فتح الباري لابن رجب

41 - باب
هل يقال: مسجد بني فلان
ابتدأ البخاري - رحمه الله - من هنا في ذكر المساجد وأحكامها، فأول ما ذكره من ذلك: أنه يجوز نسبة المساجد إلى القبائل؛ لعمارتهم إياها، أو مجاورتهم لها.
وقد كره ذَلِكَ بعض المتقدمين، وتعلق بقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] .
والصحيح: أن الآية لم يرد بها ذلك، وأنها نزلت في النهي عن أن يشرك بالله في المساجد في عبادته غيره، كما يفعل أهل الكتاب في كنائسهم وبيعهم.
وقيل: إن المراد بالمساجد الأرض كلها؛ فإنها لهذه الأمة مساجد وهي كلها
لله، فنهى الله أن يسجد عليها لغيره.
وقيل: إن المراد بالمساجد أعضاء السجود نفسها، وهي لله؛ فإنه هو خلقها وجمعها وألفها، فمن شكره على هذه النعمة أن لا يسجد بها لغيره.
وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] يدل - أيضا - على أنه لا يجوز إضافة المساجد إلى مخلوق إضافة ملك واختصاص.

(3/151)


وأخذ بعض أصحابنا من ذلك كالوزير ابن هبيرة: أنه لا يجوز نسبة شيء من المساجد إلى بعض طوائف المسلمين للاختصاص بها، فيقال: هذه المساجد للطائفة الفلانية، وهذه للطائفة الأخرى، فإنها مشتركة بين المسلمين عموما.
وذكر بعض المتأخرين من أصحابنا في صحة اشتراط ذلك في وقفها وجهين.
وأما إضافة المسجد إلى ما يعرفه به فليس بداخل في ذلك، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضيف مسجده إلى نفسه، فيقول: ((مسجدي هذا)) ، ويضيف مسجد قباء إليه، ويضيف مسجد بيت المقدس إلى إيلياء، وكل هذه إضافات للمساجد إلى غير الله لتعريف أسمائها، وهذا غير داخل في النهي. والله أعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:

(3/152)


420 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها.

(3/152)


وجه الاستدلال من هذا الحديث على ما بوبه: أن فيه إضافة المسجد إلى بني زريق، وهذا وإن كان من قول عبد الله بن عمر ليس مرفوعا، إلا أن تعريف المسجد بذلك يدل على اشتهاره بهذه الإضافة في زمن المسابقة، ولم يشتهر في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المسلمين شيء إلا وهو غير ممتنع؛ لأنه لو كان محضورا لما أقر عليه، خصوصا الأسماء؛ فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغير أسماء كثيرة يكرهها من أسماء الأماكن والآدميين، ولم يغير هذا الاسم للمسجد، فدل على جوازه.
ولقائل أن يقول: يجوز أن اشتهار المسجد بهذا الاسم لم يكن في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكلية، فلا يبقى في الحديث دلالة، وهذا كما قال أنس في حديث الاستسقاء: دخل رجل المسجد من نحو دار القضاء، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، وقد قالوا: إنما عرفت تلك الدار بهذا الاسم بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزمن.
وأحسن من هذا: الاستدلال بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في سواه)) - وقد خرجه البخاري في مواضع أخر -؛ فإن هذا تصريح من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإضافة المسجد إلى نفسه، وهو إضافة للمسجد إلى غير الله في التسمية، فدل على جواز إضافة المساجد إلى من بناها وعمرها. والله أعلم.
وسائر ما يتعلق بالحديث من ألفاضه المختلفة وتفسير غريبها، وما فيه من أحكام المسابقة ليس هذا موضعها، وله موضع أخر يأتي فيه - إن شاء الله تعالى.

(3/153)


42 - باب
القسمة وتعليق القنو في المسجد
قال أبو عَبْد الله: القنو: العذق. والإثنان: قنوان. والجماعة: قنوان، مثل: صنو وصنوان.
المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء وخمس الغنيمة وأموال الصدقة ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها.
وقد ذكر القنو في تبويبه وفسره ولم يخرج حديثه.
وحديثه قد خرجه الترمذي من طريق السدي، عن أبي مالك، عن البراء، في قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] ، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فسقط من البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر
فيعلقه، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ

(3/154)


مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] .
وخرجه ابن ماجه، إلا أن عنده: عن السدي عن عدي بن ثابت، عن البراء.
وحسنه الترمذي وغربه، وفي بعض نسخه: صحيح.
وخرجه الحاكم، وقال: غريب، صحيح على شرط مسلم.
يشير إلى أنه خرج للسدي، إلا أن السدي كان ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة في التفسير للحديث الواحد.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر للمسجد من كل حائط بقناء.
ومن حديث جابر، قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل جداد عشرة أوسق من التمر بعذق يعلق في المسجد للمساكين.
ومن حديث عوف بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي يده عصى وأقناء معلقة في المسجد، قنو منها حشف، فطعن بالعصى في ذلك القنو، ثم قال: ((لو شاء رب هذه الصدقة لتصدق بأطيب منها، إن صاحب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم القيامة)) .

(3/155)


وقد فسر البخاري القنو، فقال: هو العذق.
يعني: عذق النخلة الذي يكون فيه الرطب، وهو واحد، وتثنيته: قنوان - بكسر النون، وجمعه - قنوان - بالتنوين؛ قَالَ تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99] .
وشبهه بصنو وصنوان، فالصنو: الواحد مِمَّا لَهُ نظير يخرج مَعَهُ من أصله من النخل، وتثنيته: صنوان، وجمعه: صنوان. قَالَ تعالى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] .
ومنه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((عم الرجل صنو أبيه)) .
وما ينبغي إدخاله في هذا الباب: ما خرجه البخاري في ((الزكاة)) من رواية معن بن يزيد السلمي، قال: كان أبي أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله، ما إياك أردت، فخاصمته إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((لك ما نويت يا زيد ولك ما أخذت يا معن)) .
ويتصل بهذا: التصدق في المسجد على السائل، وهو جائز، وقد كان الإمام أحمد يفعله، ونص على جوازه، وإن كان السؤال في المسجد مكروها.
وقال أبو داود في ((سننه)) : ((باب: السؤال في المسجد)) ، ثم خرج من طريق مبارك بن فضالة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،

(3/156)


عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أفيكم من أطعم اليوم مسكينا؟)) قال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه.
ومنع منه أصحاب أبي حنيفة، وغلظوا فيه حتى قال خلف بن أيوب منهم: لو كنت قاضيا لم أجز شهادة من تصدق على سائل في المسجد.
ومنهم من رخص فيه إذا كان السائل مضطرا، ولم يحصل بسؤاله في المسجد ضرر.
ولأصحابنا وجه: يكره السؤال والتصدق في المساجد مطلقا.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جرير البجلي، أن قوما جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم - أي: الحاجة -، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، ثم خطب فحث على الصدقة، فجاء رجل بصرة من فضة كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب.
وفي ((المسند)) و ((سنن)) أبي داود والنسائي، عن أبي سعيد، أن رجلا دخل المسجد في هيئة رثة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، فحث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة، فألقى الناس ثيابا - وذكر الحديث.
خرج البخاري في هذا الباب حديثا واحدا، علقه ها هنا وفي ((أبواب: قسم الفيء)) من أواخر ((كتاب: السير)) ، وعلق بعضه في ((باب: فكاك

(3/157)


الأسير)) .
فقال هاهنا:

(3/158)


421 - وقال إبراهيم - يعني: ابن طهمان -: عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين، فقال: ((انثروه في المسجد)) - وكان أكثر مال أتي به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطني؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خذ)) ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي. قال: ((لا)) . قال: فارفعه أنت علي. قال: ((لا)) . قال: فنثر منه، ثم ذهب يقله. فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه علي. قال: ((لا)) . قال: فارفعه أنت علي. قال: ((لا)) . فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره حتى خفي علينا؛ عجبا من حرصه. فما قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثم منها درهم.
هذا المال كان من جزية أهل البحرين، وهم مجوس هجر، وكان قد قدم به أبو عبيدة بن الجراح، وقد خرج حديثه البخاري في موضع آخر من حديث عمرو بن عوف الأنصاري.
وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له بيت مال

(3/158)


يضع فيه أموال الفيء، إنما كان يضعه في المسجد ويقسمه من يومه ولا يحبسه.
وفيه: دليل على أن مال الفيء لا يخمس؛ فإنه لم يذكر فيه أنه أخرج خمسه، وإنما ذكر أنه ما كان يرى أحدا إلا أعطاه.
وفيه: دليل على أن مال الفيء مما يعطى منه الغني والفقير؛ لأن العباس كان من أغنى قريش وأكثرهم مالا، ولكنه أدعى المغرم وقد عرف سببه، وهو مفاداة نفسه، ومفاداة عقيل ابن عمه، وكانا وقعا في أسارى بدر، ففدى العباس نفسه وعقيلا.
قيل: إنه فدى بثمانين أوقية ذهب. وقيل: بألف دينار.
وفيه: بيان احتقار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدنيا وإن كثرت؛ فإنه لما خرج إلى الصلاة ومر بالمال لم يلتفت إليه.
وقد روى حميد بن هلال، أن ذلك المال كان بعثه العلاء بن الحضرمي من البحرين، وكان ثمانين ألفا.
وفيه: التعجب من حرص الحريص على المال والمستكثر منه.
ويصدق هذا: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) .
وكاهل الإنسان: ما بين كتفيه.

(3/159)


وقد كان العباس - رضي الله عنه - عظيما جسيما شديد القوة، فالظاهر أنه حمل مالا كثيرا، ولم يمنعه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على جواز قسمة الفيء بين أهله على غير التسوية.
وفي حديث حميد بن هلال، قال: لم يكن يومئذ عدد ولا وزن، ما كان إلا قبضا.
وفيه: جواز قسمة مال الفيء في المسجد ووضعه فيه، وهو مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب.

(3/160)


43 - باب
من دعي لطعام في المسجد ومن أجاب فيه

(3/161)


422 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، سمع أنسا، قال: وجدت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد معه ناس، فقمت، فقال لي: ((آرسلك أبو طلحة؟)) قُلتُ: نَعَمْ. قَالَ: ((لطعام؟)) قلت: نعم. فقال لمن حوله: ((قوموا)) ، فانطلق وانطلقت بين أيديهم.
هذا مختصر من حديث طويل فيه ذكر معجزة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تكثيره للطعام القليل حتى شبع منه سبعون أو ثمانون رجلا.
وقد خرج البخاري في موضع آخر من حديث أبي هريرة حديثا طويلا، فيه: أنه دخل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيته فوجد لبنا في قدح، فأمره أن يدعو له أهل الصفة - وذكر الحديث بطوله.
والصفة كانت في مؤخر المسجد، فكانوا يأوون إليها ويقيمون بها.
فدلت هذه الأحاديث كلها على جواز أن يدعى من في المسجد إلى الطعام، ويجيب إلى الدعوة إذا دعي فيه.
وقد ورد الرخصة في الأكل في المسجد.
وقد بوب ابن ماجه

(3/161)


في ((كتابه)) : ((باب: الأكل في المسجد)) وخرج فيه: من رواية ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث: حدثني سليمان بن زياد الحضرمي، أنه سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي يقول: كنا نأكل على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد الخبز واللحم.
وهذا إسناد جيد؛ وسليمان وثقة ابن معين. وقال أبو حاتم: صالح الحديث.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي في ((الشمائل)) من رواية ابن لهيعة، عن سلمان بن زياد، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال: أكلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما في المسجد، لحما قد شوي.
وروى الإمام أحمد: ثنا هارون بن معروف: ثنا مسلم، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، قال كنا يوما عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصفة، فوضع لنا طعام فأكلنا.

(3/162)


وروى - أيضا - عن وكيع: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بفضيخ في مسجد الفضيخ، فشربه، فلذلك سمي.
عبد الله بن نافع، ضعفوه.
وقد اختلف في جواز الأكل في المسجد وكراهته، فأجازه طائفة من أصحابنا وغيرهم؛ لهذا الحديث؛ ولان الظاهر من حال النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اعتكافه أنه كَانَ يفطر فِي المسجد؛ فإن عائشة قالت: كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إلا أن يقال: أن ذلك داخل في حاجة الإنسان.
والظاهر من أهل الصفة: أنهم كانوا يأكلون في المسجد، وقد سبق حديث البراء بن عازب أنهم كانوا إذا جاعوا ضربوا القنو المعلق في المسجد للصدقة فأكلوا منه.
وذهب طائفة إلى كراهته؛ لأنه دناءة، وحكي عن الشافعي، وهو وجه لأصحابنا.
ومن قال بهذا أجاز للمعتكف أن يدخل بيته للأكل، كما يدخل لقضاء حاجته.
ويعضد هذا: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المساجد: ((إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) .
خرجه مسلم.
وقد تقدم في أواخر ((أبواب: الوضوء)) .

(3/163)


44 - باب
القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء

(3/164)


423 - حدثنا يحيى بن موسى: ثنا عبد الرزاق: ابنا ابن جريج: أخبرني ابن شهاب، عن سهل بن سعد، أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله؟ فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد.
هذا مختصر من حديث سهل في قصة المتلاعنين.
وكان غرض البخاري منه قول سهل: ((فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد)) ، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي لا عن بينهما، فدل ذلك على جواز الحكم في المسجد والتلاعن فيه بين الزوجين؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم عليهما بالتلاعن ولاعن بينهما.
ولا خلاف نعلمه بين العلماء في جواز الملاعنة في المساجد بين الزوجين المسلمين، وإنما اختلفوا: هل ذلك مستحب أو واجب أو مباح:
فأوجبه الشافعي في قول له، واستحبه في قوله الآخر، وأكثر أصحابنا، ومنهم من قال: هو جائز غير مستحب.

(3/164)


وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع؛ لان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن في مسجده.
وأما القضاء في المسجد، فقد بوب البخاري عليه في آخر ((صحيحه)) في ((كتاب: الأحكام)) ، فقال: ((باب: من قضى ولاعن في المسجد)) . ولاعن عمر عند منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمن عند المنبر. وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد. وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارج المسجد.
ثم خرج حديث سهل في اللعان.
ثم قال: ((باب: من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام)) . وقال عمر: أخرجاه من المسجد فاضرباه. ويذكر عن علي نحوه.
ثم خرج فيه من حديث أبي هريرة، قال: أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعا قال: ((ابك جنون؟)) قال: لا. قال: ((اذهبوا به فارجموه)) – وذكر الحديث.
وذكر غيره ممن كان يقضي في المسجد: شريح، والحسن، والشعبي، ومحارب بن دثار، ويحيى بن يعمر، وابن أبي ليلى، وبه قال أبو حنيفة ومالك واحمد وإسحاق.
قال أحمد: لم يزل الناس يقضون في المساجد.
وقال مالك: هو من أمر الناس القديم.
وكرهه الشافعي.
وحكي عن عمر بن عبد العزيز، ورواية عن

(3/165)


أبي حنيفة.
وقال سفيان الثوري: لا باس أن يقضي القاضي في المسجد؛ كان شريح والقضاة يفعلون ذلك، وكان عمر بن عبد العزيز كتب أن لا يقضي القاضي في المسجد.
وكان الشعبي يقضي بين أهل الذمة والنساء إذا لم يصلين على باب داره.
وأما إقامة الحد في المسجد، ففي النهي عنه حديث خرجه الترمذي، وفي إسناده مقال.
وهو قول الجمهور، وكان ابن أبي ليلى يقيم حد الجلد في المسجد
ومذهب مالك: لا باس في المسجد بخفيف الأدب، ولا باس بضرب الخصم فيه إذا تبين لدده -: نقله صاحب ((تهذيب المدونة)) .

(3/166)


45 - باب
إذا دخل بيتاً يصلي حيث شاء أو حيث أمر؟
ولا يتجسس

(3/167)


424 - ثنا عبد الله بن مسلمة: ثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه في منزله، فقال: ((أين تحب أن اصلي لك من بيتك؟)) . قال: فأشرت له إلى مكان، فكبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصففنا خلفه، فصلى ركعتين.
هذا مختصر من حديث طويل قد خرجه بتمامه في الباب الذي بعد هذا.
ومعنى تبويبه هاهنا: أن الداخل إلى بيت غيره: هل يصلي حيث شاء من
البيت، أم حيث أمر؟ وسقط حرف الاستفهام من الكلام.
واستدل بهذا الحديث على أنه يصلي حيث أمر لا حيث شاء.
وفي هذا نظر؛ حيث شكا إليه أنه لا يقدر على حضور مسجد الجماعة، وفي مثل هذه الحادثة ينبغي أن يرجع إلى اختيار صاحب البيت في مكان الصلاة؛ لأنه أعلم بما يصلح من بيته لاتخاذه مسجدا، والحق له في ذلك.
وأما من دخل إلى بيت غيره على هذا الوجه، وأراد لصلاة فيه فلا يتوقف على أمر صاحب البيت، كما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/167)


بأنس وأمه ولم يستاذنهما، بل قال لهم: ((قوموا، فلأصلي لكم)) . وقد سبق.
ولعل البخاري الحق الصلاة في بيت غيره إذا دخل إليه بالجلوس فيه؛ فإنه إذا أمر بالجلوس في مكان معين منه فلا ينبغي له الجلوس في غيره، لكن ذاك بعد الأمر، فإن لم يوجد أمر فله الجلوس حيث شاء.
قال سفيان الثوري: إذا دخلت فاجلس حيث يأمرك صاحب الدار؛ فإن صاحب الدار اعرف بعورة داره؛ بلغنا ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومتى كان في البيت مسجد للصلاة فيه فالداخل إذا أراد الصلاة يصلي فيه بغير استئذان.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عن جابر، قال: قلت: يا رسول الله، أن أبي ترك دينا ليهودي، فقال: ((سنأتيك يوم السبت إن شاء الله)) . وذلك في زمن الثمر مع استجداد النخل، فلما كان صبيحة يوم السبت جاءني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما دخل علي في مالي دنى إلى الربيع فتوضأ منه، ثم قال إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم دنوت به إلى خيمة لي فبسطت له: بجادا من شعر وطرحت خدية من قتب من شعر حشوها ليف، فاتكا عليها، فلم البث إلا قليلا حتى طلع أبو بكر - رضي الله عنه -، فكأنه نظر إلى ما عمل النبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتوضأ وصلى ركعتين، فلم البث إلا قليلا حتى جاء عمر - رضي الله عنه -، فتوضأ وصلى ركعتين كأنه نظر إلى صاحبيه، فدخلا، فجلس أبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه - وذكر الحديث.

(3/168)


46 - باب
المساجد في البيوت
وصلى البراء بن عازب في مسجد في داره في جماعة.
مساجد البيوت، هي أماكن الصلاة منها، وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها.
وقد قدمنا في آخر ((كتاب: الحيض)) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مسجد بيت ميمونة، وهي مضطجعة إلى جانبه، وهي حائض.
وروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال، أنه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته.
خرجه الإمام أحمد.
وروى محمد بن سعد: ابنا قبيصة: ابنا سفيان: عن أبيه، قال: أول من اتخذ مسجدا في بيته يصلي فيه عمار بن ياسر.
وبإسناد: عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر.

(3/169)


وهذه المساجد لا يثبت لها شيء من أحكام المساجد المسبلة، فلا يجب صيانتها عن نجاسة ولا جنابة ولا حيض. هذا مذهب أصحابنا وأكثر الفقهاء.
ومنع إسحاق من جلوس الجنب فيها والحائض -: نقله عنه حرب.
وأجاز الاعتكاف فيها للمرآة خاصة طائفة من فقهاء الكوفيين، منهم: النخعي والثوري وأبو حنيفة.
وعنه وعن الثوري: أن المرأة لا يصح اعتكافها في غير مسجد بيتها.
وقول الأكثرين أصح.
وقد روي عن ابن عباس، أنه سئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؟ فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة.
خرجه حرب الكرماني.
وروى عمرو بن دينار، عن جابر، أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قَالَ: لا يصلح، لتعتكف فِي مسجد؛ كما قال الله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187] .
خرجه الأثرم.
وجابر هذا يحتمل أنه جابر بن عبد الله الصحابي، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي.
واعتكف أبو الأحوص صاحب ابن مسعود في مسجد بيته.
ورخص فيه الشعبي.

(3/170)


وهؤلاء جعلوا مساجد البيوت حكمها حكم المساجد في الاعتكاف، ولو كان هذا صحيحا لاعتكف أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مساجد بيوتهن، وإنما كن يعتكفن في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما إقامة الجماعة للصلوات في مساجد البيوت فلا يحصل بها فضيلة الصلاة في المساجد، وإنما حكم ذلك حكم من صلى في بيته جماعة وترك المسجد.
قال حرب: قلت لأحمد: فالقوم نحو العشرة يكونون في الدار، فيجتمعون وعلى باب الدار مسجد؟ قال: يخرجون إلى المسجد، ولا يصلون في الدار، وكأنه قال: إلا أن يكون في الدار مسجد يؤذن فيه ويقام. انتهى.
ومتى كان المسجد يؤذن فيه ويقام ويجتمع فيه الناس عموما، فقد صار مسجدا مسبلا، وخرج عن ملك صاحبه بذلك عند الإمام أحمد، وعامة العلماء، ولو لم ينو جعله مسجدا مؤبدا.
ونقل أبو طالب عن أحمد فيمن بنى مسجدا من داره، أذن فيه وصلى مع الناس، ونيته حين بناه وأخرجه أن يصلي فيه، فإذا مات رد إلى الميراث؟ فقال أحمد: إذا أذن فيه ودعا الناس إلى الصلاة فلا يرجع بشيء، ونيته ليس بشيء.
ووجه هذا: أن الإذن للناس في الصلاة إذا ترتب عليه صلاة الناس، فإنه يقوم مقام الوقف بالقول مع حيازة الموقوف عليه، ورفع يد الواقف،

(3/171)


فيثبت الوقف بذلك، ونية رجوعه إلى ورثته كنية توقيت الوقف، والوقف لا يتوقت بل يتأبد، وتلغو نيته توقيته.
وقال حرب - أيضا - سمعت إسحاق يقول: الاعتكاف في كل مسجد خارج من البيت جائز، وان كانت الدار عظيمة مما يجتمع أهل المحلة في مسجد تلك الدار، ويدخلها غير أهل الدار لما جعل المسجد لله جاز الاعتكاف فيه - أيضا -، فأما رجل جعل مسجدا لنفسه، ولم يجعله للجماعة ترفقا بنفسه، فإنه لا يكون فيه اعتكاف، ولا فضل الجماعة - أيضا -، إلا أن يكون به عذر، ولا يمكنه أن يستقل إلى المسجد، فحينئذ يكون له فضل الجماعة في ذلك المسجد، فإن اعتكف فيه كان له اجر، ولا يسمى معتكفا؛ لان الاعتكاف إنما يكون في موضع بارز.
وبكل حال؛ فينبغي أن تحترم هذه البقاع المعدة للصلاة من البيوت، وتنظف وتطهر.
قال الثوري في المساجد التي تبنى في البيوت: ترفع ولا تشرف، وتفرغ للصلاة، ولا تجعل فيها شيئا.
وقد روي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.

(3/172)


خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان فِي
((صحيحهما)) .
خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلا، من غير ذكر: ((عائشة)) .
وقال: هو أصح.
وكذلك أنكر الإمام أحمد وصله.
وقال الدارقطني: الصحيح المرسل.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - من رواية ابن إسحاق: حدثني عمر بن عبد الله بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عمن حدثه من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نصنع المساجد في دورنا، وان نصلح صنعتها ونطهرها.

(3/173)


وخرجه أبو داود بنحو هذا اللفظ من حديث سمرة بن جندب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد اختلف في تفسير ((الدور)) في هذه الأحاديث:
فقيل: المراد بها البيوت، وبذلك فسره الخطابي وغيره.
وخرج ابن عدي حديث عائشة، ولفظه: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتنظيف المساجد التي في البيوت.
وقال أكثر المتقدمين: المراد بالدور هنا: القبائل، كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خير دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعده، وفي كل دور الأنصار خير)) .
وبهذا فسر الحديث سفيان الثوري ووكيع بن الجراح وغيرهما.
وعلى هذا: فالمساجد المذكورة في الحديث هي المساجد المسبلة في القبائل والقرى؛ دون مساجد الأمصار الجامعة.
قال البخاري - رحمه الله -:

(3/174)


425 - ثنا سعيد بن عفير: ثنا الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك - وهو من

(3/174)


أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد بدرا من الأنصار -، أنه أتى إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في
بيتي، فأتخذه مصلى، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((سأفعل، إن شاء الله)) . قال عتبان: فغدا علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك)) قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبر، فقمنا خلفه، فصففنا فصلى ركعتين، ثم سلم. قال: وحبسناه على خزيرة صنعناها له. قال: فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد، فاجتمعوا فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن - أو ابن
الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله)) .

(3/175)


قال ابن شهاب: ثم سألت بعد ذلك الحصين بن محمد الأنصاري - وهو أحد بني سالم، وهو من سراتهم - عن حديث محمود بن الربيع، فصدقه بذلك.
عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف، شهد بدرا وأحدا - كما في هذا الحديث - ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا، وكان ذهب بصره في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يؤم قومه وهو ضرير البصر وهو شيخ كبير إلى أن توفي في زمن معاوية.
والظاهر: أنه لما اشتكى إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن قد ذهب بصره بالكلية، بل كان قد ساء بصره، كذا وقع في ((صحيح مسلم)) من رواية الأوزاعي، عن الزهري وهو معنى قوله في هذه الرواية: ((أنكرت بصري)) .
ولكن رواه مالك، عن الزهري، وقال فيه: إن عتبان قال: ((وأنا رجل ضرير البصر)) .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وروى سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: ثنا محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: أصابني في بصري

(3/176)


بعض الشيء، فبعثت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، ففعل.
وهذا من روايات الأكابر عن الأصاغر - أعني: رواية أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع.
ورواه حماد بن سلمة: ثنا ثابت، عن أنس: حدثني عتبان بن مالك، أنه
عمي، فأرسل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، تعال فخط لي مسجدا. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث.
ولعل هذه الرواية أشبه، وحماد بن سلمة مقدم في ثابت خاصة على غيره.
وقد خرجه مسلم في أول ((صحيحه)) من هذين الوجهين.
وروى هذا الحديث قتادة، واختلف عليه فيه:
فرواه شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر في إسناده: ((عتبان)) .
وخالفه حجاج بن حجاج، فرواه عن قتادة، عن أبي بكر بن أنس، عن محمود بن عمير بن سعد، أن عتبان أصيب ببصره - فذكر الحديث.
خرجه النسائي في ((كتاب اليوم والليلة)) من الطريقين.
وقوله: ((محمود بن عمير بن سعد)) ، الظاهر أنه وهم؛ فقد رواه علي بن زيد بن جدعان، قال: حدثني أبو بكر بن أنس، قال: قدم أبي الشام وافدا وأنا معه، فلقينا محمود بن الربيع، فحدث أبي حديثا عن عتبان بن مالك، فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة، فسألنا عنه، فإذا هو حي،

(3/177)


فإذا بشيخ كبير أعمى، فسألناه عن الحديث، فقال: ذهب بصري على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث بطوله.
خرجه الإمام أحمد.
فتبين بهذه الرواية أن أبا بكر بن أنس سمعه من محمود بن الربيع عن عتبان، ثم سمعه من عتبان.
وقد اعتذر عتبان - أيضا - بأن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه الذي يصلي بهم فيه، فطلب من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيه في بيته فيصلي فيه، حتى يتخذه مصلى.
وفي هذا: استحباب اتخاذ آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومواضع صلواته مصلى يصلى فيه.
وقد ذكر ابن سعد، عن الواقدي، أن بيت عتبان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيه الناس بالمدينة إلى يومه ذاك.
ويشهد لهذا المعنى - أيضا -: قول عمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ فَنَزَلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] .
وقد نقل أحمد بن القاسم وسندي الخواتيمي، عن الإمام أحمد،

(3/178)


أنه سئل عن إتيان هذه المساجد؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، وعلى ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأثره، فلا بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا، وأكثروا فيه.
وفي رواية ابن القاسم: أن أحمد ذكر قبر الحسين، وما يفعل الناس عنده - يعني: من الأمور المكروهة المحدثة.
وهذا فيه إشارة إلى أن الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يخشى منه الفتنة، كما كره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كاف لهم، واطرحوا ما لا ينجيهم غيره، وهو طاعة الله ورسوله.
وقد رأى الحسن قوما يزدحمون على حمل نعش بعض الموتى الصالحين، فقال: في عمله فتنافسوا.
يشير إلى أن المقصود الأعظم متابعته في عمله، لا مجرد الازدحام على حمل نعشه.
وكذلك من يبالغ في تزيين المصحف وتحسينه، وهو مصر على مخالفة أوامره وارتكاب مناهيه.
وقد روى عن عمر - رضي الله عنه - ما يدل على كراهة ذلك - أيضا -:
فروي عن المعرور بن سويد، قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فلما انصرف رأى الناس مسجدا فبادروه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: هكذا

(3/179)


هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض.
وقال نافع: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.
وقال ابن عبد البر: كره مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان؛ وذلك – والله أعلم – مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى فِي مثل ذَلِكَ.
ذكره فِي ((الاستذكار)) فِي الكلام عَلَى حَدِيْث: ((اشتد غضب الله عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقال: ذكر مالك [.. ..] بإثر هذا الحديث حديث عتبان بن مالك؛ ليبين لك أن معنى هذا الحديث مخالف للذي قبله.
قال: والتبرك والتأسي بأفعال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيمان به وتصديق، وحب في الله وفي رسوله.
وفي الحديث: دليل على أن المطر والسيول عذر يبيح له التخلف عن الصلاة في المسجد.
وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرخص له:
قال الإمام أحمد: ثنا سفيان، عن الزهري، فسئل سفيان: عمن هو؟ قال: هو محمود - إن شاء الله -، أن عتبان بن

(3/180)


مالك كان رجلا محجوب البصر، وانه ذكر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التخلف عن الصلاة، فقال: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. فلم يرخص له.
وكذا رواه محمد بن سعد، عن سفيان.
وهو يدل على أن سفيان شك في إسناده، ولم يحفظه.
وقال الشافعي: أبنا سفيان بن عيينة: سمعت الزهري يحدث، عن محمود ابن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله، إني محجوب البصر، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد، فهل لي من عذر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا أجد لك من عذر إذا سمعت النداء)) . قال سفيان: وفيه قضية لم أحفظها.
قال الشافعي: هكذا حدثنا سفيان، وكان يتوقاه، ويعرف أنه لم يضبطه.
قال: وقد أوهم فيه - فيما نرى -، والدلالة على ذلك: ما أبنا مالك، عن ابن شهاب - ثم ذكر حديث عتبان المتقدم، على ما رواه الجماعة عن الزهري.
قال البيهقي: اللفظ الذي رواه ابن عيينة في هذا الإسناد إنما هو في قصة ابن أم مكتوم الأعمى.
قلت: وقد اشتبهت القصتان على غير واحد، وقد سبق عن الإمام أحمد أنه ذكر أن ابن أم مكتوم سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي في بيته ليتخذه

(3/181)


مصلى، وإنما هو عتبان بن مالك.
وقد اشتبه على بعض الرواة محمود بن الربيع الراوي له عن عتبان، فسماه محمود بن لبيد، وهو - أيضا - وهم، وقد وقع فيه بعض الرواة للحديث عن مالك.
وقال يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن محمود بن الربيع - أو الربيع بين محمود - شك يزيد.
وقد روي عن ابن عيينة بإسناد آخر: خرجه ابن عبد البر في ((التمهيد)) ، من طريق عبيد الله بن محمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة - إن شاء الله -، عن عتبان بن مالك، أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التخلف عن الصلاة، فقال: ((أتسمع النداء؟)) قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يرخص لَهُ.
وهذا الإسناد غير محفوظ، ولهذا شك فيه الراوي - إما عن سفيان أو غيره -، وقال: ((إن شاء الله)) ، وإنما أراد حديث محمود بن الربيع.
وأما ابن أم مكتوم، فقد خرجه مسلم من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي
هريرة، قال: أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، أنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة)) قال: نعم. قال: ((فأجب)) .

(3/182)


وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى ابن أم مكتوم إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع؟ قال: ((فإن سمعت الأذان فأجب، ولو حبوا، ولو زحفا)) .
وعيسى بن جارية، تكلم فيه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من حديث عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم، أنه سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن اصلي في بيتي؟ قال: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم. قال: ((لا أجد لك رخصة)) .
وفي إسناده اختلاف على عاصم:
وروي عنه، عن أبي رزين مرسلا.
ورواه أبو سنان سعيد بن سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي رزين، عن أبي هريرة.
وأبو سنان، قال أحمد: ليس بالقوي.

(3/183)


وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، من حديث عبد الرحمن بن عابس، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم، أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟)) قال: نعم. قال: ((فحيهلا)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن شداد، عن ابن أم مكتوم؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى المسجد فرأى في القوم رقة، فقال: ((إني لأهم أن أجعل للناس إماما، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه)) . فقال ابن أم مكتوم، يا رسول الله، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال: ((أتسمع الإقامة؟)) قال: نعم. قال: ((فأتها)) .
وخرجه ابن خزيمة والحاكم من رواية أبي جعفر الرازي، عن حصين، به - بنحوه.
وقد روي هذا الحديث من رواية البراء بن عازب وأبي أمامة وكعب بن عجرة. وفي أسانيدها ضعف. والله أعلم.

(3/184)


وقد أشكل وجه الجمع بين حديث ابن أم مكتوم وحديث عتبان بن مالك، حيث جعل لعتبان رخصة، ولم يجعل لابن أم مكتوم رخصة:
فمن الناس: من جمع بينهما بأن عتبان ذكر أن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه، وهذا عذر واضح؛ لأنه يتعذر معه الوصول إلى المسجد، وابن أم مكتوم لم يذكر مثل ذلك. وإنما ذكر مشقة المشي عليه. وفي هذا ضعف؛ فإن السيول لا تدوم، وقد رخص له في الصلاة في بيته بكل حال، ولم يخصه بحالة وجود السيل، وابن أم مكتوم قد ذكر أن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وذلك يقوم مقام السيل المخوف.
وقيل: إن ابن أم مكتوم كان قريبا من المسجد، بخلاف عتبان، ولهذا ورد في بعض طرق حديث ابن أم مكتوم: أنه كان يسمع الإقامة. ولكن في بعض الروايات أنه أخبر أن منزله شاسع كما تقدم.
ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان، فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد.
وقد أشار الجوزجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره.
يعني: أن هذا لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم.

(3/185)


وقيل: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد أنه لا يجد لابن أم مكتوم رخصة في حصول فضيلة الجماعة مع تخلفه وصلاته في بيته.
واستدل بعض من نصر ذلك - وهو: البيهقي - بما خرجه في ((سننه)) من طريق أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن ابن أم مكتوم، قال: قلت: يا رسول الله، إن لي قائدا لا يلائمني في هاتين الصلاتين؟ قَالَ: ((أي
الصلاتين؟)) قلت: العشاء والصبح. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم القاعد عنهما ما فيهما لأتاهما ولو حبوا)) .
وحديث ابن أم مكتوم يدل على أن العمى ليس بعذر في ترك الجماعة، إذا كان قادرا على إتيانها، وهو مذهب أصحابنا.
ولو لم يمكنه المجيء إلا بقائد ووجد قائدا متبرعا له، فهل يجب عليه حضور المسجد؟ على وجهين، ذكرهما ابن حامد من أصحابنا.
وهذا بناء على قول أحمد: إن حضور المسجد للجماعة فرض عين.
وسيأتي ذكر ذلك مستوفى في موضعه - إن شاء الله تعالى.
وقد يستدل بحديث عتبان على أن الجماعة في البيت تكفي من حضور المسجد خصوصا للأعذار.
ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيته مسجدا يؤذن فيه، ويقيم، ويصلي بجماعة أهل داره ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد: إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يجمع فيه،

(3/186)


وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفردا، فلم يأذن له، وهذا اقرب ما جمع به بين الحديثين. والله أعلم.
لكن في ((سنن البيهقي)) من حديث كعب بن عجرة، أن رجلا أعمى أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني اسمع النداء، ولعلي لا أجد قائدا، أفأتخذ مسجدا في داري؟ فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تسمع النداء؟)) قال: نعم. قال: ((فإذا سمعت النداء فاخرج)) .
وفي إسناده اختلاف، وقد قال أبو حاتم فيه: أنه منكر.
ومع هذا؛ فلا دلالة فيه على أنه أراد أن يصلي في بيته جماعة، إنما فيه أنه أراد أن يجعل في داره مسجدا لصلاته في نفسه.
وفي حديث عتبان: دليل على جواز إمامة الأعمى، وجواز الجماعة في صلاة التطوع - أحيانا -، وجواز إمامة الزائر بإذن المزور في بيته.
وقوله: ((وحسبناه على خزيرة صنعناها له)) يدل على أن الزائر وإن كان صاحب المنزل قد استدعاه إلى بيته لحاجة له، فإنه يستحب له أن يضيفه، وإن حبسه لذلك في بيته بعد انقضاء حاجته لم يضر ذلك، بشرط ألا يكون على الزائر فيه مشقة.

(3/187)


((والخزيرة)) : مرقة تصنع من النخالة. وقيل: من الدقيق - أيضا -، وقيل: أنه لا بد أن يكون معها شيء من دسم من شحم أو لحم. وخص بعضهم دسمها باللحم خاصة.
وقوله: ((فثاب في البيت رجال)) - يعني جاءوا متواترين، بعضهم في اثر بعض.
وقوله: ((من أهل الدار)) - يعني: دار بني سالم بن عوف، وهم قوم عتبان.
وفي قوله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تقل ذلك)) نهى أن يرمي احد بالنفاق لقرائن تظهر عليه، وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجري على المنافقين أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم، فكيف بمسلم يرمي بذلك بمجرد قرينة؟
وفيه: أن من رمى أحدا بنفاق، وذكر سوء عمله، فإنه ينبغي أن ترد غيبته، ويذكر صالح عمله؛ ولهذا ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أن لا اله إلا الله وان محمد عبده ورسوله، لا يلتفت إلى قول من قال: إنما يقولها تقية ونفاقا.
وإنما لم يأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهجر مالك بن الدخشن؛ لأنه لم يعرف عنده بما يخشى عليه من النفاق، ولم يثبت ذلك ببينة، وإنما رمي بذلك، بخلاف الثلاثة الذين خلفوا؛ فإنهم اعترفوا بما يخشى عليهم منه النفاق؛

(3/188)


ولهذا عذر المعتذرين ووكلهم إلى الله، وكان كثير منهم كاذبا.
وقد سبق القول في معنى تحريم من قال: ((لا اله إلا الله)) على النار، في أواخر ((كتاب: العلم)) .
وقد شهد مالك بن الدخشم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدرا واحدا والمشاهد كلها، واختلفوا: هل شهد مع الأنصار بيعة العقبة، أم لا؟
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه مع عاصم بن عدي لتحريق مسجد الضرار وهدمه.
وقد روى أسد بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلا من الأنصار أرسل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في داره، فأتاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واجتمع قومه، وتغيب رجل منهم، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أين فلان؟)) فغمزه رجل منهم، فقال: أنه، وانه! فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أليس قد شهد بدرا؟)) قالوا: بلى. قال: ((فلعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) .
وخرجه الطبراني من طريق حماد - أيضا -، حديثه: أن رجلا من الأنصار عمي، فبعث إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخطط لي في داري مسجدا لأصلي فيه. فجاء
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اجتمع إليه قومه وتغيب رجل.

(3/189)


وخرجه ابن ماجة أول الحديث فقط، وخرج أبو داود آخره فقط من طريق حماد.
ولأنس عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديث آخر في معنى حديث عتبان. خرجه البخاري في مواضع أخر، وقد ذكرناه في ((باب: الصلاة على الحصير)) فيما تقدم.

(3/190)


47 - باب
التيمن في دخول المسجد وغيره
وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى.

(3/191)


426 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التيمن ما استطاع في شانه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله.
وقد سبق هذا الحديث في ((باب: التيمن في الوضوء والغسل)) وبسطنا القول عليه هناك، أنه يدل على تقديم اليمنى في الأفعال الشريفة، واليسرى فيما هو بخلاف ذلك، فالدخول إلى المسجد من اشرف الأعمال، فينبغي تقديم الرجل اليمنى فيه كتقديمها في الانتعال، والخروج منه بالعكس، فينبغي تأخير اليمنى فيه، كتأخيرها في خلع النعلين.
وأما ما ذكره عن ابن عمر تعليقا.
وروى شداد أبو طلحة الراسبي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى.
خرجه الحاكم.
وقال: صحيح على شرط مسلم.
وخرجه

(3/191)


البيهقي.
وقال: تفرد أبو طلحة، وليس بالقوي.
وسئل الدارقطني عنه، فقال: يعتبر به.
وخرجه له مسلم.
وروي عن أنس من وجه أخر أضعف من هذا، من فعله، ولم يقل فيه: ((من السنة)) .

(3/192)


48 - باب
هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد
لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
وما يكره من الصلاة في القبور
ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعاده.
مقصود البخاري بهذا الباب: كراهة الصلاة بين القبور واليها، واستدل لذلك بان اتخاذ القبور مساجد ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود، وقد لعنهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
وقد خرج البخاري هذا الحديث فيما تقدم، وسيأتي قريبا - أن شاء الله تعالى.
وقد دل القران على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
[الكهف: 12] ، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بان مستند القهر والغلبة واتباع الهوى، وانه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما انزل الله على رسله من الهدى.

(3/193)


وإذا كرهت الصلاة إلى القبور وبينها، فإن كانت القبور محترمة اجتنبت الصلاة فيها، وأن كانت غير محترمة كقبور مشركي الجاهلية ونحوهم ممن لا عهد له ولا ذمة مع المسلمين فإنه يجوز نبشها ونقل ما يوجد فيها من عظامهم، والصلاة في موضعها؛ فإنها لم تبق مقبرة ولا بقي فيها قبور، وقد نص الإمام أحمد على ذلك في رواية المروذي.
وأما ما ذكره عن عمر - رضي الله عنه -، فمن رواية سفيان، عن حميد، عن أنس، قال: رأني عمر وأنا اصلي إلى قبر، فجعل يشير إلي: القبر القبر.
ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد، عن أنس، حدثه أنه قام يصلي إلى قبر لا يشعر به، فناداه عمر: القبر القبر. قال: فظننت أنه يقول: القمر، فرفعت راسي، فقال رجل: أنه يقول: القبر، فتنحيت.
وروي عن أنس، عن عمر من وجوه أخر.
وروى همام: ثنا قتادة، أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون مسجدا، فقال أنس: كان يكره أن يبنى مسجد في وسط القبور.
وقال أشعث: عن ابن سيرين: كانوا يكرهون الصلاة بين ظهراني القبور.
خرج ذلك كله أبو بكر الأثرم.
وقال: سمعت أبا عبد الله - يعني:

(3/194)


أحمد - يسال عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة. فقيل له: المسجد يكون بين القبور، أيصلي فيه؟ فكره ذَلِكَ. قيل لَهُ: أنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز؟ فكره أن يصلي فيه الفرض، ورخص أن يصلي فيه على الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد الغنوي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تصلوا إلى القبور)) ، وقال: إسناد جيد.
وحديث أبي مرثد هذا: خرجه مسلم، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) .
وروي عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلا المقبرة والحمام)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم
وصححه.

(3/195)


وقد اختلف في إرساله ووصله بذكر ((أبي سعيد)) فيه، ورجع كثير من الحفاظ إرساله: عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذي والدارقطني.
وفي هذا الباب أحاديث أخر، قد استوفيناها في ((في كتاب شرح الترمذي)) .
وأما ما ذكره البخاري: أن عمر لم يأمر أنسا بالإعادة.
فقد اختلف في الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها، أم لا؟
وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول مالك، والشافعي، واحمد في رواية عنه.
والمشهور عن أحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة؛

(3/196)


لارتكاب النهي في الصلاة فيها.
وهو قول أهل الظاهر - أو بعضهم -، وجعلوا النهي هاهنا لمعنى يختص بالصلاة من جهة مكانها، فهو كالنهي عن الصلاة المختص بها لزمانها كالصلاة في أوقات النهي، وكالصيام المنهي عنه لأجل زمنه المختص به كصيام العيدين.
حتى أن من أصحابنا من قال: متى قلنا: النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان ونحوها للتحريم، فلا ينبغي أن يكون في بطلان الصلاة فيها خلاف عن أحمد، وإنما الخلاف عنه في عدم البطلان مبني على القول بأنه مكروه كراهة تنزيه.
وأكثر العلماء على أن الكراهة في ذلك كراهة تنزيه، ومنهم من رخص فيه.
قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة في المقبرة، فروينا عن علي وابن عباس
وعبد الله بن عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهوا الصلاة فيها. واختلف عن مالك فيه، فحكى ابن القاسم عنه أنه قال: لا باس به، وحكى أبو مصعب عنه أنه قال: لا أحب ذلك.
قال ابن المنذر: ونحن نكره من ذلك ما كرهه أهل العلم استدلالا بالثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا)) ، ففي هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة.
قلت: قد استدل البخاري بذلك - أيضا - وعقد له بابا مفردا، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
قال ابن المنذر: وقد قال نافع مولى ابن عمر: صليتا على عائشة

(3/197)


وأم سلمه وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر.
قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره، وقد سبق قول أحمد في ذلك. وقال أيضاً -: لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز؛ لأن الجنائز هذه سنتها.
يشير إلى فعل الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال ابن المنذر: وروينا أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر.
قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور، فكان يخص النهي بحاله استقبال القبر خاصة.
قال ابن المنذر: وصلى الحسن البصري قي المقابر.
قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روي عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر.
قال: وكره عمر بن الخطاب وأنس بن مالك الصلاة إلى المقابر. انتهى ما ذكره.
واختلف القائلون بالكراهة في علة النهي:
فقال الشافعي: علة ذلك النجاسة، فإن تراب المقابر يختلط بصديد الموتى ولحومهم، فإن كانت طاهرة صحت الصلاة فيها مع الكراهة.
وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثة أقسام: ما تكرر نبشها، فلا تصح

(3/198)


الصلاة فيها، لاختلاط ترابها بالصديد. وجديدة لم تنبش، فيصح الصلاة فيها مع الكراهة؛ لأنها مدفن للنجاسة.
وما شك في نبشها، ففي صحة الصلاة فيها قولان.
وأختلف أصحابنا في علة النهي [عن الصلاة] ، فمنهم من قال: هو مظنة النجاسة، ومنهم من قال: هو تعبد لا يعقل.
وقالو مع هذا: لا فرق بين أن تكون قديمة أو حديثة، نبشت أو لم تنبش، إذا تناولها اسم مقبرة.
قالوا: فإن كان في بقعة قبر أو قبران فلا بأس بالصلاة فيها وما لم يصل إلى القبر.
وأنكر آخرون التعليل بالنجاسة، بناء على طهارة تراب المقابر بالاستحالة، وعللوا: بان الصلاة في المقبرة والى القبور، إنما نهى عنه سدا لذريعة الشرك، فإن اصل الشرك وعبادة الأوثان كانت من تعظيم القبور، وقد ذكر البخاري في ((صحيحه)) في ((تفسير سورة نوح)) عن ابن عباس معنى ذلك، وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جندب، سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس يقول: ((أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) .
وهذا يعم كل القبور.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن من شرار الناس من

(3/199)


تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي صالح، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .
وقال الترمذي: حسن - وفي بعض النسخ: صحيح.
وخرج ابن حبان فِي ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
واختلف في أبي صالح هذا، من هو؟
فقيل: إنه السمان -: قاله الطبراني، وفيه بعد. وقيل: إنه ميزان البصري، وهو ثقة؛ قاله ابن حبان. وقيل: إنه باذان مولى أم هاني -: قاله الإمام أحمد والجمهور.
وقد اختلف في أمره:
فوثقه العجلي. وقاله ابن معين: ليس

(3/200)


به باس. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتاج به. وقال النسائي: ليس بثقة. وضعفه الإمام أحمد وقال: لم يصح عندي حديثه هذا.
وقال مسلم في ((كتاب التفصيل)) : هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس.
وروي عن زيد بن ثابت، أنه نهى أن يبنى عند قبر أبيه مسجد.
خرجه حرب الكرماني.
وقال أبو بكر الأثرم في كتاب ((الناسخ والمنسوخ)) : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب سفيان الثوري: وإذا صلى الرجل وبين يديه ميت تنحى عنه. إنما كره الصلاة إلى القبور من اجل الميت، فإن صلى إليها فلا باس.
وفيه - أيضا -: قال سفيان: ويكره أن يصلي الرجل إلى القبور أو ما بين
القبور. ثم قال: ومن صلى إلى القبور فلا إعادة عليه.
وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاة على الجنازة في المقبرة.
وهذا قول الشافعي وإسحاق ورواية عن أحمد؛ لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة.

(3/201)


واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بان الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:
قال:

(3/202)


427 - ثنا محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام: اخبرني أبي، عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) .
هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت

(3/202)


عليه النصوص أخر يأتي ذكر بعضها.
وقد خرج البخاري في ((تفسير سورة نوح)) من ((كتابه)) هذا من حديث ابن جريج، فقال: عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبإ وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع -: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
وقد ذكر الإسماعيلي: أن عطاء هذا هو الخرساني، والخرساني لم يسمع من ابن عباس. والله أعلم.
فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شك في تحريمه، سواء كانت صورا مجسدة كالأصنام أو على حائط ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.
فتصوير الصور على مثل

(3/203)


صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من اشد الناس عذابا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى.

الحديث الثاني:

(3/204)


428 - حدثنا مسدد: ثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس، قال: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، فكأني أنظر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار، فقال: ((يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا)) . قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله - عز وجل -. قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، ثم بنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه

(3/204)


بالحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره

أعلى المدينة: هو العوالي والعالية، وهو قباء وما حوله، وكانت قباء مسكن بني عمرو بن عوف.
وقيل: إن كل ما كان من جهة نجد من المدينة، من قراها وعمائرها إلى تهامة يسمى العالية، وما كان دون ذلك يسمى السافلة.
وبنو النجار كانوا أخوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ذكرنا سبب ذلك في ((كتاب: الإيمان)) في ((باب: الصلاة من الإيمان)) .
وكان مقصود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتقل من العوالي إلى وسط المدينة، وان يتخذ بها مسكنا يسكنه.
وفي إردافه لأبي بكر في ذلك اليوم دليل على شرف أبي بكر واختصاصه به دون سائر أصحابه.
وقوله: ((وملأ بني النجار حوله)) - يريد: رجالهم وشجعانهم وأشرافهم.
وقوله: ((حتى ألقى بفناء أبي أيوب)) - أي: بفناء داره، و ((ألقى)) بالقاف، ومعناه: أنه نزل به، فإن السائر إذا نزل بمكان ألقى فيه رحله وما معه.

(3/205)


وقد ذكر شرحبيل بن سعد وأهل السير: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كلما مر بدار من دور الأنصار كبني سالم وبني حارث بن الخزرج وبني عدي أخذوا بخطام راحلته، وعرضوا عليه النزول بحيهم، وهو يقول: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة)) ، حتى بركت بفناء دار أبي أيوب، عند مسجده الذي بناه.
وقول أنس: ((وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم)) ، موافق لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره)) . ولقوله لما سئل: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)) . قيل له: ثم أي؟ قال: ((ثم مسجد بيت المقدس)) . قيل: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)) . ثم قال: ((الأرض لك مسجد، فأينما أدركتك الصلاة فصل؛ فإنه لك مسجد)) .
وقوله: فأرسل إلى بني النجار، فقال: ((ثامنوني بحائطكم)) - يعني: بيعوني إياه بثمنه.
قال الخطابي: وفيه أن صاحب السلعة أحق بالسوم.
فإنه طلب منهم أن يذكروا له الثمن، ولم يقطع ثمنا من عنده.
والحائط: ما فيه

(3/206)


شجر وعليه بنيان.
وقوله: ((قالوا: والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله)) يدل على أنهم لم يأخذوا له ثمنا، وقد ذكر الزهري وغيره خلاف ذلك.
قال ابن سعد: أبنا الواقدي: حدثني معمر، عن الزهري، قال: بركت ناقة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موضع مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا لسهل وسهيل: غلامين يتيمين من الأنصار، وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغلامين، فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدا. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ابتاعه منهما.
قال الواقدي: وقال غير معمر، عن الزهري: فابتاعه بعشرة دنانير. وقال معمر، عن الزهري: وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك.
وهذا إن صح يدل على أن الغلامين كانا قد بلغا الحلم.
وحديث أنس اصح من رواية يرويها الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري مرسلة، فإن مراسيل الزهري لو صحت عنه من اضعف المراسيل، فكيف إذا تفرد بها الواقدي؟

(3/207)


وقد روي عن الحسن، أنهما وهباه للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله:
قال المفضل الجندي في ((فضائل المدينة)) له: ثنا محمد بن يحيى: ثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الحسن، قال: كان مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مربدا لغلامين من الأنصار، يقال لهما: سهل وسهيل، فلما رآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعجبه، فكلم فيه عمهما - وكانا في حجره - أن يبتاعه منهما، فأخبرهما عمهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراده، فقالا: نحن نعطيه إياه. فأعطياه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبناه.
قال الحسن: فأدركت فيه أصول النخل غلابا - يعني: غلاظا -، وكان
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إلى جذع منها، ويسند إليه ظهره، ويصلي إليه.
ثم قال الواقدي - في روايته عن معمر، عن الزهري -: كان - يعني: ذلك المربد - جدارا مجدرا، ليس عليه سقف، وقبلته إلى بيت المقدس، كان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلي بأصحابه فيه، ويجمع فيه بهم الجمعة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنخل الذي في الحديقة، وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنبشت، وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء مستنجل فسيروه حتى ذهب، وأسسوا المسجد، فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مربع - ويقال: كان اقل من المائة -، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاث أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللبن، وبناه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وجعل ينقل

(3/208)


معهم الحجارة بنفسه، وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره

وجعل يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر - ربنا -، وأطهر

وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابا في مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو باب الذي يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجعل طول الجدار بسطة وعمدة الجذوع، وسقفه جريدا، فقيل له: ألا نسقفه؟ فقال: ((عريش كعريش موسى، خشيبات وثمام، الشأن أعجل من ذلك)) .
وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد، وجعل سودة بنت زمعة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان. انتهى.
وذكر ابن سعد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في منزل أبي أيوب سبعة أشهر.
وهذا يدل على أن بعض حجره تم بناؤه بعد ذلك، وانتقل إليها.
وروى ابن سعد - أيضا - عن الواقدي: ثنا عبد الرحمن بن

(3/209)


أبي الرجال، قال: مات أسعد بن زرارة في شوال، على رأس تسعة أشهر من الهجرة، ومسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمئذ يبنى.
وهذا يدل على أن بناء المسجد لم يتم إلا بعد تسعة أشهر من الهجرة.
وأما قول أنس: ((فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل)) .
لفظه: ((خرب)) رويت بالخاء المعجمة والباء الموحدة. ورويت: ((حرث)) بالحاء والثاء المثلثة.
قال الإسماعيلي: من قال: ((حرث)) . فهو محتمل؛ لأن ما حرث ولم يزرع أو زرع فرفع زرعه، كانت الأخاديد والشقوق باقية في الأرض.
يشير إلى أن ذلك يناسب قوله: ((فأمر بالحرث فسويت)) .
قال: ومن قال: ((خرب)) فهو صحيح؛ فهو جمع خربة أو خربة – بضم الخاء – وهو العيب، كالجحر والشق ونحوه.
قال: وأما ((الخرب)) فهو كقولك: مكان خرب - يعني: أنه يكون وصفا لمذكر.
قال: والحديث خارج على تأنيث هذا الحرف، فكأنه بالجمع أشبه.
وقال الخطابي: روي ((خرب)) - يعني: بكسر الخاء وبفتح الراء - قال الليث: هي لغة تميم خرب، والواحد خربة.
قال: وسائر الناس يقولون: ((خرب)) - يعني: بفتح الخاء وكسر الراء -، جمع خربة، كما قيل: كلم جمع كلمة. ولعل الصواب ((الخرب)) مضمومة الخاء جمع خربة وهي الخروق التي في الأرض، إلا أنهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة.
قال: ولعل الرواية: ((الجرف)) جمع الجرفة، وهي جمع الجرف،

(3/210)


كما قيل: خرج وخرجه، وترس وترسه.
قال: وأبين منها - إن ساعدت الرواية -: ((حدب)) جمع حدبة، لقوله: ((فسويت)) ، وإنما يسوى المكان المحدودب، أو ما فيه خروق، فأما الخرب فتبنى وتعمر. انتهى ما ذكره.
وفيه تكلف شديد، وتلاعب بهذه اللفظة بحسب ما يدخلها من الاحتمالات المستبعدة. والرواية التي رواها الحفاظ: ((خرب)) ، فإن كان مفردا، فإنما أنث
تسويته؛ لأن التأنيث يعود إلى أماكنه، والظاهر أنها كانت متعددة، وإن كان
((خرب)) ؛ - بالجمع - فتأنيثها واضح.
ومعنى تسوية الخرب: أن البناء الخراب المستهدم يصير في موضعه أماكن مرتفعة عن الأرض فتحتاج إلى أن تحفر وتسوى بالأرض، وهذا أمر واضح ظاهر، لا يحتاج إلى تكلف ولا تعسف.
وأما ((النخل)) فقد اخبر أنس أنه قطع، وصف قبلة للمسجد، وأما ((قبور المشركين)) فنبشت، وذكر أنهم بدءوا بنبش القبور، ثم بتسوية الخرب، ثم بقطع النخل.
والمقصود من تخريج الحديث في هذا الباب: أن موضع المسجد كان فيه قبور للمشركين، فنبشت قبورهم، وأخرجت عظامهم منها، وهذا يدل على أن المقبرة إذا نبشت وأخرج ما فيها من عظام الموتى لم تبق مقبرة، وجازت الصلاة فيها.
ويدل على كراهة الصلاة في المقبرة

(3/211)


ولو كانت قبور المشركين؛ لما فيه من سد الذريعة إلى اتخاذ القبور مساجد، فإنه إذا تطاول العهد، ولم تعرف الحال، خشي من ذلك الفتنة.
وقد يقال مع ذلك: إن في نبش عظام المشركين للصلاة في أماكنها تباعدا في الصلاة عن مواضع العذاب والغضب، وهي مما يكره الصلاة فيها، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث: دليل على طهارة الأرض بالاستحالة؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عند نبش الأرض بإزالة تراب القبور ولا تطهيرها، ولو فعل ذلك لما أهمل نقله؛ للحاجة إليه.
ويدل عليه - أيضا -: أن الصحابة كانوا يخوضون الطين في الطرقات ولا يغسلون أرجلهم - كما تقدم عنهم - والنجاسات مشاهدة في الطرقات، فلو لم تطهر بالاستحالة لما سومح في ذلك.
وهذا قول طائفة من العلماء من السلف، كأبي قلابة وغيره، ورجحه بعض أصحابنا، وهو رواية عن أبي حنيفة، والمشهور عنه: أن الأرض النجسة إذا جفت فإنه يصلى عليها، ولا يتيمم بها. ومذهب مالك والشافعي واحمد وغيرهم: أنها نجسة بكل حال.
وفي الحديث: دليل على أن قبور المشركين لا حرمة لها، وأنه يجوز نبش عظامهم، ونقلهم من الأرض للانتفاع بالأرض إذا احتيج إلى ذلك.
واختلفوا في نبش قبورهم لطلب ما يدفن معهم من مال، فرخص فيه كثير من العلماء. حكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة والشافعي. قال وكرهه مالك ولم يحرمه، وكان الناس يفعلون ذلك في أول

(3/212)


الإسلام كثيرا.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقبر أبي رغال، فأخبرهم أن معه غصنا من
ذهب، فنبشوه واستخرجوه منه.
ومن العلماء من كره ذلك، منهم الأوزاعي، وعلل بأنه يكره الدخول إلى مساكنهم؛ خشية نزول العذاب، فكيف بقبورهم؟
وكره بعض السلف نبش القبور العادية المجهولة؛ خشية أن يصادف قبر نبي أو صالح، وخصوصا بأرض الشام كالأردن.
ونص أحمد على أنه إذا غلب المسلمون على ارض الحرب فلا تنبش قبورهم.
وهذا محمول على ما إذا كان النبش عبثا لغير مصلحة، أو أن يخشى منه أن يفعل الكفار مثل ذلك بالمسلمين إذا غلبوا على أرضهم.
وفي الحديث: دليل على أن بيع الأرض التي في بعضها قبور صحيح، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلب شراء هذا المربد.
وهذه المسألة على قسمين:
أحدهما: أن يكون المقبور في الأرض يجوز نبشه ونقله، كأهل الحرب، ومن دفن في مكان مغصوب، فهذا لا شك في صحة البيع للأرض كلها، وينقل المدفون فيها، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنقل عظام المشركين من المربد.

(3/213)


والثاني: أن يكون المقبور محترما لا يجوز نبشه، فلا يصح بيع موضع القبور خاصة.
وهل يصح في الباقي؟ يخرج على الخلاف المشهور في تفريق الصفقة.
ولو اشترى أرضا، فوجد في بعضها عظام موتى، ولم يعلم: هل هي مقبرة أم لا؟ فقال ابن عقيل من أصحابنا وبعض الشافعية في زمنه: لا يصح البيع في محل الدفن؛ لأن تلك البقعة إما أن تكون مسبلة، وإما أن تكون ملكا للميت قد وصى بدفنه فيها، فيكون أحق بها، ولا ينقل إلى الورثة.
وهذا الذي قالوه هو الأغلب، وإلا فيحتمل أن يكون الدفن في أرض مغصوبة أو مغارة للدفن، إلا أن هذا قليل أو نادر، فلا يعول عليه. والله أعلم.
والمنصوص عن أحمد: أنه إذا دفن في بيت من داره فلا بأس ببيعه، ما لم يجعل مقبرة مسبلة.
وفي الحديث: دليل على جواز قطع النخل لمصلحة في قطعه، وقد نص على جوازه أحمد: إذا كان في داره نخلة ضيقت عليه، فلا بأس أن يقطعها.
وكره جماعة قطع الشجر الذي يثمر، منهم: الحسن والأوزاعي وإسحاق، وكره أحمد قطع السدر خاصة لحديث مرسل ورد فيه، وقال: قل إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا.
ورخص في قطعه آخرون. والله أعلم.

(3/214)


49 - باب
الصلاة في مرابض الغنم

(3/215)


429 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في مرابض الغنم.
ثم سمعته بعد يقول: كان يصلي في مرابض الغنم، قبل أن يبني المسجد.
هذا مختصر من الحديث الذي قبله، وإنما ترك الصلاة في مرابض الغنم بعد بناء المسجد؛ لاستغنائه عنها بالمسجد لا لنسخ الصلاة فيها، فإنه روي عنه أنه أذن في ذلك.
ففي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم)) قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: ((لا)) .
وفيه أحاديث أخر، يأتي بعضها - إن شاء الله تعالى.
وقد روي الرخصة في ذلك عن ابن عمر، وأبي ذر، وأبي

(3/215)


هريرة، وجابر ابن سمرة، وابن الزبير وغيرهم، وهو قول العلماء بعدهم.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم، إلا الشافعي، فإنه قال: لا أكره الصلاة في مراح الغنم، إذا كان سليما من أبوالها وأبعارها.

(3/216)


50 - باب
الصلاة في مواضع الإبل

(3/217)


430 - حدثنا صدقة بن الفضل: ثنا سليمان بن حيان: ثنا عبيد الله، عن
نافع، قال: رايت ابن عمر يصلي إلى بعيره، فقال: رايت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
سليمان بن حيان، هو: أبو خالد الأحمر.
وقد خرج الشيخان هذا الحديث في ((صحيحيهما)) من طريقة، ومن طريق المعتمر بن سليمان - أيضا -، عن عبيد الله بن عمر.
ورواه - أيضا - شريك، عن عبيد الله كذلك.
وخالفهم ابن نمير ومحمد بن عبيد، فروياه عن عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كان يفعل ذلك - ولم يرفعاه.
وزعم الدارقطني: أنه صحيح.
وتصرف الشيخين يشهد بخلاف ذلك، وان الصحيح رفعه؛ لان من رفعه فقد زاد، وهم جماعة ثقات.
والحديث نص في جواز الصلاة إلى البعير.
قال ابن المنذر: فعل ذلك ابن عمر وانس، وبه قال مالك والاوزاعي.
وقال أبو طالب: سالت أحمد: يصلي الرجل

(3/217)


إلى بعيره؟ قال: نعم؛ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل، وابن عمر.
وكلام أحمد هذا يدل على صحة رفع الحديث عنده، كما هي طريقة البخاري ومسلم.
وممن روى عنه الاستتار ببعيره في الصلاة: سويد بن غفلة، والأسود بن يزيد، وعطاء، والقاسم، وسالم.
وقال الحسن: لا بأس به.
قال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافا.
ونقل البويطي، عن الشافعي: أنه لا يصلي إلى دابة.
قال بعض أصحابه المتأخرين: لعل الشافعي لم يبلغه الحديث، وقد وصانا باتباع الحديث إذا صح، وقد صح هذا الحديث، ولا معارض له.
وتبويب البخاري: يدل على أن هذا الحديث يؤخذ منه يجوز الصلاة في مواضع الإبل وأعطانها، وقد سبقه إلى ذلك بعض من تقدم.
وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن مسائل، منها: الصلاة في أعطان الإبل، فكتب له كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على راحلته، وقد كان ابن عمر ومن أدركنا من خيار أهل أرضنا يعرض احدهم ناقته بينه وبين القبلة، فيصلي إليها، وهي تبعر وتبول.
وروى وكيع، عن إسرائيل، عن جابر - هو: الجعفي -، عن عامر

(3/218)


الشعبي، عن جندب بن عامر السلمي، أنه كان يصلي في أعطان الإبل ومرابض الغنم.
ورخص سفيان الثوري في الصلاة في أعطان الإبل، وذكره بعض المصنفين على مذهبه، وقال: رواه عنه القناد.
وأكثر أهل العلم على كراهة الصلاة في أعطان الإبل.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه رأى الصلاة في مرابض الغنم، ولا يصلي في أعطان الإبل: جابر بن سمرة، وعبد الله بن عمر، والحسن، ومالك وإسحاق، وأبو ثور. انتهى.
وهو - أيضا - قول الشافعي وأحمد.
وقد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق متعددة، وقد سبق حديث جابر بن
سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل، والأمر بالصلاة في مرابض
الغنم.
خرجه مسلم.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في
((صحيحيهما)) من حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
وصححه الترمذي، وإسناده كلهم ثقات، إلا أنه اختلف على ابن سيرين في رفعه ووقفه.

(3/219)


قال الدارقطني: كانت عادة ابن سيرين أنه ربما توقف عن رفع الحديث توقيا.
وخرجه الترمذي من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، وذكر أنه اختلف في رفعه ووقفه - أيضا -، في كتاب ((العلل)) عن البخاري: أن المعروف وقفه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث البراء بن عازب، قال: سئل
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: ((لا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين)) .
وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: ((صلوا فيها؛ فإنها بركة)) .
قال ابن عبد البر: هو أحسن أحاديث الباب، وأكثرها تواترا.
وروى الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.

(3/220)


خرجه الإمام أحمد والنسائي وخرجه ابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) ، ولفظهما: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فأنها خلقت من الشياطين)) .
وفي رواية للإمام أحمد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لاتصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها من الجن خلقت، إلا ترون عيونها وهبتها، إذا نفرت، وصلوا في مرابد الغنم؛ فإنها هي اقرب من الرحمة)) .
وخرجه الشافعي بإسناد فيه ضعف، ولفظه: ((إذا أدركتم الصلاة وانتم في مراح الغنم فصلوا فيها؛ فأنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وانتم فِي أعطان الإبل فاخرجوا مِنْهَا فصلوا؛ فأنها جن من جن خلقت إلا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ
بأنفها)) .
وله طرق متعددة عن الحسن.
قال ابن عبد البر: رواه عن الحسن خمسة عشر رجلا.
والحسن، سمع من عبد الله بن المغفل -: قاله الإمام أحمد.
وخرج مسلم حديثه

(3/221)


عنه في ((صحيحه)) .
وخرج الإمام أحمد - بإسناد جيد -، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل)) .
وخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو - مرفوعا - من رواية يونس ابن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنه - مرفوعا.
ويونس وثقه غير واحد.
لكن رواه مالك عن هشام، عن أبيه، عن رجل من المهاجرين، أنه سأل عبد الله بن عمرو - فذكره، ولم يرفعه.
ورواه عبدة ووكيع، عن هشام: حدثني رجل من المهاجرين - فذكره، ولم يذكر في الإسناد: ((عروة)) .
قال مسلم في ((كتاب التمييز)) : وهو الصواب.
واختلف القائلون بالكراهة: هل تصح الصلاة في أعطان الإبل، أم لا؟ فقال الأكثرون: تصح، وهو رواية عن أحمد، وأنه يعيد الصلاة استحبابا.
والمشهور عن أحمد: أنها لا تصح، وعليه الإعادة.
وعنه رواية ثالثة: إن علم بالنهي لم تصح، وألا صحت.
وعلله أصحاب الشافعي بأنها تنفر، فربما قطعت على المصلي صلاته.

(3/222)


وهذا ضعيف؛ لوجهين:
أحدهما: أنه يبطل بالصلاة إلى البعير، لكن في كلام الشافعي ما يدل على كراهته.
والثاني: أنه ينتقض بما إذا لم تكن الإبل في أعطانها، فإن الكراهة لا تنتفي بذلك.
والمنصوص عن الشافعي: التعليل بما ورد به النص، أنها خلقت من الشياطين.
قال الشافعي: وفي قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تصلوا في أعطان الإبل؛ فأنها جن من جن خلقت)) دليل على أنه إنما نهى عنها، كما قال حين نام عن الصلاة: ((اخرجوا بنا من هذا الوادي، فإنه واد به شيطان)) . فكره أن يصلي قرب شيطان وكذا كره أن يصلي قرب الإبل؛ لأنها خلقت من جن، لا لنجاسة موضعها.
وذكر أبو بكر الأثرم معنى هذا - أيضا - وأنه إنما كره الصلاة في معاطن الإبل؛ لأنها خلقت من الشياطين.
وقد فسر ابن قتيبة خلق الإبل من الشياطين بأنها خلقت من جنس خلقت منه الشياطين. قال: وورد في حديث آخر أنها خلقت من أعيان الشياطين، يريد من نواحيها وجوانبها. قال: ولم تزل العرب تنسب

(3/223)


جنسا من الإبل إلى الحوش، فتقول: ناقة حوشية، وهي أنفر الإبل وأصعبها، ويزعمون أن للجن إبلا ببلاد الحوش، وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت منها هذه الحوشية، فعلى هذا يجوز أن يراد أنها خلقت من نتاج نعم الجن، لا من الجن نفسها. انتهى.
ويجوز أن خلقت في أصلها من نار، كما خلقت الجن من نار، ثم توالدت كما توالدت الجن. والله تعالى أعلم.
وزعم الخطابي أنها نسبت إلى الشياطين لما فيها من النفار والشرود. قال: والعرب تسمي كل مارد شيطانا.
وقال أبو عبيد: المراد: أنها في أخلاقها وطبائعها تشبه الشياطين.
وقد ورد في حديث آخر: ((إن على ذروة كل بعير شيطانا)) مع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في السفر على بعيره النوافل، وهذا مما يستدل به من يقول: إن النهي عن الصلاة في الأعطان لا يمنع صحة الصلاة.
واختلفوا في تفسير أعطان الإبل.
فقال الشافعي: العطن: قرب البئر التي يستقى منها، وتكون البئر في موضع، والحوض قريبا منها، فيصب فيه فيملأ، فتسقى الإبل ثم تنحى عن البئر شيئا حتى تجد الواردة موضعا، فذلك العطن. قال: وليس العطن مراحها الذي تبيت فيه.
وكره أصحابه الصلاة في مأواها بالليل دون كراهة العطن.

(3/224)


وقال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: العطن: الذي تقيم في المكان تأوي إليه.
وقال - في رواية ابنه صالح -: يعيد الصلاة إذا صلى في الموضع الذي تأوي إليه.
وقال أبو بكر الخلال: العطن: الذي تأوي إليه بالليل والنهار.
وقال أصحاب مالك: لا يصلي في أعطان الإبل التي في المناهل.
وهذا يشبه قول الشافعي، وهو وجه لأصحابنا - أيضا -، وأن العطن: هو موضع اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، وبذلك فسره كثير من أهل اللغة.
وبكل حال؛ فليس الموضع الذي تنزله في سيرها عطنا لها، ولا تكره الصلاة فيه، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يعرض بعيره ويصلي إليه في أسفاره، ولم يكن يدخل إلى أعطان الإبل فيعرض البعير ويصلي إليه فيها، فلا تعارض حينئذ بين صلاته إلى بعيره، وبين نهيه عن الصلاة في أعطان الإبل، كما توهمه البخاري ومن وافقه. والله أعلم.
وأما مواضع البقر فغير منهي عن الصلاة فيه عند أكثر العلماء، ومنهم: عطاء ومالك وابن المنذر، واستدل لَهُ بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أينما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد)) .
وقد ورد

(3/225)


فيه حديثان:
أحدهما: خرجه ابن وهب في ((مسنده)) عن سعيد بن أبي أيوب، عمن
حدثه، عن عبد الله بن مغفل صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلى في مراح الغنم والبقر.
وفي إسناده جهالة.
والثاني: من حديث ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمان الحبلي حدثه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مرابد الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا إسناد ضعيف. والله أعلم.

(3/226)


51 - باب
من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد،
فأراد به الله - عز وجل -
وقال الزهري: اخبرني أنس: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((عرضت علي النار وأنا اصلي)) .

(3/227)


431 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن زيد بن اسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس، قال: انخسفت الشمس، فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: ((أريت النار، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع)) .
حديث ابن عباس هذا قد خرجه بطوله في ((أبواب صلاة الكسوف)) وخرج فيها - أيضا - معناه من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -.
وأما حديث أنس الذي علقه فهو قطعة من حديث طويل، فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر عند الزوال، ثم صعد المنبر فذكر الساعة، ثم قال: ((من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل)) . وفي آخره: قال: ((عرضت علي الجنة والنار - آنفا - في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر)) .
وقد خرجه البخاري بتمامه في ((باب: وقت الصلاة عند الزوال)) ، كما سيأتي - إن شاء

(3/227)


الله تعالى -، وخرج بعضه في ((كتاب: العلم)) فيما سبق.
وخرجه - أيضا - بمعناه من حديث قتادة، عن أنس في ((كتاب: الفتن)) .
وليس في حديث الزهري وقتادة عن أنس أن عرض الجنة والنار عليه كان في الصلاة.
وخرج - أيضا - في ((باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)) من حديث فليح: ثنا هلال بن علي، عن أنس، قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رقي المنبر، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، ثم قال: ((لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر)) - ثلاثا.
وخرج مسلم من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر صلاته وخطبته بعد الصلاة، وانه قال فيها: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت؛ مخافة أن يصيبني من لفحها)) - وذكر الحديث.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى لله عز وجل، وكان بين يديه شيء من جنس ما عبد من دون الله كنار وتنور وغير ذلك، فإن صلاته صحيحة، وظاهر كلامه أنه لا يكره ذلك - أيضا.
واستدل بعرض النار على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، وفي هذا الاستدلال

(3/228)


نظر.
قال الإسماعيلي: ليس ما أراه الله من النار حتى أطلعها بمنزلة نار يتوجه المرء إليها وهي معبودة لقوم، ولا حكم ما أري ليخبرهم بما رآه كحكم من وضع الشيء بين يديه أو رآه قائما موضوعا فجعله أمام مصلاه وقبلته. انتهى.
فأشار إلى الفرق من وجوه:
منها: أن من كره الصلاة إلى نار أو تنور، فإنما كره أن يتعمد المصلي ذلك، وعرض النار على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن كذلك.
ومنها: أن المكروه استقبال نار الدنيا؛ لأنها هي التي عبدت من دون الله عز وجل، فأما نار جهنم فهي دار عقاب الكفار، فليست كنار الدنيا.
ومنها: أن ما أري النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أمر الغيب لا يتعلق به أحكام أمور الدنيا.
ومن هنا قيل: إن جبريل لما شق قلب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغسله في طست من ذهب لم يجر على ذلك حكم استعمال أواني الذهب في الدنيا.
وقد كره أكثر العلماء الصلاة إلى النار، منهم: ابن سيرين، كره الصلاة إلى تنور، وقال: هو بيت نار.
وقال سفيان: يكره أن يوضع السراج في قبلة المسجد.
وقال إسحاق: السراج لا بأس به، والكانون أكرهه -: نقله عنه حرب.

(3/229)


وقال مهنا: سألت أحمد عن السراج والقنديل يكون في قبلة المسجد؟ قال: أكرهه، وأكره كل شيء؛ حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئا حتى المصحف. وكان ابن عمر يكره أن يكون بينه وبين القبلة شيء.
ونقل الفرج بن الصباح البرزاطي عن أحمد، قال: إذا كان التنور في قبلة لا يصلى إليه؛ كان ابن سيرين يكره أن يصلي إلى التنور.
ووجه الكراهة: أن فيه تشبها بعباد النار في الصورة الظاهرة، فكره ذلك، وإن كان المصلي يصلي لله، كما كرهت الصلاة في وقت طلوع الشمس وغروبها لمشابهة سجود المصلي فيه سجود عباد الشمس لها في الصورة، وكما تكره الصلاة إلى صنم والى صورة مصورة.
قال أحمد في رواية الميموني: لا تصل إلى صورة منصوبة في وجهك.
وقد سبق ذكر كراهة الصلاة إلى الصور.
وأما استثناء إسحاق من ذلك السراج، فقد أشار حرب إلى الاستدلال له بما خرجه من طريق أسباط، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على حصير - وبين يديه مصباح - قال: فجاءت الفأرة، فأخذت الفتيلة: فألقتها على الحصير، وأحرقت منه قدر الدرهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الفويسقة لتضرم على أهل البيت)) .
وقد خرجه أبو داود، وليس عنده ذكر الصلاة على الحصير، ولا

(3/230)


أن بين يديه مصباحا.
ولو وضع بين يدي المصلي في صلاته نار لم تبطل صلاته، ويزيلها عنه بحسب القدرة.
وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأم، فسمعناه يقول: ((أعوذ بالله منك)) . ثم قال: ((ألعنك بلعنة الله)) - ثلاثا - وبسط يديه كأنه تناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: ((إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار؛ ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر - ثلاث مرات -، ثم أردت آخذه، والله؛ لولا دعوة أخينا سليمان - عليه السلام - لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث سماك بن حرب، سمع جابر بن سمرة يقول: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فجعل يهوي بيده فسأله القوم حين انصرف، فقال: ((إن الشيطان كان يلقي علي شرر النار؛ ليفتنني عن الصلاة، فتناولته، فلو أخذته ما انفلت مني حتى يناط إلى سارية من سواري المسجد ينظر إليه ولدان أهل المدينة)) .

(3/231)


52 - باب
كراهية الصلاة في المقابر

(3/232)


432 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا)) .
قد سبق استدلال ابن المنذر بهذا الحديث - أيضا - على كراهة الصلاة في
المقبرة، وكذلك الخطابي وغيره.
ووجه ذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بأن يصلوا في بيوتهم، ولا يتخذوها قبورا بترك الصلاة فيها، فدل على أن القبور ليس فيها صلاة، وان البيت يكره إخلاءه عن الصلاة، لما فيه من تشبيه بالمقابر الخالية عن الصلاة.
ولكن قد يقال: النهي عن تشبيه البيوت بالمقابر في إخلائها عن الصلاة إنما يراد منه أن المقابر تخلو عن الصلاة فيها في الواقع المشاهد؛ فإنها ليست محلا لصلاة الأحياء عادة. ومن فيها من الأموات لا يقدرون على الصلاة، فصارت خالية عن الصلاة عادة.
وهذا إخبار بحسب الغالب، وإلا فقد شوهد صلاة بعض الموتى في قبورهم، ورئي ذلك في المنام واليقظة، ولكنه نادر، فنهى عن تشبيه

(3/232)


بيوت الأحياء بمقابر الأموات في إخلائها عن الصلاة فيها لذلك.
وقد قال الحسن: من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله حتى تغلبه عيناه كان فراشه له مسجدا، ومن أوى إلى فراش غير طاهر، ولم يذكر الله كان فراشه له قبرا.
يشير إلى أنه يصير كالقبر لخلوه عن الذكر، والنائم عن الذكر يصير له كالمسجد.
وحينئذ فلا يبقى في الحديث تعرض لمنع الصلاة في المقابر شرعاً، حيث كان المراد ذكر امتناع الصلاة فيها في الواقع.
وقد قال بعضهم في قوله: ((ولا تتخذوها قبورا)) : أنه نهى عن الدفن في البيوت، وهذا بعيد جداً.
قال الخطابي: لا معنى لقول من تأوله على النهى عن دفن الموتى في البيوت، فقد دفن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته الذي كان يسكنه.
وأكثر العلماء على جواز الدفن في البيوت، ووصى يزيد بن عبد الله بن الشخير أن يدفن في داره، فدفن فيها، وشهد الحسن جنازته، ولم ينكر ذلك أحد.
قال أحمد: لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره، ويوصي أن يدفن فيه إذا مات، قد فعل ذلك عثمان بن عفان وعائشة وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم.
وقال - أيضا -: ما أحب أن يدفن في بيته، يدفن في المقابر مع المسلمين.
وقال فيمن وصى أن يدفن في داره: يدفن في المقابر مع المسلمين. وإن دفن في داره

(3/233)


أضر بالورثة، والمقابر مع المسلمين أعجب إلي.
وتأوله بعض أصحابنا على أنه نقص من قيمة الدار بدفنه فيها أكثر من مقدار ثلث مال الموصي.
وهذا بعيد جدا، بل ظاهر هذه الرواية يدل على أن من وصى في دفنه بمكروه أو بما هو خلاف الأفضل أنه لا تنفذ وصيته بذلك.

(3/234)


53 - باب
الصلاة في موضع الخسف والعذاب
ويذكر أن علياً - رضوان الله عليه - كره الصلاة بخسف بابل.
هذا مروي عن علي من وجوه:
فروى وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن شريك العامري، عن عبد الله بن أبي المحل، عن علي أنه كره الصلاة في الخسوف.
ورواه غير وكيع، فقال: عن عبد الله بن أبي المحل، عن أبيه، عن علي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يسأل عن الأرض الخسف: أيصلى فيها؟ فكره ذلك، وقال: حديث علي - وذكر هَذَا الحديث.
وروى يعقوب بن شيبة، عن أبي النعيم: ثنا المغيرة بن أبي الحر الكندي: حدثني حجر بن عنبس، قال: خرجنا مع علي إلى الحرورية، فلما وقع في أرض بابل قلنا: أمسيت يا أمير المؤمنين، الصلاة! الصلاة! قال: لم أكن أصلي في أرض قد خسف الله بها.
وخرجه وكيع، عن مغيرة بن أبي الحر، به بنحوه.

(3/235)


وهذا إسناد جيد، والمغيرة بن أبي الحر وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: ليس به بأس. وحجر بن عنبس، قال ابن معين: شيخ كوفي مشهور.
وروي عن علي مرفوعا.
خرجه أبو داود من طريق ابن وهب: ثنا ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمارة بن سعد المرادي، عن أبي صالح الغفاري، أن عليا مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة.
وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن ابن وهب: أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح الغفاري، عن علي، بمعناه.
وقال ابن عبد البر: هو إسناد ضعيف، مجمع على ضعفه، وهو منقطع غير متصل، وعمارة بن سعد والحجاج وأبو صالح مجهولون.
قلت: الموقوف أصح، وضعف أبو الحسين ابن المنادي الجميع. والله أعلم.

(3/236)


قال البخاري - رحمه الله -:

(3/237)


433 - ثنا إسماعيل بن عبد الله: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن
عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم)) .
هذا الحديث: نص في المنع من الدخول على مواضع العذاب، إلا على أكمل حالات الخشوع والاعتبار، وهو البكاء من خشية الله وخوف عقابه الذي نزل بمن كان في تلك البقعة، وان الدخول على غير هذا الوجه يخشى منه إصابة العذاب الذي أصابهم.
وفي هذا تحذير من الغفلة عن تدبر الآيات فمن رأى ما حل بالعصاة ولم يتنبه بذلك من غفلته، ولم يتفكر في حالهم، ويعتبر بهم فليحذر من حلول العقوبة به، فإنها إنما حلت بالعصاة لغفلتهم عن التدبر وإهمالهم اليقظة والتذكر.
وهذا يدل على أنه لا يجوز السكنى بمثل هذه الأرض، ولا الإقامة بها، وقد صرح بذلك طائفة من العلماء، منهم: الخطابي وغيره، ونص عليه أحمد.
قال مهنا: سألت أحمد عمن نزل الحجر: أيشرب من مائها ويعجن به؟ قال: لا، إلا لضرورة، ولا يقيم بها.

(3/237)


وعلى هذا: فيتوجه أن من صلى بها لغير ضرورة، ولم يكن في صلاته على حالة الخشوع والخشية التي رخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدخول عليها أن لا تصح صلاته، على قياس قول من قال: إن الصلاة في المقبرة وأعطان الإبل لا تصح، إلا أن يفرق: بأن النهي هنا عن الدخول لا يخص الصلاة، بخلاف النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان، فيتخرج حينئذ الصلاة فيها على الصلاة في الأرض المغصوبة، كما سبق ذكره.
وأحمد - في رواية - مع جماعة من أهل الظاهر: يوجبون الإعادة على من صلى في أرض غصب، وكذلك إسحاق - في رواية عنه -، إذا كان عالما بالنهي.
وأما الوضوء من مائها: فقد صرح طائفة من الظاهرية بأنه لا يصح، ويتخرج على قواعد الإمام أحمد وأصحابه على الخلاف عندهم في الوضوء بالماء المغصوب.
وقد ورد النهي عن الوضوء بخصوصه في حديث خرجه الطبراني في ((أوسطه)) من رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: مر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجر واستقى الناس من بئرها، ثم راح فيها، فلما استقل أمر الناس ألا يشربوا من مائها، ولا يتوضئوا منه، وما كان من عجين عجن بشيء من مائها أن يعلف به، ففعل الناس.
وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن العباس بن سهل بن سعد - أو عن العباس بن سعد -، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مر بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للناس: ((لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من

(3/238)


عجين عجنتم به فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا)) .
وهذا مرسل.
وقد خرج البخاري حديث ابن عمر هذا في ((قصص الأنبياء)) من ((كتابه)) هذا من حديث عبد الله بن دينار ونافع وسالم، عن ابن عمر. وفي رواية عبد الله ونافع: أنهم نزلوا الحجر. وفي حديث سالم: أنه مر بالحجر وتقنع بردائه، وهو على الرحل.
وخرج مسلم حديث سالم، وفيه: ثم زجر فأسرع حتى خلفها.
وحمل أبو الحسين ابن المنادي من متقدمي أصحابنا النهي عن دخولها وعن شرب مائها على الكراهة دون التحريم. والله أعلم.

(3/239)


54 - باب
الصلاة في البيعة
وقال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور.
وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
روى حجاج بن منهال: ثنا ربيعة بن كلثوم، عن نافع، قال: قال عمر: إنا لا ينبغي لنا أن ندخل كنيسة فيها تصاوير.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن أسلم مولى عمر، قال: قال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم التي فيها تصاوير.
وعن سفيان، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تماثيل.
وقال سفيان: لا بأس بالصلاة فيها إذا لم يكن فيها تمثال، وإن وجد غيرها فهو أحب إلي.
وكره مالك الصلاة في البيع والكنائس؛ لنجاستها من أقدامهم، ولما فيها من الصور، وقال: لا ينزل بها إلا من ضرورة -: ذكره صاحب ((التهذيب)) .
ورخص أكثر أصحابنا في دخول ما ليس فيه صور منها، والصلاة فيها. وكرهه بعضهم، منهم: ابن عقيل

(3/240)


ومنهم من حكى في الكراهة عن أحمد روايتين، والمنصوص عن أحمد: كراهة دخولها في أعيادهم ومجامعهم فيها.
ويستدل للكراهة فيما فيه صور: بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وبأنه محل الشياطين، فتكره الصلاة فيه كالحمام والحش.
ويدل على كراهته - أيضا -: خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الوادي الذي ناموا فيه عن الصلاة، وقال: ((إن هذا الوادي حضرنا فيه شيطان)) .
وكره أصحاب الشافعي الصلاة فيها، مع الصحة.
وحكى ابن المنذر وغيره: الرخصة فيها عن طائفة من العلماء، منهم: أبو موسى، والحسن، والشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.
وأكثر المنقول عن السلف في ذلك قضايا أعيان لا عموم لها، فيمكن حملها على ما لم يكن فيه صور.
وصرح كثير من أصحابنا بتحريم الدخول إلى بيت فيه صور على جدرانه، وإن كان لا يقدر على إزالتها، وسواء كان حماما أو غيره، منهم: ابن بطة، والقاضي وأبو يعلى.
وذكر صاحب ((المغني)) أن ظاهر كلام أحمد أنه مكروه غير محرم، وحكاه - أيضا - عن مالك، وعن أكثر أصحاب الشافعي أنه محرم، وذكر في أثناء كلامه: أن دخول البيع والكنائس جائز، ولو كان

(3/241)


فيها صور، وجعله دليلا له، وهو يشعر بأنه محل إجماع.
ولعل الفرق: أن صور البيع والكنائس تقر ولا يلزم إزالتها، كما يقر أصل البيع والكنائس، وبخلاف الصور في بيوت المسلمين؛ فإنه يجب إزالتها ومحوها.
قال البخاري:

(3/242)


434 - ثنا محمد: ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) .
((محمد)) : شيخ البخاري، شيخ البخاري، الظاهر أنه: ابن سلام البيكندي. وشيخه، هُوَ: عبدة بْن سُلَيْمَان الكلابي.
وهذا الحَدِيْث: يدل على تحريم التصوير في المساجد المبنيه على القبور، والصور التي في البيع والكنائس في معناها؛ لأنها صور مصورة على صور أنبيائهم وصالحيهم للتبرك بها - في

(3/242)


زعمهم -، وكنائسهم وبيعهم منها ما هو على القبور أكابرهم، ومنها ما هو على أسمائهم، فالكل ملتحق بما بنى على القبور في المعنى، فلهذا ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الكلام عند ذكر الكنائس، وما فيها من الصور، وكفى بذلك ذما للكنائس المصور فيها، وأنها بيوت ينزل على أهلها الغضب والسخط، فلا ينبغي للمسلم أن يصلي فيها.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من رواية قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تجتمع قبلتان في ارض)) .
وقال طاووس: لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب. وفسره أبو عبيد وغيره: بأنه لا ينبغي الجمع بين المساجد والكنائس في ارض واحدة.
فالجمع بين فعل الصلاة التي وضعت لأجلها المساجد، بين الكفر المفعول في الكنائس في بقعة واحدة أولى بالنهي عنه، فكما أنهم لا يمكنون من فعل عباداتهم في المساجد، فكذا لا ينبغي للمسلمين أن يصلوا صلواتهم في معابد الكفار التي هي موضع كفرهم.

(3/243)


فإن قيل: فقد روي ما يدل على جواز إقرارهم على أن يصلوا صلواتهم في مساجد المسلمين، وإذا جاز الإقرار على ذلك جاز للمسلمين أن يصلوا في بيعهم وكنائسهم بطريق الأولى:
فروى ابن إسحاق، قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة - يعني: وفد نجران -، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جنب وأردية، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلون، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعوهم)) ، فصلوا إلى المشرق.
قيل: هذا منقطع ضعيف، لا يحتاج بمثله، ولو صح فإنه يحمل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تألفهم بذلك في ذلك الوقت استجلابا لقلوبهم، وخشية لنفورهم عن الإسلام، ولما زالت الحاجة إلى مثل ذلك لم يجز الإقرار على مثله.
ولهذا شرط عليهم عمر - رضي الله عنه - عند عقد الذمة إخفاء دينهم، ومن جملة إلا يرفعوا أصواتهم في الصلاة، ولا القراءة في صلاتهم فيما يحضره المسلمون.

(3/244)


55 - باب

(3/245)


435، 436 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة، وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بِهَا كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) - يحذر ما صنعوا.

(3/245)


437 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقد خرج البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) من حديث عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) . قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكنه خشي - أو خشي - أن يتخذ مسجدا.
وخرج الإمام أحمد من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .

(3/245)


وروى مالك في ((الموطإ)) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((اللهم، لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
ورواه محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني: حدثنا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه من طريقه البزار.
وعمر هذا، هو: ابن صهبان، جاء منسوبا في بعض نسخ ((مسند البزار)) ، وظن ابن عبد البر أنه: عمر بن محمد العمري، والظاهر أنه وهم.
وقد روي نحوه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، بإسناد فيه نظر.
قال ابن عَبْد البر: الوثن الصنم. يقول: لا تجعل قبري صنما يصلى إليه، ويسجد نحوه، ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبلهم الذين صلوا في قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجدا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وانه مما لا يرضاه؛ خشية عليهم من امتثال طرقهم، وكان رسول

(3/246)


الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جهة التعيير والتوبيخ: ((لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل، حتى إن أحدهم لو دخل حجر ضب لدخلتموه)) . انتهى.
ويؤيد ما ذكره: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحذر من ذلك في مرض موته، كما في حديث عائشة وابن عباس، وسبق حديث جندب أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك قبل موته بخمس.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث أبي عبيده بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وقد روي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانه قال ذلك في مرض موته من حديث علي، وأسامة بن زيد، وكعب بن مالك وغيرهم.
وخرج الإمام أحمد حديث أسامة بن زيد، ولفظه: قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أدخل علي أصحابي)) . فدخلوا عليه، فكشف القناع،

(3/247)


ثم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) .
وخرج حديث عائشة من رواية ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال في آخر حديثه: ((يحرم ذلك على أمته)) .
وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى:
قال الشافعي - رحمه الله -: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا، خشية الفتنة عليه وعلى من بعده.
وقال صاحب ((التنبيه)) من أصحابه: أما الصلاة عند رأس قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوجها إليه فحرام.
قال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعلوا حيطان تربته، وسدوا الداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذ كان مستقبل المصلين فتتصور إليه الصلاة بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره.

(3/248)


56 - باب
قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))

(3/249)


438 - حدثنا محمد بن سنان: ثنا هشيم: ثنا سيار - وهو أبو الحكم -: ثنا يزيد الفقير: ثنا جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي)) .
فذكر الحديث، وفيه:
((وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) .
وذكر بقية الحديث.
وقد خرجه بتمامه في أول ((التيمم)) من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وسبق الكلام عليه هنالك مستوفى.
وذكرنا: أن قوله: ((جعلت لي الأرض مسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل)) قد استدل بعمومه بعض الناس على الصلاة في المقابر والأعطان والحمام وغير ذلك مما اختلف في الصلاة فيه، وإن من العلماء من منع دلالته على ذلك، وقال: إنما خرج الكلام لبيان أن هذه الأمة خصت عن الأمم بأنهم يصلون في غير المساجد المبنية للصلاة فيها، فيصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض، في مسجد مبني وغير مبني، فالأرض كلها لهم مسجد ما بني للصلاة فيه وما لم يبن،

(3/249)


وهذا لا يمنع أن ينهى عن الصلاة في أماكن خاصة من الأرض؛ لمعنى يختص بها غير كونها غير مسجد مبني للصلاة فيه.
وقد خرج الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أعطيت خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي)) - فذكر منها: ((وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)) .
وهذا يرجع إلى العموم إذا سيق لمعنى خاص عم ما سيق له من ذلك المعنى دون غيره مما لم يسق الكلام له، ومن الناس من يأخذ بعموم اللفظ، والأظهر الأول. والله أعلم.
وليس هذا كتخصيص العموم بسببه الخاص، فإن الشارع قد يريد بيان حكم عام يدخل فيه السبب وغيره، بخلاف ما إذا ظهر أنه لم يرد من العموم إلا معنى خاص سيق له الكلام، فإنه يظهر أن غير ما سيق له غير مراد من عموم كلامه. والله أعلم.
وقد زعم بعضهم: أن عموم قوله: ((جعلت لي الأرض مسجدا)) لا يصح الاستثناء منه؛ لأنه وقع في ((صحيح مسلم)) من حديث حذيفة: ((جعلت لي الأرض كلها مسجدا)) . قال: وتأكيد العموم بـ ((كل)) ينفي الاستثناء منه؛ لأن التأكيد ينفي المجاز، والعام المستثنى منه يصير مجازا.

(3/250)


وهذا الذي زعمه غير صحيح، وقد قالت عائشة: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلا)) . وهذا يدل على أن التأكيد بـ ((كل)) لا يمنع من الاستثناء، ولا من أن يراد به بعض مدلوله عند الإطلاق.
وقوله: ((إن العام المستثنى منه يصير مجازا)) فممنوع، بل هو حقيقة فيما عدا المستثنى منه عند أصحابنا وغيرهم.
وأيضا؛ فالعموم المؤكد بـ ((كل)) يصح الاستثناء منه بغير خلاف، فلو قال: نسائي كلهن طوالق إلا فلانة، فإنه مثل قوله: كل امرأة لي طالق إلا فلانة، أو كل عبد لي حر إلا فلانا، والاستثناء صحيح في الكل، ولو استثنى ذلك بقلبه من غير تلفظ به ففي صحته روايتان عن أحمد، حكاهما ابن أبي موسى وغيره.
وفي القرآن العظيم: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - إِلاَّ إِبْلِيسَ} [ص:73و74] وحكى عن إبليس أنه قال: {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82و83] وهذا استثناء من عموم مؤكد، وما صح الاستثناء منه صح تخصيصه.

(3/251)


57 - باب
نوم المرأة في المسجد

(3/252)


439 - حدثنا عبيد بن إسماعيل: ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور: قالت: فوضعته أو وقع منها، فمرت حدياة وهو ملقى، فحسبته لحماً، فخطفته. قالت: فالتمسوه فلم يجدوه. قالت: فاتهموني به. قالت: فطفقوا يفتشونني. حتى فتشوا قبلها. قالت: والله، إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته. قالت: فوقع بينهم. قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به، زعمتم، وأنا منه بريئة وهو ذا هو. قالت: فجاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش. قالت: فكانت تأتيني فتحدث
عندي. قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا إلا أنه من بلدة الكفر أنجاني.
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك؟ لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث.

(3/252)


الوشاح: قيل: أنه ضرب من الحلي، وجمعه: وشح، ومنه: توشح بالثوب واتشح به، والظاهر: أنه كان شيئا من لباس المرأة الذي تتوشح به، وفيه حلي وسيور حمر. والله أعلم.
والحدياة: الحدأة. والرواية المشهورة: حدياة بضم الحاء وتشديد الياء، وقيل: إن الصواب: حديأة بتخفيف الياء وبعدها همزة، وهو تصغير حدأة.
وفي الحديث: دليل على أن الله تعالى قد يفرج كربات المكروبين ويخرق لهم العوائد وإن كانوا كفارا. كما روي أن جيشا من المسلمين حاصروا حصنا من الكفار، فعطش الكفار واشتد بهم العطش، فجأروا إلى الله يسألونه أن يسقيهم، فجاءت سحابة فمطرت على حصنهم حتى شربوا فارتحل عنهم المسلمون.
وقد ذكرها ابن أبي الدنيا بإسناده في ((كتاب: مجابي الدعوة)) .
فإن كان الكافر مظلوما كهذه المرأة فهو أقرب إلى تفريج كربته وإجابة دعوته، فإن دعوة المظلوم قد تجاب من الكافر، كما ورد في أحاديث مرفوعة متعددة؛ فإن عدل الله يسمع المؤمن والكافر، والبر والفاجر.
وظاهر هذا الحديث: يدل على أن هذه المرأة إنما أسلمت بعد قصة الوشاح.

(3/253)


وقول عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، والحفش: خباء صغير.
ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب: أنه يجوز للمرآة أن تقيم في المسجد وتنام فيه، فإن هذه المرأة كان لها خباء في المسجد تقيم فيه.
وقد روى محمد بن سعد في ((طبقاته)) : أبنا محمد بن عمر - هو: الواقدي -: حدثني عمر بن صالح بن نافع: حدثتني سودة بنت أبي ضبيس الجهني - وقد أدركت وبايعت، وكانت لأبي ضبيس صحبة -، عن أم صبية خولة بنت قيس، قالت: كنا نكون في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر في المسجد نسوة قد
تخاللن، وبما غزلنا، وربما عالج بعضنا فيه الخوص. فقال عمر: لأردنكن حرائر. فأخرجنا منه، إلا أنا كنا نشهد الصلوات في الوقت.
وهذا الإسناد فيه ضعف.
واستدل بحديث عائشة المخرج في هذا الباب طائفة من أهل الظاهر: على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالبا، وفي ذلك
نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزا قد يئست من الحيض، وأكثر العلماء على منع جلوس الحائض في المسجد.

(3/254)


وخرج أبو داود وابن خزيمة من حديث عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) .
وفي إسناده مقال.
وفيه أحاديث أخر. والله أعلم.

(3/255)


58 - باب
نوم الرجال في المسجد
وقال أبو قلابة، عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا في الصفة.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة فقراء.
حديث أبي قلابة عن أنس خرجه البخاري في كتاب ((المحاربة)) : ثنا موسى ابن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم رهط من عكل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا في الصفة، فاجتووا المدينة - وذكر الحديث.
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر خرجه في ((أبواب: السمر بعد العشاء)) من حديث أبي عثمان النهدي، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث)) - وذكر الحديث بطوله.
وخرج - أيضا - في ((كتاب: الرقاق)) في ((باب: عيش النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه)) من حديث مجاهد، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((الحق أهل الصفة فادعهم)) . قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون

(3/256)


على أهل ولا مال، ولا على احد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها - وذكر حديثا طويلا.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:

(3/257)


440 - ثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثني نافع، قال: أخبرني عبد الله بن عمر، أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
كذا في هذه الرواية: ((أعزب)) . وقال جماعة من أهل اللغة: إن الصواب: ((عزب)) ، يقال: رجل عزب إذا لم يكن له زوجة، وامرأة عزبة إذا لم يكن لها زوج، وأصل العزوبة الغيبة والبعد، ومنه قوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء} [سبأ:3] و [يونس:61] ، وسمي العزب: عزبا؛ لبعد عهده بالجماع.
وخرج البخاري في ((التعبير)) من ((صحيحه)) ، من حديث صخر بن
جويرية، عن نافع، عن ابن عمر - في حديث طويل ذكره -، قال: وكان بيتي

(3/257)


المسجد قبل أن أنكح.
ومن حديث سالم، عن ابن عمر، قال: كنت غلاما شابا عزبا في عهد
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكنت أبيت في المسجد.
وخرجه في ((المناقب)) بمعناه.
وروى الإمام أحمد عن ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا في زمن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ننام في المسجد، ونقيل فيه ونحن شباب.
وروى وكيع، عن عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما كان لي مبيت ولا مأوى على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في المسجد.
الحديث الثاني:

(3/258)


441 - حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت فاطمة، فلم يجد عليا في البيت. فقال: ((أين ابن عمك؟)) . فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإنسان: ((انظر أين هو)) . فجاء، فقال يا رسول الله، هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه،

(3/258)


وأصابه تراب -، فجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسحه عنه ويقول: ((قم أبا تراب، قم أبا تراب)) .
وخرجه في ((المناقب)) عن القعنبي، عن عبد العزيز، بزيادة ونقص.
الحديث الثالث:

(3/259)


442 - ثنا يوسف بن عيسى: ثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده؛ كراهية أن تبدو عورته.
أبو حازم هذا، اسمه: سلمان الأشجعي الكوفي،: وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد الحديث الذي قبله اسمه: سلمة بن دينار الأعرج الزاهد المدني.
وقد خرجه الإمام أحمد، عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من هو أسفل من ذلك، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته.
وفيه: دليل على إعراء المناكب في الصلاة للضرورة، إذا لم يجد ما

(3/259)


يسترهما، وان الصلاة تصح حينئذ. وقد سبق ذكر ذلك.
وفي معنى هذا الحديث: ما رواه زيد بن واقد: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، عن واثلة بن الأسقع، قال: كنت من أصحاب الصفة، وما منا أحد عليه ثوب تام، قد اتخذ العرق في جلودنا طرقا من الوسخ والغبار.
وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم ليستتر عورته ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام علينا فسلم - وذكر حديثا.
وخرج الترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث فضالة بن عبيد، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف إليهم، فقال: ((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)) . قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الترمذي: حديث صحيح.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث طلحة

(3/260)


بن عمرو، قال: نزلت الصفة فرافقت رجلا، فكان يجري علينا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل يوم مد من تمر بين رجلين، فسلم ذات يوم من الصلاة، فناداه رجل منا، فقال: يا رسول الله، قد أحرق التمر بطوننا - وذكر بقية الحديث - وفي رواية: وتخرقت عنا الخنف.
وفي رواية عن طلحة بن عمرو، قال: كان الرجل إذا قدم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة. قال: وكنت ممن نزل الصفة - وذكر بقية الحديث.
وروى البيهقي بإسناده، عن عثمان بن اليمان، قال: لما كثر المهاجرون بالمدينة، ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد، وسماهم: أصحاب الصفة، فكان يجالسهم ويأنس بهم.
والأحاديث في ذكر أهل الصفة كثيرة جدا في ذكر فقرهم وحاجتهم وصبرهم على ذلك، وليس المقصود من ذلك في هذا الباب إلا نومهم في المسجد، ولا شك في أن أهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لم يكن لهم مأوى بالليل والنهار غير الصفة، وكانت في مؤخر المسجد ينزلها من لا مأوى له من الغرباء الواردين على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن لا يجد مسكنا.
ويدل على نومهم في المسجد: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود

(3/261)


والنسائي وابن ماجه من حديث يحيى بن أبي كثير: ثنا أبو سلمة، عن يعيش بن طخفة بن قيس
الغفاري، قال: كان أبي من أصحاب الصفة، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انطلقوا بنا إلى بيت عائشة)) ، فانطلقنا، فقال: ((يا عائشة، أطعمينا)) ، فجاءت بحشيشة فأكلنا، ثم قال: ((يا عائشة، أطعمينا)) ، فجاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال: ((يا عائشة، اسقينا)) ، فجاءت بعس من لبن، فشربنا، ثم قال: ((يا عائشة، اسقينا)) فجاءت بقدح صغير فشربنا، ثم قال: ((إن شئتم بتم، وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد)) . قال: فبينما أنا مضطجع من السحر على بطني إذا رجل يحركني برجله، فقال: ((إن هذه ضجعة يبغضها الله - عز وجل -)) ، فنظرت فإذا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الترمذي بعضه من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقيل: أنه وهم، والصواب: رواية يحيى بن أبي كثير، وقد اختلف عليه في إسناده.
وروى ابن سعد عن الواقدي: حدثني واقد بن أبي ياسر التميمي، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، قال: كان أهل الصفة ناسا فقراء من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا منازل لهم، فكانوا ينامون على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد ويظلون فيه، ما لهم مأوى غيره، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه، ويتعشى طائفة منهم

(3/262)


مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى جاء الله بالغنى.
وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم في المسجد؟ فقالا: كيف تسألون عنه وقد كان أهل الصفة ينامون فيه، وهم قوم كان مسكنهم المسجد؟
واعلم أن النوم في المسجد على قسمين:
أحدهما:
أن يكون لحاجة عارضة مثل نوم المعتكف فيه والمريض والمسافر، ومن تدركه القائلة ونحو ذلك، فهذا يجوز عند جمهور العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا، ورخص في النوم في المسجد: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، وعطاء وقال: ينام فيه وإن احتلم كذا وكذا مرة.
وقال عمرو بن دينار: كنا نبيت في المسجد على عهد ابن الزبير.
وممن روي عنه أنه كان يقيل في المسجد: عمر وعثمان - رضي الله عنهما.
ونهى مجاهد عن النوم في المسجد.
وقال أيمن بن نابل: رآني سعيد بن جبير نائما في الحجر فأيقظني، وقال: مثلك ينام هاهنا!
وكرهه الأوزاعي.
وممن كان لا يدع أحدا ينام في المسجد: عمر بن الخطاب وابن مسعود، وابن عمر.

(3/263)


وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عمه، عن أبي ذر، قال: أتاني نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا نائم في المسجد، فضربني برجله، وقال: ((ألا أراك نائما فيه؟)) . قلت: يا نبي الله، غلبتني عيني.
وعمُّ أبي حرب: قال الأثرم: ليس بالمعروف.
ورواه شريك، عن داود، عن أبي حرب، عن أبيه، عن أبي ذر.
والصحيح عن عمه -: قاله الدارقطني.
وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب: حدثتني أسماء، أن أبا ذر كان يخدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد ليلة، فوجد أبا ذر نائما منجدلا في المسجد، فنكته رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجله حتى استوى جالسا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ألا أراك نائما؟)) قال أبو ذر: يا رسول الله، فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ - وذكر الحديث.
وروى ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، عن ابن زياد، عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على ناس من أصحابه - وهم رقود في المسجد -، فقال: ((انقلبوا؛ فإن هذا ليس بمرقد)) .
ذكره الأثرم، وقال: إسناده

(3/264)


مجهول منقطع.
قال: وحديث أبي ذر ليس فيه بيان نهي.
قلت: وقد روي حديث سعد: عن ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعد.
خرجه الهيثم بن كليب في ((مسنده)) ، وهو منقطع منكر.
والقسم الثاني:
أن يتخذ مقيلا ومبيتا على الدوام: فكرهه ابن عباس وقال: - مرة -: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس.
وهذا القسم - أيضا - على نوعين:
أحدهما: أن يكون لحاجة كالغريب، ومن لا يجد مسكنا لفقره، فهذا هو الذي وردت فيه الرخصة لأهل الصفة، والوفود، والمرأة السوداء ونحوهم.
وقد قال مالك في الغرباء الذين يأتون: من يريد الصلاة، فإني أراه واسعا، وأما الحاضر فلا أرى ذلك.
وقال أحمد: إذا كان رجل على سفر وما أشبهه فلا بأس، وأما أن يتخذه مبيتا أو مقيلا فلا.
وهو قول إسحاق - أيضا.
والثاني: أن يكون ذلك مع القدرة على اتخاذ مسكن، فرخص فيه طائفة، وحكي عن الشافعي وغيره، وحكي رواية عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر الأثرم.
وقال الثوري: لا بأس بالنوم في المسجد.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) : ثنا ثابت، قال: قلت لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن ينهى هؤلاء الذين ينامون في المسجد ويحدثون
ويجنبون. فقال: لا تفعل، فإن ابن عمر

(3/265)


سئل عنهم، فقال: هم العاكفون.
وحمل طائفة من العلماء كراهة من كره النوم في المسجد من السلف على أنهم استحبوا لمن وجد مسكنا ألا يقصد المسجد للنوم فيه. وهذا مسلك البيهقي.
واستدل بما خرجه أبو داود من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: ((من أتى المسجد لشيء فهو حظه)) .
وفي إسناد عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، فيه ضعف.
ويعضده: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما بنيت المساجد لما بنيت له)) . وقوله: ((إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) - أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/266)


59 - باب
الصلاة إذا قدم من سفر
وقال كعب بن مالك: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه.

(3/267)


443 - حدثنا خلاد بن يحيى: ثنا مسعر: ثنا محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد - قال مسعر: أراه قال: ضحى -، فقال: ((صل ركعتين)) . وكان لي عليه دين، فقضاني وزادني.
حديث كعب قد خرجه بتمامه في مواضع أخر، وهو حديث توبته وتخلفه عن تبوك. وفي الحديث: وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس.
وخرجه مختصرا في أواخر ((السير)) ، فقال: ((باب: الصلاة إذا قدم من سفر)) وخرج فيه من حديث كعب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد، فصلى ركعتين قبل أن يجلس.
وقد خرجه مسلم، ولفظه: كان لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه.

(3/267)


وخرج البخاري - أيضا - من حديث شعبة، عن محارب بن دثار، قال: سمعت جابرا، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فلما قدمنا المدينة قال لي: ((ادخل المسجد فصل ركعتين)) .
وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد، عن جابر، قال: اشترى مني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرا، فلما قدم المدينة أمرني أن أتي المسجد، فأصلي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير.
وفي رواية أخرى، قال: قدمت من سفر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صل ركعتين)) .
وخرج مسلم من رواية وهب بن كيسان، عن جابر، قال: جئت المسجد، فوجدته - يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على باب المسجد، فقال: ((فدع جملك، وادخل المسجد فصل ركعتين)) . قال: فدخلت فصليت، ثم رجعت.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أقبل من حجته دخل المدينة، فأناخ على باب
مسجده، ثم دخله فركع ركعتين، ثم انصرف إلى بيته. قال نافع: فكان ابن عمر كذلك يصنع.
ونقل حرب، عن إسحاق، قال: هو حسن جميل. قال: وإن صليتها في بيتك حين تدخل بيتك فإن ذلك يستحب.

(3/268)


وقد صرح الشافعية بأن صلاتهم في المسجد سنة، وهذا حق لا توقف فيه.
وقد بوب أبو بكر الخلال في ((كتاب الجامع)) في آخر الجهاد: ((باب سجدة الشكر للسلامة)) . ولم يورد في ذلك أثرا ولا نصا عن أحمد، ولا غيره في القدوم بخصوصه، وسجود الشكر للقدوم من الجهاد أو غيره سالما لا يعلم فيه شيء عن سلف، إنما الذي جاءت به السنة. صلاة ركعتين في المسجد عند القدوم.

(3/269)


60 - باب
إذا دخل المسجد فليركع ركعتين

(3/270)


444 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة السلمي، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) .
أبو قتادة السلمي منسوب إلى بني سلمة - بكسر اللام -، بطن من الأنصار من الخزرج، واسم أبي قتادة، الحارث بن ربعي. وقيل: اسمه: النعمان.
وأما النسبة إلى بني سلمة، فيقال فيها: سلمي بفتح اللام. هذا ما اتفق عليه أهل العربية واللغة. ووافقهم على ذلك من أهل الحديث. وكذلك قيده بن ما كولا في ((إكماله)) وغيره.
وحكى الحازمي عن أكثر أهل الحديث أنهم يكسرون اللام، ويقولون: سلمي.
وفي الحديث: الأمر لمن دخل المسجد أن يركع ركعتين قبل جلوسه، وهذا الأمر على الاستحباب دون الوجوب عند جميع العلماء المعتد بهم.

(3/270)


وإنما يحكى القول بوجوبه عن بعض أهل الظاهر.
وإنما اختلف العلماء: هل يكره الجلوس قبل الصلاة أم لا؟
فروي عن طائفة منهم كراهة ذلك، منهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو قول أصحاب الشافعي.
ورخص فيه آخرون، منهم: القاسم بن محمد وابن أبي ذئب واحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
قال أحمد: قد يدخل الرجل على غير وضوء، ويدخل في الأوقات

(3/271)


التي لا يصلى فيها.
يشير إلى أنه لو وجبت الصلاة عند دخول المسجد لوجب على الداخل إليه أن يتوضأ، وهذا مما لم يوجبه احد من المسلمين.
وأما الداخل في أوقات النهي عن الصلاة، فللعلماء فيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه لا يصلي، وهو قول أبي حنيفة وغيره. وعند الشافعي يصلي.
وربما تأتي هذه المسالة في موضع أخر - أن شاء الله.
وروي عن جرير، عن مغيرة؛ عن إبراهيم، قال: كان يقال: إذا دخلت مسجدا من مساجد القبائل فلا باس أن تقعد ولا تركع، وإذا دخلت مسجدا من مساجد الجمع فلا تقعد حتى تركع.
ولعل أهل العلم هذه المقالة حملوا قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا دخل أحدكم المسجد)) على المسجد المعهود في زمنه، وهو مسجده الذي كان يجمع فيه، فيلتحق به ما في معناه من مساجد الجمع دون غيرها.
والجمهور حملوا الألف واللام في ((المسجد)) على العموم لا على العهد.
وروى الإمام أحمد في المسند: ثنا حسين بن محمد: ثنا ابن

(3/272)


أبي ذئب، عن رجل من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى مسجد بعض الأحزاب، فوضع رداءه، فقام ورفع يديه مدا يدعو عليهم، ولم يصل، ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وفي كتاب ((العلل)) لأبي بكر الخلال، عن أبي بكر المروذي، قال: قيل لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: حديث حميد بن عبد الرحمن، عن هشام بن سعد، عن نعيم المجمر، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه دخل المسجد فاحتبى، ولم يصل الركعتين - أمحفوظ هو؟ قال: نعم.
قال المروذي: ورأبت أبا عبد الله كثيرا يدخل المسجد، يقعد ولا يصلي، ثم يخرج ولا يصلي في أوقات الصلوات.
وهذا الحديث غريب جدا، ورفعه عجيب، ولعله موقوف. والله أعلم.
وقال جابر بن زيد: إذا دخلت المسجد فصل فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله، فكأنك صليت فيه.
والصلاة عند دخول المسجد تسمى: تحية المسجد، وقد جاء ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خرج ابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي ذر، قال: دخلت المسجد فإذا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده، فقال: ((يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما)) ، فقمت فركعتهما، ثم عدت فجلست إليه - وذكر الحديث بطوله.
وفي إسناد إبراهيم بن هشام بن يحيى بن الغساني، تكلم

(3/273)


فيه أبو زرعة وغيره.
وقد روي من وجوه متعددة عن أبي ذر، وكلها لا تخلو من مقال.
وتسمى - أيضا - حق المسجد.
وروى ابن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرو ابن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعطوا المساجد حقها)) قالوا: وما حقها؟ قال: ((تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا)) .
واعلم أن حديث أبي قتادة قد روي بلفظين:
أحدهما: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)) .
كذا رواه مالك، وقد خرجه البخاري هاهنا من طريقه كذلك.
وهذا اللفظ يقتضي الأمر لهم بالصلاة قبل الجلوس، فمن جلس في المسجد كان مأمورا بالصلاة قبل جلوسه.
ومن لم يجلس فيه، فهل يكون مأمورا بالصلاة؟ ينبغي على أن القبلية المطلقة هل تصدق بدون وجود ما أضيفت إليه أم لا؟ وفيه اختلاف قد سبق ذكره في ((باب: غسل القائم يده من النوم قبل إدخالها الإناء)) .

(3/274)


فإن قيل: إنها لا تصدق بدونه، فالأمر لا يتناول من لا يجلس، وإن قيل: إنها تصدق بدونه تناوله الأمر.
واللفظ الثاني: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)) .
وقد خرجه البخاري في ((أبواب: صلاة التطوع)) من رواية عبد الله بن سعيد - هو: ابن أبي هند - عن عامر بن عبد الله بن الزبير - بإسناده.
وهذه الرواية إنما فيها النهي عن الجلوس حتى يصلي، فمن دخل ولم يجلس، بل مر في المسجد مجتازا فيه، أو دخل لحاجة ثم خرج ولم يجلس لم يتناوله هذا النهي.
ولكن خرجه أبو داود من رواية أبي عميس، عن عامر بن عبد الله، عن رجل من بني زريق، عن أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بنحوه، زاد فيه: ((ثم ليقعد بعد إن شاء، أو ليذهب إلى حاجته)) .
وهذه الزيادة تدل على تناول الأمر لمن قعد ومن لم يقعد، ولعلها مدرجة في الحديث.
وقد خرج أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) هذا الحديث من هذا الوجه، ووقفه كله على أبي قتادة.
وقد فرق أحمد وإسحاق بين أن يجلس الداخل في المسجد، فقالا: لا يجلس فيه حتى يصلي. قالا: وأما إذا مر فلا بأس، ولا

(3/275)


يتخذه طريقا. نقله إسحاق بن منصور عنهما.
وكان ابن عمر يمر في المسجد ولا يصلي فيه.
وفي ((تهذيب المدونة)) : قال مالك: ومن دخل المسجد فلا يقعد حتى يركع ركعتين، إلا أن يكون مجتازا لحاجة، فجائز أن يمر فيه ولا يركع، وقاله زيد بن ثابت ثم كره زيد أن يمر فيه ولا يركع، ولم يأخذ به مالك.
وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. قال: ورأيت ابن عمر يفعله.
وكان سالم بن عبد الله يمر فيه مقبلا ومدبرا ولا يصلي فيه.
ورخص فيه الشعبي.
وقال الحسن: لا بأس أن يستطرق المسجد.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه مر في المسجد فصلى فيه ركعة، وقال: إنما هو تطوع. وقال: كرهت أن أتخذه طريقا.
ومر طلحة في المسجد، فسجد سجدة.
ومر فيه الزبير فركع ركعة أو سجد سجدة.
خرجه وكيع في ((كتابه)) .
وفي أسانيد المروي عن عمر وطلحة والزبير مقال.

(3/276)


وفي جواز التطوع بركعة قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وقد بوب البخاري على أن ((التطوع لا يكون إلا ركعتين يسلم فيهما)) .
وخرج فيه حديث أبي قتادة هذا مع غيره.
وللشافعية خلاف فيما إذا صلى ركعة: هل يقتضي بذلك حق المسجد، أم لا؟ والصحيح عندهم أنه لا يقضيه بذلك.
وأما الاقتصار على سجدة فقول غريب.
وفي النهي عن اتخاذ المسجد طريقا أحاديث مرفوعة متعددة، في أسانيدها ضعف.
وروينا من طريق الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن سالم، عن أبيه، قال: لقي عبد الله رجل فقال: السلام عليك يا بن مسعود. فقال عبد الله: صدق الله
ورسوله؛ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين، ولا يسلم الرجل إلا على من يعرفه، وان يبرد الصبي الشيخ)) .
الحكم بن عبد الملك، ضعيف.
ورواه - أيضا - ميمون أبو حمزة - وهو ضعيف جدا -، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود - مرفوعا.
وخرجه البزار من رواية بشير بن سليمان أبو

(3/277)


إسماعيل، عن سيار، عن طارق، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
وخرجه الإمام أحمد بغير هذا اللفظ، ولم يذكر فيه المرور في المسجد، وذكر خصالا أخر.
وأما من مر على المسجد، فهل يستحب له الدخول إليه لقصد الصلاة فيه؟ لا نعلم في ذلك إلا ما رواه سعيد بن أبي هلال: أخبرني مروان بن عثمان، أن عبيد بن حنين أخبره، عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنمر على المسجد، فنصلي فيه.
خرجه النسائي.
وبوب عليه: ((صلاة الذي يمر على المسجد)) .
ومروان بن عثمان، قال فيه الإمام أحمد: لا يعرف. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف.

(3/278)


61 - باب
الحدث في المسجد

(3/279)


445 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)) .
قد سبق ذكر هذا الحديث في ((أبواب الوضوء)) ، وخرجه البخاري في ((باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين)) من رواية المقبري، عن أبي هريرة.
وذكرنا هناك أن الحدث قد فسر بحدث اللسان والأعمال، وفسر بحدث
الفرج، وبهذا فسره البخاري.
ومقصوده: أنه يجوز تعمد إخراج الحدث في المسجد؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره، ولم ينه عنه، إنما أخبر أنه يقطع صلاة الملائكة.
وقد رخص في تعمد إخراج الحدث في المسجد الحسن وعطاء وإسحاق.
وقد تقدم أن النوم في المسجد جائز للضرورة بغير خلاف،

(3/279)


ومنه نوم المعتكف لضرورة صحة اعتكافه، ولغير ضرورة عند الأكثرين، والنوم مظنة خروج الحدث، فلو منع من خروج الريح في المسجد لمنع من النوم فيه بكل حال، وهو مخالف للنصوص والإجماع.
قال أصحاب الشافعي: والأولى اجتناب إخراج الريح فيه لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) . قالوا: ولا يكره الجلوس فيه للمحدث، سواء كان له غرض شرعي أو لم يكن.
ومن أصحابهم من كرهه لغير غرض. وقيل: أنه لم يوافق على ذلك.

(3/280)


62 - باب
بنيان المسجد
وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل.
وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
وقال أنس: يتباهون بها، لا يعمرونها إلا قليلا.
وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.
وأما حديث أبي سعيد فقد خرجه بتمامه في مواضع من ((كتابه)) في
((الصلاة)) و ((الاعتكاف)) وغيروهما.
وفي الحديث: إن السماء مطرت فوكف المسجد، فانصرف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاة الصبح وعلى جبهته وانفه اثر الماء والطين.
وهذا يدل على أن سقف المسجد لم يكن يكن الناس من المطر، ولا يمنع من نزول ماء المطر إليه.
وقد ذكرنا فيما سبق من مراسيل الزهري أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل طول جداره بسطه وعمده الجذوع وسقفه جريدا. فقيل له: إلا نسقفه؟ فَقَالَ: ((عريشا كعريش موسى، خشبات وثمام، الأمر أعجل

(3/281)


من ذَلِكَ)) .
وقال المروذي في ((كتاب الورع)) : قرئ على أبي عبد الله - يعني: أحمد -: سفيان، عن عمرو، عن أبي جعفر، قال: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد: هده، طده. قال: ((لا عريش كعريش موسى)) ؟ قال أبو عبد الله: قد سألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكحل المسجد، فقال: ((لا، عريش كعريش موسى)) .
قال أبو عبد الله: إنما هو شيء مثل الكحل يطلى، أي: فلم يرخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أبو عبيد: كان سفيان بن عيينة يقول: معنى قوله: ((هده)) : أصلحه. قال: وتأويله كما قال، واصله: أنه يراد به الإصلاح بعد الهدم، وكل شيء حركته فقد هدته، فكان المعنى أنه يهدم ثم يستأنف ويصلح.
قال المروذي: وقلت لأبي عبد الله: أن محمد بن أسلم الطوسي لا يجصص مسجده، ولا بطوس مسجد مجصص إلا قلع جصه؟ فقال أبو عبد الله: هو من زينة الدنيا.
وروى ابن أبي الدنيا من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد أعانه عليه أصحابه وهو

(3/282)


معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ((ابنوه عريشا كعريش موسى)) . فقيل للحسن: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش - يعني السقف.
ومن رواية ليث، عن طاووس، قال: لما قدم معاذ اليمن، قالوا له: لو أمرت بصخر وشجر فينقل فبنيت مسجدا؟ قال: إني أكره أن انقله على ظهري يوم القيامة - كأنه يخاف إذا أتقن بناءه بالصخر والخشب.
وروى سفيان، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما أمرت بتشييد المساجد)) .
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفها اليهود والنصارى. خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
كذا رواه ابن عيينة، عن الثوري.
ورواه وكيع عن الثوري فجعل أوله مرسلا عن يزيد بن الأصم،

(3/283)


لم يذكر فيه: ((ابن عباس)) . وكذا رواه ابن مهدي عن سفيان.
وخرج ابن ماجه كلام ابن عباس من وجه آخر - مرفوعا -: ((ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم)) .
وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وروى المروذي في كتاب الورع بإسناد عن أبي الدر داء، قال: إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم؛ فعليكم الدمار.
وقال المروذي: ذكرت لأبي عبد الله مسجدا قد بنى وانفق عليه مال كثير، فاسترجع وأنكر ما قلت.
قال حرب: قلت لإسحاق - يعني: ابن راهويه -: فتجصيص

(3/284)


المساجد؟ قال: أشد وأشد. المساجد لا ينبغي أن تزين، إلا بالصلاة والبر.
وقال سفيان الثوري: يكره النقش والتزويق في المساجد، وكل ما تزين به المساجد.
ويقال: إنما عمارته ذكر الله - عز وجل -.
وممن كره زخرفة المساجد وتزو يقها: عمر بن عبد العزيز، وكان قد أراد إزالة الزخرفة التي كان الوليد وضعها في مسجد دمشق الجامع فكبر ذلك على من يستحسنه ممن تعجبه زينة الحياة الدنيا، واحتالوا عليه بأنواع الحيل، وأوهموه أنه يغيظ الكفار، حتى كف عن ذلك.
وقد روي عن ابن جريج، قال: أول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك.
ذكره الأزرقي.
ولأصحابنا وأصحاب الشافعي في تحريم تحلية المساجد بالذهب والفضة وجهان، وكرهه المالكية وبعض الحنفية، ومنهم من رخص فيه، وقالوا: أن فعل ذلك من مال الوقف فقد ضمنه من ماله.
وأما ما حكاه البخاري عن عمر وأنس [............ ..............................] .
وقد روي عن أنس - مرفوعا -، رواه سعيد بن عامر: ثنا صالح بن رستم، قال: قال أبو قلابة: سمع أنس بن مالك يقول - وقد مروا بمسجد أحدث -، فذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ((يأتي على أمتي زمان

(3/285)


يتباهون فيه بالمساجد ولا يعمرونها إلا قليلا)) - أو قال: ((لا يعمرونها إلا قليلا)) .
خرجه ابن خزيمة في صحيحه.
ثم خرج البخاري هاهنا حديثا، فقال:

(3/286)


446 - ثنا علي بن عبد الله: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان: ثنا نافع، أن عبد الله اخبره، أن المسجد كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه
عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج.
القصة: الجص.
والساج: نوع من أرفع أنواع الخشب، يجلب من بلاد الهند والزنج.

(3/286)


ويستدل بما فعله عثمان من يرخص في تجصيص المساجد وتزويقها ونقشها.
وقد روي عن ابن عمر في هذا الباب روايات أخر:
فخرج أبو داود من طريق فراس، عن عطية، عن ابن عمر، أن مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت سواريه على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عمر، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، وتخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن.
وفي هذه الرواية زيادة تجديد أبي بكر له وإعادته على ما كان، لكنه لم يزد في بقعة المسجد شيئا، وإنما زاد فيه عمر.
وروى الإمام أحمد: ثنا حماد الخياط: ثنا عبد الله، عن نافع، أن عمر زاد في المسجد من الاسطوانة إلى المقصورة، وزاد عثمان، فقال عمر: لولا أني سمعت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ينبغي أن نزيد في مسجدنا)) ما زدت.
وليس في رواية ذكر ابن عمر، وهو منقطع.
وفيما فعله عمر وعثمان من تخريب المسجد والزيادة فيه: دليل

(3/287)


على جواز الزيادة في المساجد وتخريبها لتوسعتها وإعادة بناءها على وجه أصلح من البناء الأول؛ فإن هذا فعله عمر وعثمان بمشهد من المهاجرين والأنصار واقروا عليه.
فأما توسعة المساجد إذا احتيج إلى ذلك لضيقها وكثرة أهلها فقد صرح بجوازه أكثر العلماء من المالكية والحنفية وغيرهم.
وأما توسعة المسجد العامر، وإعادة بنائه على وجه أصلح من الأول فقد نص على جواز الإمام أحمد.
قال أبو داود في ((مسائله)) : سئل أحمد عن رجل بنى مسجدا فعتق، فجاء رجل فأراد أن يهدمه فيبنيه بناء أجود من ذلك، فأبى عليه الباني الأول وأحب الجيران لو تركه يهدمه؟ فقال: لو صار إلى رضا جيرانه لم يكن به باس.
قال: وسمعت أحمد سئل عن مسجد يريدون أن يرفعوه من الأرض، فمنعهم من ذلك مشايخ يقولون: لا نقدر نصعد؟ قال: أحمد: ما تصنع بأسفله؟ قال: اجعله سقاية. قال: لا أعلم به باسا. قال أحمد: ينظر إلى قول أكثرهم - يعني: أهل المسجد.
وبوب عليه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) : ((باب: المسجد يبنى بناء أجود من بنائه)) .
وهو - أيضا - قول أصحاب أبي حنيفة، ومذهب سفيان الثوري، حكى أصحابه عنه في تصانيفهم على مذهبه أنه قال في المسجد يكون فيه ضيق، فأراد أهله أن يوسعوه من ملك

(3/288)


رجل منهم، فلهم ذلك، وان أرادوا أن يوسعوه من الطريق والطريق واسع لا يضر بالمارة فيه فليس لهم ذلك، إلا إن يأذن الإمام. قال: وللإمام أن يحول الجامع من موضع إلى غيره إذا كان فيه صلاح للرعية ونوى الشد فيه؛ ذكروا أن ابن مسعود حول مسجد الكوفة من موضع التمارين.
قال: وسئل سفيان عن بيع حصير المسجد الخلق فيجعل في ثمن الجديد؟ فلم يره به باسا.
ومذهب الإمام أحمد أن ما خرب من الأوقاف كلها ولم يمكن عمارتها، فأنها تباع ويستبدل بها ما يقوم مقامها.
وعنه في المساجد روايتان: إحداهما كذلك. والثانية: لا تباع وتنقل آلاتها إلى موضع آخر يبنى بها مثله.
ونقل عنه حرب في مسجد خرب، فنقلت آلاته وبني بها مسجد في مكان آخر: أن العتيق يرم ولا يعطل، ولا يبنى في مكانه بيت ولا خان للسبيل، ولكن يرم ويتعاهد.
ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه أنه أجاز للسلطان خاصة أن يبني مكان المسجد الخراب خانا للسبيل أو غيره، مما يكون للمسلمين، فيفعل ما هو خير لهم.
وروى حرب بإسناده عن عبيد الله بن الحسن العنبري في مسجد خافض أراد أهله أن يستبدلوا به؟ قال: إذا كان الخليفة هو الذي يفعل

(3/289)


ذلك أراه جائزا.
وروى وكيع بإسناد، عن جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يجعل المسجد حشا والحش مسجدا.
ومما يدل على جواز ذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزم على هدم بناء الكعبة، وإعادتها على قواعد إبراهيم، فيدخل فيها غالب الحجر، ويجعل لها بابين لاصقين بالأرض.
وقد فعل ذلك ابن الزبير، وزاد مع ذلك في طولها، ثم أعادها الحجاج بأمر عبد الملك إلى حالها الأول، واقر الزيادة في طولها.
فيالله العجب!! كيف تقر زيادة لم يذكرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتزال زيادة ذكرها وعزم عليها؛ ولهذا ندم عبد الملك على ما فعل لما بلغه الحديث عن عائشة.
ومما يدل على جواز ذلك: أن العبادات يجوز إبطالها لأعادتها على وجه أكمل مما كانت، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة؛ ليعيدوا الحج على وجه أكمل مما كان، وهو وجه التمتع؛ فإنه لفضل من الأفراد والقران بغير سوق هدي، كما دل عليه هذه النصوص بالأمر بالفسخ.
وكما أن من دخل في صلاة مكتوبة منفردا، ثم حضر جماعة، فإن إبطال صلاته أو قلبها نفلا؛ ليعيد فرضه في جماعة، فإنه أكمل من صلاته منفردا.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم: أحمد، والشافعي في أحد قوليه،

(3/290)


وكذلك قال مالك وأبو حنيفة إذا لم يكن قد صلى أكثر صلاته.
وكذلك الهدي المعين والأضحية المعينة يجوز إبدالها بخير منهما عند أبي حنيفة واحمد وغيرهما.
وإذا هدم المسجد، ثم أعيد بناؤه أو وسع، فالبناء المعاد يقوم مقام الأول، ولا يحتاج إلى تجديد وقفه.
وهذا يدل على قول من يرى أن الوقف ينعقد بالقول وبالفعل الدال عليه، وان المسجد يصير مسجدا بالأذان وصلاة الناس فيه، كما قول هُوَ مالك وأبي حنيفة والثوري واحمد - ظاهر، وتصير الزيادة في المسجد مسجدا بمجرد وصلها في المسجد وصلاة الناس فيها.
وقد قال مجاهد والأوزاعي في الفرس الحبيس إذا عطب، فاشتري بثمنه فرس آخر، وزيد في ثمنه زيادة: أن الفرس كله يكون حبيسا كالأول.
وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل - أيضا - فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كله، والصلاة فيه كله سواء في المضاعفة والفضل.
وقد قيل: أنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف، إنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، منهم ابن عقيل وابن الجوزي، وبعض الشافعية.
ولكن قد روي عن الإمام أحمد التوقف في ذلك:
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الصف الأول في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(3/291)


أي صف
هو، فإني رأيتهم يتوخون دون المنبر، ويدعون الصف الأول؟ قال: ما أدري. قلت لأبي عبد الله: فما زيد في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو عندك منه؟ فقال: وما عندي، إنما هم أعلم بهذا - يعني: أهل المدينة.
وقد روى عمر بن شبة في كتاب ((أخبار المدينة)) بإسناد فيه نظر، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي)) . فكان أبو هريرة يقول: لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه.
وبإسناد فيه ضعف، عن أبي عمرة، قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ الجبانة كان مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبإسناده، عن ابن أبي ذئب، قال: قال عمر: لو مد مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذي الحليفة كان منه.
وكذلك الزيادة في المسجد الحرام:
روى مثنى بن الصباح، عن عطاء، أنه قيل له في المضاعفة في المسجد وحده، أو في الحرم؟ قال: في الحرم كله؛ فإن الحرم كله مسجد.
وروى الأزرقي بإسناده، عن أبي هريرة، قال: إنا لنجد في كتاب الله أن حد المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى.
وبإسناده، عن عبد الله بن عمرو، قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم - عليه السلام - من الحزورة إلى المسعى.
وبإسناده، عن عطاء، قال: المسجد الحرام الحرم كله.

(3/292)


وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) من رواية ليث، عن مجاهد، قال: الحرم كله مسجد، يعتكف في أيه شاء، وإن شاء في منزله، إلا أنه لا يصلي إلا في جماعة.
وقد ذكر الشافعية: أنه لو حلف لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة لم يحنث، فلو حلف لا يدخل مسجد بني فلان، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة حنث.
وهذا مما يشهد لأن حكم الزيادة حكم المزيد في المسجد الحرام ومسجد النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه عرف المسجد الحرام بالألف واللام، ومسجده بإضافته إليه، ولكنه جمع بين الإشارة إليه وتعريفه بالإضافة، فقال: ((مسجدي هذا)) . والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/293)


63 - باب
التعاون في بناء المسجد
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} - إلى قوله -: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17و18] .
عمارة المساجد تكون بمعنيين:
أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك.
والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.
وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها.
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)) ، ثم تلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} - الآية [التوبة:18] .

(3/294)


ولكن قال الإمام أحمد: هو منكر.
وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - وقرئ ((مسجد
الله)) .
فقيل: إن المراد به جميع المساجد على كلا القراءتين؛ فإن المفرد المضاف يعم، كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة:187] .
وقيل: المراد بالمسجد الحرام خاصة، كما قال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] .
وقيل أنه المراد بالمساجد على القراءة الأخرى، وانه جمعه لتعدد بقاع المناسك هناك، وكل واحد منها في معنى مسجد. روي ذلك عن عكرمة. والله أعلم.
فمن قال: إن المراد به المسجد الحرام خاصة، قال: لا يمكن الكفار من دخول الحرم كله، بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] .
وجمهور أهل العلم على أن الكفار يمنعون من سكنى الحرم، ودخوله بالكلية، وعمارته بالطواف وغيره، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ينادي: ((لا يحج بعد العام مشرك)) .
ورخص أبو حنيفة لهم في دخوله دون الإقامة به.

(3/295)


ومن قال: المراد جميع المساجد، فاختلفوا:
فمنهم: من قال: لا يمكن الكفار من قربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكلية.
ومنهم: من رخص لهم في دخول مساجد الحل في الجملة.
ومنهم: من فرق بين أهل الكتاب والمشركين، فرخص فيه لأهل الكتاب دون المشركين.
وقد أفرد البخاري بابا لدخول المشرك المسجد، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى.
واتفقوا على منع الكفار من إظهار دينهم في مساجد المسلمين، لا نعلم في ذلك خلافا.
وهذا مما يدل على اتفاق الناس على أن العمارة المعنوية مرادة من الآية.
واختلفوا في تمكينهم من عمارة المساجد بالبنيان والترميم ونحوه على قولين:
أحدهما: المنع من ذلك؛ لدخوله في العمارة المذكورة في الآية، ذكر ذلك كثير من المفسرين كالواحدي وأبي فرج ابن الجوزي، وكلام القاضي أبي يعلى في كتاب ((أحكام القرآن)) يوافق ذلك وكذلك كيا الهراسي من الشافعية، وذكره البغوي منهم احتمالا.

(3/296)


والثاني: يجوز ذلك، ولا يمنعون منه، وصرح به طائفة من فقهاء أصحابنا والبغوي من الشافعية وغيرهم.
وهؤلاء؛ منهم من حمل العمارة على العمارة المعنوية خاصة، ومنهم من قال: الآية إنما أريد بها المسجد الحرام، والكفار ممنوعون من دخول الحرم على كل وجه، بخلاف بقية المساجد، وهذا جواب ابن عقيل من أصحابنا.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه استعمل طائفة من النصارى في عمارة مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما عمره في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ويتوجه قول ثابت، وهو: أن الكافر إن بنى مسجدا للمسلمين من ماله لم يمكن من ذلك، ولو لم يباشره بنفسه، وإن باشر بناءه بنفسه باستئجار المسلمين له جاز، فإن في قبول المسلمين منة الكفار ذلا للمسلمين، بخلاف استئجار الكفار للعمل للمسلمين؛ فإن فيه ذلا للكفار.
وقد اختلف الناس في هذا - أيضا - على قولين:
أحدهما: أنه لو وصى الكافر بمال للمسجد أو بمال يعمر به مسجد أو يوقد به، فإنه تقبل وصيته، وصرح به القاضي أبو يعلى في ((تعليقه)) في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك.
والثاني: المنع من ذلك، وانه لا تقبل الوصية بذلك، وصرح به الواحدي في ((تفسيره)) وذكره ابن مزين في كتاب ((سير

(3/297)


الفقهاء)) ، عن يحيى بن يحيى، قال: سمعت مالكا، وسئل عَن نصراني أوصى بمال تكسى به الكعبة؟ فأنكر ذلك، وقال: الكعبة منزهة عن ذلك.
وكذلك المساجد لا تجري عليها وصايا أهل الكفر.
وكذلك قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة: لا يصح وقف النصراني على المسلمين عموما، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين -: ذكره حرب، عنه بإسناده.
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ قَالَ: أخشى أن ذَلِكَ ذلة.
وَقَالَ مهنا: قُلتُ لأحمد: يأخذ الْمُسْلِم من النصراني من صدقته شيئا؟ قال:
نعم، إذا كان محتاجا.
فقد يكون عن أحمد روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال. والله أعلم.
وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري.

وقد ذكر أهل السير كالوا قدي ومحمد بن سعد إن رجلا من أحبار اليهود، يقال له: مخيريق، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث يشاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمواله، فقيل: أنه فرقها وتصدق بها،

(3/298)


وقيل: أنه حبسها ووقفها.
وروى ابن سعد ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. والله أعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:

(3/299)


447 - حدثنا مسدد: ثنا عبد العزيز بن مختار: ثنا خالد الحذاء، عن عكرمة: قال لي ابن عباس ولابنه علي: إنطلقا إلى أبي سعيد، فاسمعا من حديثه، فإنطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا، حتى أتى على ذكر بناء
المسجد. قال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل ينفض التراب عنه، ويقول: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) . قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
في هذا الحديث: حرص العالم المتسع علمه على أولاده ومواليه في تعليمهم
العلم، حتى يرسلهم إلى غيره من العلماء، وإن كان هو أعلم وأفقه، لما يرجى من تعليمهم من غيره ما ليس عنده.
وفيه: إن الصحابة كانوا يعملون في حوائطهم وهي بساتينهم

(3/299)


وحدائقهم
بأيديهم، وأن أحدهم كان إذا عمل في عمل دنياه ألقى رداءه واكتفى بإزاره، فإذا جاءه من يطلب العلم أخذ رداءه، وجلس معهم في ثوبين: إزار ورداء.
وقول أبي سعيد: ((كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين)) ، يدل على إن أبا سعيد شهد بناء المسجد وعمل فيه، وهذا يدل على إن المراد بناء المسجد ثاني مرة لا أول مرة، فإن جماعة من أهل السير ذكروا إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما فتح الله عليه خيبر بنى مسجده مرة ثانية، وزاد فيه مثله.
وإنما استشهدنا لذلك بمشاركة أبي سعيد في بناء المسجد، ونقل اللبن؛ لأن أبا سعيد كان له عند بناء المسجد في المرة الأولى نحو عشر سنين أو دونها؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رده يوم أحد ولم يجزه، وله نحو ثلاث عشرة سنة، وكانت غزوة أحد في أواخر السنة الثالثة من الهجرة، ومن له عشر سنين أو دونها فبعيد أن يعمل مع الرجال في البنيان.
ويدل على تجديد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمارة مسجده أدلة أخر:
منها: إن عثمان وسع مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته بأذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشترى له مكانا من ماله، وزاده في المسجد.
روى ثمامة بن حزن، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان، فقال: إنشدكم بالله والإسلام: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من يشتري بقعة آل فلان فيزيد ها في المسجد بخير له منها في الجنة)) ، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن اصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم - وذكر الحديث.

(3/300)


خرجه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وروى عمرو بن جاوان، عن الأحنف بن قيس، قال: إنطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، فإذا علي والزبير وطلحة
وسعد، فلم يكن بأسرع من إن جاء عثمان، فقال لهم: إنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له)) ،
فابتعته، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: أني قد ابتعته، فقال: ((اجعله في مسجدنا، وأجره لك)) ؟ قالوا: نعم - وذكر الحديث.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وفي بعض الروايات: ((أحسبه قال: ابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفا)) .
وروى ابن لهيعة: حدثني يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا ثور
الفهمي، قال: دخلت على عثمان، فقال: قد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من يشتري هذه الربعة ويزيد ها في المسجد، وله بيت في الجنة؟)) فاشتريتها وزدتها في المسجد.
خرجه البزار في ((مسنده)) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أشرف عثمان - فذكر الحديث، وفيه:

(3/301)


أنه قال: أنشد بالله من شهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد ببيت له في الجنة؟)) فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد فانتشد له رجال - وذكر بقية الحديث.
وفي سماع أبي سلمة من عثمان نظر.
وقد اختلف في إسناده على أبي إسحاق:
فرواه، عنه: ابنه يونس وحفيده إسرائيل بن يونس، كلاهما عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة.
ورواه زيد بن أبي أنيسة وشعبة وغيروهما، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان.
وقد خرج البخاري في ((صحيحه)) قطعة من هذا الحديث من رواية شعبة، ولم يذكر فيه المسجد، إنما ذكر خصالا أخر.
وكذلك خرجه النسائي والترمذي من حديث زيد بن أبي أنيسة، وعند الترمذي: ((وأشياء عدها)) .
وقال: صحيح غريب.
وقال الدارقطني: قول شعبة ومن تابعه أشبه بالصواب.
ومن الأدلة على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جدد عمارة مسجده مرة ثانية: أن وفد بني حنيفة قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبني مسجده، ومعلوم أن وفود العرب لم يفد منهم أحد على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلما في

(3/302)


السنة الأولى من الهجرة، هذا أمر معلوم بالضرورة لكل من عرف السير وخبرها، إنما قدمت الوفود مسلمين بعد انتشار الإسلام وظهوره وقوته، وخصوصا وفد بني حنيفة؛ فإنه قد ورد في ذمهم أحاديث متعددة في ((مسند الإمام أحمد)) والترمذي وغيرهما من الكتب، فكيف يظن بهم أنهم سبقوا الناس إلى الإسلام في أول سنة من سني الهجرة؟
ويدل على قدوم وفد بني حنيفة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبني مسجده: ما رواه ملازم ابن عمرو: حدثني جدي عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، قال: بنيت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد المدينة، فكان يقول: ((قدموا اليمامي من الطين؛ فإنه من أحسنكم لَهُ مسا)) .
خرجه [..........] ابن حبان في ((صحيحه)) .
وخرجه الإمام أحمد، وزاد في آخره: ((وأشدكم منكبا))
وعنده عن ملازم، عن سراج بن عقبة وعبد الله بن بدر، عن قيس.
وخرجه النسائي بهذا الإسناد، عن طلق، قال: خرجنا وفدا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعناه وصلينا معه - وذكر حديثا.
فتبين بهذا: أنه إنما قدم في وفد بني حنيفة.
وخرجه الدارقطني من رواية محمد بن جابر - وفيه ضعف -،

(3/303)


عن قيس ابن طلق، عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يؤسسون مسجد المدينة. قال: وهم ينقلون الحجارة. قال: فقلت يا رسول الله، ألا ننقل كما ينقلون؟ قال: ((لا، ولكن اخلط لهم الطين يا أخا اليمامة، فأنت أعلم به)) . قال: فجعلت أخلطه، وهم ينقلونه.
وخرجه الإمام أحمد من رواية أيوب، عن قيس، عن أبيه، قال: جئت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يبنون المسجد. قال: فكأنه لم يعجبه عملهم. قال: فأخذت المسحاة، فخلطت بها الطين. قال: فكأنه أعجبه أخذي للمسحاة وعملي، فقال: ((دعوا الحنفي والطين؛ فإنه أضبطكم للطين)) .
وأيوب، هو: ابن عتبة، فيه لين.
وأما نفض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عمار التراب الذي أصابه من نقل اللبن، فقد بوب عليه البخاري في ((السير)) : ((مسح الغبار عن الناس في السبيل)) ، وخرج فيه هذا الحديث مختصرا، وفيه: فمر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمسح عن رأسه الغبار، وقال: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الله،

(3/304)


ويدعونه إلى النار)) .
وقوله: ((ويح عمار)) ، ويح: كلمة رحمة -: قاله الحسن وغيره.
وروي مرفوعا من حديث عائشة بإسناد فيه ضعف.
وقيل: ويح: رحمة لنازل به بلية. وانتصابه بفعل مضمر، كأنه يقول: أترحم عمارا ترحما.
وقوله: ((يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) فيه: إخبار بأن ذلك سيقع
له، ولهذا تعوذ عمار عند ذلك من الفتن.
وفيه إشارة إلى أن عمارا على الحق من دون خالفه.
وقد وقع في بعض نسخ ((صحيح البخاري)) زيادة في هذا الحديث، وهي: ((تقتله الفئة الباغية)) .
وقد خرجه بهذه الزيادة الإمام أحمد عن محبوب بن الحسن، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، سمع أبا سعيد يحدث عن بناء المسجد - فذكره، وقال فيه: ((ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) .
وخرجه النسائي.
وقد رواه يزيد بن زريع وغيره، عن خالد الحذاء.
ولكن لفظة: ((تقتله الفئة الباغية)) لم يسمعها أبو سعيد من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إنما سمعها من

(3/305)


بعض أصحابه عنه.
وقد خرج الإمام أحمد من رواية داود بن أبي هند، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر قصة بناء المسجد، وقال: حدثني أصحابي - ولم أسمعه -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ينفض التراب عن عمار، ويقول: ((ويح ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث شعبة، عن أبي مسلمة: سمعت أبا نضرة يحدث، عن أبي سعيد ألخدري، قال: أخبرني من هو خير منى أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: ((بؤس ابن سمية، تقتلك فئة باغية)) .
وفي رواية له بهذا الإسناد تسمية الذي حدث أبا سعيد، وهو أبو قتادة.
وفي رواية له - أيضا - قال: أراه - يعني: أبا قتادة.
كذا قال أبو نضرة في روايته عن أبي سعيد، أن ذلك كان في حفر الخندق، والصحيح: أن ذلك كان في بناء المسجد.
وقد روى الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كنا نحمل اللبن لمسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنا نحمل لبنة لبنة، وكان عمار يحمل

(3/306)


لبنتين لبنتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أبشر عمار، تقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) ، عن أبي مصعب، عن الدراوردي.
وخرجه الترمذي عن أبي مصعب، لكنه اختصره، ولم يذكر فيه قصة بناء المسجد، وقال: حسن صحيح غريب من حديث العلاء.
وإسناد في الظاهر على شرط مسلم، ولكن قد أعله يحيى بن معين، بأنه لم يكن في كتاب الدراوردي، قال: وأخبرني من سمع كتاب العلاء - يعني: من الدراوردي - ليس فيه هذا الحديث. قال يحيى: والدراوردي حفظه ليس بشيء، كتابه أصح.
وهذا الحديث - أيضا - مما يدل على أن بناء المسجد الذي قيل لعمار فيه ذلك كان بعد فتح خيبر، لأن أبا هريرة أخبر أنه شهده.
وروي شهود أبي هريرة لبناء المسجد من وجه أخر ليس فيه ذكر عمار.
خرجه الإمام أحمد من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن ابن عبد الله ابن حنطب، عن أبي هريرة، أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم. قال: فاستقبلت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو

(3/307)


عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها شقت عليه، فقلت ناولنيها يا رسول الله،. قال: ((خذ غيرها يا أبا هريرة؛ فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة)) .
ولكن ابن حنطب، وهو: المطلب، ولا يصح سماعه من أبي هريرة.
وروى الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه يوم صفين: يا أبه، أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، وهم يبنون المسجد، والناس ينقلون لبنة لبنة، وعمار ينقل لبنتين لبنتين، وهو يوعك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انك لحريص على الأجر، وانك لمن أهل الجنة، وانك لتقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) بتمامه.
وخرجه الإمام أحمد والنسائي في ((الخصائص)) - مختصرا. والحاكم.
وفي إسناده اختلاف عن الأعمش.
وهو - أيضا - مما يدل على تأخر بناء المسجد حتى شهده عمرو بن العاص وابنه عبد الله.
وروى ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، قالت: لما

(3/308)


كان يوم الخندق، وجعل الناس يحملون لبنة لبنة، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين، حتى اغبر شعر صدره، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
خرجه [.........] .
وخرجه مسلم مختصرا، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمار: ((تقتله الفئة الباغية)) .
وذكر حفر الخندق في هذا الحديث فيه نظر، والصواب: بناء المسجد، يدل على ذلك وجهان:
أحدهما: أن حفر الخندق لم يكن فيه نقل لبن، إنما كان ينقل التراب، وإنما ينقل اللبن لبناء المسجد.
والثاني: أن حديث أم سلمة قد روي بلفظ أخر، أنها قالت: ما نسيت الغبار على صدر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يقول:
((اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة))
إذ جاء عمار فقال: ((ويحك - أو ويلك - يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .
وأم سلمة أين كانت من حفر الخندق؟ إنما كانت تشاهد بناء المسجد في المرة الثانية، لأن حجرتها كانت عند المسجد.
وقد اختلف في حديث: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) .

(3/309)


فذكر الخلال في كتاب ((العلل)) : ثنا إسماعيل الصفار: سمعت أبا أمية الطرسوسي يقول: سمعت في حلقة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة والمعيطي ذكروا: ((تقتل عمار الفئة الباغية)) ، فقالوا: ما هي حديث صحيح.
قال الخلال: وسمعت عبد الله بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: روي في عمار: ((تقتله الفئة الباغية)) ثمانية وعشرون حديثا، ليس فيها حديث صحيح.
وهذا الإسناد غير معروف، وقد روي عن أحمد خلاف هذا:
قال يعقوب بن شيبة الدسوسي في ((مسند عمار)) من ((مسنده)) : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمار: ((تقتلك الفئة الباغية)) فقال أحمد: كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قتلته الفئة الباغية)) . وقال: في هذا غير حديث صحيح، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكره أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا.
وقال الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) : سمعت أبا عيسى محمد بن عيسى العارض - وأثنى عليه - يقول: سمعت صالح بن محمد الحافظ - يعني: جزرة - يقول: سمعت يحيى بن معين وعلي بن المديني يصححان حديث الحسن، عن أمه، عن أم سلمة: ((تقتل عمارا الفئة الباغية)) .

(3/310)


وقد فسر الحسن البصري الفئة الباغية بأهل الشام: معاوية وأصحابه.
وقال أحمد: لا أتكلم في هذا، السكوت عنه أسلم.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بناء المسجد: ((ويح عمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)) هو من جنس الارتجاز كما كان يقول في بناء المسجد في أول أمره:
((اللهم أن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة))
ومثل ارتجازه عند حفر الخندق بقول ابن رواحة:
((اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا))
وروى محمد بن سعد: أبنا عبد الله بن نمير، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: لما بنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجده، جعل القوم يحملون، وجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل هو وعمار، فجعل عمر يرتجز، ويقول:
نحن المسلمون نبني المساجدا
وجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((المساجدا)) .
وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك، فقال بعض القوم: ليموتن عمار اليوم، فسمعهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنفض لبنته، وقال: ((ويحك)) - ولم يقل: ويلك - ((يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية)) .

(3/311)


وهذا مرسل.
وخرجه البزار من رواية شريك، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال له: ((تقتلك الفئة الباغية)) .
ثم قال: رواه أبو التياح، عن عبد الله بن أبي الهذيل - مرسلا، لم يقل: عن عمار.
قلت: وقد خرجه الطبراني بإسناد فيه نظر، عن حماد بن سلمة، عن أبي التياح، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبني المسجد، وكان عمار يحمل صخرتين، فقال: ((ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباغية)) .
والمرسل أشبه. والله أعلم.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) ، عن أبي جعفر الخطمي، أن عبد الله بن رواحه كان يقول وهم يبنون مسجد قباء:
أفلح من يعالج المساجدا
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((المساجدا)) .
يقرأ القرآن قائما وقاعدا.
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قاعدا)) .
ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((راقدا)) .
وفي هذا الارتجاز عند بناء المسجد فائدتان:
إحداهما: ما في هذا الكلام من الموعظة الحسنة، والحث على العمل، فيوجب ذلك للسامعين النشاط في العمل، وزوال ما يعرض للنفس من الفتور والكسل عند سماع ثواب العمل وفضله، أو الدعاء لعامله بالمغفرة.

(3/312)


والثانية: أن المتعاونين على معالجة الأعمال الشاقة كالحمل والبناء ونحوها قد جرت عادتهم بالاسترواح إلى استماع بعضهم إلى ما ينشده بعضهم، ويجيبه الأخر عنه، فإن كل واحد منهم يتعلق فكره بما يقول صاحبه، ويطرب بذلك، ويجيل فكره في الجواب عنه بمثله، فيخف بذلك على النفوس معالجة تلك الأثقال، وربما نسي ثقل المحمول بالاشتغال بسماع الارتجاز، والمجاوبة عنه.
ويؤخذ من هذا أنواع من الاعتبار:
منها: حاجة النفس إلى التلطف بها في حمل أثقال التكليف، حتى تنشط للقيام بها، ويهون بذلك عليها الأعمال الشاقة على النفس، من الطاعات.
ومنها: احتياج الإنسان في حمل ثقل التكليف إلى من يعونه على طاعة الله، وينشط لها بالمواعظ وغيرها كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
سئلت أم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر. قالت: ونظر إلى ثورين يخدان في الأرض، ثم استقلا بعملهما، فتعب أحدهما، فقام الأخر. فقال أبو الدرداء: في هذا تفكر استقلا بعملهما ما اجتمعا، وكذلك المتعاونون على ذكر الله - عز وجل -.
خرجه ابن أبي الدنيا في ((كتاب التفكر)) .

(3/313)


64 - باب
الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد

(3/314)


448 - حدثنا قتيبة: ثنا عبد العزيز: حدثني أبو حازم، عن سهل، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى امرأة: ((مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا اجلس عليهن)) .

(3/314)


449 - حدثنا خلاد: ثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر، أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال: ((إن شئت)) ، فعملت المنبر.
في هذين الحديثين كليهما: أن النجار الذي صنع المنبر كان غلاما لامرأة.
وحديث سهل مختصر، قد أتمه البخاري في مواضع، وقد سبق بتمامه في ((باب: الصلاة في المنبر والسطوح)) ، وفيه: أن سهلا سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم به مني، هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة - وذكر الحديث.
وخرج ابن سعد وغيره من حديث عباس بن سهل بْن سعد، عن أبيه، أنه ذكر المنبر، فقال: لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك

(3/314)


النجار إلى الخانقين، فقطعت هذا المنبر من أثلة.
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب إلى
جذع، فمر رومي فقال: لو دعاني محمد لجعلت له ما هو أرفق من هذا، فدعي
لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل له المنبر أربع مراق - وذكر الحديث.
وخرج ابن سعد عن الواقدي، بإسناد له، عن أبي هريرة - وبعض الحديث بإسناد أخر -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: ((إن القيام قد شق علي)) ، فقال له تميم الداري: إلا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين في ذلك، فرأوا إن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، أن لي غلاما - يقال له: كلاب - أعمل الناس، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مره أن يعمله)) ، فأرسله إلى أثلة بالغابة، فقطعها، ثم عمل منها درجتين، ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم - وذكر حديثا طويلا.
وإسناده لا يعتمد عليه.
وخرج أبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي داود، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك يا رسول الله منبرا يجمع - أو يحمل - عظامك؟ قال: ((بلى)) ، فاتخذ له منبرا مرقاتين.

(3/315)


وخرج الطبراني من رواية شيبة أبي قلابة عن الجريري، عن أبي نضرة عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب إلى جذع، فقيل له: أن الإسلام قد انتهى، وكثر الناس، فلو أمرت بصنعة شيء تشخص عليه، فقال لرجل: ((أتصنع المنبر؟)) قال: نعم. قال: ((ما اسمك؟)) قال: فلان. قال: ((لست صاحبه)) ، فدعا أخر، فقال: ((أتصنع المنبر؟)) فقال مثل مقالته، ثم دعا أخر، فقال: نعم - إن شاء الله - قال: ((ما اسمك؟)) قال: إبراهيم. قال: ((خذ في صنعته)) .
وخرجه عبد بن حميد في ((مسنده)) عن علي بن عاصم، عن الجريري عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.
وروى عبد الرزاق، عن رجل من أسلم - وهو إبراهيم بن أبي يحيى -، عن صالح مولى التوأمة، أن باقوم مولى العاص بن أمية صنع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منبره من طرفاء، ثلاث درجات.
ورواه محمد بن سليمان بن مسمول، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن صالح مولى التوأمة: حدثني باقوم مولى سعيد بن العاص، قال: صنعت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منبرا من طرفاء الغابة، ثلاث درجات: القعدة، ودرجتيه.
وكلا الإسنادين واه جدا.

(3/316)


وقد روي عن ابن سيرين، أن باقوم الرومي أسلم، فلم يدر به سهيل بن عمرو، ومات ولم يدع وارثا، فدفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميراثه إلى سهيل.
ذكر ذلك ابن منده في كتاب ((معرفة الصحابة)) .
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: الغلام اسمه: مينا. ومولاته: لا نعلم أحدا سماها.
ثم رواه بإسناده، عن هارون بن موسى، ثنا محمد بن يحيى، قال: قال إسماعيل بن عبد الله: الذي عمل المنبر: غلام الأنصارية، واسمه: مينا.
ومما يدخل في هذا الباب: حديث قيس بن طلق، عن أبيه، في استعانة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في بناء المسجد في عمل الطين، وقد سبق في الباب الماضي.

(3/317)


65 - باب
من بنى مسجدا

(3/318)


450 - حدثنا يحيى بن سليمان: ثنا وهب: أخبرني عمرو، أن بكيرا حدثه، أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه، أنه سمع عبيد الله الخولاني، أنه سمع عثمان بن عفان يقول - عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من بنى مسجدا)) - قال بكير: حسبته أنه قال:
((يبتغى به وجه الله)) - بنى الله له مثله في الجنة)) .
لما أراد عثمان - رضي الله عنه - هدم مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعادة بنائه على وجه أحسن من بنائه الأول كره الناس لذلك لما فيه من تغير بناء المسجد عن هيئة بنيانه في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن عمر لما بناه أعاد بناءه على ما كان عليه في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما وسعه وزاد فيه، فلهذا أكثر الناس القول على عثمان.
وخرج مسلم من حيث محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال: سمعت

(3/318)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
((من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله)) .
وقد اتفق صاحبا ((الصحيحين)) على تخريج حديث عثمان من رواية عبيد الله الخولاني عنه؛ لاتصال إسناده، وتصريح رواته بالسماع.
وتفرد مسلم بتخريج حديث محمود بن لبيد عن عثمان.
وخرجه الترمذي وصححه، وقال: محمود بن لبيد أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
يشير بذلك إلى أنه لا يستنكر من عثمان؛ فإن له رؤية من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف ينكر أن يروي عن عثمان؟
وقد اختلف فِي صحبة محمود بن لبيد، وقد أنكر ابن المديني حَدِيْث محمود بن لبيد، عَن عُثْمَان، وقال: في إسناده بعض الشيء، ومحمود بن لبيد أدرك عثمان.
ومسلم ومن وافقه يكتفون في اتصال الإسناد بإمكان اللقى، وغيرهم يعتبر ثبوت اللقى.
وقد ذكر الهيثم بن كليب في ((مسنده)) عن صالح بن محمد الحافظ، أنه قال: لا احسب محمود بن لبيد سمع من عثمان شيئا.

(3/319)


وخرجه ابن جرير الطبري من رواية محمود بن لبيد، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وليس ذكر: ((أبان)) في إسناده بمحفوظ.
وقد ذكرنا في الباب الماضي من غير وجه، عن عثمان، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يوسع في المسجد، وضمن له بيتا في الجنة؛ فلهذا - والله أعلم - ادخل عثمان هدم المسجد وتجديد بنيانه على وجه هو أتقن من البيان الأول مع التوسعة فيه في قوله: ((من بنى مسجدا لله بنى الله له بيتا في الجنة)) .
وهذا يرجع إلى قاعدة الجزاء على العمل من جنسه، كما أن من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منه عضوا منها من النار، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الاخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة، والراحمون يرحمهم الرحمن.
ومثل هذا كثير، فمن بنى لله مسجدا يذكر فيه اسم الله في الدنيا بنى الله له في الجنة بيتا.
وأما قوله: ((مثله)) ، فليس المراد أنه على قدره، ولا على صفته في بنيانه، ولكن المراد - والله أعلم - أنه يوسع بنيانه بحسب توسعته، ويحكم بنيانه بحسب إحكامه، لا من جهة الزخرفة ويكمل انتفاعه بما يبنى له في

(3/320)


الجنة بحسب كمال انتفاع الناس بما بناه لهم في الدنيا، ويشرف على سائر بنيان الجنة كما تشرف المساجد في الدنيا على سائر البنيان، وإن كان لا نسبة لما في الدنيا إلى ما في الآخرة، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع)) .
وقد دل على ما قلناه: ما خرجه الإمام أحمد من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من بنى لله مسجدا في الدنيا فإن الله عز وجل يبني له بيتا أوسع منه في الجنة)) .
وخرجه بمعناه من حديث حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن حديث واثلة بن الاسقع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((من بنى مسجدا يصلى فيه بنى الله له في الجنة أفضل منه)) .
وخرج البزار والطبراني من حديث أبي هريرة - مرفوعا - ((من بنى لله بيتا يعبد الله فيه من حلال بنى الله له بيتا في الجنة من در وياقوت)) .

(3/321)


وقيل: أن الصحيح وقفه على أبي هريرة.
وأما اللفظة التي شك فيها بكير بن الاشج، وهي قوله: ((يبتغي به وجه الله)) ، فهذا الشرط لا بد منه، ولكن قد يستفاد من قوله: ((من بنى مسجدا لله)) أنه أريد به: من بنى مسجدا خالصا لله.
وقد روى المثنى بن الصباح؛ عن عطاء، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من بنى مسجدا لا يريد به رياء ولا سمعة بنى الله له بيتا في الجنة)) .
خرجه الطبراني.
والمثنى، فيه ضعف.
وبكل حال؛ فالإخلاص شرط لحصول الثواب في جميع الأعمال؛ فإن الأعمال بالنيات، وإنما لا مريء ما نوى، وبناء المساجد من جملة الأعمال، فإن كان الباعث على عمله ابتغاء وجه الله حصل له هذا الأجر، وإن كان الباعث عليه الرياء والسمعة أو المباهاة فصاحبه متعرض لمقت الله وعقابه، كسائر من عمل شيئا من إعمال البر

(3/322)


يريد به الدنيا كمن صلى يرائي، أو حج يرائي، أو تصدق يرائي.
ولكن روى عن قتادة، أنه قال: كل بناء رياء فهو على صاحبه لا له، ألا من بنى المساجد رياء فهو لا عليه ولا له.
خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عنه.
وهذا فيه نظر، ولو كان النفع المتعدي يمنع من عقاب المرائي به لما عوقب العالم والمجاهد والمتصدق للرياء وهم أول من تسعر به النار يوم القيامة.
وأما من بنى المساجد من غير رياء ولا سمعة، ولم يستحضر فيه نية الإخلاص، فهل يثاب على ذلك، أم لا؟ فيه قولان للسلف.
وقد روى عن الحسن البصري وابن سيرين، أنه يثاب على إعمال البر والمعروف بغير نية، لما من النفع المتعدي.
وقد سبق ذكر ذلك في أواخر ((كتاب الإيمان)) . والله أعلم.
وبناء المساجد المحتاج إليها مستحب، وعده بعض أصحابنا من فروض الكفايات، ومراده: أنه لا يجوز أن يخلي مصر أو قرية يسكنها المسلمون من بناء مسجد فيها.

(3/323)


ويدل لهذا: مما روى موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن زياد أبي حمزة الحبطي، عن أبي شداد - رجل من أهل دما -، قال: جاءنا كتاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قطعة ادم: ((من محمد النبي إلى أهل عمان، سلام: أما بعد؛ فأقروا بشهادة أن لا اله إلا
الله، وأني رسول الله، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد كذا وكذا، والا غزوتكم)) .
خرجه البزار والطبراني.
وخرجه أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) - مختصرا -، وعنده: عبد العزيز بن نزار الحبطي.
وقد سماه ابن أبي حاتم: عبد العزيز بن زياد الحبطي. وسماه البخاري: في ((تاريخه)) : عبد العزيز بن شداد.
وكانه وهم، ولا يعرف بغير هذا الحديث.

(3/324)


66 - باب
يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد

(3/325)


451 - حدثنا قتيبة: ثنا سفيان، قال قلت لعمرو: أسمعت جابر بن عبد الله يقول: مر رجل في المسجد، ومعه سهام، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((امسك
بنصالها)) ؟ قال: نعم.
وخرجه في موضع أخر من كتابه بلفظ أخر، وهو: أن رجلا مر في المسجد باسهم، قد أبدى نصولها، فأمره أن يأخذ بنصولها، لا تخدش مسلما.
خرجه مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها الا وهو اخذ بنصولها.
وقد خرج البخاري في الباب الذي يلي هذا: حديث موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ

(3/325)


على نصالها، لا يعقر بكفه مسلما)) .
وخرجه مسلم - أيضا.
وفي الحديث: ذكر علة ذلك، وهو: خشية أن تصيب مسلما من حيث لا يشعر صاحبها، وسوى في ذلك بين السوق والمسجد؛ فان الناس يجتمعون في الأسواق والمساجد فليس للمسجد خصوصية بذلك حينئذ. لكن؛ قَدْ يقال: أن المسجد يختص بقدر زائد عَن السوق، وَهُوَ: أنه قَدْ روي النهي عن إشهار السلاح فيه ونثر النبل.
خرجه ابن ماجه من رواية زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -: ((خصال لا ينبغين في المسجد: لا يتخذ طريقا، ولا يشهر فيه سلاحا، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيئ، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه من احد، ولا يتخذ سوقا)) .
ورفعه منكر وزيد بن جبيرة ضعيف جدا، متفق على ضعفه.

(3/326)


وخرج - أيضا -: النهي عن سهل السيوف في المسجد، من حديث واثلة - مرفوعا - بإسناد ضعيف جدا.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: لا يسل السيف في المسجد.
خرجه وكيع في كتابه.
وقال أصحابنا: لا يشهر السلاح في المسجد.

(3/327)


67 - باب
المرور في المسجد

(3/328)


452 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا عبد الواحد: ثنا أبو بردة بن عبد الله، قال: سمعت أبا بردة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلما)) .
أبو بردة بن عبد الله، هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة.
وقد ذكرنا هذا الحديث في الباب الماضي، وإنما أعاده هاهنا: لأنه استنبط منه جواز المرور في المسجد، وقد ذكرنا حكمه في ((باب: الصلاة إذا دخل المسجد)) .
وقد دل على جوازه - أيضا - قول الله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] ، على قول من تأول النهي: على قربان موضع الصلاة، وهو المسجد، وعابر السبيل: بالمجتاز، وقد سبق ذكره - أيضا.

(3/328)


68 - باب
الشعر في المسجد

(3/329)


453 - حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع: ابنا شعيب، عن الزهري: اخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع حسان بن ثابت يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله، هل سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس)) ؟ قال أبو هريرة: نعم.
ليس في هذه الرواية التي خرجها البخاري هاهنا إنشاد حسان في المسجد، إنما فيه ذكر مدح حسان على أجابته عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء له على ذلك، وكفى بذلك على فضل شعره المتضمن للمنافحة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرد على أعدائه والطاعنين عليه، والمساجد لا تنزه عن مثل ذلك.
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن من الشعر حكمة)) .
وقد خرجه البخاري في موضع أخر من حديث أبي بن كعب - مرفوعا.
وخرج - أيضا - من حديث البراء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحسان: ((اهجهم - او هاجمهم - وجبريل معك)) .

(3/329)


وإنما خص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل وهو روح القدس بنصرة من نصره ونافح عنه؛ لان جبريل صاحب وحي الله إلى رسله، وَهُوَ يتولى نصر رسله وإهلاك أعدائهم المكذبين
لهم، كما تولى إهلاك قوم لوط وفرعون في البحر.
فمن نصر رسول الله وذب عنه أعداءه ونافح عنه كان جبريل معه ومؤيدا له كما قال لنبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
وقد خرج البخاري في بدء الخلق عن ابن المديني، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: مر عمر في المسجد وحسان ينشد، فقال كنت انشد فيه، وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((اجب عني، اللهم أيده بروح القدس)) ؟ قال: نعم.
وهذا نوع إرسال من ابن المسيب؛ لأنه لم يشهد هذه القصة لعمر مع حسان عند أكثر العلماء الذين قالوا لم يسمع من عمر ومنهم من اثبت سماعه منه شيئا يسيرا.

(3/330)


وقد خرج هذا الحديث مسلم، عن غير واحد، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن عمر مر بحسان - فجعل الحديث كله عن أبي هريرة متصلا.
ورواية ابن المديني اصح، وكذا رواه جماعة عن الزهري.
وروى ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما، يفاخر عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قالت: ينافح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر - او ينافح - عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
خرجه الترمذي.
وخرجه - أيضا - في طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.
وقال: حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد.
يعني أنه تفرد به.

(3/331)


وخرجه أبو داود من الطريقين - أيضا -.
وكذلك خرجه الإمام أحمد، وعنده: ((ينافح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشعر)) .
وذكره البخاري في موضع اخرمن صحيحه - تعليقا -، فقال: وقال ابن أبي الزناد.
وخرجه الطبراني، وزاد في حديثه: ((فينشد عليه الأشعار)) .
وروى سماك، عن جابر بن سمرة، قَالَ: شهدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه النسائي، ولفظه: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه، ويذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر، ويضحكون، ويبتسم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه مسلم، إلا أنه لم يذكر الشعر.
وقد روى ما يخالف هذا وهو النهي عن إنشاد الأشعار في المساجد:
فروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى

(3/332)


أن ينشد في المسجد الأشعار - في حديث ذكره.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، قال: حديث حسن.
وخرج أبو داود نحوه من حديث حكيم بن حزام، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد فيه نظر وانقطاع.
وروى أبو القاسم البغوي في معجمه من طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام، عن أبيه، قال: أتى ابن الحمامة السلمي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد؟ فَقَالَ: أني أثنيت عَلَى ربي تعالى ومدحتك. قَالَ:
((امسك عليك)) ، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج به من المسجد، فقال: ((ما أثنيت به على ربك فهاته، وأما مدحي فدعه عنك)) ، فانشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً، فأمره أن يعطيه شيئا، ثم اقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الناس، فوضع يده على حائط المسجد، فمسح به وجهه وذراعيه، ثم دخل.

(3/333)


وهذا مرسل، وفيه جواز التيمم بتراب جدار المسجد، وهو رد على من كرهه من متأخري الفقهاء، وهو من التنطع والتعمق.
وروى وكيع في كتابه عن مبارك بن فضالة، عن ظبيان بن صبيح الضبي، قال: كان ابن مسعود يكره أن ترفع الأصوات في المساجد، أو تقام فيها الحدود، أو ينشد فيها الأشعار، أو تنشد فيها الضالة.
وروى أسد بن موسى في كتاب الورع: ثنا ضمرة، عن ابن عطاء الخراساني، عن أبيه، قال: كان أهل العلم يكرهون أن ينشد الرجل ثلاثة أبيات من شعر في المسجد حتى يكسر الثالث.
وهذا تفريق بين قليل فيرخص فيه، وهو البيت والبيتان، وبين كثيرة، وهو ثلاثة أبيات فصاعدا.
وقال ابن عبد البر: إنما ينشد الشعر في المسجد غباً من غير مداومة. قال: وكذلك كان حسان ينشد.

(3/334)


وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد، وحمل بعضهم حديث عمرو بن شعيب على أشعار الجاهلية، وما لا يليق ذكره في المساجد، ولكن الحديث المرسل يرد ذلك.
والصحيح في الجواب: أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها وصحتها.
ونقل حنبل، عن أحمد، قال: مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة لا ينشد فيه الشعر، ولا يمر فيه بقطع اللحم، يجتنب ذلك كله، كرامة لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/335)


69 - باب
أصحاب الحراب في المسجد

(3/336)


454 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: اخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما في باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني بردائه، انظر إلى لعبهم.

(3/336)


455 - زاد إبراهيم بن المنذر: ثنا ابن وهب: اخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والحبشة يلعبون بحرابهم.
وخرجه في كتاب: المناقب من طريق عقيل، عن ابن شهاب، ولفظه: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني وان أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعهم؛ أمنا بني أرفدة)) يعني: من الأمن.
وإنما ذكر هنا رواية إبراهيم بن المنذر تعليقا؟ لزيادة في الحديث: ذكر الحراب.

(3/336)


وقد خرجه الإمام أحمد، عن عثمان بن عمر، عن يونس بهذا الإسناد، وقال فيه: ((يلعبون بحرابهم)) ولم يذكر: ((في المسجد)) .
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، قال فيه:
((والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
وقد خرجه البخاري في ((عشرة النِّسَاء)) من رواية معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: ((كان الحبشة يلعبون بحرابهم، فيسترني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو)) .
كذا خرجه من رواية هشام بن يوسف، عن معمر.
وقد روي عن عبد الرزاق، عن معمر، وفيه ذكر الحراب في المسجد.
وعند الزهري في هذا الحديث إسناد أخر: رواه عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، خرجه البخاري في ((كتاب: السير)) ومسلم - أيضا - من رواية معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: بينا الحبشة يلعبون عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحرابهم دخل عمر، فأهوى إلى الحصى فحصبهم بها، فقال: ((دعهم يا عمر)) .
قال البخاري: وزاد علي: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر: ((في

(3/337)


المسجد)) .
فجمع عبد الرزاق في روايته لهذا الحديث من هذا الوجه - أيضا - بين ذكر الحراب والمسجد.
وخرج - أيضا - في العيدين وفي ((السير)) من رواية أبي الأسود، عن عروة عن عائشة، قالت: كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سالت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإما قال: تشتهين أن تنظري؟)) قلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: ((دونكم، بني أرفدة)) ، حتى إذا مللت قال: ((حسبك؟)) قلت نعم. قال: ((فاذهبي)) .
وخرجه مسلم - أيضا.
وفي هذه الرواية زيادة: ((الدرق)) ، وفيها زيادة: أن ذلك كان يوم عيد وليس فيه ذكر المسجد.
وخرج مسلم من حديث جرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاء حبش يزفون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعت راسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم.
وخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ومحمد بن بشر، عن هشام ولم يذكرا: ((في المسجد)) .

(3/338)


وخرج مسلم - أيضا - من طريق ابن جريج: أخبرني عطاء: أخبرني عبيد
بن عمير، قال: أخبرتني عائشة، أنها قالت للعابين: وددت أني أراهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقيه، وهم يلعبون في المسجد. قال عطاء: فرس او حبش. قال: وقال لي ابن عتيق: بل حبش.
وقد رَوَى أن ذَلِكَ العيد كَانَ يوم عاشوراء؛ فإنه كَانَ عيداً لأهل الجَاهِلِيَّة ولأهل الكتاب.
فروى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجه بن زيد، عن أبيه، أن يوم عاشوراء كان يوما تستر فيه الكعبة، وتقلس فيه الحبشة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
خرجه الطبراني.
والتقلس: اللعب بالسيوف ونحوها من آلات الحرب.
لكن خرج الإمام أحمد، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانت الحبشة يلعبون يوم عيد، فدعاني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكنت أطلع بين عاتقه فأنظر إليه، فجاء أبو بكر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعها؛ فان لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا)) .
وهذا يدل على أنه كان أحد عيدي المسلمين.
وخرج - أيضا - من حديث أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة،

(3/339)


عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يومئذ: ((ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، أني أرسلت بحنيفية سمحة)) .
والمقصود من هذا الحديث: جواز اللعب بآلات الحرب في المساجد؛ فان ذلك من باب التمرين على الجهاد، فيكون من العبادات.
ويؤخذ من هذا: جواز تعلم الرمي ونحوه في المساجد، ما لم يخشى الأذى بذلك لمن في المسجد، كما تقدم في الأمر بالإمساك على نصال السهم في المسجد لئلا تصيب مسلما، ولهذا لم تجر عادة المسلمين بالرمي في المساجد.
وقد قال الأوزاعي: كان عمر بن عبد العزيز يكره النصال بالعشي، فقيل له: لم؟ قال: لعمارة المساجد.
ولكن أن كان مسجد مهجور ليس فيه أحد، أو كان المسجد مغلقا ليس فيه إلا من يتعلم الرمي فلا يمنع جوازه حينئذ. والله أعلم.
وحكى القاضي عياض، عن بعض شيوخه، أنه قال: إنما يمنع في المساجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس وتكتسب به، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة، وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به. والله أعلم.

(3/340)


70 - باب
ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد

(3/341)


456 - حدثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي. وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي - وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا - فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرته ذلك، فقال: ((ابتاعيها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق)) ، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر - وقال سفيان مرة: فصعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر - فقال: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس فِي كِتَاب الله فليس لَهُ، وان اشترط مائة مرة)) .
ورواه مَالِك، عَن يَحْيَى، عَن عمرة، أن بريرة – ولم يذكر: ((صعد المنبر)) .
قال علي: قال يحيى وعبد الوهاب، عن يحيى عن عمرة - نحوه.
وقال جعفر بن عون، عن يحيى: سمعت عمرة: سمعت عائشة.

(3/341)


حاصل ما ذكره من الاختلاف في إسناد هذا الحديث: أن ابن عيينة رواه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، فوصله كله.
ورواه مالك في ((الموطإ)) ، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، أن بريرة أتت عائشة - فذكر الحديث، ولم يسند متنه عن عائشة، إلا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: ((اشتريها وأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق)) ، ولم يذكر صعوده على المنبر.
وقد رواه بعضهم عن مالك، فأسنده كله عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة، كما رواه سفيان، وليس بمحفوظ عن مالك.
وذكر البخاري، عن ابن المديني، أن يحيى - وهو: ابن سعيد - وعبد الوهاب - وهو: الثقفي - روياه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة - نحوه.
والظاهر: أنه أراد أنهما لم يذكرا عائشة في أوله كمالك.
وإن جعفر بن عون رواه عن يحيى بن سعيد: سمعت عمرة، قالت: سمعت عائشة، فصرحت بسماعها من عائشة الحديث كله، وهذا يقوي رواية ابن عيينة.
لكن خرجه الإمام أحمد، عن جعفر بن عون، ولم يذكر فيه السماع.
وفي حديث ابن عيينة شك منه في لفظتين:
إحداهما: هل قال في الحديث: ((ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر)) ؟ أو قال: ((فصعد على المنبر)) ؟

(3/342)


وهذا اختلاف قريب؛ لأن المعنى متقارب، غير أن رواية: ((قام على المنبر)) تقتضي أنه خطب بذلك قائما، وليس في مجرد صعوده ما يقتضي قيامه.
والثانية: شك سفيان: هل في الحديث: أن أهل بريرة قالوا لعائشة: ((أن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا)) ؟ أو قالوا: ((إن شئت أعطيتها ما بقي)) بدل: ((أعتقتها)) ؟
وقد خرج ابن خزيمة في مصنف له مفرد في الكلام على حديث بريرة: هذا الحديث، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، وقال فيه: إنهم قالوا لعائشة: ((إن شئت فأعطي ما بقي، ويكون لنا الولاء)) .
وقال: هذه اللفظة: ((فأعطي ما بقي)) وهم؛ ثنا بهذا الخبر عبد الله بن محمد، عن الزهري، عن سفيان، ولم يذكر هذه اللفظة، ورواه الثقفي عن يحيى، وليس فيه هذه اللفظة.
قلت: قد تبين برواية البخاري، عن ابن المديني، عن سفيان، أنه كان يتردد في هذه اللفظة، ولا يجزم بها، وقد رواه الحميدي وغيره عن سفيان، ولم يذكروها، إنما ذكروا: لفظة العتق.

(3/343)


ومقصود البخاري بتخريج الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب على المنبر في مسجده، وذكر في خطبته أحكام البيع والشراء، فدل على جواز مثل ذلك في المسجد.
وقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قصة بريرة - أيضا -، وقال في حديثه: فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله)) ؟ - الحديث.
وقد خرجه البخاري في موضع أخر.
وظاهر هذا: يدل على أنه خطب بذلك على المنبر.
وذكر البيع والشراء يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذكرهما على وجه الإفاضة في حديث الدنيا أو في التجارة، فهذا من مباح الكلام في غير المسجد، وقد اختلف في كراهة مثله في المسجد، فكرهه طائفة من العلماء.
قال أصحابنا، منهم ابن بطة وغيره: يكره الحديث فيه، إلا لمصلحة في الدين.
قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى لرجل إذا دخل المسجد إلا أن يلزم نفسه الذكر والتسبيح؛ فإن المساجد إنما بنيت لذكر الله عز وجل.
وروى حماد بن سلمة في ((جامعه)) : ثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن عمر بن الخطاب سمع ناسا يذكرون تجاراتهم

(3/344)


في المسجد والدنيا، فقال: إنما بنيت المساجد لذكر الله، فإذا أردتم أن تذكروا تجاراتكم فاخرجوا إلى البقيع.
وقال سعيد بن عبد العزيز: رأى أبو الدرداء رجلا يقول لصاحبه في المسجد: اشتريت وسق حطب بكذا وكذا. فقال أبو الدرداء: أن المساجد لا تعمر لهذا.
وقال سفيان: عن رجل، عن الحسن: يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم.
وكره أبو مسلم الخولاني وغيره من السلف.
وروي عن عمر، أنه بنى البطحاء خارج المسجد، وقال: من أراد أن يلغط فليخرج إليها.
ورخص أصحاب الشافعي في التحدث بأمور الدنيا المباحة في المساجد، وأن حصل معه ضحك.
واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام. قال: وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختم مجالسه بكفارة المجلس، وأمر أن تختم المجالس به، وأخبر أنه إن كان المجلس لغوا كانت كفارة له، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، فإذا وقع اللغو في المساجد ثم ختم المجلس بكفارته، فهو شبيه

(3/345)


بالبصاق في المسجد ودفنها بعده، كما سبق.
الثاني: أن يكون ذكر البيع والشراء على وجه الإخبار عن أحكامهما الشرعية، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز، فهذا من نوع تعليم العلم، وهو من أجل القرب وأفضلها مع صلاح النية فيه.
فإن أقترن بذلك إرادة الإنكار على من باع بيعا غير سائغ، أو شرط في بيعه شرطا غير سائغ، فقد اجتمع فيه حينئذ أمران: تعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومثل هذا إذا أعلن به على المنابر في المساجد كان أبلغ في إشهاره ونشره وظهوره وارتداع المخالفين له، وهذا كله من أفضل القرب والطاعات.
وحينئذ؛ ففي دخول هذا الحديث في تبويب البخاري نظر، فإن كان قد أشار إلى الاستدلال بهذا الحديث على جواز البيع والشراء في المسجد فهو أبعد وأبعد.
وأما عقد البيع والشراء في المسجد: فقد ورد النهي عنه من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه.
وخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من

(3/346)


حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)) .
وقد روي، عن ابن ثوبان - مرسلا، وهو أصح عند الدارقطني.
وحكى الترمذي في ((جامعه)) قولين لأهل العلم من التابعين في كراهة البيع في المسجد.
والكراهة قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو عند أصحابنا كراهة تحريم، وعند كثير من الفقهاء كراهة تنزيه.
وللشافعي قَوْلِ: أنه لا يكره، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء وغيره.
واختلف أصحابنا في انعقاد البيع في المسجد على وجهين.
وفرق مالك بين اليسير والكثير، فكره الكثير دون اليسير، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة نحوه.

(3/347)


71 - باب
التقاضي والملازمة في المسجد

(3/348)


457 - حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عثمان بن عمر: أبنا يونس، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب، أنه تقاضي ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: ((يا كعب!)) ، قال: لبيك يا رسول الله. قال: ((ضع من دينك هذا)) . وأومأ إليه، أي الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: ((قم فاقضه)) .
مقصود البخاري: الاستدلال بهذا الحديث على جواز تقاضي الغريم لغريمه في المسجد، ومطالبته بدينه، وملازمته له لطلب حقه؛ فان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بذلك وسمعه ولم ينكره.
وهذا مما يعتضد به من يجيز البيع والشراء في المسجد، كما دل عليه تبويب البخاري في الباب الماضي.
ومن كره البيع، فرق بينه وبين التقاضي بأن البيع في المسجد ابتداء لتحصيل المال فيه، وذلك يجعل المسجد كالسوق المعد للتجارة، واكتساب الأموال، والمساجد لم تبن لذلك، ولهذا قال عطاء بن يسار وغيره لمن

(3/348)


رأوه يبيع في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فهذا سوق الآخرة.
أما تقاضي الدين، فهو حفظ مال له، وقد لا يتمكن من مطالبته إلا في المسجد، فهو في معنى حفظ ماله من الذهاب، وفي معنى التحاكم إلى الحاكم في المسجد، كما سبق ذكره.
وممن رخص في المطالبة لغريمه في المسجد: عطاء وابن جريج.
وفي إشارة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، وإيمائه إليه، أن يضع الشطر: دليل على أن إشارة القادر على النطق في الأمور الدينية مقبولة كالفتيا ونحوها، وقد سبق ذكر ذلك في ((كتاب: العلم)) .
ولم يكن هذا من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكما؛ لأنه لم يستوف شرائط الحكم من ثبوت الدين ونحوه، وإنما كان على وجه الإصلاح. والله أعلم.

(3/349)


72 - باب
كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان

(3/350)


458 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رجلا أسود - أو أمرأة سوداء - كان يقم المسجد، فمات، فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه، فقالوا: مات. فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره)) - أو ((على قبرها)) - فأتى قبره فصلى عليها)) .
فيه: دليل على أن المسجد حسن مندوب إليه؛ فان هذا الذي كان يقم المسجد في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن حاله يخفى عليه.
والقم: هو إخراج القمامة، وهي الزبالة.
وقد روي من وجوه أخر أنها كانت امرأة، من غير شك:
فروي إسماعيل بن أبي أويس: حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: كانت سوداء تلتقط الخرق والعيدان من المسجد، فسأل عنها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل: ماتت من الليل، ودفنت، وكرهنا أن نوقظك، فذهب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قبرها، وصلى عليها، وقال: ((إذا مات أحد من المسلمين فلا تدعوا أن تؤذنوني به)) .

(3/350)


وروى ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، قال: كانت سوداء تقم المسجد، فتوفيت ليلا، فلما أصبح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بموتها، فقال: ((ألا آذنتموني بها؟)) فخرج بأصحابه، فوقف على قبرها، فكبر عليها والناس خلفه، فدعا لها، ثم انصرف.
خرجه ابن ماجه.
وقد روي: أن هذه المرأة يقال لها: أم محجن:
فروى محمد بن حميد الرازي: ثنا مهران بن أبي عمر، عن أبي سنان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على قبر حديث عهد بدفن، ومعه أبو بكر وعمر، فقال: ((قبر من هذا؟)) قال أبو بكر: هذه - يا رسول الله - أم محجن، كانت مولعة بأن تلتقط الأذى من المسجد. قال: ((ألا آذنتموني؟)) قالوا: كنت نائما، فكرهنا أن نجهدك. قال: ((فلا تفعلوا؛ فإن صلاتكم على موتاكم تنور لهم في قبورهم)) قال: فصف بأصحابه؛ فصلى عليها.
وفي هذا الإسناد ضعف.
وروى أبو الشيخ الأصبهاني في ((كتاب ثواب الأعمال)) بإسناد له، عن عبيد بن مرزوق، قال: كانت بالمدينة إمرأة يقال لها: أم محجن، تقم

(3/351)


المسجد، فماتت، فلم يعلم بها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمر على قبرها، فقال: ((ما هذا القبر؟)) قالوا: أم محجن. فقال: ((التي كانت تقم المسجد؟)) قالوا: نعم. فصف الناس، وصلى عليها، ثم قال: ((أي العمل وجدت أفضل؟)) قالوا: يا رسول الله، أتسمع؟ قال: ((ما أنتم بأسمع منها)) ، فذكر أنها أجابته: قم المسجد.
وهذا مرسل غريب.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث الأمر باتخاذ المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب.
وروى ابن جريج، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((عرضت علي أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)) .
خرجه أبو داود والترمذي.
والمطلب لم يسمع من أنس -: قاله ابن المديني وغير واحد. وابن جريج، قال الدارقطني: لم يسمع من المطلب. قال: ويقال: أنه كان يدلسه عن ابن أبي سبرة وغيره من الضعفاء.
وكنس المساجد وإزالة الأذى عنها فعل شريف، لا يأنف منه من يعلم آداب الشريعة، وخصوصا المساجد الفاضلة، وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/352)


رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده، وقد سبق هذا الحديث.
وروى وكيع: ثنا كثير بن زيد، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن عمر أتى مسجد قباء على فرس له، فصلى فيه ركعتين، ثم قال: يا أوفى، ائتني بجريدة، فأتاه بجريدة، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كسحه.
وقال أبو نعيم الفضل: ثنا أبو عاصم الثقفي، قال: كنت أمشي أنا والشعبي في المسجد، فجعل يطأطئ رأسه، فقلت: ماذا تأخذ؟ قَالَ: المشاط والصوف.

(3/353)


73 - باب
تحريم تجارة الخمر في المسجد

(3/354)


459 - حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المسجد، فقرأهن على الناس، ثم حرم تجارة الخمر.
ذكر الخمر بالتحريم - إما لشربه أو للتجارة فيه -: من جملة تبليغ دين الله وشرعه؛ وذلك لأنه تصان عنه المساجد؛ فأن الله ذكر في كتابة الذي يتلى في الصلوات في المساجد: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، كما ذكر: الزنا والربا وسائر المحرمات من الشرك والفواحش، ولم يزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتلو ذلك في المسجد في الصلوات وغيرها، ولم يزل يذكر تحريم ما حرمه الله في المساجد وفي خطبه على المنبر، وهذا الباب مما لا تدعو الحاجة إليه؛ لظهوره.
ولكن يشكل في هذا الحديث أمران:
أحدهما: أن تحريم التجارة في الخمر مما شرع من حين نزول تحريم الخمر، ولم يتأخر إلى نزول آيات الربا، فإن آيات الربا من أخرما نزل من

(3/354)


القرآن، كما روى البخاري في ((التفسير)) من رواية الشعبي، عن ابن عباس، قال: آخر آية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا.
وفي ((الصحيحين)) عن جابر، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح وهو بمكة يقول: ((أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) .
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((يا أيها الناس، إن الله يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا، فمن كان عنده منها شيء فليبيعه ولينتفع به)) . قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال: ((أن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع)) . قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها.
وهذا نص في تحريم بيعها مع تحريم شربها.
والثاني: أن آيات الربا ليس فيها ذكر الخمر، فكيف ذكر تحريم التجارة في الخمر مع تحريم الربا؟
ويجاب عن ذلك: بأن مراد عائشة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بتحريم التجارة في الخمر مع الربا، وأن كان قد سبق ذكر تحريم بيع الخمر.
وقد روى حجاج بن أرطاة - حديث عائشة -، عن الأعمش بإسناد البخاري، ولفظه: لما نزلت الآيات التي في سورة البقرة نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر والربا.

(3/355)


وإنما أراد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم - بتحريم التجارة في الخمر مع الربا ليعلم بذلك أن الربا الذي حرمه الله يشمل جميع أكل المال مما حرمه الله من المعاوضات، كما قال:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ، فما كان بيعا فهو حلال، وما لم يكن بيعا فهو ربا حرام: أي: هو زيادة على البيع الذي أحله الله.
فدخل في تحريم الربا جميع أكل المال بالمعاوضات الباطلة المحرمة، مثل ربا الفضل فيما حرم فيه التفاضل، وربا النساء فيما حرم فيه النسأ، ومثل أثمان الأعيان المحرمة، كالخمر والميتة والخنزير والأصنام، ومثل قبول الهدية على الشفاعة، ومثل العقود الباطلة، كبيع الملامسة والمنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والمخابرة، والسلف فيما لا يجوز السلف فيه.
وكلام الصحابة في تسمية ذلك ربا كثير، وقد قالوا: القبالات ربا، وفي النجش أنه ربا، وفي الصفقتين في الصفقة أنه ربا، وفي بيع الثمرة قبل صلاحها أنه ربا.
وروي: أن غبن المسترسل ربا، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
وقال ابن مسعود: الربا ثلاثة وسبعون بابا.

(3/356)


وخرجه ابن ماجه والحاكم عنه مرفوعا.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه، أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.
يشير عمر إلى أن أنواع الربا كثيرة، وأن من المشتبهات ما لا يتحقق دخوله في الربا الذي حرمه الله، فما رابكم منه فدعوه.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عمر، أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد إلينا عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا.
وبعض البيوع المنهي عنها نهي عنها سدا لذريعة الربا، كالمحاقلة، والمزابنة، وكذلك قيل في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وبسط هذا موضعه ((البيوع)) .
وإنما أشرنا هنا إلى ما يبين كثرة أنواع أبواب الربا، وأنها تشمل جميع المعاوضات المحرمة، فلذلك لما نزل تحريم الربا نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الربا، وعن بيع الخمر؛ ليبين أن جميع ما نهى عن بيعه داخل في الربا المنهي عنه. والله أعلم.

(3/357)


74 - باب
الخدم للمسجد
وقال ابن عباس {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] : للمسجد يخدمها.
هذا من رواية عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقاله - أيضا -: مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس وغيرهم.
وقال قتادة والربيع وغيرهما: كانوا يحررون الذكور من أولادهم للكنيسة يخدمها، فكانت تظن أن ما في بطنها ذكرا، فلما وضعت أنثى اعتذرت من ذلك إلى الله، وقالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] ؛ لأن الأنثى لا تقوى على ما يقوى عليه الذكر من الخدمة، ولا تستطيع أن تلازم المسجد في حيضها ومع الله، فقال الله - عز وجل -: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:37]- يعني: أن الله قبل نذرها، وأن كان أنثى؛ فإنه أعلم بما وضعت، وهذا كان في دين بني إسرائيل.
وقد ذكر طائفة من المفسرين: أن هذا كان شرعا لهم، وأن شرعنا غير موافق له.
وخالفهم آخرون:

(3/358)


قال القاضي أبو يعلى في ((كتاب أحكام القرآن)) : هذا النذر صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته، وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح النذر.
وهذا الذي قاله حق؛ فقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) ، فلو نذر أحد أن يخدم مسجداً لله - عز وجل - لزمه الوفاء بذلك مع القدرة، وأما إن نذر أن يجعل ولده لله ملازما لمسجد يخدمه ويتعبد فيه، فلا يبعد أن يلزمه الوفاء بذلك، فإنه نذر طاعة فيلزمه أن يجرد ولده لما نذره له، ويجب على الولد طاعة أبيه إذا أمره بطاعة الله - عز وجل -.
وقد نص الإمام أحمد على أن الكافرين إذا جعلا ولدهما الصغير مسلما صار مسلما بذلك.
ولو وقف عبده على خدمة الكعبة صح -: نص عليه أحمد - أيضا.
ونص في عبد موقوف على خدمة الكعبة أنه إذا أبى أن يخدم بيع واشترى بثمنه عبد يخدم مكانه.
وروى سعيد بن سالم القداح، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن معاوية أخدم الكعبة عبيدا بعث بهم إليها، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده.
خرجه الأزرقي.

(3/359)


قال البخاري:

(3/360)


460 - حدثنا أحمد بن واقد: ثنا حماد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن أمرأة - أو رجلا - كانت تقم المسجد - ولا أراه إلا أمرأة - فذكر حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على قبرها.
وقد سبق الحديث قريبا بتمامه مع الكلام عليه.
وإنما خرج هاهنا منه ما يدخل في هذا الباب، وهو: أن هذه المرأة كانت تقم المسجد، وتقوم بخدمته وتنظيفه وإخراج القمامة منه.

(3/360)


75، 76 - باب
الأسير والغريم يربط إلى سارية المسجد
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:

(3/361)


461 - ثنا اسحاق بن إبراهيم: ثنا روح ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة)) - أو كلمة نحوها - ((ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] )) .
قال روح: ((فرده خاسئا)) .

(3/361)


والثاني:
قال:

(3/362)


462 - ثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث: حدثني سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((أطلقوا ثمامة)) ، فان طلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
دل هذان الحديثان: على ربط الأسير إلى سارية من سواري المسجد؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن في زمانه سجن يسجن فيه الأسارى، ولهذا لما ندم أبو لبابة على ما قال لبني قريظة ربط نفسه بسارية من سواري المسجد.
وفي بعض نسخ ((كتاب البخاري)) في هذا الباب زيادة:
وكان شريح يأمر بالغريم أن يحبس إلى سارية المسجد.
وروي ذلك عن علي - أيضا -:
قال يعقوب بن شيبة: ثنا عبيد بن يعيش: ثنا صيفي بن ربعي الأنصاري، عن أبيه: حدثني مشيخة الحي، أن عليا استعمل رجلا على عمل، فأتاه، فسأله عن المال، فلم يرفع إليه ما أراد. قال: فشده على أسطوانة من أساطين المسجد، فقال: أد مال الله.

(3/362)


وربط الأسير، أن كان من الكفار فربطه من مصالح الدين، وقد أمر الله تعالى به بقوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] .
وإن كان من المسلمين على دين له أو حق ليخرج منه فهو من مصالح المسلمين المحتاج إليها، لحفظ أموالهم واستيفاء حقوقهم، وهو من جنس القضاء في المسجد، وأمر الخصوم بإنصاف بعضهم لبعض، والخروج من الحقوق اللازمة لبعضهم بعضا، وقد سبق أن القضاء في المسجد جائز.
وهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بربط الشيطان هو من عقوبات العصاة المتمردين المتعرضين لإفساد الدين، وليس من جنس إقامة الحدود بالضرب والقطع حتى تصان عنه المساجد، إنما هو حبس مجرد، فهو كحبس الأسارى من الكفار.
وبقية فوائد الحديثين تذكر في مواضع أخر - إن شاء الله تعالى.

(3/363)


77 - باب
الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم

(3/364)


463 - حدثنا زكريا بن يحيى: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم - وفي المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما، فمات فيها.
في الحديث: دليل على جواز ضرب الخيام في المسجد؛ فإنه كان فيه خيمة لبني غفار، وضرب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيمة لسعد بن معاذ لما رمي بسهم في أكحله يوم الخندق، وقصد بذلك أن يعوده من قرب؛ فإن منزله كان فيه بعد عن المسجد.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضرب له قبة في اعتكافه في المسجد، وأزواجه معه، وقد كان للأمة السوداء حفش أو خباء في المسجد كما سبق، وروي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنزل وفد ثقيف في قبة في المسجد.
وقد اختلف العلماء في ذلك: فكره أحمد للمعتكف أن يضرب خيمة ونحوها في المسجد، إلا لشدة البرد، ورخص فيه إسحاق

(3/364)


إذا كان قصده أن يصون المسجد عما يكون منه من حدث أو سقوط شيء من طعامه في المسجد -: نقله عنهما إسحاق بن منصور في ((مسائله)) .
ومن رخص في ضرب الأخبية ونحوها في المساجد - كما دلت عليه الأحاديث في هذا الباب - قال: هي لا تتأبد، فلا تكون ممنوعة، بخلاف ما يتأبد كالغراس والبناء، فإنه لا يجوز.
وقد نص أحمد على منع الغراس في المساجد، وهو قول مالك: وقال أصحاب الشافعي: يكره. وحكي جوازه عن الأوزاعي.

(3/365)


78 - باب
إدخال البعير في المسجد للعلة
وقال ابن عباس: طاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير.

(3/366)


464 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: شكوت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي. قال: ((طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة)) ، فطفت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، يقرا بالطور وكتاب مسطور.
حديث ابن عباس في طواف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير، قد خرجه البخاري في ((كتاب: الحج)) مع حديث أم سلمة هذا في ((باب: طواف المريض راكبا)) .
وبوب على الحديثين هاهنا: ((إدخال البعير في المسجد للعلة)) - يعني: لحاجة إلى إدخاله، مثل أن يطوف عليه في مرضه.
وقد جاء في رواية أخرى في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم سلمة أن تطوف على بعيرها.
وإدخال ما يوكل لحمه من الحيوانات إلى المساجد ينبني على حكم بولها وروثها: فمن قال: أنه طاهر أجازه، ولم يكرهه للحاجة إليه.

(3/366)


وقد استدل أصحابنا وأصحاب مالك بهذه الأحاديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وقالوا: لو كان بول البعير نجسا لم يدخل المسجد.
وقد خرج البخاري في ((كتاب: العلم)) حديث قدوم ضمان بن ثعلبة ودخوله المسجد وعقله بعيره فيه، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئ في المسجد.
ومن قال: أنه نجس كره دخولها، وقد صرح به أصحاب الشافعي، وقالوا: إنما طاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره لبيان الجواز.
وهذا مردود بأمره أم سلمة بالطواف راكبة، وبإقراره ضماما على عقل بعيره في المسجد.
وأما ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، فيكره إدخاله المسجد بغير خلاف، وقد نص عليه مالك في الكلاب وجوارح الطير، ورخص أحمد في غلق المساجد؛ لئلا تدخلها الكلاب.
وقد روي عن عمر، أنه نهى عن الطواف بالبيت راكبا على فرس ونحوها.
فروى سفيان: عن عمرو بن دينار، قال: طاف رجل بالبيت على فرس، فمنعوه، فقال: أتمنعوني؟ فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن امنعوه.
وإنما منع عمر من ذلك مبالغة في صيانة المسجد؛ ولئلا يؤذي الراكب الماشين في الطواف. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/367)


79 - باب

(3/368)


465 - حدثنا محمد بن المثنى: ثنا معاذ بن هشام: ثنا أبي، عن قتادة: ثنا أنس، أن رجلين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرجا من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله.
وخرج في ((المناقب)) من رواية همام: ثنا قتادة، عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما، حتى تفرقا فتفرق النور معهما.
قال البخاري: وقال معمر، عن ثابت، عن أنس، أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار. وقال حماد: أبنا ثابت، عن أنس: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهاتان الروايتان المعلقتان ليستا على شرطه؛ لأن روايات معمر عن ثابت رديئة -: قاله ابن معين وابن المديني وغيرهما؛ فلذلك لا

(3/368)


يخرج البخاري منها شيئا، وحماد بن سلمة لم يخرج له شيئا استقلالا.
وفي رواية حماد بن سلمة: أن هما كانا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحدثا عنده في ليلة ظلماء حندس، ثم خرجا من عنده.
فيحتمل أنهما كانا عنده في المسجد، وأنهما كانا عنده في بيته:
فإن كان اجتماعهما به في المسجد فإنه يستفاد من الحديث أن المشي إلى المساجد والرجوع منها في الليالي المظلمة ثوابه النور من الله عز وجل، وذلك يظهر في الآخرة عيانا، وأما في الدنيا فقد يستكن النور في القلوب، وقد يظهر أحيانا كرامة لمن أراد الله كرامته ولم يرد فتنته.
وإن اجتماعهما عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته، فإنه يستنبط منه فضيلة الذهاب إلى المساجد والرجوع منها في الظلم – أيضا -؛ فإنه أفضل

(3/369)


ما مشى إليه المسلمون في الدنيا، فيلتحق بالمشي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته ذهابا إليه ورجوعا من عنده.
وإنما اقتصر البخاري على هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن الأحاديث الصريحة فِي تبشير المشائين إلى المساجد فِي الظلم بالنور التام يوم القيامة ليس شيء مِنْهَا عَلَى
شرطه، وإن كانت قد رويت من وجوه كثيرة.
ولكن يستدل - أيضا - لفضيلة المشي إلى المساجد في الظلم بما في ((الصحيحين)) من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) .
ويستدل - أيضا - بحديث أنس الذي خرجه البخاري هاهنا على جواز الاستضاءة في الرجوع من المسجد في الليالي المظلمة.
وقد ورد حديث أصرح من هذا:
خرجه الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، عن أبي سلمة، سمع أبا سعيد الخدري، قال: هاجت السماء ليلة، فلما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان، فقال: ((ما السرى يا قتادة؟)) قال: علمت أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها. قال: ((فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك)) ، فلما انصرف أعطاه عرجونا، وقال: ((خذ هذا يستضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا)) - وذكر حديثا فيه طول.
وهذا إسناد جيد.

(3/370)


وقد كان السلف يختارون المشي إلى صلاة العشاء والصبح في غير ضوء.
وروي عن سعيد بن المسيب، أنه قال لقوم معهم ضوء يمشون به إلى المساجد: ضوء الله خير من ضوئكم.
ولما ولى عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم إمرة المدينة مع قضائها أرسل إلى عمر يطلب منه شمعا كان للأمراء قبله يمشون به إلى المسجد في الليل، فأرسل إليه عمر - رحمه الله - يعاتبه على ذلك، ويأمره أن يفعل كما كان يفعل من قبل ولايته، ويمشي إلى المسجد في الظلمة، وإن ذلك خيرا له.
وقال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة.
يعني: توجب المغفرة.
وروينا عن الحسن، قال: أهل التوحيد في النار لا يقيدون، فتقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟ فيناديهم مناد: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد.
وقد كان بعض المتقدمين يمشي بين يديه الشيطان في الليل إلى المسجد بضوء، فمنهم من يفطن لذلك فلم يغتر به، ومنهم من قل علمه فاغتر وافتتن بذلك؛ فإن جنس هذه الخوارق يخشى منها الفتنة، إلا لمن قوي إيمانه ورسخ في العلم قدمه، وميز بين حقها وباطلها.
والحق منها فتنة - أيضا -؛ فإنه شبيه بالقدرة والسلطان الذي يعجز عنه كثير من الناس، فالوقوف معه والعجب به مهلك، وقد اتفق على ذلك مشايخ العارفين الصادقين، كما ذكره عنهم أبو طالب المكي في كتابه ((قوت القلوب)) ،

(3/371)


وأنهم رأوا الزهد فيه كما آثروا الزهد في الملك والسلطان والرياسة والشهرة؛ فإن ذلك كله فتنة ووبال على صاحبه، إلا لمن شكر عليه وتواضع فيه وخشي من الافتتان به.
وقد اخبر الله تعالى عن سليمان - عليه السلام - أنه لما رأى عرش ملكة سبأ عنده قال:
{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] .
وقد قيل: إن مراد البخاري بهذا الباب، وتخريج هذا الحديث فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في مسجده بالليل في الظلمة، من غير سراج ولا ضوء، ولهذا خرجا من عنده ومعهما مثل المصباحين، وهذا يدل على أن هذا الضوء صحبهما من قبل مفارقته من المسجد، فلو كان في المسجد مصباح لما احتاجا إلى الضوء إلا بعد خروجهما.
وهذا حق - أعني: صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في المسجد في غير مصباح -، وقد اخبر أنس أنه رأى بريق خاتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي في يده من فضة في الليل، وهذا إنما يكون في الظلمة.
وقيل: أن أول من أسرج مسجد المدينة تميم الداري في عهد عمر. وكان تميما اخذ الإيقاد في المساجد مما عرفه بالشام من إيقاد المسجد الأقصى.
وقد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بإرسال زيت إلى المسجد الأقصى يسرج في قناديله، وقال: أن ذلك يقوم مقام الصلاة فيه.

(3/372)


وقد أبو داود.
وفي إسناده نظر.
وفي ((سنن ابن ماجه)) بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخدري، قال: أول من أسرج المساجد تميم الداري.
والمراد به: المساجد في الإسلام.

(3/373)


80 - باب
الخوخة والممر في المسجد

(3/374)


466 - حدثنا محمد بن سنان: ثنا فليح: ثنا أبو النضر، عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((أن الله خير عبدا بَيْن الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) ، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله عز وجل، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال: ((يا أبا بكر، لا تبك، أن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر)) .

(3/374)


467 - حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي: ثنا وهب بن جرير: ثنا أبي، قال: سمعت يعلي بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس

(3/374)


خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر - رضي الله عنه -)) .
حديث أبي سعيد، قد رواه - أيضا - مالك، عن أبي النضر. وخرجه البخاري من طريقه في موضع أخر، وخرجه مسلم من طريق مالك وفليح - أيضا.
وإنما خرج لفليح متابعة، ولم يخرج حديث ابن عباس؛ فإنه لا يخرج لعكرمة إلا متابعة - أيضا -، وحديث ابن عباس إنما يرويه عنه عكرمة.
وقد روى بعضه أيوب، عن عكرمة، وخرجه البخاري في موضع أخر.
هذه الخطبة التي خطبها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا اليوم كانت أخر خطبة خطبها على المنبر، فعرض فيها باختياره لقاء الله على المقام في الدنيا، واخبر أنه أعطى مفاتيح خزائن الدنيا، وخير بين أن يبقى ما شاء الله وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه، ولكنه لم يصرح بتخييره، واختار في نفسه وإنما قال: ((إن عبدا خير)) ، فلم يتفطن لذلك احد غير أبي بكر الصديق، وكان أبو بَكْر أعلمهم برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفهمهم عنه، وهذا من الفهم في العلم الذي يخص الله به من شاء من عباده.

(3/375)


وذكر في هذه الخطبة تخصيص أبي بكر من بين الصحابة كلهم بالفضل، وأومأ إلى خلافته بفتح بابه إلى المسجد، وسد أبواب الناس كلهم، ففي ذلك إشارة إلى أنه هو القائم بالإمامة بعده، فإن الإمام يحتاج إلى استطراق المسجد، وذلك من مصالح المصلين فيه.
وفي هذه الخطبة وصى بالأنصار، وأمر من يلي الأمر بالإحسان إليهم، وفيه إشارة إلى أنه ليس لهم من الأمر شيء، كما ظنه من قال منهم للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير.
وفي هذه الخطبة اخبر عن نفسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فرط لهم على الحوض - يعني: أنه سابق لهم إلى الحوض -، وهو ينتظرهم عنده، فهو الموعد بينه وبينهم، وحذر من الاغترار بزهرة الدنيا، والركون اليها؛ فإنه كان قد أعطى خزائنها فاختار لقاء ربه قبل ذلك، وفتحت بعده على أمته.
وهذا كله ثابت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا، فبعضه من حديث أبي سعيد، وبعضه من حديث عقبة بن عامر، وبعضه من حديث ابن عباس، وبعضه من حديث أنس.
وروى - أيضا - أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصى في تلك الخطبة بتنفيذ جيش أسامة، وذكر
فضله، ووصى به خيرا.

(3/376)


ونحن نذكر هذه الأحاديث هاهنا.
فأما حديث أبي سعيد: فقد خرجه البخاري ها هنا، وفي غير موضع، وخرجه مسلم - أيضا.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) من رواية أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه، وهو معصوب الرأس، فاتبعه حتى قام على المنبر، فقال: ((إني الساعة قائم على الحوض)) ، ثم قال: ((إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة)) . قال: فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا. قال: ثم هبط من المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة.
وأما حديث عقبة بن عامر: فخرجه البخاري في ((غزوة أحد)) من رواية أبي الخير، عن عقبة، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قتلى احد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: ((إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) .

(3/377)


قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه مسلم - أيضا -، وعنده: قال عقبة: فكانت أخر ما رأيت رسول الله على المنبر.
وتوديعه للأحياء والأموات: هو أنه صلى على الموتى واستغفر لهم وهنأهم بما هم فيه من سبقهم للفتن.
وتوديعه للأحياء: هو نصيحتهم وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا، وإيماؤه إلى أنه منتقل عنهم إلى الآخرة، وأنه سابق لهم إلى الحوض، فهو موعدهم.
وقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى أهل البقيع بالليل فاستغفر لهم، ثم ذهب إلى شهداء احد بالنهار فاستغفر لهم، ثم رجع فخطب هذه الخطبة، وودع الأحياء.
ففي ((المسند)) عن أبي مويهبة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع، وقال: ((ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن - كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى)) ، ثم قال: ((يا أبا مويهبة إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة)) . ثم انصرف، فابتدأه وجعه الذي

(3/378)


قبضه الله فيه.
وذكر ابن سعد بإسناده عن زيد بن أسلم، قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرات، كل مرة يقال له: صل على أهل البقيع، فيفعل ذلك، وقال: ((اللهم اغفر لأهل البقيع)) ، ثم أمر أن يأتي الشهداء، فذهب إلى أحد، فصلى على قتلى أحد، فرجع معصوب الرأس، فكان بدء الوجع الذي مات فيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما حديث ابن عباس: فقد خرجه البخاري هاهنا.
وخرج في ((المناقب)) - أيضا - من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وعليه ملحفة متعطفا بها، وعليه عصابة برد دسماء حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((أما بعد، أيها الناس، فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا آو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) .
وخرجه ابن سعد في ((طبقاته)) ، وزاد فيه: ((وكان آخر مجلس جلسه حتى قبض - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
وأما حديث أنس: فخرجه البخاري في ((المناقب)) من حديث هشام بن زيد، عن أنس، قال: خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عصب على رأسه حاشية برد

(3/379)


فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم -، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أوصيكم بالأنصار؛ فأنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) .
وأما أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتجهيز جيش أسامة: فقد خرجه ابن سعد بإسناد فيه ضعف عن عروة - مرسلا -، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بعث أسامة وأمره أن يوطئ الخيل نحو البلقاء حيث قتل أبوه وجعفر، فجعل أسامة وأصاحبه يتجهزون، وقد عسكر بالجرف، فاشتكى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على ذلك، ثم وجد من نفسه راحة، فخرج عاصبا رأسه، فقال: ((أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة)) - ثلاث مرات -، ثم دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستعز به، فتوفي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجا في ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثنى على أسامة ووصى به، وقال: ((أنه لخليق بالإمارة)) .
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)) .
قال الخطابي: معنى قوله: ((أمن)) ، أي: أبذل لنفسه وأعطى لماله، والمن: العطاء من غير استثابة، ومنه قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص:39] وقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت، ولم يرد به المنة؛ فإنها تفسد الصنيعة، ولا منة لأحد على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل له المنة على جميع

(3/380)


الأمة.
وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)) يدل على أن مقام الخلة أفضل من مقام المحبة؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب أبا بكر وقد نفى عنه الخلة، والله تعالى يحب أنبياءه ورسله كلهم، ولم يخص بالخلة غير محمد وإبراهيم صلى الله عليهما.
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ألا إني أبرأ إلى كل خل من خلته، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن صاحبكم خليل الله)) .
وفي رواية له - أيضا -: ((لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا)) .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث جندب بن عبد الله: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بخمس يقول: ((قد كان لي منكم أخلاء وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل ذي خلة من خلتة، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا)) .
والظاهر: أن جندب سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك في خطبته هذه، فإن كان كذلك فلعل خطبته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت يوم الأربعاء؛ فإنه توفي يوم الاثنين، واشتد وجعه يوم الخميس، كما قال ذلك ابن عباس، فالظاهر أنه لم يخرج

(3/381)


فيه إلى الناس، أو لعله أعاد هذا القول في بيته فسمعه جندب، وهذا أظهر - والله أعلم -؛ فإن خطبة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه كانت في ابتداء مرضه، وكانت مدة مرضه فوق عشرة أيام. والله أعلم.
وقد أشار - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سبب براءته من خلة المخلوقين، وهو أن الله اتخذه خليلا لنفسه كما اتخذ إبراهيم خليلا، ومن كان خليلا لله فلا يصلح له أن يخالل بشرا.
ومن هنا قيل: إن إبراهيم - عليه السلام - إنما أمر بذبح ولده إسماعيل لتفريغ قلبه من محبته وشدة تعلقه به، حيث وهب له على الكبر، فلما بادر إلى اضطجاعه وإخراجه من قلبه امتثالا لأمر الله وطاعته أسقط عنه ذبحه بعد ذلك؛ لأنه لم يكن المقصود إراقة دمه، بل تفريغ محل الخلة منه، حتى لا تزاحم خلة الواحد الأحد محبة الولد.
والخلة: هي المحبة المبالغة المخللة لمسالك الروح من القلب والجسد، كما قيل.
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبهذا سمي الخليل خليلا
وهذا لا يصح لغير الله، وإنما يصلح للمخلوق المحبة، وهي درجة دون الخلة، فلهذا اقتصر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق الصديق على الأخوة

(3/382)


والمودة، وهي أخوة الإسلام المشار إليها في حديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا.
وقد خرجه في ((المناقب)) من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه: ((ولكن أخوة الإسلام أفضل)) .
ولعل هذه الرواية أصح، وأيوب يقدم على يعلى بن حكيم في الحفظ والضبط.
وكان أبو بكر مقدما على سائر الرجال في المحبة من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولهذا لما سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه؟ قال: ((عائشة)) قال: ((فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) .
وقال عمر لأبي بكر يوم السقيفة: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: ((سدوا عني كل باب في المسجد، إلا باب أبي بكر)) ، وفي حديث ابن عباس: ((كل خوخة)) .
قال الخطابي: الخوخة: بويب صغير.
قال: وفي أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد غير بابه اختصاص شديد له، وأنه أفرده بأمر لا يشاركه فيه أحد، وأول ما يصرف التأويل فيه الخلافة، وقد أكد الدلالة عليها بأمره إياه بإمامة الصلاة التي لها بني المسجد، ولأجلها يدخل إليه من أبوابه.
قال: ولا أعلم دليلا في إثبات القياس والرد على نفاته أقوى من

(3/383)


إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على استخلاف أبي بكر؛ مستدلين في ذلك باستخلاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه في أعظم أمور الدين وهو الصلاة، وإقامته إياه فيها مقام نفسه، فقاسوا عليها سائر أمور الدين. انتهى.
وأشار بإجماع الصحابة في ذلك إلى ما روى ابن مسعود، قال: لما قبض
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معاشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر أبا بكر يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
خرجه الإمام أحمد، وعلي بن المديني، وقال: هو صحيح، والحاكم، وقال: هُوَ صحيح الإسناد.
وقد روي هذا المعنى عن طائفة من الصحابة، منهم: علي والزبير وأبو عبيدة بن الجراح، - رضي الله عنهم - أجمعين.
وقد دل أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسد الأبواب الشارعة في المسجد على منع إحداث الاستطراق إلى المساجد من البيوت؛ فإن ذلك نفع يختص به صاحب الاستطراق، فلا يجوز في المساجد كما لا يجوز الاستطراق إلى أملاك الناس بغير إذنهم.
وهذا بخلاف وضع الخشب على جدار المسجد، فإن فيه عن الإمام أحمد روايتين؛ لأن هذا النفع يجوز عنده في ملك الجار بغير إذنه، بخلاف الاستطراق إلى ملك الجار، فإنه غير

(3/384)


جائز.
واستثنى من ذلك الإمام ومن يتبعه؛ فإن استطراقه إلى المسجد فيه نفع يعود بمصلحة المصلين عموما، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته يستطرق إلى المسجد هو وآل بيته تبعا له، ولهذا روي أنه أمر بسد الأبواب غير باب علي، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من وجوه.
فلما انقضت مدته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا سد الأبواب كلها إلى المسجد غير باب أبي بكر؛ لأنه الإمام بعده، واستطراقه إلى المسجد من بيته فيه نفع عام يعود على المصلين كلهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/385)