عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

48 - (كتابُ كَفَارَاتِ الأيْمانِ)

أَي هَذَا كتاب فِي بَيَان حكم كَفَّارَات الْأَيْمَان، هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب كَفَّارَات الْأَيْمَان.

(23/215)


وَالْكَفَّارَات جمع كَفَّارَة على وزن فعالة بِالتَّشْدِيدِ من الْكفْر وَهُوَ التغطية، وَمِنْه قيل للزراع: كَافِر، لِأَنَّهُ يُغطي الْبذر، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَة لِأَنَّهَا تكفر الذَّنب أَي: تستره، وَمِنْه تكفر الرجل بِالسِّلَاحِ إِذا تستر بِهِ، وَفِي الِاصْطِلَاح: الْكَفَّارَة مَا يكفر بِهِ من صَدَقَة وَنَحْوهَا.

1 - (بَاب وقَوْلِ الله تَعَالَى { (5) فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} (الْمَائِدَة: 98)

وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على كَفَّارَات الْأَيْمَان، وأوله: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} (الْمَائِدَة: 98) الْآيَة أَي: فكفارة مَا عقدتم الْأَيْمَان إطْعَام عشر مَسَاكِين.
وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْإِطْعَام فَقَالَت طَائِفَة: يجْزِيه لكل إِنْسَان مد من طَعَام بِمد الشَّارِع، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عَمْرو زيد بن ثَابت وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عَطاء وَالقَاسِم وَسَالم وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَت طَائِفَة: يطعم لكل مِسْكين نصف صَاع من حِنْطَة، وَإِن أعْطى تَمرا أَو شَعِيرًا فصاعاً صَاعا، رُوِيَ هَذَا عَن عمر ابْن الْخطاب وَعلي وَزيد بن ثَابت فِي رِوَايَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَسَائِر الْكُوفِيّين.
وَمَا أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ نَزَلَتْ {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691)
كلمة: مَا، مَوْصُولَة أَي: وَالَّذِي أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين نزل قَوْله عز وَجل: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} يُشِير بهَا إِلَى حَدِيث كَعْب بن عجْرَة رَضِي الله عَنهُ، الَّذِي يَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا ذكر البُخَارِيّ حَدِيث كَعْب بن عجْرَة فِي هَذَا الْبَاب من أجل التَّخْيِير فِي كَفَّارَة الْأَذَى كَمَا هِيَ فِي كَفَّارَة الْيَمين بِاللَّه، وَمَا كَانَ فِي الْقُرْآن كلمة: أَو، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} (الْمَائِدَة: 98) فصاحبه بِالْخِيَارِ، يَعْنِي: هُوَ الْوَاجِب الْمُخَير على مَا يَأْتِي الْآن، وَيُقَال معنى قَوْله: وَمَا أَمر الله، الْكَفَّارَة المخيرة.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عَباسٍ وعَطاءٍ وعِكْرَمَةَ: مَا كانَ فِي القُرْآنِ: أوْ أوْ، فصاحِبُهُ بالخِيارِ، وقَدْ خَيَّرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعْباً فِي الفِدْيَةِ.
إِنَّمَا ذكر هَذَا عَن ابْن عَبَّاس بِصِيغَة التمريض لِأَنَّهُ رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي (تَفْسِيره) : عَن لَيْث بن أبي سليم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كل شَيْء فِي الْقُرْآن: أَو أَو نَحْو قَوْله تَعَالَى: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) فَهُوَ فِيهِ مُخَيّر، وَمَا كَانَ {فَمن لم يجد} (الْبَقَرَة: 691) فَهُوَ على الْوَلَاء أَي التَّرْتِيب، وَأما أثر عَطاء بن أبي رَبَاح فوصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن جريج قَالَ: قَالَ عَطاء: مَا كَانَ فِي الْقُرْآن: أَو أَو فلصاحبه أَن يخْتَار أَيهَا شَاءَ، وَأما أثر عِكْرِمَة فوصله الطَّبَرِيّ أَيْضا من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَنهُ قَالَ: كل شَيْء فِي الْقُرْآن: أَو أَو، فليتخير فَإِذا كَانَ {فَمن لم يجد} فَالْأول فَالْأول. قَوْله: (كَعْبًا) أَي: كَعْب بن عجْرَة، على مَا يَأْتِي الْآن.

8076 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ يُونس حَدثنَا أبُو شِهابٍ عنِ ابنِ عَوْنٍ عنْ مِجاهِدٍ عَن عَبْدِ الرَّحْمان ابنِ أبي ليْلَى عنْ كَعْبٍ بنِ عُجْرَةَ قَالَ: أتَيْتُهُ يَعْنِي: النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: (ادْنُ) فَدَنْوتُ فَقَالَ: (أيُؤْذِيكَ هُوَامُّكَ) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: { (2) فديَة من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) .
وَأَخْبرنِي ابنُ عَوْنٍ عنْ أيُّوبَ قَالَ: صِيامُ ثَلاَثَةٍ أيَّامٍ، والنُّسُكُ شاةٌ، والمَساكِينُ سِتَّةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ التَّخْيِير كَمَا فِي كَفَّارَة الْأَيْمَان.
وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس نسب إِلَى جده، وَأَبُو شهَاب هُوَ الْأَصْغَر واسْمه عبد ربه بن نَافِع الْخياط صَاحب الْمَدَائِنِي، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون بن أرطبان الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الْحَج بشرحه.
قَوْله: (أَتَيْته) وَفِي رِوَايَة أبي نعيم: فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (هوامك) جمع هَامة

(23/216)


وَكَانَ يَتَنَاثَر الْقمل من رَأسه.
قَوْله: (وَأَخْبرنِي) عطف على مُقَدّر أَي: قَالَ أَبُو شهَاب: أَخْبرنِي فلَان كَذَا، وَأَخْبرنِي ابْن عون عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ أَن المُرَاد بالصيام ثَلَاثَة أَيَّام وبالنسك شَاة وبالصدقة إطْعَام سِتَّة مَسَاكِين.

2 - (بابُ قَوْل الله تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (التَّحْرِيم: 2) مَتَى تَجِبُ الكَفَّارَةُ عَلى الغِنَيِّ والفَقِيرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل: {قد فرض الله لكم} ... الْآيَة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب مَتى تجب الْكَفَّارَة على الْغَنِيّ وَالْفَقِير. وَقَول الله عز وَجل: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} إِلَى قَوْله: {الْعَلِيم الْحَكِيم} كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلغيره: بَاب قَول الله ... وَسَاقُوا الْآيَة، وَبعدهَا: مَتى تجب الْكَفَّارَة على الْغَنِيّ وَالْفَقِير، كَمَا فِي نسختنا، وَقد سقط ذكر الْآيَة عِنْد الْبَعْض. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمُنَاسب أَن يذكر هَذِه الْآيَة فِي أول الْبَاب الَّذِي قبله.
قلت: الْأَنْسَب أَن يذكر فِي التَّفْسِير فِي سُورَة التَّحْرِيم. قَوْله: (قد فرض الله) أَي: قد بيَّن {الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} أَي: تحليلها بِالْكَفَّارَةِ.

9076 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ عنْ حُمَيْدِ بنِ عبْدِ الرحمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جاءَ رجُلٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَمَا شأنُكَ؟) قَالَ: وقَعْت عَلى امْرأتِي فِي رَمضانَ. قَالَ: (تَسْتَطِيعُ أنَّ تُعْتِقَ رَقَبَة؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (فَهَلْ تَستَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينَا؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (اجْلِسْ) فَجَلَسَ فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ المكْتَلُ الضَّخْمُ، قَالَ: (خُذْ هاذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) قَالَ: أعَلى أفْقَرَ مِنِّي؟ فَضَحَك النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى بَدَتْ نَوَاجذُهُ. قَالَ: (أطْعِمْهُ عِيالَكَ) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَحميد بِضَم الْحَاء ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة. وَأخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع: فِي الصَّوْم عَن أبي الْيَمَان وَفِي الْهِبَة وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب وَفِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن القعْنبِي وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَفِي النَّفَقَات عَن أَحْمد بن يُونُس وَفِي الْمُحَاربين عَن قُتَيْبَة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ فِي الصَّوْم.
قَوْله: (سمعته من فِيهِ) أَي: قَالَ سُفْيَان سمعته من فَم الزُّهْرِيّ، وغرضه أَنه لَيْسَ مُعَنْعنًا موهماً للتدليس. قَوْله: (جَاءَ رجل) قيل اسْمه سَلمَة بن صَخْر البياضي. قَوْله: (هَلَكت) يُرِيد بِمَا وَقع فِيهِ من الْإِثْم، وَقد يُقَال: إِنَّه وَاقع مُتَعَمدا. وَفِي النَّاسِي خلاف، فمذهب مَالك أَنه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ، خلافًا لِابْنِ الْمَاجشون. قَوْله: (وَمَا شَأْنك؟) أَي: وَمَا حالك وَمَا جرى عَلَيْك؟ قَوْله: (تَسْتَطِيع أَن تعْتق رَقَبَة؟) احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ على أَن كَفَّارَة الوقاع مرتبَة، وَهُوَ أحد قولي ابْن حبيب، وَعَن مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا أعرف غير الْإِطْعَام. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عَلَيْهِ عتق رَقَبَة، أَو هدي بَدَنَة، أَو عشرُون صَاعا لأربعين مِسْكينا. قَوْله: (فَأتى) على صِيغَة الْمَجْهُول (بعرق) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالرَّاء: القفة المنسوجة من الخوص. قَوْله: (المكتل) بِكَسْر الْمِيم الزنبيل الَّذِي يسع خَمْسَة عشر صَاعا وَأكْثر. قَوْله: (أَعلَى أفقر مني؟) ويروى: (منا) . والهمزة فِي (أَعلَى) للاستفهام. قَوْله: (حَتَّى بَدَت) أَي: ظَهرت (نَوَاجِذه) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة آخر الْأَسْنَان وأولها الثنايا ثمَّ الرباعيات ثمَّ الأنياب ثمَّ الضواحك ثمَّ الأرحاء ثمَّ النواجذ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: النواجذ الأضراس، وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث، وَقَالَ غَيره هِيَ: الضواحك، وَقَالَ ابْن فَارس: الناجذ السن بَين الأنياب والضرس، وَقيل: الأضراس كلهَا النواجذ، وَقيل: سَبَب ضحكه وجوب الْكَفَّارَة على هَذَا المجامع وَأَخذه ذَلِك صَدَقَة وَهُوَ غير آثم. قيل: هَذَا مَخْصُوص بِهِ، وَقيل: مَنْسُوخ.

3 - (بابُ مَنْ أعانَ المُعْسِرَ فِي الكَفَّارَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أعَان الْمُعسر الْعَاجِز فِي الْكَفَّارَة الْوَاجِبَة عَلَيْهِ.

(23/217)


0176 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مَحْبُوبٍ حدّثنا عبْدُ الوَاحِدِ حَدثنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: جاءَ رجُلٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ. فَقَالَ: (وَمَا ذاكَ؟) قَالَ: وقَعْتُ بأهْلِي فِي رَمضانَ. قَالَ: (تَجِدُ رَقَبَةً؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتتابِعَيْنِ) قَالَ: لَا. قَالَ: (فَتَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟) قَالَ: لَا. قَالَ: فَجاءَ رجَلٌ مِنَ الأنْصارِ بِعَرَقٍ، والعَرَقُ المِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: (إذْهَبْ بِهَذا فَتَصَدَّقْ بِهِ) قَالَ: عَلى أحْوَجَ مِنَّا يَا رسُولَ الله؟ والَّذِي بَعثكَ بالحقِّ مَا بَيْنَ لابَتَيْها أهْلُ بَيْتٍ أحْوَجُ مِنَّا، ثُمَّ قَالَ: (اذْهَبْ فأطْعِمْهُ أهْلَكَ) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة ترْجم لَهُ بالترجمة الْمَذْكُورَة.
وَأخرجه عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب الْبَصْرِيّ عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي عَن معمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره.
قَوْله: (مَا بَين لابتيها) تَثْنِيَة: لابة، بتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي الْحرَّة يَعْنِي: بَين طرفِي الْمَدِينَة والحرة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: أَرض ذَات حِجَارَة سود.

4 - (بابٌ يُعْطِي فِي الكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيباً كَانَ أوْ بَعِيداً)

أَي: هَذَا بَاب مترجم بقوله: يُعْطي فِي الْكَفَّارَة. أَي: فِي كَفَّارَة الْيَمين عشرَة مَسَاكِين، كَمَا فِي نَص الْقُرْآن. قَوْله: قَرِيبا أَي: سَوَاء كَانَت الْمَسَاكِين قريبَة أَو بعيدَة، وَإِنَّمَا قَالَ: قَرِيبا أَو بَعيدا بالتذكير إِمَّا بِاعْتِبَار لفظ: مَسَاكِين، فَلذَلِك قَالَ: كَانَ وَلم يقل: كَانَت وَلَا كَانُوا، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَن فعيلاً يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} (الْأَعْرَاف: 65) قيل: لَا وَجه لذكر الْعشْرَة هُنَا، لِأَنَّهَا فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَحَدِيث الْبَاب فِي كَفَّارَة الوقاع، فَلَا يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة. وَأجَاب الْمُهلب بِمَا حَاصله: أَن حكم الْعشْرَة مَسَاكِين فِي كَفَّارَة الْيَمين مُبْهمَة من حَيْثُ لم يذكر فِيهِ قريب وَلَا بعيد، وَجَاء فِي كَفَّارَة الوقاع فِي حَدِيث الْبَاب: (أطْعمهُ أهلك) وَهُوَ مُفَسّر، والمفسر يقْضِي على الْمُجْمل، وقاس كَفَّارَة الْيَمين على كَفَّارَة الْجِمَاع فِي إجَازَة الصّرْف على الأقرباء لِأَنَّهُ إِذا جَازَ إِعْطَاء الأقرباء فالبعداء أجوز. انْتهى.
قلت: هَذَا إِنَّمَا يمشي إِذا حمل قَوْله: (أطْعمهُ أهلك) على وَجه الْكَفَّارَة لَا على وَجه الصَّدَقَة، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُعْطي الْكَفَّارَة أحدا من أَهله إِذا كَانَ مِمَّن يلْزمه نَفَقَته، وَأما إِذا كَانَ مِمَّن لَا يلْزمه نَفَقَته فَيجوز. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: لَعَلَّ أَهله كَانُوا عشرَة، وَلَيْسَ بِشَيْء.

1176 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ حدّثنا سفيْانُ عنِ الزُّهرِيِّ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: جاءَ رَجلٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ! قَالَ: (وَمَا شَأْنُكَ؟) قَالَ وَقَعْتُ عَلى امْرَأتِي فِي رَمَضانَ. قَالَ: (هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ متتابِعَيْنِ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟) قَالَ: لَا أجِدُ، فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَرِقٍ فِيه تَمْرٌ فَقَالَ: (خذْ هاذا فَتَصَدَّقْ بِهِ) فَقَالَ: أَعلَى أفْقَرَ مِنَّا؟ مَا بَيْنَ لابَتَيْها أفْقَرُ مِنَّا. ثُمَّ قَالَ: (خُذْهُ فأطْعِمْهُ أهْلَكَ) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق أخرجه عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.

5 - (بابُ صاعِ المَدِينَةِ ومُدِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذالِكَ قَرْناً بَعْدَ قَرْنٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَاع مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بذلك إِلَى وجوب الْإِخْرَاج فِي الْوَاجِبَات بِصَاع أهل الْمَدِينَة، لِأَن التشريع وَقع أَولا على ذَلِك حَتَّى زيد فِيهِ فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا يَجِيء. قَوْله: (وَمد

(23/218)


النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: وَفِي بَيَان مد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وبركته) قَالَ الْكرْمَانِي: أَي بركَة الْمَدّ أَو بركَة كل مِنْهُمَا.
قلت: الْأَحْسَن أَن يُقَال: وبركة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ دَعَا حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارك لَهُم فِي مكيالهم، وصاعهم ومدهم، وَيَجِيء عَن قريب فِي حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَمَا توارث أهل الْمَدِينَة) أَي: وَفِي بَيَان مَا توارث أهل الْمَدِينَة قرنا أَي: جيلاً بعد جيل على ذَلِك، وَلم يتَغَيَّر إِلَى زَمَنه، أَلا ترى أَن أَبَا يُوسُف لما اجْتمع مَعَ مَالك فِي الْمَدِينَة فَوَقَعت بَينهمَا المناظرة فِي قدر الصَّاع فَزعم أَبُو يُوسُف أَنه ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَقَامَ مَالك وَدخل بَيته وَأخرج صَاعا وَقَالَ: هَذَا صَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ أَبُو يُوسُف: فَوَجَدته خَمْسَة أَرْطَال وَثلثا، فَرجع أَبُو يُوسُف إِلَى قَول مَالك وَخَالف صَاحِبيهِ فِي هَذَا. وَجَهل مُنَاسبَة ذكر هَذَا الْبَاب بِكِتَاب الْكَفَّارَات هُوَ أَن فِي كَفَّارَة الْيَمين إطْعَام عشرَة أَمْدَاد لعشرة مَسَاكِين، وَكَفَّارَة الوقاع إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا سِتِّينَ مدا بِهِ، وَفِي كَفَّارَة الْحلف إطْعَام ثَلَاثَة آصَع لسِتَّة مَسَاكِين.

2176 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ حدّثنا القاسِمُ بنُ مالِكٍ المُزَنِيُّ حَدثنَا الجُعَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدًّا وثُلُثاً بِمُدِّكُمُ اليَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ. (انْظُر الحَدِيث 9581 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالقَاسِم بن مَالك الْمُزنِيّ بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي وبالنون، والجعيد بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة، وَيُقَال بِالتَّكْبِيرِ ابْن أَوْس الْكِنْدِيّ الْمدنِي، والسائب بِالسِّين الْمُهْملَة والهمزة بعد الْألف وبالباء الْمُوَحدَة ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ، وَيُقَال: الْأَزْدِيّ الْمدنِي، سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع وَهُوَ ابْن سبع سِنِين، وَيُقَال: ابْن عشر سِنِين، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين.
والْحَدِيث مضى فِي الْحَج وَيَأْتِي فِي الِاعْتِصَام. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن زُرَارَة.
قَوْله: (بمدكم الْيَوْم) يَعْنِي: حِين حَدثهمْ السَّائِب كَانَ مدهم أَرْبَعَة أَرْطَال فَإِذا زيد عَلَيْهِ ثلثه وَهُوَ رَطْل وَثلث يكون خَمْسَة أَرْطَال وَثلثا، وَهُوَ الصَّاع الْبَغْدَادِيّ، بِدَلِيل أَن مده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَطْل وَثلث وصاعه أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَقَالَ ابْن بطال: أما مَا زيد فِيهِ فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَا نعلمهُ، وَإِنَّمَا الحَدِيث يدل على أَن مدهم ثَلَاثَة أَمْدَاد بمده، وَمضى الْكَلَام فِي الطَّهَارَة فِي: بَاب الْوضُوء بِالْمدِّ وَالِاخْتِلَاف فِي الْمَدّ والصاع.

3176 - حدّثنا مُنْذِرُ بنُ الوَلِيدِ الجارُودِيُّ حدّثنا أبُو قُتَيْبَةَ وهْوَ سَلْمٌ حدّثنا مالِك عنْ نافِعٍ قَالَ: كانَ ابنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكاةَ رَمَضانَ بِمُدِّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المدِّ الأوَّلِ، وَفِي كَفَّارَةٍ اليَمِين بِمُدِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَ أبُو قُتَيْبَةَ: قَالَ لَنا مالِكٌ: مُدُّنا أعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ وَلَا نَرَى الفَضْلَ إلاّ فِي مُدِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ لِي مالِكٌ: لَوْ جاءَكمْ أمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أصْغَرَ مِنْ مُدِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ .
قُلْتُ: كُنَّا نُعْطِي بمُدِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: أفَلا تَرى أنَّ الأمْرَ إنّما يَعُودُ إِلَى مُدِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُنْذِر بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل من الْإِنْذَار ابْن الْوَلِيد الجارودي بِالْجِيم، قَالَ الرشاطي: الجارودي فِي عبد الْقَيْس نسب إِلَى الْجَارُود وَهُوَ بشر بن عَمْرو من الجرد، وَأَبُو قُتَيْبَة بِضَم الْقَاف مصغر قُتَيْبَة الرحل واسْمه سلم بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام ابْن قُتَيْبَة الشعيري بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة الْخُرَاسَانِي، سكن الْبَصْرَة مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ أدْركهُ البُخَارِيّ بِالسِّنِّ وَمَات قبل أَن يلقاه، وَهُوَ غير سلم بن قُتَيْبَة الْبَاهِلِيّ ولد أَمِير خُرَاسَان قُتَيْبَة بن مُسلم وَقد ولي هُوَ إمرة الْبَصْرَة وَهُوَ أكبر من الشعيري وَمَات قبله بِأَكْثَرَ من خمسين سنة.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَهُوَ حَدِيث غَرِيب

(23/219)


مَا رَوَاهُ عَن مَالك إِلَّا أَبُو قُتَيْبَة، وَلَا عَنهُ إِلَّا الْمُنْذر.
قَوْله: (يُعْطي زَكَاة رَمَضَان) أَرَادَ بهَا: صَدَقَة الْفطر. قَوْله: (الْمَدّ الأول) صفة لَازِمَة لَهُ وَأَرَادَ نَافِع بذلك أَنه كَانَ لَا يُعْطي بِالْمدِّ الَّذِي أحدثه هِشَام بن الْحَارِث، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَدّ الأول هُوَ مد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما الثَّانِي فَهُوَ الْمَزِيد فِيهِ الْعمريّ. قَوْله: (فِي كَفَّارَة الْيَمين) أَي: يُعْطي فِي كَفَّارَة الْيَمين. قَوْله: (وَقَالَ لي ذَلِك) أَي: قَالَ أَبُو قُتَيْبَة: قَالَ لي مَالك بن أنس، وَهُوَ مَوْصُول بالسند الأول. قَوْله: (لَو جَاءَكُم أَمِير)
إِلَى آخِره، أرادبه مَالك إِلْزَام خَصمه بِأَنَّهُ لَا مرجع إلاَّ إِلَى مد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

4176 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسَفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ: أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (اللَّهُمَّ بارِكْ لَهُمْ فِي مِكيالِهِمْ وصاعِهِمْ ومُدِّهِمْ) . (انْظُر الحَدِيث 0312 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مضى فِي الْبيُوع عَن القعْنبِي.
وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ كِلَاهُمَا فِي الْمَنَاسِك عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (لَهُم) أَي: لأهل الْمَدِينَة. قَوْله: (فِي مكيالهم) بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ مَا يُكَال بِهِ. قيل: يحْتَمل أَن تخْتَص هَذِه الدعْوَة بِالْمدِّ الَّذِي كَانَ حينئذٍ حَتَّى لَا يدْخل الْمَدّ الْحَادِث بعده، وَيحْتَمل أَن تعم كل مكيال لأهل الْمَدِينَة إِلَى الْأَبَد. وَالظَّاهِر هُوَ الثَّانِي، وَلَكِن كَلَام مَالك الَّذِي سبق الْآن يُؤَيّد الأول وَعَلِيهِ الْعُمْدَة.