عمدة القاري شرح صحيح البخاري

28 - (كِتابُ القَدَرِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان الْقدر، وَذكره قَالَ الْكرْمَانِي: كتاب الْقدر، أَي: حكم الله تَعَالَى، قَالُوا: الْقَضَاء هُوَ الحكم الْكُلِّي الإجمالي فِي الْأَزَل، وَالْقدر جزئيات ذَلِك الحكم وتفاصيله الَّتِي تقع، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إِلَّا عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم} (الْحجر: 12) وَمذهب أهل الْحق أَن الْأُمُور كلهَا من الْإِيمَان وَالْكفْر وَالْخَيْر وَالشَّر والنفع والضر بِقَضَاء الله وَقدره، وَلَا يجْرِي فِي ملكه إلاَّ مقدراته. وَقَالَ الرَّاغِب: الْقدر بِوَضْعِهِ يدل على الْقُدْرَة وعَلى الْمَقْدُور الْكَائِن بِالْعلمِ يتَضَمَّن الْإِرَادَة عقلا وَالْقَوْل نقلا. وَقدر الله الشَّيْء بِالتَّشْدِيدِ قَضَاهُ، وَيجوز التَّخْفِيف، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الْقدر، بعد قَوْله: كتاب الْقدر، قيل: هَذَا زِيَادَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي.

1 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك حَدثنَا شُعْبَة أنبأني سُلَيْمَان الْأَعْمَش قَالَ سَمِعت زيد بن وهب عَن عبد الله قَالَ حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الصَّادِق المصدوق قَالَ إِن أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة ثمَّ علقَة مثل ذَلِك ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يبْعَث الله ملكا فَيُؤْمَر بِأَرْبَع برزقه وأجله وشقي أَو سعيد فوَاللَّه إِن أحدكُم أَو الرجل يعْمل بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا غير بَاعَ أَو ذِرَاع فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخلها وَإِن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا غير ذِرَاع أَو ذراعين فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار فيدخلها وَقَالَ آدم إِلَّا ذِرَاع) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي مَعْنَاهُ وَزيد بن وهب أَبُو سُلَيْمَان الْهَمدَانِي الْكُوفِي من قضاعة خرج إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقبض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي الطَّرِيق سمع عبد الله بن مَسْعُود وَغَيره وَهَذَا الحَدِيث اشْتهر عَن الْأَعْمَش بالسند الْمَذْكُور هُنَا قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ فِي كتاب الْعِلَل كُنَّا نظن أَن الْأَعْمَش تفرد بِهِ حَتَّى وَجَدْنَاهُ من رِوَايَة سَلمَة بن كهيل عَن زيد بن وهب وَرِوَايَته عِنْد أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَلم ينْفَرد بِهِ زيد بن وهب أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود بل رَوَاهُ عَنهُ أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عِنْد أَحْمد وعلقمة عِنْد أبي يعلى وَلم ينْفَرد بِهِ ابْن مَسْعُود أَيْضا بل رَوَاهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة مطولا ومختصرا مِنْهُم أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على مَا يَجِيء عقيب هَذَا الحَدِيث وَحُذَيْفَة بن أسيد عِنْد مُسلم وَعبد الله بن عمر فِي الْقدر لِابْنِ وهب وَسَهل بن سعد وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكتاب وَأَبُو هُرَيْرَة عِنْد مُسلم وَعَائِشَة عِنْد أَحْمد وَأَبُو ذَر عِنْد الْفرْيَابِيّ وَمَالك بن الْحُوَيْرِث عِنْد أبي نعيم فِي الطِّبّ وَغَيرهم وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن آدم وَمضى فِي بَدْء الْخلق عَن الْحسن بن الرّبيع وَفِي خلق آدم عَن عمر بن حَفْص وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَغَيره وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بَدْء الْخلق وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَلَا نقتصر عَلَيْهِ فَقَوله أنبأني سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَقَالَ فِي التَّوْحِيد حَدثنَا سُلَيْمَان الْأَعْمَش وَيفهم مِنْهُ أَن التحديث والأنباء عِنْد شُعْبَة سَوَاء وَيرد بِهِ على من زعم أَن شُعْبَة يسْتَعْمل الأنباء فِي الْإِجَازَة قَوْله " وَهُوَ الصَّادِق المصدوق " أَي الصَّادِق فِي نَفسه والمصدوق من جِهَة غَيره وَقَالَ الْكرْمَانِي لما كَانَ مَضْمُون الْخَبَر مُخَالفا لما عَلَيْهِ الْأَطِبَّاء أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى صدقه وَبطلَان مَا قَالُوهُ أَو ذكره تلذذا وتبركا وافتخارا قَالَ الْأَطِبَّاء إِنَّمَا يتَصَوَّر الْجَنِين فِيمَا بَين ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَى الْأَرْبَعين وَالْمَفْهُوم من الحَدِيث أَن خلقه إِنَّمَا يكون بعد أَرْبَعَة أشهر انْتهى وَقَالَ بَعضهم بعد أَن نقل كَلَام الْكرْمَانِي مَا ملخصه أَنه لم يُعجبهُ مَا قَالَه الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ وَقد وَقع هَذَا اللَّفْظ بِعَيْنِه فِي

(23/145)


حَدِيث آخر لَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى بطلَان شَيْء يُخَالف مَا ذكره وَهُوَ مَا ذكره أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة سَمِعت الصَّادِق المصدوق يَقُوله لَا تنْزع الرَّحْمَة إِلَّا من قلب شقي وَمضى فِي عَلَامَات النُّبُوَّة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة سَمِعت الصَّادِق المصدوق يَقُول هَلَاك أمتِي على يَد أغيلمة من قُرَيْش انْتهى قلت هَذَا مُجَرّد تحريش من غير طعم وَهَذِه نُكْتَة لَطِيفَة ذكرهَا من وَجْهَيْن فَالْوَجْه الثَّانِي يمشي فِي كل مَوضِع فِيهِ ذكر الصَّادِق المصدوق قَوْله إِن أحدكُم قَالَ أَبُو الْبَقَاء لَا يجوز أَن إِلَّا بِالْفَتْح لِأَنَّهُ مفعول حَدثنَا فَلَو كسر لَكَانَ مُنْقَطِعًا عَن حَدثنَا قلت لَا يجوز إِلَّا الْكسر لِأَنَّهُ وَقع بعد قَوْله قَالَ إِن أحدكُم وَلَفْظَة قَالَ مَوْجُودَة فِي كثير من النّسخ هَكَذَا حَدثنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ الصَّادِق المصدوق قَالَ إِن أحدكُم وَإِن كَانَت لَفْظَة قَالَ غير مَذْكُورَة فِي الرِّوَايَة فَهِيَ مقدرَة فَلَا يتم الْمَعْنى إِلَّا بهَا قَوْله إِن أحدكُم يجمع فِي بطن أمه كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن شَيْخه وَله عَن الْكشميهني إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة آدم فِي التَّوْحِيد وَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين عَن الْأَعْمَش وَفِي رِوَايَة أبي الْأَحْوَص عَنهُ إِن أحدكُم يجمع خلقه فِي بطن أمه وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه إِنَّه يجمع خلق أحدكُم فِي بطن أمه وَالْمرَاد من الْجمع ضم بعضه إِلَى بعض بعد الانتشار والخلق بِمَعْنى الْمَخْلُوق كَقَوْلِهِم هَذَا دِرْهَم ضرب الْأَمِير أَي مضروبه وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ مَا ملخصه أَن المنى يَقع فِي الرَّحِم بِقُوَّة الشَّهْوَة المزعجة مبثوثا مُتَفَرقًا فيجمعه الله فِي مَحل الْولادَة من الرَّحِم قَوْله " أَرْبَعِينَ يَوْمًا " زَاد فِي رِوَايَة آدم أَو أَرْبَعِينَ لَيْلَة قَوْله " ثمَّ علقَة " مثل ذَلِك وَفِي رِوَايَة آدم ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك يَعْنِي مُدَّة الْأَرْبَعين والعلقة الدَّم الجامد الغليظ سميت بذلك للرطوبة الَّتِي فِيهَا وتعلقها بِمَا مر بهَا قَوْله " ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك يَعْنِي مُدَّة الْأَرْبَعين والمضغة قِطْعَة اللَّحْم سميت بذلك لِأَنَّهَا بِقدر مَا يمضغ الماضع قَوْله ثمَّ يبْعَث الله ملكا وَفِي رِوَايَة الْكشميهني ثمَّ يبْعَث الله إِلَيْهِ ملكا وَفِي رِوَايَة مُسلم ثمَّ يُرْسل الله وَفِي رِوَايَة آدم ثمَّ يبْعَث إِلَيْهِ الْملك وَاللَّام فِيهِ للْعهد وَهُوَ الْملك من الْمَلَائِكَة الموكلين بالأرحام قَوْله " فَيُؤْمَر على صِيغَة الْمَجْهُول " أَي يَأْمُرهُ الله تَعَالَى بأَرْبعَة أَشْيَاء وَفِي رِوَايَة آدم بِأَرْبَع كَلِمَات وَالْمرَاد بهَا القضايا وكل كلمة تسمى قَضِيَّة قَوْله بِأَرْبَع كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره بأربعه والمعدود إِذا أبهم جَازَ التَّذْكِير والتأنيث قَوْله برزقه بدل من أَربع وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ دَاخل فِي حكمه وَالْمرَاد برزقه قيل الْغَدَاء حَلَالا أَو حَرَامًا وَهُوَ كل مَا سَاقه الله تَعَالَى إِلَى العَبْد لينْتَفع بِهِ وَهُوَ أَعم لتنَاوله الْعلم وَنَحْوه قَوْله وأجله الْأَجَل يُطلق لمعنيين لمُدَّة الْعُمر من أَولهَا إِلَى آخرهَا وللجزء الْأَخير الَّذِي يَمُوت فِيهِ قَوْله وشقي أَو سعيد قَالَ بَعضهم هُوَ بِالرَّفْع خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف قلت لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ مَعْطُوف على مَا قبله الَّذِي هُوَ بدل عَن أَربع فَيكون مجرورا لِأَن تَقْدِير قَوْله فَيُؤْمَر بِأَرْبَع أَربع كَلِمَات كلمة تتَعَلَّق برزقه وَكلمَة تتَعَلَّق بأجله وَكلمَة تتَعَلَّق بسعادته أَو شقاوته وَكَانَ من حق الظَّاهِر أَن يُقَال يكْتب سعادته وشقاوته فَعدل عَن ذَلِك حِكَايَة بِصُورَة مَا يَكْتُبهُ وَهُوَ أَنه يكْتب رزقه وأجله وشقي أَو سعيد قيل هَذِه ثَلَاثَة أُمُور لَا أَرْبَعَة وَأجِيب بِأَن الرَّابِع كَونه ذكرا أَو أُنْثَى كَمَا صرح فِي الحَدِيث الَّذِي بعده أَو عمله كَمَا تقدم فِي أول كتاب بَدْء الْخلق وَلَعَلَّه لم يذكرهُ لِأَنَّهُ يلْزم من الْمَذْكُور أَو اخْتَصَرَهُ اعْتِمَادًا على شهرته وَقيل هَذَا يدل على أَن الحكم بِهَذِهِ الْأُمُور بعد كَونه مُضْغَة لَا أَنه أزلي وَأجِيب بِأَن هَذَا للْملك بِأَن الْمقْضِي فِي الْأَزَل حَتَّى يكْتب على جَبهته مثلا قَوْله أَو الرجل شكّ من الرَّاوِي أَي أَو أَن الرجل وَفِي رِوَايَة آدم فَإِن أحدكُم بِغَيْر شكّ قَوْله بِعَمَل أهل النَّار قدم النَّار على الْجنَّة وَفِي رِوَايَة آدم بِالْعَكْسِ قَوْله حَتَّى مَا يكون قَالَ الطَّيِّبِيّ حَتَّى هِيَ الناصبة وَمَا نَافِيَة وَلم تكف عَن الْعَمَل وَتَكون مَنْصُوبَة بحتى وَأَجَازَ غَيره أَن تكون حَتَّى ابتدائية وَيكون على هَذَا بِالرَّفْع قَوْله غير بَاعَ أَو ذِرَاع هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره غير ذِرَاع أَو بَاعَ وَفِي رِوَايَة أبي الْأَحْوَص إِلَّا ذِرَاع بِغَيْر شكّ وَالتَّعْبِير بالذراع تَمْثِيل بِقرب حَاله من الْمَوْت وَضَابِط ذَلِك بالغرغرة الَّتِي جعلت عَلامَة لعدم قبُول التَّوْبَة قَوْله فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب الْفَاء فِي فَيَسْبق للتعقيب يدل على حُصُول السَّبق بِغَيْر مهلة وَضمن يسْبق معنى يغلب أَي يغلب عَلَيْهِ الْكتاب وَمَا قدر عَلَيْهِ سبقا بِلَا مهلة فَعِنْدَ ذَلِك يعْمل

(23/146)


بِعَمَل أهل الْجنَّة وَعمل أهل النَّار وَالْمرَاد من الْكتاب الْمَكْتُوب أَي مَكْتُوب الله أَي الْقَضَاء الأزلي قَوْله فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار الْبَاء فِيهِ زَائِدَة للتَّأْكِيد قَوْله أَو ذراعين أَي أَو غير ذراعين فَهُوَ شكّ من الرَّاوِي قَوْله وَقَالَ آدم إِلَّا ذِرَاع أَي قَالَ آدم بن إِيَاس إِلَّا ذِرَاع هَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد -
5956 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ عُبيْدِ الله بنِ أبي بَكْرِ بنِ أنَسٍ عنْ أنَسٍ ابْن مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (وَكَّلَ الله بالرَّحِمِ مَلَكاً، فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ نُطْفَةٌ {أَي رَبِّ عَلَقَةٌ} أيْ رَبِّ مُضْغَةٌ {فَإِذا أرادَ الله أنْ يَقْضِيَ خَلْقَها قَالَ: أيْ رَبِّ ذَكَرٌ أمْ أنْثَى؟ أشَقيٌّ أمْ سَعيدٌ؟ فَما الرِّزْقُ فَما الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذالِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) .
حَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَعبيد الله هُوَ ابْن أبي بكر بن أنس بن مَالك يروي عَن جده أنس.
والْحَدِيث مضى فِي الطَّهَارَة فِي الْحيض عَن مُسَدّد، وَفِي خلق آدم عَن أبي النُّعْمَان. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن أبي كَامِل الجحدري.
قَوْله: (أَي رب) أَي: يَا رب. قَوْله: (نُطْفَة) ، بِالنّصب على اعْتِبَار فعل مَحْذُوف، وبالرفع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. قَوْله: (أَن يقْضِي خلقهَا) أَي: يتمه. قَوْله: (فِي بطن أمه) لَيْسَ ظرفا للكتابة بل: هُوَ مَكْتُوب على الْجَبْهَة، أَو على الرَّأْس مثلا، وَهُوَ فِي بطن أمه: قيل: قَالَ هُنَا: (وكل الله) وَفِي الحَدِيث السَّابِق: (ثمَّ يبْعَث الله ملكا) . وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بِالْبَعْثِ الحكم عَلَيْهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا.

2 - (بابٌ جَفَّ القَلمُ عَلى عِلْمِ الله)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: جف الْقَلَم، وَقَالَ بَعضهم: بَاب، التَّنْوِين.
قلت: هَذَا قَول من لم يمس شَيْئا من الْإِعْرَاب، والتنوين يكون فِي المعرب، وَلَفظ بَاب هُنَا مُفْرد فَكيف ينون، وَالتَّقْدِير مَا ذَكرْنَاهُ أَو نَحوه، وجفاف الْقَلَم عبارَة عَن عدم تَغْيِير حكمه لِأَن الْكَاتِب لما أَن جف قلمه عَن المداد لَا تبقى لَهُ الْكِتَابَة كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَفِيه نظر لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} (الرَّعْد: 93) فَإِن كَانَ مُرَاده من عدم تَغْيِير حكمه الَّذِي فِي الْأَزَل فَمُسلم، وَإِن كَانَ الَّذِي فِي اللَّوْح فَلَا وَالْأَوْجه أَن يُقَال: جف الْقَلَم، أَي: فرغ من الْكِتَابَة الَّتِي أَمر بهَا حِين خلقه وَأمره أَن يكْتب مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا أَرَادَ بعد ذَلِك تَغْيِير شَيْء مِمَّا كتبه محاه كَمَا قَالَ: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} قَوْله: (على علم الله) ، أَي: حكم الله، لِأَن معلومه لَا بُد أَن يَقع وإلاَّ لزم الْجَهْل فَعلمه بِمَعْلُوم مُسْتَلْزم للْحكم بِوُقُوعِهِ.
وقَوْلُهُ {وأضله الله على علم} (الجاثية: 32)
ذكر هَذَا أَي قَول الله تَعَالَى إِشَارَة إِلَى أَن علم الله حكمه كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وأضله الله على علم} أَي: على علمه فِي الْأَزَل وَهُوَ حكمه عِنْد الظُّهُور، وَقيل: مَعْنَاهُ أضلّهُ الله بعد أَن أعلمهُ وَبَين لَهُ فَلم يقبل.
وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ لي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جَفَّ القَلَمُ بِما أنْتَ لاقٍ
صدر الحَدِيث هُوَ التَّرْجَمَة وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث ذكر أَصله البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله} إِنِّي رجل شَاب وَإِنِّي أَخَاف على نَفسِي الْعَنَت وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ النِّسَاء، فَسكت عني) الحَدِيث وَفِيه: (يَا أَبَا هُرَيْرَة! جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق، فاختصر على ذَلِك أَو ذَر) . أخرجه فِي أَوَائِل النِّكَاح.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس {لَهَا سَابِقُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 16) سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ} سبقت لَهُم السَّعَادَة قيل: تَفْسِير ابْن عَبَّاس يدل على أَن السَّعَادَة سَابِقَة، الْآيَة تدل على أَن الْخيرَات يَعْنِي: السَّعَادَة مسبوقة. وَأجِيب بِأَن معنى الْآيَة أَنهم سبقوا النَّاس لأجل السَّعَادَة لَا أَنهم سبقوا السَّعَادَة.

(23/147)


6956 - حدّثنا آدَمُ حدّثنا شُعْبَةُ حَدثنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بنَ عَبْدِ الله بنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عنْ عِمْرانَ بن حُصْنٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ الله! أيُعْرَفُ أهْلُ الجَنّةِ مِنْ أهْلِ النّارِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) . قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ يَعْمَلُ لما خُلِقَ لهُ أوْ لِما يُسِّرَ لهُ) .

الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وَيزِيد من الزِّيَادَة الرشك بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وبالكاف مَعْنَاهُ القسام، وَقَالَ الغساني: هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ الغيور، وَقيل: هُوَ كَبِير اللِّحْيَة، يُقَال: بلغ طول لحيته إِلَى أَن دخلت فِيهَا عقرب وَمَكَثت ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا يدْرِي بهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرشك بِالْفَارِسِيَّةِ الْقمل الصَّغِير يلتصق بأصول الشّعْر، فعلى هَذَا الْإِضَافَة إِلَيْهِ أولى من الصّفة، وَمَا ليزِيد فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث هُنَا، وَفِي الِاعْتِصَام، ومطرف على وزن اسْم الْفَاعِل من التطريف ابْن عبد الله بن الشخير بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء، وَهَذَا من صِيغ الْمُبَالغَة لمن يشخر كثيرا كالسكير لمن يسكر كثيرا.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي معمر. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن يحيى بن يحيى وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن النَّضر.
قَوْله: (قَالَ: قَالَ رجل) هُوَ عمرَان بن حُصَيْن رَاوِي الْخَبَر، بَينه عبد الْوَارِث بن سعيد عَن يزِيد الرشك عَن عمرَان بن حُصَيْن. قَالَ: قلت: يَا سَوَّلَ الله ... فَذكره. قَوْله: (أيعرف أهل الْجنَّة من أهل النَّار) . أَي: أيميز بَينهمَا؟ قيل: الْمعرفَة إِنَّمَا هِيَ بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ إِمَارَة فَمَا وَجه سُؤَاله؟ وَأجِيب: بِأَن معرفتنا بِالْعَمَلِ أما معرفَة الْمَلَائِكَة مثلا فَهِيَ قبل الْعَمَل، فالغرض من لفظ: أيعرف: أيميز وَيفرق بَينهمَا تَحت قَضَاء الله وَقدره؟ قَوْله: (فَلم يعْمل الْعَامِلُونَ؟) وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: فَفِيمَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى: إِذا سبق الْقَلَم بذلك فَلَا يحْتَاج الْعَامِل إِلَى الْعَمَل لِأَنَّهُ سيصير إِلَى مَا قدر لَهُ. قَوْله: (كل يعْمل) أَي: كل أحد يعْمل (لما خلق لَهُ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة أَي: للَّذي خلق لَهُ، وَفِي رِوَايَة حَمَّاد: (كل ميسر لَهُ خلق لَهُ) وَقد جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن بِلَفْظ: كل امرىء مُهَيَّأ لما خلق لَهُ. قَوْله: (أَو لما يسر لَهُ) شكّ من الرَّاوِي أَي: كل يعْمل لما يسر لَهُ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَشْديد السِّين الْمَكْسُورَة وَفتح الرَّاء، هَذَا هَكَذَا وَرِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لما ييسر لَهُ، بِضَم الْيَاء الأولى وَفتح الثَّانِيَة وَتَشْديد السِّين، وَحَاصِل معنى هَذَا، أَن العَبْد لَا يدْرِي مَا أمره فِي الْمَآل لِأَنَّهُ يعْمل مَا سبق فِي يُعلمهُ تَعَالَى، فَعَلَيهِ أَن يجْتَهد فِي عمل مَا أَمر بِهِ فَإِن عمله إِمَارَة إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ أمره.

3 - (بابٌ الله أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين، وَالضَّمِير فِي: كَانُوا، يرجع إِلَى أَوْلَاد الْمُشْركين لِأَن صدر الحَدِيث سُؤال عَن أَوْلَاد الْمُشْركين، وَقد مضى فِي آخر كتاب الْجَنَائِز: بَاب مَا قيل فِي أَوْلَاد الْمُشْركين، وَذكر فِيهِ حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي ذكر فِي هَذَا الْبَاب.

7956 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حَدثنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ أبي بِشرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: سُئِل النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ أوْلادِ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: (الله أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلينَ) . (انْظُر الحَدِيث 3831) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وغند بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة جَعْفَر بن أبي وحشية إِيَاس الْيَشْكُرِي الوَاسِطِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي آخر الْجَنَائِز فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن حبَان عَن عبد الله عَن شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أَطْفَال الْمُشْركين فيهم ثَلَاثَة مَذَاهِب: فالأكثرون على أَنهم فِي النَّار، وتوقفت طَائِفَة، وَالثَّالِث وَهُوَ الصَّحِيح: أَنهم من أهل الْجنَّة.

(23/148)


وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الثَّوَاب وَالْعِقَاب ليسَا بِالْأَعْمَالِ وإلاّ لزم أَن لَا يكون الذَّرَارِي لَا فِي الْجنَّة وَلَا فِي النَّار، بل الْمُوجب لَهما هُوَ اللطف الرباني والخذلان الإل هِيَ الْمُقدر لَهُم فِي الْأَزَل، فَالْأولى فيهم التَّوَقُّف.

8956 - حدّثنا يحْيَاى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ: وَأَخْبرنِي عَطاءُ بنُ يَزِيدَ أنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقولُ: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذَرارِيِّ المُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: (الله أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلينَ) . (انْظُر الحَدِيث 4831 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الْجَنَائِز فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أَخْبرنِي عَطاء بن يزِيد اللَّيْثِيّ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره، قَالَ هُنَاكَ: أَخْبرنِي عَطاء بن يزِيد، كَمَا رَأَيْت، وَقَالَ هُنَا: قَالَ: وَأَخْبرنِي عَطاء بن يزِيد، بواو الْعَطف على مَحْذُوف كَأَنَّهُ حدث قبل ذَلِك بِشَيْء ثمَّ حدث بِحَدِيث عَطاء.
قَوْله: (عَن ذَرَارِي الْمُشْركين) بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها جمع ذُرِّيَّة وذرية الرجل أَوْلَاده وَيكون وَاحِدًا وجمعاً. قَوْله: (الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين) غَرَض البُخَارِيّ من هَذَا الرَّد على الْجَهْمِية فِي قَوْلهم: إِن الله لَا يعلم أَفعَال الْعباد حَتَّى يعملوها، تَعَالَى الله عَن ذَلِك القَوْل، وَأخْبر الشَّارِع فِي هَذَا الحَدِيث أَن الله يعلم مَا لَا يكون أَن لَو كَانَ كَيفَ يكون، فأحرى أَن يعلم مَا يكون وَمَا قدره وقضاه فِي كَونه، وَهَذَا يُقَوي مَا ذهب إِلَيْهِ أهل السّنة أَن الْقدر هُوَ علم الله وغيبه الَّذِي اسْتَأْثر بِهِ فَلم يطلع عَلَيْهِ ملكا مقرباً وَلَا نَبيا مُرْسلا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لَا أعلم لهَذَا الحَدِيث وَجها إلاَّ أَن الله أعلم بِمَا يعْمل بِهِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ علم أَن هَؤُلَاءِ لَا يتأخرون عَن آجالهم وَلَا يعْملُونَ شَيْئا، قد أخبر أَنهم ولدُوا على الْفطْرَة، أَي: الْإِسْلَام، وَأَن أباءهم يهودونهم وينصرونهم، كَمَا أَن الْبَهِيمَة تولد سليمَة من الجدع والخصا وَغير ذَلِك مِمَّا يعْمل النَّاس بهَا حَتَّى يصنع ذَلِك بهَا، وَكَذَلِكَ الْولدَان.

9956 - حدّثني إسْحَاقُ أخبرنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا مِنْ موْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فأبَواهُ يُهَوِّدانهِ ويُنَصِّرانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ البَهِيمَةَ، هَلْ تَجدُونَ فِيها مِنْ جَدْعاءَ حتَّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَها) . قالُوا: يَا رسولَ الله! أفَرَأيْتَ مَنْ يَمُوتُ وهْوَ صَغِير؟ قَالَ: (الله أعْلَمُ بِمَا كانُوا عامِلِينَ) . (انْظُر الحَدِيث 4831 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق قَالَ بَعضهم: هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه الْحَنْظَلِي، وَقَالَ الكلاباذي: يروي البُخَارِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الكوسج عَن عبد الرَّزَّاق.
قلت: كَلَامه يُشِير إِلَى أَن إِسْحَاق هُنَا يحْتَمل أَن يكون أحد الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين، لِأَن كلاًّ مِنْهُم روى عَن عبد الرَّزَّاق بن همام، وَجزم بَعضهم بِأَنَّهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، من أَيْن؟ وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن رَاشد، وَهَمَّام هُوَ ابْن مُنَبّه.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا من وَجه آخر عَن أبي هُرَيْرَة فِي آخر الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا قيل فِي أَوْلَاد الْمُشْركين، وَفِيه: أَو يُمَجِّسَانِهِ، كَمثل الْبَهِيمَة تنْتج الْبَهِيمَة هَل ترى فِيهَا جَدْعَاء؟ وَاقْتصر على هَذَا الْمِقْدَار.
قَوْله: (مَا من مَوْلُود) مُبْتَدأ (ويولد) خَبره لِأَن: من الاستغراقية فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم كَقَوْلِك: مَا أحد خير مِنْك، وَالتَّقْدِير: مَا مَوْلُود يُوجد على أَمر من الْأُمُور إلاَّ على هَذَا الْأَمر، وَهُوَ قَوْله: (على الْفطْرَة) أَي: على الْإِسْلَام، وَقيل: الْفطْرَة الْخلقَة وَالْمرَاد هُنَا القابلية لدين الْحق إِذْ لَو تركُوا وطبائعهم لما اخْتَارُوا دينا آخر. قَوْله: (ويهوِّدانه) أَي: يجعلانه يَهُودِيّا إِذا كَانَا من الْيَهُود، وينصِّرانه أَي: يجعلانه نَصْرَانِيّا إِذا كَانَا من النَّصَارَى، وَالْفَاء فِي (فابواه) إِمَّا للتعقيب وَهُوَ ظَاهر وَإِمَّا للتسبب أَي إِذا تقرر ذَلِك فَمن تغير كَانَ بِسَبَب أَبَوَيْهِ. قَوْله: (كَمَا) إِمَّا حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: يُهَوِّدَانِهِ، مثلا فَالْمَعْنى يهودان الْمَوْلُود بعد أَن خلق على الْفطْرَة شَبِيها بالبهيمة الَّتِي جدعت بعد أَن خلقت سليمَة، وَإِمَّا صفة مصدر

(23/149)


مَحْذُوف، أَي: يُغير أَنه تغييراً مثل تغييرهم الْبَهِيمَة السليمة. قَوْله: (تنتجون) على صِيغَة بِنَاء الْمَعْلُوم، وَقَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ: تنتجون، بِضَم أَوله من الإنتاج يُقَال: أنتج إنتاجاً قَالَ أَبُو عَليّ: يُقَال: أنتجت النَّاقة إِذا أعنتها على النِّتَاج، وَيقرب مِنْهُ مَا قَالَه فِي (الْمغرب) : نتج النَّاقة ينتجها نتجاً إِذا ولي نتاجها حَتَّى وضعت فَهُوَ ناتج، وَهُوَ للبهائم كالقابلة للنِّسَاء. قَوْله: (هَل تَجِدُونَ فِيهَا من جَدْعَاء) فِي مَوضِع الْحَال أَي: بَهِيمَة سليمَة مقولاً فِي حَقّهَا هَذَا القَوْل. قَوْله: (جَدْعَاء) أَي: مَقْطُوعَة الطّرف وَهُوَ من الجدع وَهُوَ قطع الْأنف وَقطع الْأذن أَيْضا وَقطع الْيَد والشفة.

4 - (بابٌ { (33) وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} (الْأَحْزَاب: 83)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} وَالْقدر بِالْفَتْح والسكون مَا يقدره الله من الْقَضَاء، وبالفتح اسْم لما صَدره مَقْدُورًا على فعل الْقَادِر كالهدم لما صدر عَن فعل الهادم، يُقَال: قدرت الشَّيْء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف بِمَعْنى فَهُوَ قدر، أَي: مَقْدُور، وَالتَّقْدِير: تبين الشَّيْء. قَوْله: {قدرا مَقْدُورًا} أَي: حكما مَقْطُوعًا بِوُقُوعِهِ، وَقَالَ الْمُهلب: غَرَضه فِي الْبَاب أَن يبين أَن جَمِيع مخلوقات الله عز وَجل بأَمْره بِكَلِمَة: كن، من حَيَوَان أَو غَيره وحركات الْعباد وَاخْتِلَاف إرادتهم وأعمالهم من الْمعاصِي أَو الطَّاعَات كل مُقَدّر بالأزمان والأوقات لَا زِيَادَة فِي شَيْء مِنْهَا وَلَا نُقْصَان عَنْهَا وَلَا تَأْخِير لشَيْء مِنْهَا عَن وقته وَلَا يقدم قبل وقته.

1066 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَسألِ المَرْأةُ طَلاَقَ أُخْتِها لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَها ولْتَنْكحْ، فإنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن لَهَا مَا قدر لَهَا) أَي: من الرزق، كَانَت للزَّوْج زَوْجَة أُخْرَى أَو لم تكن، وَلَا يحصل لَهَا من ذَلِك إلاَّ مَا كتبه الله لَهَا سَوَاء أجابها الزَّوْج أم لم يجبها.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب النِّكَاح فِي: بَاب الشُّرُوط الَّتِي لَا تحل فِي النِّكَاح فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يحل لإمرأة تسْأَل طَلَاق أُخْتهَا لتستفرغ صحفتها، فَإِن لَهَا مَا قدر لَهَا. وَهنا أخرجه عَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج.
قَوْله: (أُخْتهَا) الْأُخْت أَعم من أُخْت الْقَرَابَة أَو غَيرهَا من الْمُؤْمِنَات لِأَنَّهُنَّ أَخَوَات فِي الدّين، وَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْمَرْأَة أَن تسْأَل الرجل طَلَاق زَوجته لينكحها وَيصير لَهَا من نَفَقَته ومعاشرته مَا كَانَ للمطلقة، فَعبر عَن ذَلِك باستفراغ الصحفة، مجَازًا.

22066 - حدّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ حَدثنَا إسْرَائِيلُ عنْ عاصمٍ عنْ أبي عثْمانَ عنْ أُسامَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ جاءَهُ رسولُ إحْدَى بَناتِهِ وعِنْدَهُ سَعْد وأبَيُّ بنُ كَعْبٍ ومُعاذٌ أنَّ ابْنَها يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إلَيْها: (لله مَا أخَذَو لله مَا أعْطَى، كلٌّ بأجَلِ فَلْتَصْبرْ ولْتَحْتَسِبْ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كل بِأَجل) من الْأَمر الْمُقدر. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول، وَأَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن النَّهْدِيّ، وَأُسَامَة هُوَ ابْن زيد بن حَارِثَة الْكَلْبِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز عَن عَبْدَانِ وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَعِنْده سعد) هُوَ سعد بن عبَادَة، ومعاذ هُوَ ابْن جبل. قَوْله: (إِن ابْنهَا) ذكر كَذَلِك: ابْنهَا، فِي الْجَنَائِز وَذكر فِي كتاب المرضى: الْبِنْت. قَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث لم يضبطه الرَّاوِي فَأخْبر مرّة عَن صبي وَمرَّة عَن صبية. قَوْله: (يجود بِنَفسِهِ) يَعْنِي فِي السِّيَاق، يُقَال: جاد بِنَفسِهِ عِنْد الْمَوْت يجود جوداً. قَوْله: (فَلتَصْبِر ولتحتسب) وَلم يقل: فلتصبري لِأَنَّهَا كَانَت غَائِبَة وَالْغَائِب لَا يُخَاطب بِمَا يُخَاطب بِهِ الْحَاضِر، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّمَا خَاطب الرَّسُول وَلَو خَاطب الْمَأْمُور بِالصبرِ لقَالَ: فاصبري واحتسبي.

(23/150)


3066 - حدّثنا حِبَّان بنُ مُوسَى أخبرنَا عبْدُ الله أخبرنَا يُونُسُ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي عَبْدُ الله بنُ مُحَيْريزٍ الجُمَحِيُّ أنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ أخْبَرَهُ أنَّهُ: بَيْنَما هُوَ جالِسٌ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ رجُلٌ مِنَ الأنْصارِ، فَقَالَ: يَا رسولَ الله {إِنَّا نُصِيبُ سَبْباً ونحِبُّ المالَ، كَيْف تَرَى فِي العَزْل؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أوَ إنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لَا عَلَيْكُمْ أنْ لَا تَفْعَلُوا، فإنّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ الله أنْ تَخْرُجَ إلاّ هِيَ كائِنَةٌ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وحبان بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مُوسَى الْمروزِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْبيُوع عَن أبي الْيَمَان وَفِي النِّكَاح عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَفِي الْعتْق عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي التَّوْحِيد عَن إِسْحَاق بن عَفَّان. وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عبد الله بن مُحَمَّد وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعتْق عَن عَليّ بن حجر وَغَيره.
قَوْله: (رجل من الْأَنْصَار) قيل: إِنَّه أَبُو صرمة، وَقيل: مجدي الضمرِي. قَوْله: (سَببا) هُوَ الْجَوَارِي المسببات. قَوْله: (فِي الْعَزْل؟) وَهُوَ نزع الذّكر من الْفرج وَقت الْإِنْزَال. قَوْله: (لَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا) قيل: هُوَ على النَّهْي، وَقيل: على الْإِبَاحَة للعزل أَي: لكم أَن تعزلوا وَلَيْسَ فعل ذَلِك موؤدة. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الشَّأْن. قَوْله: (نسمَة) بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ النَّفس. قَوْله: (كتب الله) أَي: قدر الله (أَن تخرج) أَي: من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود.

4066 - حدّثنا مُوسَى بنُ مَسْعُودٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لَ قَدْ خَطَبَنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيها شَيْئاً إِلَى قِيامِ السَّاعَةِ إلاّ ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمْهُ وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إنْ كُنْتُ لأرَى الشَّيءَ قدْ نَسِيتُ فأعْرفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إذَا غَابَ عنهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (مَا ترك فِيهَا شَيْئا) أَي: من الْأُمُور الْمقدرَة من الكائنات.
ومُوسَى بن مَسْعُود هُوَ أَبُو حُذَيْفَة النَّهْدِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عُثْمَان بِهِ.
قَوْله: (إلاَّ ذكره) . وَفِي رِوَايَة: إلاَّ حدث بِهِ. قَوْله: (علمه من علمه وجهله من جَهله) وَفِي رِوَايَة جرير: حفظه من حفظه ونسيه من نَسيَه. قَوْله: (إِن كنت) كلمة: إِن، مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة. قَوْله: (قد نسيت) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: نَسِيته. قَوْله: (فأعرف مَا يعرف الرجل) ويروى: فأعرفه كَمَا يعرفهُ الرجل، الْمَعْنى: أنسى شَيْئا ثمَّ أذكرهُ فأعرف أَن ذَلِك بِعَيْنِه.

5066 - حدّثنا عَبْدانُ عنْ أبي حَمْزَةَ عَن الأعْمَشِ عنْ سَعْدِ بنِ عُبَيْدَةَ عنْ أبي عَبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأرْضِ، وَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أوْ مِنَ الجَنّةِ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: ألاَ نَتَّكِلُ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: (لَا} اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ، ثُمَّ قَرَأ { (92) فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 5) الآيَةَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَلا نَتَّكِل؟)
إِلَى آخِره، لِأَن مَعْنَاهُ: نعتمد على مَا قدره الله فِي الْأَزَل ونترك الْعَمَل.
وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان، وَقد تكَرر ذكره، وَأَبُو حَمْزَة بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي اسْمه مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي، وَسعد بن عُبَيْدَة مصغر عَبدة السّلمِيّ الْكُوفِي وَهُوَ صهر أبي عبد الرَّحْمَن شَيْخه فِي هَذَا الحَدِيث، وَأَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن حبيب من كبار التَّابِعين.

(23/151)


وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجَنَائِز فِي: بَاب موعظة الرجل عِنْد الْقَبْر، بأطول مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (جُلُوسًا) أَي: جالسين، ويروى عَن الْأَعْمَش: (قعُودا) ، جمع الْقَاعِد. قَوْله: (مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) عَن الْأَعْمَش: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَقِيع الْغَرْقَد) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْقَاف وبالدال الْمُهْملَة، وَهِي مَقْبرَة أهل الْمَدِينَة. قَوْله: (وَمَعَهُ عود) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: (وَبِيَدِهِ فَجعل ينكت بهَا فِي الأَرْض) . وَفِي رِوَايَة مَنْصُور: (مَعَه مخصرة) ، بِكَسْر الْمِيم وَهِي عَصا أَو قضيب يمسِكهُ الرئيس ليتوكأ عَلَيْهِ ولغير ذَلِك، وَمعنى: ينكت، بالنُّون بعد الْيَاء يضْرب. قَوْله: (أَو من الْجنَّة) كلمة: أَو، للتنويع وَوَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان مَا يشْعر بِأَنَّهَا بِمَعْنى: الْوَاو، وَقد تقدم من حَدِيث ابْن عمر: أَن لكل أحد مقعدين. قَوْله: (فَقَالَ رجل) ، وَهَذَا الرجل وَقع فِي حَدِيث جَابر عِنْد مُسلم أَنه سراقَة بن مَالك بن جعْشم. قَوْله: (أَلا نَتَّكِل؟) أَي: أَلا نعتمد على مَا قدره الله فِي الْأَزَل ونترك الْعَمَل؟ فَقَالَ: لَا إِذْ كل أحد ميسر لما خلق لَهُ، وَحَاصِله: أَن الْوَاجِب عَلَيْكُم مُتَابعَة الشَّرِيعَة لَا تَحْقِيق الْحَقِيقَة، وَالظَّاهِر لَا يتْرك للباطن. قَوْله: {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} (اللَّيْل: 5)
الْآيَة، وَفِي رِوَايَة سُفْيَان ووكيع: الْآيَات إِلَى قَوْله: {العسرى} .

5 - (بابٌ العَمَلُ بالخَواتِيمِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْعَمَل بالخواتيم أَي: بالعواقب، وَهُوَ جمع خَاتِمَة يَعْنِي: الِاعْتِبَار لحَال الشَّخْص عِنْد الْمَوْت قبل المعاينة لملائكة الْعَذَاب.

13 - (حَدثنَا حبَان بن مُوسَى أخبرنَا عبد الله أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَر فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرجل مِمَّن مَعَه يَدعِي الْإِسْلَام هَذَا من أهل النَّار فَلَمَّا حضر الْقِتَال قَاتل الرجل من أَشد الْقِتَال وَكَثُرت بِهِ الْجراح فأثبتته فجَاء رجل من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُول الله أَرَأَيْت الَّذِي تحدثت أَنه من أهل النَّار قد قَاتل فِي سَبِيل الله من أَشد الْقِتَال فكثرت بِهِ الْجراح فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أما إِنَّه من أهل النَّار فكاد بعض الْمُسلمين يرتاب فَبَيْنَمَا هُوَ على ذَلِك إِذْ وجد الرجل ألم الْجراح فَأَهوى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَته فَانْتزع مِنْهَا سَهْما فانتحر بهَا فَاشْتَدَّ رجال من الْمُسلمين إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا يَا رَسُول الله صدق الله حَدِيثك قد انتحر فلَان فَقتل نَفسه فَقَالَ رَسُول الله يَا بِلَال قُم فَأذن لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن وَإِن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الرجل الْمَذْكُور فِيهِ ختم عمله بالسوء وَإِنَّمَا الْعَمَل بالخاتمة وحبان بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن مُوسَى الْمروزِي وَعبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي بَاب أَن الله يُؤَيّد الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر وَمضى الْكَلَام فِيهِ قَوْله " خَيْبَر " أَي غَزْوَة خَيْبَر بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة قَوْله " لرجل اسْمه قزمان " بِضَم الْقَاف وَسُكُون الزَّاي قَوْله " مِمَّن يَدعِي الْإِسْلَام " أَي تلفظ بِهِ قَوْله " فَلَمَّا حضر الْقِتَال " بِالرَّفْع وَالنّصب قَالَه الْكرْمَانِي قلت الرّفْع على أَنه فَاعل حضر وَالنّصب على المفعولية أَي فَلَمَّا حضر الرجل الْقِتَال قَوْله الْجراح جمع جِرَاحَة قَوْله " فأثبتته " أَي أثخنته الْجراح وَجَعَلته سَاكِنا غير متحرك وَقيل صرعته صرعا لَا يقدر مَعَه على الْقيام قَوْله " يرتاب " أَي يشك فِي الدّين لأَنهم رَأَوْا الْوَعيد شَدِيدا قَوْله " فَبَيْنَمَا " أَصله بَين زيدت فِيهِ الْمِيم وَالْألف وَيَقَع بعده جملَة اسمية وَهِي قَوْله هُوَ كَذَلِك وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب وَهُوَ قَوْله إِذْ وجد الرجل أَي الرجل الْمَذْكُور قَوْله فَأَهوى بِيَدِهِ أَي مدها

(23/152)


إِلَى كِنَانَته فَانْتزع مِنْهَا سَهْما أَي فَأخْرج مِنْهَا نشابة فانتحر بهَا أَي نحر بهَا نَفسه قَوْله " فَاشْتَدَّ رجال " أَي فَأَسْرعُوا فِي السّير إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " فَأذن " أَي أعلم ويروى " فَأذن فِي النَّاس " -
7066 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ مَرْيَمَ حدّثنا أبُو غَسَّانَ حدّثني أبُو حازِمٍ عنْ سَهْلٍ أنَّ رَجُلاً مِنْ أعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عنِ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ غَزَاها مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَظَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (مَنْ أحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هاذَا!) فاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ وهْوَ عَلى تِلْكَ الحَالِ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَلى المُشْرِكِينَ حتَّى جُرِحَ فاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَجَعَلَ ذُبابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فأقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْرِعاً فَقَالَ: أشْهَدُ أنَّكَ رسولُ الله، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالَ: قُلْتَ لِفُلانٍ: مَنْ أحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أهْل النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ أعْظَمِنا غَناءً عنِ المُسْلِمِينَ، فَعَرَفْتُ أنّهُ لَا يَمُوتُ عَلى ذالِكَ، فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ المَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَ ذالِكَ: (إِن العَبْدَ لَيَعْمَلُ عمَلَ أهْلِ النَّارِ وإنّهُ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، ويَعْمَلُ عَمَلَ أهْل الجَنّةِ وإنّهُ مِنْ أهْلِ النَّارِ، وإنَّما الأعْمالُ بالخَواتِيمِ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَأَبُو غَسَّان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة مُحَمَّد بن مطرف، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب لَا يَقُول فلَان شَهِيدا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ وَفِي (التَّوْضِيح) : إِن حدثت أبي هُرَيْرَة السَّابِق وَهَذَا الحَدِيث قصَّة وَاحِدَة، وَإِن الرَّاوِي نقل على الْمَعْنى، وَيحْتَمل أَن يَكُونَا رجلَيْنِ.
قَوْله: (غناء) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالْمدّ، يُقَال: أغْنى عَنهُ غناء فلَان، أَي: نَاب عَنهُ، وأجرى مجْرَاه، وَمَا فِيهِ غناء ذَاك أَي: الاضطلاع وَالْقِيَام عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن ولاد: الْغناء بِالْفَتْح وَالْمدّ النَّفْع، والغنا بِالْكَسْرِ وَالْقصر ضد الْفقر وبالمد الصَّوْت. قَوْله: (فِي غَزْوَة) هِيَ: غَزْوَة خَيْبَر. قَوْله: (فَلْينْظر إِلَى هَذَا) أَي: إِلَى هَذَا الرجل، وَهُوَ قزمان أَو غَيره إِن كَانَ قضيتان. قَوْله: (حَتَّى جرح) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ذُبَابَة سَيْفه) ، الذبابة بِضَم الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ الطّرف، قيل: فِي الحَدِيث السَّابِق أَنه نحر نَفسه بِالسَّهْمِ، وَهنا قَالَ بالذبابة. وَأجِيب: إِن كَانَت الْقِصَّة وَاحِدَة فَلَا مُنَافَاة لاحْتِمَال استعمالهما كليهمَا، وَإِن كَانَت قصتين فظاهرة. قَوْله: (بَين ثدييه) ، قَالَ ابْن فَارس: الثندؤة بِالْهَمْزَةِ للرجل والثدي للْمَرْأَة. والْحَدِيث يرد عَلَيْهِ، وَلذَلِك جعله الْجَوْهَرِي للرجل أَيْضا. قَوْله: (وَإِنَّمَا الْأَعْمَال) أَي: اعْتِبَار الْأَعْمَال بالعواقب.
وَفِيه: حجَّة قَاطِعَة على الْقَدَرِيَّة فِي قَوْلهم: إِن الْإِنْسَان يملك أَمر نَفسه ويختار لَهَا الْخَيْر وَالشَّر.

6 - (بابُ إلقاءِ النذْرِ العَبْدَ إِلَى القَدَر)

أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِلْقَاء النّذر، إِلْقَاء مصدر يُضَاف إِلَى فَاعله وَهُوَ النّذر، وَالْعَبْد مَنْصُوب على المفعولية هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب إِلْقَاء العَبْد النّذر، فإعرابه بعكس ذَاك، وَالْمعْنَى: أَن العَبْد إِذا نذر لدفع شَرّ أَو لجلب خير فَإِن نَذره يلقيه إِلَى الْقدر الَّذِي فرغ الله مِنْهُ وأحكمه، لَا أَنه شَيْء يختاره، فمهما قدره الله هُوَ الَّذِي يَقع، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث الْبَاب: إِن النّذر لَا يرد شَيْئا، وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل، وَمَتى اعْتقد خلاف ذَلِك قد جعل نَفسه مشاركاً لله تَعَالَى فِي خلقه، ومجوزاً عَلَيْهِ مَا لم يقدره تَعَالَى الله عَن ذَلِك.

8066 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدّثنا سُفْيانُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةً عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي

(23/153)


الله عَنْهُمَا، قَالَ: نَهاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النذْرِ وَقَالَ: (لَا يَرُدُّ شَيْئاً وإنَّما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن النّذر يلقِي العَبْد إِلَى الْقدر وَلَا يرد شَيْئا، وَالْقدر هُوَ الَّذِي يعْمل عمله.
وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَعبد الله بن مرّة بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء الْهَمدَانِي يروي عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النذور عَن خَلاد بن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي النذور أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمر بن مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن عَليّ بن مُحَمَّد.
قَوْله: (إِنَّه) أَي: إِن النّذر لَا يرد شَيْئا قيل: النّذر الْتِزَام قربَة فَلم يكن مَنْهِيّا؟ وَأجِيب: بِأَن الْقرْبَة غير منهية لَكِن التزامها مَنْهِيّ، إِذْ رُبمَا لَا يقدر على الْوَفَاء، وَقيل: الصَّدَقَة ترد الْبلَاء وَهَذَا الْتِزَام الصَّدَقَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من رد الصَّدَقَة التزامها، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا بَاب غَرِيب من الْعلم وَهُوَ: أَن يُ نهى عَن الشَّيْء أَن يفعل، حَتَّى إِذا فعل وَقع وَاجِبا، وَفِي لفظ: إِنَّمَا يسْتَخْرج، دَلِيل على وجوب الْوَفَاء وَفِي (التَّوْضِيح) : النّذر ابْتِدَاء جَائِز، والمنهي عَنهُ الْمُعَلق، كَأَنَّهُ يَقُول: لَا أفعل خيرا يَا رب حَتَّى تفعل بِي خيرا، فَإِذا دخل فِيهِ فَعَلَيهِ الْوَفَاء.

9066 - حدّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا مَعَمرٌ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يأْتِي ابنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قدْ قَدَّرْتُهُ، ولَكِنْ يلْقِيهِ القَدَرُ، وقَدْ قدَّرْتُهُ لهُ اسْتَخْرِج بِهِ مِنَ البَخِيلِ) .

قيل: لَا يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة. والمطابق أَن يَقُول: إِلْقَاء الْقدر العَبْد إِلَى النّذر، لِأَن لفظ الحَدِيث يلقيه الْقدر.
قلت: فِي رِوَايَة الْكشميهني: يلقيه النّذر، وَمن عَادَة البُخَارِيّ أَنه يترجم بِمَا ورد فِي بعض طرق الحَدِيث وَإِن لم يسق ذَلِك اللَّفْظ بِعَيْنِه، وَقد غفل عَمَّا فِي رِوَايَة الْكشميهني من الْمُطَابقَة فَلذَلِك ادّعى عدم الْمُطَابقَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: التَّرْجَمَة مَقْلُوبَة إِذْ الْقدر يلقِي العَبْد إِلَى النّذر لقَوْله: (يلقيه الْقدر) .
قلت: هما صادقان، إِذْ بِالْحَقِيقَةِ الْقدر هُوَ الْموصل وبالظاهر هُوَ النّذر، لَكِن كَانَ الأولى فِي التَّرْجَمَة الْعَكْس ليُوَافق الحَدِيث إلاّ أَن يُقَال إنَّهُمَا متلازمان. انْتهى.
قلت: لَو وقف الْكرْمَانِي أَيْضا على رِوَايَة الْكشميهني لما تكلّف فِيمَا تعسف.
وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد الشختياني الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد، وَهَمَّام بن مُنَبّه بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (لَا يَأْتِي ابْن آدم) فَاعل: لَا يَأْتِي، النّذر، وَابْن آدم مَفْعُوله. وَهُوَ قريب من معنى قَوْله فِي الحَدِيث السَّابِق: إِنَّه لَا يرد شَيْئا قد وَقع. قَوْله: (لَا يَأْتِي) بِالْيَاءِ فِي الْأُصُول، وَفِي رِوَايَة أبي الْحسن: لَا يأتِ، بِدُونِ الْيَاء كَأَنَّهُ كتبه على الْوَصْل مثل قَوْله: {سَنَدع الزَّبَانِيَة} (العلق: 81) بِغَيْر وَاو. قَوْله: (لم يكن قدرته) صفة لقَوْله: بِشَيْء قَالَ الْكرْمَانِي: وَقدرته بِصِيغَة الْمُتَكَلّم، ويروى: قدر بِهِ، بِلَفْظ الْمَجْهُول الْغَائِب وَالْجَار وَالْمَجْرُور. قَوْله: (وَلَكِن يلقيه الْقدر) من الْإِلْقَاء، وَيُقَال: معنى، لم يكن قدرته، أما مَا قدرت عَلَيْهِ الشدَّة فيحملها عَنهُ وَالنّذر لَا يحل عَنهُ الشدَّة بنذره، وَيكون ذَلِك النّذر استخرجه من الْبَخِيل للشدة الَّتِي عرضت لَهُ. قَوْله: (وَلَكِن يلقيه الْقدر) من الْإِلْقَاء، وَقيل: بِالْفَاءِ وَالْقَاف. قَوْله: (استخرج) بِلَفْظ الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع.

7 - (بابُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلاّ بِاللَّه)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَمعنى: لَا حول لَا تَحْويل للْعَبد فِي مَعْصِيّة الله إلاّ بعصمة الله، وَلَا قُوَّة لَهُ على طَاعَة الله إِلَّا بِتَوْفِيق الله. وَقيل: معنى لَا حول لَا حِيلَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ كلمة استسلام وتفويض، وَأَن العَبْد لَا يملك من أمره شَيْئا لَيْسَ لَهُ حِيلَة فِي دفع شَرّ وَلَا قُوَّة فِي جلب خير إلاَّ بِإِرَادَة الله عز وَجل.

(23/154)


0166 - حدّثني مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أبُو الحَسَنِ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا خالِدٌ الحَذَّاءُ عنْ أبي عثْمانَ النَّهْدِيِّ عنْ أبي مُوسَى قَالَ: كُنّا مَعَ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزاةٍ، فَجَعَلْنا لَا نَصْعَدُ شَرَقاً وَلَا نَعْلُو شَرَقاً وَلَا نَهْبِطُ فِي وادٍ إلاّ رَفَعْنا أصْوَاتَنا بالتَّكْبِيرِ، قَالَ: فَدَنا مِنّا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (يَا أيُّها النّاس أرْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، فإنَّكُم لَا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلَا غائِباً، إنَّما تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً) ثُمَّ قَالَ: (يَا عَبْدَ الله بنَ قَيْسٍ! ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك. وَأَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ عبد الرَّحْمَن بن مل، وَأَبُو مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الدَّعْوَات فِي: بَاب الدُّعَاء إِذا علا عقبَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن أبي عُثْمَان عَن أبي مُوسَى ... إِلَى آخِره، وَمضى أَيْضا فِي الْجِهَاد فِي: بَاب مَا يكره من رفع الصَّوْت فِي التَّكْبِير، أخرجه عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن عَاصِم عَن أبي عُثْمَان عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
قَوْله: (فِي غزَاة) هِيَ غَزْوَة خَيْبَر، والشرف الْموضع العالي. قَوْله: (أربعوا) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: أرفقوا بِأَنْفُسِكُمْ واخفضوا أَصْوَاتكُم، يُقَال: ربع الرجل إِذا توقف وانحبس. قَوْله: (أَصمّ) ويروى: أصماً. قَوْله: (يَا عبد الله بن قيس) هُوَ اسْم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. قَوْله: (هِيَ من كنوز الْجنَّة) يَعْنِي: أَن لَهُ ثَوابًا مدخراً نفيساً كالكنز فَإِنَّهُ من نفائس مدخراتكم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَعْنى أَن قَوْلهَا يحصل ثَوابًا نفيساً مدخراً لصَاحبه فِي الْجنَّة.

8 - (بابٌ المَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ الله)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمَعْصُوم من عصمَة الله بِأَن حماه عَن الْوُقُوع فِي الْهَلَاك، يُقَال: عصمه الله من الْمَكْرُوه وَقَاه وَحفظه، وَالْفرق بَين عصمَة الْمُؤمنِينَ وعصمة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، أَن عصمَة الْأَنْبِيَاء بطرِيق الْوُجُوب، وَفِي حق غَيرهم بطرِيق الْجَوَاز.
عاصِمٌ: مانِعٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير: {لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله} (هود: 34) أَي لَا مَانع.
قَالَ مُجاهِدٌ: سُداً عنِ الحَقِّ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلاَلَةِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير سدًى فِي قَوْله عز وَجل: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} (الْقِيَامَة: 63) بقوله: يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَة، وَقَالَ بَعضهم: سداً بتَشْديد الدَّال بعْدهَا ألف، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سداً} (يس: 9) قَالَ: عَن الْحق، ثمَّ قَالَ: ورأيته فِي بعض نسخ البُخَارِيّ: سدى، بتَخْفِيف الدَّال مَقْصُور، وَعَلِيهِ شرح الْكرْمَانِي ثمَّ قَالَ: وَلم أر فِي شَيْء من نسخ البُخَارِيّ إلاَّ الَّذِي أوردته. انْتهى.
قلت: هَذَا كَلَام ينْقض آخِره أَوله، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا، ورأيته فِي بعض نسخ البُخَارِيّ سدًى بتَخْفِيف الدَّال، ثمَّ قَالَ: وَلم أر فِي شَيْء من نسخ البُخَارِيّ إلاَّ الَّذِي أوردته، وَمَعَ هَذَا هُوَ لم يطلع على جَمِيع نسخ البُخَارِيّ، وَهَذَا لَا يتَصَوَّر إلاَّ بالتعسف فِي النّسخ الَّتِي فِي مدينته، وَأما النّسخ الَّتِي فِي بِلَاد كرمان وبلخ وخراسان فَمن أَيْن يتَصَوَّر لَهُ الِاطِّلَاع عَلَيْهِمَا؟
دَسَّاها أغْوَاها
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَقد خَابَ من دساها} (الشَّمْس: 01) بقوله: أغواها. وَأخرج الطَّبَرِيّ بِسَنَد صَحِيح عَن حبيب بن ثَابت عَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير فِي قَوْله: دساها، قَالَ أَحدهمَا: أغواها، وَقَالَ الآخر: أضلها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مُنَاسبَة الْآيَتَيْنِ بالترجمة بَيَان أنّ من لم يعصمه الله كَانَ سدًى ومغوًى.

(23/155)


1166 - حدّثنا عَبْدَانُ أخبرنَا عَبْدُ الله أخْبَرَنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدّثني أبُو سَلَمَةَ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا اسْتُخْلِفَ خلِيفةٌ إلاّ لهُ بِطانتانِ: بِطانَةٌ تأمُرُهُ بالخَيْرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وبِطانَةٌ تأمُرُهُ بالشَّرِّ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، والمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ الله) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام عَن إصبغ: وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيعَة وَفِي السّير عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
قَوْله: (بطانتان) ، البطانة بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة الصاحب الوليجة المشاور وَهُوَ اسْم جنس يَشْمَل الْوَاحِد وَالْجمع. قَوْله: (ويحضه) أَي: يحثه. قَوْله: (وبطانة تَأمره بِالشَّرِّ) قَالَ الْكرْمَانِي: لفظ: تَأمره، دَلِيل على أَنه لَا يشْتَرط فِي الْأَمر الْعُلُوّ وَلَا الاستعلاء.

9 - (بابٌ {وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 59) {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} (هود: 63) {وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} (نوح: 72)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحرَام} ... إِلَى آخِره. قَالَ الْكرْمَانِي: الْغَرَض من هَذِه الْآيَات أَن الْإِيمَان وَالْكفْر بِتَقْدِير الله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَحرم على قَرْيَة أهلكناها} الْآيَة وَفِي رِوَايَة غَيره: {وَحرَام} إِلَى آخر الْآيَة، والقراءاتان مشهورتان فَقَرَأَ أهل الْحجاز وَالْبَصْرَة وَالشَّام: حرَام، وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة: وَحرم.
وَقَالَ منْصُورُ بنُ النُّعْمانِ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: وحِرْمٌ بالحَبَشِيَّةِ: وجَبَ.
مَنْصُور بن النُّعْمَان الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ، سكن مرو ثمَّ بخاري وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَنْصُور بن النُّعْمَان فِي النّسخ هَكَذَا، لَكِن قَالُوا: صَوَابه مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر السّلمِيّ الْكُوفِي، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو جَعْفَر عَن ابْن قهزاد عَن أبي عوَانَة عَنهُ، هَكَذَا قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) : وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقَالَ بَعضهم: لم أَقف على ذَلِك فِي (تَفْسِير أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ)
قلت: هَذَا مُجَرّد تشنيع، وَعدم وُقُوفه على هَذَا لَا يسْتَلْزم عدم وقُوف غَيره، وَنسخ الطَّبَرِيّ كَثِيرَة فَلَا تَخْلُو عَن زِيَادَة ونقصان. قَوْله: (وَحرم بالحبشية وَجب) يَعْنِي: معنى حرم باللغة الحبشية وَجب، وروى غير عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: وَجب عَلَيْهِم أَنهم لَا يتوبون، يَعْنِي فِي تَفْسِير قَوْله عز وَجل: {وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 59) وَعَن أبي هُرَيْرَة: لَا، هُنَا زَائِدَة، وَذهب إِلَى أَن حَرَامًا على بَابه، وَأنكر البصريون زِيَادَة: لَا، هُنَا. وَقيل: الْمَعْنى: وَحرَام أَن يتَقَبَّل مِنْهُم عمل لأَنهم لَا يرجعُونَ، أَي: لَا يتوبون، وَكَذَا قَالَ الزّجاج، وَقيل: الْحَرَام الْمَنْع، فَالْمَعْنى حرَام عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ الْمُهلب: وَجب عَلَيْهِم أَنهم لَا يتوبون، وَحرم وَحرَام بِمَعْنى وَاحِد، وَالتَّقْدِير: وَحرَام على قَرْيَة أردنَا إهلاكها التَّوْبَة من كفرهم، وَهَذَا كَقَوْلِه: {إِنَّه لن يُؤمن من قَوْمك إلاَّ من قد آمن} (هود: 63) أَي: تقدم علم الله فِي قوم نوح أَنه لن يُؤمن مِنْهُم غير من آمن، وَلذَلِك قَالَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} (نوح: 62) إِلَى قَوْله: {فَاجِرًا كفَّارًا} (نوح: 62) إِذا قد اعلمتني {إِنَّه لن يُؤمن مِنْهُم إلاّ من قد آمن} (هود: 63) وأهلكهم لعلمه تَعَالَى أَنهم لَا يرجعُونَ إِلَى الْإِيمَان.

2166 - حدّثني مَحْمُودُ بنُ غَيْلاَنَ حَدثنَا عبْدُ الرَّزَّاق أخبرَنا مَعَمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوس عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رأيْتُ شَيْئاً أشْبهَ باللّمَمِ مِمَّا قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّ الله كَتَبَ عَلَى ابنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدْرَكَ ذَلِكَ لَا مْحالَةَ، فَزِنا العيْنِ النَّظَرُ وزِنا اللِّسانِ المَنْطِقُ، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ ويُكَذِّبُهُ) . (انْظُر الحَدِيث 3426) .

مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ الْآيَات الَّتِي تدل على أَن كل شَيْء غير خَارج عَن سَابق قدره، وَكَذَلِكَ حَدِيث الْبَاب، لِأَن الزِّنَا

(23/156)


ودواعيه كل ذَلِك مَكْتُوب مُقَدّر على العَبْد غير خَارج من سَابق قدره.
ومحمود بن غيلَان بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَمعمر هُوَ ابْن رَاشد، وَابْن طَاوس هُوَ عبد الله يروي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَوْله: (مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم) بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ صغَار الذُّنُوب، وَأَصله: مَا يلم بِهِ الشَّخْص من شهوات النَّفس، وَالْمَفْهُوم من كَلَام ابْن عَبَّاس أَنه النّظر، والنطق. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد بِهِ المعفو عَنهُ الْمُسْتَثْنى فِي كتاب الله: {الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم} (النَّجْم: 23) وسمى الْمنطق وَالنَّظَر زنا لِأَنَّهُمَا من مقدماته، وَحَقِيقَته، إِنَّمَا يَقع بالفرج، وَعَن ابْن عَبَّاس: اللمم أَن يَتُوب من الذُّنُوب وَلَا يعاودها، وروى عَنهُ: كل مَا دون الزِّنَا فَهُوَ اللمم. قَوْله: (فزنا الْعين النّظر) أَي: النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: العينان تزنيان بِالنّظرِ، والشفتان تزنيان وزناهما التَّقْبِيل، وَالْيَدَانِ تزنيان وزناهما اللَّمْس، وَالرجلَانِ تزنيان وزناهما الْمَشْي، وَقيل: إِنَّمَا سميت هَذِه الْأَشْيَاء زنا لِأَنَّهَا دواعي إِلَيْهِ. قَوْله: (لَا محَالة) بِفَتْح الْمِيم أَي: لَا بُد لَهُ من ذَلِك وَلَا تحول لَهُ عَنهُ. قَوْله: (تمنى) أَصله: تتمني، فحذفت مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قَوْله: (والفرج يصدق ذَلِك ويكذبه) يَعْنِي: إِذا قدر على الزِّنَا فِيمَا كَانَ فِيهِ النّظر، وَالتَّمَنِّي كَانَ زنا صدق ذَلِك فرجه، وَإِن امْتنع وَخَافَ ربه كذب ذَلِك فرجه، وتكتب لَهُ حسنه. قيل: التَّصْدِيق والتكذيب من صِفَات الْإِخْبَار. وَأجِيب بِأَن إطلاقهما هُنَا على سَبِيل التَّشْبِيه.
وَقَالَ شَبابَةُ: حدّثنا ورْقاءُ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبي هُرَيرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
شَبابَة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة. وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى ابْن سوار بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو وبالراء الْفَزارِيّ روى عَنهُ مَحْمُود، وورقاء مؤنث الأورق بِالْوَاو وبالراء وَالْقَاف ابْن عمر الْخَوَارِزْمِيّ سكن الْمَدِينَة، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن طاووساً سمع الْقِصَّة من ابْن عَبَّاس عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا. وَالظَّاهِر أَنه سَمعه من أبي هُرَيْرَة بعد أَن سَمعه من ابْن عَبَّاس، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق صَاحب (التَّلْوِيح) فَقَالَ: روينَاهُ فِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الْأَوْسَط) فَقَالَ: حَدثنَا عمر بن عُثْمَان حَدثنَا ابْن الْمُنَادِي عَنهُ، فَذكره وَتَبعهُ فِي ذَلِك صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقَالَ بَعضهم: راجعت (المعجم الْأَوْسَط) : فَلم أجد هَذَا فِيهِ.
قلت: صَاحب (التَّلْوِيح) : يُصَرح بِأَنَّهُ رَوَاهُ، وَتَبعهُ أَيْضا صَاحب (التَّوْضِيح) : الَّذِي هُوَ شيخ هَذَا الْقَائِل مَعَ علمه بِأَن الْمُثبت مقدم على النَّافِي، وَلَكِن عرق العصبية ينبض فَيُؤَدِّي صَاحبهَا إِلَى حط من هُوَ أكبر مِنْهُ فِي الْعلم وَالسّن والقدم.

01 - (بابُ {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} (الْإِسْرَاء: 06)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا} ... إِلَى آخِره. قَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا} الْآيَة قَالَ قوم: هِيَ رُؤْيا عين مَا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة الْمِعْرَاج من الْعَجَائِب والآيات فَكَانَ ذَلِك فتْنَة للنَّاس، فقوم أَنْكَرُوا وكذبوا وَقوم ارْتَدُّوا وَقوم حدثوا. قَوْله: (إلاَّ فتْنَة) أَي: بلَاء للنَّاس، وَقيل: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بني أُميَّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذَلِك، فَمَا استجمع ضَاحِكا حَتَّى مَاتَ. فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك} ... الْآيَة، وَقيل: إِنَّمَا فتن النَّاس بالرؤيا والشجرة لِأَن جمَاعَة ارْتَدُّوا، وَقَالُوا: كَيفَ سرى بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس فِي لَيْلَة وَاحِدَة، وَقَالُوا: لما أنزل الله تَعَالَى شَجَرَة الزقوم كَيفَ تكون فِي النَّار شَجَرَة لَا تأكلها؟ فَكَانَت فتْنَة لقوم واستبصاراً لقوم مِنْهُم أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَيُقَال: إِنَّه سمي صديقا ذَلِك الْيَوْم، وأصل الْفِتْنَة فِي الأَصْل الاختبار، ثمَّ اسْتعْملت فِي الْكفْر كَقَوْلِه تَعَالَى: {والفتنة أَشد من الْقَتْل} (الْبَقَرَة: 191) وَفِي الْإِثْم كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} (التَّوْبَة: 94) ، وَفِي الإحراق كَقَوْلِه: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (البروج: 01) وَفِي الْإِزَالَة عَن الشَّيْء كَقَوْلِه: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك} (الْإِسْرَاء: 37) وَغير ذَلِك، وَالْمرَاد بهَا فِي هَذَا الْموضع: الاختبار.

20 - (حَدثنَا الْحميدِي حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا عَمْرو عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس قَالَ هِيَ رُؤْيا عين أريها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس قَالَ والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن قَالَ هِيَ شَجَرَة الزقوم)

(23/157)


قَالَ ابْن التِّين وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْقدر الْإِشَارَة إِلَى أَن الله تَعَالَى قدر للْمُشْرِكين التَّكْذِيب لرؤيا نبيه الصَّادِق فَكَانَ ذَلِك زِيَادَة فِي طغيانهم والْحميدِي عبد الله بن الزبير نسبته إِلَى أحد أجداده حميد مصغر حمد وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْإِسْرَاء عَن عَليّ بن عبد الله وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يحيى وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور قَوْله رُؤْيا عين أَي فِي الْيَقَظَة لَا رُؤْيا مَنَام قَوْله والشجرة الملعونة يَعْنِي شَجَرَة الزقوم الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن والشجرة مُبْتَدأ وَخَبره هِيَ شَجَرَة الزقوم وَإِنَّمَا ذكر الشَّجَرَة الملعونة لِأَنَّهَا مثل الرُّؤْيَا كَانَت فتْنَة وَقد ذكرنَا كَيفَ كَانَت فتْنَة والزقوم شَجَرَة بجهنم طَعَام أهل النَّار فَإِن قلت لم يذكر فِي الْقُرْآن لعن هَذِه الشَّجَرَة قلت قد لعن آكلوها وهم الْكفَّار قَالَ تَعَالَى {إِن شَجَرَة الزقوم طَعَام الأثيم} وَقَالَ {إِنَّهَا شَجَرَة تخرج فِي أصل الْجَحِيم} وَقَالَ فَإِنَّهُم {لآكلون مِنْهَا فمالؤون مِنْهَا الْبُطُون} فوصفت بلعن آكليها وَقيل طَعَام مَكْرُوه مَلْعُون ثمَّ إِن هَذِه الشَّجَرَة تنْبت فِي النَّار مخلوقة من جَوْهَر لَا تَأْكُله النَّار كسلاسل النَّار وأغلالها وعقاربها وحياتها -
11 - (بابٌ تَحاجَّ آدَمُ ومُوسَى عَلَيْهِما السَّلامُ، عِنْدَ الله عَزَّ وجَلَّ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ تحاج آدم ومُوسَى. قَوْله: (تحاج) ، فعل ماضٍ من المحاججة وَأَصله: تحاجج، بجيمين فادغمت إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى. قَوْله: (عِنْد الله) ، قيل: يَعْنِي: فِي يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: فِي الدُّنْيَا.
قلت: اللَّفْظ أَعم من ذَلِك وَقد روى أَحْمد من طَرِيق يزِيد بن هُرْمُز عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: احْتج آدم ومُوسَى عِنْد ربهما، والعندية عندية اخْتِصَاص وتشريف لَا عندية مَكَان.

4166 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدّثنا سُفْيانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍ وعنْ طاوُوسٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (احْتَجَّ آدَمُ ومُوسَى) فَقَالَ لهُ مُوسَى: يَا آدَمُ {أنْتَ أبُونا خَيَّبْتَنا وأخْرَجْتَنا مِنَ الجَنَّة، قَالَ لهُ آدَمُ: يَا مُوسَى} اصْطَفاكَ الله بكَلاَمِهِ وخَطّ لَكَ بِيَدِهِ، أتَلُومُنِي عَلَى أمْرٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي بأرْبَعِينَ سَنَة؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوَسَى، فحَجَّ آدَمُ مُوسَى)
ثَلاَثاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسفاين هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقدر أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد وَأحمد بن صَالح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن هِشَام بن عمار وَغَيره.
قَوْله: (حفظناه من عَمْرو) وَفِي (مُسْند الْحميدِي) : عَن سُفْيَان حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، وَفِيه التَّأْكِيد لصِحَّة رِوَايَته. قَوْله: (احْتج) أَي: تحاج وتناظر، وَفِي رِوَايَة همام وَمَالك: تحاج، كَمَا فِي التَّرْجَمَة، وَهِي أوضح، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عِنْد البُخَارِيّ وَيحيى بن آدم: حج آدم مُوسَى وَعَلَيْهِمَا (شرح الطَّيِّبِيّ) فَقَالَ: معنى قَوْله: (حج آدم مُوسَى) غَلبه بِالْحجَّةِ. وَقَوله: بعد ذَلِك (قَالَ مُوسَى: يَا آدم أَنْت)
إِلَى آخِره، توضيح لذَلِك وَتَفْسِير لما أجمل. وَقَوله فِي آخِره (فحج آدم ومُوسَى) تَقْرِير لما سبق وتأكيد لَهُ. قَوْله: (أَنْت أَبونَا) وَفِي رِوَايَة ابْن أبي كثير: أَنْت أَبُو النَّاس، وَفِي رِوَايَة الشّعبِيّ: أَنْت آدم أَبُو الْبشر. قَوْله: (خيبتنا) أَي: أوقعتنا فِي الخيبة وَهِي الحرمان. قَوْله: (وأخرجتنا من الْجنَّة) وَهِي دَار الْجَزَاء فِي الْآخِرَة وَهِي مخلوقة قبل آدم. قَوْله: (وَخط لَك بِيَدِهِ) من المتشابهات فإمَّا أَن يُفَوض إِلَى الله تَعَالَى، وَإِمَّا أَن يؤول بِالْقُدْرَةِ، وَالْغَرَض مِنْهُ كِتَابَة أَلْوَاح التَّوْرَاة. قَوْله: (على أَمر قدره الله) ويروى: قدر الله، بِدُونِ الضَّمِير، وَهِي رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَالْمرَاد بالتقدير هُنَا الْكِتَابَة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَو فِي صحف التَّوْرَاة، وإلاَّ فتقدير الله أزلي. قَوْله: (بِأَرْبَعِينَ سنة) قَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالأربعين سنة مَا بَين قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} (الْبَقَرَة: 03) إِلَى نفخ الرّوح فِي آدم، وَقيل: ابْتِدَاء الْمدَّة وَقت الْكِتَابَة فِي الألواح وَآخِرهَا ابْتِدَاء خلق آدم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: المعلومات كلهَا قد أحَاط بهَا علم الله الْقَدِيم قبل وجود الْمَخْلُوقَات كلهَا. وَلَكِن كتَابَتهَا وَقعت فِي أَوْقَات مُتَفَاوِتَة، وَقد ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) : إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة، فَيجوز أَن تكون

(23/158)


قصَّة آدم بخصوصها كتبت قبل خلقه بِأَرْبَعِينَ سنة، وَيجوز أَن يكون ذَلِك الْقدر مُدَّة لبثه طيناً إِلَى أَن نفخت فِيهِ الرّوح، فقد ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) : أَن بَين تَصْوِيره طيناً وَنفخ الرّوح فِيهِ كَانَ مُدَّة أَرْبَعِينَ سننة، وَلَا يُخَالف ذَلِك كِتَابَة الْمَقَادِير عُمُوما قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة. فَإِن قلت: وَقع فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أتلومني على أَمر قدره لله عَليّ قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ .
قلت: تحمل مُدَّة الْأَرْبَعين سنة على مَا يتَعَلَّق بِالْكِتَابَةِ، وَيحمل الآخر على مَا يتَعَلَّق بِالْعلمِ. قَوْله: (فحج آدم مُوسَى) ، آدم مَرْفُوع بِلَا خلاف وشذ بعض النَّاس فقرأه بِالنّصب على أَن آدم الْمَفْعُول ومُوسَى فِي مَحل الرّفْع على أَنه الْفَاعِل، نَقله الْحَافِظ أَبُو بكر بن الْخَاصَّة عَن مَسْعُود بن نَاصِر السجْزِي الْحَافِظ، قَالَ: سمعته يقْرَأ: فحج آدم، بِالنّصب قَالَ: وَكَانَ قدرياً. وَقد روى أَحْمد من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (فحجه آدم) ، وَهَذَا يقطع الْإِشْكَال فَإِن رُوَاته أَئِمَّة حفاظ، وَالزهْرِيّ من كبار الْفُقَهَاء الْحفاظ، وَمعنى: فحج أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ، يُقَال: حاججت فلَانا فحججته مثل خاصمته فَخَصمته، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّا حجه آدم فِي رفع اللوم إِذْ لَيْسَ لأحد من الْآدَمِيّين أَن يلوم أحدا بِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّك تعلم أَنه مُقَدّر فَلَا تلمني، وَأَيْضًا اللوم شَرْعِي لَا عَقْلِي، وَإِذا تَابَ الله عَلَيْهِ وَغفر لَهُ ذَنبه زَالَ عَنهُ اللوم فَمن لامه كَانَ محجوجاً. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي قَالَ: حج آدم مُوسَى ثَلَاث مَرَّات، وَفِي حَدِيث رَوَاهُ عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن الْأَعْرَج. (لقد حج آدم مُوسَى، لقد حج آدم مُوسَى، لقد آدم حج مُوسَى) .
فَإِن قلت: مَتى كَانَ ملاقاة آدم ومُوسَى؟ .
قلت: قيل يحْتَمل أَن يكون فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَحْيَا الله لَهُ آدم معْجزَة لَهُ فَكَلمهُ أَو كشف لَهُ عَن قَبره فتحدثا، أَو أرَاهُ الله روحه كَمَا أرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة الْمِعْرَاج أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، أَو أرَاهُ الله فِي الْمَنَام رُؤْيا، ورؤيا الْأَنْبِيَاء وَحي، أَو كَانَ ذَلِك بعد وَفَاة مُوسَى فَالْتَقَيَا فِي البرزخ أول مَا مَاتَ مُوسَى فالتقت أرواحهما فِي السَّمَاء، وَبِذَلِك جزم ابْن عبد الْبر والقابسي، أَو أَن ذَلِك لم يَقع، وَإِنَّمَا يَقع بعد فِي الْآخِرَة، وَالتَّعْبِير عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي لِأَنَّهُ مُحَقّق الْوُقُوع فَكَأَنَّهُ قد وَقع. فَإِن قلت: لم خص مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، بِالذكر؟ .
قلت: ليكونه أول نَبِي بعث بالتكاليف الشَّدِيدَة. فَإِن قلت: مَا وَجه وُقُوع الْغَلَبَة لآدَم، عَلَيْهِ السَّلَام؟ .
قلت: لِأَنَّهُ لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقاً فِي وُقُوع مَا قدر عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذن من الله، فَيكون الشَّارِع هُوَ اللائم، فَلَمَّا أَخذ مُوسَى فِي لومه من غير أَن يُؤذن لَهُ فِي ذَلِك عَارضه بِالْقدرِ. فأسكنه، وَقيل: إِن الَّذِي فعله آدم اجْتمع فِيهِ الْقدر وَالْكَسْب وَالتَّوْبَة تمحو أثر الْكسْب، وَقد كَانَ الله تَابَ عَلَيْهِ فَلم يبْق إلاَّ الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ لوم فعل الله، وَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل. وَقيل: إِن آدم أَب ومُوسَى ابْن وَلَيْسَ للِابْن أَن يلوم أَبَاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ. فَإِن قلت: فالعاصي الْيَوْم لَو قَالَ: هَذِه الْمعْصِيَة قدرت عَليّ، فَيَنْبَغِي أَن يسْقط عَنهُ اللوم.
قلت: هُوَ بَاقٍ فِي دَار التَّكْلِيف، وَفِي لومه زجر لَهُ وَلغيره عَنْهَا، وَأما آدم فميت خَارج عَن هَذِه الدَّار، فَلم يكن فِي القَوْل فَائِدَة سوى التخجيل وَنَحْوه.
قَالَ سُفْيانُ: حدّثنا أبُو الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. . مِثْلَهُ.
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَهَذَا مَوْصُول وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: حفظناه من عَمْرو وَفِي رِوَايَة الْحميدِي قَالَ: وَحدثنَا أَبُو الزِّنَاد، بِإِثْبَات الْوَاو، وَهِي أظهر فِي المُرَاد، وَقيل: أَخطَأ من زعم أَن هَذَا الطَّرِيق مُعَلّق، وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ مُنْفَردا بعد أَن سَاق طَرِيق طَاوُوس عَن جمَاعَة عَن سُفْيَان، فَقَالَ: أخبرنيه الْقَاسِم يَعْنِي ابْن زَكَرِيَّا حَدثنَا إِسْحَاق بن حَاتِم العلاف حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو مثله، سَوَاء، وَزَاد: قَالَ: وحَدثني سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد بِهِ.

21 - (بابٌ لَا مانِعَ لِما أعْطَى الله)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: لَا مَانع لما أعْطى الله، ويروى: لما أعطَاهُ الله، وَهَذَا منتزع من معنى حَدِيث الْبَاب، فَلفظ الحَدِيث: لَا مَانع لما أَعْطَيْت.

(23/159)


5166 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ حدّثنا فُليْحٌ حَدثنَا عَبْدَةُ بنُ أبي لُبابَةَ عَنْ ورَّادٍ مَوْلَى المغِيرَةِ ابنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ: أكْتُبْ إلَيَّ مَا سَمعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ خَلْفَ الصّلاَة، فأمْلَى عَليَّ المُغِيرَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: خَلْفَ الصّلاَةِ: (لَا إلَهَ إلاّ الله وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لَا مانِعَ لِما أعْطَيْتَ ولاَ مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ مِنْكَ الجَدُّ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِن كَانَ بَينهمَا نوع تَغْيِير. وَمُحَمّد بن سِنَان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالنونين، وفليح مصغر الفلح بِالْفَاءِ والحاء الْمُهْملَة ابْن سُلَيْمَان، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك وفليح لقبه فغلب على اسْمه، وَعَبدَة ضد الْحرَّة ابْن أبي لبَابَة بِضَم اللَّام وبالباءين الموحدتين الْأَسدي الْكُوفِي سكن دمشق، ووراد بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء مولى الْمُغيرَة بن شُعْبَة وكاتبه.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب الذّكر بعد الصَّلَاة. وَأخرجه فِي مَوَاضِع كَثِيرَة فِي الِاعْتِصَام وَفِي الرقَاق وَفِي الدَّعْوَات وَغَيرهَا، وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي الصَّلَاة.
قَوْله: (الْجد) وَهُوَ مَا جعل الله للْإنْسَان من الحظوظ الدُّنْيَوِيَّة، وَكلمَة: من، تسمى من الْبَدَلِيَّة. كَقَوْلِه تَعَالَى: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} (التَّوْبَة: 83) أَي: بدل الْآخِرَة، أَي: المحظوظ لَا يَنْفَعهُ حَظه بذلك أَي: بدل طَاعَتك، وَقَالَ الرَّاغِب: قيل: أَرَادَ بالجد أَب الْأَب أَي: لَا ينفع أحدا نسبه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: مِنْهُم من رَوَاهُ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الِاجْتِهَاد أَي: لَا ينفع ذَا الِاجْتِهَاد مِنْك اجْتِهَاده إِنَّمَا يَنْفَعهُ رحمتك.
وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: أخبَرني عَبْدَةُ أنَّ ورَّاداً أخْبَرَهُ بهاذَا، ثُمَّ وفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يأمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ القَوْلِ.
ابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن الْعَزِيز بن جريج، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَحْمد وَمُسلم من طَرِيق ابْن جريج، وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّعْلِيق التَّصْرِيح بِأَن وراداً أخبر بِهِ عَبدة لِأَنَّهُ وَقع فِي الرِّوَايَة الأولى بالعنعنة. قَوْله: ثمَّ وفدت، الْقَائِل بِهَذَا عَبدة، ووفدت من الْوُفُود وَهُوَ قصد الْأُمَرَاء لزيارة واسترفاد وانتجاع وَغير ذَلِك، يُقَال: وَفد يفد فَهُوَ وَافد. قَوْله: بعد، مَبْنِيّ على الضَّم أَي: بعد أَن سمعته من وراد. قَوْله: إِلَى مُعَاوِيَة، هُوَ ابْن أبي سُفْيَان لما كَانَ فِي الشَّام حَاكما. قَوْله: بذلك القَوْل، أَشَارَ بِهِ إِلَى القَوْل الَّذِي كَانَ يَقُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الدُّعَاء الْمَذْكُور عقيب الصَّلَاة.

31 - (بابُ مَنْ تَعَوَّذَ بِاللَّه مِنْ درَكِ الشَّقاءِ وسُوءِ القَضاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر المتعوذ من هذَيْن الشَّيْئَيْنِ. أَحدهمَا: دَرك الشَّقَاء، بِفَتْح الرَّاء: اللحاق والتبعة والشقاء بِالْفَتْح وَالْمدّ الشدَّة والعسر وَهُوَ يتَنَاوَل الدِّينِيَّة والدنياوية. وَالْآخر: سوء الْقَضَاء، أَي الْمقْضِي إِذْ حكم الله كُله حسن.
وقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} (الفلق: 1 2) .
أَشَارَ بِذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى الرَّد على من زعم أَن العَبْد يخلق فعل نَفسه، لِأَنَّهُ لَو كَانَ السوء الْمَأْمُور بالاستعاذة مِنْهُ مخترعاً لفَاعِله لما كَانَ للاستعاذة بِاللَّه مِنْهُ معنى، لِأَنَّهُ لَا يَصح التَّعَوُّذ إلاَّ بِمن قدر على إِزَالَة مَا استعيذ بِهِ مِنْهُ.

6166 - حدّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا سُفيانُ عنْ سُمَيّ عنْ أبي صالحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّه مِنْ جَهْدِ البلاَءِ ودَرَكِ الشَّقاءِ وسُوءِ القَضاءِ وشَماتَةِ الاعْدَاءِ) .
(انْظُر الحَدِيث 7436) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَسمي بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء مولى أبي بكر المَخْزُومِي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الدَّعْوَات فِي: بَاب التَّعَوُّذ من جهد الْبلَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سفاين عَن سمي ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (جهد الْبلَاء) بِضَم الْجِيم أشهر وَهُوَ الْحَالة الَّتِي يخْتَار عَلَيْهَا الْمَوْت، وَقيل: هُوَ قلَّة

(23/160)


المَال وَكَثْرَة الْعِيَال وَفِي التَّوْضِيح جهد الْبلَاء أقْصَى مَا يبلغ وَهُوَ الْجهد بِضَم الْجِيم وَفتحهَا قَوْله وشماتة الْأَعْدَاء الشماتة هِيَ الْحزن يفرح الْعَدو والفرح يحزنهُ

(بَاب يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه)
أَي هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وأوله {وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون} وَعَن سعيد بن جُبَير مَعْنَاهُ يحول بَين الْكَافِر أَن يُؤمن وَبَين الْمُؤمن أَن يكفر وَعَن ابْن عَبَّاس يحول بَين الْكَافِر وطاعته وَبَين الْمُؤمن ومعصيته وَكَذَا روى عَن الضَّحَّاك وَعَن مُجَاهِد يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه فَلَا يعقل وَلَا يدْرِي مَا يعلم وَالْغَرَض من هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الله خَالق لجَمِيع كسب الْعباد من الْخَيْر وَالشَّر وَأَنه قَادر على أَن يحول بَين الْكَافِر وَالْإِيمَان وَلم يقدره إِلَّا على ضِدّه وَهُوَ الْكفْر وعَلى أَن يحول بَين الْمُؤمن وَالْكفْر وأقدره على ضِدّه وَهُوَ الْإِيمَان وَفعل الله عدل فِيمَن أضلّهُ لِأَنَّهُ لم يمنعهُم حَقًا وَجب عَلَيْهِ وخلقهم على إِرَادَته لَا على إرادتهم وَكَانَ من خلق فيهم من قُوَّة الْهِدَايَة والتوفيق على وَجه التَّفْصِيل
24 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل أَبُو الْحسن أخبرنَا عبد الله أخبرنَا مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن عبد الله قَالَ كثيرا مِمَّا كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحلف لَا ومقلب الْقُلُوب) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن معنى مُقَلِّب الْقُلُوب تقليبه قلب عَبده عَن إِيثَار الْإِيمَان إِلَى إِيثَار الْكفْر وَعَكسه وَفعل الله عدل فِي ذَلِك كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك ومُوسَى بن عقبَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله يروي عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن سعيد بن سُلَيْمَان وَفِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْإِيمَان عَن عَليّ بن حجر وَعبد الله بن جَعْفَر وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَغَيره وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْكَفَّارَات عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي قَوْله كثيرا نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره يحلف حلفا كثيرا مِمَّا كَانَ يُرِيد أَن يحلف بِهِ من أَلْفَاظ الْحلف قَوْله لَا فِيهِ حذف نَحْو لَا أفعل أَو لَا أترك وَحقّ مُقَلِّب الْقُلُوب وَهُوَ الله عز وَجل وَالْوَاو فِيهِ للقسم قَالَ الْكرْمَانِي مُقَلِّب الْقُلُوب أَي يقلب أغراضها وَأَحْوَالهَا من الْإِرَادَة وَغَيرهَا إِذْ حَقِيقَة الْقلب لَا تنْقَلب وَفِيه دلَالَة على أَن أَعمال الْقُلُوب من الإرادات والدواعي وَسَائِر الْأَغْرَاض بِخلق الله تَعَالَى كأفعال الْجَوَارِح
25 - (حَدثنَا عَليّ بن حَفْص وَبشر بن مُحَمَّد قَالَا أخبرنَا عبد الله قَالَ أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ صياد خبأت لَك خبيئا قَالَ الدخ قَالَ اخْسَأْ فَلَنْ تعدو قدرك قَالَ عمر ائْذَنْ لي فَأَضْرب عُنُقه قَالَ دَعه إِن يكن هُوَ لَا تُطِيقهُ وَإِن لم يكن هُوَ فَلَا خير لَك فِي قَتله) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله إِن يكن هُوَ إِلَى آخِره يَعْنِي إِن كَانَ الَّذِي قَالَ قد سبق فِي علم الله خُرُوجه وإضلاله النَّاس فَلَنْ يقدرك خالقك على قتل من سبق فِي علمه أَنه يخرج ويضل النَّاس إِذْ لَو أقدرك على هَذَا لَكَانَ فِيهِ انقلاب علمه وَالله تَعَالَى عَن ذَلِك وَعلي بن حَفْص الْمروزِي سكن عسقلان وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم وَسَالم بن عبد الله بن عمر والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي بَاب إِذا أسلم الصَّبِي فَمَاتَ هَل يصلى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ مطولا وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوْفِي قَوْله لِابْنِ صياد اسْمه صَاف قَوْله خبيئا ويروى خبا قَوْله الدخ بِضَم

(23/161)


الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة الدُّخان، وَقيل: أَرَادَ أَن يَقُول: الدُّخان، فَلم يُمكنهُ لهيبة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو زَجره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يسْتَطع أَن يخرج الْكَلِمَة تَامَّة. قَوْله: (اخْسَأْ) بِالْهَمْزَةِ يُقَال خسأ الْكَلْب إِذا بعد، وأخسأ أَمر مِنْهُ وَهُوَ خطاب زجر وإهانة. قَوْله: (فَلَنْ تعدو) ويروى بِحَذْف الْوَاو تَخْفِيفًا، أَو بِتَأْوِيل: لن، بِمَعْنى: لم، والجزم بلن لُغَة حَكَاهَا الْكسَائي. قَوْله: (إِن يكن هُوَ) ويروى: إِن يكنه، وَفِيه رد على النَّحْوِيّ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُخْتَار فِي خبر: كَانَ، الِانْفِصَال. قَوْله: (فَلَا تُطِيقهُ) أَي: لَا تطِيق قَتله إِذا الْمُقدر أَنه يخرج فِي آخر الزَّمَان خُرُوجًا يفْسد فِي الأَرْض ثمَّ يقْتله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (فَلَا خير لَك) قيل: كَانَ يَدعِي النُّبُوَّة فَلم لَا يكون قَتله خيرا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ غير بَالغ، أَو كَانَ فِي مهادنة أَيَّام الْيَهُود وحلفائهم، وَأما امتحانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالخبء فلإظهار بطلَان حَاله للصحابة، وَأَن مرتبته لَا تتجاوز عَن الكهانة.

51 - (بابُ {قل لن يصيبنا إِلَّا مَا كتب الله لنا} (التَّوْبَة: 15) قَضَى.)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {قل لن يصيبنا} . . إِلَى آخِره. قَوْله: قضى، تَفْسِير لقَوْله: كتب، وَأَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَة إِلَى أَن الله تَعَالَى أعلم عباده أَن مَا يصيبهم فِي الدُّنْيَا من الشدائد والمحن والضيق وَالْخصب والجدب إِن ذَلِك كُله فعل الله تَعَالَى، يفعل من ذَلِك مَا يَشَاء لِعِبَادِهِ ويبتليهم بِالْخَيرِ وَالشَّر، وَذَلِكَ كُله مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
قَالَ مُجاهِدِ: بِفاتِنِينَ بِمُضِلِّينَ، إلاّ مَنْ كَتَب الله. أنَّهُ يَصْلَى الجَحِيمَ.
أَي قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (الصافات: 261 361) أَي: مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بمضلين إلاَّ من كتب الله تَعَالَى أَنه يُصَلِّي أَي: يدْخل الْجَحِيم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد بن حميد بِمَعْنَاهُ من طَرِيق إِسْرَائِيل عَن مَنْصُور فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: لَا يفتنون إلاَّ من كتب عَلَيْهِ الضَّلَالَة.
قَدَّرَ فَهَدَى. قَدَّرَ الشَّقاءَ والسَّعادَةَ وهَدَى الأنْعامَ لِمَرَاتِعِها.
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي قدر فهدى} (الْأَعْلَى: 3) وَفَسرهُ بقوله: قدر الشَّقَاء والسعادة، وَوَصله الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. قَوْله: الْأَنْعَام لمراتعها، لَيْسَ لَهُ تعلق بِمَا قبله بل هُوَ تَفْسِير لمثل قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى} (طه: 05) .

9166 - حدّثني إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ أخبرنَا النَّضْرُ حدّثنا داوُدُ بنُ أبي الفُراتِ عنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ عنْ يَحْيَاى بنِ يَعْمَرُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، أخْبَرَتْهُ أنَّها سَألَتْ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الطَّاعُونِ. فَقَالَ: (كَانَ عَذاباً يَبْعَثُهُ الله عَلى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ الله رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلْدَةٍ يَكُونُ فِيها ويَمْكُثُ فِيها لَا يخْرُجُ مِنَ البَلْدَةِ صابِراً مُحْتَسِباً، يَعْلَمُ أنّهُ لَا يُصِيبُهُ إلاّ مَا كَتَبَ الله لهُ، إلاَّ كانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ) . (انْظُر الحَدِيث 743 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، ونسبته إِلَى حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد منات بن تَمِيم بطن عامتهم بِالْبَصْرَةِ، وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل، وَدَاوُد بن أبي الْفُرَات بِضَم الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء الْمروزِي تحول إِلَى الْبَصْرَة، وَعبد الله بن بُرَيْدَة مصغر الْبردَة الْأَسْلَمِيّ قَاضِي مرو، وَيحيى بن يعمر بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الْمِيم وبالراء القَاضِي أَيْضا بمرو، وَالرِّجَال كلهم مروزيون. وَهُوَ من الغرائب.
والْحَدِيث مضى فِي التَّفْسِير وَفِي ذكر بني إِسْرَائِيل وَفِي الطِّبّ عَن إِسْحَاق عَن حبَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (الطَّاعُون) الوباء قَالَه أهل اللُّغَة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّه حب ينْبت فِي الأرفاغ، وَقيل: هُوَ بِئْر مؤلم جدا يخرج غَالِبا من الآباط مَعَ اسوداد حواليه وخفقان الْقلب. قَوْله: (رَحْمَة) قيل مَا معنى كَون الْعَذَاب رَحْمَة؟ . وَأجِيب بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ هُوَ محنة فِي

(23/162)


الصُّورَة لكنه رَحْمَة من حَيْثُ أَنه يتَضَمَّن مثل أجر الشَّهِيد فَهُوَ سَبَب الرَّحْمَة لهَذِهِ الْأمة.

61 - (بابٌ {وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} (الْأَعْرَاف: 34) {لَو أَن الله هَدَانِي لَكُنْت من الْمُتَّقِينَ} (الزمر: 75)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} وَقَوله تَعَالَى: {لَو أَن الله هَدَانِي لَكُنْت من الْمُتَّقِينَ} إِلَى آخِره هَاتَانِ آيتان، وَحَدِيث الْبَاب نَص على أَن الله تَعَالَى انْفَرد بِخلق الْهدى والضلال، وَأَنه قدر الْعباد على اكْتِسَاب مَا أَرَادَ مِنْهُم من إِيمَان وَكفر، وَأَن ذَلِك لَيْسَ بِخلق للعباد، كَمَا زعمت الْقَدَرِيَّة.

0266 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ أخبرنَا جَرِيرٌ هُوَ ابنُ حازِمٍ عنْ أبي إسْحَاقَ عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ قَالَ: رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ يَنْقلُ مَعَنا التُّرابَ وهْوَ يَقُولُ:
(وَالله لَوْلاَ الله مَا اهْتدَيْنا ... وَلَا صُمْنا وَلَا صَلْينا)

(فأنْزلَنْ سَكِينَةً عَليْنا ... وثَبِّت الأقْدامَ إنْ لاقَيْنا)

(والمُشْركُونَ قَدْ بَغَوْا عَليْنا ... إِذا أرَادوا فِتْنَةً أبَيْنا)

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
لَوْلَا الله مَا اهتدينا
وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي الْبَصْرِيّ، وَجَرِير بن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بَاب حفر الخَنْدَق فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (قد بغو) أَي: ظلمُوا. قَوْله: (أَبينَا) من الإباء وَهُوَ الِامْتِنَاع. ويروى: أَتَيْنَا، من الْإِتْيَان.
وَالله ولي التَّوْفِيق.