فتح الباري لابن
رجب بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التيمم
1 - باب
قول الله - عز وجل -: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6]
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول:
قال:
(2/195)
334 - ثنا عبدا لله بن يوسف: أبنا مالك، عن
عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: خرجنا مع رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض إسفاره
حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - أنقطع عقد لي،
فأقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على
التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى
أبي بكر، فقالوا: إلا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا عَلَى
ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بَكْر ورسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه عَلَى فخذي قَدْ
نام، فَقَالَ:
(2/195)
حبست رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا عَلَى ماء، وليس مَعَهُ ماء
قَالَتْ عَائِشَة: فعاتبني أبو بَكْر، وَقَالَ مَا شاء
الله أن يَقُول، وجعل يطعنني بيده فِي خاصرتي، فلا يمنعني
من التحرك إلا مكان
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى
فخذي، فنام حَتَّى أصبح عَلَى غير ماء، فانزل الله آية
التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ماهي بأول بركتكم
ياال أبي بكر، قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا
العقد تحته.
قيل: إن الرواية هنا: ((فقام حتّى أصبح)) . ورواه في
التفسير بلفظ: ((فنام حتّى أصبح)) وهو لفظ مسلم، وكذا في
((الموطأ)) .
هذا السياق سياق عبد الرحمان بن القاسم لهذا الحديث عن
أبيه، عن عائشة. وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة
فخالف في بعض ألفاظه ومعانيه مما لا
يضر.
(2/196)
وقد خرجه البخاري في موضع أخر وفي بعض
ألفاظه اختلاف على عروة –
أيضا.
ومما خالف فيه: أنه ذكر أن عائشة استعارت قلادة من أسماء
فسقطت، وان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أرسل رجلين في طلبها وليس معهما ماء فنزلت أية التيمم.
وفي رواية: أنهما صليا بغير وضوء.
وهذا يمكن الجميع بينه وبين حديث القاسم، عن عائشة بان
القلادة لما سقطت ظنوا أنها سقطت في المنزل الماضي،
فأرسلوا في طلبها وأقاموا في منزلهم وباتوا فيه، وفقد
الجميع الماء حتى تعذر عليهم الوضوء.
وفي حديث هشام: أن ذلك كان ليلة الابواء. وفي رواية عنه:
أن ذلك المكان كان يقال له: الصلصل.
وروى ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن
الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أقبلنا مع رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، حتى إذا
كنا بتربان - بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال، وهو بلد
لا ماء به - وذلك من السحر، انسلت قلادة لي من عنقي فوقعت
- وذكر بقية الحديث. خرجه الأمام أحمد.
وقد روي هذا الحديث من حديث عمار بن ياسر –أيضا - أن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس بأولات الجيش
ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس
ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء،
فتغيظ عليها أبو بكر، وقال: حبست الناس وليس معهم ماء،
فأنزل الله على
(2/197)
رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فتيمم المسلمون مع رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
خرجه الإمام أحمد أبو داود - وهذه لفظه - والنسائي وابن
ماجه، وفي إسناده اختلاف.
والآية التي نزلت بسبب هذه القصة كانت أية المائدة؛ فإن
البخاري خرج هَذَا الحَدِيْث فِي التفسير من ((كتابه))
هَذَا من حَدِيْث ابن وهب، عَن عَمْرِو، عَن عَبْد الرحمان
بْن الْقَاسِم، وَقَالَ فِي حديثه: فَنَزَلت: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} هذه الآية [المائدة:6]
.
وهذا السفر الذي سقط فيه قلادة عائشة أو عقدها كان لغزوة
المريسيع إلى بني المصطلق من خزاعة سنة ست، وقيل: سنة خمس،
وهو الذي ذكره أبن سعد عن جماعة من العلماء، قالوا: وفي
هذه الغزوة كان حديث الإفك.
وقد ذكر الشافعي: أن قصة التيمم كانت في غزوة بني المصطلق،
وقال: أخبرني بذلك عدد من قريش من أهل العلم بالمغازي
وغيرهم.
فإن قيل: فقد ذكر غير واحد، منهم: ابن عبد البر: أنه يحتمل
أن يكون الذي نزل بسبب قصة عائشة الآية التي في سورة
النساء؛ فإنها نزلت قبل سورة المائدة بيقين، وسورة المائدة
من أواخر ما نزل من القران، حتى قيل:
(2/198)
إنها نزلت كلها أو غالبها في حجة الوداع،
وأية النساء نزولها متقدم.
وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنها نزلت فيه لما
ضربه رجل قد سكر بلحي بعير، ففزر أنفه.
وفي ((سنن أبي داود)) والنسائي وأبن ماجه، عن علي، أن رجلا
صلى وقد شرب الخمر، فخلط في قراءته، فنزلت أية النساء.
فقد تبين بهذا: أن الآية التي في سورة النساء نزلت قبل
تحريم الخمر، والخمر حرمت بعد غزوة أحد، ويقال: إنها حرمت
في محاصرة بني النضير بعد أحد بيسير وآية النساء فيها ذكر
التيمم، فلو كانت قد نزلت قبل قصة عائشة لما توقفوا حينئذ
في التيمم، ولا انتظروا نزول آية أخرى فيه.
قيل: هذا لا يصح؛ لوجوه:
أحدها: سبب نزول آية النساء قد صح أنه كان ما ينشأ من شرب
الخمر من المفاسد في الصلاة وغيرها، وهذا غير السبب الذي
أتففت الروايات عليه في قصة عائشة، فدلّ على أن قصة عائشة
نزل بسببها آية غير آية النساء، وليس سوى آية المائدة.
والثاني: أن آية النساء لم تحرم الخمر مطلقاً بل عند حضور
الصلاة، وهذا كان قبل أحد، وقصة عائشة كانت بعد غزوة أحد
بغير
(2/199)
بخلاف، وليس في قصتها ما يناسب النهي عن
قربان الصلاة مع السكر حتى تصدر به الآية.
وأما تصدير الآية بذكر الوضوء فلم يكن لأصل مشروعيته؛ فإن
الوضوء كان شرع قبل ذَلكَ بكثير، كما سبق تقريره في أول
(كتاب الضوء) ، وإنما كان تمهيداً للانتقال عنه إلى التيمم
عند العجز عنه، ولهذا قالت عائشة: فنزلت آية التيمم، ولم
تقل: آية الوضوء.
والثالث: أنه قد ورد التصريح بذلك في ((صحيح البخاري)) كما
ذكرناه.
وأما توقفهم في التيمم حتى نزلت أية المائدة مع سبق نزول
التيمم في سورة النساء، فالظاهر - والله أعلم – أنهم
توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة، لان فقدهم
للماء أنما كان بسبب إقامتهم لطلب عقد أو قلادة، وإرسالهم
في طلبها من لا ماء معه مع أمكان سيرهم جميعا إلى مكان فيه
ماء، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيرا في طلب الماء، فلا يباح
معه التيمم، فنزلت أية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل
هذه الحال، وأن هذه الصورة داخلة في عموم أية النساء.
ولا يستبعد هذا، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا
يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة
دون الإسفار المباحة، ومنهم من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج
والجهاد، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء
لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله
(2/200)
في عموم قوله، ويدل ذلك على جواز التيمم في
سفر التجارة وما أشبهه من الإسفار المباحة، وهذا مما
يستأنس به من يقول: أن الرخص لا تستباح في سفر المعصية.
وأما دعوى نزول سورة المائدة كلها في حجة الوداع فلا تصح؛
فإن فيها آيات نزلت قبل ذلك بكثير، وقد صح أن المقداد قال
للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر: لا
نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا
إنا هاهنا قاعدون، فدل هذا على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة
بدر. والله أعلم.
وقد ذكر الله تعالى التيمم في الآيتين بلفظ واحد، فقال
فيهما: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}
[المائدة:6] .
فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}
ذكر شيئين
(2/201)
مبيحين للتيمم: أحدهما: المرض، والمراد به
عند جمهور العلماء: ما كان استعمال الماء معه يخشى منه
الضرر.
والثاني: السفر، واختلفوا: هل هو شرط للتيمم مع (عدم)
الماء، أم وقع ذكره لكونه مظنة عدم الماء غالباً، فإن عدم
الماء في الحضر قليل أو نادر، كما قال الجمهور في ذكر
السفر في آية الرهن، أنة إنما ذكر السفر لأنه مظنة عدم
الكاتب، وليس بشرط للرهن.
والجمهور: على أن السفر ليس بشرط للرهن ولا للتيمم مع عدم
الماء، وأنه يجوز الرهن في الحضر، والتيمم مع عدم الماء في
الحضر.
وقالت الظاهرية: السفر شرط في الرهن والتيمم.
وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم خاصة، وحكي رواية عن
أبي حنيفة، وعن طائفة من أصحاب مالك.
وعلى هذا: فلا فرق بين السفر الطويل والقصير على الأصح
عندهم وقوله:
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] .
قد قيل أن ((أو)) هنا بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون ومن
وافقهم؛ فإنه لما ذكر السببين المبيحين للتيمم، وهما
التضرر باستعماله بالمرض ومظنة فقده بالسفر ذكر مَا يستباح
مِنْهُ الصَّلاة بالتيمم وَهُوَ الحدث، فإن التيمم يبيح
الصَّلاة من الحدث الموجود ولا يرفعه عند كثير من العلماء،
وهو مذهب الشافعي، وظاهر مذهب أحمد وأصحابه، ولهذا قالوا
يجب عليه أن ينوي ما يستبيحه من العبادات وما يستبيح فعل
العبادات منه من الأحداث.
وقالت طائفة: بل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً بعدم
القدرة على استعمال الماء، وربما أستدل بعضهم
(2/202)
بهذه الآية، وقالوا: إنما أمر الله بالتيمم
مع وجود الحدث، ولو كان التيمم واجباً لكل صلاة أو لوقت كل
صلاة – كما يقوله من يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث، على
اختلاف بينهم في ذلك – لما كان لذكر الحدث معنى.
والأظهر – والله أعلم -: أن ((أو)) هاهنا ليست بمعنى
الواو، بل هي على بابها، وأريد بها: التقسيم والتنويع، وأن
التيمم يباح في هذه الحالات الثلاث، واثنتان منهما مظنتان،
وهما: المرض والسفر، فالمرض مظنة التضرر باستعمال الماء،
والسفر مظنة عدم الماء، فإن وجدت الحقيقة في هاتين
المظنتين جاز التيمم، وألا فلا.
ثم ذكر قسماً ثالثاً، وهو وجود الحقيقة نفسها، فذكر أن من
كان محدثاً ولم يجد ماءً فليتيمم، وهذا يشمل المسافر
وغيره، ففي هذا دليلٌ على أن التيمم يجوز لمن لم يجد
الماء، مسافراً كان أو غير مسافر. واللهُ أعلم.
وقد ذكر سبحانه حدثين:
أحدهما: الحدث الأصغر، وهو المجيء من الغائط، وهو كنايةٌ
عن قضاء الحاجة والتخلي، ويلتحق به كل ما كان في معناه،
كخروج الريح أو النجاسات من البدن عند من يرى ذَلكَ.
والثاني: ملامسة النساء، واختلفوا: هل المراد بها الجماع
خاصة، فيكون حينئذ قد أمر بالتيمم من الحدث الأصغر
والأكبر، وفي ذلك رد على من خالف في التيمم للجنابة كما
سيأتي ذكره – أشاء الله تعالى -، أو المراد بالملامسة
مقدمات الجماع من القبلة والمباشرة
(2/203)
لشهوة، أو مطلق التقاء البشرتين، وعلى هذين
القولين فلم يذكر في الآية غير التيمم من الحدث الأصغر.
وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} متعلق بمن أحدث،
سواءٌ كان على سفر أو لم يكن، كما سبق تقريره، دون المرض،
لان المريض لا يشترط لتيممه فقد الماء، هذا هو الذي عمل به
الأمة سلفا وخلفا.
وحكي عن عطاء والحسن: أن فقد الماء شرطٌ للتيمم مع المرض -
أيضا - فلا يباح للمريض أن يتيمم مع وجود الماء وأن خشي
التلف.
وهذا بعيد الصحة عنهما، فإنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد
الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له.
وقوله: {فَتَيَمَّمُوا} أصل التيمم في اللغة القصد، ثم صار
علما على هذه الطهارة المخصوصة.
وقوله: {صَعِيداً} اختلفوا في المراد بالصعيد، فمنهم من
فسره بما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها، ومنهم: من فسره
بالتراب خاصة.
وقوله: {طَيِّباً} فسره من قال: الصعيد: ما تصاعد على وجه
الأرض، بالطاهر. ومن فسره بالتراب، قال: المراد بالصعيد
التراب المنبت، كقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ
يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58] وهذا
(2/204)
مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وقول ابن عباس: الصعيد الطيب تراب الحرث.
وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه} .
كقوله في الوضوء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
وقد ذكرنا فيما سبق في ((أبواب الوضوء)) أن كثيراً من
العلماء أوجبوا استيعاب مسح الرأس بالماء، وخالف فيه
آخرون، وأكثرهم وافقوا هاهنا، وقالوا: يجب استيعاب الوجه
والكفين بالتيمم، ومنهم من قال: يجزئ أكثرهما، ومنهم من
قال: يجزئ مسح بعضهما كالرأس – أيضا.
وقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمار:
((إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تمسح بهما وجهك
وكفيك)) يرد ذلك ويبين أن المأمور به مسح جميعهما.
وسيأتي الكلام على حد اليدين المأمور بمسحهما – إن شاء
الله تعالى.
وقوله تعالى: {مِنْهُ} يستدل به من قَالَ: لا تيمم إلا
بتراب له غبار يعلق باليد، فإن قوله: {مِنْهُ} يقتضي أن
يكون الممسوح به الوجه واليدان بعض الصعيد، ولا يمكن ذلك
إلا فيما له غبار يعلق باليد حتى يقع المسح به، ومن خالف
في ذلك جعل ((من)) هاهنا لأبعد الغاية، لا للتبعيض وهو
يأباه سياق الكلام. والله تعالى أعلم.
الحديث الثاني:
(2/205)
335 – من طريق:
(2/205)
هشيم: أبنا سيارٌ: ثنا يزيد الفقير: أبنا
جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي:
نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا،
فأيما رجل من أمتي أدركته الصَّلاة فليصل، وأحلت لي
الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي
يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) .
هشيم: مدلس، وقد صرح هنا بالسماع من سيار، وهو: أبو الحكم،
وصرح سيار بالسماع من يزيد الفقير، وصرح يزيد بالسماع من
جابر، فهذا إسناد جليل متصل.
وهذه الخمس اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الأنبياء، وليس في الحديث أنه لم يختص
بغيرها، فإن هذه اللفظة لا تقتضي الحصر، وقد دلت النصوص
الصحيحة الكثيرة على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خص عن الأنبياء بخصال كثيرة غير هذه الخمس،
وسنشير إلى بعض ذلك – إنشاء الله تعالى.
فأما ((الرعب)) : فهو ما يقذفه الله في قلوب أعداءه
المشركين من الرعب، كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}
[آل عمران:151] وقال في قصة يوم بدر: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ
(2/206)
أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ} [الأنفال:12] .
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، عن النبي، أنه قال عام غزوة تبوك: ((لقد أعطيت
الليلة خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي: إما أنا فأرسلت إلى
الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت
على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه
رعبا)) – وذكر بقية الحديث.
وقوله: ((أعطيت الليلة خمسا)) ، لم يرد أنه لم يعطها قبل
تلك الليلة، فإن عامتها كان موجودا قبل ذاك، كنصره بالرعب،
وتيممه بالتراب، فإن التيمم شرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال،
ولعله أراد أنه أعلم بأن هذه الخمس الخصال اختص بها عن
سائر الأنبياء في تلك الليلة. والله أعلم.
وروينا بإسناد فيه ضعف عن السائب بن يزيد، عن النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((فضلت على الناس
بخمس)) - ذكر منها - ((ونصرت بالرعب شهرا من إمامي وشهرا
من خلفي)) .
(2/207)
وأما جعل الأرض له مسجدا وطهورا: فقد ورد
مفسرا في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((وجعلت لي الأرض
مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من
قبلي يعظمون ذلك؛ إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم)) -
وذكر بقية الحديث. خرجه الإمام أحمد.
وفي ((مسند البزار)) من حديث ابن عباس، عن النبي، قال:
((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي من الأنبياء: جعلت لي
الأرض طهوراً ومسجداً، ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى
يبلغ محرابه)) - وذكر الحديث.
وقد تبين بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بان الأرض كلها
جعلت مسجدا له ولأمته أن صلاتهم لا تختص بمساجدهم المعدة
لصلاتهم كما كان من قبلهم، بل يصلون حيث أدركتهم الصلاة من
الأرض وهذا لا ينافي أن ينهي عن الصلاة في مواضع مخصوصة من
الأرض لمعنى يختص بها، كما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل،
وفي المقبرة والحمام، وسيأتي ذلك مستوفى في مواضع أخر - أن
شاء الله تعالى.
(2/208)
وفي ذكره التيمم في الأرض من خصائصه ما
يشعر أن الطهارة بالماء ليست مما اختص به عن الأنبياء، وقد
سبق في ((كتاب: الوضوء)) ذكر ذَلكَ.
واستدل بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((جعلت
لي الأرض مسجدا وطهورا)) من يقول: أن التيمم يجوز بجميع
أجزاء الأرض من التراب والرمل والنورة والزرنيخ والجص وغير
ذلك، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
واستدل من قَالَ: لا يجوز التيمم بغير التراب من أجزاء
الأرض – كما يقوله الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه – بما في
((صحيح مسلم)) عن حذيفة، عن النَّبيّ، قَالَ: ((فضلنا على
الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض
كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء)) ،
وذكر خصلة أخرى.
فخص الطهور بتربة الأرض بعد أن ذكر أن الأرض كلها مسجد،
وهذا يدل على اختصاص الطهورية بتربة الأرض خاصة؛ فإنه لو
كانت الطهورية عامة كعموم المساجد لم يحتج إلى ذلك.
وقد خرج مسلم حديث جابر الذي خرجه البخاري هاهنا، وعنده:
((وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا)) .
وهذا يدل على
(2/209)
اختصاص الطهورية بالأرض الطيبة، والطيبة:
هي الأرض القابلة للإنبات، كما في قوله تعالى:
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ} [الأعراف:58] .
وروينا من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وحٌميد، عن أنس،
قَالَ:
رسول الله: ((جُعلت لي كل ُ أرضٍ طيبةً مسجداً وطهوراً)) .
ولكن قد دلت نصوص أٌخرُ على عموم كون الأرض مسجداً، فتبقى
طهوريتها مختصة بالأرض المنبتة.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث عبد الله بن محمد بن
عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أُعطيتُ
أربعاً لم يُعطهن ِّأحد من أنبياء الله: أُعطيت مفاتيح
الأرض، وسُمَّيتُ أحمد، وجُعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي
خير الأمم)) .
وقد ظن بعضهم: أن هذا من باب المطلق والمقيد، وهو غلط،
وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا
يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافاً لما حكي عن أبي ثور،
إلا أن يكون له مفهوم فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم،
والتراب والتربة لقب، مختلف في ثبوت المفهوم له، والأكثر
ون يأبون ذَلكَ.
لكن أقوى ما أستدل به: حديث حذيفة الذي خرجه مسلم، فإنه
جعل الأرض كلها مسجداً وخص الطهورية بالتربة، وأخرج ذلك في
مقام الامتنان وبيان
الاختصاص،
(2/210)
فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض
لكان ذكر التربة لا معنى له، بل كان زيادة في اللفظ ونقصاً
في المعنى، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجه ابن خزيمة في ((صحيحة)) ، ولفظه: ((وجعلت لنا
الأرض كلها مسجدا، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد
الماء)) .
ومعنى قوله: ((طهوراً)) : أي مطهراً، كما قَالَ: ((الماء
طهور لا ينجسه شيء)) .
وفيه دليل لمن قَالَ: إن التيمم يرفع الحدث كالماء رفعا
مؤقتا، ودليل على أن الطهور ليس بمعنى الطاهر كما يقوله
بعض الفقهاء؛ فإن طهارة الأرض مما لم تختص به هذه الأمة،
بل اشتركت فيه الأمم كلها، وإنما اختصت هذه الأمة بالتطهر
بالتراب، فالطهور هو المطهر.
والتحقيق: أن ((طهورا)) ليس معدولا عن طاهر، ولأن
((طاهرا)) لازم و ((طهورا)) متعد، وإنما الطهور اسم لما
يتطهر به، كالفطور والسحور والوجور والسعوط ونحو ذلك.
وأما إحلال الغنائم له ولأمته خاصة، فقد روي أن من كان
قبلنا من الأنبياء كانوا يحرقون الغنائم، وفي حديث عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ:
((وأحلت لي الغنائم أكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها،
كانوا يحرقونها)) .
وفي ((الصحيحين)) عن أبي هُريرةَ، قَالَ: ((غزا نبي من
الأنبياء؛ فجمع الغنائم، فجاءت نار لتأكلها فلم تطعمها،
فقال: أن فيكم غلولا،
(2/211)
فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل
بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من
الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثُمَّ أحل الله لنا
الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا)) .
وفي الترمذي عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ، قَالَ: ((لم تحل
الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار فتأكلها)) .
وفي كتاب ((السيرة)) لسليمان التيمي: أن من قبلنا من الأمم
كانوا إذا أصابوا شيئا من عدوهم جمعوه فأحرقوه وقتلوا كل
نفس من إنسان أو دابة.
وفي صحة هذا نظر، والظاهر أن ذوات الأرواح لم تكن محرمة
عليهم، إنما كان يحرم عليهم ما تأكله النار.
وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: الإمام أحمد إلى أن الغال
من الغنيمة يحرق رحله كله إلا ما له حرمة من حيوان أو
مصحف.
وورد في ذلك أحاديث تذكر في موضع أخر – أن شاء الله تعالى.
وقد قال طائفة من العلماء: أن المحرم على من كان قبلنا هو
المنقولات دون ذوات الأرواح، واستدلوا بأن إبراهيم - عليه
السلام - كانت له هاجر أمة، والإماء إنما يكتسبن من
المغانم، ذكر هذا ابن عقيل وغيره.
(2/212)
وفي هذا نظر؛ فإن هاجر وهبها الجبار لسارة،
فوهبتها لإبراهيم، ويجوز أن يكون في شرع من قبلنا جواز
تملك ما تملكه الكفار باختيارهم دون ما يغنم منهم.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الكافر إذا أهدى إلى آحاد
المسلمين هدية فله أن يتملكها منه، ويختص بها دون غيره من
المسلمين.
وقال القاضي إسماعيل المالكي: إنما اختصت هذه الأمة بإباحة
المنقولات من الغنائم، فأما الأرض فإنها فيء، وكانت مباحة
لمن قبلنا، فإن الله تعالى أورث بني إسرائيل فرعون.
وهذا بناء على أن الأرض المأخوذة من الكفار تكون فيئا،
سواء أخذت بقتال أو غيره، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد
في المشهور عنه.
ومن الناس من يقول: إنما حرم على من كان قبلنا الغنائم
المأخوذة بقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال. قالوا: وهاجر
كانت فيئا لا غنيمة؛ لان الجبار الكافر وهبها لسارة
باختياره.
وقد قَالَ طائفة من العلماء: أن ما وهبه الحربي لمسلم يكون
فيئا.
وزعم بعضهم: أن المحرم على من كان قبلنا كان من خمس
الغنيمة خاصة، كانت النار تأكله، ويقسم أربعة أخماس بين
الغانمين، وهذا بعيد جدا.
واستدلوا: بما خرجه البزار من
(2/213)
رواية سالم أبي حماد، عن السدي، عن عكرمة،
عن أبي عباس، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي)) –
فذكر الحديث، وقال فيه: ((وكانت الأنبياء يعزلون الخمس
فتجيء النار فتأكله، وأمرت أنا أن أقسمه في فقراء أمتي)) .
وسالم هذا: قال فيه أبو حاتم الرازي: مجهول.
وأما الشفاعة التي اختص بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من بين الأنبياء، فليست هي الشفاعة في خروج
العصاة من النار؛ فإن هذه الشفاعة يشارك فيها الأنبياء
والمؤمنون – أيضا -، كما تواترت بذلك النصوص، وإنما
الشفاعة التي يختص بها من دون الأنبياء أربعة أنواع:
أحدها: شفاعته للخلق في فصل القضاء بينهم.
والثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخول الجنة.
والثالث: شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار، فقد قيل: أن
هذه يختص هو
بها.
والرابع: كثرة من يشفع له من أمته؛ فإنه وفر شفاعته
وأدخرها إلى يوم القيامة.
وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا
الحديث، ففي الحديث الذي خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن
شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النَّبيّ، قَالَ: ((أعطيت
الليلة
(2/214)
خمسا ما أعطيهن نبي كان قبلي)) - فذكر
الحديث، إلى أن قَالَ: ((والخامسة هي ما هي: قيل لي سل؛
فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم
ولمن شهد أن لا إله إلا الله)) .
وخرج – أيضا – من حديث أبي موسى، عن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((أعطيت خمسا لم يعطهن
أحد كان قبلي)) – فذكره، وقال في آخره: ((وأعطيت الشفاعة،
وإنه ليس من نبي إلا قد سأل شفاعته، وإني أخرت شفاعتي،
جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)) .
وفيه - أيضا – من حديث ابن عباس، عن النبي، قال: ((لم يكن
نبي إلا له دعوة ينجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي
شفاعة لأمتي يوم القيامة، وأنا سيد ولد ادم ولا فخر، وأول
من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد وآدم ومن
دونه تحت لوائي)) .
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعد، عن النبي، قال:
((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض
يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء
الحمد بيدي ولا فخر)) .
وفي ((الصحيحين)) عن أبي هُريرةَ، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لكل نبي دعوة يدعو بها،
فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
(2/215)
وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر، عن النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لكل نبي دعوة
قد دعا بها أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
وفيه - أيضا – نحوه من حديث أنس، عن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث عبد الرحمان بن أبي عقيل: سمع النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إن الله لم يبعث نبيا
إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطاها، ومنهم من
دعا بها على قومه إذ عصوه فهلكوا، وإن الله أعطاني دعوة،
فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .
خرجه البزار وغيره.
وفي ((المسند)) عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إن الله أيقظني فقال:
إني لم أبعث نبيا ولا رسولا إلا وقد سألني مسالة أعطيتها
إياه، فسل يا محمد تعط؟ فقلت: مسألتي شفاعة لأمتي يوم
القيامة)) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، وما الشفاعة التي
اختبأت عندك؟ قال: ((أقول: يارب، شفاعتي التي اختبأت عندك،
فيقول الرب تبارك وتعالى: نعم، فيخرج ربي تبارك وتعالى
بقية أمتي من النار، فينبذهم في الجنة)) .
(2/216)
والمراد من هذه الأحاديث - والله أعلم -:
أن كل نبي أعطي دعوة عامة شاملة لأمته، فمنهم من دعا على
أمته المكذبين له فهلكوا، ومنهم من سأل كثرتهم في الدنيا
كما سأله سليمان - عليه السلام -، واختص النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ادخر تلك الدعوة العامة
الشاملة لأمته شفاعة لهم يوم القيامة.
وقد ذكر بعضهم: شفاعة خامسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في تخفيف عذاب بعض
المشركين، كما شفع لعمه أبي طالب، وجعل هذا من الشفاعة
المختص بها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وزاد بعضهم شفاعة سادسة خاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: شفاعته في سبعين ألفا يدخلون
الجنة بغير حساب. وسيأتي ما يدل عليه - أن شاء الله تعالى.
وأما بعثته إلى الناس عامة، فهذا مما اختص به - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأنبياء.
وفي ((المسند)) من حديث أبي ذر، عن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((أعطيت خمسا لم يعطهن
أحد قبلي)) - فذكر منها -: ((وبعثت إلى كل أحمر وأسود)) .
وفيه - أيضا - من حديث ابن عباس، عن النبي، قال:
(2/217)
((أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، ولا
أقولهن فخرا، بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود)) .
وفي ((مسند البزار)) من حديث ابن عباس، عن النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((أعطيت خمسا
لم يعطها نبي)) - فذكر منها -: ((وكان النبي يبعث إلى خاصة
قومه، وبعثت إلى الجن والأنس)) - وذكر الحديث.
وقال: لفظ: ((الجن والأنس)) لا نعلمه إلا في هذا الحديث،
بهذا الإسناد.
قلت: وقد سبق أن في إسناده سالما أبا حماد، وأن أبا حاتم
قَالَ: هو مجهول.
ولكن روي ذكر الجن في حديث آخر، ذكره ابن أبي حاتم في
((تفسيره)) تعليقا، وفي إسناده رجل لم يسم، عن عبادة بن
الصامت، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خرج عليهم فقال: ((أن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعمة الله
التي أنعم بها عليك، وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أنه
بعثني إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني
كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في
الأذان، وأمدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب
أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم
القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعين مقنعي
رؤسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي
سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان
والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة، فليس فوقي إلا
الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم
تحل لأحد كان قبلنا)) .
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((فضلت
(2/218)
على الناس بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت
بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا،
وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) .
وقوله: ((إلى الخلق كافة)) يدخل فيه الجن بلا ريب.
وفي ((صحيح ابن خزيمة)) عن حذيفة، عن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((فضلت على الناس
بثلاث)) - فذكر الثالثة، قَالَ: ((وأعطيت هذه الآيات من
أخر سورة البقرة من كنْز تحت العرش، لم يعط منه أحد قبلي
ولا أحد بعدي)) .
وهذه الخصلة الثالثة لم تسم في ((صحيح مسلم)) ، بل فيهِ:
((وذكر خصلة أخرى)) كما تقدم.
ومن تأمل هذه النصوص علم أن الخصال التي اختص بها عن
الأنبياء لا تنحصر في خمس، وأنه إنما ذكر مرة ستا ومرة
خمسا ومرة أربعا ومرة ثلاثا بحسب ما تدعو الحاجة إلى ذكره
في كل وقت بحسبه. والله أعلم.
(2/219)
2 - باب
إذا لم يجد ماء ولا ترابا
خرج فيه:
(2/220)
336 - حديث: هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة، أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا فوجدها،
فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله
تعالى آية التيمم. فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله
خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك
وللمسلمين فيه خيرا.
قد سبق: أن رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة لهذا
الحديث تخالف رواية عبد الرحمان بن القاسم، عن أبيه، عن
عائشة؛ فإن عبد الرحمان ذكر في روايته: أن عقدا لعائشة
انقطع، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أقام على التماسه، وأنه نام حتّى أصبح على غير ماء، فنزلت
آية التيمم.
وأما عروة، فذكر في روايته: أن قلادة لأسماء استعارتها
عائشة فهلكت – يعني: أنهم فقدوها -، فأرسل رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبها فأدركتهم
الصلاة وليس
(2/220)
معهم ماء، فصلوا فشكوا ذلك إلى النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزلت آية التيمم.
وفي حديث ابن القاسم، عن أبيه: أنهم بعثوا البعير، فوجدوا
العقد تحته.
وفي حديث ابن عروة، عن أبيه: أن الذين أرسلهم في طلبها
وجدوها.
فزعم بعض الناس أن عائشة كان لها عقد انقطع وقلادة فقدت،
فأرسل في طلب القلادة وأقاموا على التماس العقد، وفي هذا
نظر. والله أعلم.
ورجحت طائفة رواية مالك، عن ابن القاسم، عن أبيه على رواية
هشام، عن أبيه، ومنهم: القاضي إسماعيل المالكي، وقال:
بلغني عن يحيى القطان أنه كان ينكر أشياء حدث بها هشام في
آخر عمره لما ساء حفظة.
وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام، عن أبيه
على أن من لم يجد ماء ولا ترابا أنه يصلي على حسب حاله،
فإنهم صلوا بغير وضوء، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك، وشكوا
ذلك إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم
يأمرهم بإعادة الصَّلاة.
وزعم بعضهم: أن رواية القاسم، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام حتى أصبح على غير ماء يدل
على أنه لم يصل هو ولا من معه، وهذا في غاية الضعف.
وقد قررنا في ما تقدم: أن آية سورة النساء التي فيها ذكر
التيمم كان نزولها سابقا لهذه القصة، وأن
(2/221)
توقفهم في التيمم إنما كان لضنهم أن من فوت
الماء لطلب مال له لا رخصة له في التيمم، فنزلت الآية التي
في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك.
والظاهر: أن الجميع صلوا بالتيمم ولكن حصل لهم شك في ذلك،
فزال ذلك عنهم بنزول آية المائدة. والله أعلم.
واختلف العلماء في حكم من لم يجد ماءا ولا ترابا على أربعة
أقوال:
أحدها: أنه يصلي بحسب حاله، ولا قضاء عليه، وهو قول مالك
وأحمد في رواية عنهما، وأبي ثور والمزني وغيرهم، وحكي قولا
قديما للشافعي.
وعليه بوب البخاري، واستدل بحديث عائشة الذي خرجه هاهنا؛
فإنهم شكو ذَلكَ إلى النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ولم يذكر أنه أمرهم بقضاء صلاتهم؛ ولأن
الطهارة شرط، فإذا عجز عنها سقطت عنه، كاستقبال القبلة
وستر العورة.
والثاني: يصلي ويعيد، وهو قول مالك في رواية، والشافعي،
وأحمد في رواية عنه نقلها عنه أكثر أصحابه.
والثالث: لا يصلي ويعيد صلاته، وهو قول الثوري والأوزاعي
وأبي حنيفة، وهو قول قديم للشافعي.
واستدلوا: بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) .
ويجاب عنه: بان ذلك مع القدرة، كما في قوله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يقبل الله
(2/222)
صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، ولا
خلاف أنه لو عدم الماء وصلى بالتيمم قبلت صلاته.
والرابع: أنه لا يصلى ولا إعادة عليه، وهو رواية عن مالك،
وقول بعض الظاهرية، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور.
وهو أردأ الأقوال وأضعفها، ويرده قول الله تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ،
وقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) .
وليس هذا كالحائض؛ فإن الحائض ليست من أهل الطهارة، ولا
يصح منها لو فعلتها، وهذا من أهلها وهو عاجز عنها.
وأما قول أسيد بن حضير لعائشة - رضي الله عنها -: ((جزاك
الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك
لك وللمسلمين خيرا)) .
فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، وقد تقدم أن
بعض أهل السير ذكر أن هذه القصة كانت هي وقصة الإفك في
سفرة واحدة، وهذا يشكل عليه قول أسيد بن حضير هذا؛ فإن
الفرج الذي حصل من قضية الإفك إنما وقع بعد قدومهم المدينة
بمدة، وظاهر سياق حديث عائشة يدل على أن أسيد بن حضير
قَالَ ذَلكَ عقيب نزول آية التيمم.
وقد زعم بعضهم: أن هذا قاله
(2/223)
أسيد بن حضير بعد نزول الآيات في قصة
الإفك، وبعد نزول آية التيمم، وهو مخالف لظاهر هذه
الرواية. والله أعلم.
وقد استحب الثوري وأحمد: حمل التراب للمسافر كما يستحب له
حمل الماء للطهارة، ومن المتأخرين من أنكره، وقال: هو
بدعة.
(2/224)
3 - باب
التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة
وبه قال عطاء.
وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله: تيمم.
وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمربد النعم،
فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد.
هذه الآثار الثلاثة التي علقها البخاري تشتمل على ثلاثة
مسائل:
المسألة الأولى:
أن من عدم الماء في الحضر فله أن يتيمم ويصلي، وقد حكاه عن
عطاء، وهو قول جمهور العلماء.
وقد سبقت الإشارة إلى الاختلاف في هذه المسألة، وان السفر
هل هو شرط لجواز التيمم أم كان ذكره في القران لان السفر
مظنة عدم الماء غالبا؟ والأكثرون على الثاني، فلو لم يجد
الماء في الحضر تيمم وصلى.
واختلفوا: هل يعيد إذا وجد الماء أم لا؟ فقال الليث وأبو
حنيفة والشافعي:
يعيد، وهو وجه لأصحابنا.
ومنهم من فرق بين أن تقصر مدة عدم الماء في الحضر فيعيد،
وبين أن تطول فلا يعيد، والصحيح من المذهب: أنه لا يعيد،
وهو قول مالك والثوري وإسحاق والمزني
(2/225)
وغيرهم.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر، وهو
رواية عن أبي
حنيفة، ورواية عن أحمد اختاره الخلال والخرقي وحكي عن زفر
وداود.
ومن أصحابنا من قال: إن كان يرجو حصول الماء قريبا لم يصلي
حتى يجده، وإن فات الوقت.
المسألة الثانية:
أن المريض إذا كان يجد الماء، ولكن ليس عنده من يناوله
إياه، فإنه يتيمم
ويصلي، حكاه عن الحسن، وهو –أيضا - قول الأوزاعي والشافعي
وأحمد وأكثر
العلماء.
وعن الشافعي: يعيد، وحكي رواية عن أحمد، وظاهر كلامه أنه
لا يعيد، وهو المشهور عند أصحابنا.
ولأصحابنا وجه: أنه إن رجا أن يجد من يناوله الماء بعد
الوقت قريبا لم يصل بالتيمم، وأخر حتى يجيء من يناوله.
والصحيح: الأول، وأنه يصلي بالتيمم في الوقت، ولا يؤخر
الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء بعده، كما لا يؤخر المسافر
الصلاة إذا رجا الوصول إلى الماء بعد الوقت عقيبه.
وخرج ابن أبي حاتم من رواية قيس، عن خصيف، عن مجاهد، في
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء:43] ،
قَالَ: نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن
يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له، فأنزل
الله تعالى هذه الآية.
المسألة الثالثة:
أنه يجوز التيمم بقرب المصر إذا لم يجد الماء، وان كان يصل
إلى المصر في الوقت، هذا هو المروي عن ابن عمر - رضي الله
عنه -، وقد احتج به الإمام أحمد، وقال: كان ابن عمر يتيمم
قبل أن يدخل المدينة، وهو يرى بيوت المدينة.
(2/226)
وهذا الأثر مشهور عن ابن عمر من رواية نافع
عنه، وقد رفعه بعضهم، خرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا. قال
البيهقي: وهو غير محفوظ.
ولفظ المرفوع: أن ابن عمر قَالَ: رأيت النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم بموضع يقال له: مربد
النعم، وهو يرى بيوت المدينة.
وخرج الأثرم من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه اقبل
من أرضه التي بالجرف، حتى إذا كان بمربد النعم حضرت الصلاة
صلاة العصر، فتيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة.
وقد روى الشافعي، عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع، أن
ابن عمر أقبل من الجرف
(2/227)
حتى كان بالمربد تيمم وصلى العصر، ثم دخل
المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصَّلاة.
((الجرف)) : بضم الجيم والراء -: موضع بينه وبين المدينة
ثلاثة أميال.
و ((المربد)) : مكان بقرب المدينة.
ورواه سفيان الثوري، عن ابن عجلان، عن نافع، أنه تيمم على
راس ميل أو ميلين من المدينة، فصلى العصر، ثم قدم والشمس
مرتفعة، فلم يعد.
خرجه حرب الكرماني.
ورواه - أيضا - مالك، عن نافع، قَالَ: أقبلت مع ابن عمر من
الجرف حتى إذا بلغ المربد تيمم، ثم صلى.
ورواه العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه تيمم وصلى ثم دخل
المدينة في وقت، فلم يعد، ورواه أبو معشر، عن نافع، عن ابن
عمر، قَالَ: اقبلنا من الغابة، حتى إذا كنا بمربد النعم
جاءت الصلاة، فتيمم، وصلى العصر، ثم دخل المدينة.
وهذا المروي عن ابن عمر يؤخذ منه عدة مسائل:
منها: أنه تجوز الصلاة بالتيمم في أول وقت للمسافر، وان
علم أنه يصل إلى الماء قبل خروج الوقت، وهذا قول أكثر
العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا، واستدل أحمد لذلك بحديث
ابن عمر هذا. وحكي عن الشافعي قول: أنه لا يجوز.
ومنها: أن المسافر سفرا قصيرا له أن يتيمم فيه كالسفر
الطويل، وهو قول جمهور العلماء - أيضا -، وحكي فيه خلاف
شاذ في مذهب الشافعي، ومن أصحابه من لم يثبته عنه، وقال:
إنما حكاه الشافعي عن غيره، وهو وجه ضعيف لأصحابنا - أيضا.
وقد تقدم: أن عدم الماء في الحضر يبيح التيمم عند
الأكثرين، لكن منهم من أوجب الإعادة فيه، فمن قال: يعيد
إذا تيمم في الحضر، وقال: لا يتيمم إلا في سفر طويل جعل
حكم السفر القصير حكم
(2/228)
الحضر في الإعادة إذا صلى فيه بالتيمم.
وحكى ابن عبد البر، عن محمد بن مسلمة المالكي، أنه حمل ما
فعله ابن عمر على أنه خاف فوت الوقت، وهذا يدل على أنه يرى
أن الحاضر إذا كان عادما للماء لم يتيمم، إلا أن يخاف فوت
الوقت.
وسئل ابن المبارك: عن الراعي تكون الماشية منه على الميلين
والثلاثة؟ فذكر عن سعيد بن المسيب، قَالَ: يتيمم ويصلي.
وقال أبو داود: قلت لأحمد: الرجل يخرج على الميلين
والثلاثة والأكثر، فتحضره الصلاة، أيتيمم؟ قَالَ: إذا خاف
يتيمم. قيل له فيعيد؟ قال: لا.
قال: حرب: قلت لإسحاق - يعني: ابن راهويه -: فرجل من
المدينة على فرسخ، وليس في سفر، فحضرت الصلاة، وليس له
ماء، أيتيمم ويصلي؟ فقل: نعم. قلت: يعيد؟ قال: لا، وانأ
أرى في الحضر التيمم.
قَالَ: وسألته عن رجل في الصيد، وليس هو في سفر، فحضرت
الصلاة، ولم يكن معه ماء، فتيمم وصلى؟ قال: إن كان في
معصية يعيد، وان كان للكسب على عياله لا يعيد.
وروى حرب بإسناده عن الزهري، في رجل ينتجع
(2/229)
الكلأ فلا يجد الماء؟ قال: لا نرى أن يقيم
بالأرض ليس فيها ماء. قال الوليد بن مسلم ذكرته لبعض
المشيخة، فقال: سمعت أن معاذ بن جبل ذكر ذلك له، فقال: لو
لم يكن لهم ذلك لم يكن لنا أن نتركهم وذلك.
والمنصوص عن أحمد في الحطاب ونحوه: لا يرخص لهم في ترك حمل
ماء
الوضوء، وإنه إذا لم يكن معهم ماء فلا يتيممون، وحمله
القاضي على أن السفر القصير لا تيمم فيه.
وأجاز طائفة من أصحابنا لمن عدم الماء في الحضر في التيمم
في أخر الوقت، وإنهم لا يكلفون طلب الماء مع فوت الوقت مع
بعد الماء في الحضر، وأوجب القاضي في ((خلافه)) طلب الماء
على الحاضر، وان أدركه بعد الوقت.
وقال صاحب ((المغني)) : من فارق موضع الماء إلى مكان قريب
لحرث ونحوه، فحضرت الصلاة، ولا ماء معه، وان رجع إليه فاته
غرضه؛ فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه، إلا أن يكون مكان
الماء ومكان الحاجة من عمل
(2/230)
واحد، ففي الإعادة وجهان.
وقد سبق ذكر هذه المسألة في ((باب: التماس الماء إذا حانت
الصَّلاة)) في ((كتاب: الوضوء)) .
ومنها: أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت فإنه لا
إعادة عليه، هذا قول جمهور العلماء، وحكي عن طائفة من
السلف وجوب الإعادة.
ولو وجده بعد الوقت، فأجمعوا على أن لا إعادة علية -: حكاه
ابن المنذر
وغيره.
وفي ((المسند)) و ((سنن أبي داود)) والنسائي من رواية عطاء
بن يسار، عن أبي سعيد، قَالَ: خرج رجلان في سفر، فحضرت
الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً وصليا، ثم
وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد
الآخر، ثم أتيا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: ((أصبت
السنة، وأجزأتك صلاتك)) ، وقال للذي توضأ وأعاد: ((لك
الأجر مرتين)) .
وقال أبو داود: ذكر أبي سعيد في إسناده وهم ليس بمحفوظ، بل
هو مرسل.
واستحب الأوزاعي الإعادة بالوضوء في الوقت من غير إيجاب.
ونقله حرب، عن أحمد.
وقال القاضي أبو يعلي: يجوز ولا يستحب، وذكر أنه ظاهر كلام
أحمد؛ فإنه قَالَ في رواية صالح: إن أعاد لم
(2/231)
يضره.
وقال الخلال: العمل من قول أبي عبد الله على أنه لا يعيد.
وقال الحسن: أن شاء أعاد، وإن شاء لم يعد.
وصرح أصحاب الشافعي بأن الإعادة غير مستحبة.
وهذا الحديث قد يستدل به على استحباب الإعادة؛ لقوله: ((لك
الأجر
مرتين)) . وقد يقال: إصابة السنة أفضل من ذَلكَ.
وقد ذكرنا في ((كتاب: العلم)) في شرح حديث: ((ثلاثة يؤتون
أجرهم مرتين)) أنه ليس كل من له أجره مرتين يكون أفضل من
غيره.
ومنها: أنه لا يجب طلب الماء لمن عدمه في غير موضعه الذي
هو فيه، وقد أخذ بذلك إسحاق، واستنبطه من فعل ابن عمر هذا.
قال البخاري - رحمه الله -:
(2/232)
337 - ثنا يحيى بن بُكير: ثنا الليث، عن
جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال: سمعت عُميراً مولى ابن
عباس قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى دخلنا
على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو
الجهيم: أقبل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من نحو بئر جمل، فلقيه رجلٌ فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلام، حتى أقبل على
الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.
هذا الحديث ذكره مسلم في ((صحيحه)) تعليقاً عن الليث بهذا
(2/232)
الإسناد، وكذا رواه ابن إسحاق، عن الأعرج.
ورواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن أبي الحويرث عبد الرحمان بن
معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصمة، وزاد، أنه مسح وجهه
وذراعيه، وأسقط من إسناده
((عُميراً)) .
ورواه أبو صالح كاتب الليث بن سعد، عنه، وقال في حديثه -
أيضا ً -:
((فمسح بوجهه وذراعيه)) .
وأبو صالح تغير بآخرة، وقد اختلف عليه في لفضه، ورواية
يحيى بن بُكير أصح.
قال الخطابي: حديث أبي الجهيم في مسح الذراعين لا يصح.
يعني: لا يصح رواية من روى فيه مسح الذراعين.
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر
إذا لم يجد الماء، ولكن التيمم هنا لم يكن لما تجب له
الطهارة، بل لما يستحب له، وقد تقدم ذكر هذا في ((كتاب:
الوضوء)) في غير موضع منه، وذكرنا أن عمر كان يتيمم في
الحضر لذكر الله عز وجل، وهو من رواية علي بن زيد، عن يوسف
بن مهران، عن ابن عباس، قَالَ: رأيت
(2/233)
عمر بال ثم أتى الحائط فتمسح به، ثم قال:
هذا للذكر والتسبيح حتى تلقى الماء.
خرّجه ابن جرير الطبري.
وهذا يدل على أنه إنما تيمم بمكان ليس فيه ماء، وذكرنا
فيما تقدم أن من السلف من كان يتيمم لرواية الحديث ونحو
ذلك، وعن أبي العالية أنه تيمم لرد السلام.
وفي المسند عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج فيهريق الماء، فيتيمم
بالتراب، فأقول: يا رسول الله، الماء منك قريب، فيقول:
((ما يدريني، لعلي لا
أبلغه)) .
وذكرنا - أيضاً - أن طائفة من أعيان الشافعية كأبي المعالي
الجويني - وصاحبه أبي حامد صرحوا بأن من تيمم في الحضر، ثم
قرأ القرآن وذكر الله كان جائزاً، استدلالاً بهذا الحديث.
ورد ذلك بعض متأخر يهم، وقال: لم يكن تيمم النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، إنما كان ظاهراً حيث
لا يوجد الماء، ولكن كان بقرب المدينة، فإن في هذا الحديث
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد أقبل
من نحو بئر جمل، وهي خارج المدينة.
وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحو حديث أبي الجهيم.
خرجه أبو داود من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى
(2/234)
حاجته ثم أقبل في سكة من سكك المدينة، فسلم
عليه رجل، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليه السلام.
خرجه أبو داود وغيره.
ورفعه منكر عند أئمة الحفاظ، وإنما هو موقوف عندهم -: كذا
قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو
داود والبخاري والعقيلي والأثرم.
وتفرد برفعه محمد بن ثابت العبدي، عن نافع. والعبدي ضعيف.
وذكر الأثرم أبي الوليد، أنه سأل محمد بن ثاب هذا: من الذي
يقول النبي وابن عمر؟ فقال لا أدري.
ففي هذا الحديث: أن تيمم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان في بعض سكك المدينة.
وسيأتي في ((باب: الشعر في المسجد)) أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم على جدار المسجد، ثم دخل
المسجد.
وقال بعض أصحابنا: يجوز التيمم لرد السلام في الحضر، إذا
خشي فوته؛ لان الطهارة لرده مشروعة ندبا لا وجوبا؛ فإنه
يجوز الرد مع
(2/235)
الحدث لكن يفوت فعله بالطهارة؛ لأنه على
الفور.
واستدل بعضهم بهذا الحديث: على جواز التيمم في الحضر إذا
خاف فوت صلاة الجنازة، كما هو قول كثير من العلماء، ومذهب
أبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه، وذكر أحمد أنه قول أكثر
العلماء: ابن عباس ومن بعده - وذكر الحسن والنخعي وجماعة.
ومن منع من ذلك كمالك والشافعي وأحمد - في الرواية الأخرى
-؛ فإنهم قد يفرقون بأن الطهارة بالماء لصلاة الجنازة شرط،
فلا يسقط مع القدرة عليه خشية
الفوات، بخلاف الطهارة لرد السلام ونحوه من الذكر، فأنها
ليست بشرط فخف أمرها.
وقد أجاب بهذا طائفة من الفقهاء من الشافعية، منهم:
الماوردي وأبو الطيب الطبري ونصر المقدسي وغيرهم. وهذا
موافق لما تقدم حكايته عن أبي المعالي والغزالي.
والعجب أن صاحب ((شرح المهذب)) حكى ذلك كله في موضعين من
((كتابه)) ، وقال فيما حكاه عن أبي المعالي والغزالي: لا
نعرف أحدا وافقهما، وهذا الذي حكاه عن الماوردي وغيره يدل
على الموافقة.
(2/236)
4 - باب
هل ينفخ فيهما؟
(2/237)
338 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا الحكم، عن
ذر، عن سعيد بن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، قَالَ: جاء
رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت، فلم أجد الماء؟
فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في
سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت،
فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((إنما كان يكفيك هكذا)) ، فضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما،
ثم مسح بهما وجهه وكفيه.
وقد خرجه فيما بعد من وجه أخر، وفيه: ((ثم نفضها)) بدل
((نفخ فيهما)) .
وفي رواية لمسلم في ((صحيحه)) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال لعمار: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك
الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)) .
واستدل بهذا بعض من ذهب إلى أنه لا يشرط في المتيمم به أن
يكون له غبار يعلق باليد، كما هو قول مالك وأبي حنيفة
(2/237)
والثوري وغيرهم؛ لان نفخ التراب من اليدين
ونفضهما منه قد يزيل ما علق باليد منه أو يخففه حتّى لا
يبقى منه ما يعم الوجه والكفين غباره، فلو كان المسح
بالغبار شرطا لكان ترك النفخ أولى.
وأجاب عن ذلك بعض من يرى اشتراط الغبار الممسوح به، كأصحاب
الشافعي وأحمد: بأن النفخ يدل على أنه علق باليد من التراب
ما يخفف منه بالنفخ، وقد قال لعمار: ((إنما يكفيك هكذا)) ،
فدل على أنه لا بد في التيمم من تراب يعلق باليد.
وأجاب بعضهم: بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إنما ذكر النفخ لعمار لا لكون النفخ سنة، بل ليبين له أن
المبالغة في التيمم بالتمعك الذي فعله بالتراب ليس بسنة،
وأنه يكفي من ذلك أدنى ما يمكن أن يمسح به الوجه والكفان
من غباره.
وقد اختلف العلماء في نفخ اليدين من الغبار في التيمم:
فمنهم من استحبه، ومنهم من كرهه.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن
عمر، أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة، فمسح بهما وجهه، ثم
ضرب بيديه ضربة أخرى، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين، ولا
ينفض يديه من التراب.
وكره النفض حماد وغيره، واستحبه الحسن ويحيى ابن أبي كثير.
واختلفت الرواية عن أحمد في ذَلكَ: فروي عنه أنه لم يذهب
إلى النفخ. وروي عنه أنه قَالَ: أن شاء فعل، وإن شاء لم
يفعل.
ونقل عنه الميموني قَالَ: لا ينفخهما. ثم قَالَ: ومن الناس
من ينفضهما، ولست
(2/238)
أنفضهما، وكأني للنفخ أكره.
ونقل عنه حنبل أنه ذكر حديث عمار هذا، وقال: اذهب إليه.
قيل له: ينفخ فيهما؟ قَالَ: ينفخ فيهما ويمسحهما.
قال الخلال: العمل من مذهبه: على أنه يجوز فعل ذلك كله:
النفخ والنفض، ويجوز تركه.
وقال غيره من أصحابنا: أن كان التراب خفيفا كره النفخ؛
لأنه ينقص به كمال التعميم بالطهور، وإن كان كثيرا ففي
كراهته روايتان، والصحيح: لا يكره؛ لأنه تخفيف لا يكره
ابتداء، فكذلك دواما.
وللشافعي في تخفيف التراب بالنفخ ونحوه قولان: أحدهما:
يستحب. والثاني: لا. وقيل: أن القديم استحبابه والجديد عدم
استحبابه.
واختلف أصحابه في ذلك على طريقين: فمنهم من قال: له قولان
مطلقا. ومنهم من قال: هما منزلان على حالين، فإن كان
التراب كثيرا نفخ، وألا لم ينفخ.
ونقل حرب، عن إسحاق، قال: أن لزق بالكفين تراب كثير
نفخهما، وان لم يلزق بهما تراب كثير أجزاه أن لا ينفخ.
قال حرب: ووصف لنا إسحاق التيمم، فضرب بيديه، ثم نفخهما
فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه الثانية ولم ينفخهما، ثم مسح
ظهور الكفين: اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى.
وروى بإسناده، عن عمار، أنه غمس باطن كفيه بالتراب ثم نفخ
يده، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل. وقال عمار: هذا
التيمم.
وبإسناده: عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن
عمر، أنه وصف التيمم فمسح ظهر يديه وذراعيه من لدن أصابعه
إلى مرفقيه، ثم
(2/239)
من بطن اليدين من لدن مرفقه إلى أصابعه
مرتين ينفضهما.
ورواية الزهري، عن سالم، عن ابن عمر المتقدمة أصح من هذه.
وذكر بعض المالكية: أن جواز نفض اليدين من التراب في
التيمم قول مالك والشافعي دون استقصاء لما فيهما، لكن
لخشية ما يضر به من ذلك من تلويث وجهه، أو شيء يؤذيه.
وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ضرب بيديه الأرض للتيمم نفخ
فيهما. واختلفوا في ذلك، فكان الشعبي يقول: ينفضهما. وقال
مالك: نفضا خفيفا. وقال الشافعي: لا باس أن ينفض إذا بقي
في يده غبار. وقال إسحاق نحوا من قول الشافعي. وقال أحمد:
لا يضره فعل أو لم يفعل. وقال أصحاب الرأي: ينفضهما. وكان
ابن عمر لا ينفض يديه.
قال ابن المنذر: قول أحمد حسن.
(2/240)
5 - باب
التيمم للوجه والكفين
(2/241)
339 - حدثنا حجاج: ثنا شعبة، عن الحكم، عن
ذر، عن سعيد بن
عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه: قال عمار - بهذا.
وضرب شعبة بيديه الأرض، ثم أدناهما من فيه، ثم مسح بهما
وجهه وكفيه.
قال النضر: أبنا شعبة، عن الحكم: سمعت ذرا، عن ابن عبد
الرحمان بن أبزى - قال الحكم: وقد سمعته من ابن عبد
الرحمان -، عن أبيه: قال عمار.
(2/241)
340 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن
الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، أنه
شهد عمر، وقال له عمار: كنا في سرية فأجنبنا. وقال: تفل
فيهما.
(2/241)
341 - حدثنا محمد بن كثير: ثنا شعبة، عن
الحكم، عن ذر، عن ابن
عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، قال: قال عمار لعمر: تمعكت
فأتيت النبي، فقال: ((يكفيك الوجه والكفين)) .
(2/241)
342 - حدثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الحكم، عن
ذر، عن ابن
(2/241)
عبد الرحمن بن أبزى، عن عبد الرحمان: شهدت
عمر، فقال له عمار - وساق الحديث.
(2/242)
343 - حدثنا محمد بن بشار: ثنا غندر: ثنا
شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن
أبيه: قال عمار: فضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بيده الأرض، فمسح وجهه وكفيه.
حديث عمار في التيمم، خرجه البخاري في ((كتابه)) من
طريقين:
أحدهما: من طريق أبي وائل، عن أبي موسى، عن عمار، وسيأتي.
والأخر: من رواية عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار.
ولم يخرجه من هذا الطريق إلا من رواية شعبة، عن الحكم، عن
ذر الهمداني، عن سعيد بن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، عن
عمار.
وقد ساق لفظه بتمامه في الباب الماضي، وأحال في هذا الباب
على ما قبله، بقوله: ((قال عمار بهذا)) - يعني: بما سبق من
سياق الحديث في الباب الماضي.
ووصف شعبة التيمم المذكور في الحديث بفعله.
وكرر البخاري في هذا الباب طرقه إلى شعبة، وبعضها تعليق؛
لما في ذلك من زيادة فائدة:
ففي رواية سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم، عن شعبة: تصريح
عبد الرحمان بن أبزى بسماع هذا الحديث من عمار، ومخاطبته
لعمر، وهذه فائدة جليلة.
(2/242)
وفي رواية سليمان بن حرب، عن شعبة: أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفل في يديه
لما ضرب بهما الأرض، والمراد بالتفل هنا: النفخ، كما في
سائر الروايات.
وفي رواية النضر بن شميل: أن الحكم سمع الحديث من ذر، عن
سعيد ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، وسمعه - أيضا - من
ابن عبد الرحمان ابن أبزى، عن أبيه، كما سمعه من ذر، عنه.
وذكر البيهقي وغيره: أن ابن أبزى هو سعيد - أيضا.
وقد ذكر البخاري رواية النضير تعليقا، وأسندها مسلم عن
إسحاق بن منصور، عنه.
واتفقت رواياتهم على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مسح وجهه وكفيه. وفي رواية محمد بن كثير، عن
شعبة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
لعمار: ((يكفيك الوجه والكفين)) .
وخرجه مسلم من طريق يحيى القطان، عن شعبة، ولفظه: أن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار: ((إنما
كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما
وجهك وكفيك)) .
قال الحكم: وحدثنيه ابن عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه بمثل
حديث ذر. قال: وحدثني سلمة، عن ذر في هذا الإسناد الذي ذكر
الحكم. انتهى.
وقد كان عند شعبة لهذا الحديث إسناد آخر، رواه عن سلمه بن
كهيل، عن
ذر. كما خرجه مسلم من رواية القطان، عن شعبة، ولكن البخاري
لم يخرجه عن شعبة من هذا الوجه لأمرين:
(2/243)
أحدهما: أن سفيان الثوري والأعمش روياه عن
سلمة بن كهيل؛ فخالفا شعبة في إسناده، على اختلاف عليهما
فيه.
والثاني: أن سلمة شك: هل ذكر في الحديث مسح الكفين، أو
الذراعين؟ وكان – أحيانا – يحدث سلمة به، ويقول: ((إلى
المرفقين)) ، فأنكر ذلك عليه منصور بن المعتمر، فقال سلمة:
لا ادري، أذكر الذراعين، أم لا؟
خرج ذَلِكَ أبو داود والنسائي وغيرهما.
ولهذا المعنى أشار مسلم إلى اتحاد الإسناد من رواية الحكم
وسلمة، وسكت عن اللفظ؛ فإنه مختلف.
وقد خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي في ((أحكام
القرآن)) له عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن الحكم - بإسناد -،
وقال فيه: ((إنما كان يكفيك هكذا)) ، وضرب بيديه الأرض
واحدة، فمسح بهما كفيه ووجهه.
وكذا خرجه أبو بكر الأثرم عن أبي الوليد الطيالسي، عن
شعبة، بهذا الإسناد، وعنده: أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة، ثم
نفخها، ومسح بهما وجهه وكفيه.
وقد خرجه النسائي من رواية خالد، عن شعبة، وعنده: أن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:
((إنما كان يكفيك)) ، وضرب شعبة بكفيه ضربة نفخ فيهما، ثم
دلك أحداهما بالأخرى، ثم مسح بهما وجهه.
(2/244)
وفي هذه الرواية تأخير مسح الوجه، لكنه من
تفسير شعبة، والظاهر أن شعبة كان أحيانا يحدث بالحديث
بلفظه، وأحيانا يفسره بفعله.
وقد اجمع العلماء على أن مسح الوجه واليدين بالتراب في
التيمم فرض لا بد منه في الجملة؛ فإن الله تعالى يقول:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
[المائدة:6]
ولكن اختلفوا في قدر الفرض من ذلك:
فأما الوجه:
فمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء: أنه يجب
استيعاب بشرته بالمسح بالتراب، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه،
وسواء كان ذلك الشعر يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر
الخفيف الذي يصف البشرة، أم لا، هذا هو الصحيح.
وفي مذهبنا ومذهب الشافعي وجه أخر: أنه يجب إيصال التراب
إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها، ولا
يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وان
وجب عندهم المضمضة والاستنشاق في الوضوء.
وعن أبي حنيفة روايات، إحداها: كقول الشافعي وأحمد.
والثانية: أن ترك قدر درهم يجزئه، وان ترك دونه أجزأه.
والثالثة: أن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلا فلا.
والرابعة: أن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع
أجزأه، وإلا فلا. وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف
وزفر.
وحكى ابن المنذر، عن سليمان بن داود الهاشمي: أن مسح
التيمم
(2/245)
حكمه حكم مسح الرأس في الوضوء يجزئ فيه
البعض.
وكلام الإمام أحمد يدل على حكاية الإجماع على خلاف ذلك.
قال: الجوزجاني: ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي، قال: سألت
أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم؟ قال: يعيد
الصلاة. فقلت له: فما بال الرأس يجزئ في المسح ولم يجز أن
يترك ذلك من الوجه في التيمم؟ فقال: لم يبلغنا أن أحدا ترك
ذَلكَ من تيممه.
قَالَ الشالنجي: وقال أبو أيوب –يعني: سليمان بن داود
الهاشمي -: يجزئه في التيمم أن لم يصب بعض وجهه أو بعض
كفيه؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس؛ إذا ترك منه بعضا
أجزأه.
قال الجوزجاني: فذكرت ذلك ليحيى بن يحيى ـ يعني:
النيسابوري ـ، فقال: المسح في التيمم كما يمسح الرأس، لا
يتعمد لترك شئ من ذلك، فإن بقي شئ منه لم يعد، وليس هو
عندي بمنزلة الوضوء.
قال الجوزجاني: لم نسمع أحدا يتبع ذلك من رأسه في المسح
ولا بين أصابعه في التيمم كما يتبع في الوضوء بالتخليل،
فأحسن الأقاويل منها ما ذكره يحيى بن يحيى: أن لا يتعمد
ترك شئ من ذلك، فإن بقي شئ لم يعد. انتهى.
وظاهر هذا: يدل على أن مذهب سليمان بن داود ويحيى بن يحيى
والجوزجاني: أنه إذا ترك شئ من وجهه ويديه في التيمم لم
يعد الصلاة.
(2/246)
ونقل حرب، عن إسحاق، أنه قال تضرب بكفيك
على الأرض ثم تمسح بهما وجهك، وتمر بيديك على جميع الوجه
واللحية، أصاب ما أصاب وأخطأ ما أخطأ ثم تضرب مرة أخرى
بكفيك.
ومراد إسحاق: أنه لا يشترط وصول التراب إلى جميع أجزاء
الوجه، كما يقوله من يقوله من الشافعية وغيرهم، حتى نص
الشافعي: أنه لو بقي من محل الفرض شئ لا يدركه الطرف لم
يصح التيمم.
واستشكل أبو المعالي الجويني تحقق وصول التراب إلى اليدين
إلى المرفقين بضربة واحدة، وقال: الذي يجب اعتقاده أن
الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط
الفكر بانبساط الغبار على جميع المحل. قال: وهذا شئ اظهر
به، ولم أرَ منه بدا.
وحكى ابن عطية في ((تفسيره)) عن محمد بن مسلمة من
المالكية: أنه لا يجب أن يتبع الوجه بالتراب كما يتبع
بالماء وجعله كالخف ومابين الأصابع في اليدين ـ يعني: في
التيمم.
وحكى في وجوب تخليل الأصابع وتحريك الخاتم قولين لأصحابهم:
بالوجوب، والاستحباب.
وحكى ابن حزم في وجوب تخليل اللحية بالتراب اختلافا.
وأما اليدان:
فأكثر العلماء على وجوب مسح الكفين: ظاهرهما
(2/247)
وباطنهما بالتراب إلى الكوعين، وقد ذكرنا
أن بعض العلماء لم يوجب استيعاب ذلك بالمسح.
وحكى ابن عطية عن الشعبي: أنه يمسح الكفين فقط؛ لحديث
عمار، وانه لم يوجب إيصال التراب إلى الكوعين، وهذا لا
يصح. والله أعلم.
وإنما المراد بحديث عمار، وبما قاله الشعبي وغيره من مسح
الكفين:
مسحهما إلى الكوعين، وقد جاء ذلك مقيدا، رواه أبو داود
الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم: سمع ذر بن عبد الله، عن ابن
عبد الرحمان بن أبزى، عن أبيه، عن عمار، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((إنما كان يجزئك))
وضرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده
الأرض إلى التراب، ثم قال: ((هكذا)) ، فنفخ فيهما، ومسح
وجهه ويديه إلى المفصل وليس فيه الذراعان.
وروى إبراهيم بن طهمان، عن حصين، عن أبي مالك، عن عمار بن
ياسر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
له: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ
فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرصغين)) .
خرجه الدارقطني، وقال: لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم
بن طهمان ووقفه شعبته وزائدة وغيرهما.
يعني أنهم رووه عن حصين عن أبي مالك، عن عمار موقوفا،
والموقوف اصح ـ: قاله أبو حاتم الرازي.
وأبو مالك، قال الدارقطني: في سماعه من عمار
(2/248)
نظر؛ فإن سلمة بن كهيل رواه عن أبي مالك،
عن ابن أبزى، عن عمار.
وقال أبو حاتم: يحتمل أنه سمع منه.
وأبو مالك، هو: الغفاري، سأل أبو زرعة: ما أسمه؟ فقال: لا
يسمى.
وقال البيهقي أسمه حبيب بن صهبان.
وفيما قاله نظر؛ فإن حبيب بن صهبان هو: أبو مالك الكاهلي
الأسدي، وأم الغفاري فأسمه: غزوان -: قاله ابن معين. وقد
فرق بينهما ابن أبي حاتم، ووقع في بعض نسخ البخاري، غير أن
البخاري متوقف غير جازم لان حبيب بن صهبان يكنى: أبا حاتم،
ولا أن أبا مالك الغفاري اسمه: غزوان.
وروي حديث عمار على وجه أخر: فروى الأعمش، عن سلمة بن كهيل
عن عبد الرحمان بن أبزى، عن عمار، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((أنما كان يكفيك هكذا)) ،
ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب أحداهما على الأخرى، ثم مسح
وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين، ضربة
واحدة.
خرجه أبو داود.
وخرجه - أيضا - من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، عن
(2/249)
أبي مالك، عن عبد الرحمان بن أبزى، قال:
كنت عند عمر، فقال عمار: قال النَّبيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما كان يكفيك أن تقول هكذا)) ،
وضرب بيديه إلى الأرض، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه
إلى نصف الذراع.
وخرجه النسائي من طريق سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك - وعن
عبد الله بن عبد الرحمان بن أبزى ـ، عن عبد الرحمان بن
أبزى، قال: كنا عند عمر ـ فذكر الحديث، وفيه: ثم مسح وجهه
وبعض ذراعيه.
وقد رواه عن سلمة بن كهيل: شعبة، وسفيان، والأعمش، واختلف
عنهم في إسناده.
وقد تقدم: أن في رواية شعبة أن سلمة شك: هل ذكر فيه
الذراعين، أو الكفين خاصة، وهذا يدل على أن ذكر الذراعين
أو بعضهما لم يحفظه سلمه، إنما شك فيه، لكنه حفظ الكفين
وتيقنهما، كما حفظه غيره.
وعلى تقدير أن يكون ذكر بعض الذراعين محفوظا فقد يحمل على
الاحتياط لدخول الكوعين، أو يكون من باب المبالغة وإطالة
التحجيل، كما فعله أبو هريرة في الوضوء، وقد صرح الشافعية
باستحبابه في التيمم - أيضا.
وقد روي عن قتادة، قال: حدثني محدث عن الشعبي، عن عبد
الرحمان بن أبزى، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إلى المرفقين)) .
(2/250)
خرجه أبو داود.
وهذا الإسناد مجهول لا يثبت.
والصحيح: عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمان، عن
أبيه، عن عمار، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمره بالتيمم للوجه والكفين.
خرجه الترمذي وصححه.
وخرجه أبو داود، ولفظه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمره بالتيمم: ضربة واحدة للوجه
والكفين.
وقد روي عن عمار، أنهم تيمموا مع النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب والآباط: من رواية
الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس،
عن ابن عمار، قال: نزلت رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام
المسلمون مع النبي، فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم
ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى
المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وقد اختلف في إسناده على الزهري:
فقيل: عنه، كما ذكرنا.
وقيل: عنه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، عن
عمار، كذا رواه عنه: مالك وابن عيينة، وصحح قولهما
(2/251)
أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.
وقيل: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عمار ـ
مرسلا.
وهذا حديث منكر جدا، لم يزل العلماء ينكرونه، وقد أنكره
الزهري راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناس ـ: ذكره الإمام
أحمد وأبو داود وغيرهما.
وروي عن الزهري، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: لم اسمعه إلا
من عبيد الله. وروي عنه، أنه قال: لا ادري ماهو؟! .
وروي عن مكحول، أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث.
وعن ابن عيينة، أنه امتنع أن يحدث به، وقال: ليس العمل
عليه.
وسأل الإمام أحمد عنه، فقال: ليس بشئ. وقال ـ أيضا ـ:
اختلفوا في إسناده، وكان الزهري يهابه. وقال: ما أرى العمل
عليه.
وعلى تقدير صحته، ففي الجواب عنه وجهان:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة، وإنما فعلوه عند نزول
الآية؛ لظنهم أن اليد المطلقة تشمل اليدين والذراعين
والمنكبين والعضدين، ففعلوا ذلك احتياطا كما تمعك عمار
بالأرض للجنابة، وضن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل،
ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التيمم
بفعله وقوله: ((التيمم للوجه والكفين)) ، فرجع الصحابة
كلهم إلى بيانه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
ومنهم عمار راوي الحديث؛ فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه
والكفين كما رواه حصين، عن أبي مالك، عنه، كما سبق.
وهذا الجواب ذكره إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة.
(2/252)
والثاني: ما قاله الشافعي، وانه أن كان ذلك
بأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو
منسوخ؛ لان عمارا اخبر أن هذا أول تيمم كان حين نزلت أية
التيمم، فكل تيمم كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعده مخالف له، فهو له ناسخ.
وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيره من العلماء.
وقد حكى غير واحد من العلماء عن الزهري، أنه كان يذهب إلى
هذا الحديث الذي رواه.
وروي عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، أن الزهري
قال: التيمم إلى الآباط. قال سعيد: ولا يعجبنا هذا.
قلت: قد سبق عن الزهري أنه أنكر هذا القول، واخبر أن الناس
لا يعتبرون به، فالظاهر أن رجع عنه لما علم إجماع العلماء
على مخالفته. والله أعلم.
وذهب كثير من العلماء إلى أنه ينتهي المسح لليدين بالتراب
إلى المرفقين:
هذا مروي عن ابن عمر وجابر - رضي الله عنهم - وروي - أيضا
- سالم بن عبد الله والشعبي، والحسن، والنخعي، وقتادة،
وسفيان، وابن المبارك، والليث، ومالك، والشافعي، وأبي
حنيفة وأصحابه.
واستدل بعضهم: بالأحاديث المرفوعة المروية في ذلك، ولا
يثبت منها شيء، كما سبق الإشارة إلى ذلك.
(2/253)
واستدلوا - أيضا -: بان الله تعالى أمر
بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين، ثم ذكر في التيمم مسح
الوجه واليدين، فينصرف إطلاقهما في
(2/254)
التيمم إلى تقييدهما في
الوضوء، لا سيما وذلك في آية واحدة، فهو أولى من حمل
المطلق على المقيد في آيتين.
وأجاب من خالفهم: بان المطلق إنما يحمل على المقيد في قضية
واحدة، والوضوء والتيمم طهارتان مختلفتان، فلا يصح حمل
مطلق أحدهما على مقيد الأخر.
ويدل على ذلك: أن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عند نزول أية التيمم لم يفهموا حمل المطلق على
المقيد فيها، بل تيمموا إلى المناكب والآباط، وهم أعلم
الناس بلغة العرب، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن التيمم للوجه والكفين، وهو - أيضا - ينافي
حمل المطلق على المقيد فيها.
وذهب آخرون: إلى أن التيمم يمسح فيه الكفان خاصة.
والثاني: بن المنذر لأهل هذه المقالة قولين: أحدهما يمسح
الكفين إلى الرسغين، وحكاه عن علي. والثاني: يمسح الكفين
مطلقا. قال: هو قول عطاء، ومكحول، والشعبي، والأوزاعي،
وأحمد، وإسحاق.
قال: وبهذا نقول للثابت عن نبي الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال ((التيمم ضربة للوجه
والكفين)) .
قلت: هذا يوهم أن من قال بسمح الوجه والكفين، أنه لا ينتهي
مسحهما إلى الكوعين، وهذا كما حكاه ابن عطية عن الشعبي،
كما سبق عنه، وليس هذا قول الأئمة المشهورين.
(2/255)
وقد روى داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن
عباس، أنه سئل عن التيمم، فقال: أن الله قال في كتابه حين
ذكر الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، وقال في التيمم:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
[المائدة 6] ، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 38] ، فكانت السنة في
القطع الكفين، إنما هو، الوجه والكفين - يعني: التيمم.
خرجه الترمذي، وقال حسن صحيح غريب.
وروى الحكم بن أبان، عن عكرمة هذا المعنى - أيضاً.
وكذلك استدل بهذا الدليل مكحول وأحمد وغيرهما من الأئمة،
وقالوا: أن القطع يكون من الرسغ، فكذلك التيمم.
والرسغ: هو مفصل الكف، وله طرفان، هما عظمان، فالذي يلي
الإبهام
كوع، والذي يلي الخنصر كرسوع.
ومضمون هذا الاستدلال: أن اليد إذا أطلقت انصرفت إلى
الرسغ، وان قيدت بموضع تقيدت به، فلما قيدت بالمرفقين في
الوضوء وجب غسل الذراعين إلى المرفقين، ولما أطلقت في
التيمم وجب إيصال
(2/256)
التراب الرسغ، كما تقطع يد السارق ويد
المحارب منه.
وكذلك قال الأوزاعي: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى
الكوعين.
وكذلك نص إسحاق على أن التيمم يبلغ إلى الرسغ، وخطأ من
قال: لا يجزئ ذلك. وقال الصحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المعروف المشهور الذي يرويه الثقة عن
الثقة بالأخبار الصحيحة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - علم عمار بن ياسر التيمم للوجه والكفين. قال:
وعلى ذلك كان علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس،
والشعبي، معطاء، ومجاهد، ومكحول وغيرهم، فلا يجوز لأحد أن
يدعي على هؤلاء أنهم لم يعرفوا التيمم. قال: ولو قالوا
الذراعين: أحب إلينا اختيارا لكان أشبه.
وروى حرب بإسناده، عن زائدة، عن حصين بن عبد الرحمان، عن
أبي مالك، عن عمار، أنه غمس باطن كفيه بالتراب، ثم نفخ
يده، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل.
وبإسناده: عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن
عمر، قال: التيمم ضربتين: ضربة للوجه، وضربة للكفين.
قَالَ: وثنا أحمد بن حنبل: ثنا سليمان بن حيان: أبنا حجاج،
(2/257)
عن عطاء
والحكم، عن إبراهيم، قَالَ: التيمم ضربتان للكفين والوجه.
قال: وثنا محمود بن خالد: ثنا الوليد بن مسلم، عن حامد
وسعيد بن
بشير، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: التيمم ضربة
واحدة للوجه والكفين.
قال الوليد: وأبنا الأوزاعي، عن عطاء أنه كان يقول في
التيمم: مسحة واحدة للوجه، ثم ضربة أخرى لكفيه. وبه يأخذ
الأوزاعي.
وروى حرب بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: سالت
الشعبي عن
التيمم؟ فضرب بيديه الأرض، ثم قرن أحداهما بالأخرى، ثم مسح
وجهه وكفيه.
قال حرب: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: والتيمم
ضربة واحدة للوجه والكفين، يبدأ بوجه ثم يمسح كفيه أحداهما
بالأخرى. قيل له: صح حديث عمار، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك؟ قال: نعم، قد صح.
والقول بان الواجب في التيمم مسح الكفين فقط: رواية عن
مالك، وقول قديم للشافعي، قال في القديم - فيما حكاه
البيهقي في ((كتاب المعرفة)) -: قد روي عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوجه والكفين، ولو اعلمه
ثابتاً لم أعده. قَالَ: فإنه ثبت عن عمار، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجه والكفين، ولم
يثبت إلى المرفقين، فما يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى، وبهذا الحديث كان يفتي سعد بن
سالم. انتهى.
(2/258)
ومن العلماء من قال: الواجب مسح اليدين إلى
الكوعين، ويستحب مسحهما إلى المرفقين، ولعله مراد كثير من
السلف - أيضا –؛ فإن منهم من روي عنه: إلى الكوعين. وروي
عنه: إلى المرفقين، كالشعبي وغيره، فدل على أن الكل عندهم
جائز.
وهو - أيضا - رواية عن مالك، وقول وكيع، وإسحاق، وطائفة من
أصحابنا، وحكوه رواية عن أحمد، المنصوص عنه يدل على أن ذلك
جائز، لا أنه
أفضل.
وسيأتي ذكر الضربة الواحدة ووالضربتين فيما بعد - أن شاء
الله تعالى -؛ فإن البخاري افرد لذلك باباً.
(2/259)
6 - باب
الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء
وقال الحسن: يجزئه التيمم ما لم يحدث.
وأم ابن عباس وهو متيمم.
وقال يحيى بن سعيد: لا باس بالصلاة على السبخة والتيمم بها
أو عليها.
ما بوب عليه البخاري من أن الصعيد الطيب وضوء المسلم: قد
روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن
إسناده ليس على شرط البخاري، وقد خرجه الإمام أحمد، وأبو
داود، والنسائي، والترمذي من حديث أبي قلابة، عن عمر ابن
بجدان، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((الصعيد الطيب وضوء المسلم)) - وفي
رواية: ((طهور المسلم - وان لم يجد الماء عشر سنين، فإذا
وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير)) .
وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2/260)
وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ، والدارقطني،
وصححه، والحاكم.
وتكلم فيه بعضهم؛ لاختلاف وقع في تسمية شيخ أبي قلابة؛
ولأن عمرو ابن بجدان غير معروف -: قاله الإمام أحمد وغيره.
وقد روى هذا - أيضا - من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الطبراني والبزار.
ولكن الصحيح عن ابن سيرين مرسلا -: قاله الدارقطني وغيره.
وأما ما حكاه عن الحسن، أنه يجزئه التيمم ما لم يحدث، فهذا
قول كثير من العلماء، وحكاه ابن المنذر عن ابن المسيب،
والحسن، والزهري، والثوري، وأصحاب الرأي، ويزيد بن هارون.
قال: وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي جعفر.
وحكاه غير ابن المنذر - أيضا - عن عطاء، والنخعي والحسن بن
صالح، والليث بن سعيد، وهو رواية عن أحمد، وقول أهل
الظاهر.
واستدل لهذه المقالة بحديث: ((الصعيد الطيب طهور المسلم))
، كما أشار إليه البخاري، وأشار إليه الإمام أحمد - أيضا.
والمخالفون يقولون: المراد أنه في حكم الوضوء والطهور في
استباحة ما يستباح بالطهور بالماء لا في رفع الحدث، بدليل
قوله: ((فإذا وجدت الماء
(2/261)
فأمسه بشرتك)) ، ولو كان الحدث قد ارتفع لم
يقيد بوجود الماء.
وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمان قوله في أنه يرفع الحدث،
فقال: يصلي به، وإن وجد الماء قبل الصلاة، ولا ينتقض تيممه
إلا بحدث جديد. وكذا قال في الجنب إذا لم تيمم ثم وجد
الماء: لا غسل عليه.
وهذا شذوذ عن العلماء، ويرده قوله: ((فإذا وجدت الماء
فأمسه بشرتك)) ، ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول: أن من
يصلي بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة، وهذا
تناقض فاحش.
وذهب أكثر العلماء إلى أنه يتيمم لكل صلاة، روي ذلك عن علي
وابن عمر واستدل أحمد بقولهما، وعن عمرو بن العاص، وابن
عباس في رواية عنه.
وروي الحسن بن عماره، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس،
قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة والحدة،
ثم يتيمم للصلاة الأخرى.
وهذا في حكم المرفوع، إلا أن الحسن بن عمارة ضعيف جداً.
وهو قول الشعبي، وقتادة، والنخعي، ومكحول، وشريك، ويحيى
(2/262)
بن سعيد، وربيعة، وحكي عن الليث - أيضا -،
وهو مالك، والشافعي، وأحمد في ظاهر
مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور وغيرهم.
وقال إسحاق: هذا هو السنة.
وبناه ربيعة ويحيى بن سعيد ومالك وأحمد على وجوب طلب الماء
لكل صلاة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المسالة في ((كتاب:
الوضوء)) .
ثم اختلف القائلون بالتيمم لكل صلاة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجب التيمم لكل صلاة مفروضة، وسواء فعلت كل
مفروضة في وقتها أو جمع بين فريضتين في وقت واحد، وهو قول
مالك والشافعي وإسحاق، ورواية عن أحمد.
والثاني: أنه يجب التيمم في وقت كل صلاة مفروضة، ثم يصلي
بذلك التيمم ما شاء، ويقضي به فوائت، ويجمع به فرائض،
ويصلي به حتى يخرج ذلك الوقت،
وهذا، وهذا هو المشهور عن أحمد، وقول أبي ثور والمزني.
والثالث: أنه يتيمم لكل صلاة فرضاً كانت أو نفلا، حكي عن
شريك، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.
ومذهب مالك: لا يصلي نافلة مكتوبة بتيمم ومكتوبة بتيمم
واحد إلا أن تكون نافلة بعد ومكتوبة، قال: وان صلى ركعتي
الفجر بتيمم واحد أعاد التيمم
(2/263)
لصلاة
الفجر.
وقد ذهب طائفة ممن يرى أن التيمم يصلي به ما لم يحدث إلى
أنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا بوجود الماء، وهو قول طائفة من
أصحابنا والحنفية والظاهرية، ووافقهم طائفة ممن يرى أن لا
يصلى فريضتان من الشافعية كابن سريج، ومن المالكية، وقالا:
أنه ظاهر قول مالك في ((الموطإ)) .
ولهذا قيل: أن النزاع في المسالة عند هؤلاء لفظي لا معنوي،
وإنما يكون النزاع فيها معنويا مع أبي سلمة بن عبد الرحمان
كما سبق حكاية قوله والله أعلم.
وأما ما حكاه عن ابن عباس أنه أم وهو متيمم، فالمراد: أنه
أم المتوضئين وهو متيمم، وقد حكاه الإمام أحمد عن ابن عباس
أيضا، واحتج به.
وقد خرجه سعيد بن منصور: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن أشعث
بن
إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال، كان
ابن عباس في نفر من أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، منهم،: عمار بن ياسر، وكانوا يقدمونه يصلي
بهم لقرابته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وصلى بهم ذات
(2/264)
يوم، فاخبرهم أنه صلى بهم وهو جنب متيمم.
ورخص في ذلك سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري،
وحماد، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو
حنيفة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وهو رواية عن الأوزاعي.
وكره ذلك آخرون:
روى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: لا يؤم المتيمم
المتوضئ.
وكرهه النخعي، والحسن بن حي، والأوزاعي في رواية، ويحيى بن
سعيد، وربيعة، ومحمد بن الحسن.
وعن الأوزاعي رواية، أنه لا يؤمهم إلا أن يكون أميرا، وان
كانوا متيممين فله أن يؤمهم، كذلك قال الأوزاعي وربيعة
ويحيى بن سعيد.
وهذا لا احسب فيه خلافا، وكلام ابن المنذر يدل على أنه محل
خلاف - أيضا - وفية نظر.
وفي المنع من إمامة المتيمم للمتوضئين حديثان مرفوعان من
رواية عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، وإسنادهما لا يصح.
وفي الجواز حديث: صلاة عمرو بن العاص بأصحابه وهو جنب،
فتيمم من البرد وصلى بهم وذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذكره البخاري فيما بعد - تعليقا
- وسنذكره في موضعه - أن شاء الله.
(2/265)
وذكر البخاري لهذه المسألة في هذا الباب قد
يشعر بأن مأخذ جواز ذلك عنده أن التيمم يرفع الحدث.
وقد قال الزهري: يؤم المتيمم المتوضئين؛ لأن الله طهره.
وقال الأوزاعي - في رواية أبي إسحاق الفزاري، عنه -:
يؤمهم، ما زادته. فريضة الله ورخصته إلا طهورا.
وأكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه، ولهذا
أجاز ذلك كثير ممن يقول: أن التيمم لا يرفع الحدث كمالك
والشافعي وأحمد، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس
يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء يصلي بها ما لم
يحدث. ولكن يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل
بالتيمم؛ فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية قائمة مقام
الطهارة بالماء في الحكم، فهو كائتمام الغاسل لرجليه
بالماسح لخفيه، بخلاف من لم يجد ماء ولا ترابا فإنه لا
يأتم به متوضئ ولا متيمم، ولا يأتم به إلا من هو مثله؛
لأنه لم يأت بطهارة شرعية بالكلية.
والمانعون من ائتمام المتوضئ بالمتيمم ألحقوه بائتمام
القارئ بالأمي الذي لا يقرا الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر،
وبصلاة القائم خلف القاعد؛ فإن كلا منهما أتى ببدل، ولا
يصح أن يأتي به
(2/266)
إلا من هو مثله.
ويجاب عن ذلك: بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم وهو
القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة؛
فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها،
والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء.
وأما ائتمام القائم بالقاعد فقد أجاز جماعة من العلماء،
وأجاز أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام
وهو الجلوس، واتى بركن القيام الأعظم وهو القراءة.
وأما ما حكاه عن يحيى بن سعيد، أنه لا بأس بالتيمم بالسبخة
والصلاة عليها:
فالأرض السبخة هي المالحة التي لا تنبت، وأكثر العلماء على
جواز التيمم بها، وقد تيمم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالجدار خارج المدينة، وأرض المدينة سبخة، وهو
قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.
وقال إسحاق: لا تيمم بالسباخ لأنها لا تنبت، وقد فسر ابن
عباس الصعيد الطيب بأرض الحرث، والسباخ ليست كذلك.
واختلف قول الإمام أحمد فيه، فقال - في رواية -: لا يعجبني
التيمم بها. وقال - مرة -: أن لم يجد فلا بأس. وقال - مرة
-: أن تيمم منها يجزئه، وأرض الحرث أحب إلي. وقال - مرة -:
أن اضطر إليها أجزأه، وإن لم يضطر فلينظر الموضع الطيب -
يعني: تراب الحرث - قال - مرة -: من الناس من يتوقى ذلك،
وذلك أن السبخة تشبه الملح.
واستدل بقول ابن عباس: ((أطيب الصعيد أرض الحرث)) . ولكن
هذا يدل على أن غير أرض الحرث
(2/267)
تسمى صعيدا - أيضا -، لكن أرض الحرث أطيب
منها.
قال أبو بكر الخلال: السباخ ليس هي عند أبي عبد الله كأرض
الحرث، إلا أنه سهل بها إذا اضطر إليها، وإنما سهل بها إذا
كان لها غبار، فأما أن كانت قحلة كالملح فلا يتيمم بها
أصلا.
وأما الصلاة في السباخ، فقال أحمد - مرة -: تجزئه، وقال -
مرة -: ما سمعت فيها شيئاً.
وقال حرب: قلت لأحمد: هل بلغك أن أحدا كره الصلاة في الأرض
السبخة؟ قال: لا.
قال حرب: ثنا عبد الوهاب بن الضحاك: حدثني إسماعيل بن
عياش، قال: سمعت أناسا من أهل العلم يكرهون الصلاة في
السباخ، ورخص جماعة من أهل العلم في الصلاة في السباخ.
عبد الوهاب هذا، لا يعتمد عليه.
وخرج البخاري في هذا الباب حديث عمران بن حصين بطوله،
فقال:
(2/268)
344 - حدثنا مسدد بن مسرهد: ثنا يحيى بن
سعيد: ثنا عوف: ثنا أبو رجاء، عن عمران بن حصين، قال: كنا
في سفر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وإنا أسرينا، حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة، ولا وقعة
أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول
من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان - يسميهم أبو رجاء، فنسي
عوف -، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو
يستيقظ؛ لأنا
(2/268)
لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ
عمر ورأى ما أصاب الناس – وكان رجلا جليدا – فكبر ورفع
صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى
استيقظ لصوته النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال: ((لا ضير – أو:
لا يضير -، ارتحلوا)) ، فارتحلوا فسار غير بعيد.
ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس،
فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم،
فقال: ((ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟)) قال: أصابتني
جنابة، ولا ماء، قال: ((عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك)) ، ثم
سار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشتكى
الناس إليه من العطش، فنزل فدعا فلانا - كان يسميه أبو
رجاء، نسيه عوف -، ودعا عليا، فقال: ((أذهبا فابتغيا
الماء)) فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين -
من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي
بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفا، فقالا لها: انطلقي
إذا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو
الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحدثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن
بعيرها، ودعا
(2/269)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين - أو السطيحتين -،
وأوكأ أفواهمها، وأطلق العزالي، ونودي في الناس: اسقوا
واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء، وكان آخر ذلك أن
أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: ((اذهب فأفرغه
عليك)) . وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله،
لقد اقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين
ابتدأ فيها، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ((اجمعوا لها)) ، فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة
وسويقة، حتى جمعوا لها طعاما فجعلوه في ثوب، وحملوها على
بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها.
قال لها: ((تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا، ولكن الله هو
الذي أسقانا)) ، فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، قالوا: ما
حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان، فذهبا بي إلى
هذا الرجل الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فو الله،
أنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - وقالت بإصبعيها الوسطى
والسبابة فرفعتهما إلى السماء - والأرض -، أو أنه لرسول
الله حقا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من
المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوما
لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في
الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام.
(2/270)
قَالَ أبو عبد الله: صبأ: خرج من دين إلى
غيره.
وقال أبو العالية: الصابئون: فرقة من أهل الكتاب يقرءون
الزبور.
فوائد هذا الحديث كثيرة جدا، ونحن نشير إلى مهماتها إشارة
لطيفة - أن شاء الله تعالى:
فأما قوله: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذا نام لم يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري
ما يحدث له في نومه)) ، فالمراد: أنه - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوحى إليه في نومه كما يوحى إليه
في يقظته، ورؤيا الأنبياء وحي، ولهذا كانت تنام أعينهم ولا
تنام قلوبهم، فكانوا يخشون أن يقطعوا عليه الوحي إليه
بإيقاظه.
ولا تنافي بين نومه حتى طلعت الشمس وبين يقظة قلبه؛ فإن
عينيه تنامان، والشمس إنما تدرك بحاسة البصر لا بالقلب.
وقد يكون الله - عز وجل - أنامه حتى يسن لأمته قضاء الصلاة
بعد فوات وقتها بفعله، فإن ذلك آكد من تعليمه له بالقول،
وقد ورد التصريح بهذا من حديث ابن مسعود، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى بهم الصبح ذلك
اليوم بعد طلوع الشمس وانصرف قال: ((أن الله - عز وجل - لو
شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن يكون لمن
بعدكم)) . خرجه الإمام أحمد وغيره.
وهذا يشبه ما ذكره مالك في ((الموطإ)) أنه بلغه عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((إنما أنسى
لأسن)) .
(2/271)
وقوله: ((ما أيقظنا إلاّ حر الشمس)) ، يدل
على أن الشمس كانت قد ارتفعت وزال وقت النهي عن الصلاة،
لأن حرها لا يكاد يوجد ألا بعد ذلك، ففي هذا دليل على أن
ارتحالهم عن ذلك المكان لم يكن للامتناع من القضاء في وقت
النهي عن الصلاة، بل كان تباعدا عن المكان الذي حضرهم فيه
الشيطان، كما جاء التصريح به في حديث آخر.
ولكن في صحيح مسلم في هذا الحديث - أعني: حديث عمران بن
حصين، أنهم ناموا حتى بزغت الشمس وان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت
قال: ((ارتحلوا)) فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى
بنا الغداة.
كذا خرجه من رواية سلم بن زرير، عن أبي رجاء، وفي سياقه
بعض مخالفة لرواية عوف، عن أبي رجاء التي خرجها البخاري،
وفيه: أنه كان أول من استيقظ أبو بكر - رضي الله عنه.
وقوله: ((فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالوضوء فتوضأ)) يدل على أن من معه ماء وكان
في مفازة فإنه يتوضأ منه، ولا يتيمم ويحبسه خشية أن يبتلى
هو أو أحد من رفقته
بعطش.
ويدل على هذا: أن عمران ذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى بهم وسار شكى الناس إليه
العطش.
وفي رواية سلم المشار إليها: قال عمران: ثم عجلني في ركب
بين يديه، نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا - وذكر الحديث،
وهذا محمول على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لم يخش على نفسه عطشا، فإن من خاف على نفسه العطش ومعه ماء
يسير فإنه يتيمم ويدعه لشربه.
(2/272)
وقد روى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: إذا كنت مسافرا وأنت جنب أو أنت على غير
وضوء فخفت أن توضأت أن تموت من العطش فلا توضأ، واحبسه
لنفسك.
خرجه الأثرم.
وخرجه الدارقطني من طريق عطاء بن السائب، عن زاذان، عن
علي، في الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة ومعه الماء
القليل يخاف أن يعطش، قال: يتيمم ولا
يغتسل.
قال الإمام أحمد: عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحبسون الماء لشفاههم ويتيممون. ونص
على أنه لو رأى قوما عطاشا ومعه إداوة من ماء، أنه يسقيهم
الماء ويتيمم.
واختلف أصحابنا: هل ذلك على الوجوب أو الاستحباب؟ على
وجهين، أصحهما: أنه للوجوب، وهو قول الشافعية.
فهذا الحديث محمول على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يخف على نفسه عطشا، ولم يجد قوما عطاشا في
الحال، فلذلك توضأ بالماء ولم يتيمم. ويدل على أنه لا يحبس
الماء لخوف عطش يحدث لرفقته.
ولم ينص أحمد على حبس الماء خشية عطش يحدث لرفقته، وإنما
قال أصحابه متابعة لأصحاب الشافعي، وقالوا: هل حبس الماء
لعطش غيره المتوقع واجب أو مستحب؟ فيه وجهان، قالوا: وظاهر
كلام أحمد أنه مستحب غير واجب؟ لان حاجة الغير هنا متوقعة
وحاجته للطهارة حاضرة، وقد ترجحت بكونه مالكا، ولهذا قدمنا
نفقة الخادم على نفقة
(2/273)
الوالدين، وان كانت حاجتهما إلى النفقة اشد
من حاجة نفسه إلى الخدمة، تقديما لنفسه على غيره.
قلت: وحديث عمران يدل على أنه لا يستحب - أيضا - بل يقدم
الوضوء على عطش الرفيق المتوقع، فإنه لو كان ذلك أفضل من
الوضوء لحبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الماء وتيمم، فإنه كان معه خلق من أصحابه، وكان الماء معهم
قليلا جدا ولهذا شكوا إليه العطش عقيب ذلك عند اشتداد حر
الشمس وارتفاع النهار، وكان الماء منهم بعيدا.
وقد أشار إلى هذا المعنى الذي ذكرناه أبو المعالي الجويني
من الشافعية، وخالف أصحابه فيما ذكروه من حبس الماء لعطش
رفقته المتوقع، وهذا هو الذي دلت عليه هذه السنة الصحيحة،
والله أعلم.
وفي الحديث: دليل على أن الفوائت يؤذن لها وتصلى جماعة.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي لم يصل مع
القوم: ((ما منعك أن تصلي مع القوم؟)) قَالَ: أصابتني
جنابة ولا ماء. قَالَ: ((عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)) فيه
دليل على التيمم للجنابة كالتيمم للحدث الأصغر، ودليل على
أن عادم الماء يكفيه الصعيد من الماء.
ولهذه الكلمة خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب، وجعله
دليلا له على إقامة التيمم مقام الطهارة بالماء عند عدم
الماء، فيؤخذ من هذا أنه يصلي به كما يصلي بالماء، كما هو
اختيار البخاري ومن قال بقوله من العلماء.
وفية دليل على أنه لا يجب طلب الماء إذا غلب على الظن عدمه
أو
(2/274)
قطع بذلك، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمره بالتيمم، ولم يأمره بطلب، ولا بسؤال
رفقته.
وقد ذهب ابن حامد من أصحابنا إلى أنه لا يلزمه سؤال رفقته،
وان قلنا: يلزمه الطلب، وأنه إنما يلزمه طلبه في رحله ما
قرب منه إذا احتمل وجود الماء، والمنصوص عن أحمد: أن عليه
أن يطلبه في رفقته.
وفي رواية مسلم المشار إليها فيما تقدم: أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل: ((يا فلان ما منعك
أن تصلي معنا؟)) قال: يا نبي الله، أصابتني جنابة. فأمره
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتيمم
بالصعيد، فصلى.
وفي الحديث - أيضا - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما جاءه الماء أعطاه ماء وأمره أن يغتسل به،
وهذا مثل قوله في حديث أبي ذر: ((فإذا وجدت الماء فأمسه
بشرتك)) ، وفيه رد على أبي سلمة في قوله: أنه لا غسل عليه،
كما سبق.
وقول تلك المرآة: ((ونفرنا خلوف)) .
قال الخطابي: النفر الرجال، والخلوف الذين خرجوا للاستقاء،
وخلفوا النساء والأثقال، يقال: أخلف الرجل واستخلف إذا
استقى الماء.
قال: ويقال لكل من خرج من دين إلى دين آخر: صابئ - بالهمز،
وأما: صبا يصبو بلا همز فمعناه: مال.
قال: والعزالي جمع عزلاء، وهي عروة المزادة، يخرج منها
الماء بسعة.
وقال غيره: العزلاء: فم المزادة الأسفل، وتجمع على عزالى
(2/275)
وعزالي - بكسر اللام وفتحها - كالصحاري
والعذاري.
قال: والصرم: النفر النازلون على ماء، وتجمع على أصرام،
فأما الصرمة - بالهاء - فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين
عددا.
قال: وقوله: ((ما رزئناك)) ، أي: ما نقصناك، ولا أخذنا منك
شيئا.
قلت: وفي الحديث معجزة عظيمة، وعلم من أعلام نبوة النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكثير الماء القليل
ببركته، وإرواء العطاش منه، واستعمالهم وأخذهم منه في
قربهم، من غير أن ينقص الماء المأخوذ منه شيئا، ولذلك قال
المرآة: ((ما رزئناك من مائك شيئا، وإنما سقانا الله - عز
وجل -)) .
وفي رواية مسلم المشار إليها في هذا الحديث: ((فأمر
براويتها فأنيخت، فمج في العزلاوين العلياوين، ثم بعث
براويتها فشربنا، ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا، وملأنا
كل قربة معنا وإداوة، وغسلنا صاحبنا، غير أنا لم نسق بعيرا
وهي تكاد تنضرج من الماء)) - يعني: المزادتين - وذكر بقية
الحديث.
وإنما لم يستأذن المرآة أولا في الشرب من مائها والأخذ
منه، لأن انتفاعهم إنما كان بالماء الذي أمده الله
بالبركة، لم يكن من نفس مائها، ولذلك قال: ((ما رزئناك من
مائك شيئا، وإنما سقانا الله)) .
ونظير هذا: أن جابرا صنع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - طعاما يسيرا في عام الخندق، وجاء إلى النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فساره بذلك، وقال له:
تعال أنت في نفر
(2/276)
معك، فصاح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((يا أهل
الخندق، أن جابرا قد صنع لكم سورا، فحيهلا بكم)) ، ثم جاء
بهم جميعا، فأكلوا حتى شبعوا، والطعام بحاله.
فإن أكل أهل الخندق إنما كان مما حصلت فيه البركة بسبب
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الداعي لأهل الخندق كلهم
إلى الطعام في الحقيقة، فلذلك لم يحتج في استئذان جابر في
ذلك.
وهذا بخلاف ما جرى لأبي شعيب اللحام لما دعاه النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجلساءه، فلما قاموا
تبعهم رجل لم يكن معهم حين دعوا، فقال النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصاحب المنزل: ((أنه اتبعنا
رجل لم يكن معنا حين دعوتنا، فإن أذنت له دخل)) فأذن له
فدخل.
وقد خرجاه في ((الصحيحين)) بمعناه من حديث أبي مسعود، فإن
ذلك اليوم لم يحصل فيه ما حصل في طعام جابر وماء المرآة
المشركة – والله - سبحانه وتعالى - أعلم -، فإن غالب ما
كان يقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكثير
الطعام والشراب في أوقات الحاجة العامة إليه.
وفي حديث عمران - أيضا - دليل على جواز استعمال ماء
المشركين الذين في قربهم ونحوها من أوعية الماء المعدة له،
وقد سبق الكلام على ذلك في ((كتاب
الوضوء)) .
(2/277)
7 - باب
إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت
أو خاف العطش تيمم
ويذكر: أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم، وتلا:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيماً} [النساء:29] ، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعنف،
حديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود من رواية يحيى بن أيوب،
عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي انس، عن عبد الرحمان
بن جبير، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في
غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن اغتسلت أن اهلك، فتيممت ثم
صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت
جنب!)) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت
الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ، فضحك رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقل شيئا.
وخرجه - أيضا - من طريق عمرو بن الحارث وغيره، عن يزيد بن
أبي الحبيب، عن عمران، عن عبد الرحمان بن جبير، عن أبي قيس
مولى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص كان على سرية - فذكر
الحديث بنحوه، وقال فيه: فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة،
ثم صلى بهم -
(2/278)
وذكر باقيه بنحوه، ولم يذكر التيمم.
وفي هذه الرواية زيادة: ((أبي قيس)) في إسناده، وظاهرها
الإرسال.
وخرجه الإمام أحمد والحاكم، وقال: على شرط الشيخين، وليس
كما قال، وقال أحمد: ليس إسناده بمتصل.
وروى أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) عن الأوزاعي، عن
حسان بن عطية، قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعثا وامر عليهم عمرو بن العاص، فلما اقبلوا
سألهم عنه، فأثنوا خيرا، إلا أنه صلى بنا جنبا، فسأله،
فقال: أصابتني جنابة فخشيت على نفسي من البرد، وقد قال
الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] ، فتبسم النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا مرسل.
وقد ذكره أبو داود في ((سننه)) تعليقا مختصرا، وذكر فيه:
أنه تيمم.
وأكثر العلماء: على أن من خاف من استعمال الماء لشدة البرد
فإنه يتيمم
ويصلي، جنبا كان أو محدثا.
واختلفوا هل يعيد، أم لا؟
فمنهم من قال: لا إعادة عليه، وهو قول الثوري، والأوزاعي،
وأبي حنيفة، ومالك، والحسن بن صالح، وأحمد في رواية.
ومنهم من قال: عليه الإعادة بكل حال سواء كان مسافرا أو
حاضرا، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.
ومنهم من قال: أن كان مسافرا لم يعد، وإن كان حاضرا أعاد،
وهو قول آخر للشافعي، ورواية عن أحمد، وقول أبي يوسف
ومحمد.
وحكى ابن عبد البر عن أبي يوسف وزفر: أنه لا يجوز للمريض
في
(2/279)
الحضر التيمم بحال.
وذكر أبو بكر الخلال من أصحابنا: أنه لا يجوز التيمم في
الحضر لشدة البرد، وهو مخالف لنص أحمد وسائر أصحابه.
وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن وعطاء: أنه إذا وجد الماء
اغتسل به وأن
مات؛ لأنه واجد للماء، إنما أمر بالتيمم من لم يجد الماء.
ونقل أبو إسحاق الفزاري في ((كتاب السير)) عن سفيان نحو
ذلك، وانه لا يتيمم لمجرد خوف البرد، وإنما يتيمم لمرض
مخوف، أو لعدم الماء.
وينبغي أن يحمل كلام هؤلاء على ما إذا لم يخش الموت، بل
أمكنه استعمال الماء المسخن وإن حصل له به بعض الضرر. وقد
روي هذا المعنى صريحا عن الحسن
- أيضا -، وكذلك نقل أصحاب سفيان مذهبه في تصانيفهم، وحكوا
أن سفيان ذكر أن الناس اجمعوا على ذلك.
وقد سبق الكلام في تفسير الآية، وان الله تعالى أذن في
التيمم للمريض وللمسافر ولمن لم يجد الماء من أهل الأحداث
مطلقا، فمن لم يجد الماء فالرخصة له محققة.
وأما المرض والسفر فهما مظنتان للرخصة في التيمم، فإن وجدت
الحقيقة فيهما جاز التيمم، فالمرض مظنة لخشية التضرر
باستعمال الماء، والسفر مظنة لعدم الماء، فإن وجد في المرض
خشية التضرر وفي السفر عدم الماء جاز التيمم، وإلا فلا.
(2/280)
وأما من قال من الظاهرية ونحوهم: أن مطلق
المرض يبيح التيمم سواء تضرر باستعمال الماء أو لم يتضرر،
فقوله ساقط يخالف الإجماع قبله، وكان يلزمه أن يبيح التيمم
في السفر مطلقا سواء وجد الماء أو لم يجده.
وقول البخاري: ((إذا خاف على نفسه المرض أو الموت)) يشير
إلى الرخصة في التيمم إذا خاف من شدة البرد على نفسه
المرض، ولا يشترط خوف الموت خاصة، وهذا ظاهر مذهب أحمد،
واحد قولي الشافعي.
والقول الثاني: لا يجوز التيمم إلا إذا خاف التلف، إما تلف
النفس أو تلف عضو منه، وحكي رواية عن أحمد، وفي صحتها عنه
نظر.
والحنيفية السمحة أوسع من ذلك، وخوف الموت أو المرض هو
داخل في معنى المرض الذي أباح الله التيمم معه؛ لأنه إنما
يباح التيمم لمرض يخشى منه زيادته أو التلف، فحيث خشي ذلك
فقد وجد السبب المبيح للتيمم.
ولو كان في الغزو وهو يجد الماء لكنه يخشى على نفسه من
العدو أن اشتغل بالطهارة، ففيه عن أحمد روايتان:
إحداهما: يتيمم ويصلي، اختارها أبو بكر عبد العزيز.
والثانية: يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء، كما أخر
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات يوم
الخندق.
ولو احتاجت المرآة إلى الوضوء وكان الماء عنده فساق تخاف
منهم على نفسها، فقال أحمد: لا يلزمها الوضوء. وتوقف مرة
في ذلك.
(2/281)
وأما إذا خاف العطش على نفسه، فإنه يحبس
الماء ويتيمم، وقد سبق قول علي وابن عباس في ذلك، وحكاية
أحمد له عن عدة من الصحابة. وقد ذكر ابن المنذر أنه إجماع
من يحفظ عنه من أهل العلم، وسمى منهم جماعة كثيرة.
وقد سال قوم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقالوا: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن
توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال لهم النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هو الطهور ماؤه،
الحل ميتته)) .
وسؤالهم يشعر بأن من معه ماء يسير لا يتوضأ به وهو يخشى
العطش على نفسه، وأقرهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- على ذلك، ولم يردهم عن اعتقادهم.
خرج البخاري في هذا الباب حديث عمار من رواية أبي موسى
الأشعري، عنه، فقال:
(2/282)
345 - ثنا بشر بن خالد: ثنا محمد - هو:
غندر -، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل: قال أبو موسى
لعبد الله بن مسعود: إذا لم تجد الماء لا تصلي؟ قال عبد
الله: لو رخصت لهم في هذا، كان إذا وجد أحدهم البرد قال
هكذا - يعني: تيمم - وصلى. قال: قلت فأين قول عمار لعمر؟
قال: إني لم أرى عمر قنع بقول عمار.
(2/282)
346 - حدثنا عمر بن حفص: ثنا أبي، عن
الأعمش، قال: سمعت
(2/282)
شقيق ابن سلمة قال: كنت عند عبد الله وأبي
موسى، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا
عبد الرحمان، إذا أجنب الرجل فلم يجد ماء كيف يصنع؟ فقال
عبد الله: لا يصلي حتّى يجد الماء. فقال أبو موسى: فكيف
تصنع بقول عمار حين قَالَ له النَّبيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كان يكفيك)) ؟ قال: ألم تر عمر لم
يقنع منه بذلك؟ فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، كيف تصنع
بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول. فقال: لو أنا رخصنا
لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم.
فقلت لشقيق: فإنما كره
عبد الله لهذا؟ قال: نعم.
كان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يقولان: أن التيمم
إنما يجوز عن الحدث الأصغر، وأما عن الجنابة فلا يجوز،
وقالا: لا يصلي الجنب حتى يجد الماء ولو عدمه شهرا.
وروي ذلك عن طائفة من أصحاب ابن مسعود وأتباعهم كالأسود
وأبي عطية والنخعي.
وقد روي عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا عن ذلك، ووافقا بقية
الصحابة، فإن عمر وكل الأمر في ذلك إلى عمار، وقال له:
نوليك ما توليت، وابن مسعود رجع عن قوله في التيمم -: قاله
الضحاك، واتبعت الأمة في ذلك قول الصحابة دون عمر وابن
مسعود. وقد خالفهما علي وعمار وأبو موسى الأشعري وجابر بن
عبد الله وابن عباس.
(2/283)
وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمر الجنب إذا لم يجد الماء بأن يتيمم ويصلي،
في
حديث عمران بن حصين المتقدم، وحديث عمار، وروي - أيضا - من
حديث أبي ذر وغيره.
وشبهة المانعين: أن الله تعالى قال: {وَلا جُنُباً إِلَّا
عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] ،
وقال: {) وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
[المائدة:6]- يعني به:
الغسل -، ثم ذكر التيمم عند فقد الماء بعد ذكره الأحداث
الناقضة للوضوء، فدل على أنه إنما رخص في التيمم عند عدم
الماء لمن وجدت منه هذه الأحداث، وبقي الجنب مأمورا بالغسل
بكل حال.
وهذا مردود؛ لوجهين:
أحدهما: أن آية الوضوء افتتحت بذكر الوضوء، ثم بغسل
الجنابة، ثم أمر بعد ذلك بالتيمم عند عدم الماء، فعاد إلى
الحدثين معا، وان قيل: أنه يعود إلى أحدهما، فعوده إلى غسل
الجنابة أولى؛ لأنه أقربهما، فأما عوده إلى أبعدهما وهو -
وضوء الصلاة - فممتنع.
وأما آية سورة النساء، فليس فيها سوى ذكر الجنابة، وليس
للوضوء فيها ذكر، فكيف يعود التيمم إلى غير مذكور فيها،
ولا يعود إلى المذكور؟
والثاني: أن كلتا الآيتين: أمر الله بالتيمم من جاء من
الغائط، ولمس النساء أو لم يجد الماء، ولمس النساء إما أن
يراد به الجماع خاصة، كما قاله ابن عباس وغيره، أو أنه
يدخل فيه الجماع وما دونه من الملامسة لشهوة، كما يقوله
غيره، فأما أن يخص به ما دون الجماع ففيه بعد.
ولما أورد أبو موسى على ابن مسعود الآية تحير ولم يدر ما
يقول، وهذا يدل على أنه رأى أن الآية يدخل فيها الجنب كما
قاله أبو موسى.
(2/284)
وفي أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الجنب العادم للماء أن يتيمم ويصلي دليل على
أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهم دخول الجنب
في الآية، وليس بعد هذا شيء.
ورد ابن مسعود تيمم الجنب؛ لأنه ذريعة إلى التيمم عند
البرد لم يوافق عليه؛ لان النصوص لا ترد بسد الذرائع،
وأيضا، فيقال: أن كان البرد يخشى معه التلف أو الضرر فإنه
يجوز التيمم معه كما سبق.
وقد روى شعبة، أن مخارقا حدثهم، عن طارق، أن رجلا أجنب فلم
يصل، فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر
ذلك له، فقال له: ((أصبت)) . وأجنب رجل آخر فتيمم وصلى،
فأتاه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له نحوا
مما قال للآخر - يعني: ((أصبت)) .
خرجه النسائي، وهو مرسل.
وقد يحمل هذا على أن الأول سأله قبل نزول آية التيمم،
والآخر سأله بعد
نزولها.
وروى أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن
أبزى، عن أبيه، أن عمارا قال لعمر: أما تذكر يا أمير
المؤمنين أني كنت أنا وأنت في سرية فأجنبنا ولم نجد الماء،
فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت بالتراب وصليت، فلما
قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ذكرنا ذلك له، فقال ((أما أنت فلم يكن ينبغي لك أن تدع
الصلاة، وأما أنت يا عمار
(2/285)
فلم يكن لك أن تتمعك كما تتمعك الدابة،
إنما كان يجزيك)) ـ وضر ب رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده إلى الأرض إلى التراب، ثُمَّ
قَالَ -: ((هكذا)) ، ونفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى
المفصل، وليس فيه الذراعان.
(2/286)
8 - باب
التيمم ضربة
(2/287)
347 - حدثنا محمد بن سلام: ثنا أبو معاوية،
عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنت جالسا مع عبد الله أبي موسى
الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء
شهرا، أما كان يتيمم ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في
سورة المائدة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ؟ فقال عبد الله: لو رخص
لهم هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد.
قلت: وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم. فقال أبو موسى: ألم
تسمع قول عمار لعمر بن الخطاب: بعثني رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة، فأجنبت، فلم أجد
الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، فذكرت ذلك
للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((إنما
كان يكفيك أن تصنع هكذا)) وضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم
نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم
مسح بهما وجهه. قال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول
عمار؟
زاد يعلي، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنت مع عبد الله
(2/287)
وأبي موسى، فقال أبو موسى: ألم تسمع قول
عمار لعمر: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعثني أنا وأنت، فأجنبت فتمعكت بالصعيد،
فأتينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فأخبرناه فقال: ((إنما كان يكفيك هكذا)) ، ومسح وجهه وكفيه
واحدة؟
محمد بن سلام، هو: البيكندي، وقد اختلفوا في ضبط ((سلام))
: هل هو بالتخفيف أو بالتشديد؟ والتخفيف أكثر فيه واشهر،
ولأبي محمد عبد العظيم المنذري في ذلك جزء منفرد.
ثم ظهر لي أن التشديد فيه أصح، فإن الذين رجحوا فيه
التخفيف اعتمدوا على حكاية رويت عن محمد بن سلام، أنه قال:
أنا محمد بن سلام بتخفيف اللام، وقد أفردت لذلك جزءا،
وذكرت فيه أن هذه الحكاية لا تصح، وفي إسنادها متهم
بالكذب.
وقد خرج مسلم هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي
شيبة وابن نمير كلهم، عن أبي معاوية بهذا الإسناد والمتن،
إلا أن لفظه: فقال: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا))
، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على
اليمين، وظاهر كفيه ووجهه.
(2/288)
وخرجه - أيضا - من طريق عبد الواحد بن
زياد، عن الأعمش، ولفظ حديثه: فقال رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما كان يكفيك أن تقول
هكذا)) ، وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه فمسح وجهه
وكفيه.
وخرج القاضي إسماعيل المالكي حديث أبي معاوية، عن ابن
نمير، عنه، ولفظه: فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض،
ثم تنفضهما، ثم تمسح يمينك على شمالك وشمالك على يمينك، ثم
تمسح وجهك)) .
وخرج حديث عبد الواحد بن زياد، عن محمد بن أبي بكر
المقدمي، عنه، ولفظ حديثه: ((إنما كان يكفيك أن تقول
هكذا)) ، وضرب بكفيه إلى الأرض مرة واحدة، ثم مسح إحداهما
بالأخرى، ومسح وجهه.
وأما رواية يعلى، عن الأعمش التي علقها البخاري، فخرجها
الإمام أحمد في ((المسند)) عن يعلى - وهو: ابن عبيد
الطنافسي - كذلك.
وروى الإمام أحمد - أيضا - عن عفان: ثنا عبد الواحد، عن
الأعمش بهذا الحديث، وفيه: وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح
كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة.
قال عفان: وأنكره يحيى بن سعيد، فسألت حفص بن غياث، فقال:
كان الأعمش يحدثنا به
(2/289)
عن سلمة بن كهيل، وذكر: أبا وائل.
وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم: أن كان ما روى أبو
معاوية حقا: روى عن الأعمش، عن شقيق القصة. فقال - أيضا -:
ضربة للوجه والكفين، وتابعه عبد الواحد.
قال أبو عبد الله - يعني: أحمد -: فهذان جميعا قد اتفقا
عليه، يقولان: ضربة للوجه والكفين.
وإنما أنكر يحيى بن سعيد هذه اللفظة، وتوقف فيها الإمام
أحمد لان شعبة وحفص بن غياث وابن عيينة وغيرهم رووه: عن
الأعمش، ولم يذكروا الضربة الواحدة، ولا صفة التيمم في
حديثه عن شقيق، عن أبي موسى، كما ساق ذلك البخاري في الباب
الماضي.
ثم ذكر أحمد أن أبا معاوية وعبد الواحد قد اتفقا على هذه
اللفظة، فزالت نكارة التفرد، وقد تبين أن يعلى تابعهما -
أيضا.
وقد كان الأعمش يروي هذا الحديث عن سلمة بن كهيل، عن ابن
أبزى، عن عمار على اختلاف عليه في إسناده، وذكر فيه: صفة
التيمم بضربة واحدة، ولكنه ذكر أنه زاد على مسح الكفين بعض
الذراعين، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم في ((باب: التيمم للوجه
والكفين)) ، وذكرنا أن سلمة بن كهيل شك في الزيادة على
الكفين، وانه رواه عنه سفيان وشعبة والأعمش مع اختلاف
عليهم في بعض الإسناد والمتن، فربما علل ذكر الضربة
الواحدة بأنه كان عند الأعمش، عن سلمة بن كهيل، وحمل عليه
حديث أبي وائل، كما قد يفهم ذلك من قول حفص بن غياث الذي
ذكره عنه عفان،
(2/290)
إلا أن الأئمة اعتمدوا على رواية أبي
معاوية وعبد الواحد ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق وحده للضربة
الواحدة، وأبو معاوية مقدم في حديث الأعمش، يرجع إليه فيه
عند اختلاف أصحابه.
وقد رويت الضربة الواحدة عن عمار من طريق قتادة، عن عزرة،
عن ابن
أبزى، عن أبيه، عن عمار - أيضا -، وقد تقدم ذكره - أيضا.
وحديث شعبة، عن الحكم، عن ذر، عن ابن أبزى المتفق على
تخريجه في ((الصحيحين)) كما تقدم يدل عليه - أيضا.
وقد اتفق الأئمة على صحة حديث عمار، وتلقيه بالقبول.
قال إسحاق بن هانئ: سئل أحمد عن التيمم؟ قال: ضربة واحدة
للوجه والكفين، قيل له: ليس في قلبك شيء من حديث عمار؟
قَالَ: لا.
وفي حديث أبي معاوية الذي خرجه البخاري هاهنا شيئان أنكرا
على أبي معاوية:
أحدهما: ذكره مسح الوجه بعد مسح الكفين، فإنه قال: ((ثم
مسح وجهه)) ، وقد اختلف في هذه اللفظة على أبي معاوية،
وليست هي في رواية مسلم كما ذكرناه.
وكذلك خرجه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، ولفظ
حديثه: ((إنما كان يكفيك أن تقول هكذا)) وضرب بيديه على
الأرض
(2/291)
ضربة فمسح كفيه، ثم نفضهما، ثم ضرب بشماله
على يمينه وبيمينه على شماله، على كفيه ووجهه.
وخرجه أبو داود عن محمد بن سليمان الأنباري، عن أبي
معاوية، ولفظه: ((إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا)) فضرب بيده
على الأرض فنفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على
شماله على الكفين، ثم مسح وجهه.
فاختلف على أبي معاوية في ذكر مسح الوجه، وعطفه: هل هو
بالواو، أو بلفظ: ((ثم)) ؟
وقد قال الإمام أحمد في رواية بن عَبدةَ: رواية أبي
معاوية، عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط.
والثاني: أنه ذكر أن أبا موسى هو القائل لابن مسعود: إنما
كرهتم هذا لهذا، فقال ابن مسعود: نعم. وقد صرح بهذا في
رواية أبي داود، عن الأنباري المشار إليها، وإنما روى
أصحاب الأعمش، منهم: حفص بن غياث، ويعلى بن عبيد، وعبد
الواحد بن زياد أن السائل هو الأعمش، والمسئول هو شقيق أبو
وائل.
وقد ذكرنا فيما تقدم مسح الوجه واليدين في التيمم، وهل
الممسوح الكفان خاصة، أم الكفان والذراعان إلى المرفقين،
أم إلى المناكب والآباط؟
(2/292)
والكلام هنا في عدد الضرب الممسوح به:
فمن قَالَ: إنه يمسح الوجه والكفين، قال أكثرهم: يمسح ذلك
بضربة واحدة اتباعا لحديث عمار، وهذا هو المروري عن علي
وعمار وابن عباس، وعن الشعبي وعطاء ويحيى بن كثير وقتادة
وعكرمة ومكحول والأوزاعي، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي خيثمة
وابن أبي شيبة وداود - وهو قول عامة أهل الحديث -: قاله
الخطابي وغيره.
وقال ابن المنذر: بهذا نقول؛ للثابت عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ((التيمم ضربة للوجه
والكفين)) .
وحكى عن طائفة منهم أنه يمسح وجهه بضربة، وكفيه إلى
الرسغين بضربة
أخرى. قال ابن المنذر: يروي هذا عن علي، وحكاه غيره عن
عطاء والنخعي والأوزاعي في رواية عنهما، والشافعي في
القديم.
ونقل حرب، عن إسحاق: أن هذا هو المستحب، ويجزئ ضربة واحدة.
وروي حرب بإسناده، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن
ابن عمر، قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين.
وبإسناده: عن عطاء والاوزاعي مثله.
وأما من قال: أن التيمم يبلغ إلى المرفقين، فأكثرهم قالوا:
يتيمم بضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين،
هذا هو الصحيح عن ابن عمر وعن جابر بن عبد الله، وهو قول
أكثر العلماء القائلين بذلك، وهو قول مالك وأبي حنيفة
والشافعي وغيرهم.
واختلفوا: هل ذلك على الوجوب، أم على الاستحباب؟
(2/293)
فقالت طائفة: هو على الوجوب، لا يجزئ دونه،
وهو قول أبي حنيفة، والشافعي في ظاهر مذهبه، ورواية عن
مالك.
وقالت طائفة: بل هو على الاستحباب، ويجزئ ضربتان: إحداهما
للوجه والأخرى للكفين، وهو رواية عن مالك، واختاره القاضي
أبو يعلي من أصحابنا، غير أن المجزئ عنده ضربة واحد للوجه
والكفين، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد. وأنكر الخلال
والأكثرون ثبوتها عنه.
وقال الخلال: إنما أجاز ذلك أحمد لمن تأول الأحاديث بفعلة،
إلا أن الأحاديث في ذلك عنه ضعاف جداً في الضربتين.
وأجاز إسحاق أن يتيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة إلى
المرفقين، إذا كان يرى الاقتصار على الكفين جائزاً، فإن
اعتقد أنه لا يجزئ فقد أخطأ.
وهذا يدل على أن الخلاف في الإجزاء عنده غير سائغ.
وقال طائفة من الخراسانيين من أصحاب الشافعي: الواجب عنده
إيصال التراب إلى الوجه واليدين إلى المرفقين، سواء حصل
ذلك بضربة أو ضربتين، ولا يجب عنده تعدد الضرب، وخالفهم
غيرهم من أصحاب الشافعي في ذلك.
وروى داود بن أبي هند، عن الشعبي، قَالَ: التيمم ضربة
للوجه واليدين إلى المرفقين.
خرجه حرب الكرماني.
وروى ابن إسحاق، عن نافع، قال: رايت ابن عمر يضرب بيده في
الأرض،
(2/294)
فيمسح بها وجهه، ثم يضرب يده فيمسح بها
ذراعيه.
وعن ابن عون، قال: قلت للحسن: ارني كيف التيمم؟ فضرب بيديه
على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بكفيه
الأرض، ثم مسح بهما على ذراعيه.
وعن داود، عن الشعبي، قال: التيمم ضربة للوجه والذراعين.
خرج ذلك كله القاضي إسماعيل المالكي.
وكذلك وصف سفيان الثوري التيمم.
وظاهر هذا يدل على الكفين لا يمسحان بانفرادهما، بل يكفي
ما أصابهما عند ضربهما بالأرض، فإنه لا بد أن يتطاير
الغبار على ظاهرهما وباطنهما.
وقد قال عكرمة في المتيمم: يضرب بكفيه على الأرض فيحركها
ثم يمسح بوجهه وكفيه.
وهذا يرجع إلى أنه لا يجب الترتيب كما سيأتي ذكره - أن شاء
الله تعالى.
وحكي عن ابن سيرين، أنه تيمم بثلاث ضربات: ضربة للوجه،
وضربة
للكفين، وضربة للذراعين إلى المرفقين.
وحكي عن ابن أبي ليلى والحسن بن حي، أنه يتيمم بضربتين،
يمسح بكل ضربة وجهه ويديه إلى المرفقين.
قال ابن عبد البر: ما علمت أحداً من أهل العلم قال ذلك
غيرهما.
وللشافعية وجه ضعيف. أنه يستحب ضربة للوجه وضربتان لليدين،
لكل يد ضربة، ولهم وجه ضعيف - أيضا -، أنه يشرع تكرار
المسح في التيمم كالوضوء.
(2/295)
وقال حرب: ثنا محمود بن خالد: ثنا الوليد
بن مسلم، قال: قلت لأبي عمرو الأوزاعي: صف التيمم؟ فوضع
كفيه على الأرض وضعا رفيقا، ثم رفعهما، ثم أمر إحداهما على
الأخرى مسحا رفيقا، ثم أمر بهما على وجهه، ثم على كفيه.
قال: وثنا المسيب بن واضح: ثنا أبو إسحاق، عن إسماعيل بن
أبي خالد، قال: سألت الشعبي عن التيمم؟ فضرب بيديه الأرض،
ثم ضرب إحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه وكفيه.
وظاهر هذا يقتضي أنه يمسح أولا إحدى كفيه بالأخرى، ثم يمسح
وجهه، ثم يمسح كفيه.
وفي بعض ألفاظ حديث عمار المذكورة في هذا الباب ما قد يشعر
بهذا القول، ولا يبقى حينئذ إشكال في رواية أبي معاوية، عن
الأعمش؛ لأنه يكون قد مسح كفيه مرة قبل وجهه ومرة بعده،
وهذا غريب جدا، وعند التأمل لا يدل حديث عمار على ذلك؛ فإن
لفظ رواية البخاري أنه مسح بالضربة ظهر كفيه بشماله أو ظهر
شماله بكفه، وهذا إنما يدل على أنه مسح ظهر كفه ببطن
الأخرى.
وفي رواية مسلم: ((مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه)) ،
فهذه تدل على أنه مسح كفيه إحداهما بالأخرى ظاهرهما
وباطنهما.
وفي رواية أبي داود والنسائي: ((أنه مسح بشماله على يمينه
وبيمينه على
شماله)) ، وهذا يدل على أنه مسح كل واحدة بالأخرى.
(2/296)
والمنصوص عن أحمد، وهو مذهب الشافعي وغيره،
أنه يجب الترتيب في التيمم كما يجب في الوضوء، فيمسح وجهه
أولا، ثم يمسح كفيه.
ومن أصحابنا المتأخرين من قال: لا يجب الترتيب في التيمم
خاصة؛ لأنهم قالوا في صفة التيمم: أنه يمسح وجهه بباطن
أصابعه وظاهر كفيه براحتيه، ويدلك كل راحة بالأخرى ويخلل
الأصابع. قالوا: فيقع مسح باطن أصابعه مع مسح وجهه، وهذا
يخل بالترتيب.
وهذا الذي قالوه في صفة التيمم لم ينقل عن الإمام أحمد،
ولا قاله أحد من متقدمي أصحابه كالخرقي وأبي بكر وغيرهما.
قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: أرني كيف التيمم؟ فضرب
بيده باطن كفيه، ثم مسح وجهه وكفيه بعضهما على بعض ضربة
واحدة. وقال: هكذا.
وهذا يدل على أنه مسح وجهه بيديه، ثم مسح يديه إحداهما
بالأخرى من غير تخصيص للوجه بمسح باطن الأصابع، وهذا هو
المتبادر إلى الفهم من الحديث المرفوع ومن كلام من قال من
السلف: أن التيمم ضربة للوجه والكفين.
وما قاله المتأخرون من الأصحاب فإنما بنوه على أن التراب
المستعمل لا يصح التيمم به كالماء المستعمل.
وهذا ضعيف؛ لان التراب المستعمل فيه لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنه يجوز التيمم به بخلاف الماء؛ لأن الماء
المستعمل قد رفع حدثا، وهذا لم يرفع الحدث على ظاهر
المذهب.
وعلى الوجه الثاني: أنه لا يتيمم بالتراب المستعمل،
فالمستعمل هو ما علق بالوجه أو تناثر منه، فأما ما بقي على
اليد الممسوح بها فهو بمنزلة ما
(2/297)
يبقى في الإناء بعد الاستعمال منه، وليس
بمستعمل، ويجوز التيمم به، صرح به طائفة من أصحابنا
والشافعية.
ونقل حرب، عن إسحاق، أنه وصف لهم التيمم، فضرب بيديه، ثم
نفخهما، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيده الثانية ولم ينفخهما،
ثم مسح ظهور الكفين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى، ولم
يذكر أنه مسح بطون كفيه اكتفاء بمرور التراب عليهما بالضرب
بهما على الأرض، وهذا في التيمم بالضربتين ظاهر، ولا يتأتى
مثله في الضربة الواحدة؛ لأنه يخل بالترتيب.
وقد صرح العراقيون من أصحاب الشافعي: بأنه يسقط فرض
الراحتين وما بين الأصابع حين يضرب اليدين على التراب، ثم
أوردوا على ذلك أنه لو سقط فرضهما بذلك لصار التراب الذي
عليهما مستعملا، فكيف يجوز مسح الذراعين به ولا يجوز نقل
الماء الذي غسل به أحدى اليدين إلى الأخرى، إلا على وجه
ضعيف لهم؟
وأجابوا عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن اليدين كعضو واحد، ولا يصير التراب والماء
مستعملا إلا
بانفصاله، ولم ينفصل التراب، بخلاف الماء فإنه ينفصل فيصير
مستعملا.
والثاني: أن هذا يحتاج إليه في التيمم لضرورة، حيث لم يمكن
أن ييمم الذراع بكفها، فافتقر إلى الكف الأخرى فصار كنقل
الماء من بعض العضو إلى بعضه، وعلى قول هؤلاء لا يجب بعد
ذلك مسح إحدى الراحتين بالأخرى،
(2/298)
بل هو مستحب.
ومن أصحابهم من حكى في وجوبه وجهين. وقال البغوي منهم: أن
قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسح الراحتين حصل له؛
وإلا فلا. وهذا يدل على أنه لا يحصل بضربهما بالأرض.
ومن أعيان أصحابنا المتأخرين من حكى قولا لم يسم قائله،
ورجحه في التيمم بضربة واحدة: أنه يمسح بباطن يديه وجهه،
ثم يمسح بهما ظاهر كفيه خاصة. قال: لان باطنهما يصيبه
التراب حين يضرب بهما الأرض وحين يمسح بهما الوجه وظهر
الكفين، فلو مسح إحداهما بالأخرى لتكرر مسحهما ثلاث مرات،
وتكرار مسح التيمم غير مشروع بخلاف الوضوء، وهو - أيضا -
ينافي أن يكون التيمم بضربة واحدة.
وهذا الذي قاله فيه نظر؛ فإن تكرار المسح بتراب ضربة واحدة
لا تتعدد به الضربات كتكرار مسح الرأس بماء واحد؛ فإنه لا
يكون تكرارا، وقد سبق ذلك في الوضوء، وإنما لم يشرع تكرار
التيمم إذا وقع الأول موقعه، وما أصاب باطن الكفين من
التراب قبل مسح الوجه غير معتد به عند من يوجب الترتيب،
فلا يكون ذلك تكرارا - أيضا.
وقد تقدم أن حديث عمار يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بعد الضرب ظاهر كفيه وباطنهما.
وإنما يجب الترتيب في التيمم عن الحدث الأصغر. فأما
الترتيب في التيمم عن الجنابة ففيه وجهان لأصحابنا وأصحاب
الشافعي:
(2/299)
أحدهما: أنه واجب - أيضا -؛ لأن صفة التيمم
عن الجنابة والحدث لا تختلف بخلاف الغسل والوضوء، وأيضا؛
فإن البدن كله في غسل الجنابة كالعضو الواحد، وفي التيمم
عضوان متغايران، فيلزم الترتيب بينهما كأعضاء الوضوء.
والثاني: لا يجب؛ لأن التيمم عن الجنابة يلتحق بالغسل ولا
ترتيب فيه، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في توجيه رواية أبي
معاوية، عن الأعمش التي خرجها البخاري بتقديم الكفين على
الوجه؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إنما علم عمارا ما كان يكفيه من التيمم عن الجنابة.
وقد حكى بعضهم عن الأعمش: أنه كان يذهب إلى تقديم مسح
الكفين على الوجه في التيمم مطلقا، فإن صح هذا عنه دل على
أن ما روى عنه أبو معاوية محفوظ عن الأعمش، وان أبا معاوية
حَفِظَ عنه ولم يهم فيه، كما قاله الإمام أحمد. والله
أعلم.
ويحتمل أن الأعمش فسر هذا التفسير من عنده كما فسره شعبة -
أيضا - من عنده كذلك بتقديم دلك اليدين على الوجه، وقد
ذكرناه فيما تقدم من طريق النسائي، أو أن يكون ذلك من
تفسير بعض الرواة عن شعبة والأعمش؛ فإن كثيرا منهم لم يكن
يفرق بين مدلول العطف بـ ((ثُمَّ)) وبالواو. والله تعالى
أعلم.
(2/300)
9 - باب
(2/301)
348 - حدثنا عبدان: أبنا عبد الله: ثنا
عوف، عن أبي رجاء: ثنا عمران بن حصين الخزاعي، أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلا
لم يصل في القوم، فقال:
((يا فلان، ما منعك أن تصلي في القوم؟)) ، قَالَ: أصابتني
جنابة، ولا ماء. قَالَ: ((عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك)) .
قد سبق هذا الحديث بطوله من رواية يحيى القطان، عن عوف،
واختصره هنا من رواية ابن المبارك، عن عوف، وختم به ((كتاب
التيمم)) ؛ فإن فيه دلالة على تيمم الجنب إذا لم يجد
الماء، وعلى أن من كان في مكان يقطع أو يغلب على الظن أنه
لا ماء فيه، أو مع رفقة يعلم أنه لا ماء معهم؛ فإنه لا يجب
عليه طلب الماء، بل له أن يتيمم ويصلي من غير طلب، وقد
استوفينا شرح ذلك كله مع شرح جميع الحديث فيما سبق. والله
أعلم.
وقد روى هذا الحديث البخاري عن إسماعيل بن مسلم، عن
(2/301)
أبي رجاء، عن عمران - فذكر الحديث، وفيه:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر هذا
الرجل أن يتيمم، فتيمم، وقال: ثم وجد الماء فلم يأمره
بالإعادة.
وإسماعيل بن مسلم، ضعيف الحديث.
(2/302)
|