ تعرض عَلَيْهِم غدواً وعشياً.

94 - (بابُ مَنْ نوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من نُوقِشَ الْحساب عذب، قَوْله: من مُبْتَدأ أَو: نُوقِشَ، صلته: وعذب، خَبره وكل من نُوقِشَ وعذب على صِيغَة الْمَجْهُول ونوقش من المناقشة وَهُوَ الِاسْتِقْصَاء والتفتيش فِي المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وَترك الْمُسَامحَة فِيهِ، والحساب مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض.

6356 - حدّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنْ عُثْمانَ بنَ الأسْوَدِ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّب) قالَتْ: قلْتُ: ألَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: { (84) فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 48) قَالَ: (ذَلِكَ العَرْضُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مَأْخُوذَة من صدر الحَدِيث. وَعبيد الله بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَعُثْمَان بن الْأسود بن مُوسَى الْمَكِّيّ، وَابْن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم هُوَ عبد الله، وَقد مر عَن قريب.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب من سمع شَيْئا، فَرَاجعه فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ، وَفِيه: من حُوسِبَ عذب، وَلَكِن من نُوقِشَ الْحساب يهْلك.
حدّثني عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدّثنا يَحْيَى عَن عُثْمانَ بنِ الأسْوَدِ سَمِعْتُ ابنَ أبي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ.

(23/113)


هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان إِلَى آخِره. قَوْله: (مثله) أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور.
تابَعَهُ ابنُ جُرَيْجٍ ومُحَمَّدُ بنُ سُلَيْمٍ وأيُّوبُ وصالِحُ بنُ رُسْتُمِ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: تَابع عُثْمَان بن الْأسود فِي رِوَايَته عَن ابْن أبي مليكَة عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَمُحَمّد بن سليم بِضَم السِّين الْمُهْملَة أَبُو عُثْمَان الْمَكِّيّ، قَالَ الغساني: اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق فِي: بَاب من نُوقِشَ، وَلَيْسَ هُوَ ابْن سليم الْبَصْرِيّ أَبَا هِلَال، وَوصل مُتَابعَة ابْن جريج وَمُحَمّد بن سليم أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : من طَرِيق أبي عَاصِم عَن ابْن جريج وَعُثْمَان ابْن الْأسود وَمُحَمّد بن سليم كلهم عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة بِهِ.
قَوْله: (وَأَيوب) أَي: تَابعه أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ أَيْضا وَوصل مُتَابَعَته البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَلم يسق لَفظه. قَوْله: وَصَالح، أَي: وَتَابعه أَيْضا صَالح ابْن رستم بِضَم الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل: بِفَتْحِهَا الْمُزنِيّ مَوْلَاهُم أَبُو عَامر الخزاز الْبَصْرِيّ، وَوصل مُتَابَعَته إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) : عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن أبي عَامر الخزاز بِزِيَادَة فِيهِ وَهِي قَوْله: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ: قَالَت إِنِّي لأعْلم أَي آيَة فِي الْقُرْآن أَشد. فَقَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا هِيَ قلت: {من يعْمل سوء يجز بِهِ} (النِّسَاء: 321) فَقَالَ: إِن الْمُؤمن يجازى بِأَسْوَأ عمله فِي الدُّنْيَا، يُصِيبهُ الْمَرَض حَتَّى النكبة، وَلَكِن من نُوقِشَ الْحساب عذب.

6356 - حدّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنْ عُثْمانَ بنَ الأسْوَدِ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّب) قالَتْ: قلْتُ: ألَيْسَ يَقُولُ الله تَعَالَى: { (84) فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 48) قَالَ: (ذَلِكَ العَرْضُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مَأْخُوذَة من صدر الحَدِيث. وَعبيد الله بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَعُثْمَان بن الْأسود بن مُوسَى الْمَكِّيّ، وَابْن أبي مليكَة بِضَم الْمِيم هُوَ عبد الله، وَقد مر عَن قريب.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب من سمع شَيْئا، فَرَاجعه فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ، وَفِيه: من حُوسِبَ عذب، وَلَكِن من نُوقِشَ الْحساب يهْلك.
حدّثني عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدّثنا يَحْيَى عَن عُثْمانَ بنِ الأسْوَدِ سَمِعْتُ ابنَ أبي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ.

هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان إِلَى آخِره. قَوْله: (مثله) أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور.
تابَعَهُ ابنُ جُرَيْجٍ ومُحَمَّدُ بنُ سُلَيْمٍ وأيُّوبُ وصالِحُ بنُ رُسْتُمِ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: تَابع عُثْمَان بن الْأسود فِي رِوَايَته عَن ابْن أبي مليكَة عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَمُحَمّد بن سليم بِضَم السِّين الْمُهْملَة أَبُو عُثْمَان الْمَكِّيّ، قَالَ الغساني: اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق فِي: بَاب من نُوقِشَ، وَلَيْسَ هُوَ ابْن سليم الْبَصْرِيّ أَبَا هِلَال، وَوصل مُتَابعَة ابْن جريج وَمُحَمّد بن سليم أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : من طَرِيق أبي عَاصِم عَن ابْن جريج وَعُثْمَان ابْن الْأسود وَمُحَمّد بن سليم كلهم عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة بِهِ.
قَوْله: (وَأَيوب) أَي: تَابعه أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ أَيْضا وَوصل مُتَابَعَته البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب، وَلم يسق لَفظه. قَوْله: وَصَالح، أَي: وَتَابعه أَيْضا صَالح ابْن رستم بِضَم الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل: بِفَتْحِهَا الْمُزنِيّ مَوْلَاهُم أَبُو عَامر الخزاز الْبَصْرِيّ، وَوصل مُتَابَعَته إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) : عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن أبي عَامر الخزاز بِزِيَادَة فِيهِ وَهِي قَوْله: عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، قَالَ: قَالَت إِنِّي لأعْلم أَي آيَة فِي الْقُرْآن أَشد. فَقَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا هِيَ قلت: {من يعْمل سوء يجز بِهِ} (النِّسَاء: 321) فَقَالَ: إِن الْمُؤمن يجازى بِأَسْوَأ عمله فِي الدُّنْيَا، يُصِيبهُ الْمَرَض حَتَّى النكبة، وَلَكِن من نُوقِشَ الْحساب عذب.

7356 - حدّثني إسْحاقُ بنُ مَنْصُورٍ حدّثنا رَوْحُ بنُ عُبادَةَ حدّثنا حاتِمُ بنُ أبي صَغِيرَةَ حدّثنا عَبْدُ الله بنُ أبي مُلَيْكَةَ حدّثني القاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثَتْنِي عائِشَةُ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَيْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ هَلَكَ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ألَيْسَ قَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} (الانشقاق: 8) فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّما ذَلِك العَرْضُ ولَيْسَ أحَدٌ يُناقَشُ الحِسابَ يَوْمَ القِيامَةِ إلاَّ عُذِّبَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وحاتم بِالْخَاءِ الْمُهْملَة ابْن أبي صَغِيرَة بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة ضد الْكَبِيرَة واسْمه مُسلم وَقد مر عَن قريب، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد استدرك الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ بِأَن ابْن أبي مليكَة روى مرّة عَن عَائِشَة وَأُخْرَى عَن الْقَاسِم فَفِيهِ اضْطِرَاب. قَالَ الْكرْمَانِي: الِاسْتِدْرَاك مُسْتَدْرك لاحْتِمَال أَنه سَمعه مِنْهُمَا، فَتَارَة روى بالواسطة وَأُخْرَى بِدُونِهَا.
قَوْله: (يناقش) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (الْحساب) مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: فِي الْحساب. قَوْله: (إلاَّ عذب) على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا.

8356 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدّثنا مُعاذُ بنُ هِشامٍ قَالَ: حدّثني أبي عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(ح) حدّثني مُحَمَّدُ بنُ مَعْمَرٍ حدّثنا رَوْحُ بنُ عُبادَةَ حَدثنَا سَعيدٌ عنْ قَتادَةَ حَدثنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول: (يُجاءُ بالكافِرِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقالُ لهُ: أرَأيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَباً أكُنْتَ تَفْتَدِى بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقالُ لَهُ: قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أيْسَرُ مِنْ ذالِكَ) . (انْظُر الحَدِيث 4333 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ نوع مناقشة. وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن معَاذ

(23/114)


عَن أَبِيه هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة عَن أنس. وَالْآخر: عَن مُحَمَّد بن معمر بِفَتْح الميمين الْقَيْسِي الْمَعْرُوف بالبحراني ضد البراني عَن روح بِفَتْح الرَّاء ابْن عبَادَة بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: { (2) وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} (الْبَقَرَة: 03) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من وَجه آخر عَن أنس وَهنا ذكره من طَرِيقين وَسَاقه بِلَفْظ سعيد.
قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي. قَوْله: (أَكنت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (مَا هُوَ أيسر من ذَلِك) أَي: أَهْون وَهُوَ التَّوْحِيد.

9356 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدّثنا أبي قَالَ: حدّثني الأعْمَشُ قَالَ: حدّثني خَيْثَمَةُ عنْ عَدِيِّ ابنِ حاتِمٍ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ وَسَيُكَلِّمُهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الله تُرْجُمانٌ. ثُمَّ يَنْظُرُ فَلا يَرى شَيْئاً قُدَّامَهُ، ثمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أنْ يَتَّقِيَ النَّارَ ولوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) . (انْظُر الحَدِيث 3141 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا أَن فِيهِ نوع مناقشة. وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن خَيْثَمَة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الرَّحْمَن الْجعْفِيّ عَن عدي بن حَاتِم الطَّائِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى مطولا فِي الزَّكَاة فِي: بَاب الصَّدَقَة قبل الرَّد فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من وَجه آخر عَن عبد الله بن مُحَمَّد إِلَى آخِره.
قَوْله: (مَا مِنْكُم من أحد) ، ظَاهر الْخطاب للصحابة وَيلْحق بهم الْمُؤْمِنُونَ كلهم. قَوْله: (إلاّ وسيكلمه الله) وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (إلاّ يكلمهُ ربه) ، وَالْوَاو فِيهِ إِن صَحَّ فَهُوَ مَعْطُوف على مَحْذُوف تَقْدِيره: إِلَّا سيخاطبه وسيكلمه. قَوْله: (لَيْسَ بَينه وَبَين الله) ، ويروى: (لَيْسَ بَين الله وَبَينه) . قَوْله: (ترجمان) ، بِضَم التَّاء وَفتحهَا وَفتح الْجِيم وَضمّهَا، وَقَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ بِفَتْح التَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: فلك أَن تضم التَّاء بضمة الْجِيم يُقَال: ترْجم، كَلَامه إِذا فسره بِكَلَام آخر. قَوْله: (قدامه) أَي: أَمَامه، وَفِي التَّوْحِيد على مَا سَيَأْتِي: (فَينْظر أَيمن مِنْهُ فَلَا يرى إلاَّ مَا قدم، وَينظر أشأم فَلَا يرى إلاَّ مَا قدم) . . وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (فَلَا يرى شَيْئا إلاَّ شَيْئا قدمه) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن خَليفَة: (فَينْظر عَن يَمِينه فَلَا يرى إلاَّ النَّار، وَينظر عَن شِمَاله فَلَا يرى إلاَّ النَّار) . وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: نظر الْيَمين وَالشمَال هُنَا كالمثل لِأَن الْإِنْسَان من شَأْنه إِذا دهمه أَمر أَن يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا يطْلب الْغَوْث، وَقيل: يحْتَمل أَن يطْلب طَرِيقا يهرب مِنْهُ لينجو من النَّار فَلَا يرى إلاَّ مَا يقْضِي الله بِهِ من دُخُول النَّار. قَوْله: (فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم) جَزَاؤُهُ مَحْذُوف أَي: فَلْيفْعَل، وَوَقع كَذَا فِي رِوَايَة وَكِيع.

0456 - قَالَ الأعْمَشُ: حدّثني عَمْرٌ وعنْ خَيْثَمَةَ عنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اتَّقُوا النَّارَ) ثُمَّ أعْرَضَ وأشاحَ، ثُمَّ قَالَ: (اتَّقُوا النَّارَ) ، ثُمَّ أعْرَضَ وأشاحَ ثَلاثاً حتَّى ظَنَنَّا أنّهُ يَنْظُرُ إلَيْها، ثُمَّ قَالَ: قَوْله: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) .
أَي قَالَ سُلَيْمَان الْأَعْمَش، وَهُوَ مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور عَن عَمْرو هُوَ ابْن مرّة عَن خَيْثَمَة، وروى الْأَعْمَش أَولا عَن خَيْثَمَة بِلَا وَاسِطَة، ثمَّ روى ثَانِيًا بالواسطة.
وَقد أخرجه مُسلم من رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش كَذَلِك، وَقد مضى الحَدِيث بأتم من هَذَا فِي كتاب الزَّكَاة من رِوَايَة مُحَمَّد بن خَليفَة.
قَوْله: (وأشاح) بالشين الْمُعْجَمَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة أَي: صرف وَجهه. وَقَالَ الْخَلِيل: أشاح بِوَجْهِهِ عَن الشَّيْء نحاه عَنهُ، وَقيل: صرف وَجهه كالخائف أَن يَنَالهُ. قَوْله: (فَمن لم يجد) أَي: مَا يتَصَدَّق بِهِ على السَّائِل. قَوْله: (فبكلمة طيبَة) أَي يَدْفَعهُ أَي: السَّائِل بِكَلِمَة تطيب قلبه.

05 - (بابٌ يَدْخُلُ الجَنَةَ سَبْعُونَ ألْفاً بِغَيْرِ حِسابٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يدْخل الْجنَّة ... إِلَى آخِره، وَفِي بعض النّسخ: بَاب يدْخلُونَ الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا على لُغَة: أكلوني البراغيث.

(23/115)


1456 - حدّثنا عِمْرانُ بنُ مَيْسَرَة حدّثنا ابنُ فُضَيْلٍ حدّثنا حُصَيْنٌ قالَ أبُو عَبْدِ الله: وحَدثني أسِيُد ابنُ زَيْدٍ حَدثنَا هُشَيْمٌ عنْ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حدّثني ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فأخَذَ النبيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَهُ العَشَرَةُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الخَمْسَةُ، والنبيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذا سَوادُ كَثِير، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! هؤُلاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لَا ولاكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذا سَوادٌ كَثِيرٌ، قَالَ: هاؤلاءِ أُمَّتُكَ، وهاؤُلاءِ سَبْعُونَ ألْفاً قُدَّامَهُمْ لَا حِسابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عذابَ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كانُوا لَا يَكْتوونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فقامَ إلَيْهِ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ) ثُمَّ قامَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ: ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (سَبَقَكَ بهَا عُكَّاشَةُ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن عمرَان بن ميسرَة ضد الميمنة عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن غَزوَان الضَّبِّيّ الْكُوفِي عَن حُصَيْن بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ ابْن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ. وَالطَّرِيق الآخر: عَن أسيد بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة ابْن زيد من الزِّيَادَة أبي مُحَمَّد الْجمال بِالْجِيم مولى صَالح الْقرشِي الْكُوفِي عَن هشيم بِضَم الْهَاء وَفتح الشين الْمُعْجَمَة ابْن بشير الوَاسِطِيّ عَن حُصَيْن ... إِلَى آخِره. وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى رِوَايَته عَن أسيد الْمَذْكُور بقوله: قَالَ أَبُو عبد الله، وَهُوَ البُخَارِيّ. وحَدثني أسيد بن زيد ... إِلَى آخِره، وَلم يرو البُخَارِيّ عَنهُ، إلاَّ فِي هَذَا الْموضع فَقَط مَقْرُونا بعمران بن ميسرَة. فَإِن قلت: أسيد هَذَا ضَعِيف جدا ضعفه جمَاعَة مِنْهُم يحيى بن معِين وأفحش القَوْل فِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: كانو يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ.
قلت: قَالَ أَبُو مَسْعُود: لَعَلَّه كَانَ ثِقَة عِنْده، وَهَذَا لَا يجدي فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلِهَذَا روى عَنهُ مَقْرُونا بعمران بن ميسرَة. فَإِن قلت: مَا كَانَ الدَّاعِي لهَذَا والإسناد الأول كَانَ كَافِيا؟ .
قلت: قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فِرَارًا من تكَرر الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، فَإِنَّهُ أخرج السَّنَد الأول فِي الطِّبّ فِي: بَاب من اكتوى. ثمَّ أَعَادَهُ هُنَا فأضاف إِلَيْهِ طَرِيق هشيم. انْتهى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ قد وَقع فِي البُخَارِيّ أَسَانِيد كَثِيرَة تَكَرَّرت بِعَينهَا فِي غير مَوضِع، وَلَا يخفى هَذَا على من يتَأَمَّل ذَلِك. وَأما الَّذِي ذكره فِي الطِّبّ فَهُوَ مطول أخرجه: عَن عمرَان بن ميسرَة عَن ابْن فُضَيْل عَن حُصَيْن عَن عَامر عَن عمرَان بن حُصَيْن الحَدِيث. وَأخرجه فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء مُخْتَصرا عَن مُسَدّد وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عرضت عَليّ) بتَشْديد الْيَاء (والأمم) بِالرَّفْع. قَوْله: (الْأمة) أَي: الْعدَد الْكثير. قَوْله: (فَأخذ) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة والذال الْمُعْجَمَة فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة وضع لدنو الْخَبَر على وَجه الشُّرُوع فِيهِ وَالْأَخْذ فِيهِ، فَتَارَة يسْتَعْمل: أَخذ اسْتِعْمَال: عَسى، فَيدْخل أَن فِي خَبره، وَتارَة يسْتَعْمل اسْتِعْمَال: كَاد، بِغَيْر أَن، ويروى: فاجد، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْجِيم وبالدال الْمُهْملَة، فعلى هَذَا لفظ النَّبِي مَنْصُوب على المفعولية، وعَلى الأول هُوَ مَرْفُوع على أَنه اسْم أَخذ. وَقَوله: (يمر) خَبره. قَوْله: (النَّفر) هُوَ رَهْط الْإِنْسَان وعشيرته وَهُوَ اسْم جمع يَقع على جمَاعَة من الرِّجَال خَاصَّة مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه. قَوْله: (مَعَه الْعشْرَة) بِفَتْح الشين اسْم الْعدَد الْمعِين وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: الْعَشِيرَة، بِكَسْر الشين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الْقَبِيلَة. قَوْله: (فَإِذا سَواد كثير) السوَاد بِلَفْظ. ضد الْبيَاض هُوَ الشَّخْص الَّذِي يُرى من بعيد وَوَصفه بِالْكَثْرَةِ إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد بِلَفْظِهِ الْجِنْس. قَوْله: (فَإِذا سَواد كثير) كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور: عَظِيم، مَوضِع: كثير. قَوْله: (قدامهم) فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور، وَمَعَهُمْ، بدل: قدامهم، وَفِي رِوَايَة حُصَيْن بن نمير وَمَعَ هَؤُلَاءِ. قَوْله: (وَلم؟) يكسر اللَّام وَفتح الْمِيم وَيجوز تسكينها يستفهم بهَا عَن السَّبَب. قَوْله: (لَا يَكْتَوُونَ) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي عِنْد غير الضَّرُورَة والاعتقاد بِأَن الشِّفَاء من الكي.
قلت: فِيهِ تَأمل. قَوْله: (ول

(23/116)


ايسترقون) أَي: بالأمور الَّتِي هِيَ غير الْقُرْآن كعزائم أهل الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (وَلَا يَتَطَيَّرُونَ) أَي: لَا يتشاءمون بالطيور وَأَنَّهُمْ الَّذين يتركون أَعمال الْجَاهِلِيَّة وعقائدهم، قيل: هم أَكثر من هَذَا الْعدَد، وَأجِيب: الله أعلم بذلك مَعَ احْتِمَال أَن يُرَاد بالسبعين الْكثير، وَقَالَ بَعضهم: إِن الْعدَد الْمَذْكُور على ظَاهره. وقوّي كَلَامه بِأَحَادِيث مِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة رَفعه: وَعَدَني رَبِّي أَن يدْخل الْجنَّة من أمتِي سبعين ألفا لَا حِسَاب عَلَيْهِم وَلَا عَذَاب، وَثَلَاث حثيات من حثيات رَبِّي.
قلت: احْتِمَال الزِّيَادَة فِي السّبْعين بَاقٍ، لِأَن المُرَاد مِنْهُ لَيْسَ خُصُوص الْعدَد، والحثيات كِنَايَة عَن الْمُبَالغَة فِي الْكَثْرَة. قَالَه ابْن الْأَثِير: قَوْله: (رجل آخر) قيل: هُوَ سعد بن عبَادَة الْأنْصَارِيّ سيد الْخَزْرَج.
قلت: أخرجه الْخَطِيب فِي (المبهمات) : من طَرِيق أبي حُذَيْفَة إِسْحَاق بن بشر أحد الضُّعَفَاء، وَقيل: يستبعد هَذَا السُّؤَال من سعد بن عبَادَة فَلَعَلَّ هَذَا سعد بن عمَارَة الْأنْصَارِيّ وصحفه النَّاقِل. قَوْله: (سَبَقَك بهَا عكاشة) اخْتلفُوا فِي الْحِكْمَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِهَذَا القَوْل، فَقَالَ الْفراء: كَانَ الآخر منافقاً، ورد هَذَا بِأَن الأَصْل فِي الصَّحَابَة عدم النِّفَاق، وَقيل: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علم بِالْوَحْي أَنه يُجَاب فِي عكاشة وَلم يَقع ذَلِك فِي حق الآخر، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يظْهر لي الأول سَأَلَ عَن صدق قلب فَأُجِيب، وَأما الثَّانِي فَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ حسم الْمَادَّة، فَلَو قَالَ للثَّانِي: نعم، فَلَا شكّ أَن يقوم ثَالِث ورابع إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ، وَلَيْسَ كل النَّاس يصلح لذَلِك، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لم يكن عِنْد الثَّانِي من تِلْكَ الْأَحْوَال مَا كَانَ عِنْد عكاشة، فَلذَلِك لم يجب. وَقَالَ السُّهيْلي: الَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا أَنَّهَا كَانَت سَاعَة إِجَابَة علمهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاتفقَ أَن الرجل قَالَ بَعْدَمَا انْقَضتْ، وَالله أعلم.

2456 - حدّثنا مُعاذُ بنُ أسَدٍ أخبرنَا عبدُ الله أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدّثني سَعيدُ بنُ المُسَيَّب أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حدَّثهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (يَدْخُلُ الجَنَّة مِنْ أُمَّتى زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ ألْفاً تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إضاءَةَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ) .
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: فقامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنِ الأسَدِيُّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عليْهِ، فَقَالَ: يَا رسولَ الله {ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعلْهُ مِنْهُمْ) ثُمَّ قامَ رجُلٌ مِنَ الأنْصارِ، فَقَالَ: يَا رَسولَ الله} ادْعُ الله أنْ يَجْعَلني عَنْهمْ. فَقَالَ: (سَبَقَكَ بهَا عُكَاشَةُ) . (انْظُر الحَدِيث 1185) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ومعاذ بِضَم الْمِيم ابْن أَسد أَبُو عبد الله الْمروزِي نزل الْبَصْرَة، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن حَرْمَلَة عَن يحيى.
قَوْله: (نمرة) هِيَ كسَاء فِيهِ خطوط بيض وسود كَأَنَّهَا أخذت من جلد النمر.

3456 - حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حدّثنا أبُو غَسَّانَ قَالَ: حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لِيَدْخُلَنَّ الجَنَةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفاً) أَو سَبْعُمائَةِ ألْفٍ شَكَّ فِي أحَدِهِما (مِتَماسِكِينَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حتَّى يَدْخُلَ أوَّلُهُمْ وآخرُهُمُ الجَنَّةَ وَوُجُوهُمْ عَلى ضوْءٍ القمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ) . (انْظُر الحَدِيث 7423 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو غَسَّان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين مُحَمَّد بن مطرف، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي صفة الْجنَّة.
قَوْله: (شكّ فِي أَحدهمَا) وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن أبي حَازِم: لَا يدْرِي أَبُو حَازِم أَيهمَا قَالَ. قَوْله: (متماسكين) نصب على الْحَال، وَفِي رِوَايَة مُسلم: متماسكون، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم متماسكون. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كَذَا فِي بعض النّسخ، وَفِي بَعْضهَا بِالنّصب فكلاهما صَحِيح. قَوْله: (آخذ بَعضهم بِبَعْض) أَي: بَعضهم آخذ بِبَعْض وآخذ بِالْمدِّ وَكسر الْخَاء وَفِي رِوَايَة مُسلم: أَخذ بَعضهم بَعْضًا. قَوْله: (حَتَّى يدْخل أَوَّلهمْ وَآخرهمْ الْجنَّة) هَذَا غَايَة للتماسك الْمَذْكُور، وَالْأَخْذ بِالْأَيْدِي وَفِي رِوَايَة فُضَيْل بن سُلَيْمَان الَّتِي مَضَت فِي: بَاب صفة الْجنَّة: لَا يدْخل أَوَّلهمْ حَتَّى يدْخل آخِرهم.

(23/117)


وَمَعْنَاهُ: يدْخلُونَ صفا وَاحِدًا، فَيدْخل الْجَمِيع دفْعَة وَاحِدَة، وَإِن لم يحمل على هَذَا الْمَعْنى يلْزم الدّور، وَإِنَّمَا وَصفهم بالأولية والآخرية بِاعْتِبَار الصّفة الَّتِي جازوا فِيهَا على الصِّرَاط. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى سَعَة الْبَاب الَّذِي يدْخلُونَ مِنْهُ الْجنَّة. وَقَالَ عِيَاض: يحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: متماسكين، أَنهم على صفة الْوَقار فَلَا يسابق بَعضهم بَعْضًا بل يكون دُخُولهمْ جَمِيعًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنهم يدْخلُونَ معترضين صفا وَاحِدًا بَعضهم بِجنب بعض. قَوْله: (ووجوههم على ضوء الْقَمَر) الْوَاو فِيهِ للْحَال.

4456 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدّثنا أبي عنْ صالِحٍ حدّثنا نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ الجَنةِ لَا مَوْتَ خُلُودٌ) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ ذكر دُخُول الْمُؤمنِينَ الْجنَّة.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان الْغِفَارِيّ بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء وبالراء.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره.
قَوْله: (يَا أهل النَّار) أَصله: يَا أهل النَّار، حذفت الْهمزَة تَخْفِيفًا، وَكَذَا قَوْله: (يَا أهل الْجنَّة) قَوْله: (لَا موت) مبْنى على الْفَتْح. قَوْله: (خُلُود) إِمَّا مصدر وَإِمَّا جمع خَالِد، وَالتَّقْدِير: الشَّأْن أَو هَذَا الْحَال خُلُود، أوأنتم خَالدُونَ.

5456 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حدّثنا أبُو الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُقالُ لأِهْلِ الجَنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ، ولأِهْلِ النَّار: يَا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ لاَ مَوْتَ) .

مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (يَا أهل الْجنَّة) لم يثبت فِي رِوَايَة غير الْكشميهني. قَوْله: (لَا موت) زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته: لَا موت فِيهِ.

15 - (بابُ صِفَةِ الجَنَّةِ والنّارِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة الْجنَّة وَصفَة النَّار، وَقد وَقع فِي بَدْء الْخلق: بَاب مَا جَاءَ فِي صفة الْجنَّة، وَبَاب صفة النَّار.
وَقَالَ أبُو سَعِيدٍ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أوَّلُ طَعامٍ يأكُلُهُ أهْلُ الجَنّةِ زِيادَةُ كَبِد حُوتِ) .
أَبُو سعيد هُوَ سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هَذَا الحَدِيث قد مضى مطولا عَن قريب فِي: بَاب يقبض الله الأَرْض. قَوْله: (كبد حوت) فِي رِوَايَة أبي ذَر: كبد الْحُوت.
عَدْنٌ خُلْدٌ، عَدَنْتُ بأرْضٍ أقَمْتُ، ومِنْهُ المَعدِنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير عدن فِي قَوْله تَعَالَى: {جنَّات عدن} (التَّوْبَة: 27،) وَفسّر العدن بقوله: خلد، بِضَم الْخَاء وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْخلد دوَام الْبَقَاء، تَقول: خلد الرجل يخلد خلوداً، وأخلده الله إخلاداً، وخلده تخليداً. قَوْله: (عدنت بِأَرْض) : اقمت بِهِ أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى العدن الْإِقَامَة، يُقَال: عدن بِالْبَلَدِ أَقَامَ بِهِ. قَوْله: وَمِنْه الْمَعْدن، أَي: وَمن هَذَا الْبَاب: الْمَعْدن الَّذِي يسْتَخْرج مِنْهُ جَوَاهِر الأَرْض كالذهب وَالْفِضَّة والنحاس وَالْحَدِيد وَغير ذَلِك.
فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ: فِي مَنْبِتِ صِدْقِ

(23/118)


أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير مَعْدن صدق فِي كَلَام النَّاس. بقوله: منبت صدق وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (فِي مقْعد صدق) كَمَا فِي الْقُرْآن {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مقْعد صدق} (الْقَمَر: 45 55) وَهُوَ الصَّوَاب. قَوْله: {فِي جنَّات} أَي: فِي بساتين قَوْله {ونهر} أَي: وأنهار، وَإِنَّمَا وَحده لأجل رُؤُوس الْآي، وَقَالَ الضَّحَّاك: أَي فِي ضِيَاء وسعة، وَمِنْه النَّهَار. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: معنى {مقْعد صدق} مجْلِس حق لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تأثيم وَهُوَ الْجنَّة.

6456 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ الهَيْثَمِ حَدثنَا عَوْفٌ عنْ أبي رجاءٍ عنْ عِمْرَانَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَوْله: (اطَّلَعْتُ فِي الجَنَةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلها الفُقَرَاءِ، واطَلَعْتُ فِي النّارِ فَرَأيْت أكْثَرَ أهْلها النِّساء) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن كَون أَكثر أهل الْجنَّة الْفُقَرَاء. وَكَون أَكثر أهل النَّار النِّسَاء، وصف من أَوْصَاف الْجنَّة وَوصف من أَوْصَاف النَّار.
وَعُثْمَان بن الْهَيْثَم بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ابْن الجهم أَبُو عمر الْمُؤَذّن، وعَوْف هُوَ الْمَشْهُور بالأعرابي، وَأَبُو رَجَاء بِالْجِيم عمرَان العطاردي وَشَيْخه هُوَ عمرَان بن حُصَيْن الصَّحَابِيّ. وَالرِّجَال كلهم بصريون.
والْحَدِيث مضى فِي صفة الْجنَّة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن أبي رَجَاء عَن عمرَان بن حُصَيْن ... إِلَى آخِره، وَفِي النِّكَاح عَن عُثْمَان بن الْهَيْثَم عَن عَوْف ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (إطلعت) بِالتَّشْدِيدِ أَي: أشرفت وَنظرت.

7456 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا إسْماعيلُ أخبرنَا سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ عنْ أبي عُثْمانَ عنْ أُسامَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (قُمْتُ عَلى بابِ الجَنَّةِ فكانَ عامَّةُ مَنْ دخلَها المَساكينَ وأصْحابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أنَّ أصْحابَ النّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وقُمْتُ عَلى بابِ النّارِ فإذَا عامّةُ مَنْ دَخَلَها النِّساءُ) . (انْظُر الحَدِيث 6915) .
الْمُطَابقَة فِيهِ مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وَسليمَان التَّيْمِيّ، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل، وَأُسَامَة هُوَ ابْن زيد بن حَارِثَة الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ.
قَوْله: (عَامَّة من دَخلهَا الْمَسَاكِين) وَفِي الحَدِيث السَّابِق: الْفُقَرَاء، فَفِيهِ إِشْعَار بِأَنَّهُ يُطلق أَحدهمَا على الآخر، قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الزَّكَاة. قَوْله: (وَأَصْحَاب الْجد) بِفَتْح الْجِيم أَي الْغنى، قَوْله: (محبوسون) يَعْنِي لِلْحسابِ، وَهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي قبله لم يذكرَا فِي كثير من النّسخ، وَمَا ثبتا إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن شُيُوخه الثَّلَاثَة.

8456 - حدّثنا مُعاذُ بنُ أسَدٍ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ زَيْدٍ عنْ أبِيهِ أنّهُ حدَّثَهُ عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إذَا صارَ أهْلُ الجَنّةِ إِلَى الجَنَةِ وأهْلُ النّارِ إِلَى النّارِ جِيءَ بالمَوْتِ حتَّى يُجْعلَ بَيْنَ الجنَّةِ والنّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ لَا مَوْتَ، يَا أهْلَ النارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أهْلُ الجَنّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ ويَزْدَادُ أهْلُ النّارِ حُزْنَا إِلَى حُزْنِهِمْ) . (انْظُر الحَدِيث 4456) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ازدياد أهل الْجنَّة فَرحا، وازدياد أهل النَّار حزنا، وصف من أوصافهما من حَيْثُ أَنَّهُمَا حاصلان فيهمَا. وَهُوَ وصف الْمحل وَإِرَادَة وصف الْحَال.
ومعاذ بن أَسد أَبُو عبد الله الْمروزِي نزل الْبَصْرَة، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَعمر بن مُحَمَّد يروي عَن أَبِيه مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة أهل الْجنَّة وَالنَّار عَن هَارُون بن سعيد وَغَيره.
قَوْله: (حَتَّى يُجعل بَين الْجنَّة وَالنَّار) فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: فَيُوقف على السُّور الَّذِي بَين الْجنَّة وَالنَّار. قَوْله: (ثمَّ يذبح) قيل: الْمَوْت عرض كَيفَ يَصح عَلَيْهِ الْمَجِيء وَالذّبْح؟ وَأجِيب: بِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجسده ويجسمه، أَو هُوَ على سَبِيل التَّمْثِيل للإشعار بالخلود، وَنقل الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الصُّوفِيَّة: أَن الَّذِي يذبحه يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام، بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِشَارَة إِلَى دوَام الْحَيَاة، وَقيل: يذبحه جِبْرِيل على بَاب الْجنَّة.

(23/119)


9456 - حدّثنا مُعاذُ بنُ أسَدٍ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ زَيْدٍ بن أسْلَمَ عنْ عَطاءٍ بنِ يَسارٍ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لأهْلِ الجَنّةِ: يَا أهْلَ الجَنَةِ {يَقُولُونَ: لَبَيْكَ ربَّنا وسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمُ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وقَدْ أعْطَيْتَنا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا ربِّ وأيُّ شيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رضْوَانِي فَلاَ أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدَاً) .

مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِيمَا قبل. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن سُلَيْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْجنَّة عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن عَمْرو بن يحيى بن الْحَارِث.
قَوْله: (أحل) من الْإِحْلَال بِمَعْنى الْإِنْزَال، أَو بِمَعْنى الْإِيجَاب، يُقَال: أحله الله عَلَيْهِ أَي: أوجبه، وَحل أَمر الله عَلَيْهِ أَي: وَجب.

0556 - حدّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا مُعاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وَحدثنَا أَبُو إسْحاقَ عنْ حُمَيْدٍ قالَ: سَمِعْتُ أنَساً يَقُولُ: أُصيبَ حارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وهْوَ غُلاَمٌ فَجاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقالَتْ: يَا رسولَ الله} قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حارِثَةَ مِنِّي {فإنْ يَكُ فِي الجَنّةِ أصْبِرْ وأحْتَسِبْ، وإنْ تَكُنِ الأُخْرَى تَرَى مَا أصْنَعُ. فَقَالَ: (ويْحَك} أوَ هَبِلْتِ؟ أوَ جَنّةٌ واحدَةٌ هِيَ؟ إنّها جنانٌ كَثِيرَةٌ، وإنّهُ لَفِي جَنّةِ الفِرْدَوْسِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَمُعَاوِيَة بن عَمْرو بن مهلب الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْفَزارِيّ، وَحميد بن أبي حميد الطَّوِيل.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَغَازِي فِي: بَاب فضل من شهد بَدْرًا بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن.
وحارثة هُوَ ابْن سراقَة بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ لَهُ ولأبويه صُحْبَة، وَأمه هِيَ الرّبيع بِالتَّشْدِيدِ بنت النَّضر عمَّة أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَوْله: (ترى مَا أصنع؟) بإشباع الرَّاء فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: تَرَ مَا أصنع، بِالْجَزْمِ جَوَاب الشَّرْط يَعْنِي: وَإِن لم يكن فِي الْجنَّة صنعت شَيْئا من صنع أهل الْحزن مَشْهُورا يره كل أحد. قَوْله: (وَيحك) كلمة ترحم وَتعطف قَوْله: (أَو هبلت) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام وَالْوَاو للْعَطْف على مُقَدّر بعد الْهمزَة، وهبلت على صِيغَة الْمَجْهُول والمعلوم من هبلته أمه إِذا ثكلته. قَوْله: (أَو جنَّة وَاحِدَة؟) الْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي أَو هبلت؟ قَوْله: (وَإِنَّهَا) أَي: الْجنَّة جنان يَعْنِي أَنْوَاع الْبَسَاتِين. قَوْله: (لفي جنَّة الفردوس) بِاللَّامِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِدُونِ اللَّام، وَقَالَ الزّجاج: الفردوس من الأودية مَا ينْبت ضروباً من النَّبَات، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره: بُسْتَان فِيهِ كروم وَغَيرهَا، وَيذكر وَيُؤَنث، وَقَالَ الْفراء: هُوَ عَرَبِيّ مُشْتَقّ من الفردسة، وَهِي السعَة، وَقيل: رومي نقلته الْعَرَب، وَقيل: سرياني وَالْمرَاد بِهِ هُنَا هُوَ مَكَان من الْجنَّة هُوَ أفضلهَا.

1556 - حدّثنا مُعاذُ بنُ أسَدٍ أخبرنَا الفَضْلُ بنُ مُوسَى أخبرنَا الفُضَيْلُ عنْ أبي حازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا بَيْنَ مَنْكِبَي الكافِرِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ لِلرَّاكِبِ المُسْرِعِ) .
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن كَون مَنْكِبي الْكَافِر هَذَا الْمِقْدَار فِي النَّار نوع وصف من أوصافها بِاعْتِبَار ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال.
وَالْفضل بن مُوسَى هُوَ السينَانِي بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف النُّون الأولى وَكسر الثَّانِيَة، وسينان قَرْيَة من قرى مرو، والفضيل مصغر فضل كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين غير مَنْسُوب، وَنسبه ابْن السكن فِي رِوَايَته فَقَالَ: الْفضل بن غَزوَان وَهُوَ الْمُعْتَمد، وَنسبه أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ فِي رِوَايَته عَن أبي زيد الْمروزِي فَقَالَ: الفضيل بن عِيَاض، ورده أَبُو عَليّ الجياني فَقَالَ: لَا رِوَايَة للفضيل بن عِيَاض فِي البُخَارِيّ إِلَّا فِي موضِعين من كتاب

(23/120)


التَّوْحِيد، وَلَا رِوَايَة لَهُ عَن أبي حَازِم رَاوِي هَذَا الحَدِيث وَلَا أدْركهُ، وَأَبُو حَازِم سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي صفة النَّار عَن أبي كريب وَغَيره.
قَوْله: (مَنْكِبي الْكَافِر) تَثْنِيَة منْكب بِكَسْر الْكَاف وَهُوَ مُجْتَمع الْعَضُد والكتف، وَفِي رِوَايَة يُوسُف بن عيسيى عَن الْفضل مُوسَى شيخ البُخَارِيّ بِسَنَدِهِ؛ خَمْسَة أَيَّام، وروى أَحْمد من رِوَايَة مُجَاهِد عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: يعظم أهل النَّار فِي النَّار حَتَّى إِن بَين شحمة أذن أحدهم إِلَى عَاتِقه مسيرَة سَبْعمِائة عَام، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْبَعْث) : من وَجه آخر: عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: مسيرَة سبعين خَرِيفًا، وروى ابْن الْمُبَارك فِي (الزّهْد) : عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: ضرس الْكَافِر يَوْم الْقِيَامَة أعظم من أحد، يعظمون لتمتلىء مِنْهُم وليذيقوا الْعَذَاب، وَلم يُصَرح بِرَفْعِهِ لكنه فِي حكم الْمَرْفُوع لِأَنَّهُ لَا مجَال فِيهِ للرأي، وَفِي مُسلم: عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: غلظ جلده مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَأخرجه الْبَزَّار عَن أبي هُرَيْرَة بِسَنَد صَحِيح بِلَفْظ: جلد الْكَافِر وكثافة جلده اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْجَبَّار. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَرَادَ بِلَفْظ الْجَبَّار التهويل، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يُرِيد جباراً من الْجَبَابِرَة، إِشَارَة إِلَى عظم الذِّرَاع، وَقَالَ ابْن حبَان لما أخرجه فِي (صَحِيحه) : بِأَن الْجَبَّار ملك كَانَ بِالْيمن، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة: وَفَخذه مثل ورقان ومقعده مثل مَا بَين الْمَدِينَة والربذة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَلَفظه: بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وورقان بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الرَّاء وبالقاف وَالنُّون جبل مَعْرُوف بالحجاز، وَاخْتِلَاف هَذِه الْمَقَادِير مخمول على اخْتِلَاف تَعْذِيب الْكفَّار فِي النَّار. فَإِن قلت: ورد حَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بِسَنَد جيد: عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: إِن المتكبرين يحشرون يَوْم الْقِيَامَة أَمْثَال الذَّر فِي صور الرِّجَال يساقون إِلَى سجن فِي جَهَنَّم يُقَال لَهُ: بولس.
قلت: هَذَا فِي أول الْأَمر عِنْد الْحَشْر، وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة مَحْمُولَة على مَا بعد الِاسْتِقْرَار فِي النَّار.

2556 - وَقَالَ إسْحاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ: أخبرنَا المُغِيرَةُ بنُ سَلَمَة حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ عنْ رسُولِ الله قَالَ: (إنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَة يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّها مائَةَ عامٍ لَا يَقْطَعُها) .

3556 - قَالَ أبُو حازِمٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمانَ بنَ أبي عَيَّاش فَقَالَ: حدّثني أَبُو سَعِيدٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إنَّ فِي الجَنَةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ مائَةَ عامٍ مَا يَقْطَعُها) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، والمغيرة بن سَلمَة بِفتْحَتَيْنِ المَخْزُومِي الْبَصْرِيّ، ووهيب مصغر وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار وَسَهل بن سعد بن ملك الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أَيْضا وَلكنه قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم: وَأخرجه البُخَارِيّ مُعَلّقا.
قَوْله: (لشَجَرَة) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (لَا يقطعهَا) يَعْنِي: لَا يبلغ إِلَى مُنْتَهى أَغْصَانهَا.
قَوْله: (قَالَ أَبُو حَازِم) مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور، والنعمان بن أبي عَيَّاش بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة وبالشين الْمُعْجَمَة الزرقي التَّابِعِيّ الْمدنِي الثِّقَة، وَاسم أبي النُّعْمَان: زيد بن الصَّامِت، قتل بِأَرْض حمص سنة أَربع وَسِتِّينَ وَكَانَ عَاملا لِابْنِ الزبير عَلَيْهَا. قَوْله: (حَدثنِي أَبُو سعيد) كَذَا فِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنِي، ويروى هُنَا: أَخْبرنِي، أَيْضا وَأَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (الْجواد) بِفَتْح الْجِيم وَتَخْفِيف الْوَاو وَهُوَ الْفرس، الْبَين الْجَوْدَة، وَيُقَال: الْجواد للذّكر وَالْأُنْثَى من خيل جِيَاد وأجواد وأجاويد، وَقَالَ ابْن فَارس: الْجواد الْفرس السَّرِيع. قَوْله: (الْمُضمر) بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم من قَوْلهم: ضمر الْخَيل تضميراً إِذا عَلفهَا الْقُوت بعد السّمن، وَكَذَلِكَ أضمرها، قَالَه الْكرْمَانِي. وَقَالَ ابْن فَارس: الْمُضمر من الْخَيل أَن يعلف حَتَّى يسمن ثمَّ يردهُ إِلَى الْقُوت وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَة، وهذ الْمدَّة تسمى: الْمِضْمَار، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْمُضمر هُوَ الَّذِي يدْخل فِي بَيت وَيجْعَل عَلَيْهِ جله ويقل: علفه لينقص من لَحْمه شَيْئا فَيَزْدَاد جريه ويؤمن عَلَيْهِ أَن يُسبق. قَالَ: وَكَانَ للخيل المضمرة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أَمْيَال فِي السَّبق، وَمَا لم يضمر ميل.

4556 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا عبْدُ العَزِيزِ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(23/121)


قَالَ: (ليَدْخُلَنَّ الجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفاً) أوْ سَبْعُمائَةٍ ألْفٍ، لَا يَدْرِي أبُو حازِمٍ أيُّهُما قَالَ (مُتَماسِكونَ آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضاً لَا يَدْخُلُ أوَّلُهُمْ حتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ على صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البدْرِ) . (انْظُر الحَدِيث 7423 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي بعض الْأَحَادِيث الْمَاضِيَة وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار.
والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا.
قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (لَا يدْخل) فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا وَهُوَ مُسْتَلْزم الدّور؟ لِأَن دُخُول الأول مَوْقُوف على دُخُول الآخر وَبِالْعَكْسِ؟ .
قلت: يدْخلُونَ مَعًا صفا وَاحِدًا، وَهُوَ أَيْضا دور معية وَلَا مَحْذُور فِيهِ. فَإِن قلت: فِي بعض الرِّوَايَة: يدْخل، بِدُونِ كلمة: لَا.
قلت: لَا هُوَ مُقَدّر يدل عَلَيْهِ الْمَعْنى أَو حَتَّى بِمَعْنى مَعَ أَو عَن أَو مَعْنَاهُ: اسْتِمْرَار دُخُول أَوَّلهمْ إِلَى دُخُول من هُوَ آخر الْكل.

5556 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَة حَدثنَا عبْدُ العَزِيزِ عنْ أبِيهِ عنْ سَهْلٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَوْله: (إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءَوْنَ الغُرَفَ فِي الجَنَّةِ كَمَا تَتَراءَوْنَ الكَوْكَبَ فِي السَّماءِ) .
قَالَ أبي: فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمانَ بن أبي عَيَّاشٍ فَقَالَ: أشْهَدُ لَسَمعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ، ويزِيدُ فِيهِ: كَمَا تَراءَوْنَ الكَوْكَبَ الغارِبَ فِي الأفُقِ الشَّرْقِيِّ والغَرْبِيِّ. (انْظُر الحَدِيث 6523) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْعَزِيز يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (ليتراءون) أَي: ينظرُونَ وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (الغرف) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء جمع غرفَة. قَوْله: (الْكَوْكَب) فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: الْكَوْكَب الدُّرِّي.
قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ عبد الْعَزِيز: قَالَ: (أبي) هُوَ أَبُو حَازِم. قَوْله: (أشهد لسمعت) اللَّام جَوَاب قسم مَحْذُوف. قَوْله: (أَبَا سعيد) هُوَ الْخُدْرِيّ. قَوْله: (فِيهِ) أَي: فِي الحَدِيث. قَوْله: (الغارب) فِي رِوَايَة الْكشميهني: الغابر، بِتَقْدِيم الْبَاء الْمُوَحدَة على الرَّاء، والغابر الذَّاهِب وَضَبطه بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف مَهْمُوزَة قبل الرَّاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْكَوْكَب فِي الشرق لَيْسَ بغالب فَمَا وَجهه؟ .
قلت: يُرَاد بِهِ لَازمه هُوَ الْبعد وَنَحْوه، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: شبه رُؤْيَة الرَّائِي فِي الْجنَّة صَاحب الغرفة بِرُؤْيَة الرَّائِي الْكَوْكَب المضيء الْبَاقِي فِي جَانب الشرق والغرب فِي الاستضاءة مَعَ الْبعد.

7556 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدّثنا غُنْدَرٌ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي عِمْرانَ قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ ابنَ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَوْله: (يَقُولُ الله تَعَالَى لأِهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذاباً يَوْمَ القِيامَةِ: لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شيءٍ أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدْتُ مِنْكَ أهْوَنَ مِنْ هاذَا وأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، أنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فأبَيْتَ إلاّ أنْ تُشْرِكَ بِي) . (انْظُر الحَدِيث 4333 وطرفه) .

مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ نوع صفة للنار بِاعْتِبَار وصف أَهلهَا من قبيل ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال.
وغندر مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو عمرَان هُوَ عبد الْملك بن حبيب الْجونِي بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وبالنون الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عبيد الله بن معَاذ.
قَوْله: (لأهون) ، اللَّام فِيهِ مَكْسُورَة لَام الْجَرّ، وأهون أَي: أسلم والهمزة فِي: (أَكنت؟) للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، وَالْوَاو فِي: (وَأَنت) للْحَال قَوْله: (أَن لَا تشرك بِي شَيْئا) بِفَتْح الْهمزَة بدل من قَوْله: أَهْون من هَذَا، قَوْله: (فأبيت) من الإباء أَي: امْتنعت.

142 - (حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان حَدثنَا حَمَّاد عَن عَمْرو عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يخرج من النَّار بالشفاعة كَأَنَّهُمْ الثعارير قلت وَمَا الثعارير قَالَ الضغابيس وَكَانَ قد سقط فَمه فَقلت لعَمْرو بن دِينَار أَبَا مُحَمَّد سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول

(23/122)


يخرج بالشفاعة من النَّار قَالَ نعم) مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا الْآن بِاعْتِبَار ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار وَجَابِر هُوَ ابْن عبد الله وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي الرّبيع قَوْله يخرج من النَّار كَذَا هُوَ بِحَذْف الْفَاعِل فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن السَّرخسِيّ عَن الْفربرِي يخرج قوم وَلَفظ مُسلم أَن الله يخرج قوما من النَّار بالشفاعة قَوْله كَأَنَّهُمْ الثعارير بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالْعين الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء جمع ثعرور على وزن عُصْفُور وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي هُوَ قثاء صغَار وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة مثله وَزَاد وَيُقَال بالشين الْمُعْجَمَة بدل الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي قَول الرَّاوِي وَكَانَ عَمْرو ذهب فَمه أَرَادَ أَنه سَقَطت أَسْنَانه فينطق بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهِي بالشين الْمُعْجَمَة وَقيل الثعرور ينْبت فِي أصُول الثمام كالقطن ينْبت فِي الرمل ينبسط عَلَيْهِ وَلَا يطول وَقَالَ الْكرْمَانِي هُوَ القثاء الصَّغِير ونبات كالهليون وَقيل هُوَ الأقط الرطب وَأغْرب الْقَابِسِيّ فَقَالَ هُوَ الصدف الَّذِي يخرج من الْبَحْر فِيهِ الْجَوْهَر وَكَأَنَّهُ أَخذه من قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى كَأَنَّهُمْ اللُّؤْلُؤ وَلَيْسَ بِشَيْء قَوْله قلت وَمَا الثعارير الْقَائِل هُوَ حَمَّاد وَفِي رِوَايَة الْكشميهني مَا الثعارير بِدُونِ الْوَاو وَفِي أَوله قَوْله قَالَ الضغابيس أَي قَالَ عَمْرو بن دِينَار الثعارير الضغابيس جمع ضغبوس بِضَم الضَّاد وَسُكُون الْغَيْن المعجمتين وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة وَقَالَ الْأَصْمَعِي هُوَ نبت فِي أصُول الثمام يشبه الهليون يسلق ثمَّ يُؤْكَل بالزيت والخل وَقيل ينْبت فِي أصُول الشّجر والأذخر يخرج قدر شبر فِي دقة الْأَصَابِع لَا ورق لَهُ وَفِيه حموضة وَفِي غَرِيب الحَدِيث للحربي الضغبوس شَجَرَة على طول الْأصْبع وَيُشبه بِهِ الرجل الضَّعِيف قلت الْغَرَض من التَّشْبِيه بَيَان حَالهم حِين خُرُوجهمْ من النَّار وَفِي الغريبين وَفِي حَدِيث وَلَا بَأْس باجتناء الضغابيس فِي الْحرم قَوْله وَكَانَ قد سقط فَمه الْقَائِل هُوَ حَمَّاد أَرَادَ بِسُقُوط فَمه ذهَاب أَسْنَانه كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن ويروى وَكَانَ ذهب فَمه فَلذَلِك سمي الْأَثْرَم بالثاء الْمُثَلَّثَة إِذْ الثرم سُقُوط الْأَسْنَان وانكسارها قَوْله قلت لعَمْرو بن دِينَار الْقَائِل هُوَ حَمَّاد قَوْله أَبَا مُحَمَّد أَي يَا أَبَا مُحَمَّد وَهُوَ كنية عَمْرو بن دِينَار قَوْله سَمِعت أَي أسمعت وهمزة الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة وَفِي الحَدِيث إِثْبَات الشَّفَاعَة وَإِبْطَال مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فِي نفي الشَّفَاعَة وَقَالَ ابْن بطال أنْكرت الْمُعْتَزلَة والخوارج الشَّفَاعَة فِي إِخْرَاج من أَدخل النَّار من المذنبين وتمسكوا بقوله تَعَالَى {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} وَغير ذَلِك من الْآيَات وَأجَاب أهل السّنة بِأَنَّهَا فِي الْكفَّار وَجَاءَت الْأَحَادِيث بِإِثْبَات الشَّفَاعَة المحمدية متواترة وَدلّ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} وَالْجُمْهُور على أَن المُرَاد بِهِ الشَّفَاعَة وَبَالغ الواحدي فَنقل فِيهِ الْإِجْمَاع وَقَالَ الطَّبَرِيّ قَالَ أَكثر أهل التَّأْوِيل الْمقَام الْمَحْمُود هُوَ الَّذِي يقومه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليريحهم من كرب الْموقف وَرُوِيَ أَحَادِيث كَثِيرَة تدل على أَن الْمقَام الْمَحْمُود الشَّفَاعَة عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا وَعَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وَعَن أبي مَسْعُود كَذَلِك وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَقَالَ الطَّبَرِيّ أَيْضا قَالَ لَيْث عَن مُجَاهِد فِي قَوْله مقَاما مَحْمُودًا يجلسه مَعَه على عَرْشه ثمَّ أسْندهُ وَبَالغ الواحدي فِي رد هَذَا القَوْل وَنقل النقاش عَن أبي دَاوُد صَاحب السّنَن أَنه قَالَ من أنكر هَذَا فَهُوَ مُتَّهم وَقد جَاءَ عَن ابْن مَسْعُود عِنْد الثَّعْلَبِيّ وَعَن ابْن عَبَّاس عِنْد أبي الشَّيْخ عَن عبد الله بن سَلام رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن مُحَمَّدًا يَوْم الْقِيَامَة على كرْسِي الرب بَين يَدي الرب -
9556 - حدّثنا هُدْبَةُ بنُ خالِدٍ حدّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتادَةَ حدّثنا أنَسُ بنُ مالِكٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّار بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْها سفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الجَنةَ فَيُسَمِّيهِمْ أهْلُ الجَنَّةِ الجَهَنَّمييِّنَ) .

مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنَّهَا تتصف بِنَوْع صفة حَيْثُ يُقَال لن يخرج مِنْهَا: جهنمي، فينسب إِلَيْهَا.
وَهِشَام هُوَ الدستوَائي. والْحَدِيث يَأْتِي فِي التَّوْحِيد مطولا.
قَوْله: (سفع) بالمهملتين وَالْفَاء حرارة النَّار. قَوْله: (الجهنميين) جمع جهنمي مَنْسُوب إِلَى جَهَنَّم، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن أنس فَيَقُول لَهُم أهل الْجنَّة: هَؤُلَاءِ الجهنميون، فَيَقُول الله: هَؤُلَاءِ عُتَقَاء

(23/123)


الله. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي سعيد وَزَاد فِيهِ: فَيدعونَ الله فَيذْهب هَذَا الِاسْم.

0656 - حدّثنا مُوسى احدّثنا وُهَيْبٌ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى اعنْ أبِيهِ عنْ أبي سعيد الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَوْله: (إِذا دَخَلَ أهْلُ الجَنّةِ الجَنّةَ وأهْلُ النّار النّارَ يَقُولُ الله: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ فأخْرِجُوهُ، فَيَخَرُجُونَ قَدِ امْتُحِشوا وعادُوا حُمماً، فَيلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الحياةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حمِيل السَّيْلِ. أوْ قَالَ: حَمِيئَةِ السَّيْلِ) وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ألَمْ تَرَوْا أنَّها تَنْبُتُ صَفْراءَ مُلْتَوِيَةَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّار قد تصيّر من دَخلهَا حمماً وتتصف النَّار بذلك.
ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل، ووهيب هُوَ ابْن خَالِد، وَعَمْرو بن يحيى يروي عَن أَبِيه يحيى بن عمَارَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم ابْن أبي حسن الْمَازِني عَن أبي سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب تفاضل أهل الْإِيمَان، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنذكر بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة.
قَوْله: (قد امتحشوا) على صِيغَة الْمَجْهُول من الامتحاش وَهُوَ الاحتراق، ومادته مِيم وحاء مُهْملَة وشين مُعْجمَة. قَوْله: (حمماً) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَهُوَ الفحم. قَوْله: (فيلقون) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي. قَوْله: (الْحبَّة) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ بذر البقل والرياحين. قَوْله: (فِي حميل السَّيْل) وَهُوَ غثاؤه وَهُوَ محموله فميل بِمَعْنى مفعول، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ من طين أَو غثاء فَإِذا كَانَ فِيهِ حَبَّة واستقرت على شط الْوَادي تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة. قَوْله: (أَو قَالَ) شكّ من الرَّاوِي قَوْله: (حمئة) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبكسرها وبالهمز هُوَ الطين الْأسود المنتن. وَقَالَ ابْن التِّين: وَالَّذِي روينَاهُ: حمة، بِكَسْر الْحَاء غير مَهْمُوز وَمَعْنَاهُ مثل معنى حميل، ويروى: حمية، بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: مُعظم جريه واشتداده. قَوْله: (ملتوية) من الالتواء ... وَقَالَ النَّوَوِيّ: لسرعة نباتة يكون ضَعِيفا ولضعفه يكون أصفر ملتوياً، ثمَّ بعد ذَلِك تشتد قوته.

2656 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجاءٍ حدّثنا إسْرائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنْ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ

(23/124)


قَالَ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عذَابا يَوْمَ القِيامَةِ رَجُلٌ عَلى أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِماغُهُ كَمَا يَغْلِي المِرْجَلُ والقُمْقُمُ) . (انْظُر الحَدِيث 1656) [/ ح.

هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عبد الله بن رَجَاء عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، عَمْرو السبيعِي. وَإِسْرَائِيل هَذَا يروي عَن جده أبي إِسْحَاق، وَهَذَا السَّنَد أَعلَى من السَّنَد الأول لَكِن أَبَا إِسْحَاق عَن هُنَا وَهُنَاكَ صرح بِالسَّمَاعِ.
قَوْله: (الْمرجل) بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْجِيم قدر من نُحَاس، والقمقم بِضَم القافين الْآتِيَة من الزّجاج قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: فِيهِ تَأمل لِأَن الحَدِيث يدل على أَنه إِنَاء يغلي فِيهِ المَاء أَو غَيره. والإناء الزّجاج كَيفَ يغلي فِيهَا المَاء؟ وَقَالَ غَيره: هُوَ إِنَاء ضيق الرَّأْس يسخن فِيهِ المَاء يكون من نُحَاس وَغَيره، وَهُوَ فَارسي، وَقيل: رومي مُعرب، ثمَّ إِن عطف القمقم على الْمرجل بِالْوَاو هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: والقمقم بِالْوَاو لَا بِالْبَاء وَأَشَارَ بِهِ إِلَى رِوَايَة من روى: كَمَا يغلي الْمرجل بالقمقم، وعَلى هَذَا فسره الْكرْمَانِي، فَقَالَ: الْبَاء للتعدية، وَوجه التَّشْبِيه هُوَ كَمَا أَن النَّار تغلي الْمرجل الَّذِي فِي رَأسه قمقم تسري الْحَرَارَة إِلَيْهَا وتؤثر فِيهَا، كَذَلِك النَّار تغلي بدن الْإِنْسَان بِحَيْثُ يُؤَدِّي أَثَرهَا إِلَى الدِّمَاغ.

3656 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ عَمْرٍ وَعَن خَيْثَمَة عنْ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَكَرَ النَّارَ، فأشاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْها. ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فأشاحَ بِوجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْها، ثُمَّ قَالَ: (اتَّقُوا النَّارَ ولَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وتعوذ مِنْهَا) ، وَذَلِكَ أَن من جملَة صِفَات النَّار أَنه يتَعَوَّذ مِنْهَا.
وَعَمْرو هُوَ ابْن مرّة بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء، وخيثمة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الرَّحْمَن.
والْحَدِيث مضى مُعَلّقا فِي: بَاب من نُوقِشَ الْحساب عذب، عَن الْأَعْمَش عَن عَمْرو بن عَن خَيْثَمَة عَن عدي بن حَاتِم، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فأشاح) بالشين الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة أَي: صرف وَجهه، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المشيح الحذر والحاد فِي الْأَمر، وَقيل: الْمقبل إِلَيْك الْمَانِع لما وَرَاء ظَهره، فَيجوز أَن يكون: أشاح، هُنَا أحد هَذِه الْمعَانِي، أَي: حذر النَّار كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا، أَو حض على الْإِيصَاء باتقائها، أَو أقبل إِلَيْك من خطابه.

4656 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حَمْزَةَ حدّثنا ابنُ أبي حازِمٍ والدَّراوَرْدِيُّ عنْ يَزيدَ عنْ عَبْد الله بنِ خَبَّابٍ عنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنهُ، أنّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أبُو طالبٍ، فَقَالَ: (لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفاعَتَي يَوْمَ القِيامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضاحِ مِنَ نارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِماغِهِ) . (انْظُر الحَدِيث 5883) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فِي ضحضاح من نَار) لِأَنَّهُ وصف من أَوْصَاف النَّار.
وَإِبْرَاهِيم بن حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي أَبُو إِسْحَاق الزبيرِي الْأَسدي، وَابْن أبي حَازِم هُوَ عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَسْلَمِيّ، والدراوردي أَيْضا اسْمه عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبيد من رجال مُسلم روى البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم عَنهُ مَقْرُونا بِابْن أبي حَازِم وَنسبه إِلَى دراورد فتح الدَّال قَرْيَة من قرى خُرَاسَان، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الله بن الْهَاد، وَعبد الله بن خباب بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى الْأنْصَارِيّ، وكل هَؤُلَاءِ مدنيون.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب قصَّة أبي طَالب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث عَن ابْن الْهَاد عَن عبد الله بن خباب عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ ... إِلَى آخِره. وَأخرجه أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة عَن ابْن أبي حَازِم والدراوردي عَن يزِيد بِهَذَا.
قَوْله: (أَبُو طَالب) هُوَ ابْن عبد الْمطلب وَعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واسْمه عبد منَاف شَقِيق عبد الله وَالِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:

(23/125)


(لَعَلَّه تَنْفَعهُ شَفَاعَتِي) قيل: يشكل هَذَا بقوله تَعَالَى: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} (المدثر: 84) ، وَأجِيب بِأَنَّهُ خص فَلذَلِك عدُّوه من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: جَزَاء الْكَافِر من الْعَذَاب يَقع على كفره وعَلى مَعَاصيه فَيجوز أَن الله تَعَالَى يضع عَن بعض الْكفَّار بعض جَزَاء مَعَاصيه تطييباً لقلب الشافع لَا ثَوابًا للْكَافِرِ. لِأَن حَسَنَاته صَارَت بِمَوْتِهِ على كفره هباء منثوراً. قَوْله: (فِي ضحضاح) بإعجام الضادين وإهمال الحاءين مَا رقّ من المَاء على وَجه الأَرْض إِلَى نَحْو الْكَعْبَيْنِ فاستعير للنار. قَوْله: (يغلي مِنْهُ أم دماغه) وَأم الدِّمَاغ أَصله وَمَا بِهِ قوامه، وَقيل: الهامة، وَقيل: جلدَة رقيقَة تحيط بالدماغ.

5656 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا أبُو عَوانَةَ عنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَجْمَعُ الله النّاسَ يَوْم القيامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنا على رَبِّنا حَتَّى يُرِيحنَا مِنْ مَكانِنا؟ فَيَأْتونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أنْتَ الّذِي خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ ونَفَخَ فِيكَ منْ رُوحِهِ وأمَرَ المَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ فاشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبِّنا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ ويَقُولُ: ائْتُوا نُوحاً أوَّلَ رَسولِ بَعَثَهُ الله، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا إبْراهِيمَ الّذِي اتَّخَذَهُ الله خَلِيلاً، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ: ائْتُو مُوسى الّذِي كَلَّمَهُ الله، فَيَأتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ: ائْتُوا عِيسى فَيأتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ، فَيأتُونِي فأسْتَأْذِنُ عَلى رَبِّي فَإِذا رَأيْتُهُ وقَعْتُ ساجِداً فَيَدَعُنِي مَا شاءَ الله ثُمَّ يُقالُ لِي: ارْفَعْ رَأسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وقُلْ يُسْمَعْ واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأرْفعُ رَأسِي فأحمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي ثُمَّ أشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا ثُمَّ أُخْرِجهُمْ مِنَ النَّارِ وأُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ، ثُمَّ أعُودُ فأقَعُ ساجِداً مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ حتّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إلاّ مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ) ، وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: عِنْدَ هاذا، أيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (ثمَّ أخرجهم من النَّار) بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عِنْد التراجم الْمَاضِيَة.
وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو اسْمه الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي.
والْحَدِيث مضى فِي أول تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة وَلكنه أخرجه عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن هِشَام عَن قَتَادَة عَن أنس، وَعَن خَليفَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن أنس. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مر يَعْنِي حَدِيث الْبَاب فِي بني إِسْرَائِيل.
قلت: الَّذِي مر فِي سُورَة بني إِسْرَائِيل عَن أبي هُرَيْرَة وَلَيْسَ عَن أنس وَهُوَ حَدِيث طَوِيل.
قَوْله: (يجمع الله النَّاس) فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: جمع الله، أَي: فِي العرصات. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَاضِي: يجمع الله النَّاس الْأَوَّلين والآخرين فِي صَعِيد وَاحِد، وَفِي رِوَايَة هِشَام وَسَعِيد وَهَمَّام: يجمع الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (لَو اسْتَشْفَعْنَا) جَزَاؤُهُ مَحْذُوف أَو هُوَ لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فيلهمون بذلك، وَفِي رِوَايَة: فَيَهْتَمُّونَ بذلك، وَفِي رِوَايَة همام: حَتَّى يهتموا بذلك. قَوْله: (على رَبنَا فِي) رِوَايَة هِشَام وَسَعِيد: إِلَى رَبنَا، وَضمن: على، هُنَا معنى الِاسْتِعَانَة. أَي: لَو استعنا على رَبنَا. قَوْله: (حَتَّى يُرِيحنَا) بِضَم الْيَاء من الإراحة بالراء والحاء الْمُهْملَة أَي: يخرجنا من الْموقف وأهواله وأحواله ويفصل بَين الْعباد. قَوْله: (فَيَأْتُونَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام) وَفِي رِوَايَة شَيبَان: فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى يَأْتُوا آدم عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (عِنْد رَبنَا) فِي رِوَايَة مُسلم: عِنْد رَبك. قَوْله: (لست هُنَاكُم) أَي: لَيْسَ هَذِه الْمرتبَة، وَقَالَ عِيَاض قَوْله: (لست هُنَاكُم) كِنَايَة عَن أَن مَنْزِلَته دون الْمنزلَة الْمَطْلُوبَة، قَالَه تواضعاً وإكباراً لما يسألونه، قَالَ: وَقد يكون فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا الْمقَام لَيْسَ لي بل لغيري، وَوَقع فِي رِوَايَة معبد بن هِلَال: فَيَقُول: لست لَهَا، وَكَذَا

(23/126)


فِي بَقِيَّة الْمَوَاضِع، وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة: لست بِصَاحِب ذَاك. قَوْله: (وَيذكر خطيئته) زَاد مُسلم الَّتِي أصَاب، وَزَاد همام فِي رِوَايَته أكله من الشَّجَرَة وَقد نهي عَنْهَا، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قد أخرجت بخطيئتي فِي الْجنَّة، وَفِي رِوَايَة أبي نَضرة عَن أبي سعيد: وَإِنِّي أذنبت ذَنبا فأهبطت بِهِ إِلَى الأَرْض، وَفِي رِوَايَة ثَابت عِنْد سعيد بن مَنْصُور: إِنِّي أَخْطَأت وَأَنا فِي الفردوس وَإِن يغْفر لي الْيَوْم حسبي. قَوْله: (أول رَسُول بَعثه الله) قيل: آدم عَلَيْهِ السَّلَام، أول الرُّسُل لَا نوح، وَكَذَا شِيث وَإِدْرِيس وهما قبل نوح عَلَيْهِ السَّلَام. وَأجَاب الْكرْمَانِي بِأَنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ، وَيحْتَمل أَن يُقَال: المُرَاد هُوَ أول رَسُول أنذر قومه الْهَلَاك، أَو أول رَسُول لَهُ قوم. انْتهى.
قلت: فِي كل من الْأَجْوِبَة الثَّلَاثَة نظر أما الأول: فَلِأَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام، رَسُول قد أرسل إِلَى أَوْلَاد قابيل وَنزل عَلَيْهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ صحيفَة أملأها عَلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وكتبها بِخَطِّهِ بالسُّرْيَانيَّة وَفرض عَلَيْهِ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة خَمْسُونَ رَكْعَة وَحرم عَلَيْهِ الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَالْبَغي وَالظُّلم والغدر وَالْكذب وَالزِّنَا. وَأما الثَّانِي: فَإِن آدم أَيْضا أنذر أَوْلَاده مِمَّا فِيهِ الْهَلَاك وَأوصى بذلك عِنْد مَوته. وَأما الثَّالِث: فَلِأَن آدم أَيْضا لَهُ قوم. وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن آدم عَلَيْهِ السَّلَام، لم يمت حَتَّى بلغ وَلَده وَولد وَلَده أَرْبَعِينَ ألفا فَرَأى فيهم الزِّنَا وَشرب الْخمر وَالْفساد ونهاهم. قَوْله: (وَيذكر خطيئته) أَي: وَيذكر نوح عَلَيْهِ السَّلَام، خطيئته وَهِي دَعوته على قومه بِالْهَلَاكِ، وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي (كشف عُلُوم الْآخِرَة) : إِن بَين إتْيَان أهل الْموقف آدم وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وَكَذَا بَين كل نَبِي وَنَبِي إِلَى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: وَلم أَقف لذَلِك على أصل، وَلَقَد أَكثر فِي هَذَا الْكتاب من إِيرَاد أَحَادِيث لَا أصل لَهَا فَلَا تغتر بِشَيْء مِنْهَا. انْتهى.
قلت: جلالة قدر الْغَزالِيّ يُنَافِي مَا ذكره، وَعدم وُقُوفه لذَلِك على أصل لَا يسْتَلْزم نفي وقُوف غَيره على أصل، وَلم يحط علم هَذَا الْقَائِل بِكُل مَا ورد وَبِكُل مَا نقل حَتَّى يَدعِي هَذِه الدَّعْوَى. قَوْله: (ائْتُوا إِبْرَاهِيم) إِلَى قَوْله: (وَيذكر خطيئته) وَهِي معاريضه الثَّلَاث وَهِي قَوْله: {بل فعله كَبِيرهمْ} (الْأَنْبِيَاء: 36) فِي كسر الْأَصْنَام وَقَوله لامْرَأَته: {أَنا أَخُوك} وَقَوله: {إِنِّي سقيم} (الصافات: 98) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لم يكذب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، إلاَّ ثَلَاث كذبات كلهَا فِي الله قَوْله: {إِنِّي سقيم} وَقَوله: {بل فعله كَبِيرهمْ} (الْأَنْبِيَاء: 36) وَقَوله لسارة (هِيَ أُخْتِي) رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَالْبَزَّار. قَوْله: (أئتوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام) إِلَى قَوْله: (خطيئته) هِيَ قتل القبطي. قَوْله: (فيأتونه) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَيَأْتُونَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَلم يذكر ذَنبا، وَفِي حَدِيث أبي نَضرة عَن أبي سعيد إِنِّي عبدت من دون الله، وَفِي رِوَايَة ثَابت عِنْد سعيد بن مَنْصُور نَحوه، وَزَاد: وَإِن يغْفر لي الْيَوْم حسبي. قَوْله: (فَيَأْتُوني) وَفِي رِوَايَة النَّضر بن أنس عَن أَبِيه: حَدثنِي نَبِي الله، قَالَ: إِنِّي لقائم انْتظر أمتِي تعبر الصِّرَاط إِذْ جَاءَ عِيسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّد هَذِه الْأَنْبِيَاء قد جاءتك يسْأَلُون لتدعو الله أَن يفرق جَمِيع الْأُمَم حَيْثُ يَشَاء، لغم مَا هم فِيهِ، وَهَذَا يدل على أَن الَّذِي وصف من كَلَام أهل الْموقف كُله يَقع عِنْد نصب الصِّرَاط بعد تساقط الْكفَّار فِي النَّار. قَوْله: (فَأَسْتَأْذِن) وَفِي رِوَايَة هِشَام: فأنطلق حَتَّى أَسْتَأْذن، قَالَ عِيَاض: أَي فِي الشَّفَاعَة، وَفِي رِوَايَة قَتَادَة عَن أنس: آتِي بَاب الْجنَّة فَاسْتَفْتَحَ، فَيُقَال: من هَذَا؟ فَأَقُول مُحَمَّد، فَيُقَال: مرْحَبًا بِمُحَمد. وَفِي حَدِيث سُلَيْمَان: فآخذ بِحَلقَة الْبَاب وَهِي من ذهب فيقرع الْبَاب فَيُقَال: من هَذَا؟ فَيَقُول: مُحَمَّد، فَيفتح لَهُ حَتَّى يقوم بَين يَدي الله فيستأذن فِي السُّجُود فَيُؤذن لَهُ. قَوْله: (وَقعت سَاجِدا) نصب على الْحَال، وَفِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَإِذا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدا. قَوْله: (فيدعني) أَي: فِي السُّجُود (مَا شَاءَ الله) وَفِي حَدِيث أبي بكر الصّديق: فيخر سَاجِدا قد قدر جُمُعَة. قَوْله: (ثمَّ يَقُول لي) أَي: ثمَّ يَقُول الله لي، وَفِي رِوَايَة النَّضر بن أنس: فَأوحى الله إِلَى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، أَن أذهب إِلَى مُحَمَّد فَقل لَهُ: إرفع رَأسك، فعلى هَذَا معنى قَوْله: ثمَّ يَقُول لي على لِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (فَيحد لي حدا) أَي: يبين لي فِي كل طور من أطوار الشَّفَاعَة حدا، أَقف عِنْده فَلَا أتعداه مثل أَن يَقُول لي: شفعتك فِيمَن أخل بِالْجَمَاعَة، ثمَّ فِيمَن أخل بِالصَّلَاةِ، ثمَّ فِيمَن شرب الْخمر ثمَّ فِيمَن زنى، وعَلى هَذَا الأسلوب كَذَا حَكَاهُ الطَّيِّبِيّ. قَوْله: (ثمَّ أخرجهم من النَّار) قَالَ الدَّاودِيّ: كَأَن رَاوِي هَذَا الحَدِيث ركب شَيْئا على غير أَصله، وَذَلِكَ فِي أول الحَدِيث ذكر الشَّفَاعَة فِي الإراحة من كرب الْموقف، وَفِي آخِره ذكر الشَّفَاعَة فِي الْإِخْرَاج من النَّار، يَعْنِي ذَلِك إِنَّمَا يكون بعد التَّحَوُّل من الْموقف والمرور على الصِّرَاط وَسُقُوط من يسْقط فِي تِلْكَ الْحَالة فِي النَّار، ثمَّ تقع بعد ذَلِك الشَّفَاعَة فِي الْإِخْرَاج، وَهُوَ إِشْكَال قوي، وَقد أجَاب عَنهُ عِيَاض وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَغَيره: بِأَنَّهُ قد وَقع فِي

(23/127)


حَدِيث حُذَيْفَة المقرون بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة بعد قَوْله: (فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيقوم وَيُؤذن لَهُ) ، أَي: فِي الشَّفَاعَة وَيُرْسل الْأَمَانَة وَالرحم فيقومان بجنبي الصِّرَاط يَمِينا وَشمَالًا فيمر أولكم كالبرق ... الحَدِيث، قَالَ عِيَاض: فَبِهَذَا يتَّصل الْكَلَام لِأَن الشَّفَاعَة الَّتِي يجاء النَّاس إِلَيْهِ فِيهَا هِيَ الإراحة من كرب الْموقف، ثمَّ تَجِيء الشَّفَاعَة فِي الْإِخْرَاج من النَّار. قَوْله: (ثمَّ أَعُود) أَي: بعد إِخْرَاج من أخرجهم من النَّار وَإِدْخَال من أدخلهم الْجنَّة. قَوْله: (مثله) أَي: مثل الأول. قَوْله: (فِي الثَّالِثَة) أَي: فِي الْمرة الثَّالِثَة. قَوْله: (أَو الرَّابِعَة) شكّ من الرَّاوِي، وَحَاصِل الْكَلَام أَن الْمرة الأولى الشَّفَاعَة لإراحة أهل الْموقف، وَالثَّانيَِة لإخراجهم من النَّار، وَالثَّالِثَة يَقُول فِيهَا: يَا رب مَا بَقِي إلاَّ من حَبسه الْقُرْآن، وَهَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَلَكِن وَقع عِنْد أَحْمد من رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة: ثمَّ أَعُود الرَّابِعَة فَأَقُول: يَا رب مَا بَقِي إلاَّ من حَبسه الْقُرْآن، وَفَسرهُ قَتَادَة بِأَنَّهُ من وَجب عَلَيْهِ الخلود يَعْنِي: من أخبر الْقُرْآن بِأَنَّهُ يخلد فِي النَّار.

6656 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا يَحْيَاى عنِ الحَسَنِ بنِ ذَكْوانَ حَدثنَا أبُو رَجاءٍ حدّثنا عِمْرانُ ابنُ حُصَيْنٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِن النَّارِ بِشَفاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَدخُلُونَ الجَنةَ يُسَمَّوْنَ الجَهَنَّمِيِّينَ) .

مطابقته للْحَدِيث السَّابِق فِي الشَّفَاعَة، وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَالْحسن بن ذكْوَان بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ تكلم فِيهِ أَحْمد وَابْن معِين وَغَيرهمَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة يحيى الْقطَّان عَنهُ، وَأَبُو رَجَاء عمرَان العطاردي.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة النَّار، وَابْن مَاجَه فِي الزّهْد جَمِيعًا عَن مُحَمَّد بن بشار.

7656 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرِ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ: أنَّ أمَّ حارِثَةَ أتَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ هَلَكَ حارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أصابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ، فقالَتْ: يَا رسولَ الله! قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فإنْ كَانَ فِي الجَنّةِ لَمْ أبْكِ عَلَيْهِ وإلاّ سَوْفَ تَرَى مَا أصْنَعُ. فَقَالَ لَهَا: (هَبِلْتِ؟ أجَنَّةٌ واحِدةٌ هِيَ إنّها جِنانٌ كَثِيرَةٌ؟ وإنّهُ فِي الفِرْدَوُسِ الأعْلَى؟) وَقَالَ: (غَدْوَةٌ فِي سَبِيلٍ الله أوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيها، ولَقابُ قَوْسِ أحَدِكُمْ أوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنَ الجَنّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيها، ولَوْ أنَّ امْرَأةً مِنْ نِساءٍ أهْلِ الجَنّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأرْضِ لأضاءَتْ مَا بَيْنَهُما ولَمَلأتْ مَا بَيْنَهُما رِيحاً، ولَنَصِيفُها يَعْنِي: الخمارَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيْا وَمَا فِيها) . (انْظُر الحَدِيث 2972 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث إِلَى قَوْله: (وَإنَّهُ فِي الفردوس الْأَعْلَى) قد مر فِي أَوَائِل الْبَاب من رِوَايَة أبي إِسْحَاق عَن حميد عَن أنس، وَهنا فِيهِ زِيَادَة وَهِي من قَوْله: (وَقَالَ: غدْوَة فِي سَبِيل الله) إِلَى آخر الحَدِيث.
قَوْله: (غرب سهم) بِالْإِضَافَة وَالصّفة، وَسَهْم غرب هُوَ الَّذِي لَا يدْرِي من رمى بِهِ. قَوْله: (وَإنَّهُ فِي الفردوس) ويروى: لفي الفردوس.
قَوْله: (وَلَقَاب قَوس أحدكُم) اللَّام فِيهِ، مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، والقاب بِالْقَافِ وَالْبَاء الْمُوَحدَة والقيب، بِمَعْنى الْقدر وعينه. وَقَوله: (أَو مَوضِع قدم) أَي: أَو مَوضِع قدم أحدكُم، ويروى: مَوضِع قده، بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد الدَّال أَي: مَوضِع سَوْطه، لِأَنَّهُ يقد أَي: يقطع طولا. وَقيل: مَوضِع قده أَي: شراكه، ويروى: مَوضِع قدمه. قَوْله: (ريحًا) أَي: ريحًا طيبَة، وَفِي رِوَايَة سعيد بن عَامر: لملأت الأَرْض ريح مسك. قَوْله: (وَلنَصِيفهَا) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، والنصيف بِفَتْح النُّون وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء: هُوَ الْخمار بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، وَقد فسره فِي الحَدِيث هَكَذَا، وَهَذَا تَفْسِير من قُتَيْبَة، وَعَن الْأَزْهَرِي: النصيف أَيْضا يُقَال للخادم.

(23/128)


9656 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حَدثنَا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَدْخُلُ أحَدٌ الجَنّةَ إلاّ أُرِيَ مَقَعْدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أساءَ لِيَزْدادَ شُكْراً، وَلَا يَدْخُلُ النّارَ أحدٌ إلاّ أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنّةِ لَوْ أحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً) .

مطابقته لجزئي التَّرْجَمَة من حَيْثُ كَون الْمَقْعَدَيْنِ فيهمَا نوع صفة لَهما.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز وَهَذَا الْإِسْنَاد بهؤلاء الرِّجَال قد مر مرَارًا عديدة.
والْحَدِيث وَقع عِنْد ابْن مَاجَه من طَرِيق آخر عَن أبي هُرَيْرَة: أَن ذَلِك يَقع عِنْد الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر.
قَوْله: (لَو أَسَاءَ) يَعْنِي: لَو عمل عمل السوء وَصَارَ من أهل جَهَنَّم. قَوْله: (لِيَزْدَادَ شكرا) قيل: الْجنَّة لَيست دَار شكر بل هِيَ دَار جَزَاء. وَأجِيب: بِأَن الشُّكْر لَيْسَ على سَبِيل التَّكْلِيف بل هُوَ على سَبِيل التَّلَذُّذ، أَو المُرَاد لَازمه وَهُوَ الرضى والفرح، لِأَن الشاكر على الشَّيْء راضٍ بِهِ فرحان بذلك. قَوْله: (لَو أحسن) أَي: لَو عمل عملا حسنا وَهُوَ الْإِسْلَام. قَوْله: (ليَكُون عَلَيْهِ حسرة) أَي: زِيَادَة فِي تعذيبه.

0756 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حَدثنَا إسْماعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عَن عَمْرٍ وعنْ سَعيدِ بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُريِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله {مَنْ أسْعَدُ النّاسِ بِشَفاعَتِكَ يَوْمَ القِيامَةِ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ ظَننْتُ يَا با هُرَيْرَةَ أنْ لَا يَسْألَنِي عنْ هاذا الحَدِيثِ أحَدٌ أوَّلَ مِنْكَ لِمَا رَأيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلى الحَديثِ: أسْعَدُ النّاسِ بِشَفاعَتِي يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إلاهَ إلاّ الله، خالِصاً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ) . (انْظُر الحَدِيث 99) .

لَو ذكر هَذَا عقيب حَدِيث أنس الْمَذْكُور كَانَ أنسب على مَا لَا يخفى.
وَعَمْرو هُوَ ابْن أبي عَمْرو مولى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْحِرْص على الحَدِيث، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (يَا با هُرَيْرَة) أَصله: يَا أَبَا هُرَيْرَة، حذفت الْألف تَخْفِيفًا. قَوْله: (أَن لَا يسألني) كلمة: أَن، مُخَفّفَة من المثقلة. قَوْله: (أول) بِفَتْح اللَّام حَال وَيجوز رَفعه على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ أول، وَفِي بعض النّسخ، أولى مِنْك. قَوْله: (لما رَأَيْت اللَّام) فِيهِ مَكْسُورَة وَهِي لَام التَّعْلِيل. قَوْله: (من قبل نَفسه) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء أَي: من جِهَة نَفسه طَوْعًا ورغبة، وَوَقع فِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَابْن حبَان من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه، وَفِيه: شَفَاعَتِي لمن شهد أَن لَا إِلَه إلاَّ الله مخلصاً يصدق قلبه لِسَانه وَلسَانه قلبه، وَهَذِه الشَّفَاعَة غير الشَّفَاعَة الْكُبْرَى فِي الإراحة من كرب الْموقف.

1756 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْراهِيمَ عنْ عَبيدَةَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ، قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنِّي لأعْلَمُ آخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنْها، وآخِرَ أهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْواً فَيَقُولُ الله: إذْهَبْ فاْدخُلِ الجَنَّةَ فيأتيها فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها مَلآي، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وجَدْتُها مَلآى} فَيَقُولُ: إذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيأْتِيها فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها مَلآى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وجَدْتُها مَلآى. فَيَقُولُ: إذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ فإنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنيْا وعَشَرَةَ أمْثالِها أوْ إنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أمْثالِ الدُّنْيا فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي أوْ تَضْحَكُ مِنِّي وأنْتَ المَلِكُ؟) فَلَقَدْ رَأيْتُ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجذُهُ، وكانَ يُقالُ: ذَلِكَ أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْخُرُوج من النَّار وَالدُّخُول فِي الْجنَّة بِاعْتِبَار الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي التراجم الْمَذْكُورَة.

(23/129)


وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبيدَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة هُوَ ابْن عَمْرو السَّلمَانِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَهَؤُلَاء كلهم كوفيون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن خَالِد. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عُثْمَان وَإِسْحَاق. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي صفة جَهَنَّم عَن هناد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن عُثْمَان.
قَوْله: (إِنِّي لأعْلم) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (رجل) يَعْنِي هُوَ رجل يخرج من النَّار حبواً بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ الْمَشْي على الْيَدَيْنِ أَو الْمَشْي على الاست، يُقَال: حبا الرجل إِذا حبا على يَدَيْهِ وحبا الصَّبِي إِذا مَشى على استه، وَرَأَيْت فِي بعض النّسخ: كبواً، بِفَتْح الْكَاف، وَوَقع فِي مُسلم من رِوَايَة أنس: آخر من يدْخل الْجنَّة رجل فَهُوَ يمشي مرّة ويكبو مرّة وتسفعه النَّار مرّة فَإِذا مَا جاوزها الْتفت إِلَيْهَا فَقَالَ: تبَارك الَّذِي نجاني مِنْك، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَعْمَش هُنَا: زحفاً. قَوْله: (وَعشرَة أَمْثَالهَا) قيل: عرض الْجنَّة كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَكيف يكون عشرَة أَمْثَال الدُّنْيَا؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا تَمْثِيل، وَإِثْبَات السعَة على قدر فهمنا. قَوْله: (تسخر مني أَو تضحك مني) وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش: أَتسخر بِي؟ وَلم يشك، وَكَذَا فِي مُسلم من رِوَايَة أنس عَن ابْن مَسْعُود: أتستهزيء مني وَأَنت رب الْعَالمين؟ قَوْله: (وَأَنت الْملك) الْوَاو فِيهِ للْحَال وَقَالَ الْمَازرِيّ: هَذَا مُشكل، وَتَفْسِير الضحك بِالرِّضَا لَا يتأتي هُنَا، وَلَكِن لما كَانَت عَادَة المستهزىء أَن يضْحك من الَّذِي اسْتَهْزَأَ بِهِ ذكر مَعَه، وَأما نِسْبَة السخرية إِلَى الله فَهِيَ على سَبِيل الْمُقَابلَة وَإِن لم يذكر فِي الْجَانِب الآخر لفظا لكنه لما عَاهَدَ مرَارًا وغد رَحل فعله مَحل المستهزيء، فَظن أَن فِي قَول الله لَهُ: ادخل الْجنَّة، وتردده إِلَيْهَا وظنه أَنَّهَا ملأى نوعا من السخرية بِهِ جَزَاء على فعله، فَسمى الْجَزَاء على السخرية سخرية، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَكْثرُوا فِي تَأْوِيله، وأشبه مَا قيل فِيهِ إِنَّه استخفه الْفَرح وأدهشه، فَقَالَ ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (تسخر مني) يُقَال: سخر مِنْهُ إِذا استجهله. فَإِن قلت: كَيفَ صَحَّ إِسْنَاده الهزء أَو الضحك إِلَى الله؟ .
قلت: أَمْثَال هَذِه الإطلاقات يُرَاد بهَا لوازمها من الإهانة وَنَحْوهَا.
قلت: فِيهِ تَأمل. قَوْله: (حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه) بجيم وذال مُعْجَمه جمع ناجذ وَهُوَ ضرس الْحلم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النواجذ من الْأَسْنَان الضواحك، وَهِي الَّتِي تبدو عِنْد الضحك، وَالْأَشْهر إِنَّهَا أقْصَى الْأَسْنَان، وَالْمرَاد الأول، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مَبْسُوطا. قَوْله: (وَكَانَ يُقَال ذَلِك) ويروى: ذَاك، قَوْله: (منزلَة) ويروى: منزلا. وَقَالَ الْكرْمَانِي قَوْله: (وَكَانَ يُقَال ذَلِك الرجل هُوَ أقل النَّاس منزلَة فِي الْجنَّة، ثمَّ قَالَ وَهَذَا لَيْسَ من تَتِمَّة كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل هُوَ كَلَام الرَّاوِي نقلا عَن الصَّحَابَة أَو أمثالهم من أهل الْعلم، وَقَالَ بَعضهم قَائِل: وَكَانَ، يُقَال: هُوَ الرَّاوِي كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، وَأما قَائِل الْمقَالة الْمَذْكُورَة فَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَبت ذَلِك فِي أول حَدِيث أبي سعيد عِنْد مُسلم وَلَفظه: أدنى أهل الْجنَّة منزلَة رجل صرف الله وَجهه عَن النَّار ... انْتهى.
قلت: كَون هَذِه الْمقَالة فِي حَدِيث أبي سعيد من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسْتَلْزم كَونهَا فِي آخر حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود كَذَلِك من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

2756 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عنْ عبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ الحارِثِ ابْن نَوْفَلِ عنِ العَبَّاسِ رَضِي الله عَنهُ أنّهُ قَالَ لِ لنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طالِبٍ بِشَيْءٍ. (انْظُر الحَدِيث 3883 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي بَقِيَّة الحَدِيث لِأَنَّهُ أخرجه مُخْتَصرا بِحَذْف الْجَواب، وَجَوَابه هُوَ قَوْله: فَإِنَّهُ كَانَ يحوطك ويغضب لَك. قَالَ: نعم، هُوَ فِي ضحضاح من نَار، وَلَوْلَا أَنا لَكَانَ فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار. وَقد مر هَذَا فِي كتاب الْأَدَب فِي: بَاب كنية الْمُشرك.
وَأخرجه هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة، وَهنا أخرجه عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وَالْعَبَّاس هُوَ ابْن عبد الْمطلب وَهُوَ عَم جد عبد الله بن الْحَارِث الرَّاوِي عَنهُ وللحارث بن نَوْفَل ولأبيه صحية، وَيُقَال: إِن لعبد الله رُؤْيَة وَهُوَ الَّذِي كَانَ يلقب ببه، بباءين موحدتين مفتوحتين الثَّانِيَة مُشَدّدَة وَفِي آخرهَا هَاء، وَلم يدر مَا كَانَ مَقْصُود البُخَارِيّ من اخْتِصَار هَذَا الحَدِيث وَحذف جَوَابه، وَذكره هُنَا نَاقِصا، وَقد ذكر فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة وَعشْرين حَدِيثا أَكْثَرهَا فِي صفة النَّار. وَالله أعلم.

(23/130)


25 - (بابٌ الصِّراطُ جِسْرُ جَهَنَّمَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الصِّرَاط جسر جَهَنَّم، فَقَوله: الصِّرَاط، مُبْتَدأ: وجسر جَهَنَّم، خَبره وَهُوَ جسر مَنْصُوب على متن جَهَنَّم لعبور الْمُسلمين عَلَيْهِ إِلَى الْجنَّة، وجهنم بِفَتْح الْجِيم وَيجوز كسرهَا وَهِي لَفْظَة أَعْجَمِيَّة وَهِي اسْم لنار الْآخِرَة، وَقيل: هِيَ عَرَبِيَّة وَسميت بهَا لبعد قعرها، وَمِنْه ركية جهنام، وَهِي بِكَسْر الْجِيم وَالْهَاء وَتَشْديد النُّون، وَقيل: هُوَ تعريب كهنام.

3756 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبرنِي سَعيدٌ وعَطاءٌ بنُ يَزِيدَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أخْبَرَهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(ح) وحدّثني مَحْمُودٌ حدّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَطاءٍ بنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أناسٌ: يَا رسُولَ الله {هَلْ نَرَى ربَّنا يَوْمَ القِيامَةِ؟ فَقَالَ: (هَلْ تُضارُّونَ فِي الشَّمْسِ ليْسَ دُونَها سَحاب) . قالُوا: لَا يَا رسُولَ الله} قَالَ: (هَلْ تُضارُّون فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحاب) قالُوا: لَا يَا رسُولَ الله. قَالَ: (فإنّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلِكَ يَجْمَعُ الله النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، ويَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ القَمَرَ، ويَتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ الطوَاغِيثَ، وتَبْقَى هاذِهِ الأُمَّةُ فِيها مُنافِقُوها، فَيأْتِيهِمُ الله فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الّتي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنا ربُّكُمْ، فَيَقُولُون، نَعُوذُ بِاللَّه مِنْكَ هاذَا مَكانُنا حتَّى يأتِينَا رَبُّنا، فإِذَا أَتَانَا ربُّنَا عَرَفْناهُ، فَيأْتِيهِمْ الله فِي الصُّورَةِ الّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنا ربُّكمْ فَيَقُولُونَ: أنْتَ ربُّنا {فَيَتَّبِعُونَهُ. ويُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فأكونُ أوَّلَ مَنْ يُجِيزُ ودُعاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وبِهِ كَلاَلِيبُ مثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، أما رَأيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدانِ) . قالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله} قَالَ: (فإنِّها مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أنَّها لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلاّ الله، فَتَخْطَفُ النّاسَ بأعْمالِهِمْ، مِنْهُمُ المُوبَقُ بِعَمَلِهِ، ومِنْهُمُ المُخرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو حتَّى إَذا فَرَغَ الله مِنَ القضاءِ بَيْنَ عِبادِهِ وأرَادَ أنْ يُخْرِج مِنَ النَّارِ مَنْ أرَادَ أنْ يُخْرِجَ ممَّنْ كانَ يَشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلاّ الله، أمَرَ المَلاَئِكَةَ أنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلاَمَةِ آثارِ السُّجُودِ، وحَرَّمَ الله عَلى النّارِ أنْ تأكُلَ مِنِ ابنِ آدَمَ أثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ ماءٌ يُقالُ لهُ ماءُ الحَياةِ فَيَنْبُتُونَ نَباتَ الحبَّةِ فِي حَميلِ السَّيْلِ، ويَبْقَى رجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ {قَدْ قَشَبَنِي رِيحُها وأحْرَقنِي ذَكاؤُها فاصْرِفْ وجْهي عنِ النَّارِ. فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو الله، فَيَقُولُ: لَعلّكَ إنْ أعْطَيْتُكَ أنْ تَسْألَنِي غيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وعِزَّتِكَ لَا أسْألُكَ غَيْرَهُ، فَيَصْرِفُ وجْهَهُ عنِ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بابِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: ألْيَسَ قَدْ زَعَمْتَ أنْ لَا تَسألَنِي غَيْرَهُ؟ ويْلَكَ يَا بنَ آدَمَ مَا أغْدَرَكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو فَيَقُولُ لَعلِّي أنْ أعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسألْني غيْرَهُ. فَيَقُولُ: لَا وعزَّتِكَ لَا أسألُكَ غَيْرَهُ} فَيُعْطِي الله مِنْ عُهُودٍ وموَاثِيقَ أنْ لَا يَسْألَهُ غَيْرَهُ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بابِ الجَنّةِ، فَإِذا رأى مَا فِيها سَكَتَ مَا شاءَ الله أنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ:

(23/131)


رَبِّ أدْخِلْنِي الجَنّةَ، ثمَّ يَقُولُ: أوَ لَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أنْ لَا تَسْألني غَيْرِه؟ وَيْلَكَ يَا ابنَ آدَمَ مَا أغْدَرَكَ! فَيَقولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أشْقاى خَلْقِكَ، فَلاَ يَزالُ يَدْعُو حتَّى يَضْحَكَ، فَإِذا ضَحِكَ مِنْهُ أذِنَ لهُ بالدُّخُولِ فِيها، فَإِذا دَخَلَ فِيها قِيلَ لهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا، فَيَتَمَنَّى ثُمَّ يُقالُ لهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذا، فَيَتَمنَّى حتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأمانيُّ، فَيَقُولُ لهُ: هاذا لَكَ ومِثْلُهُ مَعَه) قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَذَلِكَ الرَّجُلْ آخِر أَهْلِ الجَنَّة دُخُولاً: قَالَ عَطَاء وَأَبُو سَعِيدْ الخُدْرِّي جَاْلِس مَعْ اَبِي هُرَيْرَةَ لَا يُغير عَلَيْهِ شَيْئا من حَدِيثه إنتهى إِلَى قَوْله هَذَا لَك وَمثله قَالَ أَبُو سعيد سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا لَك وَعشرَة أَمْثَاله قَالَ أَبُو هُرَيْرَة حفظت مثله مَعَه

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ يضْرب جسر جَهَنَّم) وَهُوَ الصِّرَاط، وَإِنَّمَا قَالَ: الصِّرَاط جسر جَهَنَّم، لِأَنَّهُ ذكر فِي: بَاب فضل السُّجُود ثمَّ يضْرب الصِّرَاط، فَجمع هُنَا فِي التَّرْجَمَة بَين اللَّفْظَيْنِ.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق بن همام عَن معمر بِفَتْح الميمين بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ فِي هَذَا الطَّرِيق ذكر سعيد، وسَاق الحَدِيث عَليّ هَذَا الطَّرِيق. والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وَفِي التَّفْسِير عَن عِيسَى ابْن حَمَّاد وَغَيره.
قَوْله: (يَوْم الْقِيَامَة) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن السُّؤَال لم يَقع عَن الرُّؤْيَة فِي الدُّنْيَا وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث ابي أُمَامَة وَاعْلَمُوا أَنكُمْ لن تروا ربكُم حَتَّى تَمُوتُوا وَسبب هَذَا السُّؤَال أَنه لما ذكر الْحَشْر وَالْقَوْل: ليتبع كل أمة مَا كَانَت تعبد، وَقَول الْمُسلمين: هَذَا مَكَاننَا حَتَّى نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (هَل تضَارونَ؟) بِضَم أَوله وبالضاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء المضمومة من الضّر، وَأَصله: تضَارونَ، بِصِيغَة الْمَعْلُوم أَي: هَل تضرون أحدا، وَيجوز بِصِيغَة الْمَجْهُول، أَي: هَل يضركم أحد بمنازعة ومضايقة، وَفِيه وَجه ثَالِث وَهُوَ: وَهل تضَارونَ، بِالتَّخْفِيفِ من الضير بِمَعْنى الضّر، يُقَال: ضاره يضرّهُ إِذا ضره وَأَصله: تضيرون بِضَم أَوله وَسُكُون الضَّاد وَفتح الْيَاء وَضم الرَّاء استثقلت الفتحة على الْيَاء لسكون مَا قبلهَا فألقيت حركتها على الضَّاد وقلبت الْيَاء ألفا لانفتاح مَا قبلهَا، وَفِيه وَجه آخر وَهُوَ: وَهل تضَامون، بِضَم أَوله وَتَشْديد الْمِيم، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَفِي حَدِيث الرُّؤْيَة: لَا تضَامون، يرْوى بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فالتشديد مَعْنَاهُ: لَا يَنْضَم بَعْضكُم إِلَى بعض وتزدحمون وَقت النّظر إِلَيْهِ، وَيجوز ضم التَّاء وَفتحهَا على تفاعلون وتتفاعلون، وَمعنى التَّخْفِيف. لَا ينالكم ضيم فِي رُؤْيَته فيراه بَعْضكُم دون بعض، والضيم الظُّلم، وَالْحَاصِل أَن الْمَادَّة فِي هَذِه الْأَوْجه أَربع مواد: الضّر والضير والضيم وَالضَّم، فالمتأمل فِيهَا يقف عَلَيْهَا وَوَقع فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: لَا تضَامون أَو تضاهون بِالشَّكِّ وَمَعْنَاهُ: لَا يشْتَبه عَلَيْكُم وَلَا ترتابون فِيهِ فيعارض بَعْضكُم بَعْضًا. وَفِي رِوَايَة شُعَيْب تقدّمت فِي: بَاب فضل السُّجُود: هَل تمارون بِضَم أَوله وَتَخْفِيف الرَّاء أَي: هَل تجادلون فِي ذَلِك. أَو: هَل يدخلكم فِيهِ شكّ، من المرية وَهِي الشَّك. قَوْله: (فِي الشَّمْس) ذكرهَا ثمَّ ذكر الْقَمَر وخصهما بِالذكر مَعَ أَن رُؤْيَة السَّمَاء بِغَيْر سَحَاب أكبر آيَة وَأعظم خلقا من مُجَرّد الشَّمْس وَالْقَمَر لما خصا بِهِ من عظم النُّور والضياء، وَحكى بَعضهم عَن بعض: أَن الِابْتِدَاء بِذكر الْقَمَر قبل الشَّمْس مُتَابعَة للخليل عَلَيْهِ السَّلَام، وَاسْتدلَّ بِهِ الْخَلِيل على إِثْبَات الوحدانية، وَاسْتدلَّ بِهِ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على إِثْبَات الرُّؤْيَة. انْتهى.
قلت: الِابْتِدَاء بِذكر الْقَمَر فِي رِوَايَة مُسلم وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ ذكر الشَّمْس مقدم على الأَصْل. فَإِن قلت: لَا بُد من الْجِهَة بَين الرَّائِي والمرئي.
قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: لَا يلْزم مِنْهُ المشابهة فِي الْجِهَة والمقابلة وَخُرُوج الشعاع وَنَحْوه لِأَنَّهَا أُمُور لَازِمَة للرؤية عَادَة لَا عقلا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قد يتخيل بعض النَّاس أَن الْكَاف كَاف تَشْبِيه للمرئي، وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هِيَ كَاف التَّشْبِيه للرؤية وَهُوَ فعل الرَّائِي وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا رُؤْيَة يزاح عَنْهَا الشَّك مثل رؤيتكم الْقَمَر، وَقيل: التَّشْبِيه بِرُؤْيَة الْقَمَر ليقين الرُّؤْيَة دون تَشْبِيه

(23/132)


المرئي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقيل: التَّمْثِيل وَقع فِي تَحْقِيق الرُّؤْيَة لَا فِي الْكَيْفِيَّة لِأَن الشَّمْس وَالْقَمَر متحيزان وَالْحق سُبْحَانَهُ منزه عَن ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب أهل السّنة أَن رُؤْيَة الْمُؤمنِينَ رَبهم مُمكنَة، ونفتها المبتدعة من الْمُعْتَزلَة والخوارج، وَهُوَ جهل مِنْهُم، فقد تظافرت الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة وَسلف الْأمة على إِثْبَاتهَا فِي الْآخِرَة للْمُؤْمِنين.
قلت: رُوِيَ فِي إِثْبَات الرُّؤْيَة حَدِيث الْبَاب وَعَن نَحْو عشْرين صحابياً. مِنْهُم: عَليّ وَجَرِير وصهيب وَأنس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَوْله: (كَذَلِك) أَي وَاضحا جلياً بِلَا مضارة وَلَا مزاحمة. قَوْله: (يجمع الله النَّاس) وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: يحْشر الله النَّاس فِي مَكَان، وَزَاد فِي رِوَايَة الْعَلَاء. فِي صَعِيد وَاحِد، وَمثله فِي رِوَايَة أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: يجمع الله يَوْم الْقِيَامَة الْأَوَّلين والآخرين فِي صَعِيد وَاحِد فَيسْمعهُمْ الدَّاعِي وَينْفذهُمْ الْبَصَر بِالذَّالِ أَي: يخرقهم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْقَاف حَتَّى يجوزهم، وَقيل بِالدَّال الْمُهْملَة أَي: يستوعبهم، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) : إِذا حشر النَّاس قَامُوا أَرْبَعِينَ عَاما شاخصة أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء لَا يكلمهم ... الحَدِيث. وَفِي حَدِيث أبي سعيد رَوَاهُ أَحْمد بِسَنَد جيد: أَنه يُخَفف الْوُقُوف على الْمُؤمن حَتَّى يكون كَصَلَاة مَكْتُوبَة، وَلأبي يعلى من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: كتدلي الشَّمْس للغروب إِلَى الْغُرُوب. قَوْله: (فَيتبع من كَانَ يعبد الشَّمْس) التَّنْصِيص على ذكر الشَّمْس وَالْقَمَر مَعَ دخولهما فِيمَن عبد من دون الله للتنويه بذكرهما لعظم خلقهما. قَوْله: (الطواغيت) جمع طاغوت وَهُوَ الشَّيْطَان والصنم وَيكون جمعا ومفرداً ومذكراً ومؤنثاً، وَيُطلق أَيْضا على رُؤَسَاء الضلال، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الطاغوت الكاهن والشيطان وكل رَأس فِي الضلال، وَقد يكون وَاحِدًا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ} (النِّسَاء: 06) وَقد يكون جمعا قَالَ تَعَالَى: {أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم} (الْبَقَرَة: 752) والطاغوت وَإِن جَاءَ على وزن لاهوت، فَهُوَ مقلوب لِأَنَّهُ من طَغى، ولاهوت غير مقلوب لِأَنَّهُ من: لاه، بِمَنْزِلَة الرغبوت والرحموت انْتهى. وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ يجمع عِنْد الْمُحَقِّقين من أهل الْعَرَبيَّة لِأَنَّهُ مصدر كالرهبوت والرحموت وَأَصله: طغيوت، فَقدمت الْيَاء على الْغَيْن فَصَارَ طيغوت فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَإِذا ثَبت أَنَّهَا فِي الأَصْل مصدر بِمَعْنى الطغيان ثَبت أَنَّهَا اسْم مُفْرد، وَإِنَّمَا جَاءَ الضَّمِير الْعَائِد عَلَيْهَا جمعا فِي قَوْله تَعَالَى: {يخرجونهم} (الْبَقَرَة: 752) لكَونهَا جِنْسا مُعَرفا بلام الْجِنْس. قَوْله: (وَتبقى هَذِه الْأمة) قيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالأمة أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيحْتَمل أَن يكون أَعم من ذَلِك فَيدْخل فِيهَا جَمِيع أهل التَّوْحِيد حَتَّى الْجِنّ، يدل عَلَيْهِ مَا فِي بَقِيَّة الحَدِيث أَنه يبْقى من كَانَ يعبد الله من بر وَفَاجِر.
قلت: الْإِشَارَة بقوله: (هَذِه الْأمة) يُنَافِي تنَاوله لغير أمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَوله: يدل عَلَيْهِ مافي بَقِيَّة الحَدِيث، لَيْسَ كَذَلِك لِأَن هَذَا فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (منافقوها) ، ظن المُنَافِقُونَ أَن تسترهم بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَة يَنْفَعهُمْ فاختلطوا بهم فِي ذَلِك الْيَوْم حَتَّى يضْرب: {بَينهم بسور لَهُ بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب} (الْحَدِيد: 31) قَوْله: (فيأتيهم الله) المُرَاد من الْإِتْيَان التجلي وكشف الْحجاب، وَقيل: الْإِتْيَان عبارَة عَن رُؤْيَتهمْ إِيَّاه لِأَن الْعَادة أَن كل من غَابَ عَن غَيره لَا يُمكنهُ رُؤْيَته إِلَّا بالمجيء إِلَيْهِ، فَعبر عَن الرُّؤْيَة بالإتيان مجَازًا، وَقيل: الْإِتْيَان فعل من أَفعَال الله تَعَالَى يجب الْإِيمَان بِهِ مَعَ تنزيهه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن سمة الْحُدُود. وَقيل: فِيهِ حذف تَقْدِيره يَأْتِيهم بعض مَلَائِكَة الله. قَوْله: (فِي غير الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ) الصُّورَة من المشابهات وَالْأمة فِيهَا فرقتان المفوضة والمأولة فَمن أَوله قَالَ: المُرَاد من الصُّورَة الصّفة، أَو آخراج الْكَلَام على سَبِيل الْمُطَابقَة. قَوْله: (يعْرفُونَ) . فَإِن قلت: لم يتَقَدَّم لَهُم رُؤْيَة فَكيف يعْرفُونَ؟ .
قلت: إِنَّمَا عرفوه فِي الدُّنْيَا بِالصّفةِ أَي: بِوَصْف الْأَنْبِيَاء لَهُم، وَقيل: يخلق الله فيهم عُلماً، وَقيل: يصير جَمِيع المعلومات ضَرُورِيًّا. قَوْله: (نَعُوذ بِاللَّه مِنْك) قَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْكَلَام صدر من الْمُنَافِقين. قَالَ عِيَاض: هَذَا لَا يَصح وَلَا يَسْتَقِيم الْكَلَام بِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الَّذِي قَالَه عِيَاض صَحِيح، وَلَفظ الحَدِيث مُصَرح بِهِ أَو ظَاهر فِيهِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: معنى الْخَبَر يَأْتِيهم الله بأهوال يَوْم الْقِيَامَة وَمن صور الْمَلَائِكَة بِمَا لم يعهدوا مثله فِي الدُّنْيَا، فيستعيذون من تِلْكَ الْحَال وَيَقُولُونَ: إِذا جَاءَ رَبنَا عَرفْنَاهُ، أَي: إِذا أَتَانَا بِمَا نعرفه بالصورة وَهِي الصّفة. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي إِتْيَانه بِغَيْر الصُّورَة الَّتِي كَانُوا يعرفونه؟ .
قلت: للامتحان، وَقيل: يحْتَمل أَن يَأْتِيهم بصور مُخْتَلفَة فَيَقُول: أَنا ربكُم على وَجه الامتحان. قَوْله:

(23/133)


(فَيَقُولُونَ أَنْت رَبنَا) قيل: فِيهِ إِشْعَار بِأَنَّهُم رَأَوْهُ فِي أول مَا حشروا، وَالْعلم عِنْد الله عز وَجل. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذِه الرُّؤْيَة غير الرُّؤْيَة الَّتِي تقع فِي الْجنَّة إِكْرَاما لَهُم فَإِن هَذِه للامتحان وَتلك لزِيَادَة الْإِكْرَام. فَإِن قلت: الامتحان من التَّكْلِيف وَلَا تكاليف يَوْم الْقِيَامَة؟ .
قلت: آثَار التكاليف لَا تَنْقَطِع إلاَّ بعد الِاسْتِقْرَار فِي الْجنَّة أَو فِي النَّار. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لَا يلْزم من أَن الدُّنْيَا دَار بلَاء وَالْآخِرَة دَار جَزَاء أَن لَا يَقع فِي وَاحِد مِنْهُمَا مَا يخص بِالْأُخْرَى. فَإِن الْقَبْر أَو منَازِل الْآخِرَة وَفِيه الِابْتِلَاء والفتنة بالسؤال وَغَيره. قَوْله: (وَيضْرب جسر جَهَنَّم) هُوَ جسر مَمْدُود على متن جَهَنَّم أدق من الشّعْر وأحدّ من السَّيْف، وَفِي مُسلم قيل: يَا رَسُول الله! وَمَا الجسر؟ قَالَ: دحض مزلة فِيهِ خطاطيف وكلاليب وحسكة يكون يتَّخذ فِيهَا شويكة يُقَال لَهَا: السعدان. قَوْله: (من يُجِيز) من أجزت الْوَادي وجزته بِمَعْنى: مشيت عَلَيْهِ وقطعته، وَقيل: مَعْنَاهُ لَا يجوز أحدٌ على الصِّرَاط حَتَّى يجوز هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَعْنى أكون أَنا وَأمتِي أول من يمْضِي على الصِّرَاط. قَوْله: (وَبِه كلاليب) جمع كَلوب كتنور وَالضَّمِير فِي: بِهِ، يرجع إِلَى الجسر، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: وَفِي جَهَنَّم كلاليب، وَفِي رِوَايَة حُذَيْفَة وَأبي هُرَيْرَة مَعًا: وَفِي حافتي الصِّرَاط كلاليب معلقَة مأمورة تَأْخُذ من أمرت بِهِ. قَوْله: (مثل شوك السعدان) بِلَفْظ التَّثْنِيَة وَهُوَ جمع سعدانة وَهُوَ نبت ذُو شوك يضْرب بِهِ الْمثل فِي طيب مرعاه، قَالُوا: مرعى وَلَا كالسعدان. قَوْله: (أما رَأَيْتُمْ شوك السعدان؟) هُوَ اسْتِفْهَام تَقْرِير لاستحضار الصُّورَة الْمَذْكُورَة. قَوْله: (غير أَنَّهَا) أَي: الشَّوْكَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: غير إِنَّه، وَالضَّمِير للشأن. قَوْله: (لَا يعلم قدر عظمها إلاّ الله) وَفِي رِوَايَة مُسلم لَا يعلم مَا قدر عظمها إلاَّ الله، وَقَالَ ابْن التِّين: قرأناه بِضَم الْعين وَسُكُون الظَّاء، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى بِكَسْر الْعين وَفتح الظَّاء وَهُوَ أشبه لِأَنَّهُ مصدر، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: عظم الشَّيْء عظما، أَي: كبر فتقديره لَا يعلم قدر كبرها إلاّ الله، وَعظم الشَّيْء أَكْثَره. قَوْله: (فتخطف) بِفَتْح الطَّاء وَكسرهَا، وَقَالَ ثَعْلَب فِي (الفصيح) : خطف، بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وبالفتح فِي الْمُضَارع، وَحكى الْفراء عَكسه وَالْكَسْر، فِي الْمُضَارع أفْصح. قَوْله: (بأعمالهم) يتَعَلَّق بقوله: (تخطف) وَالْبَاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة نَحْو: {إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل} (الْبَقَرَة: 45) {فكلاً أَخذنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 04) قَوْله: (فَمنهمْ الموبق) هَذَا تَفْسِير لما قبله من قَوْله: (بأعمالهم) أَي: فَمن النَّاس الموبق بِضَم الْمِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: المهلك بِسَبَب عمله السيء، يُقَال: وبق يبْق ووبق يوبق فَهُوَ وبق، وأوبقه غَيره فَهُوَ موبق، وَرِوَايَة شُعَيْب: فَمنهمْ من يوبق، أَي: يهْلك، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَمنهمْ الموثق، بالثاء الْمُثَلَّثَة الْمَفْتُوحَة من الوثاق، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَمِنْهُم الْمُؤمن، بِكَسْر الْمِيم بعْدهَا نون يقي بِعَمَلِهِ بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْقَاف من الْوِقَايَة أَي: يستره عمله. قَوْله: (وَمِنْهُم المخردل) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، قَالَ الْكرْمَانِي: المخردل المصروع وَمَا قطع أعضاؤه أَي جعل كل قِطْعَة مِنْهُ بِمِقْدَار خردلة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المخردل المرمي المصروع، وَقيل: المقطع تقطعه كلاليب الصِّرَاط حَتَّى يهوي فِي النَّار، يُقَال: خردلت اللَّحْم بِالدَّال والذال أَي: فصلت أعضاءه وقطعته، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: وَمِنْهُم من يخردل، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ هُنَا بِالْجِيم من الجردلة وَهِي الإشراف على السُّقُوط، وَكَذَا وَقع لأبي أَحْمد الْجِرْجَانِيّ وَفِي رِوَايَة شُعَيْب وهاه عِيَاض وَالدَّال مُهْملَة للْجَمِيع، وَحكى أَبُو عبيد فِيهِ إعجام الدَّال، وَرجح صَاحب (الْمطَالع) : الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْملَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَمِنْهُم الْمجَازِي حَتَّى يُنجى. قَوْله: (ثمَّ ينجو) من النجَاة، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد: ثمَّ ينجلي، بِالْجِيم أَي: يبين، وَيحْتَمل أَن يكون بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. أَي: يخلى عَنهُ وَهُوَ الْأَشْبَه. قَوْله: (حَتَّى إِذا فرغ الله) الْفَرَاغ الْخَلَاص من المهام وَهُوَ محَال على الله تَعَالَى، وَالْمرَاد إتْمَام الحكم بَين الْعباد. قَوْله: (أَن يخرج) بِضَم الْيَاء من الْإِخْرَاج. قَوْله: (من أَرَادَ) مفعول. (أَن يخرج) . قَوْله: (أَمر الْمَلَائِكَة أَن يخرجوهم) أَي: أَن يخرجُوا من كَانَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَفِي حَدِيث أبي سعيد: حَتَّى إِذا فرغ من الْقَضَاء. بَين الْعباد وَأَرَادَ أَن يخرج برحمته من أَرَادَ من أهل النَّار، أَمر الْمَلَائِكَة أَن يخرجُوا من النَّار من كَانَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا مِمَّن أَرَادَ الله أَن يرحمه مِمَّن يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله. قَوْله: (بعلامة آثَار السُّجُود) أثر السُّجُود هُوَ الْجَبْهَة، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْأَعْظَم السَّبْعَة. قَوْله: (وَحرم الله على النَّار) هُوَ جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر تَقْدِيره: كَيفَ يعرفونهم بأثر السُّجُود، مَعَ قَوْله فِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد مُسلم: فأماتهم الله إماتة حَتَّى إِذا كَانُوا فحماً أذن بالشفاعة. حَاصِل الْمَعْنى: أَن الله عز وَجل يخصص أَعْضَاء السُّجُود من عُمُوم الْأَعْضَاء الَّتِي دلّ عَلَيْهَا هَذَا الْخَبَر، وَأَن الله منع النَّار أَن تحرق أثر السُّجُود من الْمُؤمن. قَوْله: (قد امتحشوا) . على صِيغَة الْمَجْهُول من الامتحاش بِالْحَاء الْمُهْملَة

(23/134)


والشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ الاحتراق، ويروى بِصِيغَة الْمَعْلُوم وَهُوَ الْأَصَح. قَوْله: (مَاء الْحَيَاة) وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (فيلقون فِي نهر الْحَيَاة أَو الحيا) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (فيلقون فِي نهر بأفواه الْجنَّة يُقَال لَهُ: مَاء الْحَيَاة) . والأفواه جمع فوهة على غير قِيَاس. قَوْله: (الْحبَّة) ، بِكَسْر الْحَاء بزر الرياحين، وَقيل: بزور الصَّحرَاء. قَوْله: (فِي حميل السَّيْل) أَي: فِي محموله أَي: فِي الَّذِي يحملهُ السَّيْل من الغثاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب صفة الْجنَّة وَالنَّار. قَوْله: (وَيبقى رجل مِنْهُم) فِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَكَانَ هَذَا الرجل نباشاً من بني إِسْرَائِيل) . قَوْله: (فَيَقُول: يَا رب) فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد: (أَي رب) ، على مَا يَجِيء فِي التَّوْحِيد. قَوْله: (قد قشبني) ، بقاف وشين مُعْجمَة مفتوحتين مخففاً وَرُوِيَ التَّشْدِيد، وَقَالَ الْخطابِيّ: قشب الدُّخان إِذا مَلأ خياشيمه وَأخذ يكظمه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: القشب الْإِصَابَة بِكُل مَا يكره ويستقذر. قَوْله: (ذكاؤها) ، كَذَا هُوَ بِالْمدِّ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره: (ذكاها) ، بِالْقصرِ وَهُوَ الْأَشْهر فِي اللُّغَة، وَقَالَ ابْن القطاع: يُقَال: ذكت النَّار تذكو ذكاً بِالْقصرِ وذكواً بِالضَّمِّ وَتَشْديد الْوَاو أَي: كثر لهبها وَاشْتَدَّ اشتعالها ووهجها. قَوْله: (فاصرف وَجْهي عَن النَّار) ، قيل: كَيفَ يَقُول هَذَا القَوْل وَالْحَال أَنه يمر على الصِّرَاط طَالبا الْجنَّة فوجهه إِلَى الْجنَّة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قيل: إِنَّه كَانَ يتقلب على الصِّرَاط ظهرا لبطن فَكَأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالة انْتهى إِلَى آخِره فصادف أَن وَجهه كَانَ من قبل النَّار وَلم يقدر على صرفه عَنْهَا بِاخْتِيَارِهِ، فَسَأَلَ الله تَعَالَى فِي ذَلِك.
قلت: الْأَحْسَن أَن يُقَال إِنَّه من قبيل قَوْله تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الْفَاتِحَة: 6) أَي: ثَبت صرف وَجْهي عَن النَّار لِأَنَّهُ لما توجه إِلَى الْجنَّة سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يديم عَلَيْهِ صرف وَجهه عَن النَّار لما كَانَ يقاسي مِنْهَا. قَوْله: (فَيصْرف وَجهه عَن النَّار) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (مَا أغدرك!) فعل التَّعَجُّب من الْغدر وَهُوَ نقض الْعَهْد وَترك الْوَفَاء. قَوْله: (فَإِذا رأى مَا فِيهَا) ، فَإِن قلت: كَيفَ رأى مَا فِي الْجنَّة وَالْحَال أَنه لم يدخلهَا وقتئذٍ؟ .
قلت: لِأَن جِدَار الْجنَّة شفاف فَيرى بَاطِنهَا من ظَاهرهَا كَمَا جَاءَ فِي وصف الغرف، وَقيل: المُرَاد من الرُّؤْيَة الْعلم الَّذِي يحصل لَهُ من سطوع رائحتها الطّيبَة وأنوارها المضيئة كَمَا كَانَ يحصل لَهُ من سطوع رَائِحَة النَّار ونفحها وَهُوَ خَارِجهَا. قَوْله: (لَا تجعلني أَشْقَى خلقك) ، المُرَاد بالخلق هُنَا من دخل الْجنَّة، قيل: لَيْسَ هُوَ أَشْقَى الْخلق لِأَنَّهُ مُؤمن خَارج من النَّار. وَأجِيب: بِأَن الأشقى بِمَعْنى الشقي، أَو يخصص الْخلق بالخارجين مِنْهَا. قَوْله: (حَتَّى يضْحك) ، قيل: الضحك لَا يَصح على الله. وَأجِيب: بِأَنَّهُ مجَاز عَن الرِّضَا بِهِ. قَوْله: (من كَذَا) أَي: من الْجِنْس الْفُلَانِيّ.
قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) هُوَ مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور. قَوْله: (وَذَلِكَ الرجل) ، قيل: اسْمه هناد بالنُّون والمهملة، وَقيل: جُهَيْنَة، وَقد وَقع فِي (غرائب مَالك) : للدارقطني من طَرِيق عبد الْملك بن الحكم وَهُوَ رَوَاهُ عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَفعه: (إِن آخر من يدْخل الْجنَّة رجل من جُهَيْنَة يُقَال لَهُ: جُهَيْنَة، فَيَقُول أهل الْجنَّة: عِنْد جُهَيْنَة الْخَبَر الْيَقِين) . وَقيل: وَجه الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه يجوز أَن يكون أحدالإسمين لأحد الْمَذْكُورين وَالْآخر للْآخر. قَوْله: (الْأَمَانِي) جمع أُمْنِية. قَوْله: (هَذَا لَك وَمثله مَعَه) ، هَذَا إِشَارَة إِلَى متمناه الَّذِي وقف عَلَيْهِ.
قَوْله: (قَالَ: وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ جَالس) الْقَائِل هُوَ عَطاء بن يزِيد بَينه إِبْرَاهِيم بن سعد فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: قَالَ عَطاء بن يزِيد: وَأَبُو سيعد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (هَذَا لَك عشرَة أَمْثَاله) ، وَجه الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه يحْتَمل أَن يكون قد أخبر بِالْمثلِ أَو لَا ثمَّ اطلعه الله تَعَالَى بتفضله بِالْعشرَةِ.

35 - (بابٌ فِي الحَوْضِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر حَوْض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والحوض الَّذِي يجمع فِيهِ المَاء وَيجمع على أحواض وحياض. وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِيهِ كَثِيرَة بِحَيْثُ صَارَت متواترة من جِهَة الْمَعْنى، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَهُوَ الْكَوْثَر على بَاب الْجنَّة يسقى الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُ، وَهُوَ مَخْلُوق الْيَوْم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي (التَّذْكِرَة) : ذهب صَاحب (الْقُوت) : وَغَيره إِلَى أَن الْحَوْض يكون بعد الصِّرَاط، وَذهب آخَرُونَ إِلَى الْعَكْس، وَالصَّحِيح أَن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حوضين: أَحدهمَا فِي الْموقف قبل الصِّرَاط، وَالْآخر دَاخل الْجنَّة، وكل مِنْهُمَا يُسمى: كوثراً، وَفِي بعض النّسخ: كتاب فِي الْحَوْض، وَقَبله الْبَسْمَلَة.

(23/135)


وقَوْلِ الله تَعَالَى: { (108) إنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} (الْكَوْثَر: 1)

وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فِي الْحَوْض، الْكَوْثَر فوعل من الْكَثْرَة، وَالْعرب تسمى كل شَيْء كثير فِي الْعدَد أَو الْقدر والخطر: كوثراً، وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة: قيل لعجوز آب ابْنهَا من السّفر: بِمَا آب ابْنك؟ قَالَت: آب بكوثر، يَعْنِي: بِمَال كثير، وَهُوَ اسْم لحوض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَعَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فِي ذكر الْكَوْثَر: هُوَ حَوْض ترد عَلَيْهِ أمتِي، وَقد اشْتهر اخْتِصَاص نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحوض، لَكِن أخرج التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سَمُرَة رَفعه: أَن لكل نَبِي حوضاً، وَقَالَ اخْتلف فِي وَصله وإرساله وَأَن الْمُرْسل أصح، والمرسل أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا بِسَنَد صَحِيح عَن الْحسن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن لكل نَبِي حوضاً وَهُوَ قَائِم على حَوْضه بِيَدِهِ عَصا يَدْعُو من عرف من أمته، أَلا وَإِنَّهُم يتباهون أَيهمْ أَكثر تبعا وَإِنِّي لأرجو أَن أكون أَكْثَرهم تبعا، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن سَمُرَة مَوْصُولا مَرْفُوعا، وَفِي إِسْنَاد لين فَإِن ثَبت فالمختص بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَوْثَر الَّذِي يصب من مَائه فِي حَوْضه فَإِنَّهُ لم ينْقل نَظِيره لغيره، وَقد امتن الله عز وَجل عَلَيْهِ بِهِ فِي السُّورَة الْمَذْكُورَة.
وَقد أنكر الْحَوْض الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة، وَمِمَّنْ كَانَ يُنكره عبيد الله بن زِيَاد أحد أُمَرَاء الْعرَاق، وَهَؤُلَاء ضلوا فِي ذَلِك وخرقوا إِجْمَاع السّلف وفارقوا مَذْهَب أَئِمَّة الْخلف.
وَرويت أَحَادِيث الْحَوْض عَن أَكثر من خمسين صحابياً. مِنْهُم: ابْن عمر وَأَبُو سعيد وَسَهل بن سعد وجندب وَأم سَلمَة وَعقبَة بن عَامر وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وحارثة بن وهب والمستورد وَأَبُو ذَر وثوبان وَأنس وَجَابِر بن سَمُرَة، فَهَؤُلَاءِ أخرج عَنْهُم مُسلم، وَأَبُو بكر الصّديق وَزيد ابْن أَرقم وَأَبُو أُمَامَة وَعبد الله بن زيد وسُويد بن جبلة وَعبد الله الصنَابحِي والبراء بن عَازِب وَأَسْمَاء بنت أبي بكر وَخَوْلَة بنت قيس وَابْن عَبَّاس وَكَعب بن عجْرَة وَبُرَيْدَة وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأبي بن كَعْب وَأُسَامَة بن زيد وَحُذَيْفَة بن أسيد وَحَمْزَة بن عبد الْمطلب ولقيط بن عَامر وَزيد بن ثَابت وَالْحسن بن عَليّ وَأَبُو بكرَة وَخَوْلَة بنت حَكِيم، وَحَدِيث أبي بكر عِنْد أَحْمد وَأبي عوَانَة، وَحَدِيث زيد بن أَرقم عِنْد الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد ابْن حبَان وَغَيره وَحَدِيث عبد الله بن زيد عِنْد البُخَارِيّ، وَحَدِيث سُوَيْد بن جبلة عِنْد أبي زرْعَة الدِّمَشْقِي فِي (مُسْنده) ، وَحَدِيث عبد الله الصنَابحِي عِنْد أَحْمد وَابْن مَاجَه، وَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب ... وَحَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد البُخَارِيّ، وَحَدِيث خَوْلَة بنت قيس عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد البُخَارِيّ، وَحَدِيث كَعْب ابْن عجْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَحَدِيث بُرَيْدَة عِنْد ابْن أبي عَاصِم وَأَحَادِيث ابْن أبي بن كَعْب وَمن ذكر مَعَه إِلَى: خَوْلَة بنت حَكِيم، كلهَا عِنْد ابْن أبي عَاصِم، وعرباض بن سَارِيَة عِنْد ابْن حبَان، وَأَبُو مَسْعُود البدري وسلمان الْفَارِسِي وَسمرَة بن جُنْدُب وَعقبَة بن عَمْرو عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وخباب بن الْأَرَت عِنْد الْحَاكِم، والنواس بن سمْعَان عِنْد ابْن أبي الدُّنْيَا، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف عِنْد ابْن مَنْدَه، وَعُثْمَان بن مَظْعُون عِنْد ابْن كثير فِي (نهايته) : ومعاذ بن جبل ولقيط بن صبرَة عِنْد ابْن الْقيم فِي (الْحَاوِي) : وَجَابِر بن عبد الله عِنْد أَحْمد وَالْبَزَّار، وَعمر وعائذ بن عَمْرو وَأَبُو بَرزَة وأخو زيد بن أَرقم وَيُقَال: إِن اسْمه: ثَابت عِنْد أَحْمد.
وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ زَيْدٍ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي عَلى الحَوْضِ) .
عبد الله بن زيد بن عَاصِم الْمَازِني، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ بِحَدِيث طَوِيل فِي غَزْوَة حنين.

5756 - حدّثني يَحْيَاى بنُ حَمَّادٍ حدّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ سُليْمانَ عنْ شَقِيقٍ عنْ عَبْدِ الله عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنا فَرَطُكمْ عَلى الحوْضِ) .
(ح) وحدّثني عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ حدّثنا مُحَمَّدُ بُن جَعْفَرٍ حدّثنا شُعْبَةُ عنِ المُغَيرَةِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وائِلٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله

(23/136)


عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَنا فَرَطُكُمْ عَلى الحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فأقُولُ: يَا رَبِّ أصْحابي! فَيُقالُ: إنّكَ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَفِي أَحَادِيث الْبَاب كلهَا ذكر الْحَوْض مَا عدا حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي رُوِيَ عَنهُ عَطاء بن يسَار على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَلَا يحْتَاج عِنْد ذكرهَا إِلَى ذكر وَجه الْمُطَابقَة.
وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن يحيى بن حَمَّاد الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ عَن أبي عوَانَة الوضاح عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود. الثَّانِي: عَن عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن الْمُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ عَن أبي وَائِل هُوَ شَقِيق الْمَذْكُور عَن عبد الله.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره.
قَوْله: (أَنا فَرَطكُمْ على الْحَوْض) الفرط بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء الَّذِي يتَقَدَّم الواردين ليصلح لَهُم الْحِيَاض والدلاء وَنَحْوهَا، يُقَال: فرطت الْقَوْم إِذا تقدمتهم لترداد لَهُم المَاء وتهيء لَهُم، وَفِيه بِشَارَة لهَذِهِ الْأمة فهنيئاً لمن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرطه.
قَوْله: (ليرفعن) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: يظهرهم لي حَتَّى أَرَاهُم. قَوْله: (ليختلجن) بِلَفْظ الْمَجْهُول أَيْضا أَي: يعدل بهم عَن الْحَوْض ويجذبون من عِنْدِي، قَالَ الْكرْمَانِي: وهم إِمَّا المرتدون وَإِمَّا العصاة.
تابَعَهُ عاصِمٌ عنْ أبي وائِلٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ: عنْ أبي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: تَابع سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَاصِم بن أبي النجُود قارىء الْكُوفَة فِي رِوَايَته عَن أبي وَائِل الْمَذْكُور عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَوَصله الْحَارِث بن أبي أُسَامَة فِي (مُسْنده) : من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَاصِم. قَوْله: (حُصَيْن) مصغر حصن بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة، يَعْنِي: خَالف حُصَيْن سُلَيْمَان الْأَعْمَش وعاصماً، فَقَالَ: عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة مُسلم من طَرِيق حُصَيْن.

7756 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا يَحْيَاى عنْ عُبَيْدِ الله حدّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أمامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْباءَ وأذْرُحَ) .
يحيى هُوَ الْقطَّان. وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره.
قَوْله: (أمامكم) بِفَتْح الْهمزَة أَي: قدامكم. قَوْله: (حَوْض) وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: حَوْضِي، بِزِيَادَة يَاء الْإِضَافَة. قَوْله: (جرباء) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة مَقْصُورا عِنْد الْجُمْهُور، وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي البُخَارِيّ ممدوداً، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : الصَّوَاب أَنَّهَا مَقْصُورَة وَذكرهَا البُخَارِيّ وَمُسلم، قَالَ: وَالْمدّ خطأ (وأذرح) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَضم الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة كَذَا فِي رِوَايَة الْجُمْهُور. قَالَ عِيَاض: وَوَقع فِي رِوَايَة العذري فِي مُسلم بِالْجِيم وَهُوَ وهم، قَالَ الْكرْمَانِي: وهما موضعان. قَالَ: وَفِي (صَحِيح مُسلم) قَالَ عبيد الله: فَسَأَلته يَعْنِي ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ: قَرْيَتَانِ بِالشَّام بَينهمَا مسيرَة ثَلَاث لَيَال. انْتهى.
قلت: قَالَ الرشاطي: الجرباء على لفظ تَأْنِيث الأجرب قَرْيَة بِالشَّام، وَقَالَ ابْن وضاح: أذرح بفلسطين، قَالَ الرشاطي: وباذرح بَايع الْحسن بن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مُعَاوِيَة وَأَعْطَاهُ مُعَاوِيَة مِائَتي ألف دِرْهَم.
وَهَذَا الْموضع يحْتَاج إِلَى بسط كَلَام لوُقُوع الِاخْتِلَاف الْكثير فِي طول الْحَوْض وَعرضه، وَهنا قَالَ: مَا بَين جرباء وأذرح، وَلم بَين قدر الْمسَافَة بَينهمَا، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو على مَا يَجِيء حَوْضِي مسيرَة شهر، وَفِي حَدِيث أنس عِنْده أَيْضا: قدر حَوْضِي كَمَا بَين أَيْلَة وَصَنْعَاء من الْيمن، وَفِي حَدِيث حَارِثَة بن وهب عِنْده أَيْضا: كَمَا يبين الْمَدِينَة وَصَنْعَاء، وَفِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة عِنْد مُسلم: بعد مَا بَين طَرفَيْهِ كَمَا بَين صنعاء وأيلة، وَفِي حَيْثُ عقبَة بن عَامر عِنْده أَيْضا: وَإِن عرضه كَمَا بَين أَيْلَة إِلَى الْجحْفَة. وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَا بَين عدن وأيلة، وَفِي حَدِيث أبي ذَر: مَا بَين عمان إِلَى أَيْلَة. وَفِي حَدِيث أبي بردة عِنْد ابْن حبَان: مَا يين ناحيتي حَوْضِي كَمَا يبين أَيْلَة وَصَنْعَاء مسيرَة شهر. وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَمَا يبين صنعاء إِلَى

(23/137)


الْمَدِينَة، وَفِي حَدِيث ثَوْبَان: مَا بَين عدن وعمان البلقاء، وَعند عبد الرَّزَّاق فِي حَدِيث ثَوْبَان: مَا بَين مَكَّة وأيلة، وَفِي لفظ: مَا بَين مَكَّة وعمان، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر وَعند أَحْمد: بعْدهَا بَين مَكَّة وأيلة، وَفِي لفظ: مَا بَين مَكَّة وعمان، وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة بن أسيد: مَا بَين صنعاء إِلَى بَصرِي، وَفِي حَدِيث أنس عِنْد أَحْمد: كَمَا بَين مَكَّة وأيلة، أَو: بَين صنعاء وَمَكَّة، وَفِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد ابْن أبي شيبَة وَابْن مَاجَه: مَا بَين كعبة إِلَى الْقُدس، وَفِي حَدِيث عتبَة بن عمر وَعند الطَّبَرَانِيّ: كَمَا بَين الْبَيْضَاء إِلَى بَصرِي.
وَقد جمع الْعلمَاء بَين هَذَا الِاخْتِلَاف، فَقَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا من اخْتِلَاف التقادير لِأَن ذَلِك لم يَقع فِي حَدِيث وَاحِد فيعد اضطراباً من الروَاة، وَإِنَّمَا جَاءَ من أَحَادِيث مُخْتَلفَة عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة سَمِعُوهُ فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضْرب فِي كل مِنْهَا مثلا لبعد أقطار الْحَوْض وسعته بِمَا سنح لَهُ من الْعبارَة، وَيقرب ذَلِك ببعد مَا بَين الْبِلَاد النائية بَعْضهَا من بعض، لَا على إِرَادَة الْمسَافَة المتحققة. قَالَ: فَبِهَذَا يجمع بَين الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلفَة من جِهَة الْمَعْنى. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر من جِهَة أَن ضرب الْمثل وَالتَّقْدِير إِنَّمَا يكون فِيمَا يتقارب، وَإِمَّا هَذَا الِاخْتِلَاف المتباعد الَّذِي يزِيد تَارَة إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَينْقص إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام فَلَا. انْتهى.
قلت: فِي نظره نظر لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أخبر بِثَلَاثَة أَيَّام كَانَ هَذَا الْمِقْدَار، ثمَّ إِن الله تَعَالَى تفضل عَلَيْهِ باتساعه شَيْئا بعد شَيْء، وَكلما اتَّسع أخبرهُ بِقدر مَا اتَّسع، وكل من روى بِمِقْدَار خلاف مَا رَوَاهُ غَيره بِحَسب ذَلِك، وَبِهَذَا الْوَجْه يحصل الْجَواب الشافي عَن الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور، فَلَا يحْتَاج بعد ذَلِك إِلَى كَلَام طَوِيل غير طائل، كَمَا صدر ذَلِك عَن بَعضهم.
وَأما تَفْسِير الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة فَنَقُول: الأيلة مَدِينَة كَانَت عامرة وَهِي بِطرف بَحر القلزم من طرف الشَّام، وَهِي الْآن خراب يمر بهَا الْحَاج من مصر وغزة وإليها تنْسب الْعقبَة الْمَشْهُورَة عِنْد أهل مصر، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة نَحْو شهر بسير الأثقال كل يَوْم مرحلة. وإلاَّ فدون ذَلِك. وَصَنْعَاء: ثِنْتَانِ إِحْدَاهمَا: صنعاء الْيمن أعظم مدنها. وَالْأُخْرَى: صنعاء قَرْيَة عل بَاب دمشق من نَاحيَة بَاب الفراديس، قَالَه ياقوت، وَالْأولَى هِيَ المرادة فِي الحَدِيث، فَلذَلِك قيد فِي الحَدِيث: وَصَنْعَاء من الْيمن. والجحفة بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء وَهُوَ مَوضِع بِالْقربِ من رابغ وَهِي من مِيقَات أهل الشَّام ومصر، وَالْيَوْم أهل الشَّام يحرمُونَ من ذِي الحليفة مِيقَات أهل الْمَدِينَة، وعدن مَدِينَة فِي أقْصَى الْيمن على سَاحل بَحر الْهِنْد، وعمان ثِنْتَانِ. الأولى بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْمِيم وبتخفيفها بلد قريب من البلقاء فلذك قيل عمان البلقاء، وَالْأُخْرَى بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْمِيم بلد على شاطىء الْبَحْر بَين الْبَصْرَة وعدن. والبلقاء: بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام بعْدهَا قَاف وبالمد بَلْدَة مَعْرُوفَة من فلسطين، قَالَه بَعضهم.
قلت: البلقاء تمد وتقصر، وَقَالَ الرشاطي: البلقاء من عمل دمشق. وبصري: بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، قَالَ ياقوت: بلد بِالشَّام وَهِي قَصَبَة حوران من أَعمال دمشق. والبيضاء: بِالْقربِ من الربذَة الْبَلَد الْمَعْرُوف بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَقَالَ الرشاطي: الْبَيْضَاء تَأْنِيث الْأَبْيَض، مَوضِع تِلْقَاء حمى الربذَة.

8756 - حدّثني عَمْرُو بنُ مُحَمدٍ حدّثنا هُشَيْمٌ أخبرنَا أبُو بِشْرٍ وعَطاءُ بنُ السَّائِبِ عنْ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: الكَوْثَرُ الخَيرُ الكثيرُ الّذِي أعْطاهُ الله إيَّاهُ.
(انْظُر الحَدِيث 6694) .

أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير الْكَوْثَر فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} (الْكَوْثَر: 1) .
قد مضى هَذَا فِي تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن هشيم عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير، وَهنا أخرجه عَن عَمْرو بن مُحَمَّد بن بكير النَّاقِد الْبَغْدَادِيّ وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا يروي عَن هشيم مصغر هشم ابْن بشير بِالتَّصْغِيرِ أَيْضا عَن أبي بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة جَعْفَر بن أبي وحشية واسْمه إِيَاس، وَعَن عَطاء بن السَّائِب الْكُوفِي الْمُحدث الْمَشْهُور من صغَار التَّابِعين صَدُوق اخْتَلَط فِي آخر عمره، وَسَمَاع هشيم مِنْهُ بعد اخْتِلَاطه، فَلذَلِك أخرج لَهُ البُخَارِيّ مَقْرُونا بِأبي بشر وَمَاله غَيره إلاَّ فِي هَذَا الْموضع.
قَوْله: (إِيَّاه) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَ أبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إنَّ أُناساً يَزْعَمُونَ أنّهُ نَهَرٌ فِي الجَنّةِ؟ فَقَالَ سَعيدٌ: النَّهَرُ الّذِي فِي الجَنة

(23/138)


ِ مِنَ الخَيْرِ الّذي أعْطاهُ الله إيَّاهُ.
أَبُو بشر هُوَ جَعْفَر الْمَذْكُور، وَسَعِيد هُوَ ابْن جُبَير. قَوْله: إِنَّه، أَي: إِن الْكَوْثَر نهر فِي الْجنَّة، قَالَ الْهَرَوِيّ: جَاءَ فِي التَّفْسِير أَنه أَي: الْكَوْثَر الْقُرْآن والنبوة.

9756 - حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حدّثنا نافِعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْروٍ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَوْله: (حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، ماؤُهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، ورِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ المِس، وكِيزانُهُ كَنُجُومِ السَّماءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْها فَلاَ يَظْمَأُ أبَداً) .
سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي الْمصْرِيّ، وَنَافِع بن عمر الجُمَحِي الْمَكِّيّ، وَابْن أبي مليكَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة التَّيْمِيّ الْمَكِّيّ، يروي عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَوْض عَن دَاوُد بن عَمْرو عَن نَافِع بِهِ. قَوْله: (حَوْضِي مسيرَة شهر) وَفِي رِوَايَة مُسلم: مسيرَة شهر وزواياه سَوَاء. قَوْله: (مَاؤُهُ أَبيض من اللَّبن) قَالَ الْمَازرِيّ: مُقْتَضى كَلَام النُّحَاة أَن يُقَال: أَشد بَيَاضًا، وَلَا يُقَال: أَبيض من كَذَا، وَمِنْهُم من أجَازه فِي الشّعْر، وَمِنْهُم من أجَاز بقلة، وَيشْهد لَهُ هَذَا الحَدِيث وَغَيره، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من تصرف الروَاة، فقد وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عِنْد مُسلم بِلَفْظ: أَشد بَيَاضًا من اللَّبن. انْتهى.
قلت: القَوْل بِأَن هَذَا جَاءَ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أولى من نِسْبَة الروَاة إِلَى الْغَلَط على زعم النُّحَاة، واستشهاده لذَلِك بِرِوَايَة مُسلم لَا يفِيدهُ لِأَنَّهُ لَا مَانع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اسْتعْمل أفعل التَّفْضِيل من اللَّوْن فَيكون حجَّة على النُّحَاة. قَوْله: (وريحه أطيب من الْمسك) وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر: أطيب ريحًا من الْمسك، وَعند ابْن حبَان فِي حَدِيث أبي أُمَامَة: أطيب رَائِحَة، وَزَاد ابْن أبي عَاصِم وَابْن أبي الدُّنْيَا فِي حَدِيث بُرَيْدَة: وألين من الزّبد، وَزَاد مُسلم فِي حَدِيث أبي ذَر وثوبان: وَأحلى من الْعَسَل، وَزَاد أَحْمد فِي حَدِيث ابْن عَمْرو من حَدِيث ابْن مَسْعُود: وأبرد من الثَّلج، وَعند التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث ابْن عمر: وماؤه أَشد بردا من الثَّلج. قَوْله: (وكيزانه) جمع كوز قَوْله: (كنجوم السَّمَاء) الظَّاهِر أَن التَّشْبِيه فِي الْعدَد، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الضياء. وَعند مُسلم من حَدِيث ابْن عمر: فِيهِ أَبَارِيق كنجوم السَّمَاء. قَوْله: (من شرب مِنْهَا) أَي: من الكيزان، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: من شرب مِنْهُ، أَي: من شرب من الْحَوْض. قَوْله: (فَلَا يظمأ أبدا) أَي: فَلَا يعطش أبدا، وَزَاد ابْن أبي عَاصِم فِي حَدِيث أبي ابْن كَعْب: وَمن صرف عَنهُ لم يرو أبدا.

0856 - حدّثنا سَعيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ قَالَ ابنُ شِهابٍ: حدّثني أنَسُ ابنُ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أيْلَةَ وصَنْعاءَ منَ اليَمَنِ، وإنَّ فِيهِ مِنَ الأبارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ) .
سعيد بن عفير هُوَ سعيد بن كثير بن عفير أَبُو عُثْمَان الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد الأياي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن حَرْمَلَة.
قَوْله: (حَدثنِي أنس) هَذَا يرد قَول من قَالَ بِأَن ابْن شهَاب لم يسمعهُ من أنس. قَوْله: (وَصَنْعَاء من الْيمن) احْتَرز بقوله: (من الْيمن) ، عَن صنعاء الَّتِي من الشَّام، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (من الأباريق) جمع إبريق، قَالَ الْجَوْهَرِي: الإبريق فَارسي مُعرب، قَوْله: (كعدد نُجُوم السَّمَاء) التَّشْبِيه هُنَا فِي الْعدَد.

1856 - حدّثنا أبُو الوَليدِ حدّثنا هَمَّامٌ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وحدّثنا هدْبَةُ بنُ خالِدٍ حَدثنَا هَمَّامٌ حَدثنَا قَتادَةُ حَدثنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بَيْنَما أَنا أسيرُ فِي الجنّةِ إِذا أَنا بِنَهَرَ حافَتاهُ قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ. قُلْتُ: مَا هاذا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَر

(23/139)


ُ الّذي أعْطاكَ رَبُّكَ، فَإِذا طِينُهُ أوْ طِيبُهُ مِسْكٌ أذْفَرُ) ، شَكَّ هُدْبَةُ.
أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك. وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى الْأَزْدِيّ.
وَأخرج الحَدِيث من طَرِيقين. الأول: عَن أبي الْوَلِيد عَن همام عَن قَتَادَة عَن أنس. وَالثَّانِي: عَن هدبة بن خَالِد ... إِلَى آخِره، وَفِيه صرح بتحديث الزُّهْرِيّ عَن أنس، وَفِي الطَّرِيق الأول بالعنعنة.
قَوْله: (بَيْنَمَا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة) كَانَ هَذَا فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَصرح بذلك فِي تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن كَانَ هَذَا أَي قَوْله: (إِذا أَنا بنهر) مَحْفُوظًا، دلّ على أَن الْحَوْض الَّذِي يدْفع عَنهُ أَقوام يَوْم الْقِيَامَة غير النَّهر الَّذِي فِي الْجنَّة، أَو يكون هُوَ الَّذِي يراهم وَهُوَ دَاخل وهم من خَارِجهَا فيناديهم فيصرفون عَنهُ، وَأنكر عَلَيْهِ بَعضهم فَقَالَ: يُغني عَنهُ أَن الْحَوْض الَّذِي هُوَ خَارج الْجنَّة يمد من النَّهر الَّذِي هُوَ دَاخل الْجنَّة، فَلَا إِشْكَال. انْتهى.
قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه يحْتَاج إِلَى دَلِيل أَنه يمد من النَّهر الَّذِي فِي الْجنَّة، ونقول: أحسن من ذَلِك أَن يُقَال: إِن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حوضين: أَحدهمَا: فِي الْجنَّة، وَالْآخر يكون يَوْم الْقِيَامَة، وَقد ذكرنَا عَن قريب. قَوْله: (حافتاه) بتَخْفِيف الْفَاء أَي: جابناه وَلَا مُنَافَاة بَين كَونه نَهرا أَو الْحَوْض لِإِمْكَان اجْتِمَاعهمَا. قَوْله: (قباب الدّرّ) ، القباب بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى جمع قبَّة من الْبناء، وَيجمع على قبب أَيْضا، والدر جمع درة وَهِي اللؤلؤة. قَوْله: (المجوف) أَي: الخاوي. قَوْله: (فَإِذا طينه) ، بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا نون. قَوْله: (أَو طيبه) بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَالشَّكّ فِيهِ من هدبة شيخ البُخَارِيّ. قَوْله: (اذفر) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي: الذكي الرَّائِحَة، وَقَالَ ابْن فَارس: الذفر حِدة الرَّائِحَة الطّيبَة والخبيثة.

2856 - حدّثنا مُسْلمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدّثنا وُهَيْبٌ حدّثنا عبْدُ العَزِيزِ عنُ أنَسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَيَرِدَنَّ عَليَّ ناسٌ منْ أصْحابي الحَوْضَ حتَّى إذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي، فأقُولُ: أصْحابي {فَيَقُولُ: لاَ تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ} ) .

وهيب مصغر وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ. وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن صُهَيْب أَبُو حَمْزَة الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن حَاتِم.
قَوْله: (ليردن) بِاللَّامِ الْمَفْتُوحَة للتَّأْكِيد، ويردن بالنُّون الثَّقِيلَة. قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء (وناس) بِالرَّفْع فَاعل: يردن، وَكلمَة: من، فِي: من أَصْحَابِي، للتبيين والحوض مَنْصُوب بقوله: ليردن. قَوْله: (اختلجوا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْجِيم أَي: جذبوا، من الخلج وَهُوَ النزع والجذب. قَوْله: (دوني) أَي: بِالْقربِ مني. قَوْله: (فَأَقُول: أَصْحَابِي) بِالتَّكْبِيرِ فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (أصيحابي) بِالتَّصْغِيرِ. قَوْله: (فَيَقُول) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَيُقَال) . قَوْله: (مَا أَحْدَثُوا بعْدك!) أَي: من الْمعاصِي الْمُوجبَة الحرمان الشّرْب من الْحَوْض.

3856 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حدّثا مُحَمد بنُ مُطَرِّفٍ، حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلِ ابنِ سَعْدٍ: قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنِّي فَرَطُكُمْ عَلى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ ومَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمأْ أبدا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أقْوَامٌ أعْرفُهُمْ ويَعْرفُونِي ثمَّ يُحالُ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ) .
قَالَ أَبُو حَازِم فسمعني النُّعْمَان بن أبي عَيَّاش فَقَالَ هَكَذَا سَمِعت من سهل فَقلت نعم فَقَالَ أشهد على أبي سعيد الْخُدْرِيّ لسمعته وَهُوَ يزِيد فِيهَا فَأَقُول إِنَّهُم مني فَيُقَال إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك فَأَقُول سحقا سحقا لمن غير بعدِي وَقَالَ ابْن عَبَّاس سحقا بعدا يُقَال سحيق بعيد وسحقه وأسحقه أبعده) مُحَمَّد بن مطرف بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة وبالقاف أَبُو غَسَّان اللَّيْثِيّ الْمدنِي نزل عسقلان وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ قَوْله " إِنِّي فَرَطكُمْ " ويروى أَنا فَرَطكُمْ والفرط بِفتْحَتَيْنِ الَّذِي يتَقَدَّم الواردين ليصلح لَهُم الْحِيَاض وَقد مر عَن قريب قَوْله ويعرفوني ويروى

(23/140)


ويعرفونني على الأَصْل قَوْله " يُحَال " على صِيغَة الْمَجْهُول من حَال بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا منع أَحدهمَا من الآخر قَوْله " لسمعته " اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد قَوْله وَهُوَ يزِيد فِيهَا أَي وَالْحَال أَنه يزِيد فِي هَذِه الْمقَالة وَالَّذِي زَاده هُوَ قَوْله فَأَقُول إِلَى قَوْله وَقَالَ ابْن عَبَّاس قَوْله " سحقا " أَي بعدا وَكرر للتَّأْكِيد وَهُوَ نصب على الْمصدر وَهَذَا مشْعر بِأَنَّهُم مرتدون عَن الدّين لِأَنَّهُ يشفع للعصاة ويهتم بأمرهم وَلَا يَقُول لَهُم مثل ذَلِك قَوْله " وَقَالَ ابْن عَبَّاس " أَي عبد الله بن عَبَّاس وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي حَاتِم من رِوَايَة عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ بِلَفْظَة قَوْله يُقَال سحيق أَي بعيد من كَلَام أبي عُبَيْدَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} وَمِنْه النَّخْلَة السحوق الطَّوِيلَة قَوْله " سحقه " وأسحقه أبعده ثَبت هَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى سحقه الَّذِي هُوَ ثلاثي وَمعنى أسحقه الَّذِي هُوَ مزِيد فِيهِ بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ أبعده وَهَذَا أَيْضا من كَلَام أبي عُبَيْدَة
5856 - وَقَالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبِ بنِ سَعِيدٍ الحَبَطِيُّ: حدّثنا أبي عنْ يُونسَ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ القيامةِ رَهطٌ مِنْ أصْحابي فَيُحَلَّؤْونَ عنِ الحَوْضِ، فأقُولُ: يَا رَبِّ أصْحابي {فَيَقُولُ: إنَّك لاَ علْمَ لَكَ بِما أحْدَثُوا بَعْدَكَ إنهُمُ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمُ القَهْقَهرَى) .

هَذَا تَعْلِيق عَن أَحْمد بن شبيب بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى ابْن سعيد الحبطي بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة ينْسب إِلَى الحبطات من تَمِيم وَهُوَ الْحَارِث بن عَمْرو بن تَمِيم بن مر، والْحَارث هُوَ الحبط وَولده يُقَال لَهما: الحبطات، وَأحمد هَذَا يروي عَن أَبِيه شبيب بن سعيد عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَبُو عوَانَة عَن أبي زرْعَة الرَّازِيّ وَأبي الْحسن الْمَيْمُونِيّ قَالَا: حَدثنَا أَحْمد بن شبيب بِهِ.
قَوْله: (يرد عَليّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (رَهْط) قد مر غير مرّة أَن الرَّهْط من الرِّجَال مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى الْأَرْبَعين، وَلَا يكون فيهم امْرَأَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَيجمع على أرهط وأرهاط وأراهط، جمع الْجمع. قَوْله: (فيحلؤون) ، من التحلثة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام بعْدهَا همزَة مَضْمُومَة على صِيغَة الْمَجْهُول: أَي يمْنَعُونَ ويطردون يُقَال: حلأه عَن المَاء إِذا طرده وَمنعه مِنْهُ، هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، ويروى: (فيجلون) على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا بِالْجِيم الساكنة وَفتح اللاَّم أَي يصرفون. قَوْله: (على أدبارهم) ، ويروى: (على أَعْقَابهم) . قَوْله: (الْقَهْقَرِي) هُوَ الرُّجُوع إِلَى خلف، فَإِذا قلت: رجعت الْقَهْقَرِي فكأنك قلت: رجعت الرُّجُوع الَّذِي يعرف بِهَذَا الِاسْم، لِأَن الْقَهْقَرِي ضرب من الرُّجُوع، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقَهْقَرِي مصدر فَيكون مَنْصُوبًا على المصدرية من غير لَفظه كَمَا فِي قَوْلك: قعدت جُلُوسًا.

6856 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ صالِحٍ حدّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ أنَّهُ كانَ يحَدِّثُ عنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ رِجالٌ مِنْ أصْحابي فَيُحَلَّوُونَ عنْهُ، فأقُولُ: يَا رَبِّ أصْحابي} فَيَقُولُ: إنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِما. أحْدَثُوا بَعْدَكَ، إنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبارِهِمُ القَهْقَرَى) . (انْظُر الحَدِيث 5856)

أَحْمد بن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا هُوَ الحَدِيث الَّذِي مضى، غير أَن فِي ذَاك: قَالَ سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة: وَهنا قَالَ: عَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا الِاخْتِلَاف لَا يضر، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة دَاخل فيهم، وَلَا يُقَال: إِنَّه رِوَايَة عَن مَجْهُول، لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول.

(23/141)


وَقَالَ شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ: كانَ أبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُجْلَوْنَ وَقَالَ عُقَيْلٌ: فَيُحَلُّؤونَ.
شُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن شعيباً وَعقيل بن خَالِد الْأَيْلِي اخْتلفَا فِي روايتهما عَن الزُّهْرِيّ، فروى شُعَيْب: فيجلون، بِالْجِيم وروى عقيل: فيحلؤون، بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقد مر ضبطهما وتفسيرهما الْآن.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبي رافِعٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الزبيدِيّ بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى زبيد، قَبيلَة. وَمن المنسوبين إِلَيْهَا: مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عَامر أَبُو الْهُذيْل الشَّامي الْحِمصِي صَاحب الزُّهْرِيّ، يروي عَن الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْقرشِي الْهَاشِمِي الْمدنِي الْمَشْهُور بالباقر، عَن عبيد الله بن أبي رَافع مولى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسم أبي رَافع أسلم. وَقَالَ الغساني: وَفِي بعض النّسخ عبد الله مكبر وَهُوَ وهم وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم: الزُّهْرِيّ وَشَيْخه وَشَيخ شَيْخه، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَاد من رِوَايَة عبد الله بن سَالم عَنهُ كَذَلِك.

7856 - حدّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ الحِزامِيُّ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحِ حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنِي هِلاَلٌ عنْ عَطاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بَيْنا أَنا قائِمٌ فإذَا زُمْرَةٌ، حتَّى إذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رجُلٌ مِنْ بَيْنِي وبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: أيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَالله، قُلْتُ: وَمَا شأنُهُمْ؟ قَالَ: إنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلى أدْبارِهِمُ القَهْقَرَي، ثُمَّ إذَا زُمْرَةٌ، حتَّى إذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رجُلٌ مِنْ بَيْنِي وبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ. قُلْتُ: أيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَالله، قُلْتُ: مَا شأنُهُمْ؟ قَالَ: إنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلى أدْبارِهِمُ القَهْقَرِي، فَلا أرَاهُ يخْلُصُ مِنْهُمْ إلاّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ.

قيل لَا مُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى.
قلت: ذكره عقيب الحَدِيث السَّابِق لمطابقة بَينهمَا من حَيْثُ الْمَعْنى، فالمطابق للمطابق للشَّيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء.
وَمُحَمّد بن فليح بِضَم الْفَاء يروي عَن أَبِيه فليح بن سُلَيْمَان عَن هِلَال بن عَليّ عَن عَطاء بن يسَار بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، وَرِجَال سَنَده كلهم مدنيون.
والْحَدِيث أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم.
قَوْله: (بَينا أَنا قَائِم) بِالْقَافِ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بالنُّون بدل الْقَاف، وَالْأول أوجه لِأَن المُرَاد هُوَ قِيَامه على الْحَوْض. وَوجه الأول أَنه رأى فِي الْمَنَام مَا سيقع لَهُ فِي الْآخِرَة. قَوْله: (فَإِذا زمرة) كلمة: إِذا، للمفاجأة، والزمرة الْجَمَاعَة. قَوْله: (خرج رجل) المُرَاد بِهِ الْملك الْمُوكل بِهِ على صُورَة الْإِنْسَان. قَوْله: (هَلُمَّ) خطاب للزمرة. وَمَعْنَاهُ: تَعَالَوْا، وَهُوَ على لُغَة من لَا يَقُول: هلما هلموا هَلُمِّي. قَوْله: (فَقلت) أَيْن؟ الْقَائِل هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: تطلبهم إِلَى أَيْن تؤديهم؟ قَالَ: أؤديهم إِلَى النَّار. قَوْله: (وَمَا شَأْنهمْ؟) أَي: وَمَا حَالهم حَتَّى تروح بهم إِلَى النَّار؟ قَالَ: (إِنَّهُم ارْتَدُّوا)
إِلَى آخِره. قَوْله: (فَلَا أرَاهُ) بِضَم الْهمزَة أَي: فَلَا أَظن أَمرهم أَنه (يخلص مِنْهُم إلاَّ مثل همل النعم) بِفَتْح الْهَاء وَالْمِيم وَهُوَ مَا يتْرك مهملاً لَا يتعهد وَلَا يرْعَى حَتَّى يضيع وَيهْلك، أَي: لَا يخلص مِنْهُم من النَّار إلاَّ قَلِيل، وَهَذَا يشْعر بِأَنَّهُم صنفان: كفار وعصاة، وَقَالَ الْخطابِيّ: الهمل يُطلق على الضوال، وَيُقَال: الهمل الْإِبِل بِلَا رَاع مثل النفش إلاَّ أَن النفش لَا يكون إلاَّ لَيْلًا والهمل يكون لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيُقَال: إبل هاملة وهمال وهوامل، وتركتها هملاً أَي: سدًى إِذا أرسلتها ترعى لَيْلًا أَو نَهَارا بِلَا راعٍ، وَفِي الْمثل: اخْتَلَط المرعى بالهمل.

(23/142)


8856 - حدّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدّثنا أنَسُ بنُ عِياض عنْ عُبَيْدِ الله عنْ خُبَيْبٍ عنْ حَفْصِ ابنِ عاصِم عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الجَنة ومِنْبَرِي عَلى حَوْضِي) .
عبيد الله هُوَ ابْن عمر الْعمريّ، وخبيب بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ خَال عبيد الله الْمَذْكُور، وَحَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ جد عبيد الله الْمَذْكُور.
والْحَدِيث مضى فِي آخر الصَّلَاة، وَفِي آخر الْحَج عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن حَرْب وَغَيره.
قَوْله: (ومنبري) قَالُوا: المُرَاد منبره بِعَيْنِه الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَقيل: إِن لَهُ هُنَاكَ منبراً على حَوْضه يَدْعُو النَّاس عَلَيْهِ ... إِلَى الْحَوْض. قَوْله: (رَوْضَة) مَعْنَاهَا أَن ذَلِك الْموضع بِعَيْنِه ينْتَقل إِلَى الْجنَّة فَهُوَ حَقِيقَة، أَو أَن الْعِبَادَة فِيهِ تُؤدِّي إِلَى رَوْضَة الْجنَّة، فَهُوَ مجازٌ بِاعْتِبَار الْمَآل، أَي: مآل الْعِبَادَة فِيهِ الْجنَّة، أَو تَشْبِيه أَي: هُوَ كروضة، وسمى تِلْكَ الْبقْعَة الْمُبَارَكَة: رَوْضَة، لِأَن زوار قَبره من الْمَلَائِكَة وَالْإِنْس وَالْجِنّ لم يزَالُوا منكبين فِيهَا على ذكر الله تَعَالَى، وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ تَفْضِيل الْمَدِينَة وَالتَّرْغِيب فِي الْمقَام بهَا والاستكثار من ذكر الله فِي مَسْجِدهَا، وَأَن من لزم الطَّاعَة فِيهِ آلت بِهِ إِلَى رَوْضَة الْجنَّة، وَمن لزم الْعِبَادَة عِنْد الْمِنْبَر سقِِي يَوْم الْقِيَامَة من الْحَوْض.

0956 - حدّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ حدّثنا اللّيْثُ عنْ يَزِيدَ عنْ أبي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْماً فَصَلَّى عَلى أهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَلى المِنْبَرِ فَقَالَ: (إنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وإنِّي وَالله لأنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وإنِّي أُعْطِيتُ مَفاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ أوْ مَفاتِيحَ الأرْضِ وإنِّي وَالله مَا أخافُ عَلَيْكُمْ أنْ تَشْرِكُوا بَعْدِي، ولَكِنْ أخافُ عَلَيْكُمْ أنْ تَنافَسُوا فِيها) .
عَمْرو بن خَالِد الْجَزرِي بِالْجِيم وَالزَّاي وَالرَّاء، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب أَبُو ورجاء الْمصْرِيّ وَاسم أبي حبيب سُوَيْد، وَأَبُو الْخَيْر مرْثَد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ابْن عبد الله الْيَزنِي، وَعقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن سعيد بن شُرَحْبِيل، وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَغَيره. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة، فَمُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والآخران فِي الْجَنَائِز، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مكرراً.
قَوْله: (فصلى على أهل أحد) أَي: دَعَا لَهُم بِدُعَاء صَلَاة الْمَيِّت، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقيل: صلى صَلَاة الْمَوْتَى، وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث، وَكَانَ ذَلِك بعد مَوْتهمْ بِثمَانِيَة أَعْوَام. قَوْله: (ثمَّ انْصَرف على الْمِنْبَر) ويروى: ثمَّ انْصَرف فَصَعدَ على الْمِنْبَر. قَوْله: (أَو مَفَاتِيح الأَرْض) شكّ من الرَّاوِي وَالْمرَاد: كنوز الأَرْض. قَوْله: (مَا أَخَاف عَلَيْكُم أَن تُشْرِكُوا) قيل: قد وَقع بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ارتداد لبَعض الْأَعْرَاب. وَأجِيب: بِأَن الْخطاب للْجمع فَلَا يُنَافِي ارتداد الْبَعْض. قَوْله: (أَن تنافسوا) أَصله: تتنافسوا، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَي: تراغبوا وَتَنَازَعُوا. قَوْله: (فِيهَا) أَي: فِي الدُّنْيَا. وَفِيه: عدَّة معجزات

(23/143)


لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

1956 - حدّثنا عَلِيُّ بن عبْدِ الله حدّثنا حَرَمِيُّ بنُ عُمارَةَ حدّثا شُعْبَةُ عنْ مَعْبَدِ بنِ خالِدٍ أنّهُ سَمِعَ حارِثَةَ بنَ وَهْب يَقُولُ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وذَكَرَ الحَوْضَ فَقَالَ: (كَمَا بَيْنَ المَدِينَةِ وصَنْعاء) .
وزَادَ ابنُ أبي عَدِيٍّ عنْ شُعْبَةَ عنْ مَعْبَدِ بنِ خالِدٍ عنْ حارِثَةَ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَال: حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعاءَ والمَدِينَةِ، فَقَالَ لهُ المُسْتَوْرِ: ألمْ تَسمَعْهُ قَالَ: الأوَانِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ المُسْتَورِدُ: تُرى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الكَوَاكِبِ.

عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ، وحرمي بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن عمَارَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم وبالراء، ومعد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد القَاضِي الْكُوفِي، وحارثة بن وهب الْخُزَاعِيّ نزل الْكُوفَة وَله أَحَادِيث، وَكَانَ أَخا لِعبيد الله بِالتَّصْغِيرِ ابْن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لأمه.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَغَيره.
قَوْله: (وَزَاد ابْن أبي عدي) وَهُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، وَأَبُو عدي جده وَلَا يعرف اسْمه وَهُوَ بَصرِي ثِقَة كثير الحَدِيث.
وَوصل هَذِه الزِّيَادَة مُسلم: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيع حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة عَن سعيد بن خَالِد عَن حَارِثَة أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: حَوْضه مَا بَين صنعاء وَالْمَدينَة، فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرد: آلم تسمعه قَالَ: الْأَوَانِي؟ قَالَ: لَا. قَالَ الْمُسْتَوْرد: ترى فِيهِ الْآنِية.
قَوْله: (قَوْله: حَوْضه) ، ويروى: (قَالَ: حَوْضه) ، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرد) على وزن مستفعل بِكَسْر الْعين ابْن شَدَّاد بن عَمْرو الْقرشِي الفِهري الصَّحَابِيّ بن الصَّحَابِيّ شهد فتح مصر وَسكن الْكُوفَة مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَحَدِيثه مَرْفُوع، وَإِن لم يُصَرح بِهِ وَيلْزم مِنْهُ رَفعه سياقاً. قَوْله: (ألم تسمعه؟) أَي: ألم تسمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْأَوَانِي فِيهِ تكون كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ حَارِثَة: لَا، فَقَالَ الْمُسْتَوْرد: ترى فِيهِ الْآنِية مثل الْكَوَاكِب، أَي: كَثْرَة وضياء، يَعْنِي أَنا سمعته قَالَ ذَلِك.

3956 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ عنْ نافِعِ بنِ عُمَرَ قَالَ: حدّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عَن أسْماءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، قالَتْ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنِّي عَلى الحَوْضِ حتَّى أنْظرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ وسَيُؤُخذُ ناسٌ مِنْ دُونِي فأقُولُ: يَا ربِّ {مِنَّي ومِنْ أُمَّتِي} فَيُقالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ وَالله مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أعْقَابِهِمْ) ، فَكانَ ابنُ أبي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنّا نَعُوذُ بِكَ أنْ نَرْجِعَ عَلى أعْقابِنا أوْ نُفْتَنَ عنْ دِيننا. عَلى أعْقابِهِم ينْكِصُونَ يَرْجِعُونَ عَلى العَقِبِ. (الحَدِيث 3956 طرفه فِي: 8407)

ابْن أبي مليكَة عبد الله، مضى عَن قريب.
قَوْله: (حَتَّى أنظر) بِالنّصب أَي: إِلَى أَن أنظر. قَوْله: (من دوني) أَي: بِالْقربِ مني. قَوْله: (وَمن أمتِي) هَذَا يدْفع قَول من حمل النَّاس على غير هَذِه الْأمة. قَوْله: (هَل شَعرت) أَي: هَل علمت. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ: إِشْعَار إِلَى أَنه لم يعرف أشخاصهم بِعَينهَا وَإِن كَانَ قد عرف أَنهم من هَذِه الْأمة. انْتهى.
قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى. قَوْله: (مَا عمِلُوا) وَيرى بِمَا عمِلُوا بِزِيَادَة الْبَاء. قَوْله: (مَا برحوا) أَي: مَا زَالُوا. قَوْله: (فَكَانَ ابْن أبي مليكَة يَقُول) مَوْصُول بالسند الْمَذْكُور. قَوْله: (أَو نفتن) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (على أَعْقَابهم ينكصون) إِلَى آخِره هَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة فِي الْآيَة.

(23/144)